Professional Documents
Culture Documents
رَب الزمَــــــــــــان
ودراسات أخرى
رب الزمان ودراسات أخرى
المحتويــــــــــــــــــــات
الهــــــداء1..................................................................
مقدمــــة2.......................................................................
إسرائيليات4...................................................................
الرد على خطاب شامي ف مدريد *5....................................................
............................................................................................................7ضمـــير العالـــم
..........................................................................................................9العـــلج النفســـي
.....................................................................................................11التزوير في الخطاب
.......................................................................................................13الديـــن والعنصـــر
......................................................................................................16الجـــانب الحقـــوقي
.........................................................................................................17يهـــود فلســـطين
....................................................................................................................18شـــالـوم
........................................................................................................20العصـــر السعـــيد
مـعــارك فكريـة56...........................................................
هل بن الفراعنة الكعبة؟! * تصحيح مغالطات57.........................................
............................................................................................................58موجــز المــر
...........................................................................................................59اللهة المصرية
.........................................................................................................62التوحيد والتعددية
.................................................................................................................65مغالطـــات
.....................................................................................................68رمسيس يؤمن أخيراً
مقــالت ودراســات123....................................................
حول الاجة لتحديد الفاهيم *124......................................................
.........................................................................................125القطعية التاريخية والمعرفية
...........................................................................................................127تاريخية النص
الهــــــداء
صديقي:
أحد صبي إبراهيم أغا
ُكنْتَ متشددا ف أمور الدين ،وكثيا ما ُكنْتَ تعترض على منهجي ف تديد قراءة التراث ،وتتوقع
لا أكتب هزمية منكرة ،لكنك رحلت قبل أن ترى النهج يصبح مدرسة ،ولو كنت حيا لفرحت من
قل بك ،فأ نا أعرف الناس بك ،أعرف ك يف ك نت ت ب ال والزهور وأفلم الكارتون ،وال نب و سيدي
(أبو العباس) والروايات الكلسيكية ،أعرف كيف كنت تب طي مصر وشم النسيم ورياح الماسي
والديقة اليابانية ،والتحف الصري وأم كلثوم وصديقنا التشكيلي (توران) البوذي ،كذلك (بيكار).
برحيلك أي ها الن سان ر حل صديقي الط فل الرائع ،الب يض النا صع ،الذي آ من بال صدقا فأ حب
الرض والناس ،وعاش من أجل الناص ،طبق الصل :مصري حقيقي من كنا نعرفهم أيام زمان.
كنت تكره منظر الدماء حت لو كانت ذبا حللً ،وتفرح من قلبك عندما ترى عاشقي ،وتزن
بع مق ل ب عن كار ثة أ صابت بشرا على الشا طئ ال خر من ب ر الظلمات ،ث ك نت تن صت ب كل
جوارحك لحدثك رغم أنك كنت تالفه حت النخاع ،ول ترد على من ل يعلم إساءته ،لنك كنت
أعلم بقيمة النسان.
أخي يا إنسان :اسح ل أن أقترب منك بذا الكتاب كتبت نصفه وأنا بستشفى القلب بي الوت
والياة أحاول به التماس الدفء بالتّماس مع ذكراك حت آتيك أنيسا ورفيقا.
سيد
1
رب الزمان ودراسات أخرى
مقدمــــة
قارئي ..
أيها الصديق الرائع ..
بك أمتلئ وأشعر صادقا أن كثي وقوي.
ل قد قَ ـدّر زمان نا أن يفرز نا ،فن حن فرز حراك وا قع تلك اليام ،لذلك كان حتميا أن نلت قي هذه
الق بة تديدا ،و هو الفرز الطمئن الذي يد فع إل التفاؤل ،ر غم الفرز غ ي الطمئن على الا نب ال خر،
لذلك أؤكد لك أنك وراء استمرار هذا الشروع ،وبك ،وبأصدقائنا –أنا وأنت– من الهمومي بقضايا
ال مة والا ضر والستقبل ،الذين يتابعون معك وم عي خطواتنا الثابتة الواثقة ،أقول :ب كم جيعا ي ستمر
العمل على دأبه دؤوبا.
أصدقاؤك رفاق تلك السطور ،يلتقون ب ف كل موطن ،ف الندوة ،ف الشارع ،ف عواصم عربية
متعددة ،كثيا ما تدثنا ،واستمعت بالشغف ذاته لا يطرحونه ،لكنهم كانوا جيعا يملون ل سؤالك:
أين كتاب النب موسى؟ وماذا ت بشأنه؟ بعدما انصرمت سبع سنوات على العلن عن بدء البحث فيه،
ولا يظهر بعد؟
نعم أيها الصديق ،لقد طالت الشقة ،لكن أصدقك القول :إن العمل ل يتوقف فيه لظة ،إل عندما
سقط السد صريعا منهوك القلب ،ورغم الظروف الصحية الت تلبسن دون رحة ،فقد عدت إل النب
مو سى متابعا الع مل لوف يك وعدا تواعدناه ،و مع تلك ال صارحة ،ي ب أحاط تك علما أن هناك عددا
من الشا كل ل ت ل ب عد ،ويتاج ك شف آليات ا واكتشاف حلول ا ب عض الو قت ،وب عض ال صب من
جانبك.
ومن هنا –وكي أحافظ على حرارة التواصل بين وبينك– فقد ارتأيت أن أواصلك كتابي ،ألما
هو الزء الثا ن من (حروب دولة الر سول) ،والكتاب الذي تمله ب ي يد يك الن وب مل عنوان (رب
الزمان).
و(رب الزمان) هو عنوان لواحدة من الدراسات الت تضمها دفتا هذا العمل ،حيث يتوي كتابنا
هذا على أ سام ثل ثة :الق سم الول من ها ممو عة درا سات ي كن أن ت مل جيعا عنوان (إ سرائيليات)،
2
رب الزمان ودراسات أخرى
لتعاملها مع النظومة السرائيلية وثقافتها وخطابا العلن ،أما القسم الثان فيضم بعض العارك الفكرية،
ارتأيت أن أجعلها متاحة لك من باب التوثيق ليس إل ،حيث انتهيت مؤخرا إل قرار بعدم الدخول ف
ذلك النوع من العارك الذي يثيه أ صحاب الدلو جة ال سلفية ،م ستفيدين ف ذلك م ا آذى رفاقا ل نا
كبار ،فاكتمال الشروع أو الحاولة الستمرة ف الضافة إليه ،هدف يب أل يضيع ف صراعات قد تقب
المر كله.
وما دمنا بصدد التوثيق ،فقد غامرنا بنشر بعض الدراسات الول والبتدائية هنا ،وهي من ماولتنا
البكرة الت لشك تمل سات الالة الولية ،وناذج لا دراسة (منذ فجر التاريخ والج فريضة دينية)،
ودراسة (رب الزمان) ،وغيها.
ث قسم ثالث يضم مقالت ودراسات تتضفر مع منهجنا وخطواتنا الت ارتسمناها وتوافقنا عليها
منذ البدء.
وغن عن التنويه ،أن بعض ما ستقرأه هنا قد سبق نشره ف دوريات عربية متباينة ،وبعضه الخر ل
يسـبق نشره ،وقـد كتبتـه إبان تواجدي فـ جناح القلب بسـتشفى الرم ،واعتمدت فـ معلوماتـه على
ذاكرت وحدها ،لذلك لن تد لثل تلك النماذج هوامش أو مراجع مدونة.
أ ضع هذا ال شد ب ي يد يك أي ها ال صديق ،من أ جل مز يد من التل حم بين نا ،راجيا أن أكون قد
عوضتك عن انتظارك –ظهور كتاب (النب موسى)– بوقت مشحون بالقضايا الت يثيها هذا الكتاب.
سـيد القمنـي
الرم ف 20/10/1993
3
رب الزمان ودراسات أخرى
إسرائيليات
4
رب الزمان ودراسات أخرى
يعنينفا هنفا أن نؤكفد ،أن كلمفة (شاميفر) التفي ألقاهفا على المؤتمريفن بمدريفد ففي ،31/10/1991
تشكفل نموذجفا – ل شفك – مثاليفا تمامفا للخطاب الصفهيوني عامفة بمنطقفه ومحاوره السفاسية،
فرغفم الظروف التفي القيفت فيهفا كلمفة إسفرائيل ،ففي ظفل ضعفف عربفي عام وشامفل ،مهمفا سفار
العربان متبختريفن ،وتحفت مظلة مفن السفيطرة المريكيفة شبفه الكاملة ،ومفع القتدار السفرائيلي
المتفوق على كاففة المسفتويات ،والذي ل يجادل فيفه إل مكابر ،فإن كلمفة شاميفر كانفت على ذات
الخط ،وذات الدرجة ،وذات القدر الذي كان الخطاب الصهيوني يراعيه دوما ،ودون أن يحيد عنه
أنملة .فراعفت الكلمفة بشكفل ذكفي وليفس جديداً ،أنهفا تلقفى ففي ظرف عالمفي ،يتحدث عفن نظام
جديفد ،يزعفم للدنيفا أنفه يسفعى لرسفاء قواعفد السفلم والمفن والمحبفة على الكوكفب الرضفي .وإن
شاء فرض ذلك فرضفا ،وبخاصفة ففي أشفد مناطفق العالم سفخونه ،حتفى لو ثوى الجمفر مؤقتفا تحفت
رماد ظاهري ،تصنعه أنظمة تابعة .كما لم يغب عن بال الخطاب أنه يتحدث إلى العالم كله ،وأمام
كل الشبكات العلمية الدولية .فوضع بحسبانه مشاعر الجماهير العريضة على تنوعها واختلف
توجهاتها ،فجاءت صياغة الخطاب واضعة باعتبارها أنها كما لوكانت تخاطب كل فرد على حدة.
ومففن ثففم فإننففا نفترض أن الخطاب قففد أحاط تماماً بكففل الغراض المطلوبففة منففه ،واسففتخدم كففل
الممكنات من أساليب متاحه تتناسب مع المقام ،وعمد إلى كل طرق القناع وعرض قضيته كاملة
تامفة شاملة مانعفة ،بهدف كسفب أكفبر تأييفد جماهيري ممكفن ،حيفث أنفه حاصفل سفلفاً على تأييفد
النظام الجديفد بزعامفة الوليات المتحدة المريكيفة ،واتباعهفا الوربييفن .وعليفه ،فإننفا سفنتعامل مفع
كلمففة شاميففر فففي مدريففد كمعففبر صففادق عففن الخطاب الصففهيوني ،وسففنحاول قراءة طبيعففة هذا
الخطاب ومكوناتفه وأغراضفه ومناهجفه ،بعرض سفريع قدر مفا تسفمح بفه المسفاحة المتاحفة لعرض
تلك القراءة.
والمدقففق فففي الخطاب يمكنففه أن يلحظففه وهففو يتحرك على عدة محاور ،تففم ربطهففا ببعضهففا فففي
منظومفة شديدة الجودة ،ثفم تركيبهفا معفا بتقنيفة ومهارة عاليفة ،فكان المحور الساسي للحركفة جيئة
5
رب الزمان ودراسات أخرى
(من صـ 26 -11ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
وذهابا .ومركز الحركة ،هو التركيز على الستجابة النفسية للجماهير ،فقدم افتراضه المسبق لهذه
الجماهير بأنه يخاطب كل واحد منهم كشخص متحضر ،بلغ من الحضارة قمتها ،وهذا وحده لون
مففن تملق المسففتمع لكففن بحيففث يترك فففي نفسففه أثراً مطلوباً .هففو أن الخطاب يتعامففل معففه بكففل
احترام ،لنه شخص متحضر حتى لو لم يكن المستمع يستحق هذا الحترام ،أو يحوز تلك الدرجة
الحضاريففة .لكنهففا على آيففة حال الطريقففة المثلى لجعففل المسففتمع يتجاوب مففع كففم الحترام وكففم
الحضارة المفترض فيفه! وهكذا فقفد سفلم الخطاب للمسفتمع أنفه رجفل متحضفر ،مسفالم ،ينففر مفن
الحروب ،يريففد الرفاة لجميففع المففم وكففل الشعوب ،بل اسففتثناء ،يرفففض التعصففب بكاففة أشكاله،
وينفر من الضطهاد على أسس عرقية أو دينية ،بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة.
وبإيجاز ،فالخطاب يفترض ففي المتلقفي ليبراليفة ملئكيفة ،ومفن هنفا كان الكسفب الول المطلوب،
على المسفتوى السفيكولوجي ،هفو أن يقول للمتلقفي أنفت متحضفر ،ولهذا نحفن نحترمفك ونثفق ففي
حكمفك على مفا سفنقول ،حتفى لو كان هذا المتلقفي وغداً أمريكياً ،اسفتمتع يومفا بحرق الطفال ففي
ملجففأ العامريففة فففي بغداد ،وتعامففل مففع أزرار طائرتففه وقنابله وضحاياه ،بحسففبانها مففن ألعاب
(التاري) التليفزيونيفة .هذا مفا كان عفن المحور السفاسي (التأثيفر النفسفي) ففي طبيعفة الخطاب
السرائيلي ،واستثماره أدوات منهجية ،أهمها المعاني النظرية البحته للتحضر ،بغض النظر عن
كون هذه المعانفي حقيقفة فعليفة أم ل( .وهفو مفا يذكرنفا برئيفس دولة عربيفة يجفد غايفة لذتفه ففي
السخرية من مستمعيه ،ومن سلوك أبناء شعبه!).
أمففا المحور الثانففي ،الذي ترتبففط حركتففه بحركففة المحور الول ،فهففو الذي يركففز على الجانففب
الحقوقي! وهو ل شك أهم أعمدة التعامل بين المتحضرين ،ويتم فيه تأكيد الحقوق التاريخية الثابتة
لليهود في أرض فلسطين من آلف السنين .وهنا يتداخل المحور الثالث على نفس الميكانيك ،لينقل
المفر الحقوقفي المسفلم بفه حضاريفا إلى اليفد اللهيفة ،منتقلً بذلك إلى المحور الدينفي ،فتلك الحقوق
قرارات إلهية ،وهبه سماوية ،واختيار أحكم الحاكمين الذي فضلهم على العالمين (؟!) وهو القرار
الذي يؤمن به إلى جانب اليهود ،العالم المسيحي الغربي كله ،وذلك باحتساب التوراة صاحبة ذلك
القرار الحقوقففي القدسففي ،بعهديففة (القديففم أو التوراة ،والعهففد الجديففد أو الناجيففل) مففع البصففمة
التأكيديفة ،والقول التوثيقفي على الناموس التوراتفي ،بلسفان المسفيح (مفا جئت لنقفض الناموس .مفا
6
رب الزمان ودراسات أخرى
جئت لنقفض .بفل جئت لكمفل) وهنفا ،وبسفرعة يتفم إدخال المحوريفن الحقوقفي والتاريخفي ،مفع
المحور اليماني الديني على ميكانيك الحركة المحورية الساسية (النفساني) لتتشابك الحلقات التي
تؤدي إلى راحة ضمير المؤمن المسيحي الغربي تماما .والمتحضر جدا ،إزاء مساهمته بالموافقة
على تأميفن حياة هؤلء المؤمنيفن ،لتحقيفق كلمفة ال الصفادقة الثابتفة ،مفع مفا يفترض ففي المسفتمع
المتحضفر مفن رغبفة ففي إثبات تحضره ،بتأميفن كفل الحقوق ،لكفل العقائد والديانات ،مهمفا اختلف
معها.
ضمـــير العالـــم
ولحداث الثفر المطلوب مفن المحور السفاسي (النفسفاني) فقفد ترك الرجفل أثراً طيباً فعلً؛ فكان
رقيق الحاشية ،عف اللسان ،وديع كالحملن ،يمد يده إلى جيرانه يستديهم الصداقة والمان ،رغم
أنففه القدر والقوى .لكنففه مففن جانففب آخففر قام يردد (أن الموضوع ليففس موضوع أرض ،أنففه
موضوع وجودنفا ذاتفه) فأي لون مفن التنازل يعنفي دمار شعفب إسفرائيل المسفالم (!) وإزالتفه مفن
الوجود .وذلك في ضوء المقارنة التي قدمها لتعداد شعب إسرائيل ( 4مليين) ،مع من حولهم من
عتاة القتلة المتعطشيففن للدماء ،وعددهففم ( 170مليون عربففي) مففع ضآلة مسففاحة أرض إسففرائيل
التي تستدعي الشفقة ( 27ألف كم) ،وسط محيط عربي شرس يبلغ ( 24مليون كم) .والحجة على
المسفتوى النفسفي ،مفع تغييفب الحقائق الخرى ،تبدو غايفة ففي الوجاهفة .يبدو فيهفا شعفب إسفرائيل
بطل للخيفر يداففع عفن وجوده وسفط غابفة مفن البشفر ،ممفا يسفتدعي مشاعفر الشمئزاز مفن العرب
الذين يستأسدون على الدول الوديعة!
وقفد عمفد الخطاب – بذكاء – إلى اسفتحضار مشاعفر أخرى تمتزج مفع مشاعفر الشمئزاز ،عندمفا
ذكفر أن كفل عدوان عربفي على إسفرائيل تفم دحره! فتمتزج مفع المشاعفر الولى مشاعفر الحتقار
أيضاً مع الستهانة والستخفاف ،من شأن أجلف البوادي ،الذين يتحينون فرصة ل يجيدون حتى
صنعها والوصول إليها .رغم ذلك فالرجل يمد يده إلى جيرانه أمام كل العالم ويشرح ما وقع على
شعبه من مظالم ،وذلك في قوله( :وللسف فإن الزعماء العرب الذين كنا نود مصادقتهم ،رفضوا
الدولة اليهودية في المنطقة ،وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الرض العربية ..وانطلقا
من تحدي الشرعية الدولية ،فقد حاولت الدول العربية احتلل وهدم الدولة اليهودية).
7
رب الزمان ودراسات أخرى
وهكذا يختففي الفلسفطينيون تمامًا ويصفبح العرب – بل سفبب مفهوم أو واضفح – يريدون تدميفر
إسفرائيل المسفالمة ،التفي تسفعى لصفداقتهم وحسفن جيرتهفم ،لذلك أصفبحت المسفألة ليسفت مسفألة
أرض ،إنمفا مسفألة وجود شعفب إسفرائيل ،وسفط الحشفد العربفي الشريفر! ومفن ثفم عمفد الخطاب
مباشرة إلى الضغفط على ضميفر العالم ،بمأسفاة الشعفب اليهودي ،الذي لقفى صفنوف الضطهاد.
وأنفه قفد آن الوان كفي يصفحو ضميفر العالم ،ليرد لهذا الشعفب أبسفط الحقوق ،وهفي المفن .بفل
ويطلب مفن اليهود الصففح والمغفرة( ،أسفنا عالمفا يدعفي التحضفر؟) ومفن هنفا أخفذ التاريفخ ففي كفل
القارات تقريباً ..وتعرض اليهود للضطهاد والتعذيفب والذبفح .وشهفد هذا القرن خطفة إبادة نفذت
على أيدي النظام النازي ،وهذه الكارثة والبادة الجماعية المنقطعة النظير ،والتي قضت على ثلثا
شعبنفا ،تمفت ففي واقفع المفر ،وأمكفن تنفيذهفا ،لن أحفد لم يداففع عنفا ،فقفد كنفا بل وطفن ،ولكفن هذه
الكارثفة هفي التفي جعلت المجتمفع الدولي يعترف بمطالبنفا ،القائمفة على حقنفا ففي أرض (إسفرائيل)
وهنا تجدنا مضطرين إلى تأجيل تناول المحورين (التاريخي والديني) لنحاول أن نفهم الن :كيف
أمكفن للمذابفح النازيفة ضفد اليهود ،أن تؤدي إلى اعتراف العالم بحفق إسفرائيل ففي فلسفطين ،وقيام
الدولة الصفهيونية على أرضهفا؟ ونلحفظ أن الخطاب – بعفد تهيئة المسفتمع نفسفياً وعاطفيًا – مفع
إشعال جذوة الضمير الحضاري وعقدة الذنب – ينتقل فورا إلى إعلن إنه رغم ظلم العالم لليهود،
فليفس لحفد حفق الدعاء بقيام دولة إسفرائيل ،لن ضحايفا اليهود أيام النازي كانوا الثمفن المدفوع
سلفا ،فقدموا أنفسهم قربانا على مذبح قيام الدولة .هذا بالطبع حق اليهود التاريخي الديني المعلوم
في تلك الرض ،وكل ما في المر أن العالم ربما نسى تلك الحقيقة بعد طول اغتراب اليهود عن
فلسطين ،وما حدث من النازي كان فقط عامل النعاش للضمير العالمي الخاطئ.
الخطاب الصهيوني بذلك يعمد إلى لون فاضح من التزوير والتلفيق ،فرغم أن المذنب هو النازي،
فهففو ل يذكففر أبداً أنففه ليففس مففن المقبول حضارياً وحقوقياً وإنسففانيًا أن يدفففع الفلسففطينيون وزر
الجريمة النازية ،والمعلوم أنه في فلسطين تحديداً ،وعندما وقع اضطهاد على اليهود كان بداية من
جانب الرومان الذين دمروا الهيكل الثاني .وشتتوا اليهود في بقاع الدنيا ،لسباب تاريخية معلومة.
أمفا الضطهاد الثانفي فقفد جاء على يفد الصفليبيين ،عندمفا اسفتولوا على القدس عام 1099وقاموا
بحرق اليهود داخفل معابدهفم ،ممفا أدى إلى هروبهفم الجماعفي مفن فلسفطين ،وهفو مفا وضفح ففي
سقطه لسانية بخطاب شامير عندما قال (إن اليهود كانوا موجودين باستمرار في فلسطين باستثناء
8
رب الزمان ودراسات أخرى
فترة المملكفة الصفليبية القصفيرة) لكنفه بالطبفع لم يذكفر السفبب ،كمفا لم يذكفر أن سفبب تواجدهفم بعفد
ذلك فففي فلسففطين ،كان نتيجففة سففماح صففلح الديففن لهففم بالعودة بعففد اسففتعادة العرب لهففا مففن يففد
الصليبيين.
أما إشارة الخطاب إلى أن كل شعوب العالم قد اضطهدت اليهود الذين عاشوا بين ظهرانيهم ،فهو
أمفر يسفتحق الدهشفة والتسفاؤل؟! لماذا تجمفع شعوب مختلففة المواطفن ،متباينفة المشارب والعقائد،
على كراهية مواطنين مثلهم ،ولكن من ملة اليهود؟! هذه فزورة ل يحلها إلى السيد شامير.
العـــلج النفســـي
واللفت للنظر هو تركيز الخطاب الصهيوني الدائم ،على الجريمة الهتلرية ضد اليهود ،ففي كل
(حدوته) وفي أي مناسبة (وبدون مناسبة) يتكرر ذكر المذبحة النازية لليهود التي اكتست بطابع
دينفي .بحيفث ل يذكفر هتلر ،إل وتذكفر كراهيتفه للديفن اليهودي وأتباعفه .وأنفه مفا ذبفح هؤلء إل
لكونهم يهودا! حتى نسى العالم أن ضحايا النازية من غير اليهود قد بلغ ستين مليون إنسان ،وأن
الضحايفا المدنييفن فقفط وصفل عددهفم إلى ثلثفة ملييفن بولونفي ،وسفتة ملييفن سفلفي ،وضاع
ذكرهفم وسفط الضجيفج والصفخب الصفهيوني ،والندب والعويفل على شهداء البشاعفة البشريفة مفن
اليهود ،والذيفن اتخفذ موتهفم طابعفا قدسفيا ،كمفا لو كانفت ضحايفا هتلر مفن اليهود فقفط! وأنهفم فقفط
أصفحاب حفق ففي القداسفة ،وأصفحاب حفق ففي جلد ضميفر الدنيفا بالسفياط ،ووسفيلة لكسفب التأييفد
المادي والمعنوي .وإذا كانت هذه الجريمة كما يقول خطاب شامير بسبب صحوة الضمير العالمي
لقامففة دولة إسففرائيل ،فل شففك أن الخطاب العربففي الفاشففل ،كان وراء خمود ذات الضميففر أمام
إبادة وتشريد الفلسطينيين!! إضافة إلى العوامل الخرى المتعددة ،البعيدة عن موضوعنا هنا بشأن
طبيعفة الخطاب الصفهيوني .لكنهفا على أيفة حال توضفح لنفا لماذا لم تقفم دولة إسفرائيل على أشلء
المانيا المنهزمة ،وقامت في فلسطين؟
ثففم يعمففد الخطاب الصففهيوني مرة أخرى إلى تشغيففل المحور السففيكولوجي ،فبعففد أن يعدد خطايففا
العالم ففي حفق شعفب الرب المختار! ويضفع الضميفر العالمفي ففي حالة أرق ،وشعور حاد بالذنفب
والخطيئة ،فإنفه يسفارع متبرعفا بتقديفم العلج النفسفي والبلسفم الشاففي لذلك الضميفر المعذب ،حتفى
يكون الجميع ممتنين وشاكرين .فيربط الخطاب بين الضطهاد النازي وبين الشرار العرب الذين
9
رب الزمان ودراسات أخرى
يكيدون للدولة الوليدة ،ليضففع النازي والعرب داخففل إطار واحففد ،فيمتزج الشففر العربففي بالشففر
النازي ،ويصبح العالم مسئولً تماما المسئولية إزاء الشروع في الجريمة الجديدة ،وأن يمنعها قبل
أن تقفع ،وعلى النسفانية أن تقوم بواجبهفا إزاء مفا يمكفن حدوثفه ،وهفو مفا يلقفى صفداه مفع العقيدة
المسففيحية التففي تقبففل بفكرة الضحيففة ،مقابففل الفداء والخلص .أو بالنففص النجيلي الذي يضففع
مشروعية رفع الخطيئة (بدون دم وسفك دم ل تحصل مغفرة).
والضحيفة موجودة والحمفد ل ،وعلى الفلسفطينيين أن يقدموا الفداء لخطايفا العالم ،ويرفعوا الصفر
عفن ضميره اليقفظ ،لن المسفيح نفسفه ،وهفو الله ،قفد تمفت تضحيتفه على الصفليب مفن أجفل راحفة
ضمير البشرية ورفع الخطيئة عن بني آدم ،فهل الفلسطينيون أحسن من ال؟
وهكذا تجفد البشريفة الغربيفة المتحضرة المعذبفة ،التواقفة إلى التكفيفر عفن ذنبهفا – لكفن بعيداً عفن
جلدهفا – خروففا يذبفح بدل منهفا ،لتعود لتلك النففس راحتهفا ،واتزانهفا وتماسفكها ،وهفو مفا أجاد
الخطاب الصفهيوني صفناعته على الدوام ،وباقتدار .ومفن ثمّف تفبرز إلى جوار طبيعفة الخطاب التفي
تسفتهدف الجانفب النفسفي ،مفع اسفتثمار المعانفي النظريفة لمفهوم التحضفر ،التفي ل بفد أن تنففر مفن
الضطهاد بسفففبب اللون أو الجنفففس أو العقيدة ،طبيعففة أخرى تسففتثمر البعففد الدينفففي .فاليهود لم
يضطهدوا إل لنهم يهود ،ويصبح من المنطقي أل يطلبوا التعويض ممن اضطهدوهم بأرض في
أوروبفا ،لسفبب دينفي بسفيط معلوم ،هفو أن أوروبفا ليسفت أرض اليهود ،أو كمفا قال موشفى ديان
لصفحيفة لومونفد ففي ( 5/10/71بمفا أننفا نملك التوراة ،وأننفا شعفب التوراة ،فل بفد أن نملك أيضاً
أرض التوراة).
وتتم المغالطة الكبرى بالخلط السريع للوراق ،ول يبقى مكان في العالم يصلح لليهود ،ومن حق
اليهود ،وترضفى بفه النففس الوربيفة المعذبفة دون أن تخسفر أرضفا ،سفوى الوطفن اليهودي الذي
سلبه الفلسطينيون والمر مشروع قدسيًا بقرار إلهي بالكتاب المقدس المصدق وتلك إرادة ال الذي
ل راد لقضائه.
10
رب الزمان ودراسات أخرى
التزوير في الخطاب
والوقوف مففع الترنيمففة المعذبففة لليهود حول الجريمففة النازيففة ،يكشففف لنففا بعداً آخففر بالخطاب
الصهيوني ،وهي وقفه للتذكير بمجموعة حقائق ،تساعد على حل اللغز الذي طرحه السيد شامير،
في قوله أن المذبحة الهتلرية ،كانت السبب الحقيقي وراء قيام دولة إسرائيل!!
ربمفا مازلنفا نذكفر مفا حدث ففي بغداد مفع بدء الهجرة اليهوديفة المنظمفة إلى إسفرائيل ،بتخطيفط
وإشراف الصفهاينة ،عندمفا تردد يهود العراق ففي قيفد أسفمائهم بكشوف الهجرة ،فلجأت العصفابات
الصهيونية المسلحة إلى إلقاء القنابل على مركز التجمع اليهودي لشعارهم أنهم في خطر ،لدفعهم
للهجرة إلى إسففرائيل .وهففو الحدث الذي تزامففن مففع حالت أخرى شبيهففة فففي مواقففع أخرى مففن
العالم .كمفا تزامفن مفع بدايفة النشاط الفعلي للصفهيونية العالميفة .وكان أخطفر تلك السفاليب هفو مفا
حدث ففي المانيفا النازيفة ،ففي قضيفة إنجمان المعروففة .ومفا كشففت عنفه د .حنفا أرندت ففي كتابهفا
(إنجمان ففي القدس) ،وأوردت بفه مجموعفة وثائق تثبفت وجود تعاون وثيفق بيفن السفلطات النازيفة،
وبيفن المؤسفسة الصفهيونية ففي فلسفطين ،وأن مفن بنود ذلك التعاون ،أنفه كان بإمكان أي يهودي
ألمانففي أن يهاجففر إلى إسففرائيل ،شريطففة أن يحول أمواله إلى بضائع ألمانيففة .وقففد قدم إنجمان
مساحات من الرض للصهاينة ،كمعسكرات تجمع لليهود ولتهجيرهم بالكراه إلى فلسطين.
أمفا مفا حدث ليهود تلك المعسفكرات ،فهفو البشاعات التفي كشففت عنهفا قضيفة كاسفتنر ،الذي باع
يهود تلك المعسففكرات للنازي ،بالتعاون مففع إنجمان ،وهففي مففن القضايففا التففي هزت إسففرائيل،
وكشفففت أن زعماء الصففهاينة وقيادتهففم ،قاموا بتجهيففز أغنياء اليهود إلى فلسففطين للحصففول على
الموال ،إضاففة للعناصفر الفعالة كالعلماء والشباب ،بينمفا تركفت ففي المعسفكرات بقيفة اليهود مفن
عناصففر غيففر مرغوب فيهففا ،وهففو مففن تمففت أبادتهففم على يففد النازي ،بعلم القيادات الصففهيونية
وتعاونها ،لكسب العطف والتأييد العالمي ،وهو ما أدى بعد ذلك وبالفعل ،إلى قيام دولة إسرائيل.
وبموجفب التفاق ،قام إنجمان بتأميفن قطار خاص لحمفل المهاجريفن مفن النخبفة المختارة الممتازة،
ورافقهففم بعففض النازييففن إلى الحدود لضمان سففلمتهم ،وقففد قال كاسففتنر أن عددهففم كان 1684
شخصا غادروا إلى إسرائيل ،مقابل 476.000تمت التضحية بهم في المجزرة ،وهو المر الذي
يفسر لنا تأكيد شامير على أن تلك المجزرة ،كانت السبب وراء قيام إسرائيل.
11
رب الزمان ودراسات أخرى
وقد شهد على تلك المؤامرة الكبرى أحد القلئل الذين تمكنوا من الفرار من معسكر (أوشيتز) ،هو
(رودلف فربا) ،وذلك في جريدة لندن ديلي هيرالد ،عام ،1961بقوله (نعم أنا يهودي ،لكني أتهم
قادة اليهود بأنهففم أبشففع ممارسففي الحروب ،فتلك المجموعففة كانففت على علم مسففبق بمففا سففيحدث
لخوانهم في غرف الغاز النازية ،ومن بينهم كاستنر رئيس مجلس يهود هنغاريا ،وقد استقل عدد
كبير من يهود هنغاريا الفقراء قطارات النقل طائعين دون مقاومة ،لنهم كانوا قد أخذوا تطمينات
مفن القادة الصفهاينة أنهفم ففي طريقهفم إلى الحريفة ،بينمفا كانوا يسفاقون إلى العدام) .أمفا جريدة
صفوت الشعفب السفرائيلية فقفد قالت ففي عام ( 1955إن كفل أولئك الشخاص ،الذيفن ذبفح اللمان
أقرباءهفم ففي هنغاريفا ،يعلمون الن وبوضوح ،أن قيادات الصفهاينة هفي التفي دبرت الجريمفة مفع
النازي).
ولمفا فاحفت الفضيحفة ،وقدم كاسفتنر للمحاكمفة ففي إسفرائيل بضغفط الرأي العامفل لكشفف الحقائق،
عقبت صحيفة يديعوت أحرونوت في 1955بقولها( :إنه إذا تم تقديم كاستنر للمحاكمة فإن الدولة
برمتهفا سفتنهار ،سفياسيًا ووطنياً ،نتيجفة ما سفتكشف عنفه تلك المحاكمفة) ،ولم يمفض قليفل على بدء
المحاكمة ،حتى سقط كاستنر صريعا رميا بالرصاص من مجهول ،وكشف بعد ذلك أن قاتله هو
اكشتاين العميل السري في جهاز الموساد.
وكان السفؤال هفل مفن المعقول أن تقدم القيادة الصفهيونية هذا العدد الهائل مفن اليهود للذبفح؟ يجفد
ل ففي قيام الدولة ،وثانياً شهادات منهفا شهادة (موشفى شوايففر) مسفاعد كاسفتنر الذي قال
إجابتفه أو ً
بهدوء نعم كان يهود هنغاريا عدد كبيراً ،لكنهم للسف لم يكونوا يتمتعون بأي أيديولوجية يهودية.
أمفا قائد الهاجاناه (فايففل بولكفس) :فقفد التقفي بالنجمان ففي جروبفي القاهرة ،وأبدى رضاه التام عفن
سففير التعاون اليهودي مففع النازي كمففا هففو مرسففوم له (أنظففر مجموعففة وثائق التعاون النازي
الصهيوني كالتون ،أستراليا).
لكفن السفؤال الكثفر منطقيفة هفو إذا كانفت الجريمفة النازيفة قفد حدثفت بالفعفل ،فلماذا تطوع النازي
وسفمح للنخبفة اليهوديفة بالهجرة؟ والسفؤال وجيفه ،لكفن الوقائع تقول مفا يفيدنفا بإجابفة مقنعفة ،لعلنفا
نذكفر أن منظمفة الورجون اليهوديفة ففي فلسفطين ،قفد قامفت بإعلن الحرب رسفميا ضفد حكومفة
النتداب البريطانيففة عام .1944ونظمففت نشاطات إرهابيففة متتاليففة ضففد القوات البريطانيففة فففي
12
رب الزمان ودراسات أخرى
فلسفطين ،وهفو مفا جاء ففي سفقطة أخرى بخطاب السفيد شاميفر ففي مدريفد ،ففي قوله( :لقفد قامفت
الدولة اليهوديففة وتكونففت ،لن الطائفففة اليهوديففة الصففغيرة بفلسففطين أيام النتداب ،ثارت على
الحتلل المفبريالي)؟! وسفقطة السفيد شاميفر هنفا فاضحفة ،فففي الوقفت المفترض فيفه ،أن اليهود
يحاربون اللمان ،وأنخففم ضحيففة المجازر النازيففة ،كان اليهود ففففي فلسفففطين يقومون بنشاطات
إرهابيففة ضففد بريطانيففا (؟!!) المففر واضففح تمامففا ،تؤيده العلقات غيففر الخفيففة التففي قامففت بيففن
عصفابة (شيترن) اليهوديفة بفلسفطين ،وبيفن إيطاليفا الفاشيفة ،وشنفت بموجبهفا عددا مفن الهجمات
الرهابيففة على البريطانييففن بفلسففطين ،أمففا مناحيففم بيجففن زعيففم عصففابة الورجون ،فقففد وصففل
لفلسفطين كجندي ففي الجيفش البولونفي لمقاتله النازيفة ،ثفم ففر مفن الجنديفة ،ونظفم عصفابته لقتال
البريطانيين وقتل الفلسطينيين.
هكذا تمفت الخطفة الصفهيونية على ثلث محاور :محور يهود أوروبفا ،ومهمتفه قتال النازيفة لكسفب
تأييفد الحلفاء ،ومحور ألمانيفا للتخلص مفن نفايات يهوديفة ل تؤمفن باليهوديفة وحقوقهفا التاريخيفة،
ليتم بها كسب عطف العالم والضغط على ضميره ،في أشد الظروف العالمية توتراً .ومحور ثالث
كان فيه صهاينة فلسطين يقدمون للنازي خدماتهم الجليلة ،ويقاتلون بريطانيا لصالح دول المحور،
تنفيذاً للتفاق غير المعلن.
وهكذا تنكشفف لنفا أهفم جوانفب طبيعفة الخطاب الصفهيوني ،وهفو التزويفر الفاضفح ،وتهديفد ضميفر
العالم دومفا بدم اليهود المسففوك ،لنفه إذا كان (بدون دم وسففك دم ل تحصفل مغفرة) ،فإن ناموس
الصهيونية قد أكد (أنه بدون دم وسفك دم ل تقوم لسرائيل دولة).
الديـــن والعنصـــر
وقفد كان مناط احتجاج الخطاب الصفهيوني ففي مدريفد ،هفو أن (الزعماء العرب الذيفن كنفا نود أن
نصفادقهم رفضوا الدولة اليهوديفة ففي المنطقفة ،وادعوا أن أرض إسفرائيل هفي جزء مفن الرض
العربيففة) .وهنففا تحتشففد مجموعففة مففن المغالطات والتلفيقات ،فالخطاب ل يذكففر الرض باسففمها
التاريخي الصادق (فلسطين) ،إنما يشير إليها بوصفها (أرض إسرائيل) ،هو ما يستدعي مجموعة
تداعيات تاريخيفة ،مفع مداخلت تلفيقيفة تربفط تلك الرض بشعفب واحفد فقفط ،عاش مفع مجموعفة
13
رب الزمان ودراسات أخرى
شعوب أخرى على تلك الرض على مفر العصفور التاريخيفة ،لكفن بحيفث يبدو أنفه لم يكفن هناك
سوى شعب واحد هو الشعب السرائيلي.
والخلط مقصود ،وينطلق من خلط أساسي في مفهوم الخطاب الصهيوني وأدلوجته ،ما بين مفهوم
العرق أو الجنفس ،وبيفن مفهوم الديفن ،بحيفث يتداخلن ويصفبح العرق دينفا ،والديفن عرقفا .كمفا
يسفمح بتداخفل آخفر مفع التراث الدينفي للمسفيحيين ،بإجراء التطابفق ففي الخطاب بمهارة علقات
التطابق الدائري في علم المنطق ،أو أنظمة التكافؤ الرياضية .فالخطاب يتحدث عن رفض العرب
(للدولة اليهوديفة) ،وادعائهفم أن (أرض إسفرائيل) عربيفة فتتطابفق هنفا الدائرة الكليفة لمفهوم (الديفن
اليهودي) ،وتتكافففأ مففع الدائرة الكليففة (لرض فلسففطين) .لكففن بعففد حذف (فلسففطين) ووضففع
(إسرائيل) ،لتصبح فلسطين إسرائيل ،ويصبح شعبها الوحيد هو الشعب السرائيلي ،والدين الوحيد
الذي تواجد فيها على مر العصور ،هو الدين اليهودي وحده دون بقية الديان.
والمغالطففة الثانيففة تتضففح فففي إشارتففه إلى مففن ناصففبوا الدولة السففرائيلية العداء .هففم (الزعماء
العرب) .المسفألة هنفا طموحات مفن الزعامات ،مفع غزل رقيفق للشعوب العربيفة ،فنحفن أصفدقاء
كشعبين ،وأهل ،وبنو عمومة .المشكلة فقط في طموحات الزعماء للتوسع.
أمفا المغالطفة الثالثفة فهفي إجراء المطابقفة السفريعة بيفن مفهوم الديفن اليهودي ،وبيفن العنصفر أو
الجنففس السففرائيلي ،الذي عاش كقففبيلة ضمففن عدد كففبير مففن الشعوب الخرى – التففي ذكرتهففا
التوراة – فففي فلسففطين ،مثففل الكنعانييففن (الفلسففطينيين) ،والحيثييففن ،والعمونييففن والدومييففن،
والموابيين ،والفرزيين ،واليبوسيين ...إلى آخر القائمة المعروفة .ثم تجري المطابقة الدائرية مرة
أخرى بيفن اليهوديفة كديفن بعفد أن أصفبحت جنسفا ،وبيفن يهود اليوم المتناثريفن بيفن جنسفيات العالم
على تفرقها ،بحيث يظهر هذا الشتات غير المؤتلف كما لو كان جنسا واحدا ،وعرقا بذاته ،لمجرد
أنهفم يدينون بديفن واحفد هفو اليهودي ،بحيفث تنطلي الكذوبفة الكفبرى على جماهيفر الدنيفا ،تأسفيسا
على مدخفل منطقفي سفافر التزويفر ،وعلى أسفاس دينفي عقائدي ،ينهفض على أسفاس أسفطورية،
خلقت تتابعا عرقيا عنصريا بالكتاب المقدس لشعب إسرائيل القديم ،بحيث يبدو يهود اليوم كما لو
كانوا ينحدرون عن الباء التوراتيين الوائل ،إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
14
رب الزمان ودراسات أخرى
وربما ساهم في ابتلع البعض لتلك الفرية ،خاصة المتدينين ،هو انعزال أصحاب الديانة اليهودية
عفن غيرهفم ففي كفل المواطفن التفي عاشوا فيهفا ،بحيفث بدوا كمفا لو كانوا محافظيفن تمامفا على نقاء
البذرة البراهيميفة منفذ ألوف السفنين ففي أصفلبهم الطاهرة ،وهفو افتراض يقوم على التسفليم بلون
خارق مفن العفاف الجنسفي المنقطفع النظيفر ،وهفو مفا ل تنطفق بفه سفيرة بنات اليهود ،ل اليوم ،ول
حتى في العصور التوراتية منذ البدء ...وباعتراف الكتاب المقدس ذاته.
وبنظرة سفريعة عجلى على إصفحاحات الكتاب المقدس يمكنفك أن تجده يموج بالصفخب الجنسفي.
ونموذجاً لذلك ما جاء به مع الرجل الول في تاريخهم ،البطرك إبراهيم ،الذي حكى الكتاب عنه.
"فانحدر إبرام إلى مصر ...وقال لساراى امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر ..قولي
إنففك أختففي ليكون لي خيففر بسففببك ،وتحيففا نفسففي مففن أجلك ...فأخذت المرأة إلى بيففت فرعون،
فصفنع إبرام خيرا بسفببها ،وصفار له غنفم وبقفر وحميفر وعبيفد وإماء وإتفن وجمال – سففر التكويفن
."21وهكذا نجفد البدايفة ل تبشفر بخيفر ،مفع هذا الدعاء بالنقاء الجنسفي على مفر العصفور .ولسفنا
هنفا ففي مقام الدفاع عن نبي جليفل ،لكفن المتابفع للسفار يجفد النفبي (إرميفا) ينوح على تفشفي الزنا
بين بنات مملكتي يهودا وإسرائيل ،ويقول" :هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل ،انطلقت إلى كل
جبفل عال وإلى كفل شجرة خضراء ،وزنفت هناك ...ولم تخفف الخائنفة يهودا أختهفا ،بفل مضفت
وزنفت هفي أيضاً ،سففر إرميفا " ."30وصفهلوا كفل واحفد على امرأة صفاحبة ..إرميفا ،"50بفل أن
الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه المختار "أرفع ذيلك على وجهك فيرى خزيك ،فسقك وصهيلك،
ورذالة زناك على الكام ،ففي الحقفل رأيفت مكرهاتفك ،ويفل لك أورشليفم ،ل تطهريفن حتفى متفى؟
إرميفا ."13ثفم ينادي مملكفة يهوذا "زنيفت على اسفمك وسفكبت زناك على كفل عابر ..وصفنعت
لنفسفك مرتفعات موشاه وزنيفت عليهفا ..وصفنعت لنفسفك صفور ذكور وزنيفت بهفا ...وفرجفت
رجليفك لكفل عابر ،وأكثفر زناك ،وزنيفت مفع جيرانفك بنفي مصفر الغلظ اللحفم الذيفن منهيفم كمنفي
الحمير ،وزدت في زناك لغاظتي ...وأسلمتك لمرام مبغضاتك بنات الفلسطينيين ،الئي يخجلن
من طريقك الرذيلة ،أعطيت كل محبيك هداياك ورشيتهم ليأتوك من كل جانب للزنا بك ،وصار
فيفك عكفس عادة النسفاء ففي زناك ،إذ لم يزن وراءك ،بفل أنفت تعطيفن أجرة ،ول أجرة تعطفى لك،
فصرت بالعكس – سفر حزقيال ."16
15
رب الزمان ودراسات أخرى
وهذا قليل من كثير .وربما كان شبق بنات صهيون ،الذي كان يدفعهن إلى الصهيل عند الوصال
(بتعفبير الكتاب المقدس) ،وإلى صفناعة ذكور صفناعية لمزيفد مفن الشباع ،ودففع الجور للرجال،
وهو الذي دفع دولة إسرائيل الحالية ،إلى وضع قانون ل يعتبر الفرد بموجبه يهوديا ،إل إذا كانت
أمففه يهوديففة ،ومففن ثففم أصففبح النسففب اليهودي للم ل للب .ولو طبقنففا ذلك القانون على (داود)
مؤسفس المملكفة التوراتيفة القديمفة ،وعلى ولده (سفليمان) أشهفر ملوكهفم ،فسفنجد الول حفيفد لمرأة
تدعى (راعوث) لم تكن من بني إسرائيل جنسا ول تدين باليهودية .بل كانت موآبية ،أما سليمان
فقد رزق به أبوه (داود) من امرأة حيثية ،ل يهودية ول إسرائيلية ،وطبقا للقانون ،فإن كليهما ليس
يهودياً ول إسرائيلياً ،وإنما فلسطينيان ،لن المهات فلسطينيات.
الجـــانب الحقـــوقي
أمفا المغالطفة الكفبرى ففي كلمفة السفيد شاميفر فكانفت ففي قوله إن الزعفم بأن أرض إسفرائيل أرض
عربيفة مجرد ادعاء ،فينتقفل الخطاب إلى المحور التاريخفي ،أو (الحقوقفي الدينفي التاريخفي معفا)،
ليقول دون أن يرف له جففن" :إننفا الشعفب الوحيفد الذي كانفت أورشليفم عاصفمته ،ونحفن الشعفب
الوحيد الذي توجد أماكنه المقدسة فقط في أرض إسرائيل" .ورغم ما في مقولة الربع آلف سنة
مفن مغالطفة تاريخيفة صفارخة ،ول تمفت للمانفة بصفلة ،ولننفا هنفا ففي مقام قراءة طبيعفة الخطاب
وليس الرد بالوثائق ،فإن الخطاب يريد أن يقول للجماهير ببساطة :إن بني إسرائيل (متطابقا معهم
يهود اليوم) كانوا أصحاب أرض فلسطين من أقدم العصور التاريخية.
وما دام الرجل يتحدث كمؤمن صادق اليمان ،حريص على عقيدته ومحارم دينه .صادق العلقة
بتوراته إلى الحد الذي دفعه إلى ترك المؤتمرين في مدريد ،ليقضي عطلة السبت متهجدًا مع بني
جلدتفه ،فل مشاحفة ففي أن اختبار صفدق الخطاب بالمطابقفة مفع الكتاب المقدس ،يمكفن أن يضفع
طبيعة ذلك الخطاب على محك المصداقية من عدمها.
وبالعودة إلى الكتاب المقدس نجده يحكففي لنففا أن إبراهيففم أرومففة اليهود ،وأول رجففل ذا شأن فففي
تاريخهم ،لم يكن فلسطينيا ،إنما جاء فلسطين غريبا من بلد بعيد يدعى (أور الكلدانيين) في رحلة
استغرقت خمسة عشر عاما .وعندما وصل فلسطين مع عائلته الصغيرة ،يقول – الكتاب المقدس
– "كان الكنعانيون جينئذ ففي الرض – سففر التكويفن ،"12وأن إبراهيفم قفد هبفط ضيففا على ملك
16
رب الزمان ودراسات أخرى
مدينففة جرار المدعففو إبيمالك ،ويصففف المقدس تلك الرض بأنهففا "أرض الفلسففطينيين – تكويففن
،"21وأن أبيمالك كان "مالك الفلسفطينيين – تكوين ،"26وعندمفا قتفل أبناء يعقوب حفيفد إبراهيفم
بعض الفلسطينيين بعد حالة زنى مع شقيقتهم ،قال لهم يعقوب المعروف باسم إسرائيل "كدرتماني
بتكريهكمفا أياي عنفد سفكان الرض الكنعانييفن ..وأنفا نففر قليفل – تكويفن ،"34وعليفه لو سفلمنا
للرجفل الحريفص على محارم دينفه يوم سفبته .بأن الباء التوراتييفن الوائل كانوا ففي فلسفطين منفذ
أربعفففة آلف عام ،فإن مقدسفففه يؤكفففد أنهفففم دخلوهفففا ضيوففففا قليلي العدد على أهلهفففا الكنعانييفففن
(الفلسفطينيين) بفل كانفت ،فلسفطين عندمفا وصفولها ممالك ذات حضارة ونظام اجتماعفي وسفياسي،
أمفا مهجفر الب الول إبراهيفم ،وموطنفه الصفلي ،فقفد أثبتنفا أنفه ل يقفع ضمفن المنطقفة بكاملهفا
وعلى الطلق ،وإنمفا يقفع ففي جبال أرارات بارمينيفا ،وذلك ففي كتابنفا (النفبي إبراهيفم والتاريفخ
المجهول) وقدمنفا بسفبيل ذلك مجموعفة مفن القرائن والبراهيفن ،التفي سفتظل صفادقة حتفى تجفد مفن
يرد عليها ويدحضها ،بأدلة أقوى ،وقرائن تثقل كفتها ،وحتى الن لم يحدث ذلك ،ول نظنه بحادث
في المستقبل المنظور.
يهـــود فلســـطين
وإعمال لما قلناه ،فإن طبيعة الخطاب الصهيوني كما هو واضح جلّي ،طبيعة قبلية ،ل ترى قبيلة
غير قبيلتها ،ول تراثا مقبول غير تراثها ،ول دينا صحيحا غير دينها ،ول صدقا إل في توراتها،
وكأن تراث الخريفن غيفر موجود ،لشعوب عديدة عاشفت ففي فلسفطين ،كان لهفا مقومات الشعفب
والعنصفر والديفن والحضارة والنظام الجتماعفي والسفياسي ،قبفل قيام مملكفة داود بأكثفر مفن ألففي
عام.
ولمجرد التذكرة ،ومنعاً للطالة ،يكفينففا ذكففر أن الملك (داود) المؤسففس الحقيقففي لدولة إسففرائيل
التوراتيفة ،حوالي 1000قبفل الميلد ،أقام دولتفه مسفتفيدًا مفن توازن القوى بيفن القوتيفن العظمييفن
حينذاك (مصفر والرافديفن) ،فكون جيشفا مفن أهفل الرض الفلسفطينيين ،وأقام لونفا مفن الئتلف
ووحفد القبائل ففي وحدة سفياسية ،وصفهر الممالك الصفغيرة معفا ،بفل كان حراس (داود) أيضاً مفن
الفلسفطينيين ،كذلك قائد جيشفه ،وسفواء هفو أو ابنفه (سفليمان) ،فقفد أقامفا الدولة على أسفاس تعدد
القوميات ،ولم تقم أبداً كدولة ذات جنس واحد ودين واحد ،والكتاب المقدس شاهد بذلك ،وحتى لو
أغفلنففا كففل مففا سففبق ،وسففلمنا للخطاب الصففهيوني بالصففدق التام ،فإن مسففألة جمففع روس وألمان
17
رب الزمان ودراسات أخرى
وبلغار وأمريكان وأحباش ...ألخ من مواطنهم ،للقامة في فلسطين بالحق التاريخي ،لمجرد أنهم
يهود ،يجعفل المفر مزحفة بشعفة ،سفتظل وصفمة ،وربمفا بصفقة ففي جفبين هذا العصفر إلى مفا يشاء
ال ،لنه بمقارنة شديدة البساطة ،سنجد أن الحقوق التاريخية للهنود الحمر في أمريكا ،أوضح من
ادعاءات الخطاب الصفهيوني ففي فلسفطين لن الهنود لم يكونوا أول مفن اسفتوطن أمريكفا منفذ فجفر
التاريخ ،بل كانوا الشعب الوحيد فيها.
إن طبيعفة الخطاب الصفهيوني إذن ،تعتمفد على عدد هائل مفن المغالطات والتمريرات ،التفي تبدو
ففي ظاهرهفا صفادقة الحقوقيفة (مفع الخلط لمفهوم العنصفر بمفهوم العقيدة) ،وحتفى ل يتيفح الخطاب
الفرصفة لمقارنفة يهود اليوم بآباء العصفر التوراتفي ،فإنفه يقففز فورا إلى تأكيفد "أننفا الشعفب الوحيفد
الذي ظفل على أرض إسفرائيل بدون توقفف نحفو أربعفة آلف عام ،لتسفتمر بالمطابقفة بيفن مفهوم
الديفن والعنصفر ،لدعفم محور الحفق التاريخفي ،ليظهفر المفر كمفا لو أن اليهود فقفط هفم مفن عاشوا
ففي فلسفطين على مفر العصفور ،أو على القفل الجماعفة الكثفر عدداً ،لكفن السفائح اليهودي بنياميفن
الطليطففي الذي زار القدس عام 1170ميلديففة ،سففجل أنففه لم يجففد فففي فلسففطين بكاملهففا سففوى
1440يهودياً! كما لم يعثر اليهودي (ناحوم جيروندي) في زيارته لفلسطين عام 1257إل على
عائلتين يهوديتين .أما الطرف فعلً أنه حتى هذا القرن نجد الشهادة في خطاب شامير تقول" :لقد
قامفت الطائففة اليهوديفة الصفغيرة – ولحفظ الصفغيرة – التفي كانفت تقيفم بفلسفطين تحفت النتداب،
بالثورة على الستعمار المبريالي".
شـــالـوم
وأمام عدسفات العلم العالمفي ففي مدريفد ،لم ينفس الرجفل الشهفم أن يبدي مروءتفه وأسففه وأسفاه
على الفلسفطينيين المشرديفن ،بينمفا قنابله الجهنميفة تدك مخيماتهفم ففي لبنان ،حيفث قال بكفل تراحفم
وحنان" :إنفففه ل يوجفففد يهودي واحفففد ففففي هذا الزمان ،يسفففتطيع أن يكون غيفففر مبال بمعاناة
الفلسطينيين" ،هذا رغم سرده لبشاعات العرب مدمجة ببشاعات النازي ضد اليهود ،لكنه رأى من
واجبففه كرجففل متحضففر أن يعلن ذلك السففى والحزن مففع ندائه لجيرانففه البرابرة حتففى يظهروا
كسبب فيما حدث للفلسطينيين" :أظهروا استعدادكم لقبول إسرائيل ،إن التخاطب أفضل بكثير من
سففك الدماء ،فالحروب لن تحفل قضيفة ففي منطقتنفا ،لكنهفا تسفببت ففي المآسفي والمعاناة والقتفل
18
رب الزمان ودراسات أخرى
والكراهيففة" – وهكذا فطبيعففة الخطاب تشهففد العالم :إن العرب يشردون الفلسففطينيين بحروبهففم،
لنهم يريدون قتلنا لمجرد أننا متدينون ،إنهم يريدون أن يقتلوا رجل يقول :ربي ال.
الخطاب مستمر – كما هو واضح – في التركيز على المحور النفسي والمشاعر الدينية المسيحية
الوروبيفة ،التفي تشهفد بالحقوق التاريخيفة على أسفاس الشهادة المقدسفة بالتوراة ،هذا بالطبفع مفع
صفورة العربفي المعلومفة لدى الرجفل الوروبي ،منفذ تزييفف تاريخ الندلس ،والحروب الصليبية،
حتى صورة العربي الخليجي في حانات ومواخير أوروبا.
ومرة أخرى نعود للكتاب المقدس لنرى مدى المصففداقية فففي الخطاب ،وإلى أي حففد يتطابففق مففع
المقدس ،ومفع مفا يحدث بالفعفل بفل بالقول ،مسفايرة للخطاب المتديفن الحريفص على محارم الديفن،
والحريص في الوقت ذاته على إقناع عقل العالم وضميره بحقوقه التاريخية.
يقول الرب (يهوه) في شريعته ،مفصحا عن طبيعته وهويته ،مفصحا عن طبيعته وهويته ،التي ل
تلتقي بحال مع طبيعة الخطاب الصهيوني ،قدر ما تلتقى مع ما يحدث بالفعل "الرب رجل حرب
– سففر الخروج ،"15لذلك كانفت شريعفة هذا المحارب السفماوي تأمفر عفبيده التقياء بالسفلوب
المثل للتعامل مع شعوب المنطقة ،ومن تلك الشرائع إليك المقاطع اللطيفة التية:
-أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار – سفر العدد .13
أمفففا الخطفففة المثلي ففففي أوامفففر الرب ،فهفففي أن يبدأ شعبفففه بدعوة الشعوب الخرى إلى السفففلم
والصلح ،أو بالنص:
"حيففن تقترب مففن مدينففة ،اسففتدعها للصففلح .فإن أجابتففك ،فكففل الشعففب الموجود فيهففا يكون لك
للتسفخير ،ويسفتعبد لك ،وأن لم تسفالمك بفل عملت معفك حربفا ،فحاصفرها .وإذا دفعهفا الرب إلهفك
إلى يدك فاضرب جميفع ذكورهفا بحفد السفيف .وأمفا النسفاء والطفال والبهائم وكفل مفا ففي المدينفة،
كلها غنيمة تغنمها لنفسك ،وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك .هكذا تفعل بجميع المدن
البعيد منك جداً ،التي ليست مدن هؤلء المم هنا – تثنية ."20
19
رب الزمان ودراسات أخرى
هذا عن المدن البعيدة ،أما المدن القريبة" :فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف ،وتحرقها
بكفل مفا فيهفا مفع بهائمهفا .تجمفع أمتعتهفا إلى وسفطها وتحرق بالنار المدينفة وكفل أمتعتهفا – تثنيفة
."13
أمفا المدن الفلسفطينية فلهفا شأن آخفر ،إذ يأمفر يهوه قائلً" :أمفا مدن هؤلء الشعوب التفي يعطيفك
الرب إلهك نصيبا ،فل تستبق منه نسمة ما – تثنية ."20
ومفن هنفا ،وبمطابقفة المقدس ،فهفو يتطابفق تمامفا مفع الفعفل الصفهيوني ،لكنفه ل يطابفق الخطاب
بحال .لكن الفعل بمطابقة المقدس إنما يصبح فعل مقدسا ويصبح من تلك المقدسات تدمير وصور
وصيدا ومذابح صبرا وشاتيل وقبية وكفر قاسم ودير ياسين ،ومجازر منظمة الورجون البيجنية،
وسفاحي الوحدة 101التابعة لريل شارون ،فالمر مقدس ،لذلك هو نبيل وسامي ،وباسم رسالة
إسفرائيل التوراتيفة يتفم التعامفل مفع عرب اليوم ،كمفا تفم التعامفل مفع الكنعانييفن بالمفس فقفط تغيرت
لغة الخطاب أما الفعل فمقدس ،والمقدس خير وأبقى.
العصـــر السعـــيد
ثم يختم شامير خطابه وهو يبتسم سعيداً ،استطلعا للعصر السعيد التي ،عصر المان والسلم
لكل الشعوب الذي تنبأ به أشعيا وردد شامير نبوءته وهو يقول "فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم
مناجل ،ول ترفع أمه على أمه سيفا ،ول يتعلمون الحرب فيما بعد – أشعيا ."2
هذا فقفط مفا ذكره الرجفل مفن كتابفه المقدس ،ليتطابفق مفع خطاب السفلم ،كفي يفبرز التطابفق ففي
الخطاب مع العنصر المقدس مع الحق التاريخي ،إتباعا لكتاب يأمر بالسلم وينبئ بالسلم ،فإشعيا
النفبي يتحدث عفن اليوم الذي سفيتم فيفه صفهر السفيوف لتحول إلى محاريفث ومناجفل ،ول تكون
هناك حرب بيفن المفم إنمفا تعاون وسفلم وإنتاج ورفاهيفة ،لكفن ففي أي مقام قال إشعيفا نبوءتفه؟
الخطاب يصفمت ،وهنفا فقفط يذكفر النبوءة منزوعفة مفن سفياقها ،ليقدم مقدسفاته للعالم وهفي تدعفو
للسفلم ،وبحيفث يكون الرجفل مسفتمرا على الدرب ،ومكررا لدعوة أبطال العهفد القديفم مفن أجفل
السلم.
20
رب الزمان ودراسات أخرى
ومن المستحب في هذا المقام أن نتأسى برغبة شامير في استدعاء نبوءة إشعيا فنجدها تتحدث عن
يوم يثبت فيه دين يهوه وحده في قمة جبل صهيون "وتجري إليه كل المم إشعيا ،"2لكن ذلك لن
يكون قبل أن يحدث التي لبلدان المنطقة:
)لسوريا) :هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم – إشعيا .17
)لمصفر) :ففي ذلك اليوم تكون مصفر كالنسفاء ،فترتعفد وترتجفف مفن هزة يفد رب الجنود ،وتكون
أرض يهودا رعبا لمصر – أشعيا .19 – 17
)لجزيرة العرب) بلد العرب ...مفن أمام السيوف قد هربوا ،يفنفى كل مجفد قيدار ..لن الرب إله
إسرائيل قد تكلم – اشعيا .21
)للبنان) وحى من وجهة صور ..ولوّلي يا سفن ترشيس لنها خربت ..ولولوا يا سكان الساحل
..ورب الجنود قضى به لدنس كبرياء كل مجد ..أرضك كالنيل يا بنت ترشيش ..أيتها العذراء
المتهتكة بنت صيدون ..ولبنان ليس كافيا لليقاد وحيوانه ليس كافيا للمحرقة – اشعيا .40 ،23
)للعراق) أنزلي وأجلسفي على التراب أيتهفا العذراء ابنفه بابفل ،اجلسفي على الرض بل كرسفي يفا
ابنه الكلدانيين ،لنك ل تعودين تدعين ناعمة ومترفة ..تنكشف عورتك وترى معاريك ..أجلسي
صفامته وأدخلي ففي الظلم يفا أبنفه الكلدانييفن لنفك ل تعوديفن تدعيفن سفيدة الممالك – اشعيفا .47
والن:
ترى هفل حقفق الخطاب الصفهيوني القديفم أغراضفه ،بفعفل أصفحاب الخطاب الصفهيوني الجديفد؟
سفؤال ل يجيفب عليفه إل الزعماء العرب المؤتمريفن ففي مدريفد ..يحلمون بنبوءة إشعيفا بالعصفر
السعيد.
21
رب الزمان ودراسات أخرى
تلفيق ل يليق
وبدايفة ل يمكفن هنفا بالطبفع أن نلقفي بال إلى التجاه الذي أدان الفيلم لمجرد أنفه يشخفص النفبياء.
كما يجب في هذا الطار أن نتجاهل أيضا وتماما ردود المخرج وحوارييه ومؤيديه ،الذين أخذوا
يؤكدون أن الفيلم لم يقصفد تصفوير قصفة النفبي يوسفف كمفا وردت ففي القرآن الكريفم ،إنمفا دارت
أحداث الفيلم على نحو مشابه لقصة ذلك النبي .لتتخذ من عبرة القصة نموذجا وقدوة ومثل أعلى
للشباب ،للثبات أمام المغريات الدنيويفة والشهوات البهيميفة كمفا ورد ففي صفحيفة الدفاع .وتجاهنفا
هنفا لتلك الردود يعمفد إلى المصفداقية بعيدًا عفن لعفب كفل مفن الطرفيفن لكسفب القضيفة القانونيفة
وقضية الرأي العام بأي أوراق ممكنة حتى لو كانت فاقدة المصداقية.
22
رب الزمان ودراسات أخرى
ومفن ثفم سفيكون مفن التلفيفق غيفر اللئق بفل ومفن الغباء ،أل نرى ففي الفيلم قصفة الب السفرائيلي
التوارتي (يوسف بن يعقوب بن اسحق ابن إبراهيم) التي قدمت بوضوح شديد ،مع بعض التحوير
الطفيف هنا وهناك لتلفي ما يمكن حدوثه من عواقب إزاء المفاهيم السائدة ،ولتلفي ما قد يطرأ
من مساءلة قانونية ليجاد عدد من المخارج الممكنة عندما تبدأ ردود الفعل .ومن نماذج ذلك تقديم
عدد إخوة بطففل الفيلم (رام) ،المفترض أنهففم السففباط إخوة يوسففف فففي عدد مخالف لمففا قدمتففه
التوراة ،أو مثفل تحويفر موقفف إلقاء يوسفف ففي بئر (جفب) إلى إلقائه ففي الحجرة السففلية لسففينة
مصفرية لكفن فتحفة الغرففة كانفت موحيفة تمامفا بالبئر أو الجفب ،هذا إضاففة إلى مخالففة السفيناريو
والقصفة للخاتمفة التوراتيفة ،فتتفم عودة بطفل الفيلم مفن مصفر إلى بلده البدويفة رغفم موت بطفل
القصة التوراتية وتحنيطه ودفنه في مصر على الطريقة لمصرية ،حتى يمكن بذلك إيجاد المخرج
بالقول :إن المفر مجرد رؤيفة فنيفة تجسفد رحلة المخرج وهجرتفه إلى أمريكفا ثفم عودتفه إلى بلده،
وأن المر فقط كان استلهاما لبعض المواقف النبوية إزاء المغريات الدنيوية.
وربما جاز للمشتغلين بالنقد افني أن يضعوا لنا مصادرة في شكل مقدمة ثابتة ل تقبل نقاشا ،وهي
أنه ل يجوز التعامل مع الفيلم إل بالمعايير الفنية وحدها ،فالفيلم فيلم وليس بحثا تاريخيا ،أو عمل
فقهيا ،لكن الحال هنا سيختلف تماما مع فيلم المهاجر لعدد من السباب الواضحة والمهمة التي ل
يمكن تجاوزها لصالح الموقف الفني وحده حيث اشتبك الفيلم مع عدد من المسائل شديدة الحساسية
وتداخفل معهفا إلى الحفد الذي ل يسفمح بالوقوف عنفد أدوات النقفد الفنفي وحده ومعاييره ففي التعامفل
مع الفيلم وقد جاء اشتباك الفيلم مع غير الفني على ثلث مستويات.
صدمــة الذاكـــرة
المسففتوى الول هففو مسففتوى الحالي – النففي – الراهففن ..حيففث بدأ التطففبيع العربففي مففع الدولة
السفرائيلية يسفير حثيثًا مفع متغيرات كفبرى بالمنطقفة( ،واختيار قصفة يوسفف بفن يعقوب) تحديدا
في هذا الوقت ،وبالصورة التي عولج بها ،تحمل أكثر من علمة استفهام حول مقاصد الفيلم الذي
تلمس مع ما يريده ،في نقاط التقاء كاشفة واضحة ،في أكثر من لقطة وأكثر من ترميزة.
فالعجفز الجنسفي لقائد الجنفد المصفري يكشفف عفن وجهفه الخفر عفن القول المآثور بحاجفز نفسفي،
أضاففه إلى أنفه يعفبر عفن عجفز القوة والقدرة إزاء الشاب المهاجفر القوي المليفح وعلقتفه بالزوجفة
23
رب الزمان ودراسات أخرى
الشابة .ثم كانت زراعة الصحراء بوضع يد المصري في يد المهاجر الغريب التي تشي ببساطة
بنصيحة واضحة :لنضع أيدينا مع بعضها ...نزدهر وننتج ونخضر الصحاري .وهو المر الذي
ل يمفر دون التأكيفد عليفه ففي الحوار ،فهذا المزارع المصفري (أوزيفر) يتعاون مفع (رام) المهاجفر
ففي زراعفة الصفحراء ،وعندمفا يتقدم (رام) ليشكره يجيبفه المصفري "كلنفا محتاجيفن لبعفض"؟! أو
ففي نفص آخفر بالحوار ينضفح بالغرض المفصفح ففي اسفتهجان (رام/يوسفف) للمصفريين الذيفن لم
يبلوه مواطنا رغم طول إقامته بينهم ويلقي باستنكاره هذا مفصحا عن إجابة السؤال :كيف ل نقبل
إسرائيل بيننا بعد جيرتها لنا زمنا؟
على أية حال هذا مستوى من مستويات الشتباك مع الراهن ،يوعز بأنه ربما تأسس بشكل ذكي
وخفبيث على نفص دينفي ،بحيفث يفضفح (يوسفف شاهيفن) بقصفد أو بدون قصفد مدى التناقفض الذي
يقفع فيفه (القوموي العروبفي) مفع نفسفه عندمفا يؤمفن بعقائد تسفلم بهذه القصفة التفي تسففه المصفريين
تماما وتاريخهم لصالح السرائيليين ،وتجعل من السرائيليين الحكمة كلها والطهارة كلها والعفة
كلها وتجعل من المصريين رموزاً للحمق والشهوانية والدنيوية الفجة.
إن الفيلم يضفع العقفل العروبفي أمام تناقضفه ،فهفو يؤمفن بأديان تديفن تاريفخ المنطقفة القديفم لصفالح
التاريفخ السفرائيلي بينمفا يرففع شعارات النضال والتحريفر مفن النهفر إلى البحفر!! إن الفيلم يصفنع
هنفا مفا يمكفن تسفميته (صفدمة الذاكرة) أو صفدمة اليمان لولئك الذيفن لم يحاولوا حتفى الن ففك
الشتباك بيفن الدينفي والقومفي .وإذا كانوا يرفضون التطفبيع يظاهفر وعيهفم فإنهفم يؤسفسون القومفي
لديهم على الديني ،والديني أشد تطبيعا وطراوة مع بني إسرائيل الذين فضلهم ال على العالمين.
ول أحفد يكابر أن المأثور السفلمي كمثال كان دومفا إلى جانفب السفرائيلي ضفد كفل حضارات
المنطقة فكان مع يوسف بن يعقوب وموسى بن عمران وبقية بني إسرائيل ضد مصر وحضارتها
وشعبهفففا وحكامهفففا ،وكان مفففع شاؤول/طالوت أول ملك إسفففرائيلي ،ومفففع داود مؤسفففس الدولة
السرائيلية ،ضد جالوت/جوليات البطل الفلسطيني الذي مات وهو يدافع عن أرضه ضد الحتلل
السفرائيلي السفتيطاني لبلده .وكان مفع أبيهفم إبراهيفم أرومفة القفبيلة العبريفة ضفد العراق القديفم
وحضارتففه ممثل فففي شففخ ملكهففا النمرود .وكان مففع البدو العففبران جميعففا ممثليففن فففي جدهففم
24
رب الزمان ودراسات أخرى
السففطوري سففام بففن نوح ضففد كففل حضارات المنطقففة ممثلة فففي حام بففن نوح وأبنائه كنعان
الفلسطيني ومصرايم المصري ونمرود العراقي.
حضارة مـوت
إن الوسفيلة التفي اسفتخدمها الفيلم كانفت شديدة الذكاء ،لكفن الغرض والهدف كان إلى جانفب إجابفة
واحدة فقط على السؤال الذي يحتمل إجابات أخرى كثيرة .ومن ثم كان الفيلم يتساءل :إذا كان هذا
هففو مففا نؤمففن بفه فلماذا نتناقفض معففه؟ ...لماذا بصفريح العبارة ل نطبفع إذن؟ غافل عففن إجابففة
أخرى أصر عليها كاتب هذا المقال دوما تتمثل في ضرورة فك الشتباك بين الديني والقومي إذا
أردنا التساق مع أنفسنا ومع قضيتنا ومع آمالنا الوطنية والقومية.
وهكذا كانففت التلمحيات والترميزات الواضحففة مدعاة للوقوف مففع تلميحات أخرى يمكففن أن يرى
فيهفا المشاهفد العربفي بخاصفة المصفري ففي الظرف الراهفن لونفا مفن تسففيه النسفان المصفري
صفاحب الحضارة التفي شاخفت ففي – فيلم شاهيفن – وأخذت ففي التهاوي إزاء العفبراني الطموح
المتوثففب للمعرفففة والعلم .وعليففه جاء الفيلم بتركيزه على القول :إن حضارة المصففريين قففد تففم
(تكهينهفا) وأن مصفر قفد حبسفت علومهفا داخفل الجدران المسفحورة للمعابفد ،وتحولت مفن حضارة
حياة إلى حضارة موت ،ل تهتففم إل بالتحنيففط وبمففا بعففد الموت .وكانففت مشاهففد (حرق الزرع)
تصفويراً لشعفب أنعفم ال عليفه بالنهفر والخصفب ،لكنفه كان شعبفا همجيفا ،يحرق آلف الفدنفة ففي
صراعاته ،بينما رام العبراني يكرس حياته ليزرع سنبلة في الصحراء (؟!) أما تركيز الفيلم على
القزام وإيداعهفم أمانه لدى رام ،فكان رمية أخرى موجعة للمصفري القزم إزاء العفبراني الميفن،
هذا ناهيك عن الرمز الواضح في تحويل النهر نحو الصحراء لزراعتها ،وكيف أمكن لرام بذلك
الفرع الضئيل أن يزرع الصحراء.
وكان على شاهيفففففن أن يدرك أن المشاهفففففد العادي ل يعلم أن القزم كان محببفففففا ففففففي بيوتات
الرسففتقراطية المصففرية ،وكانففت تلك البيوتات تسففتجلبهم مففن أفريقيففا للخدمففة البيتيففة والترويففح
الفكاهففي ،حتففى جعففل المصففريون للقزام إلهففا هففو الله القزم (بففس) .ونعففم كانففت العلوم داخففل
المعابد ،وونعم اهتم المصري بالتحنيط وبالموت اهتماما عظيما ،وكان يمكن أن يمر ذلك بهدوء،
باعتباره تصفويراً للحياة المصفرية ففي الزمفن القديفم ،لكفن أن يتفم ذلك داخفل إطار قصفة إسفرائيلية
25
رب الزمان ودراسات أخرى
تتحدث عن تفوق السرائيلي الطموح في قصتها الصلية أو في الفيلم فهو أمر آخر ل يمكن معه
افتراض حسن النوايا!
ومن ثم يلقي الفيلم برؤيته (التطبيعية) في عمق التاريخ وفي أصول الدين ليجذرها ،فيركن بدهاء
إلى القصففة الدينيففة التوراتيففة التففي وزّرت يوسففف خزانففة المصففريين ،ويقدم لنففا (رام) مكتشفففا
لسفلوب تخزيفن الحبوب ففي سفنوات الجفاف التفي اسفتبدلها بحرق المحاصفيل ،ليذهفب إلى مفا هفو
أبعد من التطبيع .أنه يلمّح إلى إدارة المنطقة بالعقل السرائيلي المتوثب المتفوق! عندما يسلم قائد
الجند لرام جنوده وبلده وأرضه ليكون أمينا على خزائنها ومستثمرا لها وراعيا!
مرة أخرى نعود إلى أسففباب التعامففل مففع الفيلم على مسففتويات غيففر المسففتوى الفنففي وحده ،فففي
اشتباك الفيلم على مسفتو ثان مفع الدينفي واليمانفي ،وعندمفا فعفل ذلك خرج مفن دائرة الفنفي وحده،
حيفث جعفل مرجعيتفه ملكيفة عامفة لجماهيفر المؤمنيفن ففي الديان الشرق أوسفطية الكفبرى الثلثفة،
فشفخ يوسفف بفن يعقوب مقدس ففي اليهوديفة باعتباره أحفد آباء القفبيلة السفرائيلية الوائل ،وهفو
مقدس في السلم لذات السبب بحسبان المسيح بدوره من ذات النسل السرائيلي المبارك .ثم هو
مقدس ففي السفلم لذات السفبب ،ثفم لسفبب آخفر هفو أنفه أضاف ليوسفف صففة النبوة ،وهفي ليسفت
ملكيفة عامفة فقفط ،بفل ملكيفة مقدسفة ،ومفن ثفم فقفد خرج الفيلم مفن دائرة الفنفي ليخوض ففي الدينفي،
فوضفع نفسفه ففي موقفع التعامفل معفه على هذا السفاس .ليفس هذا فقفط ،بفل أن الفيلم اختار لنفسفه
رؤية دينية دون أخرى ،فحدد لنفسه بذلك موقفًا من الروايات الدينية حول يوسف ،وهو ما يضعه
أما مسئولية اختياره.
روايــة التــوراة
والوضاح تماماً أن المخرج حتفى ل يقفع ففي مأزق المحاكمات السفلمية ،فقفد ركفن إلى الروايفة
التوراتيففة حول الب يوسففف ،بدليففل إيراده المنمنمات وتفاصففيل لم يذكرهففا القرآن إطلقاً ،وإنمففا
ذكرت تفصففيلً فففي التوراة ،وذلك مثففل قصففة رئيففس الشرطففة (فوطيفار) الذي اشترى يوسففف
الموصفوف بجمال فاتفن ،والحفب الشديفد مفن (فوطيفار) ليوسفف الصفبي ،ومفن ثفم لجأت التوراة
لتطويش فوطيفار ووصفه بأنه كان خصي فرعون ،وهو ما لم يذكره القرآن الكريم إطلقاً.
26
رب الزمان ودراسات أخرى
وكم كان بإمكان السيد شاهين أن يتلفى كل ما حدث في المحاكم ،لو طلع على المشاهدين بتقرير
واضفح يقول" :هذه قصفة يوسفف بفن يعقوب ،أحفد الباء السفرائيليين الوائل وعلقتفه بمصفر –
كما جاءت بالتوراة ،ول علقة للفيلم بقصة يوسف النبي التي وردت بالقرآن الكريم ،لكن المخرج
ورط نفسفه ،إن كان قاصفداً الثارة التفي حدثفت ،أم غيفر قاصفد ،بوضعفه لفتفة إعلنيفة ففي مقدمفة
فيلمفة باللغفة العربيفة تؤكفد أنفه ل علقفة للفيلم بالنفبي يوسفف ،وتحتهفا مباشرة لوحفة أخرى باللغفة
الفرنسية تؤكد أن هذه القصة قصة البطرك يوسف.
ويبدو أن المخرج قد أراد أن يوصل للمشاهد ،أن تلك قصة الب يوسف ،لكن بشكل غير مباشر،
ولن أغلب المشاهديفن مسفلمون بالضرورة ،فقفد عمفد إلى خلط بعفض المفاهيفم السفلمية بالراويفة
التوراتيفة ،ممفا أثار عليفه المتأسفلمون وأوجبوا محاسفبته ،وهفو بسفبيل ذلك أوقفع نفسفه ففي أكثفر مفن
ورطة وأكثر من خطأ حقيقي .فبينما قد اختار الرواية التوراتية ،نجده يضع على لسان بطل قصته
عبارات تعبر عن مفاهيم وعقائد إسلمية ،ل علقة لها بالمفاهيم التوراتية ول عقائدها .وذلك مثل
قول رام المعفبر عفن اليمان بإله واحفد أحفد هفو رب العالميفن ،وهذه سفقطة ل تليفق بمخرج يراه
البعض أهم مخرجينا وكان عليه أن يلجأ في ذلك للمتخصصين كي يعلم ،فالمعلوم لدارس التوراة
بالمنهج العلمي أن التوراة زمن البطاركة الوائل :إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحق ،وولد إسحق
يعقوب ،ثم أبناء يعقوب السباط الثنى عشر وضمنهم يوسف ،تتحدث عن زمان كانت فيه القبيلة
العبريفة لم ترتفق بعفد إلى مفهوم التوحيفد السفلمي الذي سفاقه شاهيفن على لسفان بطله رام ،حيفث
كان التقديس والعبادة توجه إلى (إللوهيم) أي اللهة ،وهو اسم الجمع للفظ الجللة السامي المفرد
(إيل) أي الله .ومن هذه اللهة ما وردت بأسمائها في سفر التكوين التوراتي ،مثل :إيل صبأوت،
وإيل يراه ،وإيل شداي ،والله القدير ،وأدوناي ،وغيرها ،كما تمثل كبار اللهة لبراهيم في ثلثة
شخوص ،ثفم جاء بعفد ذلك إله آخفر زمفن موسفى هفو الله (يهوه) الذي لم ينفف اللهفة الخرى بفل
أوجفب على السفرائيليين تقديسفه وحده دونهفم ،وكان الخطاب الموسفوي ففي التوراة ليهوه يقول:
"من مثلك بين اللهة يا رب"؟!
وربمفا لم يقصفد شاهيفن تلبيفس الروايفة التوراتيفة ،بمفاهيفم إسفلمية ،إنمفا التبفس عليفه المفر ،مفع
التطور المتأخفر للمفاهيفم الدينيفة اليهوديفة ،زمفن النفبياء المتأخريفن حزقيال ودانيال وإرميفا ،حيفث
بدأ هؤلء ينحون نحو توحيد يهوه وحده وتنزيهه ،فظن شاهين أن المر كان كذلك منذ البدء.
27
رب الزمان ودراسات أخرى
ومثال آخر على اللتباسات التي وقع فيها السيد شاهين ،قوله على لسان رام بطل الفيلم ،بما يشي
بإيمان يوسفف بفن يعقوب بعالم آخفر تخلد فيفه الرواح ،وأن الجسفد الذي يعمفد المصفريون تحنيطفه
ليفس أبداً قيمفة ففي مسفألة الخلود ،وهنفا خلط مفا بعده خلط ،وخبفط مفا بعده خبفط! لن السفرائيليين
الوائل منففذ فجففر تاريخهففم وحتففى القرون الولى للميلد ،لم يعتقدوا إطلقًا فففي خلود للروح فففي
عالم آخفر ،وأن الشعفب الوحفد ففي ذلك الزمان الذي ابتدع فكرة الخلود مفن بعفد الموت ،والبعفث
والحسففاب أمام موازيففن العدالة اللهيففة ،هففو الشعففب المصففري وحده مطلقاً ودون شريففك ،لذلك
عمدوا إلى تحنيط الجساد حتى تجد فيها الروح سماتها المادية عند البعث ،فتعود وتتلبس جسدها
المحنط استعداداً للحساب الخروي ،وهو ما ركز عليه الفيلم واعتبره حطة في المصريين!! وقد
مرت تلك الفكرة بأطوار عدة شرحناها في كتابنا (أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة) ولم
يدخل عليها أي تطور بعد نهاية العصور الفرعونية.
ولمففا جاءت المسففيحية وأخذت بعقيدة الخلود ،اسففتبدلت فقففط رب الخلود المصففري (أوزيريففس)
بيسففوع المسففيح ،ثففم جاء السففلم فأقففر عقيدة الخلود ،ولم يخرج عففن التصففور المصففري للبعففث
والحسفاب ،فقال بضرورة عود الروح لتتلبفس بالجسفد ،وكان الفارق هفو أن المصفري القديفم اهتفم
بتحنيط الجسد لتجد الروح قسماتها فيه ،بينما اعتبر السلم أن فناء الجسد ليس مشكلة بعد تطور
مفهوم اللوهيففة فففي إله كلي القدرة ،حيففث يصففبح بامكانففه الكلي أن يحففي تلك العظام الرميففم مرة
أخرى ،وهفو اعتقاد سفبق تطويره والقول بفه ففي الزمفن السفابق للسفلم بجزيرة العرب ،وهفو مفا
تفصح عنه أشعار الجاهليين حول الخلود والحشر.
أما التوراة فلم تقل أبداً ببعث أو حساب ثم خلود زمن البطاركة ،زمن يوسف ،ول بعد ذلك بقرون
طويلة تصل إلى اللف عام ،حتى زمن أنبياء التجديد عند انهيار مملكتهم .وقد ظهر العتقاد في
عالم آخفر آنذاك بتأثيفر العقائد المصفرية والفارسفية ففي فلسفطين ففي العصفر الهللينفي الرومانفي،
المعروف بعصفر اللم ،حيفث بحفث اليهود عفن تعويفض وسفلوان ففي عالم آخفر ،ومفن هنفا يظهفر
مدى فساد الحوار في فيلم السيد شاهين.
ورواية جوزيفيوس
وعليه فقد التبست كل تلك المتداخلت على السيد شاهين ،فخلط وخبط خبطاً عشوائياً .ليوقع نفسه
28
رب الزمان ودراسات أخرى
والخرين في مأزق كان في غنى عنه لو درس المر بشكل أفضل ،المهم أنه ساق المر كله في
ثوب تاريخفي أسفهمت فيفه الكاميرا والديكورات بعامفل البهار ،لنعيفش جوا مصفريا فرعونيفا على
مدى زمن الفيلم .هذا بينما التاريخ كعلم ل يعرف في وثائقه المدونة ول في حفائره الركيولوجية،
على الطلق ،شخصاً باسم يوسف ،ول جماعة باسم السباط ول صديقاً للله باسم إبراهيم ،ول
نبيفا باسفم موسفى ،ول عظيفم باسفم داود ،ول حكيمفا حاز شهرة فلكيفة ُملّك على مملكفة أسفطورية
باسفم سفليمان .فكفل تلك السفماء السفرائيلية ل يعرفهفا التاريفخ كعلم ،فقفط حكاهفا لنفا كتاب مقدس
باسم التوراة في كتاب العهد القديم ،وآمن بها المسيحيون من بعد اليهود عبر كتاب مقدس آخر هو
العهد الجديد ،ثم علمناها إيمانا عبر الكتاب المقدس الخير القرآن الكريم.
لكن ذلك لم يفت في أعضاد المؤرخين ،خاصة من أرادوا أن يجدوا لبني إسرائيل موطئ قدم في
التاريخ ،وقد بدأت تلك المحاولت مبكراً على يد المؤرخ اليهودي يوسف بن متى المعروف باسم
(جوزيفيوس) ،الذي ألقى بتاريخ القبيلة البدوية السرائيلية في عمق أعرق تاريخ المنطقة ،تاريخ
الشعففب المصففري ،وهففي الروايففة التففي ركففن إليهففا السففيد شاهيففن واختارهففا دون روايات أخرى
ومحاولت اجتهاديففة تاريخيففة أخرى ،حاولت البحففث التاريخففي وراء المأثور السففرائيلي ،وهففو
الختيار الذي يجفب أن يتحمفل مسفئوليته لتتفم بموجبفه محاكمفة مفا سفاقه ،ليفس على المسفتوى الفنفي
وحده ،ولكن أيضاً على المستوى التاريخي.
وحتفى نضفع بيفد القارئ أصفول المسفألة ،نقفف وقففة نحيطفه معهفا علماً أن (جوزيفيوس) كتفب عدة
مؤلفات تتعلق بتاريفخ السفرائيليين ،منهفا كتاب باسفم (ضفد آبيون) ،وكان آبيون هذا مؤرخاً يكره
اليهود كراهيفة شديدة ،ووصففهم بكفل مفا هفو خسفيس ،وأفاد أنهفم دخلوا مصفر عفبيداً جوعفى ثفم
طردوا منها ،بعد أن تفشت بينهم الوبئة الناشئة عن عدم النظافة والعلقات الجنسية غير السوية،
ولم يتعلموا أي شيء متحضر من المصريين ،مما أدى لطردهم خشية تفشي الداء في البلد.
وهنفففا قام اليهودي (جوزيفيوس) يرد على (آبيون) ليقول :إن بنفففي جلدتففه دخلوا مصفففر ملوكًا ل
عفبيداً ،وأنهفم مفن عرفهفم التاريفخ باسفم الهكسفوس ،وأنفه اسفتقى ذلك الخفبر مفن المؤرخ المصفري
(مانيتون) الذي عاش حوالي عام 300قبفل الميلد ،وأنفه بعفد الثورة التفي قام بهفا (أحمفس) ضفد
الهكسففوس ،أخففذ منهففم عدداً كففبيراً مففن السففرى ،عاشوا عففبيدًا فففي مصففر بعففد ذلك حتففى زمففن
29
رب الزمان ودراسات أخرى
الفرعون (آمنوفيفففس /آمنحتفففب الثالث) وولده (إخناتون) .حيفففث قام هؤلء العبيفففد بثورة ضفففد
الفرعون (أمنوفيففس) هربوا على إثرهففا مففن البلد ،وهففو الهروب الذي سففجلته التوراة فففي سفففر
الخروج وقفد اتضفح لنفا اعتماد يوسفف شاهيفن على تلك الروايفة مفن إشارتفه ففي فيلمفه إلى دخول
(يوسفف بفن يعقوب/رام) إلى مصفر زمفن الفرعون (آمنوفيفس/آمنحتفب) وهذا قول (جوزيفيوس)
اليهودي وقففد تعمففد أن يظهففر خلف الفرعون (آمنوفيففس) شخص فاً يشبففه إلى حففد بعيففد ولي عهده
إخناتون ،وجعله يتصفرف بطراوة جعلتفه يظهفر ففي حالة ميوعفة أو تخنفث ألقفت ففي روع البعفض
آنذاك مزيداً مففن تشويففه المصففريين ،لكففن شاهيففن كان يريففد القول إن ذلك الشخففص تحديداً هففو
(إخناتون) ،لن تلك كانت صفاته الناتجه عن مرضفه العضال ،إن شاهيفن كان طوال الوقت يريد
التأكيد على وجهة نظر تاريخية بعينها ،هي وجهة نظر (جوزيفيوس).
ولكن الكثر أهمية هنا ،هو أن شاهين وهو يأخذ برواية اليهودي (جوزيفيوس) وحدها ،ويستبعد
ما عداها ،وقع في أكثر من خطأ حتى في فهم ما قال (جوزيفيوس) حيث أن (جوزيفيوس) جعل
دخول اليهود مصففر مففع يوسففف هففو دخول الهكسففوس ،زمففن فرعون باسففم (توتيمايوس) ،وأن
طردهفم مفن مصفر تفم زمفن الفرعون (أموزيفس/أحمفس) ،وأن مفن بقفى منهفم أسفيراً بمصفر تفم
اسفتعباده حتفى خرج زمفن الفرعون (آمنحتفب الثالث) وولده (إخناتون) ولم يفهفم السفيد شاهيفن أن
هناك فارقففا زمنياً طويلً بيففن الدخول والخروج ،وأن الدخول عنففد (جوزيفيوس) جاء فففي زمففن
قديم ،وأن قصة الدخول إى مصر كانت قصة يوسف ،أما الخروج فهو قصة موسى زمن آمنحتب
وولده (إخناتون) فيما يزعم (جوزيفيوس) ،وكان موسى حفيداً بعيدًا للسبط لوي شقيق يوسف بع
زمن بعيد من الدخول.
وهكذا خلط شاهيفففن بيفففن أول القصفففة وأخرهفففا ،وخلط بيفففن يوسفففف وموسفففى ،وبيفففن الفرعون
(توتيمايوس) وبيفففن الفرعون (آمنحتفففب) وولده (إخناتون) وكان الولى بفففه مفففا دام قفففد قرر أن
يخوض غمار التاريخ ويتبنى وجهة نظر دون أخرى ،أن يجهد نفسه في المعرفة ،أو يرجع لذوي
الختصفاص ،كمفا يفعفل الفيلم الوروبفي والمريكفي عنفد التعرض لمسفائل مفن هذا النوع ،لكفن
السيد شاهين احتسب ما لديه من معارف كافيه للتعرض لمثل هذا المر الكبير ،فطرح ما تصوره
حلولً لشكاليات عميقففة أدت بففه إلى أخطاء عظيمففة ،فلم يصففل إلى مواقففف صففحيحة ،ل على
30
رب الزمان ودراسات أخرى
مسفتوى الدينفي ،ول على المسفتوى التاريخفي ،بفل إنفه حتفى لم يوففق على عرض وجهات النظفر
التي انحاز إليها عرضا أمينا كما حدث في تناوله لتاريخ (جوزيفيوس).
أحـبوا إســرائيل
وأثناء ذلك عنّف للسفيد شاهيفن أن يضيفف للقصفة الدينيفة ملمحاً تاريخيًا تصفور أنفه يرففع مفن شأن
جماهيفر الشعفب المصفري فصفور ديانفة الله آمون ،وقفد أصفبحت ديانفة دولة متجفبرة ظالمفة ،وأن
إرهاصات الثورة الشعبية ضد الفرعون والحكومة قد بدأت ،وأن الشعب المصري قد آمن بديانة
التوحيفد التونيفة ،فقام بثورة جماهيريفة ضفد الحكومفة وضفد الله آمون لصفالح آتون الواحفد ،وقدم
قمفة العمفل ففي مشهفد مبهفر لجماهيفر الشعفب وهفي تكسفر تمثال آمون العملق ،متصفوراً بذلك أنفه
يمنح جماهير المصرية مزية معرفة اللة الوحد.
وبمفا أننفا نعلم أن إخناتون هفو صفاحب ديانفة التوحيفد التونيفة ،فالمعنفى أنفه كان يتآمفر على أبيفه
آمنحتففب الثالث مففع الجماهيففر الموحدة ،وهكذا يتحول المصففريون نحففو التوحيففد بتولي إخناتون
للحكفم بعفد نجاح الثورة التونيفة ويتحول نظام الحكفم المصفري مفن العداء للعفبرانيين ممثليفن ففي
رام ،إلى أحبفة وأشقاء ففي حفب ال الواحفد ،فهذا موحفد ،وهذا موحفد ،والشعفب موحفد ،فلماذا ل
يكون هناك توحفد؟ وففي مشهفد مؤثفر ينزل الفرعون إخناتون مفن عرشفه ليحفي رام وهفو عائد إلى
أهله بحفب شديفد ،ويزجيفه عبارات المودة والتقديفر .والمغزى مفهوم والهدف واضفح ،حيفث خالف
السيد شاهين كان ما تعارف عليه علم التاريخ لصالح الراهن التطبيعي؟! ولعب فيه لصالح الهدف
المرتجى ،ليلتقي الموحدان بالوجد واليمان ،إخناتون ويوسف ،ليلقي بظله على الحاضر ،ووحدوا
ال وصفلوا على النفبي ،وأحبوا بعضكفم بعضفا ،ويفا موحدي العالم اتحدوا ،فبعضكفم مسفلم موحفد،
وبعضكم يهودي موحد ،وكل من له نبي يصلي عليه.
31
رب الزمان ودراسات أخرى
مفن اسفتهلك الوقفت أن نتحدث عفن مصفر ففي التاريفخ ،والكلم بشأنهفا مفن نواففل القول ،فشأنهفا
معلوم وأنشر من أي حديث ،حتى أصبح من فساد الرأي أن يؤرخ باحث لي علم من العلوم دون
الرجوع إلى أصول تلك العلوم في مصر القديمة ،هذا في مجال العلوم ،وفي ميدان التاريخ كعلم،
أمفا ففي ميدان العتقاد ،وففي الصفحائف المقدسفة ،فلهفا شأن عظيفم أيضفا ،لكفن بوضعهفا ذلك البلد
الضال أهله ،الذي تألّه حاكمفه ،فكففر ،فوصفم مفع شعبفه بأنهفم مفن المجرميفن ،لذلك اسفتحقوا أن
يكونوا مفن المغرقيفن ،بقرار مفن (يهوه) رب التوراة ،وبضربفة مفن عصفا إعجازيفة دمرت الزرع
والضرع في وادي النيل ،قبل أن تطبق البحر المفلوق على من بقى منهم ،أليسوا مجرمين؟
أمفا إسفرائيل فهفي عمدة المقدس وعقدتفه الجامعفة ،هفي المحور منفه والقلب الخاففق ،فهفي شعفب
مقدس فضله ال على العالميفن ،سفلسلة مفن النجباء النفبياء المطهريفن ،فالب نفبي ينجفب نبيفا ،ففي
سلسال توارث النبوة كما توارث أرض فلسطين ،خير خلف عن خير سلف ،فكانوا في المقدسات
هفم المقدميفن على غيرهفم مفن المفم الضالة ،جدهفم البعيفد هفو إبراهيفم الخليفل ،وآباؤهفم إسفحق
ويعقوب الملقفب بإسفرائيل ،وبنوه بنفو إسفرائيل السفباط المكرمون ،ومنهفم يوسفف الصفبي الفاتفك
الجمال الذي توزر على خزانفة المصفريين ،وعلّم خفبراء الزارعفة ومهندسفيها ففي مصفر ،كيفف
ص التاريخ المقدس بعد
يواجهون قحط السنين ،ومن بعده جاء (موسى) أعظم أنبياء إسرائيل ،ويغ ّ
ذلك بسففيرة أولئك الهداة المطهريففن ،فهذا (شاؤول) يقيففم لهففم دولة فففي فلسففطين ،ليترك تأسففيسها
وتعميدهفا لداود الملك وولده سفليمان ،بينمفا أصفبح ذلك الخيفر سفيدًا على مملكفة عظمفى تغنفت بهفا
كتب الدين وكتب الساطير ،فتسلط على الوحوش والهوام والجن والعفاريت ،وأصبحت إسرائيل
ففي زمانفه أغنفى الدول ،حتفى كانفت الفضفة ففي الشوارع مثفل التراب (بتعفبير التوراة) ،أمفا ففي
المأثور السلمي فكان أحد أربعة ملوك ملكوا العالم الرضي من أقصاه إلى أقصاه.
هذا شأن إسففرائيل ففي مأثورات الديفن ،لكففن الغريفب والمشكففل الحقيقفي أمام هذا الرتففل العقائدي
الهائل ،أن التاريخ كعلم ،يعلم يقينا تاريخ مصر بحفائره وعلمائه وأركيولوجيته ،بأعلمها الثارية
32
رب الزمان ودراسات أخرى
التاريفخ مفن كفل ذلك شيئا ولو يسفيرا ،وكفل مفا يعلمفه عفن إسفرائيل ،حكايات متناثرة عفن شوارد
قبائل من شذاذ الفاق باسم (الخابيرو ،العابيرو) ،وإيمائة هنا ولفته هناك تتحد بإهمال عن جماعة
باسفم إسفرائيل سفحقتها كتائب الفرعون (مرنبتاح) ،أو مفا جاء ففي نصفوص الرافديفن عرضفا عفن
مملكة باسم (عمرى) ،ربما ويحتمل ويُظن ومن الجائر وقد تكون هي مملكة إسرائيل زمن ملكها
(عمرى) وابنه (آخاب) .لكن السماء المعظمة المبجلة المفخمة في التاريخ الديني ،فل شيء منها
البته وقطعا في التاريخ كعلم.
33
رب الزمان ودراسات أخرى
وعبيد وإماء وإتن وجمال ..فصعد إبرام من مصر ..وكان إبرام غنيا جداً في المواشي والفضة
والذهب /سفر التكوين 12و ."13
ثففم تحدثنففا التوراة – ول يحدثنففا التاريففخ – عففن قصففة الصففبي الخاذ فففي جماله (يوسففف) ابففن
إسففرائيل (يعقوب) ،وقصففة بيعفه ففي مصفر ،وكيففف أثبفت مهارة إسفرائيلية أوصفلته إلى كرسففي
الوزارة ،ليصبح الرجل الثاني في مصر بعد الفرعون ،وكيف أرسل يوسف يستدعي أهله لينعموا
بخير مصر كملجأ للسرائيليين كلما قحطت بهم الحياة ولحقت بهم المجاعات.
لكففن التوراة ل تخبرنففا بالسففبب الذي أثار حنففق الفرعون التالي على العرش ،إلى حففد تسففخيره
ضيوف مصفففففر ففففففي العمال الشاقفففففة ،عقابفففففا لهفففففم على أمفففففر مجهول ،ونحفففففن نعلم أن
(ماعت/العدالة/القانون الكوني) كانت تاج القانون المصري الدائم ،ومن هنا يظن أغلب الباحثين،
أن السرائيليين لعبوا دوراً مع الهكسوس الغزاة ضد المصريين ،وتعاونوا مع أعداء البلد فحقت
عليهم النقمة ،وتم أسرهم مع فلول الهكسوس السيرة بمصر.
وبدورنفا نذهفب مفع هذا الظفن ،ونحتمفل دخول يوسفف وأهله مصفر ففي عهفد (أسفيس) آخفر الحكام
الهكسفوس على مصفر ،وهفو مفا يلتقفي مفع السفم (عزيفز) الذي جاء بالقرآن الكريفم ،خاصفة أن
اليات كانففت تتحدث دومففا عففن حاكففم مصففر باسففم الفرعون ،عدا زمففن يوسففف ،زمففن دخول
السفرائيليين إلى مصفر ،ناهيفك عمفا سفجلته التوراة عفن سفياسة يوسفف ففي مصفر أثناء السفنين
القحفط السفبع ،حيفث احتكفر (الميرة) جميعفا ففي خزائنفه وباعهفا للمصفريين الذي يموتون جوعفا
مقابففل السففتيلء على أرضهففم ثففم مواشيهففم ثففم أنفسففهم هففم ليتحولوا إلى عبيففد ،لصففالح الحاكففم
الهكسففوسي .أمففا مشاعففر المصففريين تجاه هؤلء السففرائيليين فقففد تبدت بوضوح فففي اعتبارهففم
السفرائيليين نجسفاً يجفب اجتنابفه ،وهفو مفا ورد جميعفه ففي نصفوص توراتيفة مفن قبيفل" :اشترى
يوسففف كففل أرض مصففر لفرعون ،إذ باع المصففريون كففل واحففد حقله ،لن الجوع اشتففد عليهففم،
فصففارت الرض لفرعون ،أمففا الشعففب فنقلهففم إلى المدن مففن أقصففى مصففر إلى أقصففاها ..فقال
يوسف للشعب إني اشتريتكم اليوم وأرضكم للفرعون ..سفر التكوين ،"48وفي نفس السفر كان
يوسف يقول لخوته "جواسيس أنتم ،لتروا عورة الرض جئتم" وكان ينصحهم دوما بالبتعاد عن
المصريين "لن كل راعي غنم رجس عند المصريين /سفر التكوين ."46
34
رب الزمان ودراسات أخرى
وتتالي الحداث فيضرب موسففى بعصففاته النيففل ليتحول دمففا ،وتصففير مصففر خرابففا ،ثففم يضرب
بعصفاته ضربات متتاليفة ،فتمتلئ مصفر بالضفادع والبعوض والذباب والطاعون والجراد مفع برد
وظلم ،ثففم يهبففط الرب يهوه بنفسففه لتحقيففق الضربففة الخيرة بقتففل أطفال المصففريين ،وذلك فففي
النفص "وقال موسفى :هكذا يقول الرب :إنفي نحفو منتصفف الليفل ،أخرج ففي وسفط مصفر ،فيموت
كفل بكفر ففي أرض مصفر ،مفن بكفر الفرعون الجالس على كرسفيه ،إلى بكفر الجاريفة التفي خلف
الرحى ،ول بكر بهيمة ،ويكون الصراخ عظيم في كل أرض مصر/سفر الخروج ."11
وففي تلك الليلة كان صفراخ عظيفم ففي مصفر ،لنفه لم يكفن بيفت ليفس فيفه ميفت /خروج ."12ولم
ينفس السفرائيليون عادتهفم ففي الخروج مفن مصفر بالخيفر الوفيفر ،فقفد "فعفل بنفو إسفرائيل بحسفب
قول موسى ،طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبا وثيابا ،وأعطى الرب نعمة للشعب في
عيون المصريين حتى أعاروهم ،فسلبوا المصفريين ،فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس /خروج
."12
ثففم تأتففي الضربففة الحقيقيففة لفناء المصففريين ،فففي روايففة التوراة عففن قيام ملك مصففر وجيوشففه
بمطاردة الفاريفن بالذهفب ،حيفث أدركوهفم عنفد البحفر ،وهنفا تحدث المعجزة الكفبرى "ومفد موسفى
يده على البحر ،فأجرى الرب بريح شرقية شديدة كل الليل ،وجعل البحر يابسة وأنشق الماء فدخل
بنفو إسفرائيل ففي وسفط البحفر على اليابسفة والماء سفور لهفم عفن يمينهفم وعفن يسفارهم ،وتعبهفم
35
رب الزمان ودراسات أخرى
المصفريون ودخلوا وراءهفم ...فمفد موسفى يده على البحفر ،فرجفع البحفر عنفد إقبال الصفبح إلى
حالة الدائمفة ...فدففع الرب المصفريين وسفط البحفر /خروج ."14ويتوجفه الخارجون مفن مصفر
إلى فلسففطين ليغزوهففا ويحتلوهففا ويقيموا لهففم هناك دولة ،تلك الدولة التففي قيففض لحففد ملوكهففا
(سليمان) أن يحوز في مقدسات المنطقة شهرة ل تضارع ،ومع ذلك فقد قال (هف .ج .ويلز) ونقل
عنه الباحثون العرب مثل د .أحمد سوسة ود .أحمد شلبي قوله" :أما الوصف الذي اعتاد الباحثون
ترديده عففن اتسففاع وامتداد حدود مملكففة سففليمان ،فيعده أكثففر الباحثيففن مففن قبيففل المبالغات التففي
درجفت عليهفا دويلت تلك العصفور ،والحقيقفة أن مملكفة سفليمان التفي تبجحفت التوراة بعظمتهفا
كانفت أشبفه بمحميفة مصفرية مرابطفة على حدود مصفر ،قائمفة على حراب أسفيادها الفراعنفة ..
وكان سففليمان يريففد أن يجاري الفراعنففة فففي البذخ والظهور بمففا هففو فوق طاقاتففه وإمكانياتففه
القتصفادية ...فأثقفل كاهفل الشعفب بكثرة الضرائب ..ولمفا عسفر على سفليمان أن يحتفل أرض
فلسفطين السفاحلية طلب معونفة فرعون مصفر ،فأرسفل جيشفا مصفريا صفغيرا احتلهفا وسفلمها له
مهرا لبنته" ،ثم يتساءل" :كيف صور كتبة التوراة مملكة سليمان في صورة تفوق الواقع بكثير؟
فسليمان لم يكن وهو في أوج مجده إل ملكا صغيرا يحكم مدينة صغيرة ،وكانت دولته من الهزال
وسففرعة الزوال بحيففث لم تنقففض بضعففة أعوام على وفاتففه ،حتففى اسففتولى شيشنففق أول فراعنففة
السفرة الثانيفة والعشريفن على أورشليفم" ثفم يتابفع قوله" :إن أمور مصفر ففي عهده كانفت مرتبكفة
فخففت هيمنتهفا على فلسفطين وبلد الشام ،وكانفت أمور الدولة الشوريفة مرتبكفة كذلك ،وقفد منفح
هذا لسفليمان شيئا مفن الحركفة والنشاط والتبسفط ففي ممارسفة السفيادة ،أمفا مفا جاء عفن قصفة ملك
سفليمان وحكمتفه التفي أوردهفا الكتاب المقدس ،فقفد تعرضفت لحشفو وإضافات على نطاق واسفع،
على يفد كاتفب متأخفر شغوف بالمبالغفة ،ففي وصفف رخاء عصفر سفليمان ،مولهفا بتمجيفد حكمفه ...
وقففد اسففتطاعت هذه الروايففة أن تحمففل العالم المسففيحي بففل والسففلمي على العتقاد بأن الملك
سففليمان كان مففن أشففد الملوك عظمففة وأبهففة ،لكففن الحففق أنففه إذا قيسففت منشآت سففليمان بمنشآت
تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر ،فإن نشآت سليمان تبدو من التوافه الهيئات ،أما
مملكتفه فهفي رهينفة تتجاذبهفا مصفر وفينيقيفا ،وترجفع أهميتهفا ففي معظفم أمرهفا إلى ضعفف مصفر
المؤقت".
36
رب الزمان ودراسات أخرى
المهفم أن أول ذكفر لسفرائيل ففي مدونات مصفر ،جاء ففي قصفيدة منقوشفة على لوح تذكاري مفن
الجرانيففت السففود ،أقيففم فففي معبففد الملك (مرنبتاح) الجنائزي ،والقصففيدة تتغنففى ببطولت الملك
وانتصففاراته ،حيففث تقول" :المراء منبطحون أرضففا يصففرخون طالبيففن الرحمففة ،وليففس بيففن
القواس التسفعة مفن يرففع رأسفه ،لقفد دمرت أرض التحنفو (ليبيفا) ،وخاتفي (تركيفا) هادئة ،وكنعان
قفد اسفتلبت بقسفوة ،وعسفقلوني تفم السفتيلء عليهفا ،وجازر قفد أخذت ،وبنوعام أصفبحت كأن لم
تكن ،وإسرائيل أقفزت وليس لها بذر ،وخوري (أرض فلسطين) عادت أرملة لمصر".
وقد وقف علماء ُكثّر مع هذا النص واعتبروه دال على حدث الخروج من مصر ،حيث ترد كلمة
إسففرائيل فففي نصففوص مصفففر لول مرة ،واعتففبروا الفرعون (مرنبتاح) هففو فرعون موسففى
والخروج ،بينمففا ذهففب آخرون إلى أن النففص يتحدث عففن حرب شنهففا مرنبتاح على عدد مففن
اشعوب خارج مصر ،وأنه هاجم أراضيهم وضمنها إسرائيل.
هذا كفل ماورد مفن التاريفخ التوراتفي المهول ففي تاريفخ مصفر "إسفرائيل أقفرت وليفس لهفا بذر"
وبيدو أن المففر لم يكففن يسففتأهل الفخار بففه والطالة بشأنففه قياسففا على أعمال الفرعون الخرى،
فاكتفففى بتلك الشارة السففريعة ،التففي قامففت عليهففا ألوف البحاث فففي جامعات العالم ،مقارنففة
بالتوراة ،ولم تزل.
أما قول (ويلز) السالف ،إن إسرائيل كانت مجرد دويلة رهينة لمصر ،وأنها كانت تابع متقدم في
آسيا للفراعنة ،فهو استنتاج يطابق أحداث التاريخ ،وما ورد في تاريخ مصر – القديمة من وثائق،
عفن الحملت التأديبيفة التفي كان يقوم بهفا الفراعنفة على بدو آسفيا ،ففي حال أي تمرد أو عصفيان،
37
رب الزمان ودراسات أخرى
مفع تركهفم على أحوالهفم ويحكمون فقفط بوال مفن قبفل الفرعون غالبًا مفا يكون منهفم ،مفع بعفض
كتائب مصرية لمنع أي شغب.
وتتحدث التوراة عن زمن حكم (رحبعام) ،بن الملك سليمان ،ولم يمض على موت سليمان خمس
سنوات ،فتخبرنا بشأن حملة قام بها فرعون مصري باسم (شيشق) على دولة يهوذا في فلسطين،
حيث تقول "وفي السنة الخامسة للمك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم ،وأخذ خزائن
بيت الرب ،وخزائن الملك ،وأخذ كل شيء ،وجمع أتراس الذهب التي عملها سليمان /سفر ملوك
أول ."14
وهفو الخبر الذي يلتقي مفع الوجود التاريخي لفرعون باسفم (شيشنفق) ،وبأخبار لحملة قام بهفا على
فلسفطين ،مفع دول بالمدن التفي هاجمهفا ،لكفن دون أن يذكفر كلمفة إسفرائيل على إطلقفا ول كلمفة
يهوذا ول حتففى أورشليففم ،وهففو ذات الفرعون الذي قالت التوراة ،أنففه كان صففهر سففليمان ،وأن
سفليمان طلب منفه مسفاعدته للسفتيلء على مدينفة جازر الفلسفطينية السفاحلية ،فأرسفل إليفه شيشنفق
بضعه كتائب مصرية احتلتها له وتركها له هدية ،وقد عثر مؤخرًا في مجدو على نصب تذكاري
أقامة شيشنق هناك تذكاراً لحملته على المملكة السليمانية بعد موت سليمان ،وهو المر الذي يشير
إلى أن سفليمان كان تابعفا مخلصفا لشيشنفق ،كمفا يشيفر ففي جانفب آخفر إلى عصفيان مفا ارتكبفه ولده
(رحبعام) بحق الفرعون فاستحق التأديب.
ومن المعلوم أن مصر ظلت ترعى فلسطين وتزودها بالميرة أيام القحط والجفاف ،كما ظلت ملجأ
آمنفا لهلهفا عنفد أي خطفب أو غزو خارجفي ،وهفو بالضبفط مفا حدث زمفن هجوم الملك الكلدانفي
نبوخفذ نصفر على يهوذا ،حيفث لجفأ أهلهفا باللوف المؤلففة إلى مصفر ،التفي اسفتقبلتهم بالترحاب
زمفن الفرعون (واح اف رع) المسفمى باليونانيفة (إفريفس 568-587ق.م ).أحفد ملوك السفرة
السفادسة والعشريفن ،وهفو مفا حكتفه التوراة ففي الصفحاح 25مفن سففر ملوك ثانفي ،وتأكفد بوجود
حالية يهودية تعيش بعد ذلك في جزر الفنتين جنوبي أسوان بمصر.
وتحكفي لنفا التوراة عفن معركفة بيفن مصفر وأشور وقعفت ففي بلد الشام ،ممفا يشيفر إلى خروج
الجيوش المصفففرية للدفاع عفففن بلد الشام ضفففد غزو آشوري ،وتقول التوراة أن ملك إسفففرائيل
(يوشيا) اعترض طريق الفرعون نخاو ليمنعه عن نجدة سوريا ،فاضطر الفرعون إلى قتل الملك
38
رب الزمان ودراسات أخرى
السفرائيلي ،كمفا اضطفر بعفد ذلك لسر ابنفه (يهود آحاز) الذي تخابر مفع الشورييفن ،وتفم ترحيفل
الملك السففرائيلي (يهففو أحاز) ،إلى مصففر ،وهففي روايففة سفففر الملوك الثانففي بالصففحاح الثالث
والعشريفن ،ول نجفد ففي مدونات التاريفخ نظيراً للروايفة ،لكنفا نجفد مفا يصفادق عليهفا ،حيفث تفم
العثور على لوح عليفه نقفش ورسفم وكتابفة عفن شخفص باسفم (يوده ملك) وترجمتهفا (ملك يهوذا)،
وتعود إلى زمففن الفرعون نخاو ،وهففو مففا جعففل المؤرخون يتأكدون أنففه بعينففه الملك السففرائيلي
السير (يهود أحاز).
وبينمفا كانفت التوراة تصفف مصفر بأنهفا "جنفة الرب أرض مصفر" حيفث الراحفة والهدوء والرخاء
والدعفة ،نجفد أيوب النفبي يحلم بأيام مصفر "قفد كنفت مضطجعفا الن سفاكنا ،كنفت نمفت مسفتريحا،
مففع ملوك ومشيري الرض ،الذيففن بنوا أهرامففا لنفسففهم /أيوب ،"3وفففي سفففر الخروج نجففد
السفرائيليون يعانون الجوع بسفيناء ،فيحتجون على موسفى معفبرين عفن ندمهفم لترك أسفر مصفر
قائلين" :ليتنا كنا بمصر ،جالسين إلى جوار قدور اللحم" ،وهي كلها المور التي تفسر ما استقر
في نفوس السرائيليين تجاه المصريين ،متمثل في نبوءات ترد لمصر الجميل.
يقول إشعيا في الصحاح التاسع عشر من سفره" :وحي من جهة مصر ،هو ذا الرب راكب على
سحابة سريعة وقادم إلى مصر ...يذوب قلب مصر في داخلها ...تنشف المياه من البحر ويجف
النهفر وييبفس ،وتنتفن النهار ...والرياض على النيفل على حاففة النيفل وكفل مزرعفة على النيفل
تيبفس وتتبدد ول تكون ...ففي ذلك اليوم تكون مصفر كالنسفاء ،فترتعفد وترتجفف مفن هزة يفد رب
الجنود التي يهزها عليها ،وتكون ارض يهوذا رعبا لمصر".
39
رب الزمان ودراسات أخرى
ثففم يؤنففب إشعيففا بنففي جلدتففه الذيففن يلجأون إلى مصففر وفيئهففا فففي الملمات ،بقوله فففي إصففحاحه
الثلثيففن" :ويففل للبنيففن المتمرديففن يقول الرب ..الذيففن يذهبون لينزلوا إلى مصففر للمعونففة ..
ليلتجوئوا إلى حصفن فرعون ويحتمون بظفل مصفر ،فيصفير لكفم حصفن فرعون خجل ،والحتماء
بظل مصر عارا".
أما النبي أرميا في الصحاص ،46فقد وقف يعبر عن مكنون كل إسرائيلي تجاه مصر في قوله:
"أخفبروا مصفر ،واسفمعوا ففي مجدل ،واسفمعوا ففي نوف (منفف) وففي تحفنحيفس ،قولوا انتصفب
وتهيأ الن ،لن السيف يأكل حواليك ..نادوا هناك فرعون ملك مصر هالك ..نوف تصير خربة
وتحرق فل ساكن ..ها أنذا أعاقب آمون نو وفرعون مصر وآلهتها والمتوكلين عليه".
أمفا حزقيال النفبي فلم يبخفل على مصفر وهفو يوجفه كلم الرب السفرائيلي إلى الفرعون المصفري
المقبفل ،بالصفحاح 29حيفث يقول" :هفا أنذا الملك على أنهارك ،أجعفل مفن أرض مصفر خربفة
مقفزة من مجدل إلى أسوان ..وأشتت المصريين وأبددهم من الرض".
40
رب الزمان ودراسات أخرى
حدث هذا أوائل القرن الثانففي عشففر قبففل الميلد ،عندمففا أنقضّفت موجات بشريففة على السففاحل
الشرقفي للبحر المتوسفط ،قادمفة مفن جزر البحر اليجي ،كان أكبرهفا تلك التفي اكتسحت العاصفمة
الحيثية (خاتوشاش /بوغاز كوى حاليا ،تركيا) ودمرتها ،لتتركها خرابا بلقعا إلى البد ،ثم تزحف
منهفا جنوبفا لتقضفي على (قرقميفش /جرابلس حاليفا شمالي حلب) ،لتحتفل بعدهفا (أوغاريفت /رأسفي
شمرا الن قرب اللذقيفة) ،ومفن بعدهفا (أرواد) ،لينحدر السفيل الجارف جنوبفا باتجاه حدود مصفر
الشرقيفة عفبر سفيناء ،مترافقفا مفع جناح بحري لمهاجمفة شواطفئ مصفر الشماليفة ،مصفحوبا ففي
الوقت نفسه بجناح ثالث هبط على السواحل الليبية ليهاجم حدود مصر الغربية ،وكان ذلك الهجوم
الثلثي أكبر كماشة عسكرية تعرضت لها مصر.
ويحكفي لنفا (رمسفيس الثالث) أحفد المحاربيفن العظماء ففي التاريفخ ،أنفه قفد تصفدى بجيوش مصفر
لهذا العدوان الثلثفي ،وألحفق بفه هزيمفة مروعفة ،ففي ثلث معارك بريفة وبحريفة ،وكان ذلك عام
1180قبفل الميلد .أمفا علم التاريفخ فقفد حاول تفسفير وجود عناصفر مفن هؤلء المهاجميفن على
السفاحل الفلسفطيني بعفد ذلك ،يعيشون هناك ففي شكفل ممالك مسفتقرة ،بأن انكسفار الهجوم البحري
الكاسفح للمنطقفة ،الذي جاء مفن جزر البحفر اليجفي وعاصفمتها (كريفت) ،قفد أنكسفر على الحدود
المصرية انكساراً شديداً ،لكن الفرعون المصري المنتصر ،ترك لهم سواحل فلسطين ليقيموا بها،
ويكونوا من رعايا الفرعون وجنوده ،وفيالقه المتقدمة في آسيا.
أمفا (هيرودوت) أبفو التاريفخ ،فيقول :إن هؤلء المهاجميفن هفم مفن حملوا اسفم (اليلسفت) ،ويضيفف
المؤرخون مفن بعفد أن هيرودوت اليونانفي أول مفن أطلق على بلد كنعان شرقفي المتوسفط اسفم
(بلسيتا) و(بالستين) ،نسبة إلى هؤلء الغزاة (البلست) ،لتحمل بعد ذلك اسم فلسطين.
* ل يسبق نشره.
41
رب الزمان ودراسات أخرى
(من صـ 55 -47ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
موجـات الهجـوم
ويعلمنفا علم التاريفخ مفن وثائقفه ،أن ذلك الهجوم الفلسفطيني القادم مفن كريفت والجزر اليجيفة ،قفد
هجفم على منطقتنفا ففي شكفل موجات متتابعفة ،بعفد أن شكلت قبائل بحفر إيجفة اتحاداً قويًا ففي نهايفة
1300قبفل الميلد ،وأن أول تلك الموجات قفد اضطفر مصفر إلى التخلي عفن مسفتعمراتها ففي
سوريا وفلسطين ،وأن أول الموجات قد تمكنت تماما من احتلل ساحل فلسطين في زمن قياسي.
وكان أول ذكففر فففي وثائق التاريففخ لهؤلء (البلسففت) ،هففو ذلك الذي نقرأه فففي وثائق الفرعون
(آمنحتففب الثالث 1360-1397قبففل الميلد) ذكففر لموجات أخرى كان تاليهففا تلك الموجففة التففي
وصفلت زمفن (رمسفيس الثانفي 1225 – 1292قبفل الميلد) ،ويبدو أن المصفريين قفد أسفروا
منهفم أعداداً كفبيرة ،حيفث نجدهفم بعفد ذلك يعملون كمرتزقفة ففي جيوش مصفر ،باسفم الشردانييفن
(نسبه إلى جزيرة سردينيا).
وعلى نصفب عثفر عليفه ففي (صفان الحجفر) بمحافظفة الشرقيفة ،نجفد حكايات عفن سففن البلسفت
الضخمفة ،ونقوشفا تصفورهم يلبسفون خوذاً قرون ،ويحملون دروعفا مسفتديرة ،ويمتشقون سفيوفا
طويلة ضخمفة ،وهفو النصفب الذي روى لنفا كيفف صفد الفرعون (مرنبتاح بفن رمسفيس الثانفي)
هجومهم ،ليردهم عن الحدود المصرية.
أما في فلسطين ذاتها ،فقد نظم (البلست) أنفسهم عندما دخلوها ،في هيئة ممالك صغيرة مستقلة في
إدارتهفا ،منهفا جرار وغزة وعسفقلن وأشدود وجازر وغيرهفا ،لكفن ضمفن اتحاد فيدرالي مركزه
الرئيسي مدينة أشدود ،أما قوتهم العظيمة فتكمن فيها نعلمه من نصوص مصر ومن التوراة ،أنهم
صنعوا أدوات القتال من الحديد ،وأن الحديد كان عندهم مادية اعتيادية ووفيرة ،حتى أنهم صنعوا
منه عجلتهم المقاتلة.
وكل هذا إنما يعني ببساطة ،القول :إن الفلسطينيين جاءوا المنطقة كعنصر دخيل ،قادم من كريت
وبحفر إيجفة ،وهفو أمفر يشكفل عموداً لعمال بحثيفة كثيرة ،تشكفل الخلفيفة التاريخيفة للحداث التفي
تجري في منطقتنا ،منذ قيام دولة إسرائيل مرة أخرى ،في عام 1948م.
42
رب الزمان ودراسات أخرى
(رمسيس الثالث) حوالي عام 1180قبل الميلد ،أي بعد خروج بني إسرائيل من مصر بحوالي
خمسفين عامفا ،ومعلوم أن كفبرى المدارس البحثيفة قفد اسفتقر رأيهفا على خروج السفرائيليين مفن
مصر زمن الفرعون (مرنبتاح ابن رمسيس الثاني) حوالي عام 1229قبل الميلد.
ومثففل ذلك التاريففخ وتلك التزمينات ،تسففتتبع عددًا مففن النتائج والدللت ،حيففث تقول التوراة :إن
السرائيليين قد سبق لهم أن استقروا بفلسطين قبل زمن الدخول إلى مصر بحوالي خمسة قرون،
وهفو ذلك الزمفن السطوري الممتد من إبراهيفم إلى إسحق إلى يعقوب المسفمى إسرائيل ،وأنفه إذا
كان السفرائيلي والفلسفطيني وافديفن على كنعان ،غريفبين عليهفا ،فإن إبراهيفم كان داخلهفا الول
حيفث سفكن بيفن أهلهفا الكنعانييفن وتكلم بلسفانهم ،وذلك قبفل مجيفئ الهجرة الفلسفطينية بحوالي سفتة
قرون كاملة.
هذا كلم ،لكن التوراة نفسها لها كلم آخر وقول آخر فماذا تقول التوراة؟
أولً :لقد جاء إبراهيم وأسرته الصغيرة إلى أرض تسميها التوراة أرض كنعان ،قادما من موطنه
(أوركسفديم) ،وأن إبراهيفم قفد تنقفل ففي كنعان بيفن عدة مواضفع ،أهمهفا ذلك الموضفع المعروف
بمملكة (جرار) التي كان يحكمها ملك اسمه (أبي مالك) ،وتصف التوراة تلك المملكة بأنها مملكة
فلسفطينية ،وذلك ففي قولهفا" :وتغرب إبراهيفم ففي أرض الفلسفطينيين أيامفا كثيرة /سففر التكويفن
."21
ثانيا :يتكرر ذكر جرار بذات التوصيف في زمن إسحق بن إبراهيم في قول التوراة "فذهب إسحق
إلى بيمالك ملك الفلسفطينيين إلى جرار ..وزرع إسفحق ففي تلك الرض فأصفاب ففي تلك السفنة
مئة ضعف ...فحسده الفلسطينيون /سفر التكوين ."26
وهكذا ،ومع إبراهيم أول رجل مهم في التاريخ التوراتي ،نجد مملكة باسم (جرار) توصف بأنها
فلسفطينية ،وهفو مفا يعنفي اعتراففا مفن جانفب التوراة ،بوجود العنصفر الفلسفطيني ففي فلسفطين ،قبفل
زمن الب إبراهيم بزمن أبعد ،يسمح بإقامتهم ممالك مستقرة ،ويصبح القول :إن (هيرودوت) أول
43
رب الزمان ودراسات أخرى
مففن أطلق على أرض كنعان اسففم فلسففطين قول مردوداً بشهادة التوراة ذاتهففا ،أمففا عنففد خروج
السرائيليين من مصر ،نجد نصا توراتيا صريحا يسمي أرض كنعان بكاملها وليس جرار وحدها
باسففم فلسففطين ،وذلك فففي قوله" :يسففمع الشعوب فيرتعدون ،تأخففذ الرعدة سففكان فلسففطين /سفففر
الخروج ."15وففي نبوءة متأخرة للنفبي اليهودي (صففنيا) ،نجده يخاطفب تلك الرض بلسفان رب
اليهود قائلً" :يا كنعان أرض الفلسطينيين ،إني أخر بك بل ساكن /سفر صفنيا ."2
وهكذا اكتسبت أرض كنعان اسم أرض الفلسطينيين زمن خروج السرائيليين من مصر ،رغم أن
الفلسفطينيين كانوا عنصفراً يقطفن بسفاحل فلسفطين ضمفن عناصفرها الخرى ،وقفد حددت التوراة
مساكن الفلسطينيين كمجموعة ممالك متحدة على الساحل ،بترتيب يصعد من الجنوب إلى الشمال،
بدءاً مففن غزة على حدود مصففر ،وذلك فففي قولهففا" :مففن الشيحور الذي هففو أمام مصففر إلى تخففم
عقرون شمال ،تحسفب للكنعانييفن ،أقطاب الفلسـطينيين الخمسـة :الغزي والشدودي والشقلونفي
والعقروني والعويين /يشوع ،"13وفي قول آخر تمزج فيه التوراة بين الكنعاني والفلسطيني نجد
"وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة /تكوين ،"10لكن الترتيب
هنا كان من صيدا في الشمال إلى غزة في الجنوب.
وقد بات من المشكوك فيه عند الباحثين الن ،أن يكون السرائيليون الذين خرجوا من مصر ،لهم
علقة بذلك الرعيل الول المسمى بالبطاركة أو الباء (إبراهيم ،إسحق ،يعقوب ،السباط) ،ناهيك
عفن كون مسفألة البطاركفة برمتهفا – كمفا حكتهفا التوراة – تدخفل ففي عداد السفاطير عنفد باحثيفن
محترمين ،إضافة إلى جلة محترمة من باحثين آخرين ،يرون أن قصة إبراهيم والبطاركة الوائل
لون مففن الصففياغة التففي تمففت متأخرة بعففد الخروج لربففط الخارجيففن بتاريففخ قديففم ،للقاء تاريففخ
إسرائيل المقدس في عمق التاريخ القديم ،وأن كل المر ربما تم بعد قيام مملكة داود في أورشليم،
بتدوين إسرائيل في خضم تاريخ أعرق ،وأبعد في القدم ،من باب إيجاد موطئ قدم لسرائيل في
التاريخ القديم للمنطقة.
44
رب الزمان ودراسات أخرى
ومرة (كريفت) ،وتسجل بهذا الشأن نصفوصها من قبيل" :وهكذا قال السيد الرب :ها أنذا أمد يدي
على الفلسفطينيين ،وأسفتأصل الكريتييفن ،وأهلك بقيفة سفاحل البحفر /حزقيال ،"25و"الرب يهلك
الفلسفطينيين بقيفة جزيرة كفتور /إرميفا ،"47و"ويفل لسفكان سفاحل البحفر أمفة الكريتييفن ،كلمفة
الرب تكون عليكم يا كنعان أرض الفلسطينيين /صفنيا ،"2وفي تعبير واضح ل يقبل لبسا يقول:
إن بعفض الهجرات تمفت بفعففل إلهففي ،يقول النففص" :يقول الرب :ألم أُصفعد إسففرائيل مفن أرض
مصر ،والفلسطينيين من كفتور ،والراميين من قير؟ عاموسي ."9
وهنففا المشكلة ،والخلل بعينففه ،فإذا كانففت روايففة التوراة ككتاب فففي التاريففخ قففد تطابقففت مففع
المكتشفات والسفجلت الثاريفة ففي هذه المسفألة ،وإذا كان كليهمفا قفد أكفد قدوم الفلسفطينيين مفن
جزيرة كريفت وبحفر إيجفة ،فإن هناك خلل يتمثفل ففي كيفف توففق بيفن قول التاريفخ باسفتقرارهم
على السفاحل الفلسفطيني ففي عهفد الرعامسفة ،حول القرن الثانفي عشفر قبفل الميلد ،وبيفن وجودهفم
حسفب التوراة ففي فلسفطين قبفل خروج السفرائيليين مفن مصفر ،ناهيفك عفن قول التوراة بوجودهفم
زمن البطاركة الوائل؟
وبالحسابات يقول علم التاريخ :إن الفلسطينيين قد استقروا على سواحل فلسطين بعد أن سمح لهم
رمسففيس الثالث بذلك ،أي بعففد الزمففن المفترض للخروج السفرائيلي مفن مصفر بحوالي خمسفين
عامفا ،وبحسفابات التوراة نعلم أن السفرائيليين أقاموا بمصفر 430عامفا حسفب الروايفة العبريفة
المازوريفة ،ويضاف إليهفم أربعيفن عامفا زمفن التيفه ففي سفيناء ،يكون المجموع 520سفنة كاملة،
إضاففة إلى حوالي سفبعين سفنة افتراضيفة بيفن إبراهيفم وحفيده يعقوب ،فيكون المجموع سفتة قرون
كاملة ،هفي الفارق بيفن تزميفن المؤرخيفن للخروج وبيفن زمفن الغزو البلسفتي التاريخفي لفلسفطين،
وهذا إنما يعني وجود السرائيليين بفلسطين قبل وصول الفلسطينيين إليها بست قورن كاملة ،وهو
ما ل تقول به التوراة ذاتها ،أليس ذلك خلل حقيقياً؟
والشكالية في محاولة إيجاد حل يتطلب أحد فرضين ،فإما أن نتأخر بعصر الرعامسة ستة قرون
إلى الوراء ،قبففل التزميفن المتفففق عليفه حاليففا بيففن المؤرخيفن ،وهففو مفا سففيترتب عليفه إشكاليات
كففبرى ،حيففث سففيلحق الخلل بكففل تاريففخ المنطقففة ،الذي تففم تزمينففه قياسففا على تزميففن التاريففخ
المصفري ،وإمفا أن نتقدم بزمفن الخروج السفرائيلي مفن مصفر سفتة قرون ،أي يكون الخروج قفد
45
رب الزمان ودراسات أخرى
حدث عام 600قبل الميلد ،وهو غير ممكن علميا ،لنه سيتضارب تضاربا صارخا مع حقائق
تاريخية ثابتة ،وتفصيلت شتى ل تسمح بهذا الجموح في الفتراض المستحيل.
والسباب في وضع الحتمالين واستبعاد أن تكون فلسطين مسكونة بجنس البلست زمن البطاركة،
هو كما قلنا أن التوراة كانت تصفها بأرض الكنعانيين ،وأنها لم تصف أي مكان فيها بالفلسطيني
سفوى مدينفة (جرار) ،هذا إضاففة إلى أن الحداث التفي رافقفت زمفن البطاركفة لم يأت فيهفا ذكفر
الفلسطينيين إطلقًا في أي وثيقة تاريخية ،ل في مصر ول في أي من دول المنطقة ول بفلسطين
ذاتهفا ،علمفا أن ذلك الزمفن لحقتفه أحداث جسفام ،تمثلت ففي غزو الهكسفوس لمصفر ،وتذهفب جلة
محترمفة مفن الباحثيفن إلى أن دخول بنفي إسفرائيل إلى مصفر قفد حدث زمفن الهكسفوس ،وهفو زمفن
ما كان يسمح بدخول البلست ،حيث كان الهكسوس قوة كبرى تحتل مصر ذاتها وتقهرها ،مع عدم
وجود أي إشارة لفلسطين بهذا السم ول لهجرة باسم البلست في أركيولوجيا ذلك الزمن.
46
رب الزمان ودراسات أخرى
لكفن التوراة مفن جانبهفا تصفر زمفن الخروج على وجود الفلسفطينيين ففي فلسفطين كحقيقفة واقعفة،
والمفر هنفا ليفس كمفا ففي عهفد البطاركفة حديفث عفن مدينفة واحدة ،بفل عفن مجموعفة ممالك قويفة
ومقتدرة للفلسفطينيين بشكفل ل يدع سفبيل للشفك فيفه ،بنصفوص غزيرة كثيففة ومتعددة ،تحدثنفا عفن
قراهفم وأسفماء زعمائهفم ،بفل وشخصفيات هامفة مفن بينهفم ،وقواد عسفكريين ،وشكفل أسفلحتهم،
وحروبهم مع السرائيليين عند دخول الرض ،وعباداتهم ،وآلهتهم ،مما يشير إلى أن الفلسطينيين
كانوا قفد أصفبحوا حقيقفة مسفلم بهفا ففي فلسفطين ،حتفى أنهفم أعطوا أرض كنعان اسفما جديداً هفو
أرض الفلسطينيين ،وأن ذلك قد حدث أثناء تواجد السرائيليين في مصر.
محاولــة حــل
رغففم أن آخففر النظريات وأكثرهففا اعتماداً فففي الكاديميات العالميففة ،تلك التففي تقول باضطهاد
السففرائيليين فففي مصففر زمففن الفرعون (رمسففيس الثانففي) ،وبروجهففم مففن مصففر فففي عهففد ولده
الفرعون (مرنبتاح) ،فإننا ل نعلم كيفف وجفد هؤلء السفبيل (مثفل بروغفش وبييفر مونتيفه وغيرهفم)
كيف وجدوا السبيل إلى التوفيق بين ذلك ،وبين الحقيقة التي تؤكد مجيء الفلسطينيين واستقرارهم
على السفاحل الكنعانفي زمفن (رمسفيس الثالث) ،أي بعفد خروج السفرائيليين مفن مصفر حسفب ذلك
التزميففن بحوالي خمسففين عامففا ،بينمففا التوراة التففي تعففد لدى هؤلء مرجعففا تارخيففا أسففاسيا فففي
حسابات تزمينهم للحداث ،تقول إن الخارجين قبل خروجهم كانوا يطلقون على الطريق السينائي
طريق فلسطين ،وعلى كنعان كلها اسم الفلسطينيين ،وأنهم عندما وصلوا إليها وجدوا الفلسطينيين
قوة قائمة في ممالك دخلوا معها حروبا طاحنة قبل أن يستقروا إلى جوارهم هناك؟
ومن ثم ل يبقى أمامنا سوى اقتراح فرض ل ينزلق إلى الصطدام بما استقر عليه علم التاريخ في
تزمينففه للحداث وللسففر الحاكمففة فففي مصففر ،إنمففا هففو فرض يرجففع قليل بزمففن الخروج إلى
الوراء ،فنحفن نعلم أن أول الهجمات البلسفتية قفد حدثفت زمفن (آمنحتفب الثالث) 1367 – 1405
قبل الميلد ،وهنا نفترض نجاح تلك الهجمة واستقرارها على الساحل الفلسطيني ،أي أننا بوضوح
نسفتبعد الخروج زمفن (مرنبتاح) 1229قبفل الميلد ،ونرجفع بفه إلى تلك الفترة الواقعفة زمفن خلو
العرش بعد سقوط (إخناتون ابن أمنحتب الثالث) الذي حكم بين 1350-1367قبل الميلد ،وهو
الزمن المناسب للخروج ،لن زمن مرنبتاح كان زمن قوة مصرية تسيطر على فلسطين ذاتها ،أما
47
رب الزمان ودراسات أخرى
زمفن خلو العرش بعفد سفقوط إخناتون فكان فترة ضعفف تسفمح بوقوع أحداث الخروج ،ومهاجمفة
الخارجيفن لفلسفطين التابعفة لمصفر ،لكفن ليجفد الخارجون أن الفلسفطينيين قفد اسفتقروا هناك زمفن
(أمنحتب الثالث) وربما قبله بقليل وأسسوا ممالكهم هناك.
وبالحسابات الفتراضية ،نحن ندفع بزمن الخروج السرائيلي إلى الخلف إلى عام يقم قبل 1350
قبففل الميلد ،وبإضافففة زمففن التيففة ففي سفيناء وهففو أربعيفن عامففا ،فإن وصففول السفرائيليين إلى
فلسطين يكون قد حدث حوالي عام 1310قبل الميلد ،وبذلك نكون قد أرجعنا زمن الخروج مئة
وعشرين عاما إضافية عن الزمن المفترض لخروجهم زمن مرنبتاح ،وهو ما يعني أنهم قد دخلوا
فلسطين قبل قرن من زمن الفرعون مرنبتاح.
وإن فرضنفا هذا سفيحل عددًا مفن المشاكفل الكفبرى ففي التاريفخ غيفر المحلولة حتفى الن ،فسفيحل
أول مشكلة وجود الفلسطينيين بفلسطين قبل الخروج السرائيلي من مصر ،وثانيا سيعيد العتبار
إلى المؤرخ المصفري (مانيتون السفمنودي /القرن الثالث قبفل الميلد) الذي أثبفت مصفداقية عاليفة
في كثير مما أورده ،ومع ذلك أستبعد ما ذكره عن الخروج زمن فرعون باسم (أمنوفيس) لصالح
فكرة الخروج زمن مرنبتاح ،استناداً إلى لوح مرنبتاح الذي يقول فيه أنه هاجم قوماً باسم إسرائيل
ودمر بذرتهم .وهنا بالتحديد يكمن الخلل في رأينا ،حيث نحتسب أن لوح مرنبتاح كان يتحدث عن
حملة تمفت بعفد خروج السفرائيليين واسفتقرارهم ففي فلسفطين ،ضمفن الحملت التأديبيفة التفي كان
يشنها الفراعين على مستعمراتهم ،بينما (أمنوفيس) الذي ذكره مانيتو كفرعون للخروج هو النطق
اليوناني للسم المصري (آمنحتب) وكان إخناتون يحمل اسم (آمنحتب الرابع).
هذا ناهيك عن كون ذلك الفرض يجعل الخارجين من مصر ،ربما كانوا أتباعاً مباشرين لخناتون
كأول داعيفة للتوحيفد ففي التاريفخ ،وهفو مفا يفسفر التوحيفد السفرائيلي بعفد ذلك ،إضاففة إلى حفل
معضلة كأداء كانت تقف دوما في وجه القائلين بالخروج زمن مرنبتاح ،وتتمثل في أن التوراة قد
أكدت أن السرائيليين عند غزوهم فلسطين ،قد دمروا مدينة أريحا وأحرقوها بالكامل ،وقد قامت
بعثففة حفائر بريطانيففة ،بقيادة العالمففة الركيولوجيففة (ك .كينون) عام ،1950بإجراء حفائر فففي
مدينة أريحا للكشف عن أي أدلة ،تشير لتدمير أريحا ،ومدى صدق الرواية التوراتية.
48
رب الزمان ودراسات أخرى
وقفد تأكفد للبعثفة البريطانيفة أن أريحفا قفد دمرت بالفعفل ،لكفن ففي القرن الرابفع عشفر قبفل الميلد،
وهفو مفا شكفل معضلة لصفحاب نظريفة الخروج زمفن مرنبتاح ،لن أريحفا تكون بذلك قفد دمرت
قبل زمن مرنبتاح بقرن من الزمان ،وقد اعتمدت البعثة البريطانية في تزمينها لدمار أريحا ،على
مفا عثرت عليفه مفن جعلن وكسفرات فخاريفة تحمفل أسفماء ملوك مصفريين ،حكموا خلل القرن
الرابع عشر قبل الميلد ،هذا مع آثار الحريق المدمر ،وأثار التهديم الذي تعرضت له أريحا.
ونقصفد مفن هذا كله القول :إن العودة بزمفن الخروج 120سفنة إلى الخلف ،إلى فترة خلو العرش
بعفد سفقوط إخناتون ،يحفل معضلة آثاريفة كفبرى ومشكلة تاريخيفة حقيقيفة ،ويتطابفق موعفد دمار
أريحا ،مع موعد دخول السرائيليين إليها .كما يحل لنا مشكلة مستعصية تفسر وجود الفلسطينيين
بفلسففطين قبففل دخول السففرائيليين إليهففا ،ولماذا حملت كنعان اسففم أرض الفلسففطينيين حتففى فففي
التوراة ذاتهفا ،لكنهفا لم تحفل يوم اسفم أرض السفرائيليين ،وهفو المفر الذي لم يزل بعفد قيفد البحفث
في كتابنا :موسى وآخر أيام تل العمارنة.
49
رب الزمان ودراسات أخرى
رغففم أن ذكففر العرب فففي التوراة ل يظهففر بوضوح كاشففف ،إل مففع الحداث التففي يفترض أنهففا
دارت حوالي عام ألف قبففل الميلد ،أي مففع قيام مملكففة إسففرائيل التففي أسففسها (شاؤول) ودعمهففا
(داود) ،ويعفد مؤسفسها الحقيقفي (سفليمان بفن داود) ،فإن ذات التوراة تذكفر أموراً يمكنفا أن نسفتنتج
منهفا ،أن العرب أحفد أقدم العروق ففي التاريفخ ،حسفب شجرة النسفاب التوراتيفة ،لكفن مفن البدايفة
يجب أن نقر أنهم هم أنفسهم لم يشعروا بوحدة جنسهم إل في المرحلة القبل إسلمية مباشرة.
وفي السفر المعروف بسفر التكوين ،أول أسفار التوراة ،نجد ذلك الشخص القديم المعروف باسم
(عابر) ،وهو ابن شالح ابن ارفكشاد ابن سام ابن نوح ،وتقول :إن (عابر) هذا كان أبا لفرعين أو
عرقيفن مفن البشفر( ،العرق العفبري) الذي جاء منفه السفرائيليون فيمفا بعفد ،وينتسفب ذلك العرق
(العري) باسمه للب (عابر) ،وعرق أخر هو (اليقطاني) نسبة إلى يقطان بن عابر) ،ثم يستطرد
النففففففففص قائلً" :ويقطان ولد الموداد وشالف وحضرموت وبارح وأوزال ودقلة وعيبال وأبيمال
وشبا وأوفير وحويلة ويوباب ،كل هؤلء بنو يقطان" (انظر سفر أخبار اليام الولى).
وبإعمال النظفر ففي أبناء (يقطان) سفتجد أنهفا أسفماء تشيفر جميعفا إلى مواضفع ففي الجنوب العربفي
(اليمن) ،ومعلوم أن أسماء المواضع كانت تسمى بأسماء أشخاص كما هي عادة التوراة .كما أن
اسففم (يقطان) نفسففه يحيلنففا إلى نطقففه العربففي (قحطان) ،ومففن ثم ّف فإن المقصففود هنففا هففم العرب
القحانية سكان الجنوب اليمني .وقد رصد المؤرخون للعرب اسم (قحطان) كجد بعيد لقبائل عرب
الجنوب ،مقابل (عدنان) الجد البعيد لعرب الشمال.
وسفيكون المعنفى أن حفيفد نوح المعروف باسفم (عابر) ،كان الب المشترك لكفل مفن العفبريين ففي
جانففب ،والعرب القحاح (القحطانيففة) فففي جانففب آخففر ،ولنلحففظ أن المفردات (عابر) و(عففبري)
و(عربي) تعود جميعا إلى جذر لغوي واحد ،كما أن (عربي) بالقلب اللساني تصبح (عبري).
* ل يسبق نشره.
(من صـ 62 -57ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
50
رب الزمان ودراسات أخرى
ومفن ثفم سفنجدنا ففي جزيرة العرب ،بإزاء خطيفن لعرقيفن منفصفلين ،عرق أصفيل ففي الجنوب هفو
العرق القحطانفي ،والذي أطلقفت عليفه كتفب السفير والخبار السفلمية لقفب العرب العاربفة ،أي
العرب الصففيلة فففي العروبيففة ،وعرق آخففر جاء عففبر إسففماعيل (العففبري) شقيففق إسففحق وعففم
إسففرائيل وابففن إبراهيففم ،ونحففن نعلم مففن كتففب الخبار السففلمية ،أن إسففماعيل كان أب العرب
الشماليفة (من الحجاز فما نحو الشمال) المنعوته بالعرب العدنانية ،ومعلوم أيضا في ذات المأثور
أن العرب العدنانيفة ليسفت أصفيلة العروبيفة ،إنمفا اكتسفبت العروبيفة اكتسفابا بنزوحهفا إلى الحجاز
قادمففة مففن الشمال ،لذلك أطلق عليهففا التراثيون المسففلمون لقففب (العرب المسففتعربة) أي التففي
استعربت ولم تكن من الصل عربية ،والمطالع لمأثورنا السلمي التاريخي ،سيجد اتفاقا واضحا
على أن إبراهيم وولده إسماعيل لم يكونا من العرب ،إنما ووفدوا على أرض العرب أغرابا عنها،
وأنهما كانا يتحدثان السريانية ،وبمعيشة إسماعيل بين العرب اكتسب اللسان العربي (!!).
ولعله من الواضح سواء فيما أوردته التوراة ،أو أوردته كتب السير السلمية ،أن كليهما ليس إل
رجفع صفدى ليام خوال وذكريات قديمفة ،تشيفر لعنصفر عربفي أصفيل هفو العنصفر القحطانفي،
وعنصفر غريفب واففد هفو العنصفر العدنانفي ،وأن الول كان يسفكن الجنوب اليمنفي ،بينمفا اسفتقر
الثانفي شمال ففي الحجاز ،وهفو والمفر الذي يلتقفي مفع الواقفع الجغراففي للجزيرة المنفتحفة شمال
على مفا جاورهفا ،تسفتقبل هجرات وتندففع بأخرى ،وهفو مفا يعنفي ثانياً أن سفكان الجزيرة الصفلء
دوما خلل التاريخ البعيد ،هم العرب الذين عرفوا باسم العرب اليقطانية أو القحطانية.
لكن الغريب في المر جميعه ،أن يصبح حديث التاريخ المطول عن العرب العدنانية المستعربة،
وسفاعد على ذلك قربهفم أو انفتاحهفم على الحضارات المجاورة (جغرافيفا) ،وهفي الحضارات التفي
تركت مدونات سجلت لنا بعض ما يتعلق بعرب الحجاز العدنانية ،حيث نجد في نصوص التوراة
51
رب الزمان ودراسات أخرى
أن مففففن ولد إسففففماعيل كان (قيدار) و(نبايوت) ،ويبدو أن (قيدار) هذا سففففكن شمال على تخوم
الحضارات القديمفففة ،بينمفففا اسفففتقر (نبايوت) ففففي أرض الحجاز ،وقفففد رصفففدت نصفففوص بلد
الرافدين ،وبخاصة نصوص الملك (آشور باني بعل) قصة صراع حدث بينه وبين قبيلة (قيدار)،
كذلك رصفدت التوراة صفراعا آخفر حدث بيفن ملوك دولة يهوذا والقيدارييفن ،ممفا يشيفر إلى قيدار
كقوة ل يسفتهان بهفا آنذاك ،ويبدو أن القيدارييفن قفد اشتغلوا بمفا آدر عليهفم ربحفا كثيراً جعفل منهفم
قوة ،ومضربا للمثل في الفخامة ،وهو ما يؤخذ من سفر نشيد النشاد بالتوراة ،المنسوب لسليمان،
والذي تصفف فيفه شولميفت (سفلمى بالعربيفة) نفسفها ،بقولهفا تجمل" :أنفا سفوداء وجميلة يفا بنات
أورشليم ،كخيام قيدار ،كشقق سليمان ،فساوت في الجمال بين خيام قبيلة قيدار العربية وبين شقق
أو قصور سليمان المعروفه في التراث الديني بالفخامة إلى حد السطورية.
أما (نبايوت) فهو ما سجلته كتبنا الخبارية باسم (نابت بن إسماعيل) ،واحتسبته الصل الحقيقي
للعرب العدنانيفة التفي اسفتقرت ففي الحجاز ،وكثفر ذكره ففي أشعار العرب ممفا يشيفر إليفه كحقيقفة
واقعفة ،ونموذجفا لذلك شعفر (عمرو بفن مضاض الجرهمفي) الذي يسفجل صفراعا حدث بفن العرب
القحانية ومنهم قبيلته جرهم ،وبين العرب العدنانية ،ويشير إلى انتصار مؤقت للقحطانيين اليمنيين
استولوا بموجبه على سيادة الحجاز بحيازة الكعبة المكية ،وللختصار نورد بيتين من ذلك الشعر
القائل:
نطوف بذلك البيت والخيفر ظاهفر وكفنا ولة البيفت مفففففن نفابفت
بعز ،فما يحظففى لدينففا المكاثففففر ونحن ولينفا البيت من بعد نابت
ول تفوتنفا هنفا ملحوظفة أسفاس ،فنحفن نعرف عفن اليمفن القحطانفي أنفه عرف الكتابفة ودونهفا فيمفا
يعرق بالخفط المسفند ،لكفن اسفتمرار الغرابفة ،وللتاريفخ أفاعيله ،أن اللغفة العربيفة الحاليفة لم تتطور
عفن أصفول عربيفة قحطانيفة أصفيلة ،وإنمفا تطورت عفن الخفط النبطفي الذي وجفد مدونفا ففي مملكفة
النبط على حدود الجزيرة الشمالية ،وهو ما يوعز بارتباط مع (نابت) أو (نابط) أو (بنايوت) ابن
إسماعيل العبراني المستعرب ،فعربيتنا الحالية هي الخط التطوري عن خط نابت أو الخط النبطي
المستعرب وليس العارب.
52
رب الزمان ودراسات أخرى
أمففا الصففراع بيففن العرب العاربففة والعرب المسففتعربة ،فيبدو أنففه قففد اسففتمر طويل ،حول مكففة
بالذات ،باعتبارها أهم محطة تجارية على الخط التجاري العالمي القادم ببضائع الهند وإفريقيا من
اليمن إلى أرض الحضارات الشرق أوسطية ،كما يبدو أن العرب الصلء ظلوا على انتصاراتهم
وعدم تفريطهم للمستعربة حتى زمن (قصي بن كلب) ،الذي أقصى آخر قبيلة عاربة يمنية عن
مكة ،وهي قبيلة خزاعة ،ليقرّش عرب الشمال المستعربة تقريشا ،أي يجمعهم ويؤلفهم ويوحدهم،
ويأخذوا سمت السيادة العروبية في زمنه ،وما تلى ذلك من أزمان.
لكففن مففا ل يفوت المدقففق هنففا ،أنففه قبففل زمففن تلك الحداث بأزمان ،ترقففى إلى اللف الثالثففة قبففل
الميلد ،كان عرب الجنوب القحطانيفة ،الحمفر أو الحميريفة ،قفد اندفعوا بهجرة كفبرى مفن الجنوب
نحفو بوادي الشام ليسفتقر فرعهفم المهاجفر على سفواحل المتوسفط الشرقيفة بطول السفاحل السفوري
اللبنانففي الفلسففطيني ،والذيففن عرفوا هناك باسففم الكنعانييففن أو الفينيقييففن ،وذلك قبففل ظهور الفرع
البراهيمففي بكففل خطوطففه أص فلً ،وأن ذلك الفرع البراهيمففي عندمففا هبففط فلسففطين تكلم بلسففان
كنعان ،أو بشفففة كنعان كمففا قرر سفففر إشعيففا بالتوراة ،لكففن اللسففان كان قففد تغيففر بمرور الزمففن
والمكان ،وهفو مفا يعنفي أن التطور التالي للعربيفة عفن العربيفة العدنانيفة النبطيفة أو النابتيفة ،كان
بضاعة عربية ردت للعرب ،بعد تحولت ،ومفردات كثيرة جديدة دخلت المعجم العربي الصلي،
جعلت الفارق بيّنفا شاسفعا ،لكنفه إشارة للصفل ،مفا دمنفا نتحدث عفن الصفول ،ومفن وجهفة نظفر
أخرى يمكن القول أن ذلك جميعه كان إثراء للغة العرب.
53
رب الزمان ودراسات أخرى
تسفمح بظهور قبائل قيدار التفي ذكرهفا سفليمان وأسففار الكتاب المقدس التفي تحدثفت عفن أحداث
بداية اللف الولى قبل الميلد.
وهنفففا سفففنجد أمامنفففا ثلث احتمالت ترتبفففط بهجرات حدثفففت على التوالي ،الولى هفففي هجرة
الهكسفوس إلى المنطقفة واحتللهفا ،واحتلل مصفر ضمفن مناطفق أخرى ،أمفا الثانيفة فهفي خروج
الهكسوس من مصر في هجرة مضادة عند طردهم منها ،ثم تأتي الثالثة في خروج بني إسرائيل
وبقايفا أسفرى الهكسفوس مفن مصفر أيضاً ،وقفد حدثفت الهجرات الثلث ففي زمفن متقارب وعلى
التوالي ،ويكاد الفارق بيفن الهجرات الثلث يذوب عندمفا نعلم أن هجرة أسفاسية إلى داخفل مصفر
ومنهفا إلى الخارج كانفت لعنصفر واحفد هفو الهكسفوس ،وأن هجرة بنفي إسفرائيل بدورهفا لم تكفن
غريبة على الهكسوس ،فهم فيها تحت أيدينا من وثائق – ليس هنا مجال مناقشتها – أحد البطون
القرابية لهؤلء الهكسوس.
وقفد سفبق لنفا وناقشنفا مصفدر الهجرة الهكسفوسية ففي كتابنفا (النفبي إبراهيفم والتاريفخ المجهول)،
وأعدناهفا إلى المنطقفة الكاسفية الواقعفة على الفرات العلى عنفد بحيرة فان (أرمينيفا حالياً) ،وأنهفم
الذين احتلوا العراق باسم الكاسيين ،واحتلوا مصر باسم (هف كاس) أو (الهكسوس) بإدارة التعريف
العبريففة أو العربيففة الشماليففة (هففف) .وقففد كان الهكسففوس عدة بطون وأفخاذ َتزّعمهففم عنصففر مففن
بينهم ،وقد دخل بنو إسرائيل في زمرتهم آخر سنين حكمهم في مصر ،وكانت الصلت القرابية
والثقافية واللغوية مبرراً كافيا ليرتقي أحد السرائيليين سدة وزارة المال والخزانة في مصر ،وهو
مفا تمثله قصفة يوسفف بفن يعقوب ففي التوراة .ومفن بيفن عناصفر الهكسفوس تلك القفبيلة التفي حملت
لقفب (قاطعوا الرقاب) ،والتفي كتبفت بالمصفرية (سفا – جاز) (هفف كاس) أو (هفف كاز) ويبدو أنهفا
كانفت القفبيلة الزعيمفة التفي أعطفت لجموعهفم اسفم الهكسفوس ،وربمفا كان الدكتور لويفس عوض
محقا في ربطة ذلك في إشارته إلى أنهم هم من أكسب الحجاز اسمه ،بعد طردهم من مصر.
وربمفا عفن لنفا أن نضيفف هنفا ،أن السفرائيليين الذيفن خرجوا مفن مصفر بعفد ذلك ،متأثريفن بعقيدة
إخناتون التوحيديففة ،وعبادة إله أوحففد كتبففه المصففريون (آتون) ،وكتبففه السففرائيليون (أدون) أي
السفيد /الرب ،ربمفا كانوا هفم أصفل كلمفة (عدن) ففي العرب العدنانيفة ،حيفث أن (أدون) أو (أدن)
يمكن ببساطة أن تنطق (عدن) بلقب الهمزة عينا ،وهو أمر وارد في الساميات ،وربما أحلنا هبوط
54
رب الزمان ودراسات أخرى
هؤلء التابعيففن لعدن أو أدن جنوبففا نحففو جزيرة العرب ،إلى الصففراع الذي دار فففي قادش على
حدود سيناء الشرقية ،بين الخارجين من مصر ،والذي ل شكل أدى إلى انفصال اتجه بموجبه كل
فريق وجهة تخالف الخر ،فاتجه أحدهم نحو فلسطين ،بينما اتجه الخر نحو الحجاز وهو المر
الذي يفسفر لنفا ذلك المدهفش ففي عمفل على فهمفي خشيفم ففي كتابفة (آلهفة مصفر العربيفة) ،وهفو
الكتاب الذي قدم جهداً ،للتدليفل على أن اللغفة العربيفة واللغفة المصفرية القديمفة ليسفتا تؤمتيفن ،بفل
هما لغة واحدة ،وقدم لنا معجما وافراً رائعاً حقا ،وهو ما يجعلنا نظن أن تلك الهجرة التي حدثت
ففي مصفر ،بعفد أن عاش المهاجرون ففي مصفر نحفو أربعفة قرون ،اكتسفبوا فيهفا عقائدهفا ولغتهفا،
هفي تلك التفي عرففت بعفد ذلك بهجرة العرب العدنانيفة إلى جزيرة العرب ،خاصفة وأن التوراة قفد
ل للشفك ،أن لفيفاً عظيماً مفن المصفريين ،قفد خرج مفع الخارجيفن ،وهفم مفن
أشارت بمفا ل يدع مجا ً
نظنهم التباع المخلصين لعبادة (أتن) أو (عدن) الله الواحد ،وهم من نظنهم كانوا الطرف الثاني
في صراع قادش مع الطرف السرائيلي الذي عبد (يهوه) إله البراكين والثيران في سيناء ،وأنهم
هفم مفن اتخفذ سفبيله جنوبفا إلى جزيرة العرب ليحملوا اسفم العرب العدنانيفة ،احتمالت نرجحهفا،
وهفي قيفد البحفث المطول بيفن أيدينفا الن ،ففي كتاب( :النفبي موسفى وآخفر أيام تفل العمارنفة) ،ول
نعلم هل سيؤيدها البحث أم سينفيها.
أما النبي إبراهيم نفسه فقد كان من المنطقة الكاسية التي قدمت منها هجرة الهكسوس إلى مصر،
وبالتحديد من الوليات الرامية أو الرمينية ،لذلك كان يعقوب (إسرائيل) يردد دائما (أراميا تائها
كان أبي) وهو التعبير الذي يشير إلى حركة انتقالية واسعة للب إبراهيم ونسله في المنطقة.
وبعد ،ل يغرب عن بال قارئنا أن كل هذا الحديث عن ذلك الموغل في التاريخ القديم ،ل علقة له
بدولة إسرائيل الحالية ،فل علقة البتة بين الشراذم المؤتلفة الن في إسرائيل ،والتي تجمعت من
أنحاء مختلفة وأوطان شتى ،ل يجمعها سوى العنصرية الدينية ،وبين قبيلة بنى إسرائيل التاريخية
مفن بنفي يعقوب ،إن الموجوديفن الن في إسرائيل ليسفو عنصرا ول جنسا واحداً ،إنهفم فقفط مجرد
يهود .وعلقة أي فرد منهم بأبطال التاريخ السرائيلي مثل موسى أو إبراهيم ،ل تزيد عن علقة
مسلم من بلد الصين بنبي السلم.
55
رب الزمان ودراسات أخرى
مـعــارك فكريـة
56
رب الزمان ودراسات أخرى
دأب د .سيد كريم على مطالعتنا بمجلة الهلل ،بنظريته حول علقة الديانة المصرية القديمة
بديانات البدو السفاميين ،وبخاصفة عقائد أهفل جزيرة العرب ،وهفو رأي بحفد ذاتفه يتسفم بكثيفر مفن
الصحة والوجاهة .وقد ذهبت كثير من المدارس العلمية إلى القول بتأثير مصر القديمة في عقائد
جيرانهففا ،وألف أصففحابها فففي ذلك مؤلفات شتففى ،ولنففا فففي ذلك مؤلف خاص حول عقيدة الخلود
المصرية ،بحسبانها النبع الصيل لعقيدة الخلود ،التي ظهرت بعد ذلك في ديانات حوض المتوسط
الشرقي ،بعنوان (رب الثورة :أوزيريس وعقيدة الخلود في مصر القديمة).
لكففن التحفففظ السففاسي على كتابات د .كريففم يتأسففس مففن البدايففة ،على طريقففة المعالجففة ،ومدى
التزامفه بشروط البحفث العلمفي ومنهجفه ،وعلى مدى صفدق مقدماتفه التفي كثيفر مفا أدت إلى نتائج
أكثفر بطلنفا منهفا .ولمفا كانفت معالجفة كفل موضوعات السفيد الدكتور المنشورة ،إطالة ل حاجفة
إليهفا ،لنفه يدور باسفتمرار حول فكرة واحدة وهدف واحفد ،فقفد تخيرنفا أخطفر هذه الموضوعات،
وأكثرهففا شمول لفكاره المكررة فففي مختلف كتاباتففه ،وهففو المعنون بف ف "قدماء المصففريين وبناء
الكعبة" (.)1
والغريفب إنفه رغفم خطورة هذا الموضوع فقفد مفر مرور الكرام ،ولم نسفمع أو نقرأ عليفه تعقيباً،
على حد ما نعلم ،مما أعطى السيد الدكتور الضوء الخضر للستمرار والمثابرة.
وواضفح مفن البدايفة أنفي لن أكون مجامل ،وففق حسفابات بسفيطة تماماً ،أولهفا أن ميدان البحفث
العلمي ،ميدان ل يصح فيه لفارس تجاوز شروط الفروسية ،وقواعد اللعبة ،لتحقيق قصب السبق.
وأعتذر عفن اسفتخدام تعفبير (اللعبفة) ،ففي حديثفي عفن العلم وشروطفه ،لن الموضوع برمتفه كان
عنفد د .كريفم مجرد لعبفة .وثانفي هذه الحسفابات هفو أن القارئ أمانفة ،والكلمفة أمانفة ،وأول شروط
57
رب الزمان ودراسات أخرى
( )1د .سيد كري :قدماء الصريي وبناء الكعبة ،ملة اللل ،فباير .1982
البحفث العلمفي هفي المانفة .ورغفم بسفاطة الحسفابات ،فإنهفا لم تترك لنفا بصفرامة حقوقهفا (وهفي
لوجه الحق ،حق ،وأحق أن تتبع) أي فرصة للمحابات أو المجاملة.
موجــز المــر
ويقوم مقال د .كريفم على فكرة أسفاسية تسفلطت عليفه ،مفادهفا :أن المصفريين القدماء ،قفد اكتشفوا
مبدأ التوحيفد في العقيدة اللهية ،منذ بداية السرات الفرعونية الحاكمة ،وربما قبلها ،ومن ثم قام
يبنفي على فكرتفه قصفه ملخصفها :أنفه عندمفا قامفت الثورة الكفبرى ففي مصفر القديمفة ضفد الملك،
وضد الكهنة ورجال الدين ،في نهاية السرة السادسة الفرعونية ( ،)2هرب كهان مدينة (منف) –
ويزعم الكاتب أنهم قوم موحدون – إلى الجزيرة العربية ،حيث اكتنوا هناك بالكنية (بني مناف)،
وأهل منف ،بينما أطلق عليهم الفراعنة اسم (جرهم) أي مهاجري مصر ،وأن النبي إبراهيم (عليه
الصففلة والسففلم) عندمففا ترك سففريته (هاجففر) ،مففع رضيعهففا (إسففماعيل) فففي جزيرة العرب،
ووجدت نفسفها وسفط أعراب ل تعرف لغاهفم ،لجأت إلى قبائل (جرهفم) المصفرية ،الذي آووهفا،
وأمكنهففا التفاهففم معهففم .وكان (بنففو مناف أو الجراهمففة) قففد أقاموا فففي هذا المكان بيتاً للرب هففو
(الكعبفة) ،على غرار كعبتهفم المصفرية التفي تركوهفا ففي منفف وتعرف حاليًا بفف (هرم ميدوم) ،ثفم
يلقفي القول بذكاء" :وليفس هناك مفن شفك ففي أن زيارة جميفع النفبياء إلى الكعبفة ،ابتداء مفن سفيدنا
إبراهيم إلى إسماعيل وشعيب وموسى ،قد بدأت جميعها بعد زيارتهم لمصر ،وتَ َفهُم عقيدة التوحيد
وإيمان المصففريين بالبعففث والحسففاب والخرة وخلود الروح" ثففم يزيففد فيقول :إن إشارة النففبي
(محمفد صفلى ال عليفه وسفلم) أنفه خيار مفن خيار ،مفن خيار قريفش ،وأن قريشاً مفن كنانفة ،فإن
كنانة لم تكن قبيلة في جزيرة العرب كما كنا نتصور ،إنما هي (مصر الكنانة) ،وأن النبي (صلى
ال عليه وسلم) يشير بذلك إلى أن أسلفه إنما كانو مصريين.
والعجيففب فففي أمري مففع د .كريففم ،أنففي ألتقففي تمامففا معففه فففي القول بهجرة مصففرية إلى جزيرة
العرب ،كانت سببًا في نشوء اتجاه ديني هناك .وقد عالجت هذا المر في بحث خاص ،كنت أود
( )2يفترض د .كري أن الثورة الصرية الول ف العصور القدية قد حدثت إثر انيار الدولة القدية أي بعد سقوط السرة السادسة،
سيا مع الفتراضات الشائعة ،ولنا ف ذلك اجتهاد يعود بزمن الثورة إل ما قبل ذلك ،بل ونعتب أن هذه الثورة كانت سببا ف سقوط
58
رب الزمان ودراسات أخرى
الدولة القدية ،وليست نتيجة لا ،أرجع إل كتابنا (أوزيريس وعقيدة اللود ف مصر القدية) صادر عن دار مدبول الصغي للنشر،
وقد ناقشنا فيه مسألة التوحيد باستفاضة وباصة ف الفصلي الولي.
إرفاقفه بهذا التعقيفب لول أنفه سفيضيف مسفاحة يضيفق بهفا المتاح ففي عدد واحفد ،إل أن أول مفا
يزعج أي عارف بتاريخ مصر هنا ،هو قول د .كريم :أن الثورة المصرية ضد الملك والكهنة في
نهايففة السففرة السففادسة ،هففي التففي أدت إلى هجرة أصففحاب (منففف) إلى جزيرة العرب .وقوله
بصفريح العبارة أنهفم أصفحاب عباد الله (رع) .ومصفدر الزعاج هنفا هفو أن منفف كانفت مقرا
لعبادة الله (فتاح) وليفس (رع) ،وإن الله (فتاح) قفد توارى ففي الظفل مفع مدينتفه (منفف) بعفد أن
قام كهنة الله (رع) بانقلب ديني وسياسي في الوقت ذاته ،واستولوا على الحكم في نهاية السرة
الرابعة ،وأسسوا السرة الخامسة الحاكمة ،واستمروا في الحكم في السرة السادسة .وكانت مدينة
الله (رع) المقدسة ،هي مدينة (أون) عين شمس الحالية ،وليس مدينة (منف).
وبذلك تكون الثورة الشعبيفة التفي قامفت ضفد الملوك والكهنفة ،قامفت ضفد ملوك وكهنفة الله (رع)
ففي (أون) وليفس ففي (منفف) ،ويكون الله (رع) إله مدينفة (أون) وليفس إله مدينفة (منفف) ،ممفا
يشيفر إلى خلل خطيفر فيمفا قدمفه السفيد الدكتور لقارئه ،أمفا إن أراد صفدق المراد ،فإن هجرة أهفل
(منفف) تكون قفد سفبقت الثورة الشعبيفة بحوالي ثلث قرون أو أكثفر ،عندمفا حدث الصفدام بيفن
(منف) و(أون) ،أو بين أتباع (فتاح) وأتباع (رع) ،الذي انتهى باستيلء (رع) وأتباعه على سدة
الحكم.
ومفن هنفا ،فإذا كنفا نلتقفي مفع السفيد الدكتور ففي أمور ،فإنفا نخالففه ففي أخرى ،وهفي ليسفت مخالففة
لمجرد المخالففة ،إنمفا سفيراً مفع صفحيح المور وتاريخيتهفا .أمفا أشفد تحفظاتنفا فهفي تتعلق بمدى
التزام الكاتفب – أي كاتفب – بالحياد والموضوعيفة وتحري الحقيقفة ،بحيفث ل يميفل مفع هواه كفل
الميفل ،فيفسفر النصفوص على الرأي الخاص ليؤكفد فكرتفه .ومفن هنفا ،وتأسفيساً على ذلك ،سفنناقش
ما كتبه د .كريم بمعيار واحد ،هو مدى التزام الصدق العلمي وشروط تحقيقه.
اللهة المصرية
لقففد كان جميل مففن د .كريففم أن يحاول اكتشاف جديففد ،يضيفففه إلى مجموعففة إبداعات وكشوف
المصففريين القدماء ،فقام يختار (مبدأ التوحيففد) ليضعففه مففن بيففن أول الكشوف التففي وصففل إليهففا
59
رب الزمان ودراسات أخرى
المصريون في (منف) ،منذ بداية السرات وقام الدولة المركزية ،أي منذ حوالي خمسة آلف عام
مضفت ،وبذلك يؤكفد ففي موضوعفه أنهفم كانوا أسفاتذة عرب الجزيرة ففي ذلك ،عفبر النفبياء الذيفن
زاروا مصفر وتعلموا فيهفا التوحيفد ،ثفم عادوا يعلمونفه ففي جزيرتهفم ،وعفبر الهجرة الكفبرى لكهان
(منف) بعد الثورة إلى الجزيرة.
والسفيد الدكتور ل شفك – بمقصفده – يريفد أن يرففع أكثفر مفن شأن قدامفى المصفريين وينزع عنهفم
شبهفة التعدد ففي العبادة .وهفو ففي ذلك يفبرهن على وفاء لمصفر ،وحفب نادر المثال مشكور ،لكفن
البحث العلمي شيء ،ومعاني الحب والكره والوفاء أو وعدمه ،شيء آخر ،ل مكان لها في قاموس
البحفث العلمفي ،ولعله لم يغفب عفن بال السفيد الدكتور أن مصفر العظيمفة بأفضالهفا على النسفانية،
وبكشوفها في مجال الفكر والتحضر ،ليست بحاجة إلى محاولت جديدة ،كأن تكون أصل التوحيد
البراهيمفي ،خصفوصاً أن المصفدر القدم عفن روايفة النفبي إبراهيفم ورحلتفه وعبادتفه (أقصفد
التوراة ،وكانففت المصففدر الوحيففد فففي ذلك حتففى مجيففء السففلم) ليففس فيهففا مففا يشيففر إلى عبادة
واحدة ،ول تشيفر التوراة ففي قصفتها عفن النفبي إبراهيفم وعهده إلى إله واحفد ،بفل إلى (إلوّهيفم) أي
مجموعففة اللهففة .ولم نعرف عففن النففبي إبراهيففم أنففه كان موحداً إل عندمففا جاء القرآن الكريففم،
وأوضح أن النبي إبراهيم هو أصل التوحيد الحنفي.
نعفم ول شفك أن القول بكشفف المصفريين لهذا المبدأ الدينفي الذي يمركفز العبادة ففي ذات واحدة،
ينسب لهم قصب السبق في أمر هو من الفتوح المبينة .لكن المشكلة أن ذلك لم يحدث ،وإن كان قد
حدث فلم يحدث إل بعد ذلك بقرون في عهد إخناتون على ما يزعم البعض .هذا إضافة إلى أن د.
كريم لم يكن موفقاً كل التوفيق وهو ويحاول ذلك.
ولعفل أول مفا يعترض مقولة د .كريفم ،القائلة :إن أهفل (منفف) ففي السفرة القديمفة أول الموحديفن،
هففو أن المصففريين القدماء لم يعرفوا التوحيففد بالمعنففى المطلق الذي عرفناه فففي السففلم( ،الذي
يقصفده د .كريفم) طوال تاريخهفم الدينفي الطويفل ،فكانفت اللهفة تربفو على المئات( ،آلهفة أقاليفم،
وآلهففة مدن ،وآلهفة عواصففم ،وآلهفة للدولة ،وآلهفة لقوى الطبيعفة ،وآلهففة للملوك ،وآلهففة الشعفب)
تنطبفع بوجفه عام بالشكفل الطوطمفي الممثفل ففي رأس الحيوان على الجسفد الدمفي .وكان واضحفا
أن المصريين قد توقفوا عن تطوير شئون اللهة ،ولم تشكل المسألة بالنسبة لهم قضية شاغلة ،بعد
60
رب الزمان ودراسات أخرى
أن انصففرفوا إلى أمريففن :الول هففو البناء السففياسي والحضاري وتأميففن الحدود عسففكريا والتقدم
العلمفي الدنيوي والثانفي :هفو التجهيفز لعالم آخفر مقبفل يجازي فيفه النسفان على مفا أتاه مفن أعمال
فففي دنياه .وكان هذا المبدأ الثانففي بدوره مسففألة حضاريففة ملحففة ،حيففث يقوم التعامففل الجتماعففي
بمقتضاها على أسس خلقية تضمن للمجتمع سلمته وتماسكه وأمنه ،كي ينصرف أكثر إلى شئون
الرتقاء بدولتفه وبحياتفه الرضيفة ،هذا إضاففة إلى العامفل البيئي الذي ارتبفط بفه التعدد وسفنناقشه
بعد قليل.
ولعفل د .كريفم لم يقصفد بالتوحيفد مفا عرففه المصفريون بإله الدولة ،فهفو لم يكفن بالمرة توحيداً إنمفا
اعتراف بسيادة (إله الدولة) على بقية اللهة القليمية .تدعيما لمركزية الحكم ليس إل ،وحتى هذا
الله السففيد كان يتغيففر مففع تغيففر الدولة الحاكمففة ،فهففو بدايففة كان (حور) ،ثففم فففي الدولة القديمففة
(فتاح) ،ثفم (اتوم رع) ،ثفم ففي الدولة الوسفطى الله آميفن أو (آمون) والمندمفج برع ،بفل وكان هذا
الله السيد يدخل باستمرار كضلع أكبر في أسرة ثالوثية (أب وأم وأبن) .وهو أمر طبيعي يتسق
وفكر النسان في المراحل الولى من تطوره ،عندما كان يتصور الله على شبهه ومثاله ،ويسك
مثففل سففلوكه ،ويتزوج ،وينجففب ،ثففم يدخففل هذا التثليففث فففي تتسففيع ،حتففى كان لكففل مدينففة تثلثهففا
وتتسفيعها الخاص ،ولم يكفن النسفان ففي باقفي أنحاء المعمورة أكثفر توفيقاً مفن ذلك .فرغفم اسفتفادة
اليونان والرومان من علوم الشرق وبخاصة مصر ،وكان يفترض فيهم ارتقاء أكثر سيراً مع سنة
التطور ،ولما ورثوه من تراث ثقافي عن مصر ،فإنهم فعل تقدموا وكونوا إمبراطوريات عظمى،
وأضافوا للنسفانية رصفيداً جديداً ،ومفع ذلك كانفت ألهفة الولمفب بالمئات إضاففة إلى كفم هائل مفن
مغامرات اللهة ،كان يتلى هناك بكرة وأصيل.
لكن يبدوا أن د .كريم رأى في التعدد لدى المصريين مثلبة ونقيصة ،تعيب بقية علومهم وفنونهم،
فأراد أن ينزههفم عنهفا ،وغاب عنفه أن ذلك كان أمفر طفبيعيًا سفواء كان آلهفة بالمئات ،أم تثليثفا أم
تتسفيعاً .أم تسفبيعا كمفا حدث لدى الرافدييفن مفن قدامفى السفاميين ،ولم يكفن له أي أثفر مباشفر ففي
تخلف اجتماعفي أو حضاري بفل كانفت مصفر رائدة ففي كاففة المياديفن العلميفة ،بينمفا كان الخرون
في بداءة بداوتهم ينعمون (من النعام) أو على الصح يتمرغون ،أيا كانت ادعاءاتهم ،ولعله يعلم
أن العالم المتقدم اليوم – سفففواء ففففي الغرب الذي يعتقفففد بالتثليفففث ،أو ففففي الشرق الذي يديفففن
بالشتراكيفة العلميفة – يسفمي العالم المتقدم ،لنجازاتفه ففي العلوم الدنيويفة ،ولو قسفناه بمنطفق د.
61
رب الزمان ودراسات أخرى
كريم ،لكان أشد العوالم تخلفاً .أو يصبح واجبًا عليه إثبات أن المريكان والسوفيت موحدين!! وهو
أمر ل شك عسير.
التوحيد والتعددية
وكانففت فكرة التوحيففد فففي مصففر فكرة طارئة ،وحالة واحدة ونادرة ،حدثففت فيمففا يزعففم بعففض
الباحثين ،إبان حكم الفرعون الشاب (إخناتون) ،وانطفأت سريعًا ولم يمضي عليه في الحكم سبعة
عشفر عاماً ،وانقضفى أمرهفا وانتهفى ،بعفد ثورة قضفت على حكمفه ،ولم يعرف مصفيره بعدهفا.
ويذهفب د .كريفم وراء هذا المذهفب – وهفو ففي ذلك معذور – لن ذهابفه كان وراء الرأي السفائد
والتجاه الغالب بيفن الجمهرة ثفم هفو يضيفف إلى حديثفه عفن التوحيفد (الخناتونفي) لوحفه جميلة
للفرعون يسفجد إمام وخلففه صففوف السفاجدين .ولكفن الذي لم يلحظفه د .كريفم وهفو يدلل باللوحفة
على معنى التوحيد ،أن السجود معروف في غالبية الديان ،لدى عبّاد مظاهر الطبيعة والوثنيين،
وليففس سففمة خاصففة بطقففس الصففلة لدى الموحديففن وحدهففم ،والعجففب فففي أمففر إخناتون (وليففس
بعجيب) أن تفرغه لعقيدته لم يجن على دولته المبراطورية سوى النهيار ،بعد أن انصرف عن
شئون دولتفه الدنيويفة ،ومفا تحتاجفه مفن فنون سفياسية وعسفكرية وإداريفة إلى تصفوفه وغيابفه عفن
واقفع دولتفه ففي غيبوبفة غيبيفة ،وبعفد أن ترك له أجداده إمبراطوريفة تمتفد مفن الجندل الرابفع جنوباً
في العمق الفريقي ،إلى تركيا وأرمينيا شمالً ،إلى إيران شرقاً .فقد حلّت بركات الفرعون الشاب
بعفد أن تفرغ لشئون الديفن ،وصفم أذنيفه عفن نداءات السفتغاثة التفي كانفت تصفله مفن الحاميات
المصرية في بقاع المبراطورية تباعاً ،والتي حفظتها لنا رسائل تل العمارنة .تجأر بطلب العون،
ضد الثورات القليمية التفي أخذت تنهش جسد المبراطورية وتقتطعه جزءاً فجزء ،وصاحبنا له
ففي دروشتفه الغيبيفة عفن غرور الدنيفا ،حتفى عادت مصفر مفن بعده تنكمفش داخفل حدودهفا الدوليفة
مرة أخرى (.)3
لكفن العجفب مفن كفل هذا هفو والصفرار على أن (إخناتون) كان موحداً توحيداً مطلقاً ،وهفو أمفر
يثير الشك ،فمن يذهبون هذا المذهب ،من أصحاب الرأي الذيفن تابعهم د .كريم ،لن التدقيق في
منمنمات هذه العقيدة وفســيفسائها ،يكشــف أن كــل أشعار إخناتون وأناشيده ،تشيــر إلى اعتقاده
62
رب الزمان ودراسات أخرى
( )3ل يلو مصدر تناول مصر القدية إل وأسهب ف الديث عن دور إخناتون ف ضياع المباطورية ،ومثا ًل لذلك مصر الفراعنة
لاردنر ،والضارة الصرية لون ولسون ،وفجر الضمي لبستد ،ومصر والشرق الدن القدي للدكتور نيب ميخائيل وغيه كثي.
الجازم أنه هو شخصيا ابن الله (آتون) ،وأن فيه قد حلت قدرات هذا الله وبركاته ( ،)4كما أن
هناك شواهفد قاطعفة على تقديفس الثور المنففي ففي مدينفة إخناتون ،التفي أطلق عليهفا اسفم (أخفت
آتون) ( .)5أمفا الشفك فمدعاتفه عندنفا هفو أن إخناتون قفد تربفى ففي طفولتفه خارج بلده مصفر عنفد
أخواله السفاميين ففي بلد ميتانفي (( )6كانفت أمفه سفامية ،ترجفم اسفمها عفن المصفرية تاي ،ونرى
صفدق الترجمة ضفي أوضياء) ،وأنه عاد إلى مصفر عند موت أبيه ليتولى الحكفم .ومفن هنفا كانت
جنسفيته مصفرية ،أمفا ثقافتفه فسفامية .ويبدو أن ذلك هفو الداففع الخففي الذي دففع الباحثيفن للتغاضفي
عفن عبادة الثور ففي أخفت أتون وتأليفه إخناتون لنفسفه ،وإغفالهفم المتعمفد لذلك ،بحسفبانهم السفاميين
أصفحاب الكتشاف التوحيدي ،بينمفا كفل مفا فعله (إخناتون) ففي رأينفا هفو محاولتفه تسفييد إله سامي
غريففب على مصففر ،اعتاد عبادتففه فففي ميتانففي هففو المعروف باسففم (أدونيففس) ( ،)7أو باللسففان
المصري الرق (أتونيس) ،وأصله (آدون) أو (آتون).
( )4من النماذج الت يزهو فيها إخناتون ببنوته للله آتون (على سبيل الثال):
لقد خلقت الناس
ليعيشوا من أجل ابنك
الذي خلق من أطرافك
ذلك اللك الذي يعيش ف القيقة
أو
طالا أب آتن يعيش
فإن سأقيم اخت آتن
لب آتن
أو وصف وزير خارجيته له بقوله:
أنت الذي يشكل النسانية
ويهب للجيال حياتا
ثابت ثبات السماء
الت يعيش فيها آتن
ارجع إل فليكوفسكي :أوديب وإخناتون ،ترجة فاروق فريد ،وزارة الثقافة ،دار الكتاب العرب ،ص .60 : 58
( )5يقول جاردنر" :وهناك إشارة غريبة جاء فيها أن عجل منف ف هليوبوليس يب أن يدفن هو كذلك ف أخت آتون ،وهي دللة
أخرى على اعتماد التونية الديدة على واحدة من أقدم العبادات ف مصر ،وكان وضع خراطيشه بوار خراطيش آتون تدل على أنه
كان ل ين فر إطلقا من ادعاء ن صيب من ألوه ية أب يه القدس" .ار جع إل سي ألن جارد نر ف كتا به م صر الفراع نة ،ترج ة د .ن يب
ميخائيل ،اليئة الصرية العامة للكتاب ،ط ،1987 ،2القاهرة ،صـ 248و .255
( )6عن تربية إخناتون ف ميتان ،ارجع إل فليكوفسكي ف الصدر الشار إليه أنفا.
63
رب الزمان ودراسات أخرى
( )7عن الله أدونيس ،ارجع إل موضوعنا (إله النس والزهرة – آفاق عربية ،عدد 1989 – 9بغداد) وإل موضوعنا (البعد
السطوري للشيطان ف التراث الشرقي) ملة فكر للدراسات والباث ،العدد ،10القاهرة.
ويبدو أن المصريين قد رأوا في ذلك خيانة للهة البلد الوطنية التي عادة ما كانت ترتبط بمعنى
المواطنفة وبالوطفن ذاتفه ،ومفن ثفم كانفت عبادة آتون خيانفة عظمفى ،اسفتوجبت الثورة على البدعفة
الوافدة ،التفي لم تكفن ثورة مفن وثنييفن مصفريين متخلفيفن ،على ديانفة راقيفة بدويفة سفامية موحدة،
كمفا حاولوا تصفوير المفر ،واسفتحق إخناتون بعفد ذلك أن يلقبفه مواطنوه (مجرم آخفت آتون) ،أمفا
(
تلميفذ المدارس فقفد ظلوا زمانفا يتدربون على كتابفة مواضيفع إنشاء عفن (الخائن مفن أخفت آتون)
.)8
ولعلي أكون مخطئا ،وربمففا أكون مصففيباً ،عندمففا أطرح تصففوري لمسففألة التوحيففد والتعدد فففي
التاريففخ الدينففي ،مرتبطففة بالظرف البيئي ،لكنففه اجتهاد شخففي يصففح قبوله أو رفضففه ،ويقوم هذا
التصور على الفصل والتفريق بين البيئة الزراعية النهرية ،والبيئة البدوية الصحراوية ،ففي البيئة
الزراعيفة تتعفد أشكال الطبيعفة ومظاهفر الحايفة تعدداً ثريفا هائل( ،أنهار دافقفة ،شللت ،أحجار
جامدة ،شجفففر ،طيور ،حيوان ناففففع ،حيوان ضاري ،كائن ضخفففم قوي ،حشرة ضعيففففة ،موسفففم
خصففب ،موسففم جفاف ،أصففوات وضجيففج مففن كففل نوع ،سففيمفونية نعرفهففا نحففن أهففل الوديان
الخصبة ،تضج بالنقيق والعواء والثغاء والتغريد والهدير).
وففي المقابفل نجفد البيئة الصفحراوية ضنيفة بالشكفل واللون والصفوت ،مظاهفر الحياة محدودة جداً
وتكاد تنعدم ،فالصحراء تترامى أطرافها دون طارئ جديد ،فهي رتيبة الوقع متشابهة دائما ،مشهد
واحفد باسفتمرار ،ولون واحفد باسفتمرار ،أصففر مسفترخي يتمطفى ففي كثبان ملتويفة ،وزمفن هادئ
التوقيفع ،نادر المفاجآت ،واليقاع الدائم تثاؤب وقيلولة ففي صفمت ممتفد أبدا .ومفن هنفا نزعفم أن
العامفل البيئي أدى دائمفا بالبدو إلى نظرة مصفبوغة بالتوحيفد والوحدانيفة ،مقابفل أثفر التعدد الهائل
للحياة وصخبها في الحياة النهرية الزراعية ،مما دعى إلى اقتراب البدوي من معنى الواحد مقابل
المتعدد عند المزارع.ومع ذلك عندما كانت تتعد المظاهر ،كان البدوي يعدد فهو مرة يعبد التيس،
ومرة يسفجد للصفخر ،ومرة يثور البركان فيسفجد للبركان مرتعداً ،لكنفه كان التعدد البسفيط السفهل،
بمفا ل يقارن بمظاهفر بيئة المزارع الضجوج الخجوج المتغيرة المتلونفة دومفا ،ومفا كان أسفهل أن
يكشف البدوي قيمة خروفه ،وأهمية القمر في ليل الصحراء الصامت المفزع ،فيقرن بيفن قفرنففي
64
رب الزمان ودراسات أخرى
(" )8ظل جيلن بعد إخناتون يشيان إليه :العود من أخت آتون" ،جاردنر ،الصدر السابق ،صـ .262
الخروف وقرني الهلل ،فيسجد عباداً ،ويهتف الباحثون :مهللين لقد تم التوحيد ،وأصبح الخروف
قمراً ،في أقنوم واحداً!!
مغالطـــات
ويبدو أن د .كريم لم تتقبل نفسه أن تكون هاجر مجرد جارية ،منحها فرعون مصر للنبي إبراهيم
ليتسفرى بهفا ،على مفا جاء ففي التوراة .ول نعلم هفل كان ذلك ترفعفا بهفا عفن ذلك ،أم ترفعفا بالنفبي
عفن معاشرة الجواري؟ وكليهمفا كان واقعفا ففي العهود الخوالي .فلم يكفن هناك حرج على النفبياء
والمؤمنيفن مفن إتيان ملك اليميفن والتسفري بالجواري والماء .لكفن د .كريفم يعامفل الماضفي بذوق
الحاضفر ،فيؤكفد أن هاجفر كانفت إحدى أميرات البيفت المصفري المالك ،ففي السفرة الثانيفة عشفر
الفرعونيففة ،حوالي عام 1890ق.م ،.بالتحديففد والتدقيففق والتمحيففص والتفحيففص المففبين .ثففم ل
يعطينفا أي أفادة بالمرة عفن مصفدر هذا اليقيفن ،ول مفن أي مصفدر آثاري أو آركيولوجفي اسفتقاه!
ونؤكد له ،ولقارئنا الذي نحترمه ونحترم وقفته لمطالعتنا ،أنه ليس هناك مصدر آثاري واحد يقول
ذلك .ولم يعثر حتى الن على وثيقة مصرية واحدة تشير إلى النبي إبراهيم وإلى زيارته لمصر،
ل من قريب ول من بعيد ،ول بالرمز ،ول بالشارة ،ول حتى بنص يحتمل التأويل ،كما لم تشر
النصفوص المصفرية إلى دخول اليهود مصفر زمفن النفبي يعقوب ،مفع ولده النفبي يوسفف ول حتفى
لموسفى ،ول لرحلة الخروج الشهيرة ففي التوراة ،وهفو أمفر أثار حيرة الباحثيفن طويل حتفى اليوم،
وكتفب ففي ذلك مصفنفات شتفى لعلماء أجلء .لم يسفتطع واحفد منهفم أن يعطفي مثفل جزم د .كريفم
الواثفق القطعفي هذا .ونحفن بالطبفع ل ننكفر أن مفا جاء ففي قصفص النفبياء وزيارتهفم لمصفر قفد
حدث ،لن ذلك أمر يعد لدينا بدهية تتأسس على إيمان راسخ بالكتب السماوية ،لكن ما ننكره هو
الدعاء بمفا لم تكشفف عنفه آثار مصفر حتفى الن ،ومفا نسفتنكره هفو أن يقدم لنفا د .كريفم ذلك ففي
صيغة التقرير ،في حين كان يجب عليه تقديمه في صيغة التقدير ،كراي وتقدير شخصي ،وحتى
الرأي الشخصي ل يلقى على عواهنه دون توثيق أو مبررات كافية.
ثفم يجازف الدكتور مجازففة مفزعفة حقفا ،تصفيب الباحفث بهلع شديفد ،فيرففق بموضوعفه لوحفة
فرعونيفة تصفور شخصفيات توضفح سفيماهم أنهفم مفن البدو السفاميين ،وسفبق لي أن لحقفت هذه
65
رب الزمان ودراسات أخرى
اللوحة في المصادر ،فلم أجد عليها تعليقا أكثر من كونها شخصيات بدوية سامية في مصر .لكن
الخ الدكتور يعلق بالقول الجهيفر" :سفيدنا إبراهيفم عليفه السفلم ،لوحفة اكتشففت ففي حفريات مدينفة
منفف حيفث زار معابدهفا ،وتزوج الميرة المصفرية هاجفر عام 1980ق.م .".وهكذا وببسفاطة
يتصفورها هينفة ،هان معهفا عقفل القارئ ،عندمفا يلقمفه القصفوصة وهفو يطالع بحسفن نيفة وثقفة،
ليؤكد فكرة ،هي لوجه الحق جميلة ،لكنها لوجه الحق أيضاً قد صيغت بأسلوب أقل ما يوصف به
أنه نوع من الف (فهلوة) وغير جميل.
ول يقنففع د .كريففم بذلك ،إنمففا يتمادى ،فيعرض لنففا صففورة لهرم (ميدوم) الواقففع غربففي مدينففة
الواسفطى (تبعفد عفن القاهرة 90كفم جنوباً) ،المعروف بالهرم الكاذب لضآلة الكشوف فيفه ،مقارنفا
بلوحففة للكعبففة المكيففة ،مففع التعليففق على صففورة هرم (ميدوم) بالقول" :كعبففة منففف ،هرم ميدوم
الكاذب ،بناه الملك سنفرو مؤسس السرة الرابعة ،بنى قبل الهرم الكبر كرمز لله التوحيد رع،
كان ثالوث معبوداتفه أليفت وعيزت ومنفى" .ول ندري كيفف سفاغ له أن يتحدث عفن توحيفد وتثليفث
في آن معا بل وتربيع بإضافة كبيرهم (رع) .ثم يضيف معقبا" :عندما وصل بنو مناف أو جرهم
إلى أرض مكففة ،أقاموا بيتففا للرب مماثل لمعبدهففم الجنائزي بمنففف ،الذي يطلق عليففه حاليًا هرم
اللهون ،الذي بناه الملك (سنفرو) مؤسس السرة الرابعة ليكون كعبة التوحيد".
والن خلط د .كريفم الوراق جميعاً :فاصفطلح (المعبفد الجنائزي) شيفء ،و(الهرم) شيفء آخفر.
و(هرم منففف) شيففء ،و(هرم اللهون) شيففء ثان .و(هرم ميدوم) شيففء ثالث فهرم اللهون يقففع
قرب هوارة مفن أعمال مدينفة الفيوم الحاليفة ،وهرم ميدوم علمنفا أنفه يقفع قرب مدينفة الواسفطى،
وكليهمفا غيفر هرم منفف المعروف بهرم سفقارة المدرج الذي بناه الملك (زوسفر) ،مؤسفس السفرة
الثالثة حوالي عام 2800ق .م.)9( .
وما يبدو لنا الن هو أن د .كريم عمد إلى خلط الوراق كلها بسرعة خاطفة .وهو عالم بما يفعل
تحقيقًا لهدف مقصود ،هو أن ينقل هرم (ميدوم) إلى منف ليصبح هو الهرم (المنفي) بدل من هرم
سفقارة ،وذلك عفبر ورقفة ثالثفة هفي هرم (اللهون) ،بحيفث يصفبح هرم اللهون هفو (الجوكـر)،
الذي يصفرف انتباه المشاهفد (آسفف :أقصفد القارئ) عفن الورقتيفن الخرييفن ففي الثلث ورقات
66
رب الزمان ودراسات أخرى
( )9أنظر الوسوعة الثرية العالية ،اليئة العامة للكتاب ،صـ .449
(هرم ميدوم بالواسفطى وهفو المقصفود وعليفه العيفن ،هرم سفقارة وهفو هرم منفف الحقيقفي وهفو
المطلوب نسففيانه ،وهرم اللهون بالفيوم وهففو الجوكففر المسففتخدم لرباك الصــيد :أسففف :أقصففد
القارئ) وقبل أن يفيق القارئ لما حدث ،يمد يده يريد ورقة الهرم المنفي ،فيطالعه هرم ميدوم بدل
مفن سفقارة ،فيسفلم القارئ بعفد أن تحول المفر إلى (فزورة) محيرة ،فينسفى سفقارة ول يذكفر سفوى
ميدوم ،وبقدرة قادر ينتقففل هرم ميدوم إلى منففف ،وينتهففي دور هرم اللهون عنففد هذا الحففد بعففد
انتفاء الحاجفة إليفه ويدور عقفل القارئ ففي الطريفق المرسفوم له بعفد أن أصفابه الدوار (ويقنفع بأن
الذي عدى البحر ولم يبتل ،العجل في بطن أمه)!! ويحقق الدكتور ما يريده .وما يريده هو ميدوم
بدل مفن سفقارة هرمفا لمنفف ،ل لشيفء إل لن صفورة هرم ميدوم تشبفه الكعبفة ،وهفو شبفه ل يمكفن
لمسه في الواقع ،إنما يمكن تمريره عبر صور مطبوعة غير واضحة وملتقطة عن بعد ،تزيد في
ضبابيتها عوامل الطبع أو الطبخ ،ومع الطبخ ل يأكل القارئ ملبن إنما يأكل مقلب.
وهرم (ميدوم) مصفاطب تهدم أعلهفا ،إضاففة إلى أنفه أقرب إلى التكعيفب ،وكان للعوامفل الجويفة
وللتعرية أثرها في تآكل الطبقة الملساء من صفائح الجير البيض التي تشكل كسوة للحجار ،وقد
حدث التآكفل على شكفل شريفط عنفد الثلث العلى مفن الهرم ،فبدا لعيون د .كريفم شبيهفا بالشريفط
الذي يحيفط بالثلث العلى مفن الكعبفة ،وهفو عمفل فنفي حديفث جدا قام بفه المصفريون المحدثون
المسففلمون ،عندمففا كانففت مصففر ترسففل للكعبففة كسففوتها ،وكان الغرض مففن هذا الشريفففط غرضاً
جمالياً فنياً بحتاً ،كتبفت عليفه آيات مفن القرآن الكريفم ليفس أكثفر ،ولم يكفن أصفيلً ففي بناء الكعبفة
ذاتهفا .ومفن هنفا قام د .كريفم بمجازفتفه الهائلة ليقول :إن الكعبفة أنشأهفا أهفل منفف المهاجريفن ففي
الحجاز على غرار كعبتهم المنفية (هرم ميدوم) الذي ليس أصل في منف ،إنما في الواسطى ،ول
هفو بكعبفة ،إنمفا مثوى لجسفد الملك (والمصفادفة الطريففة هنفا أنفي مفن مواطنفى مدينفة الواسفطى
أصلً ،وحلي لي أن أزور غرفة المدفن الملكي مجددا ،عند معالجة الموضوع ،وكتبت هذا الجزء
وأنفا جالس ففي اسفتراحة هرم ميدوم أطالعفه عفن كثفب ،أقلب أمره وأتسفاءل :هفل ظلمفه د .كريفم أم
أنصفه؟ لكني على أية حال لم أجازف بقراءة الفاتحة على روح الملك).
67
رب الزمان ودراسات أخرى
يؤكدهفا! وحتفى يكسفب ثقفة القارئ ،يقدم لهفا الدعفم مفن نصفوص آثاريفة ،لكنفه للسفف يتدخفل ففي
النصوص ،ويردف بها ما ليس فيها ،ويقّولها ما لم تقل ،ليكتسب رأيه ثقة القارئ المسلم ،وهو ما
فعله مفع الحكمفي (آيبوور) ذلك الحكيفم المصفري العظيفم ،الذي بلغفت حكمتفه وشهرتفه حدا دففع
(برسففتد) إلى وصفففه بالنففبي ( ،)10وهففو إذ يختار رجل محففل ثقففة واحترام مثففل (آيبوور) ،يقول:
"ويضيففف آيبوور كيففف هرب أهففل منففف إلى الصففحراء الشرقيففة وجنوب الوادي" ،ثففم يردف
مسفتمرا كمفا أن الحديفث لم يزل ليبوور "وعفبروا البحفر إلى الجزيرة العربيفة ،حيفث أطلق عليهفم
هناك اسم بنى مناف أو منف"؟! وهكذا رغم جمال فكرته واحتمال صدقها ،يدمر المر كله بنسبه
كلم للرجل الحكيم ،هو منه برئ.
وحتفى يزيدنفا السفيد الدكتور تحسفراً على جمال أفكاره ،وإمكان إثبات صفدقها بالسفلوب العلمفي،
يضيففف مففن عندياتففه القول :إن فرعون موسففى المعروف بأنففه رمسففيس الثانففي (وبالمناسففبة هذا
فرض مررتففه الكتابات الصففهيونية ولم يتأكففد صففدقه العلمففي) ،كانففت له زوجففة مؤمنففة موحدة،
فأرسففلت مففع قائد الجيففش المصففري الذي كان بدوره مؤمنففا موحداً ،كسففوة إلى الكعبففة ،صففنعت
خصفيصاً لهذا الغرض ،وقفد حدث هذا المفر سفرًا بالطبفع ،لن زوجهفا رمسفيس الثانفي كان كافراً
أثيمفا (ول يغيفب عفن القارئ أنفه هفو الفرعون الذي ترك لمصفر أهفم العمال المعماريفة والفنيفة
العظيمففة وصففاحب غزوات وفتوحات تحسففب لمصففر كلهففا) ،وهكذا يكون المصففريون قففد بدأوا
صفناعة كسفوة الكعبفة وإرسفال المحمفل للحجاز مفن ألوف السفنين ،ول مانفع أن نتخيفل هنفا (ليفل
مراد) تلبفس تاج القطريفن ،وتغنفي على صفوت الدفوف وهفي تودع قائد الجنفد( :يفا رايحيفن للنبفل
الغالي ،هينالكم وعقبالي)؟ ،وندخل مع د .كريم إلى تمثيلية رمضانية ،يتسلط فيها فرعون الجبار،
وتلتقفي فيهفا الزوجفة الملكيفة سفراً بأخيهفا ففي اليمان ،قائد الجنفد المغوار ،ويتعاهدان عنفد أسفتار
الكعبة في حب ال ،وحتى تأتي النهاية السعيدة ،فإن حبكة الدكتور كريم الدراماتيكية استلزمت أن
يخالف حتفى النفص الدينفي ،ويؤكفد أن رمسفيس الجبار قفد أكرمفه ال باليمان بعفد أ ،رأى معجزة
فلق البحر بالعصا ،فنجا من الغرق والحمد ال.
68
رب الزمان ودراسات أخرى
( )10جيمس هنري برستد :فجر الضمي ،ترجة سليم حسن ،ص .207
ثففم وفففي نهايففة موضوعففة ،يقول بذكاء أريففب .... " :وبعففد ،فهذه مجرد أراء تاريخيففة قففد يصففح
بعضها ،ويخطئ بعضها ،ولكن في قراءتها فائدة" وبذلك يعتذر مقدما لمن يكتشف أمرا فيؤكد أنها
(مجرد آراء) ،والرأي يحتمل الصواب والخطأ ،لكنه ينثني للقارئ العادي المستسلم ليكمل عملية
الحقفن قائلً :إنهفا مجرد آراء ،ولكنهفا (تاريخيفة) ،حتفى يثبفت المفر عنده ،ثفم يصفيب هدففا ثالثاً
(سفيرا على سفنة الثلث ورقات) فيحقفق لنفسفه أهفم صففات العالم وهفي التواضفه ،متصفوراً ذلك
يعفيه من المآخذ.
ولوجففه الحففق فل شيفء خاص بيننففا وبيففن الرجفل إل الحرص على القارئ الذي يتلقففى المعلومففة
بحسفن نيفة وثقفة ففي الكاتفب ،والحرص على سفيادة المنهفج العلمفي وشروط البحفث العلمفي دون
الشخاص ،خاصة في ظروفنا الحالية ،ومحاسبة من يتخطاه حتى ولو كان الغرض نبيلً وجميلً،
فالغايفة ل يمكفن أن تفبرر الوسفيلة خاصفة ففي مجال البحفث العلمفي .ونحفن أشفد ما نكون حاجفة إلى
الصدق العلمي ،فإن ذهب بدوره ،فكل إذن إلى ضياع.
ومرة أخرى أكرر للسفيد الدكتور أنفه ليفس مفن الضروري أن يكون التوحيفد هفو المجفد الذي يجفب
أن تكون مصفر قفد اكتشفتفه ،فمجفد مصفر ل ينكره إل حاقفد أو متجاهفل أو كليهمفا ،وهفو إنكار ل
يشكل أية قيمة ،لننا نعلمه اعترافا بدواخلهم ،وعجزا في طوايا ضمائرهم ،وقصورا في هممهم،
وشلل قعيدا في تاريخهم ،هذا إن كان لهم تاريخ.
69
رب الزمان ودراسات أخرى
فففي يوم ،6/8/94احتفلت فففي غرفتففي رقففم 437بالجناح التاسففع بمسففتشفى الهرم ،برفففع أهففم
الممنوعات :القراءة ،واسففتعدت نظارتففي العزيزة –بسففعادة غامرة ،وفتحففت صففحيفة أهرام ذلك
اليوم ،بعفد انقطاع دام حوالي الشهفر عفن القراءة لتسفتوقفني مرثيفة الصفديق (عزت السفعدني) على
أيام زمان وحضارة زمان ،عندمفا كنفا جوهرة التاريفخ ودرة الزمان والمكان ،وإمعانًا ففي الحتفال
المقام على شرف النظارة والسفماح بالقراءة رأيفت مشاكسفة الرجفل ،بمناقشفة سفريعة لمفا قال ففي
مقاله "زنوبيفا ..امرأة بألف رجفل "،لكفن طبيعفة العلم غالبفة ،فانجرف منفي المقال مفن المشاكسفة
إلى مرثية كاملة على حال المة ،رفع ال عنها الغمة.
ومفع ذلك ،فإن شهادة واحفد مفن هؤلء النكرات ،تعدل شهادة اثنتيفن مفن عالمات الذرة ،ومفا زالت
المهندسة أو الطبيبة أو المحامية ،تساوي نصف بائع الملوخية أو أحد صبيان بائعي الباطنية (؟!)
ول نفهفم عفن عالمفة النثروبولوجيفا أو البيولوجيفا ،سفوى أنهفا عورة يجفب أن تسفتتر وأنهفا للسفيد
الذكففر مجرد متاع ،ثففم نقففف نتسففاءل لماذا نحففن فففي ضياع؟ إنففه السففؤال الزائف زيففف الوهففم
الذكوري ،والخيانة الذكورية للمرأة (كفففأم وكزوجة وكشقيقة وكابنة وكصديقة وككاتبة وكعالمفففة
70
رب الزمان ودراسات أخرى
(ومن صـ 84-79ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
وكمناضلة وكحبيبففة ،وكجمال خصففيب تتصففحر بدونففه الرض الخضراء) ،إنففه السففؤال الملتوي
الملتفف الهارب مفن السفؤال الحقيقفي حول حجفم الخيانفة الذكوريفة للتاريفخ نفسفه ،ول ريفب أننفا
بحاجة إلى صدق كاف لنمتلك جرأة طرح السؤال الحقيقي دون خجل.
والمسفألة بالسفاس مسفألة منهفج ،فالعنوان المندهفش يدلل بوضوح على مدى تكريفس منهفج الثبات
المسفبق ففي عقولنفا ،الذي كرس ففي داخلنفا نظرة دونيفة تبخيسفية للمرأة ،حتفى لو أظهرنفا التقدميفة،
إنه منهج الذكورة البدوي.
زنوبيـــــا والجــــــن
يحكفي السفتاذ عزت السفعدني ،أنفه ذهفب إلى مدينفة زنوبيفا (تدمفر) فأبهرتفه عظمفة البناء وفنون
الهندسة وروعة التخطيط حتى ردد قول أهالي المنطقة" ،إن الجن من أعوان سيدنا سليمان عليه
السلم ،هم الذين بنوا وشيدوا تدمر العظمية ،ومعابدها وأسواقها وحماماتها ومسارحها .وهذه آفة
أخرى من آفات منهجنا في التفكير ،أودت بنا إلى ما نحن فيه ،في قاع العالم مع الجن والشياطين،
فالحديففث نموذج أمثففل لمنهففج تفكيففر جماهيففر أمتنففا العريضففة الغليظففة (والعدد فففي الليمون كممففا
تعلمون) ،لكففن المصففيبة أعظففم ،حيففث أن ذلك ليففس حديففث العامففة ،بففل أصففبح حديففث الخاصففة،
والنكى أنه حديث كتبنا التراثية ،التي تمل أرفف المكتبة العربية ،ويوصف أصحابها بأنهم علماء
المفة (؟!) ،وسفتجد ففي كفل صففحة مفن تلك المصفنفات شتفى أنواع العفاريفت ،ورتبهفم ،ودياناتهفم،
وصففاتهم ،ودورهفم ففي بناء كفل ألوان المعمار العظيفم ففي الحضارات القديمفة .وهفو مفا يحمفل
دللت واضحة على تهافت منهج عاجز عن التفسير يلجأ إلى منطق المعجزة ،ويكشف عن عدم
تصففور أي بدائل ،وعففن مدى كسففل ذلك العقففل ليجاد تفسففير سففليم ،فأي نموذج معماري عظيففم
الشأن ،يسففففتدعي على الفور مقاوليففففن ومهندسففففين مهرة مففففن السففففعالي والغيلن وشمهورش
وجمهورش وطرطيففش (؟!) فالبدوي فففي تفرقففه القبلي ،لم يكففن يتصففور أبداً ،إمكان قيام النسففان
بمثل تلك العمال الهائلة ،وهو ما قيل في بناء سور الصين الذي بناه ذو القرنين والجن من أتباع
سليمان ،كما قيل في قصور بابل وحدائقها المعلقة ،وإن ثبت عدم وصول جن سليمان إلى وادي
النيل ،فل شك إذن أن بناة الكرنك والهرام ،كانوا عمالقة الجسام ،حتى يتمكنوا من ذلك النشاء
71
رب الزمان ودراسات أخرى
الهائل .إنهفا عقليفة الدونيفة والقزميفة والكسفل والسفترخاء ،بفل والتكاسفل عفن مجرد تصفور بشفر
يقومون بتلك العمال العظيمفة ،فالعظمفة ليسفت للنسفان الغفر المفتون إنهفا دومفا لذلك القابفع وراء
الطبيعة ،للجن والعفاريت! ثم إن المر على المستوى الجتماعي ،يعبر عن فرقة أصلية ،وقبلية
متجذرة ،وعقليفة ل تعرف التوحفد ففي وحدات سفياسية كفبرى تقوم بالمشاريفع الضخمفة ،وتكاتفف
البشر في توحد منتظم متين.
والمعلوم أن (سففليمان) هففو المؤسففس الحقيقففي لدولة إسففرائيل فففي فلسففطين ،حوالي عام ألف قبففل
الميلد ،والغريب هو ذلك اليمان الثابت في العقل بصدق ما جاء عنه في المأثور ،والعجب هو
اسفتمرار ذلك اليمان حتفى الن ،لينسفب للسفرائيليين كفل المجاد رغفم تحولت الزمان ،ودخول
بلد الحضارات القديمففة إلى الدائرة العروبيففة ،ثفم مزيفد مفن التبدلت ومففا يحدث اليوم بقيام دولة
إسرائيل في فلسطين مرة أخرى ،بعد أن دمرها لنا الرومان ،في سالف الزمان.
إننفا ل نقرأ التاريفخ ،بفل فقدنفا الذاكرة التاريخيفة ،بفل والحفس الوطنفي والقومفي وبقفى المأثور وحده
يرففع يده بعلمفة النصفر فوق رؤوسفنا (؟!) فلم نفر المتغيرات ،لن الثبات هفو المبدأ ،والمبدأ هفو
الثبات ،الحركفة تخيفنفا ،والتغييفر يرعبنفا ،والسفؤال يبهتنفا ،والجديفد بدعفة ،وكفل بدعفة ضللة ،إذن
فليحيففا الثبات على المبدأ ،وليكففن السففرائيليون هففم بناة حضارتنففا القديمففة جميعففا كمففا يزعمون،
أقصفد كمفا نزعفم نحفن ،مفا دمنفا نومفن بعفاريفت التراث ،ونحمفل على أكتافنفا تراث العفاريفت (؟!)
وإذا كان جن سليمان قد قاموا بكل تلك النجازات ،فهل يهون عليهم شفاء مرضى هذا الزمان؟ ثم
نتساءل لماذا تنتشر كتب العفاريت على أرصفة الشوارع وفي المكتبات؟
72
رب الزمان ودراسات أخرى
ويبدو أن صديقنا أراد تأكيد ما سمعه عن النجازات الجنية للعفاريت لسليمانية ،فأورد ما جاء في
كتاب (روبرت وود) –وللحقيقفة أنفا ل أعلم مفن هذا الوود– حيفث قال" :أنفه قفد جاء ففي التوراة مفا
يففففيد أن سيدنا سليمان هو الذي بنى تدمر ،وأطلق عليها اسم بالميرا" ،هذا رغم الفارق الزمنففي
بهذا المنطففق يجففب علينففا أن نؤمففن إيمان العجائز بفضففل السففرائيليين الذيففن فضلهففم ال على
العالميفن ،وأن نؤمفن بهفم كتاريفخ لنفا ،وهفو الحادث وففق تلك المنظومفة المأسفورة (آسفف أقصفد
المأثورة) ،بحيففث تربعوا داخلنففا منففذ سففنين طويلة مضففت ،منففذ حفظنففا قصففص إسففرائيل وبنففي
إسرائيل المؤمنين ،وقصص الكافرين من أجدادنا الفراعين ،لننقلب نحن على تاريخنا الحقيقي ،ثم
نتحدث اليوم بوجل عن الغزو الثقافي السرائيلي؟ أل يستحق المر أن نقول :عجبي!!
تاريخ العجول
ويقول الستاذ السعدني ،أنه قد رافقه في رحلته إلى تدمر ،السيد (خالد السعد) ،الذي وصفه بأنه
"حجة في الثار التدمرية" ،وأن هذا الحجة قد أفاد صديقنا علماً نافعًا بقوله :إن العبد هناك كان
لعبادة إله باسففم (بففل) ،وكان مففن الوفففق لو قال له اسففمه بالعربيففة أو الحقيقففي بالسففامية القديمففة،
فأسففمه العربففي هففو (بعففل) ،لكففن المرافففق الحجففة قرأه فففي كتففب الفرنففج ،ومعلوم عدم احتواء
الحرف اللتينية على حرف العين ،مما أسقطها في لسان رجل الثار .ومعلوم أن (بعل) كان إله
المطففر والخصففب والصففواعق ،ولم يزل الفلح المصففري يطلق على النبات الذي سففقته السففماء
بمطرها لقب (البعلي) .وهو ذات الله الذي انتقلت عبادته إلى جزيرة العرب ،على يد (عمرو بن
لحفي الخزاعفي) فيمفا تزعفم كتفب السفيرة ليعرف هناك باسفم (هبفل) بعفد إضاففة (هفف) أداة التعريفف
ففي العربيفة الشماليفة القديمفة ،ومفع إضاففة الهاء سفقط حرف العيفن بقوانيفن اللسفانيات نتيجفه وجود
الهاء المفخمة فنطق (هبل) بدل من (هبعل).
أمفا مفا جاء بالموضوع عفن عبادة إلهيفن آخريفن ففي تدمفر همفا (يرحبول) و(عجلبول) ،وتفسفير
الستاذ السعدني بأنهما إلها الشمس والقمر ،فهو ما يحتاج إلى تقويم ،فكل اللهين بعلي ،فالمذكور
باسفم (يرحبول) مركفب مفن ملصفقين همفا (يرح) و(بعفل) ،وكان القمفر يمسفى (يرح وأرح) ومنفه
أخفذ اسفم (أريحفا) أي القمريفة ،كمفا كان ينطفق (يرخ وأرخ) ومنفه أخذت كلمفة (التاريفخ) باعتبار
73
رب الزمان ودراسات أخرى
القمفر رمزاً لدورات الزمان ،وبعفل المرأة ربهفا وسفيدها ,وعليفه فمعنفى (يرحبول) هفو السفيد أو
الله القمر ،وعلية يقاس أيضاً (عجلبول) ،فهو الله العجل ،ول عجب ،فقد قدس القدمون العجل
أو الثور ،حتفى لقفب الملوك أنفسفهم بلقفب (ثور) تشبهفا باللهفة القويفة ،اللهفة الثيران ،وقفد قرن
الثور أو العجل بعبادة القمر ،بالمقارنة بين شكل الهلل وشكل قرني الثور ،وما بينهما من تشابه،
فكان الهلل هفو ثور السفماء اللهفي ،ومفن ثفم فإن (يرحبول) إنمفا يرمفز للقمفر عندمفا يكون بدراً،
أما عجلبول فيرمز للقمر عندما يكون هللً ،لقد كانت عبادة قمرية ،ذات دللة عروبية .ولم تزل
للهلل قدسيته ،فالشهور قمرية ،والتاريخ قمري ،والصيام قمري ،والزمن العربي كله قمري ،كله
يرحبول ،كله عجلبول ،بمنهج الثبات على المبدأ.
حكاية المنهج
مفا الذي دفعنفي وأنفا على سفرير المرض إلى كتابفة مفا كتبفت الن؟ لقفد بدأ المفر بمشاكسفة صفديق
مفن باب المداعبفة التفي ل تفسفد قضيفة الود ،لكفن يبدوا أن موضوعفه قفد نكفأ الجراح واسفتدعى
استنفاراً داخلياً إزاء كل النماذج التي تمل أرفف المكتبة العربية ،وأرفف العقل العربي ،وبالطبع
صحفنا الغراء ،تكرر وتردد بثبات ويقين ،تزيد وتضيف ،من ذات الرصيد إلى ذات الرصيد ،ول
تضيففف إلى مزيداً مففن المعلومات المتحفيففة إلى معلومات حجريففة ،وتتنافففس فففي ذلك مففع التلفاز
الميمون ،لينافسففوا جميعاً الرصففيد الصففيل فففي "دوجمتففه" وثباتففه عنففد الصففول ،وإن أرادت
المعاصفرة والتحدث بحداثفة ،رددت معلومات مغلوطفة ،مغلففة بأسفلوب حكائي مزوق ،دون النظفر
إلى مففا تفعله فففي عقول الناس ،ثففم نسففأل أنفسففنا :لماذا الصففولية؟ لماذا الرهاب؟ إنهففا النتيجففة
الخرى لذات المنهج! أسئلة يكمن وراءها الثبات على المنهج الوحد ،فكل شيء واضح لكنا نريد
أن نرى ،فقط هذه المسألة!
لذلك كله انتهزت فرصة ذلك المقال ،لمل فراغ الوقت لحين استكمال المشوار العلجي الطويل،
لنففه فتففح كففل الجراح دفعففة واحدة ،وتحدث فففي صففميم همومفي ،وبقدر مفا كان (روتيففن) وزارة
الصفحة مزعجًا بفل وبشعاً ،بقدر مفا كان (روتيفن) التاريفخ ثابتًا سفاكناً مترهلً نائماً يرنّم تشخيرة
واحدة رتيبفة .وبقدر مفا شعرت بطعفن ألم المرض ففي قلبفي ،بقدر مفا لم يعفد بالمكان تحمفل مزيفد
74
رب الزمان ودراسات أخرى
مفن الطعفن ففي رأسفي وآمالي وأحلمفي ففي مسفتقبل هذا البلد وتلك المفة ..إنهفم يقتلون أحلمنفا يفا
سادة!!
المنهج يا سادة" ،الدوجمة" المسبقة ،واليقين القطعي ،وغياب العقل النقدي ،والتكاسل المخيف عن
بذل الجهد ،يفرض ظله السحري على حياتنا ليفسد علينا كل شيء ،الفرؤية الستاتيكية للتراث،
التفي ل تربطفه بواقفع ،بقدر مفا تعتفبره شيئاً فضائياً جاء مفن فراغ ،رغفم تزلزل كفل البنفى التحتيفة
التفي قام فوقهفا ،حقاً نحفن أغرب أمفة أجرجفت للناس .نخلط التراث ،بمسفلمات مفا أنزل ال بهفا مفن
سفلطان ،بالحكفي الشعفبي ،بالتاريخ الحقيقي مفع تزييفف نموذجي ليلتقي بالمأثور الدينفي ،كما نفعفل
في حكاية العلم واليمان التليفزيوني لنرضي في النهاية اليمان التليفزيوني ،ونرضي أنفسنا التي
تركن للسكون والترهل ،ويرضى المتاجرون بمصير المة بما ربحوا.
وأثناء ذلك نسقط دون وعي في شباك التاريخ السرائيلي ،لنكتب لهم ،نيابة عنهم ،أمجد التاريخ،
ونَسُب أسلفنا وبناة حضاراتنا الكبرى بأقذع سباب اخترعه النسان ،وهو النموذج الذي مثله هنا
بناء جن سفليمان لمدنية تدمر! وهو نموذج بسيط إزاء الكم الهائل المتراكفم على أرففنا مفن زاد ل
تنفففد خزائنففه ،وهفو التراكففم الذي يجعلنففا نتخففذ مففن المأثور مرجعيففة ومقياسفًا ومعياراً لك شيفء،
ونزنقفه حشراً ففي كفل أمفر ،ومثله مفا جاء في المقال المذكور أن (بعفل) هفو الله البابلي (مردوك)
وأن (مردوك) قد تم تكسيره على يد النبي إبراهيم.
هكذا ببسفاطة نلقفي القول ،فقفط لن إبراهيفم كسفر أصفنامًا كمفا جاء بالقرآن الكريفم ،ولن بعفض
المؤرخين قالوا أنه عراقي الصل ،ولن مردوك كان أحد آلهة العراق ،فلبد إذن أنه لم يسلم من
فأس إبراهيم (؟!) بال ماذا يمكن أن يفعل مثل ذلك الكلم بقلبي المريض؟ إن قولً كهذا كي تثبته
أو تنفيففه ،عليففك أن تكرس له مففن عمرك سففنوات ،وعندا تكون أي دراسففة مففن دراسففاتي قففد
اسففتغرقت مففن عمري زمناً ،وأعملت المرض فففي قلبففي ،فإن إلقاء القول هكذا على الناس ،وفففي
ظروفنا ،ومع حالتي ،يصبح قتلً حقيقياً.
مرة أخرى إنفه منهفج الترديفد ،وأقول لصفديقي الذي ل أشفك ففي نواياه :إن البحفث عفن المعرففة
الصفادقة هدف إنسفاني وعظيفم ،والبحفث الذي يسفعى لتحقيفق مطامحنفا الوطنيفة والقوميفة ل شكفل
أعظم ،لكن كي يكون المر بحثاً ،وكي يثمر نتائج ل تدفعنا إلى مزيد مما نحن فيه ،فحاجتنا أكبر
75
رب الزمان ودراسات أخرى
للتخلص مفن أوهام المنهفج الثابفت الوحفد ،حتفى ل نتصفور أننفا نداففع بإخلص عفن قوميتنفا ،ونقفع
ففي التعصفب القبلي ،لنصفوا يوماً ونكتشفف أننفا داخفل القفبيلة السفرائيلية ،وسفبط مفن أسفباطها،
خاصة في هذه اليام ،التي بدأ فيها التاريخ يردد صداه ،ويعكسه على رؤوسنا ...سلم ...سلم.
وعليكم السلم.
76
رب الزمان ودراسات أخرى
(كمال الصليبي) ،أصبح اسما مطروحا في المنتديات الثقافية ،ومتواتراً في هوامش البحوث التي
تتناول تاريخ القبائل السرائيلية ،أو ما تعلق بها من أبحاث في المجتمع أو الدين أو القتصاد أو
السياسة .وعلى مستوى النتشار أخذ اسم (الصليبي) موقعه من غرابة النظرية التي يطرحها في
مؤلفاته .وعلى مستوى البحوث العلمية أخذ مكانه من باب تثمين مضطر للنظرية ،سواء بالتفاق
أو الختلف ،لمفا قدمفه الرجفل مفن جهفد وقرائن على نظريتفه ،المفر الذي يجعفل مفن فسفاد الرأي
التغاضي عنها ،عند بحث شأن من شئون الجماعة السرائيلية.
ونظرية (الصليبي) تذهب –عمومًا وبإيجاز– إلى احتساب القبائل السرائيلية ،قبائل عربية قحة،
سبق أن عاشت في جزيرة العرب في الزمة التوراتية القديمة وبالتحديد في منطقة عسير غربي
الجزيرة ،وأن جميع الحداث التي قدمتها التوراة كمادة تاريخية وثائقية عن بني إسرائيل من فجر
تاريخهم ،إنما حدثت جميعا في بلد عسير العربية ،وكانت أهم براهين الباحث وقرائنه ،ومكمن
قوة نظريته قد جمعت تقريباً وحشدت في كتابه الول ،The Bible Come From Arabia
المترجم عن الصل اللماني ،Die Bible Kam aus dem Lande ASIRوقد ترجمت
النسخة النجليزية إلى العربية تحت عنوان" :التوراة جاءت من جزيرة العرب".
وقفد أتبفع الباحفث ذلك الكتاب بكتابيفن آخريفن وإن كانفا أقفل تماسفكاً وأدنفي ففي الدرجفة وففي قدرة
القناع عفن كتابفه الول ،قدمهفا للتخديفم على نظريتفه السفاس التفي ضمنهفا كتابفه الول ،ومفن ثفم
جاء على قدر واضففح مففن الهزال والضعففف والتعسففف ،أولهمففا بعنوان (خفايففا التوراة) والثانففي
بعنوان (حروب داود) ،لذل سفيكون مناط حديثنفا هنفا مادتفه السفاس وملطفة الخرسفاني مفن كتابفه
الول (التوراة جاءت من جزيرة العرب).
والدكتور (كمال الصفليبي) يعمفل رئيسفًا لدائرة التاريفخ بالجامعفة اللبنانيفة ،فهفو أسفتاذ َدرّس مادة
التاريخ –فيما علمنا– لكثر من ثلثة عقود متصلة ،ويبدو لنا أنه قد ركن إلى قناعة ينضح بهففففا
77
رب الزمان ودراسات أخرى
سطور العهد القديم من الكتاب المقدس ،عند حديثها عن الرب التوراتي (يهوه) وهي القناعة التي
ل تهتز أمام الصفات التوراتية ليهوه ،بأنه لم يكن أكثر من بركان ،أو على القل أن البركان كان
أبرز رمفز تجلي فيفه ،وهفو البركان الذي توجفه إليفه الخارجون مفن مصفر بقيادة موسفى النفبي ،ففي
جبفل باسفم (حوريفب) ،ويذكفر مرات باسفم جبفل (سفيناء) .فإن المتوقفع تماماً أمام التفاصفيل التفي
تحدثت عن صفات (يهوه) ،أن نجد ذلك الجبل البركاني في شبه جزيرة سيناء ،لكن المشكلة التي
واجهت الجميع ،هي تأكيدات جاءت تؤكد أن سيناء لم تعرف البراكين أطلقًا طوال تاريخها.
وربمفا كان مفن الوففق الرجوع إلى بعفض نماذج صففات الرب (يهوه) ففي التوراة ،والتفي كونفت
القناعة بالرب البركاني
لدي (صفليبي) –ومفن أن يذكرهفا–ولدى كثيفر مفن الباحثيفن ،ولدى كاتفب هذه السفطور ،ومفن تلك
النماذج:
* وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ..وليلً في عمود نار (خروج .)13/21
* وحدث في اليوم الثالث لما كان الصباح ،أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل ..
وأخرج موسفى الشعفب لملقاة ال ..وكان جبفل سفيناء كله يدخفن ،مفن أجفل أن الرب قفد نزل عليفه
بالنار ،وصـعد دخانـه كدخان التون ،وارتجـف كـل الجبـل جداً ..ونزل الرب على جبفل سفيناء إلى
رأس الجبل (خروج .)20-19/16
* على الرض أراك ناره العظيمة ،وسمعت كلمه من وسط النار (تثنية .)4/36
* يمطر على الشرار فخاخاً ،ناراً وكبريتًا وريح السموم (مزمور .)11/6
* فارتجـت الرض وارتعشـت أسـس الجبال ،ارتعدت لنفه غضفب ،صفعد دخان مفن أنففه ونار مفن
فمه (مزمور .)12-18/6
* صوت الرب يقدح لهب نار ،صوت الرب يزلزل البريه (مزمور .)29/7
* وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على رأس الجبل ،أمام عيون بني إسرائيل (خروج .)24/17
78
رب الزمان ودراسات أخرى
وه فنا ،لن يجد أي مهتم بدراسة التاريخ السرائيلي سوى التسليم ببركانية الله ،ثم التسليم أيض فاً
بالمأزق الشديفد المحيفر ،إزاء مفا أفادنفا بفه الباحثون أن شبفه جزيرة سفناء لم تعرف البراكيفن طوال
تاريخهففا .ويبدوا أن المأزق ظففل علمففة اسففتفهام مؤرقففة لصففليبي ،حتففى تصففادف وطالع كتباً
تفصففيلية ،لجغرافيففة شبففة جزيرة العرب ،أشعلت لديففه فكرة جديدة تماماً ،يمكففن أن يكون فيهففا
الخروج مففن المأزق الذهنففي الملحاح ،وأسففئلته الحائرة المؤرقففة .حيففث وجففد تطابقاً مدهشًا بيففن
مواضفع أسفماء كثيرة بجبال عسفير –وهفي جبال بركانيفة عموماً– وبيفن السفماء التفي وردت ففي
التوراة ،للمواضففع الجغرافيففة القديمففة فففي تاريففخ إسففرائيل التوراتففي .وعندمففا قام بعمليففة تدقيففق
لحداثيات تلك المواضفع ،انتهى إلى يقينفه الذي وضعفه في شكل كشفف خطيفر بحفق ،يؤكفد أن كفل
الحداث التوراتيفة إنمفا جرت ففي جبال عسفير ،وأن السفرائيليين عرب أقحاح ،وأنهفم لم يدخلوا
إطلقاً مصفر الفرعونيفة ،ولم يخرجوا منهفا قفط ،وأن هناك مغالطفة تاريخيفة هائلة ،أدت إلى هذا
الخطفأ التاريخفي العظيفم ففي معارفنفا ،وأنفه ممفا يدعفم وجود تلك المغالطفة ،هفو غياب أي دليفل
وثائقي مباشر في مدونات مصر القديمة ،يشير إلى دخول السرائيليين إليها أو خروجهم منها ،أو
إقامتهفم فيهفا .ومفن هنفا شمفر الدكتور الصفليبي عفن همتفه بإعادة النظفر ففي الجغرافيفا التوراتيفة
ل إثبات أن جميفع الحداث التفي جرت والمواقفع التفي حدثفت بهفا تلك الحداث ،لم تقفع ل ففي
محاو ً
مصر ،ول في فلسطين ،ول فيما بينهما (سيناء) ،بل وقعت جميعا بل استثناء في مرتفعات عسير
بجزيرة العرب ،معتمداً على تحليل لغوي مقارن ،طابق فيه بين المواضع الجغرافية التي أوردتها
التوراة ،وبين مقابلها في غربي جزيرة العرب.
أساس الكتاب
وكان أهم تبرير قدمه (صليبي) لمذهبه ونظريته ،هو ما جاء في قوله" :ففي حين أن تاريخية عدد
مفن الروايات التوراتيفة بقيفت عرضفة للنقاش الحاد ،فإن جغرافيفة هذه الروايات اسفتمرت معتفبرة
مفن المسفلمات ،والحقيقفة السفاطعة ،هفي أن الراضفي الشماليفة للشرق الدنفى ،قفد مسفحت وحفرت
من قبل أجيال متوالية من علماء الثار ،ومن أقصاها إلى أقصاها ،وأن بقايا العديد ن الحضارات
المنسية قد نبشت من تحت الرض ودرست وأرخّت ،في حين أنه لم يعثر في أي مكان كان على
أثر يتعلق مباشرة إلى أي حد بالتاريخ التوارتي .وأكثر من ذلك ،فإن التوراة العبرية تذكر اللف
79
رب الزمان ودراسات أخرى
من أسماء المكنة من قلة قليلة ،تماثلت لغويًا مع أسماء أمكنة في فلسيطين .. ،وحتى في الحالت
القليلة التفي تحمفل فيهفا مواقفع فلسفطينية أسفماء توراتيفة ،فإن الحداثيات المُعطاة ففي النصفوص
التوراتيفة للماكفن التفي تحمفل هذه السفماء ،ففي إطار الموقفع ،أو المسفافة المطلقفة ،أو النسفبية ،ل
تنطبق على المواقع الفلسطينية ..وسجلت مصر والعراق القديم ،قد قرئت على ضوء النصوص
التوراتيفة ،والتفي أجفبرت على إعطاء مؤشرات جغرافيفة أو تاريخيفة ،تتواففق مفع الحكام المسفبقة
()1
لدي البحثين التوراتيين"
ومفن هنفا أسفس الباحفث عمله بالركون إلى تلك السفلبيات التفي طرحهفا ،حول التاريفخ التوراتفي
وتاريفخ المنطقفة المدون ،ميمماً شطفر عسفير ،بادئاً بتحديفد منهجفه ومواد عمله ففي مقدمفة كتابفه
بقوله" :وأساس هذا الكتاب هو المقابلة اللغوية بين أسماء الماكن المضبوطة في التوراة بالحرف
العفبري ،وأسفماء أماكفن تاريخيفة أو حاليفة ففي جنوب الحجاز وففي بلد عسفير" .ثفم يحدثنفا عفن
الصففدفة التففي جعلتففه يعثففر على عالم التوراة القديففم (المفقود) فففي جزيرة العرب بقوله" :لقففد كان
المر عبارة عن اكتشاف تم بالصدفة ،كنت أبحث عن أسماء المكنة ذات الصول غير العربية
في غرب شبه الجزيرة العربية ،عندما فوجئت بوجود أرض التوراة كلها هناك ،وذلك في منطقة
بطول يصل إلى 600كم ،وبعرض يبلغ حوالي 200كم ،تشمل ما يسمى اليوم (عسير) والجزء
الجنوبي من الحجاز ،وكان أول ما تنبهت إليه أن في هذه المنطقة أسماء أمكنة كثيرة تشبه أسماء
المكنفة المذكورة ففي التوراة ،وسفرعان مفا تفبين لي أن جميفع أسفماء المكنفة التوراتيفة العالقفة ففي
ذهني ،أو جلها ما زال موجوداً فيها ،وقد تبين لي أيضاً أن الخريطة التي تستخلص من نصوص
التوراة ففي أصفلها العفبري ،سفواء مفن ناحيفة أسفماء الماكفن ،أو مفن ناحيفة القرائن أو الحداثيات،
تتطابفق تمامًا مفع خريطفة هذه الرض الموصفوفة ففي التوراة ،مفع خريطفة الرض –بيفن النيفل
والفرات– التفي اعتفبرت حتفى اليوم أنهفا كانفت بلد التوراة ..وهنفا قدم السفتنتاج المذهفل بنفسفه،
فاليهوديففة لم تولد فففي فلسففطين بففل فففي غرب شبففه الجزيرة العربيففة وليففس فففي أي مكان آخففر ..
ويجفب البحفث عفن الصفول الحقيقيفة لليهوديفة ،ففي ثنايفا التجاه ففي منحفى التوحيفد ففي عسفير
()2
القديمة"
( )1كمال الصليب :التوراة جاءت من جزيرة العرب ،ترجة عفيف الرزاز ،مؤسسة الباث العملية ،ط ،2بيوت صـ .50:52
( )2نفسه :صـ .28 ،27
80
رب الزمان ودراسات أخرى
مشكلة اللغة
وهنا كان على (الصليبي) أن يبدأ –بالطبع– من مشكلة اللغة ،ليجد ما يشير إلى أن اللغة العبرية
القديمففة (وهففي أيضاً اللغففة الكنعانيففة بإقرار الكتاب المقدس) وكذلك اللغففة الراميففة ،وكلتاهمففا:
العبريفة والراميفة ،كانتفا لغفة إبارم (إبراهيفم) .فاللغفة الصفلية لله .وأسفلفه هفي اللغفة الراميفة،
واللغة التي اكتسبها بهبوط (كنعان) أو أرض التوراة القديمة هي العبرية/الكنعانية.
لقفد وجفد صفليبي –فيمفا يزعفم– كلتفا اللغتيفن ،وبالطبفع وبالتبعيفة كل الشعفبين ،الرامفي والعفبري
(وبالضرورة الكنعانفي) ،ففي بلد عسفير العربيفة .ولنفه قرر أن يعمفل على أسفاس المقابلة اللغويفة
لسفماء الماكفن ،فقفد جاء اكتشاففه لوجود تلك الشعوب ولغاتهفا فيمفا جاء بسففر التكويفن -31/47
49عفن الميثاق الذي تفم بيفن يعقوب (العفبري) ،وخاله لبان (الرامفي) ،وهفو الميثاق الذي أقيفم
بموجبه شاهد تمثل في كوم من الحجار ،أطلق عليه لبان بلسانه الرامي (يجر سهدوثا) ،وأطلق
عليه يعقوب بلسانه العبراني (جلعيد والمصفاة) .وقد وجد صليبي أن تلك السماء ما زالت تطلق
حتفى اليوم على ثلث قرى صفغيرة متجاورة ،ففي منحدرات عسفير البحريفة ،ففي منطقفة "رجال
ألمفع" غربفي أبهفا ،وهفي :قريفة الهضبفة وهفي ففي الراميفة (يجفر) ،وقريفة (الجعفد) وهفي عنفد
الصليبي المقابل ،لسم (جلعيد) ثم قرية (المضاف) التي هب بقلب الصاد (المضفاة) (.)3
وعليفة يذهفب إلى نتيجفة يؤكدهفا ،وهفي أن المملكفة السفرائيلية ،قفد تأسفست ففي غرب شبفه جزيرة
العرب ،بيفن آواخفر القرن الحادي عشفر ،وبيفن مطلع القرن العاشفر الميلدي ،قياًسفًا على تاريفخ
هجرات الفلسففطينيين والكنعانييففن مففن عسففير إلى فلسففطين ،بضغففط افتراضففه قففد حدث مففن قبففل
السفرائيليين عليهفم ففي عسفير ،وهناك أطلق المهاجرون إلى فلسفطين أسفماء مواطنهفم القديمفة ففي
عسفير ،على مقار اسفتيطانهم الجديدة بفلسفطين ،وهفو مفا يفسفر لنفا التشابفه بيفن أسفماء المواضفع
الجغرافيفة الفلسفطينية ،وبيفن أسفماء المواضفع التوراتيفة ،وهفي الظاهرة المرتبطفة بالهجرة ففي كفل
زمفن وففي كفل أنحاء العالم ،فالمهاجرون يحنون دومًا إلى الوطفن الصفلي ،فيطلقون على مواضفع
مهجرهم الجديد أسماء البلدان والقاليم والجبال والنهار التي تركوها في مواطنهم الولى (.)4
81
رب الزمان ودراسات أخرى
وإعمالً لنظريتففه ،يرى الدكتور صففليبي ،أن جميففع الهجرات المصففرية التففي تففم تجريدهففا على
فلسففطين ،كانففت فففي حقيقتهففا موجهففة ضففد بلد عسففير غربففي جزيرة العرب ،وبخاصففة حملة
(شيشانق الول) الفرعون المصري ضد مملكة يهوذا ،في آواخر القرن العشر قبل الميلد .كذلك
الحملة الثانية التي قد قادها الفرعون (نخاو الثاني) في آواخر القرن السابع قبل الميلد ،حيث كان
البابليون قفد حولوا السفيطرة على عسفير ،ممفا أدي إلى صفدام حتمفي بيفن المصفريين والبابلييفن ففي
عسفير ،ومفن ثفم فإن وقعفة (كركميفش) التفي وردت ففي العهفد القديفم (أخبار اليام الثانفي ،35/20
إشعيفا ،10/9إرميفا ،)46/2لم تجفر ففي داخفل الراضفي التركيفة ،وأن موقفع المفبراطوريتين:
المصففرية والبابليففة قرب مدينففة (الطائف) جنوبففي الحجاز ،حيففث الدليففل عنففد الصففليبي يقوم فففي
قريتين :الولى تحمل أسم (القمر) والثانية تحمل اسم (قماشة) وبجمعهما يصبحان (قرقميش).
بل ويذهب السيد الدكتور إلى أن الحملت المصرية البكر ،التي تعود بتاريخها إلى اللف الثانية
قبل الميلد ،والمفترض علمياً أنها كانت موجهة لحتلل مواضع بعينها في فلسطين وبلد الشام،
إنمفا كانفت ففي حقيقتهفا موجهفة ضفد (عسفير) ( ،)5والدليفل الدامفغ على ذلك ،هفو أنفه لو كان داود
وسفليمان وقتذاك همفا السفيدان الفعليان لدولة كبرى في فلسطين ،تسفيطر على القليفم السفتراتيجي
الذي يفصفل مصفر عفن العراق ،كمفا هفو الفتراض الشائع ،لشارت إليهمفا السفجلت المصفرية
والشوريفة المتعاصفرة .بينمفا ل نجفد ففي تلك السفجلت أياً كانفت سفياسية أو عسفكرية ،أيفة إشارة
لهذين السمين ،بخاصة في أخبار غزوات مصر وآشور على فلسطين.
ثم يقدم لنا تفسيره لوجود السرائيليين ،والديانة اليهودية في فلسطين ،بأنه أمر حدث متأخراً عن
الحداث الكففبرى فففي التاريففخ التوراتففي القديففم ،وأن المففر كان ناتجًا عففن التدخلت المصففرية
المسفتمرة والدائبفة ففي بلد عسفير ،ممفا أدي إلى انقسفام مملكفة سفليمان الكفبرى ففي غربفي جزيرة
العرب ،ونشوب الحرب بيففن شقيهففا المنفصففلين :يهوذا وإسففرائيل .ومففا تبففع ذلك مففن غزوات
الشورييفن والبابليين ،التي انتهت بتصفية (سرجون الثاني) الشوري لمملكة إسرائيل عام 771
ق.م .حيث احتل عاصمتها (السامرة) التي هي عند صليبي قرية (شمران) الحالية بعسير ،ثم تبعه
(نبوخذ نصر) الكلداني البابلي ليقضي على مملكة يهوذا سنه 586ق.م ،.حيث ساق اللف منها
82
رب الزمان ودراسات أخرى
إلى بابفل أسفرى ،وعندمفا قامفت مملكفة فارس الخمينيفة أفرج (قورش) عفن السفرى ،فعادوا مفع
عائلتهفم إلى عسفير ،ولكفن ليجدوا أن كفل شيفء هناك قفد أصفبح خراباً ،فعاد أغلبهفم إلى فارس
والعراق ،وتوجففه التيار الرئيسففي نحففو فلسففطين ليقيففم هناك بينمففا دخلت –فففي زحمففة الحداث–
الصفول العربيفة لبيفن إسفرائيل ففي غيابات النسفيان ،وسفاعد على ذلك الغياب التحول الذي طرأ
على اللغفة بحلول القرن السفادس قبفل الميلد ،حيفث ماتفت اللغفة العبريفة/الكنعانيفة ،وحلت محلهفا
اللغفة الراميفة ففي كفل مكان ،وظهرت اللغفة العربيفة كمناففس للراميفة ،فتغلبفت ففي النهايفة بحلول
القرون الولى مفن العصفر المسفيحي ( ،)6هذا بينمفا كان يهود الجزيرة العربيفة يتحولون نهائيًا إلى
اللغفة العربيفة ،وهفي التحولت التفي توافقفت مفع نسفيان كامفل للصفول العبريفة القديمفة ففي عسفير
العربية (.)7
– مصفر ليسفت مصفر الفرعونيفة ،إنمفا هفي (مصفر) ففي وادي بيشفه ،أو (المضروم) ففي مرتفعات
غامفد ،أو هفي (آل مصفري) ففي منطقفة الطائف .ولو احتججنفا بأن مصفر التوراتيفة كان يحكمهفا
فرعون ،فإنفه يرد بأن كلمفة فرعون تلك مأخوذة مفن اسفم قبيليفة (فرعفا) الموجودة الن ففي وادي
بيشه (( )10وبالطبع منذ أكثر من ثلثين قرنا دون أن تتحرك رغم أنها قبيلة بدوية) .ونهر مصر
الوارد في التوراة مصحوباً بأحداث عظيمة حول شأنه ،ليس سوى واد جاف اسمه (وادي لففيه)،
( )8نفسه :صـ .53 ( )7نفسه :صـ .46 ( )6نفسه :صـ .44 ،39
( )10نفسه :صـ .148 ( )9نفسه :صـ .202
83
رب الزمان ودراسات أخرى
وأن التوراة لم تسفمه وادي مصفر ،إلى لن هناك تقفع قريفه ففي حوضفه باسفم (المصفرمه) ( ،)11ثفم
لمففا يكففن خروج بنففي إسففرائيل مففن مصففر ،وعبورهففم البحففر المعروف فففي التوراة باسففم (بحففر
سففوف) ،بالعصففا المعجزة ثففم عبورهففم الردن بالدوران حول دول آدوم وموآب وعمون ،لفتففح
فلسطين ،كل هذا لم يكن سوى عبور جبال السراة بمنطقة الطائف إلى الليث (.)12
– الدول الكبرى التي وردت في المدونات المصرية كما وردت في التوراة تقع بدورها في جبال
عسفير ،فمعلوم أن مملكفة (دمشفق) الراميفة كانفت الحفد الشمالي لدولة إسفرائيل الفلسفطينية ،ومفن
هنففا وجففب نقلهففا بدورهففا إلى عسففير ،لتصففبح قريففة (مسففقو) فففي ناحيففة العارضففة شرقففي أبففو
عريش ( ،)13و (مجدو) الفلسطينية ،أعظم فتوحات تحتمس الثالث الفرعون المظفر ،إنما هي قرية
(قصوى) في منطقة القنفذة ( ،)14أما بلد لبنان بمدنها وقراها وجبالها وأرزها ،لم تكن في الحقيقة
سوى (لبينان) شمال اليمن بجوار نجران (.)15
– ودولة (ميتانفففي) بجيوشهفففا وملوكهفففا وحضارتهفففا وتاريخهفففا ،والتفففي حدثنفففا جدول الفرعون
(شيشانق) عن هزميتها وإخضاعها لسلطان مصر ،فهي ل تقع في أقصى الشمال السوري ،إنما
هي (وادي مثان) بالطائف .وأن كل ما فعله (شيشانق) ،هو أنه استولى هناك على مجموعه قرى
متناثرة بذلك الودي .ولمفا كانفت النصفوص المصفرية تشيفر إلى (ميتانفي) باسفم ثان هفو (نهاريفن)،
لوقوعهففا بيففن نهري دجلة والفرات فففي أقصففى اتسففاعهما ،داخففل الراضففي التركيففة ،فقففد رأي
الدكتور صفليبي أن ذلك خطفأ فادح ،حيفث وجفد ففي وادي مثان بطائف قريفة باسفم (النهاريفن) ،بفل
أن حديث الفرعون (شيشانق) عن هزيمته لجيوش دولة آشور تفسير خاطىء من المؤرخين ،لنه
إنمفا هزم جيوش قريفة (يسفير) الحاليفة (؟!) بمنطقفة رابفغ ففي تهامفة الحجاز ( .)16أمفا الشارات
التورايتففة لنهففر (الفرات) فإنهففا كانففت تعنففي واديففا باسففم (أضففم) حيففث توجففد بجواره قريففه باسففم
(الفرات) ( ،)17أو ربمفا كان واديفا آخفر باسفم (خارف) بجوار تنوقفة شمال أبهفا ( ،)18وللقارئ أن
يختار ما يحلو له.
84
رب الزمان ودراسات أخرى
– وللقارئ أيضًا أن يختار أو (يحتار) بيفن أثنفي عشفر اسفما لثنفي عشفر موقعفا لقرى تقابفل اسفم
(إسرائيل) الدولة ،منها على سبيل المثال :السراة ،آل يسير ،يسير ،أبو سرية ..الخ (.)19
– كذلك المدن الواردة بالتوراة باعتبارها مدنا فلسطينية ،إنما تقع بكاملها في جبال عسير.
فبئر سففبع ل تقففع جنوبففي فلسففطين ،لنهففا هففي قريففة (الشباعففة) قرب خميففس مشيففط ( ،)20وكذلك
(جرار) ل تقع على الساحل في أقصى جنوب فلسطين ،لنها هي قرية (القرارة) ( ،)21وقادش هي
(الكدس) ,و(شور) المفترض أن تقفع بسفيناء ،هفي (آل أبوتور) ففي وادي بيشفه ( ،)22وميناء (ياففا)
ليفس على سفاحل المتوسفط ،لنفه هفو (الوافيفة) قرب خميفس مشيفط ،والزرقفا ليسفت شرق الردن،
لنها هي (الزرقة) في جيزان ( )23أما حصن صهيون بأورشليم ،فليس سوى قرية (قعوة الصيان)
ففي مرتفعات رجال ألمفع غربفي أبهفا ( .)24كذلك بقيفة المدن الفلسفطينية المشهورة ،التفي يتفم نقلهفا
جميعفا إلى عسفير ،فتصفبح (بيفت إيفل) هفي (البطيلة) ففي سفراة زهران ( )25وبيفت لحفم تصفبح (أم
لحفم) ففي منطقفة الليفث ( ،)26وحفبرون المصفطلح على أنهفا الخليفل الحاليفة جنوبفي فلسفطين ،يتفم
وضعها في قرية (الخربان) في منطقة المجاردة (.)27
– والمدن الفلسففطينية الخمففس على السففاحل ،المشار إليهففا فففي التوراة بالقطاب الخمسففة ،تصففبح
عنده كالتالي:
* غزة = (عزة) ففي وادي أضفم ( ,)28وففي موضوع بعيفد ففي كتابفه تصفبح (آل عزة) ففي بلحمفر
حنوبي النماص ( ،)29ثم في صفحات أخرى أكثر بعداً نجدها منسوبة إلى قبيلة (خزاعة) (.)30
* جت = الغاط في جيزان.
85
رب الزمان ودراسات أخرى
– وسكان فلسطين القديمة ،ومنهم العبرانيين ،إنما كانوا في الحقيقة سكان قرية (آل غبراني) في
ظهران الجنوب ( ،)32والكنعانيون كانوا سفكان قريفة (القنعفة) القديمفة ،لكفن ربمفا كانوا مفن قريفة
أخرى هففي (قناع) ( ،)33وصففيدا ليسففت على السففاحل اللبنانففي لنهففا هففي قريففة (آل زيدان) فففي
مرتفعات شهدان في أراضي جيزان الداخلية ( ،)34وجبل حوريب المقدس بسيناء ،يقع في الحقيقة
قرب قرية (خارب) في وادي بقرة (.)35
– وأسماء أسباط بني إسرائيل جميعاً تقد بدورها في جبل عسير ،كالتالي:
* رأوبين نسبة لقرية (اعربينان) في سراة زهران مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* شمعون نسبة لقرية (الشعنون) جوب جيزان مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* يهوذا نسبة لقرية (الواهدة) في رجال ألمع مع مواقع محتملة نختار من بينها.
* نفتالي نسبة لقرية (آل مفتله) مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* جاد نسبة لقرية (الجادية) في سراة غامد مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* أشير نسبة لقرية (آل مفتله) مع مواقع أخرى محتملة نختار من بينها.
* يساكر نسبة لقبية (يشكر) الحالية (؟!) مع قبائل أخرى محتملة نختار من بينها.
* يوسف نسبة لقرية (أل يوسف) في بلسمر مع قرى أخرى محتملة نختار من بينها.
* بنيامين وهو السم الذي أطلقه الشاعر الجاهلي على أهل اليمن (.)36
86
رب الزمان ودراسات أخرى
المنهج والنظرية
هذه بإيجاز نظرة سفريعة على أطروحفة (كمال الصفليبي) ،ل تغنفي –بالقطفع– عفن قراءة الكتاب،
كما ل تعبر –باليقين– عن الجهد المبذول بإخلص في هذا العمل الثري ،والذي أبهر مثقفينا إلى
ل وحده بهذا
الحففد الذي لم يلتفتوا فيففه إلى مجرد إعادة التصففنيف ونموذجاً له مففا قدمناه ،وكان كفي ً
الترتيفب وبالقراءة والدراسفة المقارنفة ،أن يبدل أسفباب الدهشفة ،بفل وطبيعفة الدهشفة .وقفد اختار
الرجفل مفع براعتفه ،منهجفه المخلص بتواضفع جفم ،رغفم مفا وضفح مفن ممكناتفه العظيمفة ففي مجال
اللغففة تحديداً ،وإن ذهففب فففي مواضففع أخرى إلى العتداد الشديففد .إل أن المشكلة الحقيقيففة التففي
تواجفه عمله بالكامفل ،وباعتراففه هفو نفسفه ففي مقدمفة كتابفه ،هفي أنفه لم يأخفذ على الثار باعتباره
على الطلق ،وحيففن تناول بعففض المدونات التاريخيففة القديمففة ،كان ينزعهففا مففن سففياقات عدة
ترتبفط بهفا ،ليدعفم بهفا رؤيتفه ففي شموليتهفا ،محتجاً بأن المسفح الثاري لمناطفق غربفي الجزيرة لم
يتم بعد بشكل تام ،كما لو كانت نظريته قد ثبتت وانتهى القول بشأنها فعلً ،ولم يبقى سوى التنقيب
وراءه ،لنجد هناك تحت الرمال عالم التوراة القديم برمته ،وهو التصريح الذي أكده دوما في أكثر
من حديث صحفي .وفي المقابل أهمل الرجل تماماً أثاريات المنطقة ،في مصر والرافدين والشام،
ومدوناتها .وهو ما يمكن أن ينطق بالكثير كما سنرى .لذلك كانت خطورة عملة القاصمة لساسه،
هو أحاديثه التي أهملت تماماً جميع النظريات الخرى حول التاريخ التوراتي ،مع إهداره المطلق
للجانفب التاريخفي والوثائقفي ،حتفى داخفل الكتاب المقدس ذاتفه باعتباره وثيقفة تاريخيفة ،وبخاصفة
المرتبط منه بمصر وفلسطين.
وكان اعتماده على المقارنات اللغويفة وحدهفا ،وففي حدود أسفماء الشخاص والمواضفع ثفم حذففه
للحركات والضوابط ،التي دخلت على المأثور التوراتي في القرن السادس الميلدي من قبل أهله،
كناتفج ملحظتفه لبعفض الخطاء ففي التصفويت والعراب ،وهفو مفا حور بعفض المعانفي ،ونحفن
نثق في قدرته المتبحرة في هذا الجانب ،لكن المأخذ هنا أنه أعاد النص التوراتي الهائل برمته إلى
أصله غير المتحرك ،لنه اقتنص خطأ هنا وفلته هناك ،في بضع كلمات أدى تصويتها إلى تبديل
معناها –على ذمته– ضمن حوالي نصف مليون كلمة تشكل ذلك المأثور ،لكنه استمر على دربه
87
رب الزمان ودراسات أخرى
غير هياب ,فقام تسكين كل الحرف ،ليعيد هو تحريكها بما يوافق حركته بين المواضع التي رآها
آهلً للتطابق معها في بلد عسير.
ولو ألقينفا نظرة سفريعة فيمفا عرضناه هنفا ،سفنجد (الدكتور الصفليبي) يحفل كفل المشكلت الهائلة،
التفي حارت فيهفا أفهام العلماء لقرون ،حل نهائياً تاماً مانعاً ،بمجرد إيجاد الصفلة أو التطابفق بيفن
اسم موضع ورد بالتوراة ،واسم موضوع عثر عليه في خرائط جزيرة العرب الغربية ،مثلما فعل
فففي تأكيده أن أهففل عسففير كانوا يتكلمون العبريففة ،وإلى جوارهففم مباشرة كان هناك قوم آخرون
يتكلمون لغففففة أخرى هففففي الراميففففة (؟!) ،فقففففط لن كون الحجار الشاهدة على ميثاق يعقوب
العفبري ،وخاله لبان الرامفي ،المسفمى بالراميفة (يجفر سفهدوثا) وبالعبريفة (جلعيفد والمصففاة)،
يتطابفق كأسفماء مواضفع ،مفع قرينتيفن عثفر عليهمفا على خريطفة رجال ألمفع باسفم (مزرعفة أل
شهدا) و (الجعد).
ثفم أنفه لم تلتففت قفط إلى أنفه مفن الممكفن افتراض العكفس ،وسفيكون هفو الفتراض الصفحيح علمياً
وتاريخياً ،حول فرضففه أن السففماء التوراتيففة الموجودة بفلسففطين أطلقهففا هناك المهاجرون مففن
عسففير كذكرى لموطنهففم القديففم .بمعنففى أن العكففس ممكففن أيضاً وأكثففر علميففة ،فتصففبح السففماء
الواردة بجزيرة العرب ومشابهفة لسفماء توراتيفة ،ناتجفة عفن هجرة إسفرائيلية مفن فلسفطين إلى
جزيرة العرب ،وهفو مفا نعلمفه نتيجفة هجوم (آشور) و (كلديفا) على فلسفطين ،ومفن بعدهفم هجوم
(طيطس) الروماني عليها وتدمير الهيكل وتشتيت بني إسرائيل ،الذين انحدر أغلبهم جنوبًا ليشكلوا
فيمفا بعفد يهود شبفه الجزيرة العربيفة الذيفن تناثروا ففي مواضفع عدة أشهرهفا خيفبر ويثرب واليمفن
هذا بالطبع إذا سلمنا له بصدق بعض ،وليس كل ،مقابلته اللغوية لمواضع المكنة وأسمائها.
أمففا الشففد غرابففة فهففو اعتماده أسففماء موجودة اليوم بالجزيرة لمواضففع وقبائل ،يراهففا هففي ذات
السماء التوراتية ،بعد مرور أكثر من ثلثين قرناً ،كانت كافية لتبديل أسماء الموضع التي ذكرها
عشرات المرات ،ونسيان قديمها وهو أمر معلوم ،ومعلوم أيضاً أن أسماء المواضع عادة ما تتغير
بتغيفر سفكان المنطقفة .وهفو أمفر دائم التكرار ففي بلد البداوة القبليفة أكثفر مفن المناطفق المسفتقرة،
وذلك للسفعي وراء الكل والتحرك للغارة أو هربًا مفن الغارة ،هذا ناهيفك أنفه قال بنسفيان العالم
كله للصفل اعسفيري العربفي للسفرائيليين ففي عسفير ،بعفد أسفر ففي بابفل لم يدم لكثفر مفن نصفف
88
رب الزمان ودراسات أخرى
قرن ،فما باله يرى جزئيات وتفاصيل أجدر بالنسيان ،خلل قرون طويلة ،يراها باقية شاهدة على
الصل العسيري للتوراة القديمة وأهلها في بلد العرب.
وففي موضفع آخفر مفن كتابفه يلتففت إلى نقاط ضعفف يحاول تبريرهفا ،فهفو يشيفر إلى النصفوص
السفطورية التفي وردت ففي التوراة ،وضرب منهفا مثلً بقصفة (الطوفان) ،التفي تحتاج غمراً مائياً
وبلداً ممطرة ونهرية كأرضية للحادثة ،وهو ما ل يتطابق مع حال جزيرة العرب ليؤكد لنا أنه ل
يمكن التأكد أين ولدت مثل تلك الساطير؟ من استعارها؟ ومن أصحابها الصليين؟ ولكنه ل شكل
يعلم أصولها المصرية والعراقية والشامية ،وسر انتقالها إلى الكتاب المقدس وظروف ذلك! وسبق
لنفا أن قدمنفا ففي ذلك بحوثاً نشرناهفا ففي كتابنفا (ألسفطورة والتراث) ( )37يمكفن للقارئ الرجوع
إليها ،وهو ما ل يمكن أن يتطابق بحال ،مع ما ذهب إليه الدكتور الصليبي.
ثم في موضع آخر يجد شاهداً أركيولوجياً ل يقبل دحضاً ،يتمثل في (الحجر الموآبي) ،الذي عثر
عليه شرقي البحر الميت ،بلد موآب القديمة ،ويتحدث فيه (ميشع) الملك الموآبي عن حروبه مع
إسفرائيل ،فيتحايفل على المفر برمتفه ،ويقول أن النصفب قفد أقامفه (ميشفع) ففي تلك المنطقفة التفي
حددتها التوراة شرقي فلسطين بعد أن هاجر من عسير بعد حروبه مع إسرائيل في عسير (؟!).
ويتمادى فيبالغ ليرى أن حملت المصففريين جميعاً ،على البلد التففي كان مظنونًا أنهففا فلسففطين
وبلد الشام وجنوب تركيا ،إنما كانت جميعاً على شبه الجزيرة العربية ،وتحديداً ضد عسير ،بما
فيهففا حملتففا (شيشانففق) و (نخاو) المدونتان فففي التوراة وفففي النصففوص المصففرية القديمففة ،كذلك
حملت البابلييفن والشورييفن اتجهفت بدورهفا جميعاً إلى بلد عسفير ،وترك العالم المفبراطوري
بقاع الثروة والخصفب ،والموقفع الفلسفطيني الشامفي السفتراتيجي العالمفي ،ليتصفارع جميعفه ففي
بلد عسفير ،ولجفل عيون قرى عسفير (؟!) وهفو أمفر ناففر تماماً ومتكلف ،ناهيفك عفن فقده لي
مصفداقية أركيولوجيفة أو وثائقيفة إضاففة لمخالفتفه للمدونات القديمفة التفي تحدثفت عفن تلك الحملت
المبراطورية!
نعفم ل يكابر أحداً أو يجادل ففي أن المصفريين قفد اخترقوا بلد العرب ،وأنشأوا هناك مسفتعمرات
متقدمفة ،لضمان السفيطرة على الطريفق التجاري البري الذي ينقفل بضائع الهنفد وأفريقيفا الشرقيفة
89
رب الزمان ودراسات أخرى
إلى عالم الشرق الوسفط القديفم ،وهفو أمفر سفبق أن قدمنفا عليفه قرائن ففي أعمالنفا المنشورة (أنظفر
مففثلً :النبي إبراهيم والتاريخ المجهول) ،لكن أن تكون دولة إسرائيل القديمة قد قامت هناك ،وأن
( )37سيد ممود القمن :السطورة والتراث ،دار مدبول الصغي ،القاهرة.1992 ،
كل الصراعات المبراطورية قد دارت هناك من أجل تلك الدويلة والتي سيقل شأنها أكثر في حال
نقلها من موقعها الستراتجي بفلسطين ،إلى جبال عسير ،فهو المر الذي يعصب قبوله تماماً.
ومفا يجعفل أمفر عسفير هنفا( ،عسفيراً) تماماً ،هفو قول (الصفليبي) أن الحملت المصفرية جميعفا لم
تكفن متجهفة مفن مصفر إلى حوض المتوسفط الشرقفي (فلسفطين ،سفوريا ،تركيفا ،العراق) بفل دومفا
إلى عسففير ،حيففث أن هناك مراجعات شاملة قففد جرت للروايات القديمففة بهذا الشأن ،خصففوصاً
المدون المصفري منهفا .وهفي إن لم تقطفع بأمفر موقفع أو آخفر ،فهفو أمفر طفبيعي تمامًا ففي دراسفة
القديم لكن هناك من الشواهد ما يكفي لضمان سلمة تحديد خطوط سير تلك الحملت .فإن نجد –
كمثال– نصفباً لرمسفيس الثانفي على مصفب نهفر (الكلب) بمواجهفة البحفر المتوسفط ،بيفن بيروت
وجبيفل ،يتحدث عفن حملتفه الولى على بلد الشام سفنة 1297ق.م .فإنفه سفيكون دللة ل تقبفل
ل ودليلً شاهداً يكمل أي نقص في المعلومات المدونة حول تلك الحملة ،وخط سيرها (.)38
جد ً
ومثله عندما تتحدث النصوص عن استيلء (رمسيس الثاني) على بيروت وجبيل ،فنحن نصدقها،
بهذا الشاهفد الثري ،ول نذهفب مفع (صفليبي) إلى فياففي الجزيرة العربيفة البلقفع لنبحفث هناك عفن
(لبينان) ،بل نصدق تمامًا أن (رمسيس الثاني) قد غطى بحملته نصف الشاطئ الشرقي للمتوسط
بتلك الحملة الصفغيرة ،ثفم لبفد أن نصفدق مرة أخرى ،لوجود عناصفر أخرى ترتبفط بالحادثفة ،لن
الحملة كانت إنذاراً للمك الحيثي (ماتتيوالي) سنة 1282 –1306ق.م ،.ليكف عن تدخلته في
سوريا ،ودواعي التصديق ،هي الحرب التي خاضها (رمسيس الثاني) بعد ذلك مع الملك الحيثي
ملك تركيفا القديمفة ،ففي موقعفة قادش على نهفر العصفي السفوري ،والتفي انتهفت بتوقيفع اتفاق سفلم
مفن نسفختين ،نسفخة بالمصفرية ونسفخة بالحيثيفة ،وقفد تفم العثور على كلتفا النسفختين واحدة ففي
مصر ،والثانية في (بوغازكوي) العاصمة الحيثية القديمة في داخل تركيا ،وهو السلم الذي لجأ
إليفه الملك الحيثفي ،سفعياً وراء مصفلحة التفرغ لحمايفة بلده ،أمام جيرانفه (الشورييفن) وقوتهفم
المتصاعدة ،في بلد الرافدين الشمالية ،وليس في قرية (أبي ثور) في بلقع عسير.
90
رب الزمان ودراسات أخرى
( )38من باب التب سيط ن يل إل كتاب صغي للدكتور سامي سعيد الح د :الرعام سة الثل ثة الوائل ،دار الشئون الثقاف ية ،بغداد،
،1988صـ .33
أمفا مدونات بلد الرافديفن ،فلم تبخفل بالتدويفن ،ولضرب المثفل فقفط نجفد الملك (تجلتبليزر الول)
الشوري ،يحكفي ففي مدوناتفه ،أنفه غزا سفوريا ووصفل إلى السفاحل الفينيقفي ،وأخفذ التاوة مفن
المدن الفينيقيفة (أوراد ،وجبيفل ،وصفيدا) وقفد قتفل ففي متانفي عشرة أفيال ضخمفة ،وبالتحديفد ففي
منطقة حاران ،كما اصطاد أفراس البحر من المياه قرب أرواد (.)39
وبالطبفع مفا كان بالمكان حدوث ذلك ففي بوداي العرب عنفد (آل زيدان التفي يقابلهفا بصفيدا) ففي
أراضففي جيزان ،وعليففه ل يمكنففا بالطبففع التسففليم بأن حملة (تحتمففس الول) لتثففبيت حدود الدولة
المصفرية على نهفر الفرات ،بواسفطة نصفب تذكاري أقامفه على الضففة اليسفرى للنهفر ،بعفد مفا
تجاوزه قرب كركميففش ( ،)40ل نسففتطيع أبداً أن نسففلم أن تلك الحملة إنمففا قطعففت كثبان جزيرة
العرب الرملية ،مئات الميال لضرب قريتي (القمر) و (قماشة) ،هذا إذا غضضنا الطرف عففففن
91
رب الزمان ودراسات أخرى
( )39أيضا للتبسيط لغي التخصص ،نيل إل كتاب طه باقر :الوجيز ف تاريخ حضارة وادي الرافدين (وهو ليس وجيزا على أية
حال) ،دار الشئون الثقافية العامة ،بغداد ،1 ،1986 ،صـ .492
( )40يوسف سامي اليوسف :تاريخ فلسطي عب العصور ،دار الهال دمشق ،1989 ،صـ .40
النصففب التذكاري ،أو افتراضنففا انتقاله هففو الخففر مففن القمففر وقماشففة إلى الضفففة اليسففرى لنهففر
الفرات.
وسيادته عندما يؤكد لنا أن مصر كانت هي (المضروم) ،في مرتفعات غامد ،أو (آل مصري) في
الطائف ،وأن مدينففة (رعمسففيس) التففي عاشوا فيهففا بمصففر حسففب نففص التوراة ،إنمففا هففي قريففة
(مصفاص) ،وأن بحفر (سفوف) الذي عفبروه إنمفا كان مرتفعات (السفراة) نجدنفا مشدوهيفن تماماً،
إزاء النفص المصفري الذي جاءنفا ففي شكفل تقريفر قدمفه (بينيبفس) كاتفب البلط الفرعونفي ،لرئيفس
قلم الكتاب بالقصففر (آمنموبففي) ،ويحكففي فيففه عففن مدينففة (رعمسففيس) ،ونقتطففع منففه مففا يعنففي
الموضوع هنا ،في قول (بينيبس) :
–...........................
92
رب الزمان ودراسات أخرى
...........................
والمثال هنففا يوضففح أن مدينففة (رعمسففيس) ميناء ،مليففء بالخيرات ممففا يشيففر إلى الراضففي
الخصفبة ،وأنهفا القريبفة مفن موضعيفن بحرييفن همفا (شيحور) و (زوف) ،إضاففة لمنطقفة خصفيبة
باسفففم (بيفففت حتحور) .والتوراة تقول لنفففا :إن بنفففي إسفففرائيل عاشوا بمصفففر ففففي مدينفففة باسفففم
(رعمسيس) ،وأنهم عبروا بحرا باسم (سوف /زوف) ،وأنهم عبروا البحر ف منطقة باسم (بي
حيروت) وهفي بالنفص (بيفت حتحور) أمفا (شيحور) فهفو موضفع يتردد ففي التوراة كمكان بمدينفة
رعمسفيس ،كانوا يشربون منفه هفم وبهائمهفم ،فهفل نهمفل كفل ذلك ،ونلقيفه جانباً ،لنذهفب إلى عسفير
مفع صفليبي؟ وهفل لم يطالع أسفتاذ التاريفخ المتخصفص مثفل تلك النماذج التفي نضرب منهفا مجرد
أمثلة سريعة لقارئ غير متخصص ل نريد أن نثقل عليه؟.
ول يفوتنفا ،أنفه ففي حديثفه عفن حملة الفرعون (شيشانفق) على مملكفة (سفليمان) ،بعفد وفاة سفليمان
بأربفع سفنوات فقفط ،والتفي حدثتنفا عنهفا التوراة ،وذكرت أن شيشانفق قفد هاجفم أورشليفم بفلسفطين
ونهب كنوز الهيكل ،فقد وقف (الصليبي) مع نقطة هامة ،وضعها ضمن رصيده لرفض أن تكون
فلسطين هي محل تلك الحملة ،لتأكيد أن تلك الحملة كانت على عسير ،وتلك النقطة –وهي جديرة
بالعتبار حقاً– أنفه بمراجعفة جداول (شيشانفق) الذي ذكفر فيهفا عدد وأسفماء المدن التفي اسفتولى
عليهفا ،مفع الدول التفي أخضعهفا للسفلطان المصفري ،لم يأت على ذكفر أورشليفم إطلقاً بيفن تلك
السماء التي ذكرها في جداوله! لكن الدكتور صليبي وهو يمسك تلك الفجوة لينقل الحملة بكاملها
إلى عسير ،بيد أنه قد تغافل تمامًا عن دليل حفاسم يففؤكد دخففول شيشانق أورشليم ،وهففو النصب
93
رب الزمان ودراسات أخرى
( )41سـليم حسـن :أدب الصـري القديـ ،مطبوعات كتاب اليوم ،مؤسـسة أخبار اليوم ،القاهرة ،ديسـمب ،1990ج ،1صــ
( .389 : 384نص الرسالة كاملً).
التذكاري الذي عثفر عليفه مؤخرًا بمجدوا ففي فلسفطين ،ويتحدث بوضوح عفن هجوم شيشانفق على
أورشليم ( ،)42وهو يمل ذلك الفراغ الساقط في جدوله الذي اعتمده (صليبي).
التوحيد العسير
وإذا كان أسفتاذ التاريفخ المتخصفص ،قفد ترك الجانفب التاريخفي برمتفه ،ليتعامفل مفع اللغفة وحدهفا
لثبات نظريتفه ،فهفو المفر الغريفب ،أمفا الغرب فهفو تأكيده أن التوحيفد اليهودي ففي العبادة ،قفد
نشأ في ذلك العصر الموغل في القدم (حوالي 1200ق.م .فيما يذهب إليه) ،بين تلك القبائل التي
قطنففت عسففير ،وهففو أمففر إضافففة لعسففر قبوله ،فإنففه يخالف منطففق التطور التاريخففي وشروطففه
المجتمعيفة والقتصفادية والسفياسية ،حسفبما تعلمنفا ففي فلسففة التاريفخ ،وقوانيفن الحراك الجتماعفي
عفبر بقيفة المنظومات على سفلم الرتقاء التاريخفي .فنحفن نقبفل مثلً مفا أخبرنفا بفه علم التاريفخ عفن
الفرعون (آمنحتب الرابع) أو (إخناتون) ،كأول داعية لفكرة توحيد اللهة في إلة واحد ،في تاريخ
الفكفر الدينفي( ،وبالمناسفبة فإن الصفليبي يؤخفر اخناتون زمنياً عفن موسفى) ،وقبولنفا للتوحيفد عنفد
(إخناتون) ،ناتج قراءة لظهور ذلك الطارئ وتلك الطفرة ،فقد تحولت الدولة المصرية المركزية
إلى إمبراطوريفة كفبرى تضفم تحفت جناحيهفا دول شرقفي المتوسفط ،وغذى نموهفا القتصفادي ذلك
التراكففم الثروى الذي تدفففق مففن بقاع المبراطوريففة على مصففر ،والنضوج التجاري ،ممففا أدى
لوضوح طبقفففي بيفففن المعالم ،أمفففا التاوات والضرائب والجزى التفففي تراكمفففت مفففع اتسفففاع
المبراطورية ،فقد أدت إلى إفراز فوقي ينزع نحو سيادة إله واحد يرعى مصالح الطبقات السائدة
ودولتها المبراطورية.
ولمفا كانفت تلك السفيادة تتمثفل ففي شخفص الفرعون وتتماهفى ففي سفيادته ،فإنفه سفيكون مقبولً أن
تظهر في مصر فكرة إله يرعى مصالح الطبقة السائدة ،ويعبر عن سيادتها ،سيكون مقبولً أيضاً
انتشار ذات الفكرة التوحيديفة لدى الفئات المطحونفة التفي تريفد إلهفا ل يفرق ففي توزيفع الرزاق.
94
رب الزمان ودراسات أخرى
ومففن ثففم سففيكون مقبولً بالتالي أن تتأثففر جماعففة (موسففى) فففي مصففر بظروف مصففر ،رغففم أن
نظامهففا القبلي شوه الفكرة وفصففرها على توحيففد آله القففبيلة السففرائيلية ،بمعنففى العتراف بآلهففة
الشعفوب والقبائل الخففرى .لكن مع عدم توقير أي إله آخر سوى إله بني إسرائيل ،أما أن تففقفز
فكرة التوحيد فجأة دون بنية تحتية تسمح بها في جزيرة العرب ،في ذلك الزمن العتيق ،في وسط
قبلي متشرذم ل يسمح ،ول تسمح معه قوانين التاريخ التي ل شكل يعلمها الستاذ الصليبي جيداً،
بظهور ذلك التوحيد ،حتى لو كان توحيداً ابتدائياً ،لنه المر الذي يجافي منطق العلم بالكلية.
لكفففن السففتاذ هنفففا ل يرى الوسفففط قبلياً متشرذماً ،بففل دولة قامففت هناك ،أقامهفففا شاؤول وداود
وسففليمان ،ويرى فففي ذلك دليله القوى ،الذي رفففض بموجبففه تفسففير العلماء لسففجلت التاريففخ
التقليديفففة ففففي مصفففر وآشور ،باعتبارهفففا تتحدث عفففن فلسفففطين ،حيفففن قال أنفففه لو كانفففت دول
المبراطورية تتعارك في فلسطين ،لدونت أسماء هؤلء الملوك (شاول ،داود ،سليمان) وهو ما لم
يحدث ،ونتيجتفه الحتميفة أن هؤلء الملوك لم يتواجدوا بفلسفطين ،دون أن يفطفن سفيادته أن الحجفة
مردودة عليفة .فإذا كانفت تلك الحملت المراطوريفة موجهفة ضفد مملكفة إسفرائيل اليهوديفة ففي
عسير ،وكان (صليبي) صادقًا في مذهبه ،فإن الطبيعي أن تذكر نصوص مصر والرافدين أسماء
هؤلء الملوك الذين حكموا في عسير ،وهو أيضاً ما ل يحدث ،ويتعادل الموقف ،ثم يرجح لصالح
فلسطين.
هذا ناهيفك عفن كوننفا لو اعتمدنفا أسفلوب السفتاذ الباحفث ففي المطابقفة لسفماء المواضفع والماكفن
والشخاص ،مع نصوص التوراة .أو حتى نصوص لدولة ما ،لمكن أن نكتشف ببعض التعسف
وليّف التفاسفير ،أن مصفر كانفت ففي فلسفطين ،وأن فلسفطين كانفت ففي سفيناء ،وأن الدول الفينيقيفة
كانفت ففي شمال أفريقيفا وأسفبانيا ،دون مشاكفل كثيرة ،كمفا يمكننفا ببسفاطة أن نضفع جزيرة العرب
ففي صفعيد مصفر حيفث حلت هناك القبائل العربيفة مفع الفتفح السفلمي وأعادت التسفميات ،والمفر
كله يعود إلى حركة الهجرات القديمة وإعادة تسمية المواضع وهو المر الذي أشار إليه الصليبي
نفسفه ،وهفو السفاس الذي بنفى عليفه عمله بالكامفل ،وهفو السفاس الذي ل يعول عليفه إطلقاً ،لبناء
95
رب الزمان ودراسات أخرى
مثفل تلك النظريفة التفي طرحهفا ،والتفي تتسفم بغرابفة وخطورة هائلة ،ل تتناسفب وأدوات البحفث
المستخدمة في سبيل إثباتها.
أمففا الدافففع الذي نظنففه كان بدايففة الخيففط فففي اندفاع الصففليبي ،هففو اسففم جبففل (عسففير) متقاطعاً
بالميتاتيز (القلب اللغوي) مع جبال (سعير) التي ذكرت التوراة ونصوص مصر أنها كانت جبال
ودولة تقع ما بين خليج العقبة ،وبين البحر الميت ،أي على حدود سيناء الشرقية مع بادية الشام.
وقفد تحدثفت التوراة عفن (سفعير /بلد أدوم) ،باعتبارهفا دولة مسفتقلة عفن فلسفطين ،وعفن دولة
إسففرائيل عموماً ،ودخلت فففي حروب مففع دولة إسففرائيل مرات ،وفففي تحالفات مرات أخرى ،أي
أنهفا لم تكفن ذات دولة إسفرائيل ،لكفن الدكتور (الصفليبي) عمدا إلى نقفل إسفرائيل الدولة ،وفلسفطين
الرض بكاملها إلى جبال (سعير) في دولة (آدوم) ،ثم نقل جبال (سعير) إلى بلد العرب محتسباً
إياها جبال (عسير) ،وأن المر ل يعدو قلباً لسانيًا كما في (زوج /جوز) وهو المثال الذي ضربه
بكتابفه للتدليفل على نظريتفه ،بينمفا تفم إلغاء دولة (آدوم) التفي قامفت ففي جبال (سفعير) على حدود
مصفر ،والتفي تحدثفت بشأنهفا نصفوص مصفر ففي إبان حديثهفا عفن حملت مصفر التأديبيفة للدولة
المشاغبة المجاورة ،كما أفاضت في الحديث عنها نصوص التوراة حتى آخر سفر فيها.
هذه لمحات سفريعة موجزة مقتضبفة ،لم نقصفد بهفا النقفد المفصفل والتوثيفق الكامفل ،فمثفل ذلك الرد
الناقفد يحتاج إلى كتاب قفد ل يقفل حجماً عفن كتاب الصفليبي نفسفه ،وهفو مفا يخرج الن عفن دائرة
همومنفا ،فقفط رأينفا ففي ضوء الحماس الغريفب ففي أوسفاط مثقفينفا للصفليبي ،إن هناك واجبًا علينفا
للتوضيح والتبيان ليس إل ،ولعل قارئنا قد لحظ أننا لم نحاول أن نسقط على الرجل أي اتهامات
سففياسية ،لقوله بعروبففة السففرائيليين أو تكفيرات دينيففة لنكاره عبور البحففر بالعصففا المعجزة أو
نعوت بالخيانة القومية ،كما حدث في بعض صحفنا العربية الغراء ،فتصوروه بنظر لمطلب جديد
لسرائيل بالعربية السعودية ،وهو نقد يعبر عن خصاء ذهني ونفسي وشل في القدرات ،وعدم ثقة
ل بالذات ول بالوطن ،إضافة إلى أننا نرفض أي تعامل من منطق الدانة والتكفير ،فهو المنطق
العرج الذي انتهى بنا إلى مقلب نفايات المم.
96
رب الزمان ودراسات أخرى
تحفت عنوان رئيسفي (بلغ إلى شيفخ الزهفر والمفتفي وعلماء السفلم) ،وعنوان فرعفي (وزارة
التعليفم تفتري على أميفر المؤمنيفن عثمان بفن عفان) ،نشرت صفحيفة إسفلموية مفا أسفمته تحقيقاً
تقول :إنها تكشف فيه بالوثائق افتراءات الوزارة على عثمان ،وتبرئتها لليهودي (ابن سبأ) من دم
عثمان! وأن الوزارة ففي أحفد كتبهفا المدرسفية اتهمفت الخليففة بالليفن وتقريفب أهله مفن بنفي أميفة
واختصففاصهم برعايتففه ،فكان أن طالبففت وفود المصففار السففلمية عثمان تعزل ولتففه ،وانتهففى
المر بمقتله ،وهو ما أدى إلى الفتنة والنقسام في صفوف المسلمين ،ولم تنس الصحيفة الهمز من
الدكتور (بهاء الديففن) والغمففز مففن قناتففه ،وبإشارتهففا إلى أن تلك الفتراءات جاءت مففع مجيففء
الوزيفر الحالي .ثفم ترد على مفا أسفمته افتراءات بمفا رأتفه حقيقفة ثفم إغماض العيفن عنهفا ،والحقيقفة
هفي أنفه "ففي عهفد سفيدنا عثمان كانفت الشريعفة مطبقفة والحدود مقامفة والسفلم الذي يوجفه حياة
المفة ..وصارت الدولة السفلمية أعظم دول العالم ..وعم الرخاء وكثفر المال على عهفد عثمان
حتى بيعت جارية بوزنها".
إذا كانفت الدولة السفلمية قفد أصفبحت أعظفم دولة ففي العالم زمفن الخليففة عثمان ،وأن الرجفل قفد
طبفق الحدود وأقام الشرائع وحكفم بالسفلم ،ففيفم قتفل إن؟ ثفم تسفاؤل أكثفر براءة :هفل عصفمت
المؤسسة السلمية البلد من الفتن والتمزق وقتل رأسها وخليفة رسول ال صلى ال علية وسلم؟
وع منهفج التقديفس المفرط ،الذي يتحول بالبشفر غيفر المعصفومين إلى قدسفية العصفمة ،ل يوجفد
دعاتفه سفوى البحفث عفن سفبب خارج إطار الحداث الموضوعيفة ،فمفا دامفت الشريعفة مطبقفة،
والحدود مقامفة ،والدولة ففي أوج قوتهفا ،وأهفل ذلك الزمان هفم مفن الصفحابة الجلء ،فليفس هناك
إذن من سبب واضح ،وأن ضرب تلك القوة التي شرعت أسباب المان والتوحيد يحتاج إلى شيء
أسفطوري يمتلك قدرات خرافيفة ،يتلبففس لبوسفاً شيطانياً ،ول بأس هنفا أن يتفم اختياره مفن اليهود
المبغضيفن ،ليصفبح هفو المحرك الخففي وراء الحداث الكفبرى ففي أنحاء المبراطوريفة السفلمية
بغرض إجهاض السلم ،وحيث تمكن ذلك الشيطان اليهودي من إقناع الصحابة بالتحريض على
97
رب الزمان ودراسات أخرى
(ومن صـ 110- 105ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
عثمان ،ثففم قتله تلك القتلة المهينففة .ثففم تحريضهففم بعضهففم على بعففض ،ليقتلوا بعضهففم بعضاً،
ويتقاذفوا التهفم ،ويتراموا بالكففر والفسفوق ،ويصفبح ذلك الهلمفي الغامفض الشيطانفي الهائل (ابفن
سفبأ) تفسفيراً سفهلً يريفح نوازعنفا التفي تنزع إلى تنزيفه الصفحابة ،والتفي تدفعنفا لتكويفن رأي ففي
الصففحابة هففو أحسففن مففن رأي الصففحابة فففي أنفسففهم ،ونسففتبعد –كدأبنففا دوماً فففي كففل نكسففاتنا–
السفباب الحقيقيفة للكوارث التفي تحيفق بنفا ،ونبحفث دوماً عفن مؤامرات تحاك هنفا وهناك يقودهفا
حزب الشيطان لمة السلم ،خير أمة أخرجت للناس.
ثفم ل نسفأل أنفسفنا :كيفف تمكفن شخفص متفرد مفن فعفل كفل مفا حفل لدولة السفلم وهفي ففي أوج
قوتها؟ وهي تلتزم كافة الفروض والسنن مما يعني –حسب منهجهم– أنها تحت رعاية ال مباشرة
وحمايته؟ وأمر (ابن سبأ) بهذا التصوريجعل المة هزيلة ضعيفة مترنحة ،يستمع أهلها للوشايات،
كلهفم آذان ،يسفارعون إلى الفتنفة مفع أول همسفة ،وبينمفا (ابفن سفبأ) ينشفر مفا يخالف كفل مفاهيفم
السففلم ،أي أنففه بات معلوم المففر مشهور الكفففر ،فإن الصففحابة يسففتجيبون له مففن فورهففم،
فينقسفمون شيعاً ،ويقتلون بعضهفم بعضفا (؟!) وهفو ذات المنهفج الذي ل زال يمارس حتفى اليوم،
فل نرى فففي كبواتنففا أسففبابها الحقيقففة ،ول نعترف بهدوء بتلك السففباب ،إنمففا نبحففث عففن سففبب
خارجنا ،وأن تلك السفباب شياطين عظميفة القدرة والشأن تبغفي تخلفنا ودمارنفا ،غيفر مدركين أن
انتصار العداء الدائم ليس إل نتيجة لذلك التخلف أصلً.
وعــــم الرخــــاء
يقول بلغ الصفحيفة السفلموية "عفم الرخاء وكثفر المال بشكفل لم يسفبق له مثيفل ..وقال المؤرخ
الشهير ابن سيرين :كثر المال في عهد عثمان حتى بيعت جارية بوزنها ،دون أن يلتفت صاحب
البلغ أبداً إلى الظروف الجتماعيفة زمفن عثمان والتفي أدت إلى نشوء طبقفة ثريفة عظميفة الثراء
مففن قريففش ،ومففن البيففت الموي –بيففت عثمان– تحديداً ،وأن ذلك الثراء الذي أصففابت حظوظففه
بعفض أصفحاب الحظوة والمحاسفيب ،هفو مفا قصفده بالرخاء وكثرة المال ،وهفو الثراء الذي رافقفه
إسراف وصل حد السفه والتهتك ،فبيعت جارية بوزنها ،خاصة إذا ما وضعنا بالحسبان الوظيفة
التفي سفتؤديها تلك الجاريفة (؟!) فمفع كفل المغازي والموال والسفبايا التفي تدفقفت على المدينفة مفع
حركة الفتوح ،ظل هناك نفر من الناس في حالة جشع وتهتك وصل بهم إلى المزايدة على الجارية
98
رب الزمان ودراسات أخرى
المليحفة لتباع بوزنهفا ذهباً ،وهفو الذهفب الذي كان متفرقاً يومًا مفا ففي بهيمفة لفلح مصفري بسفيط،
وففي محصفول حنطفة لعراقفي يعيفش ففي الهوار ،وففي بعفض الشياة لشامفي يرعفى ففي البوادي،
ليجمع جميعه ويصب في كفه ميزان تقف على كفنته الخرى جارية حسناء.
وكتفب التاريفخ السفلمية والسفير والخبار ثريفة بالمثلة التوضيحيفة لصفحاب العقول ،ومفن تلك
النماذج مفا حدث عندمفا أطلق عثمان يفد أخيفه ففي الرضاع (ابفن أبفي سفرح) ففي البلد المصفرية،
وأرسففل ممففا جمففع فففي مصففر إلى عثمان غنائم وأموالً عظميففة ،وكان قبله عليهففا (عمرو بففن
العاص) ،الذي سبق وجبى بدوره من مصر جباية مرهقة ،لكن جباية (ابن أبي سرح) كانت أعظم
وأكثفر إرضاءً للخليففة ،ممفا دعاه أن يأتفي بعمرو بفن العاص ويسفأله معرضاً بأمانتفه" :هفل تعلم يفا
عمرو أن تلك اللقاح قفد درّتْف بعدك؟" فمفا كان مفن عمرو إل أن أوضفح مفا آلت إليفه أمور مصفر
بهذا الستنزاف برده البليغ" :وقد هلكت فصالها!!".
فهفل نعجفب مفن كثرة المال ففي عاصفمة الدولة وهكذا كان الحال؟ أم نعجفب ممفن ترك إرثاً –مفن
الصفحابة– يربفو على الخمسفين مليوناً ،أو ممفن ترك ثروتفه ذهباً يقطفع بالفؤوس ،أم نعجفب وسفط
كفل تلك الموال مفن حال الرعيفة ،خاصفة ففي البلدان المفتوحفة؟! أم مفن أرقاء الحال مفن صفحابة
رسفول ال صلى ال عليفه وسلم ففي عاصمة الدولة الثرية ،حيث كان (أبفو ذر الغفاري) يدور بهفا
يندد بالثرياء ،متحدثًا بلسان الفقراء ،ثم أخذ يحتج على عثمان ويندد بأعطياته الضخمة لهله من
بيفت المال ،وبأعطياتفه لمفن أراد تألففه مفن المعارضيفن لسفياسته ،لينتهفي أمره بالنففي إلى (الربذة)
ليموت فيها غريباً معدماً ،وأيضاً حيث كان (عمار بن ياسر) الذي أعلن احتجاجه على المنح التي
يأخذهفا تجار مكفة الطلقاء ،ووقفف إلى جوار أبفا ذر يداففع عفن قضيفة الفقراء ،فأمفر عثمان بنفيفه
بدوره إلى الربذة ،فاعترض المام على ،فأمففر بنفيففه بدوره ،لول احتجاج الصففحابة على عثمان
بقولهفم :أكلمفا غضبفت على رجفل نفيتفه ،ولم يتفم نففي عمار .وففي موقفف آخفر اعترض عمار على
أخذ عثمان للجواهر القادمة من المصار وتحليته بها لبناته ونسائه ،فرد عثمان :لنأخذ حاجاتنا من
هذا الفيفء وإن رغمفت أنوف أقوام ،فقال عمار بفن ياسفر :أشهفد ال أن أنففي أول راغفم ،فرد عليفه
عثمان بسب قبيح قائلً :أعلي يا ابن المتكاء تجتري؟ ثم أمر الجند بضربه حتى غاب عن الوعي،
ولم يهدأ عمار بففل حمففل كتابًا مففن بعففض الصففحابة يلوم عثمان ويعظففه ،فشتمففه عثمان وضربففه
برجليه وهما في نعل قاس ،فأصاب الصحابي الجليل العجوز بالفتق.
99
رب الزمان ودراسات أخرى
ولعله مفن العلوم أمفر الصفراع الذي كان يدور خفيفة حينفا ،وعلنفا جهاراً أحيانًا أخرى ،بيفن أبناء
العمومة من البيتين الهاشمي والموي ،قبل السلم وبعده ،ويتولى عثمان الخلفة آثر قريشًا دون
النصار ،مما ترك في مدينته معارضة ل يستهان بها فهي مدينة النصار ،ثم آثر المويين بشكل
خاص ،وهفو المفر الواضفح بكتبنفا الخباريفة ،ودونفه المسفلمون الثقات دون انزعاج ،لكنفه أزعفج
صفاحب البلغ المذكور إزعاجًا شديداً ،فهفل علم صفاحبنا أن عثمان قفد رد عمفه الحكفم بفن العاص
وأهله للمدينة ،رغم أن جميع المسلمين كانوا يعلمون أن النبي أمر بطرده منها ،بعد أن كان يمشي
وراء النبي يسخر منه ويقلد حركاته ويتجسس عليه في بيته ،ترى ماذا يترك تصرف عثمان هذا
ل كثيراً ،ثفم يولي ابنفه
ففي نفوس المسفلمين؟ خاصفة وهفم يرونفه يأوي عدو النفبي ويسفبغ عليفه ما ً
الحارث سوق المدينة ويسبغ عليه بدوره ،ثم يجعل مروان بن الحكم وزيراً ومستشاراً .ثم يرونه
يأوي عدواً آخفر للنفبي صفلي ال عليفه وسفلم هفو (ابفن أبفي سفرح) أخفى عثمان مفن الرضاعفة أمفر
مصفر ،بينما المسلمون يقرأون قرآنًا نزل بتكفير ابفن أبي سفرح وذمفه ،فكان ابن أبي سفرح يقول:
سفأنزل مثلمفا أنزل ال ،ولمفا اعتصفر الرجفل مصفر أرسفلوا وفداً لعثمان يشكون (ابفن أبفي سفرح)،
فعاقفب الشاكيفن وضرب أحدهفم فقتله ،ثفم يرونفه يولي أخاه لمفه (الوليفد بفن عقبفه) وليفة الكوففة،
وهفم يعلمون كيفف غفش النفبي صفلى ال عليفه وسفلم ،وكيفف كففر بعفد إسفلم؟ ويذهفب الوليفد إلى
الكوفة ليصلى بالناس وهو سكران ،ثم يقر معاوية بن أبي سفيان الموي على دمشق والردن ،ثم
يضفم إليفه وليفة فلسفطين وحمفص ليملك بعدهفا الشام جميعاً ،ويوطفئ لمملكفة الموييفن الوراثيفة
العضود مفن بعده!! هفل كان الناس مفع هذا كله بحاجفة إلى (ابفن سفبأ) أم كان ابفن سفبأ وراء هذا
كله؟ أم نعترف بهدوء ولو مرة واحدة بخطفأ حسفاباتنا ففي قراءة التاريفخ ،أم نحفن أكثفر رؤيفة مفن
(ابن الشتر) الذي أرسل من الكوفة لعثمان بعد تولية الوليد ثم سعيد المويين يقول" :من مالك بن
الحارث إلى الخليففة المبتلى الخاطفئ الحائد عفن سفنه نفبيه النابفذ لحكفم القرآن وراء ظهره ..احبفس
عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك والسلم".
100
رب الزمان ودراسات أخرى
المحرضون الحقيقيون
بعفد تلك الحداث التفي تدافعفت على صففحات الزمفن العثمانفي ،بكتفب السفير والخبار ،ومفا انتهفت
إليففه مففن نتائج حتميففة صففبت المففر كله بيففد البيففت الموي المنتصففر ،يصففر دعاة القداسففة الغيففر
المعصففومين ،على البحففث عففن أسففباب خارج التاريففخ ،يهرولون وراء شيففء اسففمه (ابففن سففبأ)
يمسفكون بتلبيبفه ليجعلوا منفه شخصفاً فريداً فذاً عبقرياً ،تغلب قدراتفه حكمفة المفة جميعاً ،وتدهفم
الصفحابة ولم تزل آثار النبوة باقيفة بينهفم ،ليظهروا مسفلوبي الرادة والعقول ،وهفو المفر يزري
بتلك المفة إن صفدقناه ،ويبعدنفا عفن بحفث السفباب الموضوعيفة لحداث تاريخنفا ،ممفا يجعفل ذلك
المنهفج ففي التفكيفر قائمًا يفرش ضله السفحري على حياتنفا دون أن نلتففت إلى السفباب الحقيقيفة
لكبواتنفا ،ونطمئن إلى أوهامنفا سفادرين ففي السفمادير ونحفن نهوي إلى قاع المفم ،بينمفا نظرة ناقدة
فاحصفة لكتفب الخبار تكشفف ببسفاطة أن رواة الخبار المتقدميفن ،ل ذكفر لبفن سفبأ عندهفم ،فل
تجده عنفد ابفن سفعد ففي طبقاتفه الكفبرى ،على كثرة مفا بهفا مفن دقائق السفرد وتفاصفيل الحداث
والشخصيات ،كما ل تجده أيضًا معلوماً من البلذي ،وهما أهم المصادر بشأن فتنه عثمان ،وكان
أول مفا ذكره الطفبري عفن روايفة لسفيف بفن عمرو (؟!) يأخذهفا عنفه المؤرخون مفن بعفد ،ممفن
ذهبوا مذهب صاحب البلغ ،ليجاد تفسير يرضى هواهم في تنزيه الصحابة وتقديسهم.
وبصفدد قصفة عثمان جمفع أهفل السفير والخبار تقريباً أهفم السفباب الموضوعيفة التفي أدت للفتنفه،
والتفي ذكرنفا طرففا منهفا ،وكانوا موضوعييفن أكثفر مفن أصفحابنا هذه اليام ،ناهيفك عفن إشارتهفم
بالتلميح وبالتصريح أطواراً ،للمحرضين الحقيقيين ،ونماذج لذلك ما رأيناه فيما سبق ،أضافه إلى
كون عثمان قفد اسفتعدى ضده نفراً مفن الناس ذوي التأثيفر البالغ ،فقفد اسفتعدى (عمرو بفن العاص)
عندمفا غمزه ففي ذمتفه وهفو أحفد دهاة العرب الكبار ،ثفم سفار هفو وولتفه سفيرة خشنفة مفع أهفل
المصار ،وهو ما استنفرهم كما استنفر حاسة الحق والنسان داخل الصحابة في المدينة ،ومعلوم
أن ثورة المصريين كانت بسبب اشتداد الولة عليهم ،مع عامل آخر ،حيث نجد محرضين حقيقيين
ل وهميين ،مثل محمد بن أبي حذيفة ،ومحمد بن أبي بكر الصديق ،اللذين تركا المدينة وذهبا إلى
مصر تحديداً ،ليحرضوا الناس على الثورة ،ثم انضم إليهما بعد ذلك عمار بن ياسر.
101
رب الزمان ودراسات أخرى
ثم جاءت قمة الحداث عند جمع المصحف وإبقاء صحف وإحراق أخرى ،مما أدى إلى معارضة
الصفحابي الجليفل حفبيب رسفول ال (ابفن مسفعود) ،وتنديده بمفا يفعفل عثمان بآيات ال ،حتفى أمفر
عثمان بإخراجه من المسجد وضربه حتى كسرت أضلعه ،ثم حدد إقامته بالمدينة ،حتى حصب
عثمان مع الحاصبين من ثوار مصر أهل المدينة وهو على المنير.
وفي كتبنا الخبارية ل تبدوا المدينة بمعزل عن التمرد والحتجاج بل نجد المدينة ذاتها الصحابة
أنفسفهم هفم أسفاس المعارضفة المنكريفن لسفياسة عثمان ،بفل تجفد صفهر عثمان( ،عبفد الرحمفن بفن
عوف) الذي سبق ورشح عثمان للخلفة ،وقد أصبح من كبار المعارضين لعثمان ،وكان يحرض
على قتله ،وهفو أحفد رجال تلك الهيئة كانوا على ذات الحال ،ولهفم مواقفف مشابهفة ،فطلحفة ابفن
عبد ال شارك بنفسه في حصار عثمان كذلك سعد بن أبي وقاص شارك في الثورة ،أما الزبير بن
العوام فقففد اكتفففى مففع منففح وأعطيات عثمان الجزيلة بالنصففح له ،أمففا على فكان معارضاً للخلفاء
الثلثة على سواء ،وقاوم عثمان أكثر من مرة خصوصاً بشأن الموال التي كان يأخذها من بيت
المال ،وسبق وعلمنا رأي أبي ذر وعمار بن ياسر.
102
رب الزمان ودراسات أخرى
الشيففخ محمففد الغزالي منزعففج هذه اليام بشدة ،ممففن ناقشوا موضوع (الردة) بعدمففا افصففح عنففه
الشيفخ ففي محاكمفة القتيفل (وليفس القاتفل) ،وبعدمفا ردوه عليفه على المسفتوى الفقهفي والتشريعفي،
خاصة وأن الشيخ كان رمز الهزيمة النكراء في المناظرة التي جرت أمام الدكتور فرج فوده ،وأن
الشيخ ذاته هو من جاء الن ليحكم على ضمير رجل ميت ،لدانة القتيل وتبرئة القاتل ،وما يمكن
أن يلحفق الموقفف ممفا قفد تهجفس بفه النففس بيفن المريفن ،عفن صفاحب القرار الخففي وراء مقتفل
الدكتور فرج.
ويبدوا أن مزعجاً جديداً بدأ يقلق راحفة الرجفل ،حتفى دفعفه إلى نسفيان حذره وتقيتفه ،التفي أشاعفت
عنه حيناً شائعة العتدال ،فخرج عن حذره ليقول في صحيفة الشعب (عدد 7سبتمبر " : )93إن
مفن يناقشون حفد الردة ،يطلبون مفن علماء المسفلمين فتوى تبيفح الرتداد وتنسفى عقوبتفه ،لتقريفر
حريففة الكفففر واليمان والسففكر والنهففب والسففلب ،وهففم بذلك يحصففيحون :افتحوا أبواب الحانات
ودعونا نلتقي بالنساء كماء نشاء ،وأن الية التي يحتجون بها (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)
ليس لها سوى تفسير حقيقي أوحد ،هو عرض السلم على الناس فإن قبلوه التزموا به ول مكان
بعد ذلك لحرية العتقاد ،ومن يرى الية تفسيراً آخر فهو كافر في دولة مؤمنة ،وعليه أن يطوى
نفسفه على مفا بهفا ،أو ليرحفل إلى مكان آخفر ،أمفا أن أصفر على التصفريح بمفا يرى ،فقفد أطلق
صيحات كفور تقرب أجله".
ورغفم قوله :أن الدولة مؤمنفة ،فإنفه يعود إلى الغمفز واللمفز ،بقوله :أن أصفحاب هذه التصفريحات
عصففابات قليلة تسففتعين بالسففتبداد السففياسي لتفرض ضللهففا ،مشيرًا إلى تحالف الدولة مففع هذه
العصابات الكفور.
حريـــة العتقـــاد
والرجل إذ يقول :مطلوب من علماء الدين فتوى تبيح الرتداد وتنسى عقوبته ،يغالفففط مغلطففة
103
رب الزمان ودراسات أخرى
(ومن صـ 104- 85ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
فاضحففة ،فهففو يعلم يقينًا أنففه ليففس مطلوباً منهففم ذلك على الطلق ،أولً :لنففه ليففس فففي صففحيح
السلم شيء اسمه حد الردة ،وثانياً :لنه يعطي نفسه وجماعته سلطة موهومة ،متصوراً أن أي
أمر يمس مصير الناس يجب أن تصدر عنه فتوى من رجال الدين أولً ،وهو المر الذي تجاوزه
الزمففن ،اللهففم إل إذا كان الرجففل يعيففش حلم سففيادة مقبلة ،يحتكففر فيهففا الرأي الوحففد والتفسففير
الوحد ،حيث وضح في خطابه المذكور أنه ليس للية سوى تفسير أوحد هو ما ساقه بشأنها.
وهففو المففر الذي يشيففر إلى مففا يمكففن أن يترتففب على أي خلف فففي التفسففير (ناهيففك مثلً عففن
الخلف المذهبي أو الديني) ،في دولة يحكمها رجال الدين ،فتهمة التكفير مشهرة ،ول مجال حتى
للخلف فففي الرأي أو الجتهاد ،ولنففا أن نتصففورحمامات الدم التففي سففتحدث حينذاك ،لخلف فففي
مصالح الرجال وأهوائهم ،حول تفسير آية ،أو حديث يخدم تلك المصالح أو يتعارض معها.
وهكذا ،فالرجففل قبففل أن يتملك على العباد ويحكففم فففي الرقاب ،يصففدر قراراتففه بتكميففم الفواه أو
النفي والتشريد أو القتل ،كما لو كنا نعيش في العزبة التي ورثها عن آل غزالي.
الجمـــوح
والشيخ عندما برى للية تفسيراً أوحداً ،يعطي نفسه قدراً حاشا لنسان أن يجمح به طموحه إليه،
فهففو بذلك إنمففا يعطففي نفسففه قدرة الطلع على المقصففد اللهففي ،بففل ويفرض تفسففيره على ذلك
المقصد الرفيع فرضاً ،فيسوق للية تخريجًا يقول :إنها إنما تعني عرض السلم على الناس دون
إكراه ،فإن آمنوا وكونوا جماعتهم ودولتهم ،التزموا بذلك العقد اليماني.
ولوجففه الحففق ،فإن هذا الرأي التفسففيري سففليم إلى حففد بعيففد ،لكنففه ل ينفففي آراء أخرى وتفاسففير
أخرى ،وليففس هناك شيففء اسففمه التفسففير الوحيففد الصففحيح ،وكان أولى بالشيففخ إن أراد صففدق
المقصفد ،أن يلجفأ إلى حيثيات الناسفخ والمنسفوخ المرتبطفة بواقعهفا وظرفهفا الموضوعفي ،وكيفف
نسخت آية السيف ما سلفها من آيات حرية العتقاد ،وأصبح الكفر ملة واحدة ،وأصبح الدين عند
ال السفلم ،لكنفه لم يرد أن يورط نفسفه إزاء مفا يزعمونفه عفن تمسفكهم اليمانفي بحريفة العتقاد
لصحاب الديانات الخرى في ظل دولة دينية يحكمون فيها.
104
رب الزمان ودراسات أخرى
هذا ناهيفك عفن كون ذلك التفسفير لليفة يسفقط دعواه حول حفد الردة ،لن اليفة بذلك قفد عرضفت
السلم على الجاهليين وغيرهم في جزيرة العرب زمن الدعوة ،عرضته على أناس غير مسلمين
عنففد تأسففيس الجماعففة (النواة) الولى المؤسففسة للدولة ،وكان الخروج عليهففا حينذاك يعنففي فرط
عقدهفا حيفث حلت محفل القفبيلة ،وأصفبحت وطناً ففي وسفط قبلي ل يعرف غيفر القفبيلة وطناً ،لكفن
مسلم اليوم ،ولد مسلماً ،ولم يعرض عليه السلم وهو راشد بالغ عاقل ،ولم يدع إلى عقداً أو بيعة
يقبفل بشروطهفا أو يرفضهفا ،ومفن ثفم فإن الظرف يختلف تمامًا عفن وضفع مفن قبلوا السفلم عنفد
تكوين الجماعة الولى ،ويبقى سؤال ل يحتاج إلى إجابة :هل يطبق على مسلم اليوم إن أراد اتخاذ
موقفف جديفد بإرادتفه الحرة حفد الرتداد ،الذي هفو غيفر مقرر أصفلً؟ وهفل نسفتحق أن نكون بشراً
حقاً ،عندمفا نهلل لمسفيحي يخرج عفن دينفه ليدخفل السفلم ،ونقتفل مسفلمًا ليفس لنفه خرج إلى ديفن
آخفر ،بفل فقفط لنفه أراد أن ينتمفي إلى بنفي النسفان ،فقرر لنفسفه حريفة الرادة والتفكيفر ،وناقفش
أمراً من أمور دينه ليطمئن إلى طوية فؤاده ،أو لنه ناهض أمراً يراه ضد مصلحة البلد والعباد.
التهديد بالقتل
وإن يؤكففد الهواجففس ويدعمهففا ،أن الرجففل سففاق حديثففه هذه المرة فففي هيئة مففن يملك سففلطانًا أو
يتوقعفه ،بشكفل يشبفه بيانات المسفئولين وتصفريحاتهم ،فهفو يصفدر الوامفر ،وتحدث عفن سفيطرة
السلم وسيطرة الدولة ،ثم يلقي بما لم يكن متوقعاً ،فيهدد المخالفين( ،المؤمنين بأن السلم قرر
حريفة العتقاد) ،بالقتفل إن لم يصفمتوا ،لكنفه ففي هذه الفقرة الخيرة القاتلة تحديداً ،تحول خطابفه
عففن الجماعففة إلى المفرد ،كمففا لو كان يعنففي شخص فًا بعينففة وبالذات ،يعلمففه ويوجففه له رسففالته
الموجزة :أصفمت أو أرحفل ،أو تقتفل ،ويبدوا أن هذا الشخفص ممفن تصفعب مناقشتهفم واتهامهفم
بشيفء مفن سفيل التهامات المعتادة ،والرجفل بذلك يتصفور أن بمقدوره أن يخيفف ،غيفر مدرك أن
الموت دفاعًا عن قضية شريفة هو الخلود الحق ،وأن من عرض نفسه على أمانة الكلمة ومصير
الناس في هذا الوطن ل يخشى تهديدات الشيخ ول قنابل صبيته ،وأن كانت ثقة الرجل وهو يلقي
بهذا الكلم الفلوت تعكفس تخطيطاً بعينفه يوقفن بسفلمة برمجتفه حتفى النهايفة ،فمرحبًا بموت يرحفل
بنففا عففن عالم أقنان تحففت عرض عمائم وسففيوف مشرعففة ،فموت صففاحب المبدأ بشرف ،يختلف
تمامًا عففن موت جهول يطمففع فففي الخمور والحور ،فلسففنا نحففن أيهففا الشيففخ مففن يطلب الحانات
105
رب الزمان ودراسات أخرى
والنسفاء (؟!) فقفط لتتذكفر أن مفن قتفل ل فوازيفه ل يعرف أحفد اسفمه وبقفى ذكفر لفوازيفه خالداً،
ولتذكفر أن مفن ذبفح الحلج ذهفب إلى سفلة مهملت التاريفخ وبقفى ذكفر الحلج ،ونحفن نؤمفن تماماً
أن ما نطمع إليه من حياة أفضل للجيال المقبلة ،لن يكون دون تضحيات نحن أهل لها ،ولو كانت
بقرارات قاتلة أنتم أهل لها.
106
رب الزمان ودراسات أخرى
بعد عملنا الذي نشرناه بمصر الفتاة (الرد على الضاليل في تنظيرة بني إسرائيل) والذي تم نشره
على مدى عشرة أسففابيع متصففلة ،كان مفترضففا ومتوقعففا أن تتففم مهاجمتنففا بشكففل مففا ،وكان مففن
الفطنفة أن نترقفب حملة قريبفة علينفا ،ربمفا تأخفذ أبعادا تتسفم بالخطورة ،وأن نتهيفأ لمفا سفيحدث،
وبالفعفل بدأت البوادر ولكفن بسفرعة وسففور مدهشيفن!! متمثلة ففي هجمفة شرسفة شنتهفا علينفا مجلة
تدعي السلم وطن (عدد .)52وعلى واحد من أعمالنا ،هو كتاب (الحزب الهاشمي) بحيث لبس
الهجوم زيفا مألوففا ومعتادا ففي تأليفب الجماهيفر وخداعهفا ضفد مصفالحها العالميفة يجفد تفبريره ففي
ذلك التزامن الغريب وفي طبيعة الجهة المهاجمة ومناهجها وهو المر الذي كان لبد يحمل ذلك
المغزي الذي ل يخفى على لبيب.
ويزداد ذلك الترابفط تفبريرا إذا مفا نظرنفا إلى ذكاء الختيار ،وترتيفب الدوار ،وطبيعفة الخطاب
الموجفه ضدنفا ،واسفتفزازه للمشاعفر الدينيفة ،بأسفلوب معلوم ،اسفتخدام ضفد مفن سفبقونا مفن باحثيفن
مثلنا ،كانوا يؤدون المقدمات لما نؤديه نحن الن ،وقد أدى ذلك الدور أحد كتاب المجلة المذكورة
أعله ،وهففو أيضففا أحففد أصففحابها ونائب رئيففس مجلس إدارتهففا الذي هففو وشقيقففه .فهففو سففماحة
صفاحب الفضيلة القطفب الصفوفي العزمفي حفيفد المام المجدد وابفن الخليففة الول ،وشقيفق الخليففة
القائم لمشيخفة الطريقفة العزميفة الشيفخ السفيد اللواءء عصفام الديفن ماضفي أبفو العزائم ،وهفو فيمفا
تزعفم المجلة المذكورة سفليل الحسفن والحسفين أي أنفه مفن آل البيفت أي أنفه هاشمفي ففي حسفاب
النساب .ومن هنا حشد الشيخ اللواء ما ينوء به من ألقاب ضدنا ليتناول كتاب (الحزب الهاشمي)
وصففاحبه بالقذف والتشهيففر والسففب والتفكيففر ،لكففن كففل ذلك فففي رأينففا ...رغففم تجاوزه لداب
الخطاب وقواعد اللياقة لم يشكل سوى زوبعة كلمية لم تغنها تجاوزاتها وأغراضها عن أن تكون
كالعهن المنفوش (؟!) بحيث كشفت عن سوء فهم متعمد ،وأسقاط لسوء الغرض على نوايانا وما
تخفي صدورنا ،وهو المر الذي يكشف عنه وضع السيد اللواء الطبقي وانتماؤه الوظيفي ،وظرفه
السيادي ،ومنظومته التي يحتل فيها مكانا ومكانة .وعليه فإن كل ما قدمه السيد اللواء ليس
107
رب الزمان ودراسات أخرى
فيفه رد موضوعفي واحد يستحق المناقشة ،بقدر مفا هو لون من التحريفض الواضح ،لذلك رأيناهفا
من جانبنا استفزازا وتهجما نعلم خلفياته ،ومن هنا فقط وليس من قيمة الموضوع – يأتي اهتمامنا
بالسففتجابه له حتففى يكون هناك تقييففم دقيففق للقدرات ،وممكنات الطرفيففن فففي تلك المعمعففة التففي
توشك على البدء وال المستعان.
منهج الخطاب
وقفد اتبفع الشيفخ اللواء منهجفا معتادا ،ليفس له غرض ،سفوى هزيمفة الخصفم بأي أسفلوب ممكفن،
حتفى لو كان تزييففا متعمدا على القارئ لتحقيفق الغرض السفاسي وهفو التحريفض! ومفن هنفا قام
السفيد اللواء يقتطفع مفن كلمنفا على هواه،وينتزع عبارات كتابنفا مفن سفياقها على نمفط (ل تقربوا
الصفلة) بحيفث شوه مفا كتبنفا ،وقال غيفر مفا قلناه ،غيفر مدرك إلى أي منزلق ذهفب ،لكنفه لم ينفس
تخويفنا ،فوضع في صدر لعناته وسبابه صورة لسيادته بزي الشرطة الرسمي ،تعمد فيها أن يلقي
بكتفه اليمن أمام عدسة المصور ،ليظهر ما يحمله كاهله من أثقال ولبيان صورة النسر والسيفين
لكل ذي عينين.
وهكذا يعلم القارئ مففن الصففورة البهيففة ،واللقاب السففنية ،أننففا أمام مهاجففم ذي شأن ،يجمففع بيففن
قدرات العارفيففن الواصففلين ،وسففلطان أهففل السففلطين ،إضافففة إلى مففا أبانففه مففن إحاطففة بالقول
المأثور ،والدر المكنون مثفل أقوال (برنارد شفو) و(كارليفل) والمؤرخ (ديورانفت) ،ومدائح السفيد
(ويلز) ومواجيد المستر (هارت) ،فأبان عن علم وواضح بالقوال البتدائية التي كنا نحفظها من
كتاب المطالعفة الرشيدة ،ليكسفب بهفا ثقفة مفن ل يفقهون القول فيتبعون اسفوأه ،وأول مفا يسفترعي
العجب في هجوم السيد اللواء ،أنه لم يصنع لموضوعه عنوانا ،إنما صدره بلفته عريضة ،تحمل
الية الكريمة" :رب ل تذر على الرض من الكافرين ديارا إن تذرهم يُضلوا عبادك ول يلدوا إل
فاجرا كفارا" وهكذا بدأ الرجل موضوعه بأحسن الكلم ،لكن اختياره للية وانتقاءه لها مع ربطها
بما نسبه إلينا يكشف أنه بدأ بالغمز الصريح واللمز الواضح (ويل لكل همزة لمزة) ،مستغل كلم
الحفق تعالي ففي غيفر موضعفه ،موظففا كلمات القرآن الكريفم لغرض السفب والقذف! وبحيفث تحول
ضابفط المفن مفن الحفاظ على أمفن المواطفن والذي يتقاضفى عليفه راتبفه ضرائب مفن جيوبنفا ،إلى
108
رب الزمان ودراسات أخرى
محرض لشذاذ الفاق ،من تتر هذا الزمان الردئ ليستأصلوا شأفتنا وشأفة ولدنا من أطفال أبرياء،
بعد أن ألصق بنا تهمة الكفر والضلل.
فل تطالع أول كماتفه إل وتجده يقول عفن كتابنفا :إن بفه آراء وأفكار ضفد السفلم ونفبي السفلم
وضربات خفيفة وظاهرة للسفلم وكعبفة السفلم!! وأننفا فعلنفا ذلك بوضفع السفم ففي العسفل؛ وهكذا
ورض ذو السيفين نفسه بإصداره الحكام ،بزعمه القدرة على قراءة النوايا بغير بيان ،لذلك بات
مفن حقفه علينفا لوجفه المانفة أن نعلمفه بحقيقفة موقففه معنفا ،بقولنفا يفا ذا السفيفين لقفد تجاوزت حدود
وظيفتك ،بل وعكست الدوار ووظفت قلمك بتسرعك غير المحمود ،فأصبحت أهل لما يمكن أن
نقول.
ونتابع مع السيد اللواء القطب الصوفي مسيرته التكفيرية في تكفيرنا دون بيان ،سوى فراءة النوايا
ربمفا ففي المندل أو ففي الفنجان ....فيقول باجتراء غريفب أننفا ل نؤمفن بالرسفالة التفي أرسفلها ال
دون أن يشق بأحد سيفيه عن قلبنا أو يقرأ ما فيه؛ بل ويذهب إلى حد الزعم أن كلمنا في الحزب
الهاشمففي لم ينطففق بففه كافففر يعادي السففلم!! بففل ونقففف الن مففع أخطففر انتقاءات السففيد اللواء
المختلة؛ حيففث يقول "جاء فففي كتاب الحزب الهاشمففي أن عبففد المطلب بففن هاشففم كان مففن ذوي
النظر الثاقب ،والفكر المنهجي المخطط ،استطاع أن يقرأ الظروف الموضوعية لمدينة مكة ،وأن
يخرج من قراءته برؤيفة واضحة ،هي إمكان قيام وحدة سفياسية بيفن عرب الجزيرة ،تكون نواتهفا
ومركزهفا مكفة تحديداً ،رغفم واقفع الجزيرة المتشرذم أنذاك ،ويؤيفد ذلك بقول عبفد المطلب إذا أراد
ال إنشاء دولة خلق لهفا أمثال هؤلء ،وهفو يشيفر إلى أبنائه وحفدتفه( ،ويقصفد الكاتفب؟!) أن عبفد
المطلب كان يسعى لنشاء دولة هاشمية يكون هو ملكها ومن بعده أولده" .وصل إلى حد اتهامنا
بالطعن في الرسالة والقرآن ،وأننا قمنا نضرب آيات الكتاب الكريم بعضها ببعض.
ثفم ينهال علينفا سفماحة الشيفخ الذي ل يتسفم بسفماحة القول سفبابا قائل" :فإن لم يكفن هناك رد لمفن
يسب السلم ،فيكفينا رد غير المسلمين عليه وخاصة كارليل" ،وقد أتى بهذا الرد في نماذج منها
"ال ُبلّه ،المجانين ،السفهاء ،نتاج جبل الكفر والجحود واللحاد ،دليل خبث القلوب وفساد الضمائر
وموت الرواح) إلى آخففر قائمففة مففا فففي جعبففة القطففب العزمففي مففن بديففع اللفاظ منسففوبة إلى
(كارليل).
109
رب الزمان ودراسات أخرى
ونقول للسيد اللواء ،نعم لقد قلنا بالفعل ما نصه "عندما غمز أشراف قريش من قناة النبي – صلى
ال عليفه وسفلم – وهفو ويطوف بالكعبفة ،ألتففت إليهفم هاتفاً :أتسفمعون يفا معشفر قريفش ،أمفا والذي
نففس محمفد بيده لقفد جئتكفم بالذبفح" ،وكان طبيعيفا عندمفا يقسفم نفبي أن يفبر بقسفمه ،لذلك عقبنفا
بالقول" :وقفد بر النفبي – صفلى ال عليفه وسفلم – بقسفمه ففي بدر الكفبرى" ،لكفن القطفب الصفوفي
يرففض ذلك الخفبر برمتفه كمفا لو كنفا قفد افتريناه ،أو ليجعفل القارئ يعتقفد ذلك ،بينمفا الخفبر متواتفر
في كتب السير والخبار السلمية ،فإذا كان في المر ملمة فهي على السيد اللواء لنه ل يقرأ،
وإذا كان مصرا فليتوجه بمعركته إلى التاريخ السلمي ول نظنه بفارس لهذا الميدان.
ونعم قلنا أنه كان للعرب في زمان بعيد ،عدد من بيوت اللهة التي كانت تبني على هيئة المكعب،
لذلك سفميت كعبات وذكرنفا منهفا بيفت اللت وكعبفة نجران ،وكعبفة شداد اليادي ،وكعبفة غطفان،
والكعبفة اليمانيفة ،وكعبفة ذي الشرى وكعبفة ذي غابفة ،وأرفقنفا مصفادرنا ففي الهوامفش (الكليفل
الهمداني ،وتاج العروس للزبيدي ،وأصنام ابن الكلبي ،والمفصل لجواد على) ،ومع كل معلومات
النشفر وأرقام الصففحات ،فلم نفتفر شيئا مفن عندنفا ،ثفم ماذا ففي المفر مفن مزعجات يريفد بهفا فتنفة
القارئ؟ إنفه يسفرب للقارئ قوله" :إن الكاتفب يقصفد أن كعبفة مكفة بدورهفا مفن صفنع العرب" ،نعفم
إنهفا مفن صفنع العرب ،فقفد تهدمفت وبنيفت عدة مرات ،وكفل مرة كانفت تبنفى مفن طيفن الرض
110
رب الزمان ودراسات أخرى
وحصففبائها وخشبهففا ،وكان بناتهففم هففم العرب أيهففا القارئ الكريففم ،ولشففك أن ذلك أمففر معلوم
والغرض عند السيد اللواء – مما يقول – أيضًا مفهوم.
وففي أقوال الشيفخ اللواء متفرقات أخرى ،مثفل قوله :إننفا تجرأنفا ففي تفسفير القرآن ،كمفا ففي تفسفير
الزنيم بأنه أبن الزانية في الية الكريمة "هماز مشاء بنميم ،عتل بعد ذلك زنيم" والمضحك المبكي
ففي أمفر اللواء وهفو يلوي الكلم ليحرض علينفا ،نفيفه لذلك المعنفى ،وإتيانفه بالمعانفي التفي يراهفا
صفادقة ومنهفا "الزنيفم هفو الذي ل أصفل معروف له ،وقيفل هفو والدعفي الملحفق بقوم وليفس منهفم"
وهكذا يتوهفم سفيادته ففي القارئ عدم الفطنفة ،غيفر مدرك أن القارئ سفيلمس بوضوح أن حضرة
اللواء لم يأت بجديد ،ومعلوم أن مكة قبل السلم كانت تغص بصاحبات الرايات الحمر (الزانيات
بالجفر) لذلك كان طفبيعياً أن يكثفر أبناء الزنفى والدعياء ...وففي حادثفة نسفب لعمرو بفن العاص
إشارة واضحفة لكيفيفة حفل مثفل تلك الشكاليات ففي الجاهليفة ،فهفل كان السفيد اللواء يعلم ،أم كان
يلوي الكلم ،أم هو بحاجة لن يعلم؟ على أية حال كلنا دائما بحاجة لن نعلم ونتعلم ،فقط يجب أن
يتسم بنزاهة الغرض وعلمية المقصد.
ويأتي الشيخ اللواء بقولنا أن النبي – صلى ال عليه وسلم – "قام يؤلب العبيد على أسيادهم بندائه
اتبعوني أجعلكم أنسابا" ،ويحتج على قصرنا ذلك النداء على العبيد ،ويزعم أنه كان موجها للعرب
كافه ،وأننا بذلك ل نعلم من التاريخ السلمي شيئا! لذلك ،وفي حدود علمنا الضعيف نفهم أن ذلك
النداء لو كان شامل للعرب جميعفا ،لكان معنفى ذلك أن جميعهفم كانوا بل نسفب ،حيفث كان النسفب
له أهميتفه القصفوى ففي البيئة القبليفة ،حيفث ل شرطفة ،ول أولويـة لحفـظ المـن ،فقفط كانفت قوة
النسفب هي الضامفن القبلي لحمايفة الفرد ،وحيفث ل حمايفة لمفن ل نسفب له ،وعليه ل يصح توجيفه
بالنداء (اتبعونفي أجعلكفم أنسفابا) إل لفاقفد النسفب ،لذلك منفح النفبي – صفلى ال عليفه وسفلم – نسفبه
لعبده زيد بن حارثة بعد أن أعتقه ،وهو والمثال الذي ضربناه ولم يعجب السيد اللواء.
الظـروف الجتماعية
ثفم يسفتمر الشيفخ اللواء متقبسفا مفن كتابنفا قراءة تاريخيفة ،يوهفم القارئ أنفه على علم مسفبق بهفا،
فيقول" :وإذا رجعنفا إلى تاريفخ العرب ،نجدهفا ل تقبفل النظام الملكفي وسفيطرة الملك على القبائل
العربيفة ،لن ذلك يجعفل لعشيرة الملك سفيادة على بقيفة العشائر ،وهفو مفا تأباه أنففة الكفبرياء القبلي
111
رب الزمان ودراسات أخرى
وتنففر منفه ،وقفد ذكفر الكاتفب هذا المعنفى ففي ص 10مفن كتابفه ،فإذا كانفت هذه صففات العرب،
فكيف يحلم عبد المطلب بتأسيس دولة هو ملك لها؟".
ومرة أخرى نقول :نعفم ول نتراجفع قيفد أنملة عمفا قلنفا ،فالكملة أمانفة ،لكفن اللواء رفيفع المقامات
نزع ما قلناه من سياقه ،وأعاد ترتيب الفقرات بحيث تؤدي التأثير المطلوب لتحقيق التحريض وما
يليه ،لكن ذلك ل يعني أننا لم نقل بل وأيم الحق قلنا غير هيابين .فلم نقدم فرية مفتراة ،ول أضعنا
العمفر ندرس المنهفج العملي ،ونطبفق أصفوله ففي بحوثنفا ،لننسفحب مفع مثفل ذلك تلك الزمجرات
الولية ،وهنا نجدنا مضطرين إلى أعطاء ذي السيفين درسا في معنى قراءة الواقع قراءة علمية،
والتفي طبقناهفا على جزيرة العرب قبفل السفلم ،والتفي كانفت هدف كتابنفا وغرضفه ،وهفو رأيناه
بحاجة إليه ،فأردنا به كسب الثواب.
ومفن هنفا نقول :إن كتابنفا كتاب ففي التاريفخ الجتماعفي وليفس كتابفا ففي الديفن ول أي مفن علومفه،
وضفع بغرض قراءة وفرز أحداث المرحلة القبفل إسفلمية ،وقفد تعمفد القطفب العزمفي عدم الشارة
لتلك القراءة الجتماعيفة بالمرة ،رغفم أنهفا العماد السفاسي للكتاب .تلك القراءة التفي تكشفف أنفه لم
يكففن عبففد المطلب وحده هففو الذي أدرك تهيففؤ الواقففع لقبول الحدة السففياسية بففل أدركففه آخرون،
وسفعوا إلى تحقيقفه ،مثفل أميفة بفن عبفد ال الذي أراد لنفسفه النبوة والملك ،ومثفل عبفد ال بفن أبفي
سفلول ،الذي كاد يلبفس التاج الملوكفي لول مجيفء الدعوة ،ومثفل زهيفر الجنابفي وغيرهفم كثيفر ،لم
تعننففا أشخاصففهم قدر مففا عنانففا الدوار الهامففة المؤثرة ،أثناء تقديمنففا لقراءة الواقففع الذي أفرز
توجهاتهم.
وهكذا فقد كانت مهمة الكتاب هي الكشف عن أوضاع الجزيرة ،الجتماعية والقتصادية وبخاصة
مكففة ،وبهذا الكشففف علمنففا أن تلك الوضاع ،قففد دخلت مرحلة متسففارعة مففن التغيرات الكيفيففة
الناتجة عن تغييرات عديدة متراكمة ،ومرتبطة بظروف أدت إليها ،مما هيأ مكة للتحول من كونها
مجرد اسفتراحة ومنتدى وثنفي دنيوي على الطريفق التجاري ،للقيام بدور تاريخفي حتمتفه مجموعفه
مفن الظروف التطوريفة ففي الواقفع العربفي والعالمفي ،وكان ذلك الدور هفو توحيفد عرب الجزيرة،
في وحدة سياسية مركزية كبرى.
112
رب الزمان ودراسات أخرى
ومعلوم أن ذلك التطور تراففق معفه صفراع أولد وأحفاد (قصفي بفن كلب) على ألويفة التشريفف
والسيادة في مكة ،مما انتهى إلى انقسامهم إلى حزبين كبيرين متصارعين هما (الحزب الموي)
نسفبة لميفة بفن عبفد شمفس ،و(الحزب الهاشمفي) نسفبة لهاشفم بفن عبفد مناف ،بينمفا كانفت السفاحة
تتهيففأ لفرز فكرة الوحدة ،عففبر سففريان العقيدة الحنفيففة وانتشارهففا ،بحيففث سففاهمت فففي تحطيففم
العصفبية القبليفة لسفلف كفل قفبيلة ،وأعادت صفهر الجميفع بإعادتهفم معفا لسفلف واحفد مشترك هفو
إسفماعيل بفن إبراهيفم – عليفه الصفلة والسفلم – كمفا سفاهمت ففي القضاء على التشرذم القبلي،
الذي كان يتأسس على تعصب كل قبيلة لنسبها وسلفها الذي هو ربها دون أرباب القبائل الخرى.
وذلك بالعودة إلى إله واحد هو سيد الجميع ومن هنا تهيأت الجزيرة لقبول فكرة الوحدة السياسية،
عندمفا تهيأت لقبول فكرة السفلف المشترك والله الواحفد ،ومفن هنفا يكون توحيفد الرباب ففي إله
واحد قد جاء عند الرواد الحنفيين كناتج طبيعي لهدير الواقع بذات السبيل ،لكنه يسبق الواقع ،لن
الفكرة تسفبق الحدوث والتحقيفق .وعليفه فقفد كان قبول الرباب القبليفة النضواء تحفت سفيادة إله
واحد ،مقدمة نظرية ،تترك الباب مفتوحا للقبيلة التي يمكنها تحقيق المل ،كما كان يعني التوطئة
المنطقية لقبول ما حدث في عالم السماء (عالم الفكرة) ليحدث في عالم الرض (عالم الواقع) وقد
حتمت الظروف وتضافرت الحداث بحيث صبت القدار في يد قريش ،وفي البيت الهاشمي الذي
أخفذ على عاتقفه تحقيفق هذه المفر العظيفم ،والذي تراففق وتزامفن مفع تواصفل الرض والسفماء
وتطابق الفكرة مع حاجة الواقع وضرورته ،ومع هبوط الوحي الذي تهيأت له السباب فمهدت له
أرض الواقفع ،بحكمفة ل تخضفع لمؤامرات ففي التاريفخ ،ول لرغبفة قفبيلة ،ول لرادة عبفد المطلب
أو غيره مفن أفراد ،إنمفا تضافرت له السفباب التفي تراكمفت عفبر فترة زمنيفة حتفى نضجفت لفرز
واستقبال السلم تحديدا .فهل شرحنا وأوفينا؟ ويا أبا العزائم ل بأس إن شددت من عزائمك بمزيد
من المثابرة على الطلع والتحصيل ،ففيهما فضل آخر إضافة لفضل الذكار والمواجيد ،ويا أبا
العزائم نظرة ،ولكن في الكتب!!
113
رب الزمان ودراسات أخرى
يسفجل مترجفم هذا الكتاب الطفبيب د .رفعفت السفيد واقعفة مرة المذاق ففي مقدمفة ترجمتفه لكتاب
"عصور في فوضى – من الخروج إلى الملك إخناتون" – لمؤلفه عالم الطبيعة اليهودي الروسي
(إيمانويففل فليكوفسفكي)! والواقعففة نسففبها المترجففم بمفا نصففه" :ثففم التقيففت بالدكتور سفيد محمود
القمني عام 1992وكنت أكن له من خلل كتاباته كل تقدير نظراً لرؤيته المتميزة لبعض جوانب
التراث الشعفبي الدينفي ففي الشرق العربفي ومدلولتفه التاريخيفة .وحيفن طلب اسفتعارة المخطوطفة
المترجمة للطلع عليها نظراً لما ترامى إلى سمعه عنها وتشوقه لقراءتها لستخلص ما يمكن
اسففتخلصه منهففا فففي إعداد مادة كتابففة الذي كان مشتغلً فيففه فففي ذلك الوقففت وهففو كتاب "النففبي
إبراهيفم والتاريفخ المجهول" ،لم أتوان عفن إعارتفه المخطوطفة مفع وعفد منفه بعدم نشفر أيفة أجزاء
منهفا .ولم تكفد تمفر بضعفة أسفابيع حتفى فوجئت بالفصفل الول منشوراً على هيئة مقالت أسفبوعية
ففي جريدة (مصفر الفتاة) مفع تعليقات وحواش ،والمقالت تحمفل اسفم د .سفيد القمنفي .وهالنفي أن
ينكفث عالم جليفل مثله بوعود كان قفد قطعهفا على نفسفه ،وبذلت كفل جهفد ممكفن لوقفف النشفر ،ولم
أنجفح ففي ذلك إل بعفد أن كان الفصفل الول قفد نشفر بأكمله ،وغنفي عفن البيان أنفه قفد جمفع تلك
المقالت بعففد ذلك مففع بعففض الضافات فففي كتاب آخففر أصففدره باسففم :إسففرائيل – التوراة ....
التاريخ ...التضليل"!
والكتاب الذي وردت فيفه هذه الواقعفة صفدر عفن دار سفيناء للنشفر هذا العام ففي شهوره الخيرة،
ومعنى ما ورد أن المترجم يوجه اتهاماً صريحاً إلى د .سيد القمني بأنه لم ينكث بوعوده له فقط!
بفل ونشفر الفصفل الول مفن المخطوطفة المترجمفة مقالت باسفمه دون نسفبتها إلى المترجفم! الذي
سعى بالطبع إلى وقف النشر فتم له ما أراد بعد لى!
ولول أن هذا قد أصفبح منشوراً ما كنا تعرضنا له هنا بالتعليفق ،كما أننا ل نملك تأكيد ما ورد أو
نفيه ،والحقيقة فيه عند د .سيد القمني ،لكننا نسعى لجلء هذا المر ،لسيمفا وأن المسألة تففخص
114
رب الزمان ودراسات أخرى
باحثًا كبيراً وكاتبًا ومفكراً مبدعًا وصاحب اجتهاد متميز وملحوظ فيما يختص بالدراسات التراثية
العربية والسلمي ،والصلة نراها منعقدة بين المترجم ومخطوطته وبين د .سيد القمني .ليس فيما
كتبفه المترجفم فقفط ،بفل وففي كتاب د .سفيد القمنفي (إسفرائيل – التوراة ....التاريفخ ...التضليفل)
الذي ذكر المترجم أنه يحوي تلك المقالت التي نشرها د .القمني في جريدة (مصر الفتاة) محتوى
الفصففل الول مففن مخطوطففة المترجففم! والكتاب نشرتففه (دار كنعان) للدراسففات والنشففر ومقرهففا
دمشففق ،وطبعففت منففه ألف نسففخة فففي طبعتففه الولى عام ،1994ونلحففظ فففي هذا الكتاب أن
المترجم صاحب المخطوطة يرد ذكره في طبعته الولى عام ،1994ونلحظ في هذا الكتاب أن
المترجفم صفاحب المخطوطفة يرد ذكره ففي صففحة رقفم 97بعنوان "التأسفيس" ففي الهامفش أسففل
الصفحة هكذا "إيمانويل فليكوفسكي :عصور في فوضى عن ترجمة مخطوطة قام بها الطبيب د.
رفعفت السفيد" ،وففي حيفن أن هذه الصففحة بدايفة لفصفل طويفل موضوعفه كله مناقشفة د .القمنفي
لوجهات نظفففر (فليكوفسففكي) فففي الكتاب الصففلي "عصففور فففي فوضففى" مففن خلل المخطوطففة
المترجمة فإننا ل نجد بعد ذلك أية إشارة إلى المترجم ومخطوطته إل هذه المرة الوحيدة! حتى في
ثبت المراجع واستشهادات البحث الواردة في آخر الكتاب ل يرد ذكر المترجم ول مخطوطته! مع
أن د .القمنفي نراه يورد ففي هوامفش بعفض الصففحات المراجفع وأصفحابها ويعود إلى ذكرهفا مرة
أخرى ففففي ثبفففت المراجفففع واسفففتشهادات البحفففث الواردة ففففي آخفففر الكتاب!وففففي نفففص إهداء
(فليكوفسكي) كتابه لبيه ،يلتزم د .القمني بترجمة د .رفعت السيد بالنص! وفي كثير من المواضع
يفعفل نففس الشيفء! مفع إضافات وتعليقات بالطبفع ،وكان هذا مفا طالعناه مفن أوراق المسفألة هنفا
وهناك ،ونثيره بكفل الحرص على أل يظفل اتهام المترجفم للدكتور القمنفي معلقًا ففي ثنايفا صففحات
كتابه الصادر مؤخراً ودون جلء لحقيقة يملكها المترجم ود .القمني وحدهما فقط!
115
رب الزمان ودراسات أخرى
كنفا قفد آلينفا على أنفسفنا عدم السفتجابة ليفة اسفتفزازات ،حتفى ل ننشغفل بمعارك وهميفة تصفرفنا
عففن أبحاثنففا ،خاصففة مففع إدراكنففا لحجففم الشراك المنصففوبة تلك اليام ،والتففي نعلم جيداً دقائقهففا
وآلياتهفا وأهدافهفا ،لكفن مفا نشره السفتاذ (حازم هاشفم) ففي (الوففد) بتاريفخ 7/11/1995تحفت
عنوان (مفا بيفن القمنفي وهذا المترجفم) ،ودعوتفه الواضحفة لنفا للرد على الطفبيب (رفعفت السفيد)
حول ما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب (عصور في فوضى) ،لمؤلفه الكاتب الصهيوني (إيمانويل
فليكوفسفكي) ،إضاففة إلى العبفث غيفر المحمود الذي سفاقه الطفبيب المذكور ،كفل ذلك لم يترك لنفا
فرصفة التمسفك بمبدئنفا ،حيفث أنزلق السفيد الطفبيب إلى منزلق شديفد الوعورة ،غيفر مدرك إلى أي
منحدر ذهفب ،فطعفن ففي أمانتنفا العلميفة ،وهفي الرصفيد الوحيفد الذي نملك ونتيفه بفه اعتزازاً ،ومفن
هنا تأتي استجابتنا لدعوة الستاذ حازم هاشم ،وهي الستجابة الكفيلة بإنهاء المر بالقاضية ،حتى
ل نترك مساحة لمزيد من المهاترات ،وحتى ل يطول أمر الخذ والرد ،لكن ذلك ل يعني حرمان
القارئ من متعة المتابعة ،فسنعطيه هنا قدراً كافيًا من المتعة ،وبغرض العودة السريعة إلى مكاننا
الحقيقفي بعيداً عفن السفجال حول أمور هفي كالعهفن المنفوش ،ومفن هنفا نعتقفد أن السفيد الطفبيب
بدوره سيلتزم الصمت الحميد وفي ذلك كفاية وغنى.
وكان السفؤال الذي تبادر إلى ذهنفي فور قراءتفي للوففد هفو :لماذا صفمت السفيد الطفبيب منفذ التقانفي
عام – 1992حسففبما قرر هففو فففي مقدمففة الكتاب المذكور – وحتففى اليوم ،ليخرج الن عففن
صففمته؟ أمفا لو كنففت مكان أي قارئ آخففر لكان السفؤال هففو :لماذا لم يبادر سففيادته مففن فوره إلى
اتخاذ الخطوات القانونيفة الرادعفة ففي مثفل تلك الحوال؟ لكفن لو حاولت الجابفة على سفؤالي أنفا،
مع الخذ بحسن الظن ،لذهبت إلى احتمال أن الرجل وهو لم يبدأ بعد خطواته في عالم الكتابة ،قد
هدتفه قريحتفه إلى أن أقرب طريفق إلى الشهرة هفو التهجفم على شخفص يتفم اختياره بعنايفة ،وغذا
كان ذلك كذلك ،فقفد فعلهفا الرجفل دون أن يرمفش له جففن ،بجرأة متفردة ومغامرة يحسفد عليهفا،
116
رب الزمان ودراسات أخرى
لكففن ذلك الحتمال تراجففع إزاء معطيات أخرى يمكنهففا أن تفسففر لنففا سففر تلك النزوة المفاجئة،
لمغامرة نزقة ،في منطقة خطرة عسرة العبور.
وهكذا وجففه الرجففل لنففا اتهاميففن دفعففة واحدة ،الول أننففا اسففتعنا بفليكوفسففكي فففي كتابنففا (النففبي
إبراهيفم) دون أن نشيفر إليفه كمرجفع لنفه بالفعفل غيفر مدرج كمرجفع ،أمفا الثانفي فهفو أننفا قد أخذنفا
بأفكار كاتففب صففهيوني فففي معالجففة مسففألة تتعلق بأب النففبياء خليففل ال عليففه الصففلة والسففلم.
والغريفب أن الطفبيب الملهفم لم يكلف نفسفه عناء النظفر ففي تاريفخ طباعفة ذلك الكتاب الذي صفدر
عام ،1990واستغرق العمل فيه ثلث سنوات قبل صدوره ،وهو ما يعني أن الكتاب قد صدر قبل
أن ألتقففي بالترجمان المعجزة بسففنتين كاملتيففن .ومعلوم أن مثففل هذه الفتراءات مففن النوع الذي
يعاقفب عليفه القانون ،وهفو مفا ننوي القدام عليفه بكفل سفعادة ،رغبفة منفا ففي العقاب اللئق لتطهيفر
ل دائماً للنماذج المشابهة.
مناخنا الثقافي ،وليكون رادعاً ماث ً
ونتابفع مفع الرجفل مندبتفه المأسفاوية وهفو يجأر بالشكوى قائلً :إنفه أعطانفي مخطوطتفه المترجمفة
لكتاب فليكوفسفكي ،بعفد أن أخفذ منفي وعداً بعدم نشفر أي جزء منهفا (؟!) أي أنفه كان يخشفى على
مخطوطتفه سفلفًا ومفع ذلك وثفق ففي وعدنفا الشفاهفي (هكذا!؟) ،لكفن الرجفل يكتشفف كفم كان غراً
عندما أعارنا المخطوطة ،لنه لم تكد تمر أسابيع حتى فوجئ بنشر ترجمته في مقالت أسبوعية
بصحيفة (مصر الفتاة) ،وبأننا قد وضعنا اسمنا على ترجمته للكتاب ،وأننا كي نمرر تلك السرقة
117
رب الزمان ودراسات أخرى
اللئيمة لجهد الرجل المسكين ،أضفنا إلى تلك الترجمة بعض المقبلت ،مع تعليقات هنا ،وحواشي
هناك ،لذر الرماد في العيون.
ويزعفم الطفبيب الترجمان أنفه بذل جهوداً مضنيفة ليقاف نشفر ترجمتفه لكتاب فليكوفسفكي باسفمنا،
وتمكفن مفن ذلك فعلً ،لكفن بعفد أن كنفا قفد نشرنفا الفصفل الول كاملً ،ولنفي رجفل ل أرتدع عفن
الغفي ،فقفد تماديفت وأدرجفت مقالت (مصفر الفتاة) بكتابفي (إسفرائيل :التوراة ،التاريفخ ،التضليفل)،
وأضفت إليها بعض التوابل والمشهيات في عبارة هنا وجملة هناك ،لمزيد من الضحك على ذقن
القارئ والمترجم ،إنها إذن فضيحة بكل معنى الكلمة ،وظل الرجل صامتاً يمضغ أوجاعه بصمت
الكفبراء والكاظميفن الغيفظ ،حتفى قرر أن يتكلم المفس فقفط ،فأي تسفامح؟ وأيفة مروءة؟ أي ترففع؟
لكن ماذا يفعل الرجل بنفسه وهو يسوق أكاذيبه ،عندما يكتشف أنه لم يجهد نفسه في صيغة الكذب
المرتفب ،حيفث أن دراسفتنا التفي أشار إلى نشرهفا بفف (مصفر الفتاة) ،والتفي نشرناهفا تحفت عنوان
(الرد على الضاليففل فففي تنظيرة بنففي إسففرائيل) ،وكانففت ردًا على الصففهيوني فليكوفسففكي ،قففد
نشرت خلل عام ،1991أي قبل أن يلقاني سيادته بعام كامل (؟!).
يبدو أن الموضوع سففينتهي عنففد هذا الحففد ،ولم أف قارئي الوعففد بالمتعففة المنتظرة ،وهففو غبففن
لقارئنا الكريم ،وحتى ل تأخذ القارئ بنا ظنون عدم الوفاء ،أجد من واجبي توسيع الحكاية حسب
الصول ،ومن هنا أقدم للسيد الطبيب مثالً للمانة لعله يحتذي به في مستقبل أيامه ،فأقر هنا رغم
انتهاء المففر بهذا الشكففل ،أن الترجمففة التففي اعتمدنففا عليهففا فففي ردنففا على كتاب فليكوفسففكي
الصفهيوني (عصفور ففي فوضفى) ،كانفت بالفعفل ترجمفة صفاحبنا الترجمان ،وهذا درس آخفر ففي
جرأة الواثقين المطمئنين ،أما كيف حدث ذلك فهي حكاية أخرى.
118
رب الزمان ودراسات أخرى
ترجمتفه أحضرهفا معفه لن المخطوطفة تواجفه عقبات شديدة ففي نشرهفا ،كمفا طلب – إذا أعجبتنفي
– أن أكتب لها تقديماً يساعد على انتشارها.
ووعدت الرجفل خيراً ،وبدأت مطالعفة ترجمتفه لكتاب فليكوفسفكي (عصفور ففي فوضفى) ،ولكفن
لكتشففف أنففي أمام شرك عظيففم ،وأن عدم تجروء دور النشففر على نشره له مسففوغاته وحيثياتففه،
حيفث وجدتنفي بإزاء عمفل هائل وشديفد الخطورة هزنفي هزاً ،حتفى لحفق الهفز بالثوابفت ،ووجدت
أمامفي فناً عاليفا وعظيمفا بفل ورائعفا ومثيراً للعجاب ،ففي تزويفر حقائق التاريفخ والعقائد ،لصفالح
الفكر الصهيوني ،كما لحظت أن العمل قد وقفت وراءه ودعمته جامعات عالمية كبرى ،وأساتذة
كبار في شتى صنوف المعرفة ،وهنا كان لبد أن يطفر السؤال قافزاً :إذا كنت وأنا المتخصص قد
حدث لي كففل هذا النبهار - ،مففع هول الصففدمة – إزاء ذلك التكنيففك الصففهيوني العالي الجودة
والمتياز ،فماذا سففيكون شأن قارئ عادي دون أن يتسففلح برد على ذات المسفتوى مففن الصفولية
العلميففة والقتدار؟ بينمففا الكتاب يتألق تحففت سففتار براق مففن العقلنيففة والعلميففة والصففرامة
الظاهرة ،لينقفض نهشًا على تاريفخ مصفر وتاريفخ العرب ،ليؤسفس لسفرائيل مكانهفا ففي التاريفخ
وفففي العلم وفففي العقول وفففي القلوب ،وكانففت الدهشففة أكثففر عندمففا علمففت أن أول طبعففة للكتاب
بالنكليزيفة كانفت عام ،1952ومفع ذلك لم نسفمع ففي بلدنفا لو رد واحفد على ذلك الكتاب ،بفل
اكتشففت أن العكفس هفو مفا قفد حدث بالضبفط ،حيفث اسفتعان بفه كُتاب عرب كمصفدر غففل مفن
الشارة مفترض أنهم مهمون أشرت إليهم في حينه.
هنفا وجدت معركفة حقيقيفة مفن النوع الذي يسفتهويني ،خاصفة أنفي سفأخوضها ففي ميدانفي الذي
أعرف مسالكه ودروبه ،وقررت فضح كل هذا الكم من التزييف التاريخي وتزوير الحقائق ،لكن
اللياقففة الريفيففة اللعينففة دعتنففي إلى عدم تجاوز الترجمان الطففبيب ،خاصففة وأنففه كان السففبب فففي
تعريفنا بذلك الكتاب الخطير ،وعليه طلبت من السيد الترجمان الحضور إلى بيتي ،وأحطته علما
بقراري الرد الفوري والسريع دون إبطاء على ذلك الزيف المخيف الذي تأخر الرد عليه طويلً.
وبالفعفل حضفر السفيد الترجمان ،يركفب سفيارته المرسفيدس الفاخرة ،واسفتمع إلى جزء طويفل مفن
ردودي على فليكوفسفكي ،بينمفا وجهفه يتلون ويتبدل ،ثفم انحدر فجأة إلى حالة عصفيبة دفاعفا عفن
طروحات الكاتب الصهيوني ،مما أشعرني أن وراء الكمة ما وراءها ،ومن ثم كان ردي الفوري
119
رب الزمان ودراسات أخرى
هو أني سألجأ إلى ترجمة النصوص التي سأرد عليها من جانبي ومباشرة ،من النسخة النكليزية
التففي كان قففد أحضرهففا لي لتدقيففق ترجمتففه ،وسففافر الرجففل ليعمففل تفكيره فففي قراري الحاسففم
والقاطع ،ولكن لتختفي من على مكتبي النسخة النكليزية مع مغادرته ،وأسقط في يدي .لكن في
ذات الليلة اتصففل بففي السففيد الترجمان ليقدم لي اقتراحففا يقول :مففا المانففع أن أسففتثمر ترجمتففه
الموجودة لدي الن مفا دمفت متعجلً؟ على أن أشيفر إليفه كمترجفم لنفص فليكوفسفكي بشكفل واضفح
مع نغمة نفعية عالية الصراحة .مفادها أن ذلك سيكون داعية متميزة لترجمته حين نشرها ،وإزاء
تلك النفعيفة الواضحفة ،تراجعفت ظنونفي ففي طبيعفة علقفة الترجمان بمنظومفة الكتاب ،وبمفا جبلنفا
عليه من مد يد العون للمبتدئين ،قررنا العمل باقتراحه.
وقمفت بالرد على تأسفيسات فليكوفسفكي التفي أوردهفا بفصفله الول ،حيفث أن بقيفة الفصفول كانفت
إعادة لتوزيفع المعزوففة التأسفيسية حسفب نوتات أخرى ،وقفد قلت ذلك واضحفا ففي مقالي الول،
وأنجزت الرد ففي عشفر مقالت سفلمتها كاملة للسفتاذ مصفطفى بكري رئيفس تحريفر مصفر الفتاة
أنذاك ،ونشرت على التوالي كاملة دون توقفف ،هذا بينمفا يقول السفيد الترجمان أن مفا نشرناه كان
ترجمته هو ،وأننا كنا نزمع الستمرار بنشر الكتاب كامل لول تدخله ليقاف نشر بقيه الفصول،
ولعففل السففتاذ مصففطفى بكري يقرأ معنففا الن ليدلي بشهادتففه حول هذه الجزئيففة ،أي أن السففيد
الترجمان لم يتدخفل ويوقفف نشفر بقيفة ترجمتفه المسفروقة كمفا زعفم ،حيفث لم يتسفلم السفتاذ بكري
سوى تلك الحلقات العشر فقط وقد نشرت كاملة.
حقوق الترجمان
وعمل بالصففول العلميففة ،وإتباعففا لشروط المانففة البحثيففة ،قمنففا بتصففدير الحلقففة الولى بالبنففط
العريفض برأس المقال ،بإشارة واضحفة إلى أن العمفل الذي سفنرد عليفه هفو مفن ترجمفة الطفبيب
رفعفت السفيد ،وعدنفا إلى تكرار الشارة ففي الحلقفة الثالثفة نظراً لورود نصفوص كثيرة مفن تلك
الترجمفة فيهفا ،وففي ختام المقال العاشفر والخيفر طلبفت مفن السفتاذ مصفطفى بكري تليفونيفا أن
يكتب بنفسه شكر وتقدير لتلك الترجمة ،وقد جاء نص ذلك التنويه في مربع بلون متميز لمزيد من
اليضاح ،وكان نصه" :يتقدم د .سيد القمنفي بالشكفر إلى الزميل د .رفعت السفيد الذي ترجفم كتاب
عصور في فوضى ،وبذل فيه من الجهد والعرق ما يستحق التقدير".
120
رب الزمان ودراسات أخرى
وعندمففا قررنففا توسففعة الرد على تلك المدرسففة الصففهيونية ،أصففدنا كتابنففا (إسففرائيل :التوراة،
التاريفففخ ،التضليفففل) ،وضمنفففه تلك الردود ،وعنفففد ورود الجزء الخاص بعرض أسفففس نظريفففة
فليكوفسفكي التفي سفنرد عليهفا وذلك ص ،97أحلنفا إلى المترجفم بحاشيفة مسفتقلة واضحفة تقول:
(إيمانويل فليكوفسكي :عصور في فوضى ،عن ترجمة مخطوطة قام بها الدكتور رفعت السيد)،
وهفو الترتيفب العلمفي لعناصفر معلومات الكتاب حسفب الصفول الكاديميفة ،أمفا ملحوظفة السفتاذ
حازم هاشم ،أن تلك الشارة لم تتكرر بعد ذلك عند ورود نصوص نرد عليها بالكتاب ،فهو المر
الذي مفا كان ممكنفا ،فالترجمفة مخطوطفة بل أي معلومات نشفر نحيفل إليهفا ،فل اسفم ناشفر ،ول
طابففع ،ول بلد ،ول صفففحات أيضاً ،فكيففف نحيففل إلى صفففحات غيففر منشورة؟ وللتغلب على تلك
العقبفة وضعنفا الشارة الواضحفة ففي مسفتهل عرض طروحات فليكوفسفكي ،مفع إبراز القتباسفات
بعلمات التنصيص أحياناً ،بالهامش الوسع أحيانًا أخرى ،وهي من الدوات الكاديمية المعلومة.
ولو قمنففا بجمففع النصففوص الفليكوفسففكية التففي أوردناهففا للرد عليهففا ،فففي اتصففال سففردي ،لمففا
تجاوزت العشريفن صففحة ،ففي كتاب يمهفد لهفا ،ويناقشهفا ،ويرد عليهفا ،ففي مائتفي صففحة كاملة،
جهدنا عليها زمنا حتى أنجزناها ،وهي الردود التي أسماها السيد الترجمان (تعليقات وحواشي).
وأذكفر أنفي بعدمفا نشرت تلك الردود التفي تكشفف الكتاب والدوائر التفي تقفف مفن ورائه ،فاجأنفا
السفيد الطفبيب بالعدد ( )139مفن مجلة القاهرة بمقال يتلبفس الزي الوطنفي والقومفي الغيور ضفد
فليكوفسكي ،وهو ما عاد إلى غرفه في مقدمة ترجمته التي نشرت بالمس القريب ،لكن ليقدم لنا
الن ،والن بالتحديد ،كتابا مليئا بالمتجرات الموجهة .وبالطبع نحن ل نصادر على نشر أي كتاب
من أي لون ،لكن يبقى ذلك السؤال الرق الملحاح يهمس :لماذا نشر مثل هذا العمل الن تحديداً،
خاصفة وأنفه الكتاب الوحيفد الذي ترجمفه السفيد الطفبيب ،فلماذا هذا الختيار مفن بيفن ملييفن الكتفب
التي تحتاجها مكتبتنا العربية فعل؟
مرة أخرى – إذا أخذنففا بسففوء الظففن – فسففيكون مففا أزعففج صففاحبنا الترجمان ليففس موضوع
الترجمة ،بل ردنا نحن غير المتوقع على فليكوفسكي الذي تصوره من النوع الذي ل يُقهر ،فهل
يسعد صاحبنا الطبيب القيام بدور حارس الشرف للكتاب – الصهيوني؟
121
رب الزمان ودراسات أخرى
أمففا إذا كانففت الجابففة تأخففذ بحسففن الظففن ،فإن السففيد الطففبيب قففد كسففب رهان المغامرة ،عندمففا
اضطرنفا للرد عليفه ،ليشكفل ردنفا دعايفة مجانيفة لسفيادته ،وللكتاب ،وبالطبفع للدار الناشرة التفي
تجرأت على نشر هذا الكتاب أخيراً ،بعد ما رفضته كل دور النشر الخرى.
وبعد ،فقد استجبنا لدعوة الستاذ حازم هاشم بذلك الرد النهائي ،الذي يتضمن درساً واضحاً لشباه
السيد الترجمان ،ونحن واثقون أنهم سيعملون بالحكمة البليغة( :أنج سعد فقد هلك سعيد).
122
رب الزمان ودراسات أخرى
مقــالت ودراســات
123
رب الزمان ودراسات أخرى
وذلك بدوره ليس إل ناتج اللتباس الحادث بين السلم كعقيدة جامعة لمجموعة شعوب تدين به،
وبين (العروبة) كهوية قومية جامعة لمجموعة الشعوب الناطقة بالعربية ،وتتشارك عبر التاريخ
ففي تفاصفيل تؤطفر لفكرة توحفد أصفيل باعتبار أن المفهوم العروبفي يتأسفس تاريخيًا على فتوحات
عرب الجزيرة للقطار المحيطة والتي تحولت إلى العروبية (لغة) لتؤسس دولة عقدها الجامع هو
السلم ،وتحول شعوب القطار المفتوحة إلى العقيدة السلمية المؤسسة للدولة الولى (ديناً).
ومـن ثـم تارجحـت حالة اللتباس حول الهويـة ،بيـن مفهومـي (العروبـة) و(السـلم) ليلقـي كـل
منهما بظلله على مفهوم (المواطنة) بخاصة إذا أخذنا بالحسبان أن شعوب البلدان المفتوحة وأن
تحولت جميعًا إلى اللغففة العربيففة (لغففة قريففش) فإنهففا لم تتحول جميعًا إلى عقيدة السففلم (ديناً)،
وعليه فقد ظل داخل تلك المجموعة البشرية عرباً ل يدينون بالسلم وبين تحديد الهوية الساري
الن بالسفلم ،ورد فعفل العربفي غيفر المسفلم بتحديفد هويتفه بدينفه ،ضاع الوطفن بيفن الطرفيفن،
وإعمالً لذلك يصبح اللتباس والتداخل بحاجة ماسة إلى تحديد مفهومي واضح ،يرتكز على قراءة
علمية تاريخية مجتمعية لرفع اللتباس ،والبدء من مرتكزات واضحة.
124
رب الزمان ودراسات أخرى
على مسـتوى الرؤى الصـولية ل بـد أن تكون هناك قطيعـة تاريخيـة ،فيبدأ السفلم مفن ل شيفء،
فهـو مفارق سماوي ،أزلي الكلمة المقدسفة ،غير مرتبط بماض أرضي ،رغفم الواضفح في القرآن
الكريم وما لحقه من أحاديث نبوية ،وما أرتبط به من أحداث تجادل معها الكم المقدس أخذا وردا.
ل مؤثراً ومتأثرًا ومفا تأسفس على كفل هذا فيمفا بعفد مفن اصفطراعات مذهبيفة ورؤى
فاعلً ومنفع ً
فلسففية اسفتندت إلى جدل القدس مفع حدث الواقفع الموضوعفي ،وهفو مفا يشيفر بوضوح إلى تناقفض
تلك الرؤيفة مفع قواعفد اليمان ذاتفه وتاريفخ الدعوة ناهيفك عفن اسفتحالة القطيعفة التاريخيفة ،لنفه ل
شيفء إطلقًا يبدأ مفن فضاء دون قواعفد مؤسفسات ماضويفة يقوم عليهفا ،ويتجادل معهفا ،بفل ويفرز
منها حتى ولو كان ديناً.
والدارس ليات الوحي يجدها تنبئه بوضوح أنه لم يكن هناك قطيعة معرفيـة –أيضاً– مع السابق
الرضي ،وإن تشكلت تلك القطيعة بالفعل على المستوى اليماني البحت كناتج لتأسيس السلم
لذاته ولمصداقيته على طرفين الول التصال بذلك القديم وتقديم معرفه به ،ثم على الطرف الثاني
تم نفي هذا القديم باعتباره أفكارا باطلة وعقائد أمم كافرة ،وهو المر الذي ساعد على لون خطير
من فقدان الذاكرة التاريخي الجماعي ،وأسهم فيه بدور أساسي وتام انقطاع الشعوب المفتوحة عن
لغاتهفا القديمفة باعتبارهفا وعاء ذاكرتهفا وتاريخهفا وحضارتهفا ،وحاصفل خبراتهفا وتفاعلهفا مفع
واقعها عبر زمن طويل ،وما أفره ذلك التفاعل من ثقافة احتوتها اللغة المفقودة.
وعليه (على سبيل المثال) فقد انقطع المصري عن تاريخه ،ولم يعد يذكر من ذلك التاريخ سوى
ما فدمه له السلم من معلوماتية بشأنه ،وهي المعلوماتية التي تحدد الموقف المعرفي ليس بكونه
تاريخاً ،وموضوعاً للمعرفففة ،إنمففا بوقوعففه بيففن طرفففي معادلة اليمان والكفففر(!) وبالتالي تففم
تلخيص ذاكرة مصر بكل تاريخها في فرعون طغى ،وتجبر فكان مصيره الهلك غرقًا مع قومه
المجرميفن! وهفو المفر الذي يسفحب ظلله على الحاضفر النفي ،حيفث ل يصفبح للمصفري تاريفخ
قبففل الفتففح ،وتنقطففع الذاكرة ،وتتحول الهويففة المفقودة نحففو الديففن وطناً وتاريخاً ،ويصففبح صففدق
125
رب الزمان ودراسات أخرى
اليمان مففع السففرائيليين ،الذيففن خرجوا مففن مصففر الكافرة ليحتلوا فلسففطين ،احتلل اسففتيطانياً
مشروعاً مفن وجهفة نظفر اليمان(؟!) ويصفبح المصفري مفع موسفى ويشوع ،ليبارك غرق التاريفخ
بالكامفل مفع العصفا المعجزة ،وهفو المفر ذاتفه الذي يكابده الواقفع الفلسفطيني ،وهفو المفر الذي
يصففدق أيضاً على نمروذ العراق الكافففر إزاء أرومففة إسففرائيلية إبراهيففم ،وعلى كنعان إزاء سففام
الخ ،وهي المثلة التي توضح إلى أي مدى هي إشكالية الوطن والمواطنة والتباساتها إزاء الديني
والقومي.
السلم إذن لم يشكل قطيعة معرفية مع ما سلف ،إنما تجادل معه وحاوره ثم نفاه ليصبح الوحي
هو مصدر ذاكرة المة ،وهو وحده كل تاريخها ومصدرها المعرفي ،وعليه يتأسس الموقف إزاء
أي طارئ أو أي معرففة أخرى ،وبموجبفه تصفدر الحكام والتقييمات بصفدد مفا يتعلق بمفا سفيق ثفم
باللحق أيضاً.
وعلى مسفتوى العقائد ،لم يشكفل السفلم قطيعفة معرفيفة مفع الديان السفابقة عليفه ،بفل اعتفبر نفسفه
امتداداً لبعضها كما في موقفه من اليهودية والمسيحية ،بل إنه أسس ذاته سابقًا لها ،وأن اعترافه
بها لنها كانت إسلما بالساس ،ثم نافياً لبعضها الخر ،كما في نفيه لعقائد أخرى كعبادة الوثان،
باعتبارهفا عقائد باطلة ،لكنفه ففي تحاوره مفع الديانات التفي أطلق عليهفا (الديانات الكتابيفة) أصفدر
أحكامفه بشأنهفا ،وأبطفل مفا بقفى مسفتمراً منهفا ،إمفا لنهفا انحرففت عفن أصفلها السفلمي؟ أو لنهفا
حرففت الكلم المقدس عفن مواضعفه ،أو لن الديفن ففي النهايفة قفد أصفبح عنفد ال السفلم فتسفاوى
الكفل ،وأصفبح الكفف ملة واحدة ،وعليفه فقفد أصفبحت المعرففة المعلوماتيفة لدى المسفلم عفن تلك
الديانات تستمد أصلً مما قدمه الوحي والتاريخ السلمي بشأنها ،وهو ما أدى إلى انقطاع داخل
شرائح المجتمع العربي ،تساعد عليه كافة أجهزته العلمية والتربوية ،التي تتحدث جميعاً طوال
الوقففت دون كلل أو ملل بتكرار شديففد الملل عففن السففلم وقواعده وتفاصففيله وشروحففه ،ممففا
يعطي للعربي غير المسلم معرفة كافية بالسلم ،بينما يظل المسلم العربي ل يعلم من شأن عقيدة
المواطفن العربفي غيفر المسفلم ،سفوى مفا قدمفه له السفلم ،وهفو مفا أدى بالضرورة إلى اغتراب
العربفي غيفر المسفلم عفن معنفى المواطنفة ،وإحتمائه بدينفه ليصفبح دينفه وطناً ،وهفو مفا سفبقه إليفه
العربي المسلم عندما فقد ذاكرته وتاريخه.
126
رب الزمان ودراسات أخرى
تاريخية النص
والمطالع للمأثور السفلمي ،ومفا لحقفه مفن تاريفخ وتفاسفير وسفير وفلسففات وعلوم ديفن ،يكتشفف
إلى أي مدى توقفت الذاكرة العربية عند لحظة نزول الوحي ،وإلى أي مدى انقطعت عن ماضيها،
وهو المر الذي استمر يتأكد بفعل الصرار على فكرة الشخصية الثقافية الثابتة ،وأن تلك الثقافة
ليست بالصل أرضية ،بل هي مفارقة سماوية ،وأنها الصل في كل ثقافة أخرى ،وأن ثباتها هذا
ينفففي أي محاولة لبحففث تاريخيتهففا ،فقففد جاءت جاهزة هكذا مففن الزل ،ودونففت فففي لوح أزلي
محفوظ ،دون ارتباط بأي سبب موضوعي وقت تواتر الوحي (رغم تناقض ذلك مع تقرير الوحي
ذاته).
وعليفه أصفبح بالمكان اجتزاء أي نفص مفن بيفن النفص القرآنفي الكلي ،ونزعفه مفن سفياقه مفع باقفي
اليات ،وسفحبه مفن لحظتفه التاريخيفة التفي سفببته ،لدعفم أي موقفف آنفي نفعفي حسفب المصفلحة
المراد تحقيقهفا .أمفا الخطفر -برأينفا– ففي رففض تاريخيفة النفص ،هفو أن هذا الموقفف تحديداً هفو
السففبب الجوهري والسففاس فففي تلك اللتباسففات المشار إليهففا ،وعدم الوصففول إلى تحقيففق دقيففق
بشأنهفا ،كنتيجفة لعدم أخفذ السفباب الحقيقيفة والموضوعيفة بالعتبار ،والتفي أدت بالنفبي ،وبالوحفي
إبان تواتره ،إلى اتخاذ مواقفف بعينهفا مفن ذلك المأثور الحضاري القديفم ،أو مفن الديانات السفابقة
وأصفحابها ،وهفو المفر الذي بات يحتاج إلى تقديفم دراسفات واضحفة جريئة بشأنفه ،والتعامفل ففي
درسفها –مفع النفص بوصففه معفبراً عفن واقعفه ففي حقفل موضوعفي للحداث ،إبان ثلثفة وعشريفن
عامًا هي زمن تواتر ذلك الوحي.
ل دؤوباً يربط حقل الحداث بتصنيف اليات ،والمكي منها والمدني مرتبطاً
وهو ما يستدعي عم ً
بظرف كل المدينتيفن وواقفع البشفر فيهفا مفع دراسفة وافيفة لعلقفة النفبي وأتباعفه بأصفحاب الديانات
الخرى ومفا مرت بفه تلك العلقفة مفن متغيرات فرضهفا ظرف الواقفع وتطور الدعوة ،وأدي إليهفا
وأفرزهفا ،وعلقفة كفل هذا بالمسفتوى المعرففي لجزيرة العرب وكّم وحدات تذكفر العربفي البدوي،
وما ألقته البداوة من صباغ على تراكمه المعرفي (وهو ل جدال مستوى الخطاب القرآني الموجه
إليهفم) ،مفع تأسفيس كفل ذلك على قراءة علميفة صفارمة لواقفع الجزيرة ومحيطهفا ،مفن حيفث البنفى
المجتمعيفة والنماط القتصفادية والشكال السفياسية ،وهفو المفر الذي نظنفه قفد أصفبح ضرورة
127
رب الزمان ودراسات أخرى
ماسفة الن ،وربمفا ذهبنفا إلى أن المفر بهذا الشكفل مطلب مصفيري ل يتناقفض إطلقًا مفع قداسفة
الديففن ،بففل نزعففم أن هذه المطالب توقففف عمليات التزييففف والتدليففس والتخديففم النتهازي للنففص
الدينفي ،ممفا يحففظ له كيانفه وقداسفته ،وففي ذات الوقفت يرففع اللتباسفات عفن المفاهيفم المطلوب
تحديدها ،ويساعده على استقرارها وتوقفها عن الرجرجة بين باحث وآخر ،ورؤية وأخرى ،وهو
ما يمكن أن يؤدي إلى حل كثير من الشكاليات البحثية الداخلة في همومنا النية.
128
رب الزمان ودراسات أخرى
هل يمكن حقًا الركون إلى الرؤية الصولية التي توقف ذاكرة المة عند لحظة ابتدائية أولى ،هي
لحظفة تواتفر الوحفي القرآنفي ،وتحدد للتراث مفهومًا أوحداً هفو المفهوم السفلمي ،وتؤطره مكانياً
بمهبففط الوحففي بجزيرة العرب؟ وحينئذ هففل يغدو العربففي المسففلم بغيففر تراث وطنففي وقومففي؟ أم
سفليجأ إلى التراث السفرائيلي ففي التوراة (هفو الحادث فعلً) ،وهفل يبقفي كفل تاريفخ تلك المنظومفة
مفن الشعوب العربيفة مقصفوراً على التأرجفح بيفن اليمان والكففر ،وبيفن فرعون وموسفى ،وبيفن
طالوت وجالوت ،وبين نمروذ وإبراهيم.
ووسط هذه الحالة الرجراجة بين اليمان والكفر ،هل يمكن أن يجد للوطن ومفهوم المواطنة مكاناً
ففي تحديفد الهويفة؟ وهفل بالحفق يمكفن إطلق مفهوم (أمفة) على مجموعفة شعوب فقدت ذاكرتهفا
وتماهت في الدين فأصبح هو الوطن وهو الهوية؟ وهل يصبح ممكناً – على الطلق – الحديث
عن صراع حضاري آني ،دون أن نتكهن بمصير آل إليه الهنود الحمر قبلنا؟ وإذا كانت هذه أسئلة
أرقة مؤرقة ،فهل من سبيل إلى الخروج من دائرة اليمان والكفر إلى فضاء أوسع ،ل يظله غير
مناخ علمي حر تماماً ،ويكون همه الكبر هو مصير البلد والعباد ،إزاء التسارع الهائل الن في
تقدم الشعوب المتقدمفة أصفلً ،وتمكنهفا مفن أدوات السفيطرة ،مفن فقدنفا السفس والدوات والمناهفج
التفففي قفففد تسفففاعد – مفففع التفاؤل – على بدء خطوات صفففحيحة ،للخروج مفففن دائرة جذب ذلك
المغناطيففس الرهيففب نحففو القاع ،فالتلشففي ،فالزوال فففي طوايففا القرون الغوابر ،مففع عاد وثمود
وأصحاب اليكة وهنود أمريكا وشعب النكا؟
وإذا كانففت الرؤيففة العلميففة ممكنففة دوماً ،فهففل ينبغففي أن يظففل شبففح الرعففب مففن معادلة اليمان
والكفففر ،مففا يصففحبه الن مففن أدوات تنفيذيففة ل تقيففم وزنًا لبسففط الحقوق النسففانية ،وتنفففذ دون
مراعاة لحيثيات العدل (؟!) ،هفل ينبغفي أن يظفل رعفب مصفادرة الكلمفة والحياة (بأمفر ال) عائقاً
129
رب الزمان ودراسات أخرى
دون المحاولة؟ لو كان ذلك كذلك ،فإن من يحاولون تأسيس تلك القراءة العلمية الن ،هم أصحاب
الريادة في أشرف ساحات النضال حقًا وصدقاً.
التاريــــخ العــــبء
إن المحاولت العلميفة المخلصفة ففي التعامفل مفع المأثور السفلمي ففي ظفل الواقفع المهيفن الراهفن
يجب إل تضع باعتبارها إطلقًا – إن كانت مخلصة وعملية حقًا – أي قطيعة معه ،ول أن تضع
ضمفن أهدافهفا إصفدار أحكام بشأنفه ،ول رفضفه أو نفيفه ،ول اقتطفع بعضفه – بحجفة صفلحيته –
دون بعضفه ،ول إسفقاط مفاهيفم معاصفرة عليفة ،إنمفا يجفب درسفه مرتبطًا بواقعفه ،منضبطاً مفع
حركة هذا الواقع في زمانه ،وإيقاع ذلك الواقع وضبط هذه الحركة مع الحدث الذي سبقها والذي
عاصرها ،وما نتج عن هذا من إفراز معرفي بعينه ،دون محاولت وادعاءات عقلنة المأثور ،أو
أدلجته ،ودون المبالغة في بعض مناطقه ،ودون التجاوز عن مناطق أخرى فيه ،باختصار أن تتم
قراءته قراءة تاريخية ل تجرده من ماضيه ومشكلت زمانه .من حيث كان واقعة في حقل لحدث
الواقفع المجتمعفي ،بحيفث ترتبفط الفكرة بواقعهفا ،ليعود ذلك المأثور إلى حجمفه الطفبيعي ،ويتراجفع
ظله السفحري الذي يفرضفه دومًا كمثفل أوحفد ل يصفح تخطيفه ،ول يظفل لوناً مفن التاريفخ العبفء،
قدر ما يتحول إلى تاريخ دوافع ومحرك ،دينامي ل سكوني.
لكفن وسفط كفل هذا الهتمام بيفن مفن يفرضون المأثور السفلمي وحده تراثًا أوحفد لك المفة ،ومفن
يحاولون درس هذا المأثور دراسفة علميفة ،تنكشفف حقيقفة أولى هامفة وخطيرة ،وهفي أن كليهمفا –
حتفى أصفحاب الدراسفة العلميفة – ل يتحركون خارج دائرة المأثور السفلمي وحده ،كمفا لو كان
المر فعلً ،ثم رد فعل ،محاولة فرض دائمة ،ومحاولة رد لتحجم ذلك المفروض ،دون أن يسمح
ذلك الصففطراع الفكري الدائب بالحركففة التاريخيففة إلى مففا قبففل المرحففة السففلمية ،كمففا لو كان
الزمان قفد انبفت عندهفا وانقطفع ،ول يظفل ففي الذاكرة مفن تراث تلك المفة وسفط الهموم الحاضرة
سفوى ذلك المأثور وحده ،مفع تجمفد المحاولت العلميفة ذاتهفا عنفد نففس لحظفة البدء المحددة سفلفاً
وسلفياً ،بزمان بدء تواتر الوحي ،ومكانه بجزيرة العرب.
130
رب الزمان ودراسات أخرى
وإن أي عقفل سفليم يمكفن أن يرى بهدوء ،أن أي تراث لي مجتمفع ل يمكفن أن يتطور أو يحدث
أصلً دون توارث ،فالتراث – لغة – إرث عن السلف ،تركوا لنا فيه ناتج خبراتهم ومعارفهم،
أي أن التراث متطور فاعـل منفعـل دوماً ،أي أن الناس هـم صفناع ذلك التراث ،يصـوغونه وفـق
ظروفهم وحاجتهم ،حتى لو كان ديناً ،فالوحي القرآني جاء مفرقاً ومنجماً ،ناسخاً ومنسوخاً ،وبدّل
ومحفى وأثبفت ،تبعًا للمتغيرات ولمصفالح الناس خلل زمفن تواتفر الوحفي ،ثفم ظفل كمأثور دينفي
حسب فهم الناس له ،أو على الدق فهم كل فرقة أو مذهب أو طبقة اجتماعية.
هنا بالطبع مع اعتبار أن أي نقطة تطورية على سلم التراث ،كان لبد أن تسبقها نقلة على الدرجة
الدنفى ،ويسفتحيل دونهفا الوصفول إلى الدرجفة العلى ،وهفو مفا ينطبفق بدوره على علقفة المأثور
السلمي بالتراث السابق للمنطقة بكاملها.
وبمعنى آخر؛ إن أي تطور ثقافي ما كان ممكناً حدوثه إل على أسس وأعمدة من ثقافة سابقة ،فقط
ما يجب أخذه بالعتبار هو :أن التطور عندما يأتي رأسيًا صاعداً على عمد تراث قديم ،فإنه يقوم
إبان ذلك بتوسع أفقي يفجر فيه مع كل نقلة ،السوار والتحديدات القديمة ،من أفكار ومعتقدات لم
تعفد مناسفبة لحتواء الظرف التطوري الجديفد ،ولم تعفد صفالحة كوعاء مناسفب للتراكفم المعرففي
المتزايفد ،ولم تعفد صفالحة لمعالجفة إشكاليات مسفتجدة لم تكفن بمعرففة مفن قبفل ،ويفرضهفا التطور
الدائم للشكال القتصفادية والتنظيمات الجتماعيفة ،وهفو مفا ينطبفق على علقفة المأثور السفلمي
بمفا سفبقه ،كمفا يجفب أن ينطبفق تماماً على ظرف اليوم وعلقتفه بمأثور مضفى عليفه مفا يزيفد عفن
أربعة عشر قرنًا من الزمان.
131
رب الزمان ودراسات أخرى
ومفن ثفم فإن القناعفة السفائدة بانقطاع شعوب المنطقفة عفن ماضيهفا القديفم هفي قناعفة إيمانيفة ،أكثفر
منهفا حقيقفة واقعفة ،لن التراث حسفبما أسفلفنا ل يمكفن أن يكون حكراً على ثقاففة بعينهفا ،ول يمكفن
أن يكون ذا مبتدا (زمكاني) محدد .وإن ما جاء بمأثورنا السلمي عن تراث سابق ،لم يأت غريباً
مفن الماضفي ليتسفلل إلى المأثور السفلمي زمفن التدويفن ،وففي الوقفت ذاتفه فإن المأثور السفلمي
ذاته ليس وافدا من خارج الزمن والمكان ،بل كان هو المتداد الموضوعي للزمن والمكان ،وبهذا
الطرح يمكفن تحقيفق معرففة بالتراث تصفحح الوعفي بفه ،وتزيفل عفن فهمفه أي التباس ،وهفو المفر
الذي سفيسحب عدداً مفن التصفويبات تلحفق بمفاهيفم لم تزل رجراجفة حول (الوطفن ،المفة ،الهويفة،
القومية ...الخ).
وعليفه فل مناص مفن تحديفد مفهوم الثقاففة والتراث ،باعتبارهفا ناتفج تراكفم كمفي وكيففي لخفبرات
طويلة تعود إلى عمق ما قبل بداية التاريخ ،مع ارتباط النسان بهذه الرض واستقراره فيها ،وأن
هذا التراث ناتففج تفاعففل جدلي داخففل تلك المجتمعات منففذ بداياتهففا الولى ،وبينففه وبيففن بيئتففه
الطبيعيفة ،وبينفه وبيففن المجتمعات الخرى والثقافات الخرى المتباينففة ،عفبر خللهفا نقلت على
سفلم التطور الزمنفي والمجتمعفي والقتصفادي ،وشكفل ففي النهايفة منظومفة فكريفة كفبرى ،يشكفل
المأثور السلمي فيها إحدى الحلقات الكبرى.
132
رب الزمان ودراسات أخرى
عنوان هذا الموضوع ،يلخص – في رأينا – سر الزمة التي آثارها الشيخ (عبد الصبور شاهين)
إزاء أعمال المفكفر (نصفر أبفو زيفد) .حيفث أنطلق الشيفخ (شاهيفن) مفن موقفف مألوف ،يصفر على
فكرة الشخصفية الثقافيفة الثابتفة ..المتماهيفة مفع النفص اللهفي ،بحيفث يظفل ثبات المفهوم القدسفي،
ضامناً لثبات المواقع السيادية لرجال المنظومة الدينية (!!) بمعنى ثبات النص كوحدة كتلية واحدة
مففن الزل .وأن هذا الثبات الكتلي غيففر المتغيففر – قففد جاء كمففا هففو معلوم – نتيجففة انتهاء جدل
فلسففي قديفم حول قدم النفص أو حداثتفه ،بانتصفار سفياسي سفيادي لصفحاب فكرة الزليفة والقدم
والثبات ،بتحالف أسس لصحاب تلك الرؤية مواطئ قدم ثابتة دائمة في المنظومة السيادية ،التي
يجففب أن تقوم دوماً على الثبات الشروع قدسففيا .وبعدهففا أصففبحت أي محاولة للمناقشففة لونًا مففن
الكفران المفبين! مفع المفر غيفر الخففي الذي يفبين ففي تماهفي وتماسفك المنظومفة السفيادية التحالففي
مع مؤسستها الدينية ،وبالتالي مع صاحب النص الذي يمثلونه على الرض ،كمعبرين دائمين عن
ثبات كلمته ،وثبات العروش القائمة في الن ذاته.
ومن ثم كانت أية محاولة لنبش ذلك المفهوم السائد الثابت ،حول الثبات الكُتلى المتوحد للنص مع
ذاتفه ومفع صفاحبه ومفع الزل ،والذي يؤكفد أن النفص كان ففي الزل كتلة واحدة متماسفكة سفماوية
مفارقفة للرضفي وأحداث الواقع ،تعنفي هز السس السفيادية التفي تقوم عليهفا تلك المنظومة .وهو
مفا كان يوجفب بالطبفع رداً عنيفاً حدياً بيفن قراري اليمان والكففر ،وهفو الطفبيعي غيفر المدهفش
أطلقاً ،وهفو الرد نفسفه الذي يضرب ففي عمفق الماضفي ،الذي اسفتخدمته الطبقات السفائدة دوماً
عفبر وسفطائها المحترفيفن مفن رجال الديفن! كمفا اسفتخدمته منظومفة رجال الديفن ذاتهفا ،لتأميفن
مصفالحها الخاصفة ،بإبقاء النفص معلقًا ففي الفضاء غيفر مرتبفط بأي واقعفة تاريخيفة كانفت سفبباً له،
لمفر مفهوم تمامًا اسفتمر عفبر أربعفة عشفر قرنًا مضفت ،رزح فيهفا المسفلمون تحفت كاففة أنواع
القهففر الطبقففي والطغيان السففلطوي .الذي عادة مففا كانففت تتغيففر مظاهره وتتفاوت بتفاوت أحوال
المكان والزمان ،وعادة أيضاً مفا كان يجفد ذلك القهفر المتفاوت سفنده ففي النفص الذي يفلسففه رجال
133
رب الزمان ودراسات أخرى
(ومن صـ 144- 141ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
الدين ،بسحب أي أية قرآنية في سياقها النصي ،وبتر صلتها بسابقها ولحقها! وهم بذلك يسمحون
لنفسفهم وحدهفم بففض ذلك التماسفك الكتلي الذي يدافعون عنفه ،وففي الوقفت ذاتفه يقطعون علقفة
الية المطلوبة بواقع الحال الذي سبقت بشأنه في أوانها.
استخدام نفعي
وهكذا يظل النص دوماً رهن الستخدام النفعي ،لتبرير مواقف قد تصل إلى حد التناقض التام مع
بعضها ،وبالتالي التناقض التام في اليات المعبرة عن تلك المواقف المتناقضة والمبررة لها ،ول
تحتاج إلى جهد كبير لكشف ما وراءها منمصالح ومواقف هي ضد إنسانية المواطن وكرامته.
وقد كان ذلك الستخدام النتهازي الدائم للنص الديني ،مصدر لعدد من النتكاسات القادحة ،حتى
وصفل المفر أحيانًا إلى اسفتخدام النفص لتفبرير أهواء ونزوات للحاكميفن ،هفي ضفد الوطفن وضفد
المواطن وضد الدين ذاته.
وعليففة فإن أيففة محاولة لعادة النففص إلى سففياقه وبنائه الداخلي ،ومحاولة تحليله وأدراك علقاتففه
ببعضفه ،وعلقتفه بواقعفه الحدثفي وسفياقه الخطابفي – وهفو المفر الذي يعيفد له احترامفه ومفهوم
قدسفيته – كانفت مثل تلك المحاولت ،ففي معناها الخطر هي ارتجاج عروش بدأت الرض تميد
من تحتها بالفعل ،وآن مغربها .وعليه كان رد الفعل الذي أدهش كثيرين ،رغم أنه لم يكن مدهشاً
على الطلق.
ويبدو أن المر سيظل كذلك بعض الوقت ،وهو ما لن يحسمه إل أن يضع المفكرون المخلصون
بحسبانهم ،أن القضية قضية نضالية في المقام الول ،إضافة لكونها قضية علمية ،ل تحتمل تمييع
المواقفف ،أو المصفالحة حول مناطفق وسفطية تصفالحية ،فالمفر الن مصفير أمفة بكاملهفا ،لم يعفد
بالمكان إخضاعه لنزوات الرجال وأهوائهم.
وإزاء التسفارع ففي اتسفاع المسفافة بيفن أحوالنفا وأحوال المفم المتقدمفة ،لم يعفد هناك وقفت لرجاء
حسم كثير من المواقف الفكرية ،التي ترتبط بشدة بمصير البلد والعباد ،ويبدو أن هذا قدرنا ،وأن
هذا زمنهفا ،فإن ذهفب بل حسفم لكثيفر مفن القضايفا المسفلط فوقهفا سفيف التكفيفر ،ومنهفا القضيفة
134
رب الزمان ودراسات أخرى
عنوان هذا الموضوع ،فلن يكون هناك بعففد مسففاحة لمناقشففة أمور هذه المففة ،لنففه لن يكون بعففد
هناك أمه.
ســــر الزمــــة
وأتصور أن من أهم ما استثار الرجال في المؤسسة المشيخية في أعمال (أبو زيد) ،ذلك الموقف
الذي أبرز فيفه التناقفض الناشفئ عفن القول بأزليفة النفص وثباتفه ،وهفو مفا جاء واضحًا ففي كتابفه
( مفهوم النص) يقول:
"إن ظاهرة النسفخ تثيفر ففي وجفه الفكفر الدينفي السفائد المسفتقر إشكاليتيفن (يتحاشفى مناقشتهمفا)
الشكالية الولى :كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ
واللغاء ،وبيففن اليمان الذي شاع واسففتقر بوجود أزلي للنففص فففي اللوح المحفوظ ،والشكاليففة
الثانيفة :إشكاليفة جمفع القرآن ،ومفا يورده علماء القرآن مفن أمثلة توهفم أن بعفض أجزاء النفص قفد
نسففيت مففن الذاكرة النسففانية ،ولم يناقففش العلماء مففا تؤدي إليففه ظاهرة نسففخ التلوة أو حذف
النصفوص سفواء بقفى حكمهفا أم نسفخ أيضاً ،مفن قضاء كامفل على تصفورهم الذي سفبقت الشارة
إليفه ،لزليفة الوجود الكتابفي للنفص ففي اللوح المحفوظ ....إن فهفم قضيفة النسفخ عنفد القدماء ،ل
يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم السطوري للوجود الزلي للنص ،بل ويؤدي أيضًا إلى القضاء
على مفهوم النص ذاته"
وهكذا بسفط الرجفل المفر ببسفاطة وإنصفاف ،وعرض الشكاليفة بموضوعيفة ودون اسفتفزاز ،فقفط
أكففد أن الثبات الزلي كمفهوم ،يتناقففض مففع مفهوم النسففخ ،ولنلحففظ أن مفهوم النسففخ بدوره كان
معتمداً آخففر لكثيففر مففن التففبريرات للتوجهات القمعيففة ،أو مففا هففو ضففد مصففلحة المففة ،وذلك
باسفتخدامه تبادلياً عنفد الحاجفة مفع مفهوم الزليفة ،المهفم أن ( نصفر ) هنفا إنمفا ينبفه فقفط إلى هذا
التناقض ،بدليل مسألة النسخ كما وردت في كتب علوم القرآن ،ودون أي محاولة للتدخل ،الرجل
أراد – فقفط – فتفح نافذة للنقاش ،لكنهفا النافذة التفي تسفحب مفن رجال الفكفر الدينفي أهفم أدواتهفم
النتهازيفة لسفحق المواطفن باسفم الديفن! وهفو المفر الذي يمكفن أن يؤول بالوطفن ففي النهايفة إلى
مقلب نفايات المم ،ومن ثمّ ندفع بالمسألة مسافة أبعد ،ونطلب جهداً واضحاً يربط إشكاليات النسخ
بواقعهفا الموضوعفي ،مفن حيفث كانفت اليات تعفبيراً عفن وقائع ففي حقفل أحداث أدت إليهفا ففي
135
رب الزمان ودراسات أخرى
زمانهفا ،وهفو مفا سفبق أن قدمنفا فيفه دراسفة منشورة كمدخفل ومقدمات ( ،)1مفن أجفل وقفف تزييفف
وعفي المواطفن ،وتزييفف الديفن ومعاملتفه بانتهازيفة ،ووقفف النزلق التاريخفي المهيفن لهذه المفة
نحو القاع.
التناقــــض
وأن التناقض يظهر واضحاً جلياً ،عندما نجد أن أي محاولة لمناقشة أزلية النص تتهم فوراً بالكفر
واللحاد ،وفي الوقت ذاته ،ودون أن يطرف لهم جفن ،يأخذون قضيه النسخ من المسلمات ،ومن
ل يؤمفن بفه كاففر بدوره ،ول نجفد مفبرراً لكل الموقفيفن المتناقضيفن غيفر البقاء على بدائل تظفل
دوماً متاحة ،للتخديم على المصالح وقت الحاجة ،حتى لو كانت تلك المواقف شديدة التناقض.
وللحق،فإن الصرار على وقوع النسخ هو موقف حق ،لكنه يحتاج في الجانب الخر التنازل عن
المفهوم السائد حول الزلية والثبات ،ومن النماذج التي تشير إلى التمسك بوقوع النسخ على سبيل
المثال ،ما جاء عند شيخ علوم القرآن ( جلل الدين السيوطي ) في قوله:
"قال الئمة :ل يجوز لحد أن يفسر كتاب ال تعالي إل بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ ،وقد
قال على رضي ال عنه لقاض :أتعرف الناسخ من المنسوخ ،قال :ل ،قال :هلكت وأهلكت"
كذلك مفا ورد عفن ( أبفى جعففر النحاس ) ففي قوله" :ومفن المتأخريفن مفن قال :ليفس ففي كتاب ال
عز وجل ناسخ ول منسوخ ،وهذا قول عظيم جدًا يئول إلى الكفر".
وهفو مفا صفادق عليفه ( الدكتور شعبان إسفماعيل ) وكيفل الزهفر بقوله" :وأهميفة معرففة النسفخ
تتضح مما يأتي :أولً :أن أعداء السلم من ملحدة ومبشرين ومستشرقين جحدوا وقوع النسخ
وهــو واقــع ،وثانياً :أن اللمام بالناسففخ والمنسففوخ يكشففف النقاب عففن سففير التشريففع السففلمي،
ويطلع النسففان على حكمففه ال فففي تربيتففه للخلق وسففياسته للبشريففة ،وثالثاً :أن معرفففة الناسففخ
والمنسوخ ركن عظيم في فهم السلم ،والهتداء إلى صحيح الحكام ،فالمنكـرون
( )1أنظر كتابنا :السطورة والتراث ،باب :النسخ في الوحي ،محاولة فهم.
136
رب الزمان ودراسات أخرى
لوقوع النسـخ فـي القرآن الكريـم ،يخالفون صـريح النـص القرآنـي والسـنة النبويـة والصـحيحة
وإجماع المسلمين.
وتأسيسًا على ذلك ،يصبح إنكار النسخ لونًا من الكفر الصريح ،والنسخ إنما يعني تاريخية النص
وتفاعله مفع واقعفه وارتباطفه بظروف ذلك الواقفع ،وففي الوقفت ذاتفه فإن إنكار عكفس ذلك ورففض
الزليفة والثبات كففر بدوره وهفو مفا يتبناه الشيفخ الغزالي هذه اليام ،وبيفن الكفريفن يضيفع المسفلم
ول يبقفى سفوى أن يركفن لمفن يفسفرون له الحكمفة ففي التناقفض ،بالتعتيفم على الشكاليفة ،اسفتخدام
المتناقضيففن حسففب الحاجففة والطلب والمتغيرات ،دون احترام مطلوب لذلك النففص الرفيففع ،الذي
تأكدت تاريخيته درسًا تربويًا للمؤمنين به ،تلك التاريخية التي أكدتها نصوص القرآن الكريم ذاتها
بما ل يحتمل لبساً أو تأويلً.
137
رب الزمان ودراسات أخرى
هفل يبدو العنوان مسفتفزاً؟ ل شفك أنفه كذلك لول وهلة ...لننفا نخلط بشكفل غيفر واع بيفن الديفن
بقداسفته التفي تمثلهفا كتبفه الموحفى بهفا ،وبيفن الخطاب الدينفي الذي يسفتخدمه كفل مفن هفب ودب
للدفاع عفن قضيتفه ،حتفى لو كانفت أشفد القضايفا بطلناً ،وهفو الخلط الذي انسفحب مفن الديفن على
الخطاب الدينفي ،وعلى أصفحاب هذا الخطاب أنفسفهم ،الذيفن عمدوا إلى تأكيفد ذلك المعنفى ،بالخلط
المقصود بين الدين في ذاته وبين خطابهم المصلحي! حتى أصبحوا ينعمون في نظر العامة على
القفل بهيبفة مسفتمدة مفن قداسفة الديفن ،وبخوف خراففي مفن الزي (اليونيفورم) الذي يرتديفه رجفل
الديففن المتكهففن عادة ،وهففو مففا سففاعد أصففحاب الخطاب الدينففي ،دومًا على خداع الجماهيففر ضففد
مصالحها ،وتبرير أفظع المظالم ،وتمرير أشد الفظائع إثماً ،باعتبارها مشروعة دينياً ،وهو المر
الذي تدلل عليه إطللة سريعة على تاريخ النظمة (الثيوقراطية) ،سواء في أوروبا أو في بلدنا،
عندمفا كان الناس يحكمون بمسفاندة رجال الديفن ،أو بهفم مباشرة ،خاصفة عندمفا يدعون لنفسفهم
قميصاً سربلهم ال به ،أو حقًا إلهياً مزعوماً ،وسواء كان ذلك الدعي بابا أم سلطاناً أم خليفة.
ومفن نكفد الدهفر أن نعفي هذا الخلط ،ونظفل فيفه سفادرين .ومفن ثمّف فإن مفا نسفمع ونقرأ مفن كلم
مرسفل ،لم يسفتطع أن يفرق بوضوح بيفن الديفن وبيفن المشتغليفن بأمور الديفن ،وبيفن الديفن وبيفن
الخطاب الدينفي ،وبيفن الديفن ففي ذاتفه كمقدس ،سفر تقديسفه الوحفي اللهفي وبيفن الفكفر الدينفي الذي
يشرح أو يفسر أو يضيف أو يؤول أو يستخدم ذلك الوحي ،لمأربه أو لوجه ال.
والمثال الوضففح هنففا ،أننففا نعلم جميعًا ول شففك لحظففة أن الوحففي القرآنففي هففو كلمففة ال الواحدة
الثابتففة ،ومففع ذلك فإننففا وجدنففا عففبر متغيرات سففياسية واجتماعيففة ،مففن كان يففبرر لنففا النظام
الشتراكفي بالقرآن والسنة والقواعد الفقهية ،ثم جاءنا من يبرر القتصاد الحر ويكفر الشتراكية
والشتراكييفن ،وبتغيفر الحوال عفبر اليام ،وتداولهفا بزوال اقتصفادي اجتماعفي وقيام آخفر .كنفا
نجد لدى الخطاب الديني مشروعية كاملة لمحاربة دولة إسرائيل ،بينما نجد في زمن كامب ديفيد
كل المبررين يتقدمون بدلئهم السلمية وآرائهم الشرعية ،التي تؤكد أنهم ما داموا قد جنحوا للسلم،
138
رب الزمان ودراسات أخرى
(ومن صـ 148- 145ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
فعلينا أن نجنح لها ونتوكل على ال (؟!) وفي حرب الخليج وجد نظام صدام من رجال الدين في
مختلف أنحاء بلد ل إله إل إله ،العدد الكافي لتبرير مواقفه ،وعلى الجانب الخر وجد المتحالفون
ضده (من المسلمين تحديداً لن المريكان لم يفعلوها) من يبرر لهم موقفهم تبريراً شرعياً.
وهكذا مففع شديففد السففف ،نهدر قيمففة الوحففي الصففادق ،ونتعامففل معففه (بفهلوة) ،تففبرر مففا نريففد،
وترفض ما ل نحب ،وتدافع عن ظلم ،وتقرر لمواقف شديدة التنافر مصداقيتها الدينية ،وهو المر
الذي يستهين بالوحفي اللهي ،ويجعفله مطية لكل الغراض ،ويمتهن كملة ال الصادقة ،دون أن
يرف له جفن ،وهذا هو بالتحديد ما نقصده بما جاء به الخطاب الديني من بدع ،ليست من صحيح
الدين ،ول من سلمة الضمير ول اليمان.
ومفن ثمّف كان لبفد مفن موقفف حاسفم إزاء مفا يحدث ،موقفف يضفع الشروط التفي تضمفن احترام
النففص ،وتمنففع اسففتثماره حسففب الهوى والغرض ،وربمففا لخدمففة أشففد المور بعداً عففن الحففق
والنصاف .ومن بين هؤلء الذين أخذوا هذه المهمة على عاتقهم ،المفكر المتميز (نصر حامد أبو
زيفد) ،الذي حدد أسفاسًا لمشروعفه العلمفي ،يتمثفل ففي أن الديفن يجفب أن يكون عنصفراً أسفاسياً ففي
أي مشروع نهضوي .لكنففه توطئة لذلك أعطففى مففن عمره الكثيففر ليضاح أن الديففن ليففس هففو
الخطاب الديني ،والذي يمارس دوره بشكل أيديولوجي نفعي ،إنما الدين هو النص الديني الموحى
به بعد تحليله وفهمه فهماً علميًا صحيحاً يمنع عنه أي لبس ،ويقف عقبة إزاء محاولت استثماره،
وهو ما سينفي فقط ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية.
وقد انتهى الدكتور نصر أبو زيد في بحوثه إلى عدم وجود خلفات جوهرية بين خطاب المعتدلين
وخطاب المتطرفيففن ،فكل الجانففبين النشطيففن يعتمففد على ذات الليات التففي توحففد فكرهففم بالديففن
لكتسفاب قداسفته ،وتفسفير كاففة الظواهفر بإرجاعهفا إلى مبدأ أول هفو الحاكميفة اللهيفة ،بوصففها
نقيضاً لحاكميفة البشفر ،إضاففة إلى سفلطة السفلف ،وتحويفل نصفوص المجتهديفن إلى نصفوص شبفه
مقدسفة أو مقدسفة ،بحسفم قطعفي يهدر البعفد التاريخفي للديفن تماماً ،كمفا يعتمفد الخطابان على ذات
المنطلقات الفكريفة بمبدأ تحكيفم النفص ،الذي عادة مفا يصفبح تحكيماً لتفسفير وفهفم فئة بعينهفا للنفص
على حسفاب العقفل ،وهفو المفر الذي ينتهفي بالخطاب الدينفي إلى موقفف نقيفض مفن السفلم ،لنـه
نقيض للعقل رفيق السلم وأساسه المتين ،ث ّم يقوم ذلك الخطاب بتحريم ما عدا ذلك عن طريق
139
رب الزمان ودراسات أخرى
التغطيفة اليديولوجيفة لتوجهاتفه الرجعيفة الخادمفة للنظفم السفياسية الدكتاتوريفة ،عفن طريفق مبدأ (ل
اجتهاد مع النص).
وهفي خدعفة أيديولوجيفة ،لن معنفى النفص هفو (النفص الواضفح القاطفع الذي ل يحتمفل إل معنفى
واحدا) ،والنص بذلك نادر في الوحي ،وتظل سائر اليات قابلة للجتهاد والتأويل.
وبهذه التفرقة بين الخطاب الديني وبين الدين ،ينزع عمل الدكتور نصر عن الفكر الديني وخطابه
القداسة ،ليصبح اجتهادات بشرية لفهم نصوص الدين ،بحيث يظل الوحي اللهي مصاناً باحترام
حقيقفي ،وهفو مفا ل يسفمح باللعفب باليات وتفسفرها حسفب الهوى والمناففع ،وإكسفاب ذلك التفسفير
قدسية الدين ذاته.
ومففن هنففا فإن الدكتور نصففر حامففد أبففو زيففد ،وغيره مففن أصففحاب ذات التجاه والغرض ،وأن
اختلفت الدوات بين هؤلء الكوكبة من الباحثين المبشرين بفجر جديد ،فد تعرضوا لهجمة شرسة
من أصحاب الخطاب الديني ،ارتكنت جميعاً إلى التكفير ،لحصار أعمالهم وتنفير المواطن منها،
وتشكيل رأي سبق لديه يمنعه من متابعتها أو قراءتها ،ولكن المأساة الحقيقة أن يتحول المر إلى
إرهاب حقيقفي ،فمفن الدعوة الصفريحة إلى إخراس تلك الصفوات (وهفو مفا تعرض له كاتفب هذه
السفطور على صففحات الهرام والنور وغيرهمفا) إلى النتقال للفعفل داخفل قلعفة العلم المفترضفة
(جامعفة القاهرة) ،حيفث تفم رففض العمال التفي قدمهفا الدكتور أبفو زيفد ،والتفي تصفل إلى ثلثفة
عشفر عملً ،ولم تشففع له لنيفل درجفة السفتاذية ،أمفا الكثفر نكايفة وإثارة للفزع حقاً ،هفو أن يكون
التفبرير المدون لذلك الرففض ،هفو اتهام الرجفل بالكففر ،بعفد تزويفر كلمفه وتحريففه عفن موضعفه
وسففياقه ،على نمففط (ل تقربوا الصففلة) ،إضافففة إلى التلفيففق فففي التأويففل المتعسففف ،دون الرأي
العلمفي المفترض وحده ،وهو ما فعله تقرير الشيخ عبد الصبور شاهين ،رجل بيت لهف الموال
المشهور ،وبالطبع لم يكن غريباً أن يكون كاتب تقرير بهذا السمت والشكل رجل من المستفيدين
المتاجرين بخطابهم الديني ،وهو ما علمناه عنه يقينًا في علقته بأكثر من فضيحة لم يداريها ولم
يندى لهفا جفبينه .فهفو أمفر مفترض لدى أصفحاب الخطاب الدينفي النفعفي ،ومفن الطفبيعي تمامًا أن
يصفاب مثفل كاتفب التقريفر بهذا الهياج الشديفد ،لكفن غيفر المقبول وغيفر المفترض وغيفر المتوقفع
140
رب الزمان ودراسات أخرى
إطلقاً ،أن يكون رجفل واحفد هذا رأيفه ،يتمكفن بالرهاب مفن فرض رأيفه واسفتبعاد رأي جميفع
أساتذة كلية الداب وبخاصة قسم اللغة العربية فيما قدموه من تقارير ،وهنا الكارثة حقاً.
ويبقى التساؤل :هي أصبحت قبة الجامعة ،قبة شيخ من ذوي الكرامات ثوى في قبر مبروك؟! أم
قبفة كنيسفة؟! أم قبفة أحفد المسفاجد؟! أم قبفة معهفد علمفي عريفق تعرض ففي غفلة أو تغاففل مقصفود،
لتسفرب الرهاب إلى حرمفه ليعتدى على أقدس حرماته وهي حرية البحث العلمفي ،وأمانة القرار
العلمفي؟ الفضيحفة عالميفة يفا سفادة يفا كرام ،ولم تعفد مسفألة ترقيفة (أبفو زيفد) أو حتفى فصفله (أنفا
شخصياً أحبذ القرار الخير ،لنه سيعطي الرجل تفرغًا ليأتي ويجلس بجانبي يؤنس ترهبي ،كما
سففيعني ضراوة أكثففر مففن معركفة يجفب أن تحسففم اليوم وليففس غداً حسفماً نهائياً ،إمفا حياة المفة
وتقدمهفا ،أو ننففض أيدينفا منهفا ونترحفم على ذكراهفا) فالقضيفة أكفبر الن مفن ترقيفة أسفتاذ ،إنهفا
منطفق الرهاب والتكفيفر واضطهاد الفكفر الخفر ،وإذا كان هذا قفد حدث مفع نصفر وهفو مسفلم،
فكيف به لو كان مسيحياً؟ فيا أيها المسيحيون المصريون طوبى لكم حقاً وصدقاً ،والحق أقول لكم:
إن مصر تتأسس اليوم ،وفي هذا الجيل ،لقد افتتحت قضية نصر الملحمة ،وال المستعان.
141
رب الزمان ودراسات أخرى
(مفكفر مفن أهفم مفكري التنويفر ففي التاريفخ المصفري ،وعلمفة فارقفة ففي تاريفخ الثقاففة العربيفة
جميعاً) .هذا بالضبففط مففا قلتففه فففي إحدى ندواتففي بعففد أن قرأت للرجففل بحثًا واحداً ،كان منشوراً
أيامها في دورية عربية ،وبعدها تابعت البحث عن أعمال الرجل ،وعن الرجل نفسه ،لكتشف إنه
كان بدوره يبحث عني ،عندما أرسل لي – بمدينة الوسطى حيث كنت أقيم – أحد مريديه ،ليطلب
اللقاء.
وبقدر ما أدهشتني كتابات هذا الرجل بقدر ما أدهشني شخصه ،تحسبه لشدة تواضعه وهو يستمع
ل لكفن بشكفل أفضفل ،حكفى لي عفن مرحلة
للقول إنفه يسفتمع إليفه لول مرة ،ثفم تكتفف أنفه يعلمفه فع ً
الصفبا بشديفد مفن البراءة والعتزاز ،وكيفف بدأ عاملً فنياً باللسفلكي ،وكيفف حمفل أعباء السفرة
بعد رحيل عائلها ،وكيف كان يعمل نهارًا ويدرس ليلً ،لكنك ل تجد مهما بحثت أي أثر لتشوهات
كان يمكفن أن تتركهفا تلك الرحلة ففي نففس أي رجفل ،كفل مفا حدث أنفه قرر أن يحمفل عبفء مصفر
جميعاً.
صفريح كفل الصفراحة إلى حفد الصفدمة ،ل يقول إل مفا يعنيفه فعلً ،أمفا المسفتوى العلمفي الرفيفع
والرصفين ففي إصفداراته السفبع ،فتشفي بصفرامة علميفة نادرة ،تفصفح عمفا يأخفذ الرجفل بفه نففه مفن
شدة وقسفوة عندمفا يعمفل ،فعلى مسفتوى الكتابفة ،وعلى المسفتوى الشخصفي ،لم يسفاوم أبداً على
مبادئه ،ول على مستقبل هذا الوطن.
والقارئ لعمال نصفر أبفو زيفد يكتشفف هفم الرجفل ففي إزالة ومنفع السفتخدام النفعفي والنتهازي
للدين ،بدأ به على ربط النص بسببه الموضوعي وسياقه التاريخي .أما السلوب فشديد الرصانة،
شديفد البراءة أيضاً ،يفضفح بفبراءته أولئك المنتفعيفن على مفر العصفور ،ومفن هنفا اسفتشعر أولئك
الخطففر الذي يمثله هذا النسففان ،فشنوا عليففه حملتهففم التففي قادهففا مسففتشار بيوت هبففش الموال
142
رب الزمان ودراسات أخرى
المعروف عبففد الصففبور شاهيففن لتدعمففه بعففد ذلك أسففماء كثيرة وردت بكشوف البركففة ،ليأخففذ
التحالف السفود مداه ليصفل بالرجفل إلى المحاكفم ،حيفث يصفدر ضده الحكفم بتفريقفه عفن زوجتفه،
بحجفة أنفه أراد الجتهاد ففي قواعفد المواريفث ،فانكفر بذلك معلوماً مفن الديفن بالضرورة ،والمعنفى
الضمني في هذا الحكم أن الرجل مرتد عن السلم ،ويصبح من حق أي مسلم مهووس أن يذبحه
وهفو مطمئن الفؤاد قريفر العيفن ،بالنظفر إلى العلقات الواضحفة بيفن القطاب ،حيفث أفتفى الشيفخ
الغزالي ففي محاكمفة قتلة فرج فودة ،بأن أي مسفلم يمكنفه تنفيفذ حدود ال بيديفه ،وبالمناسفبة منحفت
حكومتنا المباركة هذا الرجل جائزتها التقديرية؟!
ولو مددنففا الخففط على اسففتقامته ،منففذ مقتففل الدكتور فرج فودة ،مروراً بمحاولة اغتيال نجيففب
محفوظ ،ثفم ربطنفا ذلك بتراجفع العنفف الدينفي المسفلح بعفد الصفدامات الدمويفة مفع جهاز الشرطفة،
ومع خسارة ذلك العنف تأييد الشفففارع المصري له ،حيث بدأ الناس بالتعاون الفعلي مع الشرطة
بعففد مففا رأو مففن جرائم الرهاب ،فإننففا سففنلحظ فوراً نقلة جديدة ،تتمثففل فففي متغيرات مرحليففة
وتكتيكيفة ،لكسفب الجماهيفر إلى صفف السفلم السفياسي ،وذلك برففع عدد مفن قضايفا الحسفبة ضفد
مفكري مصفر ،مثلمفا حدث مفع عاطفف العراقفي ،وكتاب روزاليوسفف ،وغيرهفم ،وهنفا يتفم نقفل
قضية نصر أبو زيد من دائرتها الصلية إلى الدائرة التي أصدت الحكم ،دون مبررات واضحة،
وهفي كلهفا مؤشرات إلى منهفج آخفر وطريفق آخفر يتسفم بالذكاء قفد بدأ تنفيذه ،حيفث يمكفن ذبفح
نصر أبو زيد بعد الحكم ،مع تهيئة الجماهير لقبول ذلك الذبح الشرعي بحملة واسعة حدثت فعلً
فففي مسففاجد معلومففة الشأن ،دون أن نتمكففن مففن اتهام الرهاب الدينففي المسففلح ،وسففيف هيبففة
مؤسفسة القضاء مرفوع فوق رؤوسفنا ،ولن القتفل هنفا سفيكون بتفويفض رسفمي مفن مؤسفسة
الدولة ،ومختوماً بخاتمها الرسمي.
كل ذلك يشير إلى جودة عالية في التكتيك ،وتوزيع مبرمج بدقة للدوار ،تمكن من الستفادة من
الوسففطية الفجففة التففي تلعبهففا مؤسففسة الحكففم ،منففذ أن قررت أن تكون الدولة دولة مؤسففسات
ديمقراطيففة ،ثففم قررت فففي الوقففت نفسففه أن الديففن الرسففمي للدولة هففو السففلم ،وأن الشريعففة
السففلمية المصففدر الرئيسففي للتشريففع ،فجمعففت بيففن المبدأ الديمقراطففي الذي ل يعرف عففن
المواطنيفن هويتهفم الدينيفة ،ول يضفع ،ففي اعتباره إن كان هذا المواطفن مسفلماً ،أم مسفيحياً ،أو
حتفى بل ديفن محدد ،وبيفن أيديولوجيفا دينيفة شموليفة ،مفع التصفور السفاذج أنفه مفن غيفر الممكفن
143
رب الزمان ودراسات أخرى
ول شك لدينا أن السيد القاضي المبجل ،الذي أصدر الحكم ،كان متسقاً تماماً مع القاعدة التشريعية
التي سوغت له أن يحكم بما حكم ،فتحت يديه باب للجحيم يمكنه أن يفتحه ويستخدمه وقتما شاء،
قفد وضعتفه له حكومتنفا الغراء ،كمفا أن سفيادته كان متسفقاً تمامًا مفع منظومتفه الدينيفة والفكريفة،
فالرجل كما رنا إلى علمنا من المتشددين في أمور الدين ،لذلك فقد أصدر الحكم الذي يرتاح إليه
ضميره وعقيدته ،التي هي بهذا المنطق أساس ومقياس كل الحكام.
لكن هذا كله ل يعني تبرئة السيد القاضي المبجل من الخطأ ،فجل من ل يخطئ ،نقول هذا ونحن
نعلم معنى هيبة القضاء ومؤسسته ،كما نعلم جيداً ما قد يجره هذا الكلم علينا نحن بالذات .لكن
المسفألة لم تعفد تحتمفل تردداً أو وسفطية أو تمييعًا للمواقفف ،نعفم مؤكفد لدينفا أن الحكفم بقياسفه على
عقيدة القاضفي ونفص الدسفتور صفحيح تماماً ،وهفو المفر الذي يجفب أن يحيفل الجميفع الن إلى
مناقشففة القاعدة الدسففتورية والتشريعيففة ذاتهففا ،التففي سففوغت له إصففدار حكمففه ،أمففا الخطففأ الذي
نقصفده فهفو قيام الحكفم على حيثيفة اتخذت موقفهفا مفن اجتهاد نصفر على فهمفه هفو لمفا كتفب نصفر
أبفو زيفد ،بينمفا هناك كثفي مفن مفكري هذا البلد ،قفد قرأوا أعمال الرجفل ،ولم يفهموا منهفا مفا فهفم
السفيد القاضفي ،وهنفا جوهفر المفر ،حيفث يتفم تحكيفم الديفن ففي رقاب العباد ،بينمـا النـص الدينـي
نفسه قابل لتعدد الفهم حوله بتعدد القراءات واختلف الثقافات ،كما أن أي نص آخر يحمل ذات
المشكلة في تعدد ألوان الفهم حوله ،ومن ثم يصبح الخطأ هنا – خاصة إذا كان الخطأ قاتلً – هو
ففي فهفم مفا كتفب نصفر أبفو زيفد ،يلتبفس بخطفأ آخفر يتأسفس على النحياز لفهفم دون فهفم آخفر
لنصفوص الديفن ،وهفو بدوره مفا ينبنفي على اعتبار تلك النصفوص نصفوصاً جامدة ثابتفة ل تقبفل
المناقشففة ،ويلحففق بذلك نتائج هففي أن أي محاولة لتحديثهففا أو تأويلهففا ،أو حتففى مجرد تحريكهففا،
يعني الكفران المبين.
144
رب الزمان ودراسات أخرى
وقفد أخفذ فهفم نصفوص القرآن الكريفم أحفد طريقيفن ،ظل طوال التاريفخ السفلمي ففي حالة مفد
وجزر ،لعبفت بهمفا أقدار السفياسة والظروف القتصفادية والجتماعيفة ،حتفى أسفتقر أحفد الطريقيفن
وساد في عصور التخلف والظلم.
فالمعلوم لدى أي مسففلم أن القرآن الكريففم لم يتنزل على النففبي صففلى ال عليففه وسففلم دفعففة واحدة
وكتلة متماسفكة كالواح موسفى ،إنمفا تواتفر مفرقًا عفبر ثلث وعشريفن سفنه ،هفي عمفر الوحفي ،أي
أنه استغرق من التاريخ زمناً يتجادل مع أحداث الواقع ومستجداته ويتفاعل معها ويجيب على ما
تطرحفه مفن إشكاليات دائمفة التغيفر ،وخلل ذلك نسفخت آيات آيات أخرى ،ونسفيت آيات ،ورفعفت
آيات ،وهو يعني أن للوحي عمراً هو جزء من التاريخ ،وهو ما يعني تاريخية النص القرآني التي
ل يجادل فيهففا إل مكابراً أو صففاحب مصففلحة ،وكانففت هذه التاريخيففة واضحففة تمامًا فففي أذهان
المسلمين الوائل.
وفهفم تاريخيفة النفص الدينفي ،وربفط اليات بأسفبابها ،ل شفك يوقفف السفتخدام النفعفي والنتهازي
والمصلحي والرتزاقي للدين ،فحيث أن عملية جمع القرآن زمن الخليفة عثمان ،قد جمعت الناسخ
إلى جوار المنسفوخ ،فقفد دففع ذلك أكثفر الصفحابة علماً وفقهًا إلى التنفبيه على تلك التاريخيفة طوال
الوقفت ،وهفو مفا يمثله قول على بفن أبفي طالب لحفد القضاة وهفو يحكفم بيفن الناس" :هفل تعرف
الناسخ من المنسوخ؟"" فقال :ل ،فقال على" :إذن فقد هلكت وأهلكت"".
وففي عصفور التخلف ،واسفتخدام الديفن لخدمفة توجهات أصفحاب السفلطان ،ثفم وضفع قاعدة فقهيفة
تقول :إن العففبرة بعموم اللفففظ ل بخصففوص السففبب ،وهففو مففا يفتففح الباب على مصففراعيه أمام
السفتخدام النتهازي الصفريح لنصفوص الديفن .ومفن أمثلة ذلك السفتخدامات القريبفة مفا مفر ففي
تاريخنفا المعاصفر ،مفن تفبرير رجال الديفن لتوجهات الحكومات على تناقضهفا التام ،فعندمفا كنفا
نحارب إسرائيل وجدنا آيات ل حصر لها تؤيد تلك الحرب وتدعو إليها ،وعندما قررنا عقد السلم
معهفا وجدنفا آيات ل حصفر لهفا تدعفو إلى السفلم وتطالبنفا بالجنوح إليفه ،وعندمفا اعتمدنفا المنهفج
الشتراكفي ففي الزمفن الناصفري ،اكتشفوا لنفا أن رائد الشتراكييفن وإمامهفم هفو النفبي صفلى ال
عليفه وسفلم ،وعندمفا قررنفا الخفذ بنظام القتصفاد الحفر قدموا لنفا كشفًا على النقيفض تماماً ،يجعفل
الناس درجات وطبقات.
145
رب الزمان ودراسات أخرى
وهكذا وجففد القائمون على شئون الديففن بناء على تلك القاعدة الفقهيففة ،مكاسففب دائمففة ،تففبرر
للسفلطين عفبر العصفور آراءهفم واتجاهاتهفم بفل ونزواتهفم ،وبالديفن ونصفوصه تأسفيسًا على إنكار
تاريخيففة الوحففي والقول بثباتففه الزلي فففي لوح محفوظ ،للعمففل بالناسففخ وقففت الحاجففة ،وللعمففل
بالمنسوخ عند تغير الحاجة ،حسب التوجهات المطلوبة والنتهازية.
والقول بأزليفة النفص إنمفا يجاففي العقفل والمنطفق والنفص نفسفه ،حيفث يحوي النفص أحداثًا وقعفت
إبان حياة الرسفول ل يمكن فهمهفا إل في ضوء تاريخيفة النفص ،ول يمكن فهفم اليات المتعلقفة بهفا
إل بربطهفا بتلك الحداث الحادثفة وليسفت الزليفة أو القديمفة ،وهفي تتعدد بتعدد آيات بنفت جحفش
ليحل إشكاليتها؟! أو كيف نفهم في ظل الزلية النص الذي يحدثنا عن أولئك الذين نادوا النبي من
وراء الحجرات ،أو كيفففف نفهفففم سفففماع ال لتلك المرأة التفففي جاءت إلى النفففبي تجادله ...الخ،
والنماذج أكثر من أن تحصى.
مفن هنفا وتأسفيساً على كفل ذلك جاءت أعمال كوكبفة المفكريفن المحدثيفن ففي مصفر ،لوقفف إهدار
الوطفن وكرامفة المواطفن طوال الوقفت بهذا السفتخدام النفعفي للديفن ،وحتفى ل نظفل على حاففة
التناقض دوماً ،وعلى رأس تلك العمال كانت كتابات نصر أبو زيد الرائدة ،التي أقضت مضجع
هؤلء المنتفعين ،ودفعتهم إلى تلك الحملة المسعورة ،ضمن تكتيكهم الجديد المرحلي.
وغير خاف على أي مدقق ،أن استمرار التعامل مع النصوص باعتبارها كتلة واحدة غير مرتبطة
بأحداث ومتغيرات واقفع الزمفن النبوي ،مفع تعليقهفا ففي فضاء ل يرتبفط بواقفع تلك الحداث ،أدى
إلى تناقفض شديفد إلى درجفة (الشيزوفرينيفا) ففي فكفر النسفان المسفلم ،كناتفج ضروري للتضارب
بين الناسخ والمنسوخ ،واليمان بالعمل بأحكام كليهما ،وأبرز مثال عليه ذلك التضارب بين آيات
الصففح والصفبر الجميفل ،وبيفن آيفة السفيف التفي أجمفع الفقهاء على نسفخا ليات الصففح ،وهفو
تناقفض شكلي بالطبفع وليفس موضوعياً .لن لكفل منهمفا كانفت ظروف واقعيفة تلتحفم بفه وتفبرره،
وبالتالي ،وعملً بقاعدة العفففبرة بعموم اللففففظ ل بخصفففوص السفففبب ،انطبفففع سفففلوكنا بالنفعيفففة
والنتهازيفة ،حيفث يمكنفك أن تجفد مفبرراً دينيًا دائماً لمفا تريفد ،وبحيفث أصفبحت اليات القرآنيفة
والحاديث حججًا دائمة حتى في خصوماتنا الشخصية أو تعاملتنا المجتمعية أو القتصادية ،وكل
منا على طرفي الخصومة يجد فيها مؤيداً له.
146
رب الزمان ودراسات أخرى
ومن ثم تناقضنا مع أنفسنا ،ومع تاريخنا ،ومع الخر ،ومع العالم ،ومع مفهومنا عن الوطن ،بل
عن الدين ذاته ،فلم نستطع طوال ذلك التاريخ أن نضع رؤية واضحة متسقة لنفسنا أمام أنفسنا أو
أمام العالم ،وهفو مفا ترك بصفمته الواضحفة لدى الحزاب الدينيفة ،التفي لم تتمكفن حتفى الن مفن
وضع برنامج واضح المعالم لها.
ولو حاولنفا القياس على المحاكمفة التفي تمفت وانتهفت بقرار تفريفق نصفر أبفو زيفد عفن زوجتفه،
لوجففب إجراء محاكمات مثيلة لشخصففيات كففبرى فففي تاريففخ السففلم تصففل بعضهففا إلى درجففة
القدسففية ،مففع تفاوت تلك الدرجففة لدى المذاهففب السففلمية ،فلدينففا نماذج مثففل الخليفففة عمففر بففن
الخطاب ،الذي ارتكب بهذه المعاني ما لم يسبقه إليه أحد ،وما لم يلحقه إليه أحد ،فقد أوقف العمل
بحد السرقة عام الرمادة ،ثم نهى عن متعة حلل ،فخالف بذلك نص القرآن "يا أيها الذين آمنوا ل
تحروموا طيبات مفا أحفل ال لكفم" ( – 87المائدة ) ،وذلك عندمفا وقفف على المنفبر النبوي وقال:
(متعتان كانتا على عهد رسول ال ،وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما :متعة الحج ومتعة النساء).
لن أناقفش هنفا مسفألة الردة ،وهفل هفي حفد مفن الحدود المقررة ففي السفلم مفن عدمفه ،فقفد تعرض
لها أساتذة أكفاء وفندوها تفنيداً محكماً ،لكني أسلك هنا سبيلً آخر أره سبيل النسانية الحرة.
فنحن يمكننا أن نفهم الظروف التي أدت إلى حروب الردة زمن أبي بكر ،ويمكننا أن نتفهم اغتيال
المعارضين زمن النبي صلى ال عليه وسلم ،وذلك بالنظر إلى ظروف الزمن آنذاك ،حيث كانت
دولة العرب السففلمية فففي طور النشأة والتكويففن ،وكان إسففلم الفرد آنذاك تعاقداً بشروط ،حيفث
يعرض عليفه السفلم ،وهفو رجفل بالغ عاقفل راشفد ،ليختار بملء إرادتفه وحريتفه ،ويدرك مقدماً
النتائج المترتبفة على إخلله بذلك العقفد ،كمفا يمكننفا أن نفهفم سفر شدة العقاب للمعترض والمرتفد
آنذاك ،حيففث كان إنشاء دولة مففن عدم ،ومففن قبائل متفرقففة متصففارعة ،مففع مففا يعنيففه ارتداد فففد
بارتداد قفبيلته جميعاً ،ومفا يؤدي إليفه ذلك مفن تفكيفك عرى الدولة وتوحدهفا ،لذلك تمفت التضحيفة
بأرواح كثيرة عنفد قيام الدولة لنهفا كانفت تنهفض ففي وسفط معاد لهفا تماماً ،لذلك كانفت مضطرة،
أن تكون دولة عسكرية شديدة المراس طوال الوقت.
نعم يمكننا أن نفهم ذلك ونعيه جيداً ،لكننا هنا في مصر وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين،
ومصفر كانت دولة مركزية ،وأمفة متكاملة قبفل أن تعرف السلم بألوف السنين ،فما حكم المسلم
147
رب الزمان ودراسات أخرى
هنا اليوم حيث يولد مسلماً بحكم ميلده في أسرة مسلمة؟ فل هو اختار السلم عن دراية وإرادة
ودرس واقتناع ،ول هو دخل في ذلك العقد عن بيئة واضحة نافية للجهالة ،أفئن حاول من بعد أن
يطمئن إلى طوية فؤداه ،أو أن يناقش أمراً من أمور الدين ويجتهد فيه يحكم عليه بأنه مرتد؟ هكذا
بكل بساطة؟!
هففل نحففن كون بذاتففه؟ أم نحففن أبناء هذا العالم؟ لقففد كافحففت البشريففة وناضلت ،وقدمففت ملييففن
الضحايا على مذبح كرامة النسان وحقوقه ،حتى تمكنت من إرساء تلك القواعد الحقوقية ،وأهمها
حففق حريففة العتقاد ،وحريففة التفكيففر وحريففة القول ،وحتففى اسففتطاعت أن تقيففم الدولة المدنيففة
الديمقراطيفة ،ونحفن هنفا ل نجرؤ على حريفة العتقاد ،فقفط ربمفا حاولنفا حريفة الجتهاد ،وعندهفا
تصفدر ضدنفا أحكام القتفل ،إمفا مفن أميفر جماعفة مأفون ،أو مفن محكمفة تابعفة للدولة ،لن حكومتنفا
الرشيدة لم تع بعد التعارض الهائل بين مواد الدستور وبعضها ،لم تع أن حقوق المواطن في دولة
مدنيففة دسففتورية ومؤسففساتية ،تتعارض بففل وتتضارب تضارباً صففارخاً مففع البنود الخرى فففي
الدستور ،وربما كانت قضية أبو زيد الن هي الضارة النافعة ،ومن ثم أرفع صوتي هنا وأطلب
مفن كفل شرفاء مصفر أن يضموا أصفواتهم إلى صفوتي ،للعمفل على إعادة النظفر ففي القواعفد التفي
يمكفن أن تسفوغ للبعفض إهدار أبسفط حقوق النسفان ،حتفى لو كانفت تلك القواعفد ليجاد توازنات
وسفطية تحفل بهفا الحكومفة مشاكلهفا مفع المعارضفة الدينيفة ،أو لرشوة تيار شعفبي غيفر رشيفد ،فإمفا
أن نقيففم دولة مدنيففة حقاً ،أو لتخبرونففا بوضوح أنكففم مسففتريحون لوضعنففا المزري هذا خارج
التاريخ ،ولنا في دستور 1923أسوة حسنة ،وكنا نحن واضعوه وليس آخر.
148
رب الزمان ودراسات أخرى
"الدائرة هي أكمل الشكال" ....هذا ما أعلنه (فيثاغورس) في القرن الرابع قبل الميلد ....وقبله
بحوالي نصفف قرن كان الفيلسفوف (طاليفس) يؤكفد أن الرض مسفتديرة كالقرص تماماً .وتوصفل
(أنسكمندريس) إلى أنها معلقة في الفضاء.
ووسع (بارمنيدس) النظرية ،فقال أن الكون كله ،ليس إل كرة تامة الستدارة .ولم يأت عام 350
قبفل الميلد ،حتفى كان (ديمقرطيفس) قفد عمفم النظريفة على الكون كله ،حيفن أنتهفى إلى أن الكون
كله ،يتركب من جسيمات مادية كروية الشكل متناهية في الدقة والصغر ،هي الذرة (.)1
والعلم الحديففث يؤكففد أن الكون كله مففن أكففبر أجرامففه إلى أدناهففا ،يعتمففد الكرويففة فففي تشكيله،
والهليجية في حركته (الهليجية هي الطواف دائرياً على منحنى بيضاوي) .فالرض مثلها مثل
بقيففة كواكففب المجموعففة الشمسففية ،كرة تطوف على منحنففى بيضاوي حول مركففز هففو الشمففس،
والشمس كأي نجم كرة نارية تطوف مصطحبة معها كواكبها بنفس الطريقة ،حول مركز مجرتها
(التبانفه) ،والمجرات بالملييفن والنجوم بالبلييفن ،وكلهفا كرويفة ففي تشكيلهفا ،ذات طواف اهليجفي
ففي حركتهفا ،وينطبفق هذا حتفى على أدق الجسفام الكونيفة .فالذرة مجموعفة شمسفية مصفغرة ،إذ
هي عبارة عن ألكترونات كروية تطوف إهليجياً حول مركز كروي هو نواة الذرة.
والغريفب أن النسفان – منفذ ففج التاريفخ – عندمفا كان يريفد إثبات خضوعفه لناموس الكون ،كان
يضع نقطة اعتبارية يقدسها ويطوف حولها ،كطواف الكواكب حول الشمس أو اللكترونات حول
الذرة ،كما لو كانت الكروية أو الستدارة ناموساً قدسيًا إلى جانب كونها ناموسًا علمياً.
ولمفا كانفت المكتشفات الفلكيفة القديمفة (ففي الرافديفن) ،قفد توقففت عنفد سفبعة كواكفب تدور حول
الشمففس ،فيبدو أن ذلك سففوغ النسففان القديففم أن يضففع لطوافففه حول بيوت اللهففة المقدسففة وحدة
قياسية مقدسة تتكون كن سبعة أشواط .مع الخذ في الحسبان أن هذه الكواكب السبعة كانت آلهة
في نظره.
* من أوائل موضوعات الكاتب الختبارية ،نشر بالعدد ( )13 ،12من ملة الكويت ،الكويت.
(ومن صـ 168- 157ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
149
رب الزمان ودراسات أخرى
وحتففى اليوم ،لم يزل العامففة حول المنطقففة ولمسففافات بعيدة ،يقصففدون آبار المياه المقدسففة فففي
أبيدوس للخصففاب والسففتشفاء دون علم بأصففل هذه القدسففية الحقيقففي .فالمسففيحيون يقصففدونها
معتقديفن أنهفا قفبر قديفس مفن أباء الكنسفية الوائل ،ويقصفدها المسفلمون واضعيفن ففي حسفبانهم أن
هذا القبر مقام ولي من الصالحين (.)2
وففي بلد الرافديفن تبنفت الدول السفامية حضارة سفومر .وخلل الحضارات التفي توالت هناك مفن
(أكد) إلى (بابل) إلى (آشور) إلى (كلديا) ،كان المصطلح السومرى ((إيلو) أو (أيل) هو اسم العلم
المطلق الدال على الله المعبود ( ،)3فكانفت (أيفل) تطلق على أي رب مفن الرباب ( )4الذيفن يربفو
عددهم على ثلثة آلف.
()5
لكففن اللسففان السففامي ،أبدل الكلمففة السففومرية ( )BITبمعنففى المعبففد ،بمقابلهففا السففامي بيففت
وأضافهفا إلى (أيفل) لتصفبح (بيفت أيفل) أي بيفت ال (ولحفظ التقارب ففي النطفق بيفن أيفل وال)،
للتدليل على معبد الله ،الذي كان يأخذ عادة شكل الزاقورة وهي شيء أشبه بالمئذنة ،يدور حولها
سففلم صففاعد فففي شكففل دائري ،وعلى قمتهففا كانوا يضعون شكلً هللياً ،رمزاً للله (سففين) إله
القمر،
( )2ديا نة م صر القدي ة ،أدولف أرمان ،صـ .422 : 420أن ظر أيضا :م صر والياة ال صرية ف الع صور القدي ة أدولف أرمان
وهرمان رنكه ،صـ .290
150
رب الزمان ودراسات أخرى
وففي كنعان انتشرت بيوت اللهفة ،مثفل (بيفت شماس) و(بيفت إناث) و(بيفت لحفم) و(بيفت يراه).
ويقول رينيه ديسو (" )6إن هذه البيوت قد اتخذت شكل البناء المكعب ،فسمى اللسان الكنعاني بيت
المعبود (كعبفو) .وأوجفب كفل معبود على أتباعفه الحفج إلى بيتفه والطواف حوله سفبعاً ،ولعفل أهفم
هذه البيوت ،ذلك البيفت الذي أقامتفه القفبيلة البراهيميفة بعفد هجرتهفا مفن مدينفة (أور) الرافديفة إلى
أرض فلسفطين ،والذي حمفل اسفم "بيفت إيفل" .كمفا يزعفم الكتاب المقدس ...حيفث ظفل (إيفل) هفو
المعبود للشعفب العفبري منفذ إبراهيفم عليفه الصفلة والسفلم حتفى ظهور النفبي موسفى عليفه الصفلة
والسلم.
ويؤكفففد (د .جواد على) أن الطواف حول مركفففز قدسفففي كان معروفاً لدى قدماء الفرس والنهود
والبوذييففن والرومان .كذلك نجففد فففي المزاميففر بالكتاب اليهودي المقدس "أغسففل يدي فففي النقاوة
فأطوف بمذبحفك يفا رب" (الصفحاح ،)26وهفو دليفل واضفح على وجود الطواف عنفد اليهود،
وفي ثنايا حديثه عن الحج ،يقول (د .جواد) "أقصد بالحج الذهاب إلى الماكن المقدسة في أزمنة
موقوتفة للتقرب إلى اللهفة وإلى صفاحب ذلك الموضوع المقدس ،وتقابفل هذه الكلمفة العربيفة كلمفة
Pilgrimageففي النجليزيفة .والحفج بهذا المعنفى معروف ففي جميفع الديان تقريباً .وهفو مفن
الشعائر الدينية القديمة عند الساميين .وكلمة حج من الكلمات السامية الصل الصيلة العتيقة ،من
أصل ح ك HGح ج وهي حك.
وفي العبرانية ،وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام .وفي روع الشعوب
السفامية القديمفة أن الرباب لهفا بيوت تسفتقر فيهفا ...ولذلك يرى المتعبدون والمتقون شفد الرحال
إليهفا للتفبرك بهفا والتقرب إليهفا ،وذلك ففي أوقات تحدد وتثبفت ،وففي أيام تعيفن تكون أياماً حراماً،
151
رب الزمان ودراسات أخرى
لكونها أياماً دينية ينصرف فيها النسان إلى التفكير في آلهته ...وتكون هذه المواضع التي تستقر
فيها اللهة بيوتاً لها ،ولذلك قيل في الزمنة القديمة (بيوت اللهة) ،وقد بقى هذا الصطلح حياً
حتفى الن يطلق على المعابفد .فالمعبفد هفو وبيفت ال ففي أغلب لغات العالم المعروففة ففي الزمفن
الحاضر" (.)7
محجات الجاهليين
أشارت النصوص السريانية واليونانية واللتينية القديمة إلى وجود الحج عند العرب قبل السلم،
غيففر أنهففا لم تشففر إلى وجود بيففت واحففد كان يحففج إليففه العرب جميعاً ( ،)8ويقول (الهمدانففي) أن
العرب كانففت لهففم محجات متعددة منهففا بيففت اللت وكعبففة نجران وكعبففة شداد اليادي وكعبففة
غطفان ( ،)9ويذكففر ابففن الكلبففي بيوتًا أخرى كففبيت ثقيففف ( .)10ويشيففر (الزبيدي) إلى بيففت ذي
الخلصة الذي كان يدعى الكعبة اليمانية ( ،)11ويضيف (د .جواد علي) بيوتاً أخرى مثل (كعبة ذى
الشرى) وكان حجهففا يوم 25كانون أول مففن كففل عام ،و(كعبففة ذى غابففة) الذي لقبففه عباده بففف
(قدسفففت) أي (القدسفففي) ،كذلك كان للهفففة الصففففويين (اللت وديان وصفففالح ورضفففا ورحيفففم)
محجاتهفا ،كمفا كانوا يحجون إلى الكعبفة المكيفة و(بيفت اللت) ففي الطائف و(بيفت العزى) قرب
عرفات و(بيففت مناة) ،وغيرهففا كثيراً .وكان الحففج معتادًا فففي شهففر ذى الحجففة ،وكان الطواف
الجاهلي حول البيت الذي يعظمه سبعة أشواط (.)12
ويبدو أن تقديففس بيوت اللهففة تلك ،يرجففع إلى اعتقاد الجاهلي فففي أن إلهففه يسففكن فوق سففطح
السففماء ،وبالتالي فقففد يقدس أي جسففم فضائي (كالنجوم وبقايففا النيازك والشهففب المتهاويففة إلى
الرض) لتصفوره أنفه إنمفا سفقط مفن البيفت اللهفي الذي ففي السفماء ،وكذلك كان يعتفبر هذا الحجفر
رمزاً للهه ،فيجعله مركزاً قدسيًا يبني حوله بيتاً يطوف به تبركاً ،معتقداً أن هذا البيت يقع تماماً
تحت البيت اللهي ،باعتبار ان حجره المقدس يقع تماماً تحت المكان الذي سقط منه .وأضاف
( )7الفصل ف تاريخ العرب قبل السلم ،د .جواد علي ،ج ،5صـ .215 ،214 ،223
( )8نفس الرجع ،صـ .217
152
رب الزمان ودراسات أخرى
ومثال لهذه الحجار السفوداء ،معبود النبطييفن ،وهفو حجفر أسفود يرمفز للشمفس ( ،)14واللهفة مناة
عبدهفا الهذليون ممثلة ففي حجفر أسفود ( ،)15كذلك كان "ذو الشرى" حجفر أسفود ( .)16وقفد تصفور
الجاهليون أن حجر الكعبة المكية السود ومقام إبراهيم مثل بقية أحجارهم المقدسة ،حتى ظنوا –
(
كما يقول المسعودي – أن البيت المكي من البيوت التي خططت لعبادة الكواكب السيارة السبعة
)17ولكففن للبيففت المكففي وحجره السففود قصففة أخرى ،كمففا سففنرى حيففن نتطرق إلى الحففج فففي
السفلم ،ولكفن قبفل ذلك ينبغفي الوقوف مفع البيفت المكفي ففي العصفر القرشفي ،نسفتقرىء التاريفخ
اعتقادات الجاهليين حوله.
الكعبة المكية
يتفق الباحثون على أن الجغرافي (بطليموس) يعد أقدم من أشار إلى مكة وأوردها السم (مكربا)،
ومفن سفرده يمكفن اسفتنتاج أنهفا كانفت بلدة عامرة ففي القرن الثانفي للميلد .ويذهفب بعفض الباحثيفن
إلى أنها يجب أن تكون موجودة قبل هذا التاريخ بكثير (.)18
ويعتقد Dr. Snouck Hmrgrujeأن نبع (زمزم) في واد غير ذي زرع ،هو السبب في نسوء
هذا المركففز المقدس ( ،)19وقففد قدم مفتففي الديار المصففري (حسففنين مخلوف) كتابًا للسففيد (محمففد
حسني عبد الحميد) ،عنوانه (أبو النبياء) ،نقل فيه مؤلفه عن (جرجي زيدان) أن الصل في اسم
(مكة) هو لفظ (بكة) أو (بك) السامية الصل ،مفع الخذ في العتبار تسمية القرآن لمكة بالسم
(بكة)" :إن أول بيت وضع للناس الذي ببكه مباركاً وهدى للعالمين".
( )13أبو النبياء إبراهيم الليل ،ممد حسن عبد الميد ،صـ .98
( )14مضمون السطورة ف الفكر العرب ،د .خليل أحد ،صـ .43
( )15ف طريق اليثولوجيا عند العرب ،ممود سليم.
153
رب الزمان ودراسات أخرى
ومعلوم أن اللغفة العربيفة فيهفا إبدال الباء ميمًا والعكفس .ويمثفل المؤلف لذلك بمعبفد (بعلبفك) ففي
لبنان ،مشيراً إلى أن السففم (بعلبففك) مركففب مففن مقطعيففن( ،بعففل) وهففو اسففم صففنم يمثففل معبوداً
كنعانياً قديمًا ول يزال قائماً ففي المعبفد إلى اليوم ،و(بفك) أي بيفت .وقفد أطلق على المدينفة التفي
فيها بيت البعل (بعل بك – بعلبك) كما هو الواقع بمكة ( .)20ويشير (د .خليل أحمد) إلى أن السم
(بفك) ربمفا كان بابلياً أو آشورياً (( .)21لحفظ أن كفبير أرباب الكعبفة قبفل السفلم كان هبفل وهفو
من أصل كنعاني ،إذ تحكي كتب التاريخ السلمي أن عمرو بن لحي الخزاعي قد أحضر تمثاله
من البلقاء في الشام ،والسم هبل هو الصل هبعل والهاء أداة تعريف بينما أهملت العين بالتخفيف
مع مرور الزمن).
ويذهفب بعفض الباحثيفن مذهبًا آخفر ،واسفتناداً لروايفة (ابفن طيفور المصفري) و(القيروانفي) القائلة
أن أهل حمير كانوا يقلبون القاف كافا ،بزعم هؤلء أن أصل الكلمة (مكة) هو (مقة) .وكان (مقة)
اسفمًا للله السفبئي المعروف ففي التاريفخ العقائدي بأل (مقفة) .ومفن هؤلء الباحثفة اليمنيفة (ثريفا
منقوش) التففي اهتمففت بدراسففة الله اليمنففي (مقففة) منففذ بدء ظهروه حتففى تحوله إلى إله قومففي،
وانتشار عبادتففه بعففد انهيار مركففز اليمففن التجاري بانهيار سففد مأرب وتشتففت القبائل اليمنيففة فففي
أرض الحجاز ،واسفتقرار أكبرهفا (خزاعفة) ففي المنطقفة التفي أصفبحت تعرف باسفم (مكفة) (.)22
وتزعم الباحثة أن كثيراً من عادات الحج إلى البيت المكي في الجاهلية ،كانت على غرار التقاليد
اليمنية القديمة في تأدية فروض العبادة والحج للله الف (مقة) (.)23
وتدعفم الباحثفة وجهفة نظرهفا بقولهفا" :وقفد أدرك الرسفول صفلى ال عليفه وسفلم علقفة مكفة بأهفل
اليمن بما توافر لديه من معلومات تاريخية عن العلقة بين مكة وأهلها ،واليمن وقبائلها وعقائدها،
فورد على لسفانه وهفو بالمدينفة :مفا هنفا يمفن ومفا هنفا شام ،فمكفة مفن اليمفن .وقوله صفلى ال عليفه
وسفلم :أتاكفم أهفل اليمفن هفم أرق قلوباً .الفقفه يمان والحكمفة يمانيفة ،وأنفا رجفل يمان" .وففي حديفث
آخر يقول الرسول" :أنا يمان والحجر السود يمان والدين يمان" .ويأتي موقع مكة في السهل
154
رب الزمان ودراسات أخرى
ونضيفف إلى هؤلء الباحثيفن احتمالت اشفد بسفاطة ،مثفل أن تكون (مكربفا) تعنفي رب البيفت لو
أخذنفا بأن (بفك) تعنفي البيفت و(رابفا) واضفح أنهفا مفن (رب) ففي اللسفان العربفي ،أو مثفل أن تكون
(مكربفا) مفن (قربان) وجمعهفا قرابيفن ،وهفي مفن أصفل (قرب) وقفد اسفتعملت وخصفصت بهذا
المعنفى لنهفا تقرب إلى المعبود ،وهفو معروففة بهذه التسفمية Corbanففي الراميفة والعبرانيفة
وتعتبر من الصطلحات ذات الصل السامي الواحد في القديم ،فتكون (مكربا) بهذا المعنى مكان
التقرب إلى ال أو (المقربة) إلى ال.
الحج في الجاهلية
وغنفي عفن الذكفر أن (مكفة) بعفد أن تحولت إلى أكفبر مركفز تجاري ففي شبفة الجزيرة وذلك بعفد
تحول طرق التجارة من اليمن إليها ،استقطب بيتها المقدس تعظيم غالبية العرب .ورغم أن العرب
– بدواً وحضراً – كانوا يعظمون التماثيل التي ووضعوها بفناء الكعبة لتمثل الرباب ،فإنهم كانوا
يعتفبرون للكعبفة إلهًا أكفبر وأعظفم مفن هذه التماثيفل .ولعظمتفه وسفموه فقفد تصفوروا عدم إمكانيفة
التصال المباشر بينه وبين العبد الخاطىء ،فوضعوا بينهم وبينه وسائط وشفعاء ،هي تماثيل لقوم
صالحين صنعوها لهم بعد موتهم ،ثم صارت تنعت بالرباب أي السادة.
ويؤكفد القرآن الكريفم حقيقفة إقرار الجاهليفن بإله أعظفم للكعبفة أسفموه (ال) فقفط ،ففي حيفن كان
لربابهم مسميات أعلم أخرى مختلفة مثل (هبل) و(اللت) و(العزى) و(مناة) فيقول:
"لئن سألتهم من خلقهم ،ليقولن ال 87( " ....الزخرف).
"لئن سألتهم من خلق السماوات والرض ليقولن خلقهن العزيز العليم 9( "....الزخرف)
155
رب الزمان ودراسات أخرى
"قفل مفن رب السفماوات السفبع ورب العرش العظيفم سفيقولون ال ،قفل أفل تتقون" ( 87 ،86
المؤمنون)
وتحدثنفا كتفب التاريفخ السفلمي أن الجاهليفن اعتقدوا ففي قصفة تعيفد نشأة الكعبفة إلى زمفن موغفل
( )24نفس الرجع :صـ .87
ففي القدم ،وتقول هذه القصة أن هبوط آدم إلى الرض كان ففي (سرنديب) من ارض الهنفد ،وظل
يهيفم ففي الرض حتفى واففى (حواء) وعرفهفا ففي جبفل (عرفات) ثفم أخذهفا إلى أرض مكفة وهناك
توسل إلى ربه ليأذن له في بناء بيت يطوف حوله ،كما كان يفعل مع الملئكة حول بيت ال الذي
ففي السفماء تماماً ،فوضعوه على الرض تحفت موقفع بيفت السفماء مباشرة .وبموت آدم رففع بيفت
النور ،فقام ولده (شيفث) بتخطيفط مكان النور ،ثفم أقام عليفه بيتاً مفن حجفر الرض وطينهفا ،لكفن
البيففت خرب بطوفان نوح .وامتففد الزمان حتففى انتهففت النبوة إلى إبراهيففم ،حيففث حمففل هاجففر
وإسفماعيل إلى هذا الموضفع المبارك ،ثفم عاد إليهمفا بعفد بضفع سفنين ،وهناك أخفذ ولده إسفماعيل
فرفعا القواعد من البيت (.)25
ويقول (الشهرسفففتاني) إن الجاهلييفففن "كانوا يحجون البيفففت ويعتمرون ويحرمون ...ويطوفون
بالبيفت سفبعاً ،ويمسفحون بالحجفر وييسفعون بيفن الصففا والمروة .وكانوا يلبون :لبيفك اللهفم لبيفك،
لبيففك ل شريففك لك ،إل أن بعضهففم كان يشرك فففي تلبيتففه فففي قوله :إل شريففك ،تملكففه ومففا ملك.
ويقفون المواقففف كلهففا ...وكانوا يهدون الهدايففا ويرمون الجمار ويحرمون الشهففر الحرم ،فل
يغزون ول يقاتلون فيهففا ،إل طففي وخثعففم وبعففض بنففي الحارث بففن كعففب كانوا ل يحجون ول
يعتمرون ول يحرمون الشهر الحرم ول البلد الحرام" (.)26
ويقول د .جواد على" :وقفد كان الجاهليون يطوفون بالصففا والمروة وعليهمفا صفنمان يمسفحونهما
...سفففبعة أشواط ،كمفففا كانوا يقيمون الضاحفففي ويقصفففون شعورهفففم هناك ،ولم يحرم السفففلم
الطواف بالموضعيفن" ،وأن الرجفم "كان معروفًا عفن الجاهليفن ،وهفو معروف عنفد العفبريين ،وقفد
أشيففر إلى ذلك فففي التوراة .وهففو معروف عنففد بنففي آرام وكلمففة (ر ج م) مففن الكلمات السففامية
القديمة ...ويلحق بالرجم تقديم العتائر :الضحية في السلم .وكانت تذبح عند الصنام ،والعمرة
هفي بمثابفة الحفج الصفغر ففي السفلم ،وكان أهفل الجاهليفة يقومون بأدائهفا ففي شهفر رجفب ،ومفن
156
رب الزمان ودراسات أخرى
الشهفر الحرم ففي الجاهليفة" ،وينقفل (د.جواد) عفن (فلهوزن) ومجموعفة مسفتشرقين ،أن الحجفر
( )25اللل والنحل ،الشهرستان ،ج ،2صـ 33معجم البلدان ،ياقوت ،صـ ،619 ،281 ،279أخبار مكة ،الزرقي ،صـ
. 9 ،8
( )26اللل ،ج ،2صـ .247
السفود كان فوق أصفنام الكعبفة منزلة ،وأن قدسـية البيـت عنـد الجاهلييـن لم تكـن بسـبب الصـنام،
بـل كانـت بسـبب هذا الحجـر الذي قدس لذاتـه وجلب القدسـية للبيـت ،وإنـه ربمـا كان شهاب نيزك
أو جزءاً من معبود مقدس قديم ،وأن البيت كان إطاراً للحجر السود أهم معبودات قريش ،لكنه
لم يكن معبودها الوحيد (.)27
وفي رده على أبرهة الحبشي عندما تعجب من طلبه "رد على إبلي" قال" :إن للكعبة رباً يحميها".
ويقول ابففن هشام عففن عام الفيففل " ...إن أول مففا رؤيففت الحصففبة والجدري بأرض العرب ذلك
العام" ،ويبدو أن تفشفي الحصفبة والجدري بيفن جنود الحبفش لم يكفن ففي اعتقاد الجاهلي سفبباً كافياً
لتراجعهم ،لذلك أرجع السبب الحقيقي إلى رب الكعبة ،وهذا إنما يبرز ثقتهم في إلههم ثقة كاملة،
تلك الثقفة التفي تجلت ففي العتقاد بأن جيفش أبرهفة قفد تعرض لهجوم جوي فريفد مفن نوعفه ،فقفد
أرسل ال على جيش الحبش طيوراً ترميه بالحجار ليرسل (رؤبه بن الحجاج) رجزه قائلً:
157
رب الزمان ودراسات أخرى
158
رب الزمان ودراسات أخرى
159
رب الزمان ودراسات أخرى
160
رب الزمان ودراسات أخرى
فأشرف بفه حتفى صفار أرففع الجبال أطولهفا ،فجمعفت له الرض سفهلها وجبلهفا وبرهفا وبحرهفا
وانسها وجنها حتى اسمعهم جميعاً" (.)34
( )34أخبار مكة ،الزرقي ،صـ .34 ،33 ( )33أبو النبياء ،صـ .92 ،91
وهكذا ظلت الكعبة بيتًا مقدساً ،تطوف حوله خير أمة أخرجت للناس ،سبعاً خشعاً ،والطواف سنة
قدسية ،أكد العلم باكتشافه أنها سنة علمية.
161
رب الزمان ودراسات أخرى
لكفن اتسفاع رقعفة الجزيرة على خطوط عرض واسفعة ،أدى إلى تبايفن ظروف البيئة والمناخ ،ممفا
أدى إلى تعدد مماثفل ففي الظواهفر ،وبالتالي تعدديفة ففي العبادات ،هذا ناهيفك عفن وعورة المسفالك
في الجزيرة ،والتي أدت إلى ما يشبه العزلة لموطن دون موطن ،خاصة تلك التي في الباطن ،مما
أدى إلى احتفاظهفا بألوان مفن العقائد الموغلة ففي قدمهفا وبدائيتهفا ،نتيجفة عدم الحتكاك بالثقافات
الخرى التي تساعد على تطور الراسب المعرفي ومن ثم العقائدي.
التعدد في العبادة
وهكذا يمكنفك أن تجفد إضاففة لعبادة أجرام السفماء وعبادة الحجار والصفخور ،بقايفا مفن ديانات
بدائية كالفيتشية والطوطمية ،وعبادة الوثان وعبادة السلف.
والفيتشية أكثر ديانات الجزيرة انتشارًا بين أهلها ،وهي تقدس الشياء المادية كالحجار ،للعتقاد
بوجود قوى سحرية خفية بداخلها ،أو لنها قادمة من عالم اللهة في السماء أو من باطن الرض
حيث عالم الموتى ،وقد ظلت العقائد قائمة حتى ظهور السلم.
* نشر بجلة نزوى العمانية ،العدد الثان ،وقد نشر مزوءا منقوصا ،وهو هنا على حاله الذي نشر عليه.
(ومن صـ 191- 169ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
162
رب الزمان ودراسات أخرى
أما الطوطمية ،التي تعتقد بوجود صلة لفراد القبيلة بحيوان ما مقدس ،فتظهر في مسميات قبائل
العرب ،مثل (أسد ،فهد ،يربوع ،ضبة ،كلب ،ظبيان ....الخ) ،لذلك كانوا يحرمون لمس الطوطم
أو وحتى التلفظ باسمه ،لذلك كانوا يكنون عنه ،فالملدوغ يقولون عنه السليم ،والنعامة يكنى عنها
المجلم ،والسفد أبفى حارث ،والثعلب ابفن آوى ،والضبفع أم عامفر ،وهكذا .هذا إضاففة إلى تقديفس
الشجار ،مثفل ذات أنواط التفي كانوا يعظمونهفا ،ويأتونهفا كفل سفنه فيذبحون عندهفا ويعلقون عليهفا
أسلحتهم وأرديتهم .كذلك عبد العرب كائنات أسموها (الجن) خوفاً ورهبة ،ودفعًا لذاها ،وظنوها
تقطفن الماكفن الموحشفة والمواضفع المقفرة والمقابر ،وكان العربفي إذا دخفل إلى موطفن قففر حيفا
سفكانه مفن الجفن بقوله ،عموا ظلمفا ،ويقفف قائد الجماعفة ينادي :إنفا عائذون بسفيد هذا الوادي،
وتصففوروا الجففن كحال العرب ،فهففم قبائل وعشائر تربففط بينهففم صففلت الرحففم ،يتقاتلون ويغزو
بعضهم بعضا ،ولهم سادة وشيوخ وعصبيات ،ولهم من صفات العربان كثير ،فهم يرعون حرمة
الجوار ويحفظون الذمفم ويعقدون الحلف ...وقفد يتقاتلون فيثيرون العواصفف ،ويصفيبون البشفر
بالوبئة والجنون .وقففد نسففبوا إلى الجففن الهتففف قبففل الدعوة مباشرة ،حيففث كثرت الهواتففف أي
الصففوات التففي تنادي بأمور وتنبففئ بأخرى بصففوت مسففموع وجسففم غيففر مرئي ...وقففد اعتمففد
الكهان على تلك العتقادات فزعموا أنهم يتلقون وحيهم عن الجن ،وأن الجن بإمكانها الصعود إلى
السماء والتنصت على مصائر البشر في حكايات المل العلى مع بعضهم عمن في الرض ،وأن
الكاهن بإمكانه معرفه مصائر البشر عبر رفيقه من الجان.
عبـــادة الســـلف
أما أشد العبادات انتشارا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي ،فهي عبادة السلف الراحلين،
ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الخير ،حيث كان
ظرف القفبيلة ل يسفمح بأي تفكفك نظراً لنتقالهفم الدائم وحركتهفا الواسفعة وراء الكل ،وهفو التنقفل
الذي كان يلزمه لزوجة جامعة لفرادها ،تم تمثله في سلف القبيلة وسيدها الراحل الغابر ،فأصبح
هو الرب المعبود وهو الكافل لها الحماية التماسك ،بوصفها وحدة عسكرية مقاتلة متحركة دوماً،
فاسفتبدلت بمفهوم الوطفن مفهوم الحمفى ،والذي يشرف عليفه سفيدهم وأبوهفم القديفم وربهفم المعبود،
حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه ،ومن هنا كان الرب هو سيد القبيلة الراحل القديم ،الذي تمثلوه
163
رب الزمان ودراسات أخرى
بطل مقاتل أو حكيمفا ل يضارع ،ومفن ثفم تعددت الرباب بتعدد القبائل ،ونزعفت القبائل مفع ذلك
نحو التوحيد ،وهي المعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الولى ،لكن بساطة المر تكمن في أن
البدوي ففي قفبيلته كان ل يعبفد ففي العادة ول يبجفل سفوى ربفه الذي هفو رمفز عزتفه ورابفط قفبيلته،
ول يعترف بأرباب القبائل الخرى ،وهفففو المفففر الذي نشهفففد له نموذجفففا واضحفففا ففففي المدون
السرائيلي المقدس ،حيث عاش بنو إسرائيل ظروف قبلية شبيهة ،فيقول سفر الخروج" :من مثلك
بين اللهة يا رب" ،أي أن القبلي كان يعرف أرباباً أخرى لقبائل أخرى ،لكن ربه هو العظم من
بينهفا .لذلك كان البدوي ففي قفبيلته يأنفف أن يحكمفه أحفد مفن خارج نسفبه ،لن نسفبه هفو ربفه ،هفو
سلفه ،هو ذاته ،هو كرامته وعزته ،لذلك كانت عبادة السلف أحد أهم العوامل في تفرق العرب
القبلي ،وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم.
ولم يأت العتراف بآلهفة أخرى لقبائل أخرى إل فيما بعفد ،بعفد دخول المصفالح التجاريفة للمنطقفة،
واستعمال النقد ،وظهور مصالح لفراد في قبيلة ترتبط بمصالح لفراد في قبيلة أخرى ،مما أدى
لعتراف متبادل بالرباب ،وهفو المفر الذي بدأ يظهفر خاصفة ففي المدن الكفبرى بالجزيرة على
خط التجارة ،في العصر الجاهلي الخير ،كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها.
المستــوى المعــرفـي
دأب بعففض مفكرينففا فففي شؤون الديففن – عافاهففم ال – على الحففط مففن شأن عرب الجزيرة قبففل
السفلم ،وتصفويرهم ففي صفورة منكرة وسفار على دربهفم أصفحاب الفنون الحديثفة ففي القصفة
والسفيناريو والعمال الفنيفة السفينمائية ،بحيفث قدموا ذلك العربفي عاريفا مفن أيفة ثقاففة أو حتفى فهفم
أو حتفى إنسفانية ،حتفى باتفت صفورته ففي ذهفن شبيبتنفا ،إن لم تكفن ففي أذهان بعفض المثقفيفن بفل
والكتاب أيضاً ،أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشرية .وقد بدا لهؤلء أن القدح في شأن عرب قبل
السففلم ،وإبرازهففم بتلك الصففورة ،هففو فرش أرضيففة الصففورة بالسففواد ،لبراز نور الدعوة
السفلمية بعفد ذلك ،وكلمفا زادوا ففي تبشيفع عرب الجاهليفة ،كلمفا كان السفلم أكثفر اسفتضاءة
وثقاففة وعلمفا وخلقفا وتطورا على كفل المسفتويات .وأن المفر بهذا الشكفل يبعفث أول على الشعور
بالفجاجففة والسففخف ،ثففم هففو يجافففي ابسففط القواعففد المنطقيففة لليمان ،فاليمان يسففتمد قيمتففه مففن
دعوته ،ومن نصه القدسي ،وسيرة نبيه ،فقيمته في ذاته ،قيمة داخلية ،وليست من مقارنته بآخر،
164
رب الزمان ودراسات أخرى
أمففا النكففى فففي المففر ،فهففو أن تتففم مقارنففه اللهففي بالنسففاني ،لبراز قيمففة اللهففي إزاء نقففص
النسفاني ،ففي تلك الحال سفتكون ظالمفة لكليهمفا :اللهفي والنسفاني ،فاللهفي ل يقارن بغيره ،كمفا
أن مقارنه النساني به فداحة في التجني على النساني بما ل يقارن مع اللهي.
وقد فطن (الدكتور طه حسين) إلى ذلك المر وعمد إلى إيضاحه في كتابه (الدب الجاهلي) مبيناً
مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرب قبل السلم ،وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير
العرب كالحيوانات المتوحشفة .لبراز دور السفلم ففي نقله العجازي لهؤلء القوم المتوحشيفن،
فجأة ودون مقدمات موضوعيففة ،إلى مشارف الحضارة ،فجمعهففم فففي أمففة واحدة ،فتحوا الدنيففا
وكونوا إمبراطوريففة كففبرى .هذا بينمففا القراءة النزيهففة لتاريففخ عرب الجزيرة فففي المرحلة قبففل
السلمية تشير بوضوح ،إلى أن العرب لم يكونوا كذلك ،وفي تطورها النساني ،أما الركون إلى
عقائدهم لتسفيههم ،فهو المر الشد فجاجة في الرؤية ،فيكفينا أن نلقي نظرة حولنا ،على النسان
وهفو ففي مشارف قرنفه الحادي والعشريفن ،لنجده لم يزل بعفد يعتقفد ففي أمور هفي مفن أشفد المور
سخفا ومدعاة للضحك.
معــارف العصــر
والمطالع لخبار ذلك العصففر المنعوت بالجاهلي ،فففي كتففب الخبار السففلمية ذاتهففا ،سففيجد فففي
الخلق مسفتوى رفيعفا هفو النبالة ذاتهفا ،وسفيجد المسفتوى المعرففي يتسفاوق تمامفا مفع المسفتوى
المعرففي للمفم مفن حولهفم ،وأن معارفهفم كانفت تجمفع إلى معارف تلك المفم معارفهفم الخاصفة،
فقفط كان تشتتهم القبلي وعدم توحدهم في دولة مركزية ،عائقا حقيقياً دون الوصفول إلى المسفتوى
الحضاري لمففا جاورهففم مففن حضارات مركزيففة مسففتقرة .وهففو المففر الذي أخففذ فففي التطور
المتسارع في العصر الجاهلي الخير نحو التوحد في أحلف كبرى ،تهيئة للمر العظيم التي في
توحد مركزي ودولة كبرى.
فعلى مسففتوى المعارف الكونيففة ،كان لدى العرب تصففورات وضاحففة ،تضاهففي التصففورات فففي
الحضارات حولهفم ،فالرض كرة مدحاة ،والسفماء سفقف محفوظ تزينفه مصفابيح هفي تلك النجوم،
وفيفه كواكفب سفيارة ،أطلقوا عليهفا (الخنفس والجواري الكنفس) ،فهذا (زيفد بفن عمرو بفن نفيفل)
يحدثنا عن التصور الكوني المعروف في بلد الحضارات ،في قوله:
165
رب الزمان ودراسات أخرى
بينما نجد (أميه بن عبد ال الثقفي) ،يصور لنا ما درج عليه العالم القديم من تصور للسماء سقفاً
بل عمفد ،وأنهفا طبقات سفبع ،وأن الشهفب فيهفا حمايفة ورصفدا ومنعفا للجفن مفن اسفتراق السفمع مفع
المل العلى ،وذلك في قوله:
المعــارف الـدينيــة
أمففا على مسففتوى المعارف الدينيففة ،وكانففت سففمة عصففرها ،وهففي المنحولة مففن عقائد الرافديففن
ل فففي مدونات التوراة ،فهففو
القديمففة ومصففر القديمففة وبلد الشام وفلسففطين ،وجاء تفصففيلها مجم ً
المر الذي كانت تعرفه جزيرة العرف ،فهذا (الفوه الودي) يأبى أن يسجل أسماء أبناء نوح في
قوله:
كما جزى المرء نوحفاً بعدما شابا جفزى ال إيفاساً خيفر نعمفة
وظفل يجمفففففع ألواحفاً وأبوابففففاً ففي فلكفه إذا تبدلهفا ليصفهفا
أو عمفر نحفو زمفن الفطحفل فعلفت لفو عمرت سفن الحل
صفرت رهينفة هفرم أو قتفل الصخفر مبتفل كطين الوحل
وكان انتشار قصص التوراة في معارف المم يجد صوابه في معارف ذلك العصر ،فها هو (أمية
بن أبي الصلت) يقدم حوارا شعريا بين موسى وهارون وبين فرعون ،يقول فيه:
كما جزى المرء نوحفاً بعدما شابا جفففزى ال إيفاسًا خيفر نعمفففة
بعثفت إلى مفوسى رسولً منادياً وأنت الفذي مفن فضل ورحمفة
166
رب الزمان ودراسات أخرى
فقلت له :أذهب وهارون فادعفوا إلى ال فرعون الذي كان طاغيفاً
وقول له :أأنت سويت هذه بفففل وتفففففد حفففففتى اطمأنت كما هيفا
وقول له :أأنت رفعفففففففت هفذه بل عمففففففففد ،أرففق إذا بك بانيفاً
بل وعرف العرب قصة مريم وولدها ،وسارت فيهم كقصة معلومة ،وهو ما صاغة (أمية) شعرا
بدوره ،إضافة لما جاءت به المسيحية عن يوم بعث ونشور ،مضافًا إليه ما سبق إليه المصريون
من القول بحساب للموتى أمام موازين العدل في قاعة الحساب السماوية ،فذا شعر بقى عن (قس
بن ساعدة) يقول:
عليهم مفن بقفايفا بفرعفم خفففرق يا ناعي الموت والموات في جدث
فهفم إذا انتبهوا مفن نومهم فرقوا دعهم فإن لهم يفوماً يصاح بهففففففم
خفلقاً جديداً كمفففا مفن قبله خلقوا حفتى يعودوا لحال غيفر حفالهففففم
منهفا الجديد ومنهفا المبهج الخلق فيهفففم عفراة ومنهفم في ثيابهفففففم
وهو المر الذي يوضحه شعر (زيد بن نفيل) وهو يصور أحوال الحساب ونتائجه في قوله:
وهو ذات المر الذي فصل فصّل أمره (أمية الثقفي) في قوله:
167
رب الزمان ودراسات أخرى
المعالــم الدبيــة
ليس جديدًا التأكيد على شعرية العربي ،حتى قيل إن كل عربي شاعر ،وحتى أصبح الشعر ديوان
العرب ،روايفة حالهفم وظروفهفم وعقائدهفم ،وسفجل لمعارفهفم ومسفتواهم الثقاففي الخلقفي ،وسفجل
لحياتهم العملية وطرق عيشهم بل ورواهم الفنية والفلسفية.
وإلى جانففب الشعففر كان َم ْعلَم الخطابففة بمففا حواه مففن ذات المحتويات الشعريففة ،بنثره المنظوم
المسجوع ،إضافة إلى سجع الكهان ،المرسل منه والمزدوج.
وكان للعرب أسفواقهم ،التفي عادة مفا كانفت تفتتفح افتتاحفا ثقافيفا ،بإلقاء الخطفب النثريفة ،والقصفائد
الشعريفة ،وإجراء المسفابقات حول أفضفل القصفائد ،وهفو ما برز ففي (المعلقات السفبع) ،ممفا يشيفر
إلى ديدن أمففة أهتمففت بتنميففة الثقافففة وتشجيعهففا ،رغففم تشتتهففا شيعففا فففي قبائل ل تجمعهففا وحدة
مركزية.
النثــر المســجوع
وكان العربي حريصاً على تقديم معارفه وثقافته شعرا ،وأن نثرها حرصا على الجرس الموسيقى
فيهفا ،ممفا يشيفر إلى رهاففة ففي الحفس وارتقاء ففي الذوق ،ونماذج مفن ذلك النثفر ،مفا جاء قسفما
بالمظاهفر الكونيفة عنفد (الزبراء) وهفي تقول" :واللوح الخاففق ،والليفل الغاسفق ،والصفباح الشارق،
والنجففم الطارق ،والمزن الوادق ،إن شجففر الوادي ليأود ختل ،ويرق أنيابففا عصففل ،وإن صففخر
الطود لينذر ثقل ،ل تجدون عنه معل".
ومن ألوان هذا السجع سجع ديني ،جاء في وصف (ربيعة بن ربيعة) ليوم البعث والنشور ،بقوله:
"يوم يجمع فيه الولون والخرون ،يسعد فيه المحسنون ،ويشقى فيه المسيئون" ،وهو ذات الرجل
الذي يقسفم بصفدق قوله" :والشففق والغسفق ،والفقفل إذا اتسفق ،إن مفا أنبأتفك بفه لحفق" أم (شفق بفن
صعب) فيصف ذات اليوم بقوله" :يوم تجزى فيه الوليات ،يدعى فيه من السماء بدعوات ،يسمع
منها الحياء والموات ،ويجمع فيه الناس للميقات ،يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات".
168
رب الزمان ودراسات أخرى
ويقسم (ابن صعب) لسائله بأنه يقول الحق" :ورب السماء والرض ،وما بينهما من رفع وخفض،
أن مفا أنبأتفك بفه لحفق ،مفا فيفه أمفض" .أمفا الكاهفن الخزعفي الذي احتكفم إليفه هاشفم وأميفة ففي
نزاعهمفا ،أصفدر قراره سفجعا يقول " :والقمفر الباهفر ،والكوكفب الزاهفر ،والغمام الماطفر ،ومفا
بالجو من طائر ،وما اهتدى بعلم مسافر ،من منجد وغائر ،قد سبق هاشم أمية إلى المفاخر".
أمفا (قسفم بفن سفاعدة اليادي) فيرسفل سفجعه مصفورا معارف العصفر الكونيفة ففي نثره قائلً" :ليفل
داج ،ونهار ساج ،وسفماء ذات أبراج ،ونجوم تزهفر ،وبحار تزخفر ،وأرض مدحاة ،وأنهفا مجراة،
إن في السماء لخبرا ،وإن في الرض لعبرا".
المعلــم الشــعري
والشعر الجاهلي وثيقة هامة في يد الباحث العلمي ،تأخذ سمت العلم التاريخي ،رغم ما أثير حول
الشعر الجاهلي من تشكيك في صحة انتسابه لعصره فعل ،وكان أبرز ما قيل بشأنه قضية النحل
التي أثارها (الدكتور طه حسين) في كتابه الشعر الجاهلي ،والمحاكمة المشهورة التي جرت آنذاك
بشأن ذلك الكتاب وصاحبه.
لكن ما يدعو إلى الطمئنان في الغالبية مما وصلنا من ذلك الشعر ،مدونا بأقلم المسلمين ،هو أن
القافيفة والوزن كانفا يضمنان منفع حدوث تغييفر كفبير على ذلك الشعفر ،كمفا أن المحتوى البسفيط
لذلك الشعفر ،ومفا جاء بفه مفن أخبار التخاصفم على البفل والمراعفي يضمفن عدم التصفنع ،وعلى
رأي (د .حسين مروة) أننا لو حكمنا على شعر الخطل وجرير ....بشكله ،لتعذر علينا نسبته إلى
ما بعد السلم.
وكان (ابففن سففلم) أول مففن بحففث قضيففة النتحال ،وعزا أسففبابها إلى العصففبية القبليففة ،والرواة
الوضاعيففن ،مثففل حماد الروايففة ،وخلف الحمففر ،وسففبق الجميففع إلى مسففألة النتحال (المفضففل
الضفبي) الذي نقفد خلففا الحمفر ،أمفا (طفه حسفين) فقفد ردد مفا سفبقه إليفه المسفتشرق (مرجليوث)
بشكفل مختلف بعفض الشيفء .وإن كان أهفم حيثيات محاكمتفه هفي إنكاره هبوط إبراهيفم وإسفماعيل
عليهما السلم جزيرة العرب.
169
رب الزمان ودراسات أخرى
وقفد قامفت جمهرة السفلفيين تؤكفد قبولهفا صفحة نسفب الشعفر الجاهلي دون تحففظ أو تشكفك ،وقفد
ظهفر ذلك واضحفا ففي المؤلفات التفي وضعفت للرد على (طفه حسفين) ،ونموذجفا لذلك مفا جاء ففي
كتاب (نقففض كتاب فففي الشعففر الجاهلي) لمحمففد أحمففد الغمراوي ،و(مصففادر الشعففر الجاهلي)
لناصففر الديفن السففد ،وغيرهففم .ونسففبة الشعففر الجاهلي لعصفره ،قففد أتفففق أمرهففا بيففن المسفلمين
السفلفيين ،وبين كثيفر من المستشرقين ،وهفو ما يمثله نموذجفا قول المسفتشرق (ليال)" :والواقفع أن
هذا الشعر الجاهلي ،قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية ،فائدة ل تقدر بثمن ،وربما زادت
فائدة هذا الشعر من الوجهة التأريخية ،على فائدته من الوجهة الدبية ،لنه حوى أمورا مهمة عن
أحداث العرب الجاهليين ،لم يكن في وسعنا الحصول عليها لول هذا الشعر".
الخطابـــة
والخطابفة كانفت مفن أبرز النشطفة الفكريفة والثقافيفة للعرب ،وكانوا يلجأون فيهفا إلى كفل الوسفائل
البداعيفة والجماليفة والبلغيفة لقناع المسفتمع بوجاهفة محتوى الخطبفة ،وعنفد التعامفل مفع ملوك
الدول كان العرب يختارون أكثرهفم تفوهفا ،وقفد ذكفر (ابفن عبفد ربفه) ففي عقده الفريفد ،أن كسفرى
تنقففص مففن أمففر العرب فففي حضور (النعمان بففن المنذر) لديففه ،ممففا اسففتفز (النعمان) لعروبتففه،
فأرسل في طلب خطباء العرب وأوفدهم إلى كسرى ليعرف مآثر العرب وقدرهم الثقافي.
وكان الخطباء يخطبون ففي وفادتهفم على المراء ،فيقفف رئيفس الوففد بيفن يدى صفاحب السفلطان
ليتحدث بلسففان قومففه ،ومففن هذه الخطففب مففا قيففل بيففن يدى رسففول ال عليففه السففلم عام الوفود
وأوردتفه كتفب السفير والخبار .ومفن أشهفر الخطباء ،أولئك الذيفن وردت أسفماؤهم ففي الرد على
كسفرى ،وهفم (أكثفم بفن صفيفي) ،و(حاجفب بفن زرارة التميمفي) ،و(الحارث بفن عباد) ,و(قيفس بفن
مسففعود) ،و(عمرو بففن الشريففد السففلمي) ،و(عمرو بففن معففد يكرب الزبيدي) ،ومففن خطباء مكففة
(عتبة بن ربيعة) و(سهيل بن عمرو) ،ومن الخطباء أيضاً (هرم بن قطبة) ،و(عامر بن الظرب
العدواني) ،وهي نماذج تشير إلى خطباء كُثر لقبائل العرب ،أوردتها كتب الخبار والسير تفصيل
وحصراً.
170
رب الزمان ودراسات أخرى
المسـتضعفون
لعب جدل الحداث العالمية دوراً أساسياً نشطا فيما جرى من تحولت داخل جزيرة العرب ،وكان
تحول طرق التجارة العالميفففة إلى الشريان البري المار بمكفففة قادمفففا مفففن اليمفففن متجهفففا نحفففو
المفبراطوريتين ،عامل مؤسفسًا لتغيفر أنماط النتاج القتصفادي ففي الجزيرة ،التفي أخذت تنحفو
نحو التجارة كعماد أساسي للقتصاد ،وما تبع ذلك من تغيرات في البنى الجتماعية ،التي أخذت
بدورهفا ففي التحول النوعفي عفن الشكفل القبلي القائم على المسفاواة المطلقفة بيفن أفراد القفبيلة ،إلى
تفكك ذلك الشكل بتراكم الثروة في يد نفر من أفراد القبيلة دون نفر آخر ،الشكل الطبقي الذي فجر
الطار القبلي ،لصالح تحالفات مصلحية بين أثرياء القبائل المختلفة ،وكان الناتج الطبيعي لتفاوت
توزيع الثروة ،ظهور شكل مجتمعي جديد على جزيرة العرب ،لترصد لنا كتب الخبار السلمية
أهفم الشرائح المجتمعيفة الجديدة ،على خريطفة النظام الطبقفي الطالع ،مقابفل الطبقفة المترففة مفن
أثرياء تجار العرب.
فقــراء العــرب
وإعمال لجدل الحداث أخفذ الفارق الطبقفي بالتسفاع السفريع والهائل ،ليصفبح سفواد العرب مفن
الفقراء والمسفتضعفين ،يعملون ففي رعفي النعام والفلحفة وتجارات البيفع البسفيط ،يسفكنون الخيام
والعشففش والكواخ الحقيرة ،ويسففمعون عففن الخبففز ول يأكلونففه ،حيففث كان الخبففز مففن علمات
الوجاهفة والثراء ،ول يعرفون عفن اللحفم سفوى الصفليب ،وهفو ودك العظام تجمفع وتهشفم وتغلى
على النار طويلً ،ليحصفول منهفا على الصفليب ،وغالبفا مفا عاشوا على مطاردة ظباء الصفحراء
وأورالهفا ويرابيعهفا .ونقصفد بهؤلء الفقراء ،عرب صفرحاء مفن أبناء قبائل متميزة ،دفعتهفم إلى
السفل آلة التغير القتصادي والمجتمعي.
ويلي تلك الطبقففة فففي التدنففي ،طبقففة الموالي ،وهففم مففن أبناء قبائل أخرى تركوهففا ولجأوا لقبائل
مخالففة ،أو كانوا أسفرى ففك أسفيادهم أسفرهم ،أو أعاجفم أرقاء أعتقهفم سفادتهم بمقابفل .وقفد شكفل
هؤلء طبقة بين أبناء القبيلة الخلص الصرحاء ،وبين العبيد.
ثففم طبقففة أخرى ظهرت بدورهففا نتيجففة التفاوت الطبقففي الحاد ،وتكونففت مففن أفراد تلبسففتهم روح
التمرد على أوضاع المجتمففع الجديففد ،فتصففرفوا بتلك الروح فأضروا بمصففالح السففادة ،فخلعتهففم
171
رب الزمان ودراسات أخرى
قبائلهم وتبرأت من فعالهم بإعلن مكتوب أو في السواق العامة ،وهي الطبقة التي عرفت باسم
(الخلعاء).
الصـــعاليك
أما أبرز تلك الطوائف أو الطبقات التي أفرزها المتغير القتصادي المجتمعي ،فهي (الصعاليك)،
وهففم فئة ل تملك شيئا مففن وسففائل النتاج ،وتمردت على الوضاع الطبقيففة ،بففل وشنففت عليهففا
الحرب ،بخروجهفم أفرادا عفن قبائلهفم باختيارهفم ،وتجمعهفم على اختلف أصفولهم ففي عصفابات
مسفلحة ،وأبرز السفماء التفي وصفتنا منهفم :عروة بفن الورد ،وتأبفط شرا ،والسفليك ابفن السفلكة،
والشنفري ،وقد أطلق عليهم العرب (الذؤبان) و(العدائين) لسرعتهم.
وقففد وري عففن هؤلء أنهففم كانوا ذو سففمات متميزة ،مففن الشهامففة والمروءة والنبالة ،وأخلق
الفروسفففففية ،فكانوا ل يهاجمون إل البخلء مفففففن الغنياء ،ويوزعون مفففففا ينهبون على الفقراء
والمعدميففن ،بعففد أن شكلوا لنفسففهم مجتمعففا فوضويففا ،شريعتففه القوة ،وأدواتففه الغزو والغارة،
وهدفه الول السلب والنهب وهدفه الخير تعديل الموازين المجتمعية.
وتروى لنففا كتففب السففير والخبار وطبقات الشعراء ،أشعار للصففعاليك ،ينعكففس فيهففا الحسففاس
المريفر بوقفع الفقفر عليهفم وففي نفوسفهم ،ويضفج بشكوى صفارخة مفن الظلم الجتماعفي ،وهوان
منزلتهفم ،فهذا (قيفس بفن الحداديفة) يخبرنفا أنفه لم يكفن يسفاوي عنفد قومفه عنزة جرباء جذماء ،أمفا
الخبار عفن الشنفري فتروي كيفف أسفلمه قومفه هفو أمفه وأخوه رهنفا لقتيفل عفن قفبيلة أخرى ،ولم
يفدوهفم ،وكيفف تصفعلك الشنفري ورففع سفيف ثورتفه بعفد أن لطمتفه فتاة سفلمية ،لنفه ناداهفا :يفا
أختي ،مستنكرة أن يرتفع إلى مقامها.
ومن مثل تلك الخبار ،نستطيع تكوين فكرة واضحة عن المدى الذي فعله المال داخل القبيلة ،مما
أدى بالصعاليك إلى فصم علقتهم بقبائلهم ،وتكوين جماعتهم المسلحة ضد الغنياء لينزعوا منهم
مقومات الحياة النسانية التي أهدرها الواقع ،وهو المبدأ الذي يتجلى واضحا في شعر (عروة بن
الورد) وهو يقول:
عليفه ولم تعطفف عليه أقاربفه إذا المرء لفم يبعث سواماً ولم يرح
172
رب الزمان ودراسات أخرى
العبيــد
وفففي ضوء الحاجففة لليففد العاملة فففي خدمففة آلة القتصففاد الجديففد ،بدأت بلد العرب تعرف النظام
العبودي ،وكان مصفدره السفبي والنخاسفة وعبوديفة الديفن ،حتفى جاء وقفت أصفبحت تجارة العبيفد
بمكة تجارة منتظمة ،تأتي تبهم من سواحل أفريقيا الشرقية ،وهم الطائفة السوداء ،ومنهم من كان
يشترى مفن بلد فارس والروم وهفم الطائففة البيضاء .لسفتخدامهم ففي حراسفة القواففل ،وأعمال
الري الصفناعي والزراعفة والحرب وليفس أدل على كثرة هؤلء العبيفد ،مفن أن (هنفد بنفت عتبفة)
أعتقفت ففي يوم واحفد أربعيفن عبدا مفن عبيدهفا ،كمفا أعتفق أبفو أحيحفة سفعيد بفن العاص مائة عبفد،
أشتراهم واعتقهم.
ومفع النظام العبودي انتشرت عادة التسري بالماء ،فكان للرجل أن يهب أو يبيع أو ينكح أمته أو
يجعلها مادة للكسب بتشغيلها في البغاء ،ثم يأخذ ناتجها المولود ليباع بدوره ،وعندما جاء السلم
حرم البغاء ،ولكنفه أبقفى على نظام ملك اليميفن ضمفن ما أبقفى عليفه مفن أنظمفة الجاهليفة وقواعدهفا
المجتمعية ،لكنه رغب في العتق وحض عليه.
الســـاطير
ومع التطور الرتيب البطيء للقوى المنتجة ،نتيجة للتعددية والتشظي القبلي ،تواضع العقل العربي
على اللقاء تفاسير ميتافيزيقية ،لما يجابهفة من ظواهر طبيعيفة ،يحاول بها تبرير ما يحدث حوله،
وهو ما اصطلح بعد ذلك على تسميته بالساطير بين العرب أنفسهم ،خاصة بين الطبقة المثقفة من
أثرياء تجارهففم ،وهففو مففا يعلن عدم قناعففة مسففتبطن بتلك التفاسففير ،التففي أدرجففت ضمففن أخبار
السالفين وأنبياء المم وقوادهم تحت عنوان واحد يجمعها هو (الساطير).
أســاطير المــاء
ولما كان المطر أهم الظواهر وأخطرها لحياة البدوي ،فقد وضعت بشأن انقطاعه أو تواتره سيول
تفاسفير أسفطورية بدائيفة بسفيطة بسفاطة حياة البداوة ،فإذا أمطرت السفماء نسفبوا المطفر إلى فعفل
النجفم أو المجموعفة التي توافقفت من الظهور مع سقوط المطفر ،فيقولون :أُمطرنفا بنوء كذا .وكان
173
رب الزمان ودراسات أخرى
لفيففض المطففر أحياناً ودوره المدمففر تفاسففير مففن لون آخففر ،فيبدو أن الذاكرة العربيففة احتفظففت
بأحوال عرب قدماء ،دمرت بلدهم بسبب المطار العاصفة ،فحكوا عنها روايات تفسيرية ،تكمن
السفباب فيهفا بيفد اللهفة الغاضبفة البطوش على مفن خالفوا أوامرهفا أو نواهيهفا ،وهفو مفا روتفه
العرب مثليففة عففن هلك عاد وثمود ،ويمكففن الرجوع بشأنففه تفصففيلً للفصففول الولى مففن كتففب
الخبار السلمية ،وعلى سبيل المثال (تاريخ المم والملوك) للطبري.
كذلك كان لندرة المطفر أسفاطيرها الخاصفة ،والتفي دفعتهفم إلى ابتداع ألوان مفن الطقوس ،فصفدوا
بهفا تحريفض الطبيعفة على العمفل ،ويبدو أن ملحظفة سفكان السفواحل للضباب الصفاعد مفن الماء
ليكون سفحابا ممطفر ،أثفر ففي تصفور اصفطناع حاليفة شبيهفة ،فكانوا يوقدون ناراً تخرج مادتهفا
دخانًا شبيهففا بالضباب الصففاعد للفضاء ،بقصففد السففتمطار .ولن البقففر كان رمزاً للخصففب عنففد
الشعوب القديمففة ،فقففد عقدوا بيففن النار والبقففر فففي طقففس يجمعون فيففه البقار ،ويصففعدون بهففا
المرتفعات ،ويربطون ففي ذيولهفا مواداً قابلة للشتعال يوقدون فيهفا النار ،فتهرع البقار مذعورة
تثير الغبار وهي تهبط من الجبل ،لتصطنع حالة شبيهة بالعواصف الممطرة ،وأثناء ذلك يضجون
بالدعاء والتضرع ،ويرون ذلك سببا للسقيا بعد ذلك إعمالً لمبدأ السحر التشاكلي حيث الشبيه ينتج
الشبيه.
أســاطير السمــاء
وففي العصفر الجاهلي الخيفر ،ومفع النزوع نحفو توحفد قومفي دينفي تحفت ظفل إله واحفد ،ارتففع
العرب بذلك الله عن المحسوسات ،ونظروا إلى إلههم ساكنا السماء في قصر عظيم تحفة حاشية
مفن الملئكفة ،لذلك قدسفوا السفماء وأجرامهفا ،والقسفم بهفا ،وبظواهرهفا ،وحفوا بالقدسفية كفل مفا
تسففاقط مففن السففماء بحسففبانه قادمففا مففن ذلك المكان المقدس حيففث العرش ،فكان تقديففس الحجار
النيزكية أحد نتائج ذلك العتقاد.
وقد نسبوا إلى الفلك أثراً عظيما في حياة البشر والمراض والوبئة ،وكان تساقط الشهب يعني
وقوع أحداث جلل ،كالحروب ،أو الكوارث القتصففادية ،أو الطبيعيففة ،أو ولدة رجففل عظيففم ،أو
موت لخر.
174
رب الزمان ودراسات أخرى
ويبدو أن تلك القدسفية امتدت عنفد بعفض القبائل إلى تآليفه نجوم السفماء ،بينمفا اتجفه البعفض الخفر
إلى اعتبارها هي ذات الملئكة ،وقالوا إنهن بنات ال ،أو لهن علقة بال على الجملة في أكثر من
شأن ،وتعفبر عفن ذلك الروايفة المشهورة بشأن كوكفب الزهرة والملكيفن هاروت وماروت ،وكيفف
أغوت الزهرة الغانيفة الملكيفن الورعيفن فارتكبفا الخطيئة وعصفيا ال خالق السفماوات والرض،
وكيففف تحولت تلك المرأة التففي أغوت ملئكففة السففماء بدورهففا إلى كائن سففماوي يتمثففل فففي ذلك
الكوكب الجميل المعروف بكوكب الزهرة.
أســاطير البشــر
كذلك لم يجفد العرب ففي تميفز بعفض الشخاص إل سفمات خارقفة ،نسفبوها إليهفم أحياناً انبهاراً،
وأحيانًا تمجيداً ،فهذا خالد بفن سفنان يطففئ النار التفي خرجفت بجزيرة العرب وكانفت لهفا رؤوس
تسفيح فتهلك البلدان ويبدو أنهفا كانفت ذكرى بركان مدمفر ،لكنهفم جعلوا لنار البركان رؤوسفاً آكلة
حاربها ابن سنان حتى أطفأها وردها إلى مقر الرض.
وهذا الصفعلوك القوي النبيفل ،يشتفد العجاب بفه وبقوتفه حتفى يقولوا إنفه قتفل الغول وأتفى يحمفل
رأسففه تحففت إبطففه ،فأسففموه (تأبففط شففر) .وهذا عنترة بففن شداد يشففد على العادي فيكسففر رماح
الحديفد وينزع النخيفل مفن مواضعفه ويحارب الغزاة ،حتفى يتحول مفع النزوع القومفي ففي الجاهليفة
الخيرة إلى بطل عربي قومي يحارب أعداء العرب بقواه الجبارة.
وذلك (سيف بن ذي يزن) يدخل الحلم القومي العروبي بعد تحرير بلده من الحباش ،فيتم التعتيم
على اسفتعانته بالفرس الذيفن يحتلون بلده عوضًا عفن الحباش ،ليتفم تصفويره بطل شعبيفا عظيمفا
يقاتل الجيوش ويهزمها بقوته ومهارته.
وهو ما يشير إلى نزوع جديد نحو أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الخير ،لتصنع رمزها
القومي العربي ،وهي تنحو نحو التوحد التي.
أنمــاط الــزواج
فففي جزيرة العرب ،تعددت أنماط الزواج ،كناتففج ضروري لشكففل العلقات المجتمعيففة ،والتوزع
القبلي ،وتباعفد المضارب عفبر مسفاحة تكاد تكون قارة متباينفة ،تشكفل فيهفا كفل قفبيلة وحدة قائمفة
175
رب الزمان ودراسات أخرى
بذاتهففا ،ومففن هنففا فرضففت تلك الوضاع أنماطففا عدة للنكاح ،عددتهففا لنففا كتففب السففير والخبار
والسلمية.
النكــاح لجــل
والنكاح لجفل كان يقفع على طريقتيفن تمثلن نوعيفن مفن الزواج ،وهفو لون مفن النكاح الصفريح
الذي ل يعنفي زواجفا بالمعنفى المفهوم ،والنوع الول منفه هفو مفا عرف بنكاح (الذواق) الذي يتفم
دون أي شروط تعاقدية ،ويحل برغبة أي من الطرفين متى ما شعر بعدم الرغبة في الستمرار،
وقفد أشتهفر بهذا النكاح (أم خارجفة) التفي تناكحفت وأربعيفن رجل مفن عشريفن قفبيلة ،فكان يأتيهفا
الرجل متودداً يقول :خطب ،نكح ،فيأتيها ،حتى ضرب بها المثل فقيل :أسرع من نكاح أم خارجة،
وهو الخبر الذي أورده (الزبيدي) في تاج العروس والميداني في مجمع المثال.
أمفا النوع الثانفي فهفو (نكاح المتعفة) ،وقفد عرف بعفد ذلك ففي عهفد النفبي صفلى ال عليفة وسفلم
كمشروع للمسلمين دون حرج ،وكان قبل ذلك واسع النتشار بين عرب الجاهلية ،وكانت دوافعه
لديهففم التنقففل والسفففار والحروب ،حيففث كان الرجففل يتزوج على صففداق محدد لجففل محدد،
وبقضاء المدة ينفسففخ التعاقففد ،وقففد كان لثرياء مكففة الدور السففاسي فففي إرسففاء هذا اللون مففن
النكاح ،حيففث كانوا أصففحاب قوافففل وسفففر ،وممكنات ماديففة تسففمح لهففم باقتناء الحريففم على تلك
الطريقففة ،على محطات سفففرهم بالقوافففل ،ويبدو أنففه لون مففن التقنيففن الحدث للطريقففة الولى
(الزواج بالذواق).
176
رب الزمان ودراسات أخرى
وهناك لون آخففر عرف باسففم (المضامدة) ،تتخففذ فيففه المرأة خليلً أو أكثففر على زوجهففا ،وكانففت
تفعله نسففاء القبائل الفقيرة زمففن القحففط ،فتذهففب إلى السففوق وتعرض نفسففها على ثري يكفلهففا
ويمنحها المال ،ثم تعود بعد ذلك لزوجها بعد أن توسر بالمال الكافي لعاشة أسرتها ،ويدوره كان
نكاحا بدفع العامل القتصادي أساساً.
ثفم ألوان أخرى مفن النكاح البدل المعروف بتبادل الزوجات ،وزواج (المقفت) ،وكان مكروهفا مفن
العرب واسفموه المقفت كراهفة له ،وكان يتزوج بموجبفه الرجفل زوجفة أبيفه كجزء مفن ميراثفه عنفد
موت ذلك الب ،وقفد أبطفل السفلم هذا اللون مفن الزواج ،هذا ناهيفك عفن نكاح السفتبضاع الذي
يطلب فيه الرجل بذرة سيد عظيم في رحم زوجته عساه يرزق بولد عظيم.
ومن أنكحة الزنى الصريح ،نكاح صاحبات (الرايات الحمر) ،وهن بغايا مكة اللئي كن ينشطن
ففي مواسفم التجارة وموسفم الحفج ترغيباً للتجار وأهفل السفوق ،وقفد شجفع أثرياء مكفة صفاحبات
الرايات الحمر ،لمزيد من النعاش القتصادي ،لكنهم مع ذلك كانوا على مروءة إن حملت المرأة،
حيفث يلحفق ولدهفا بمفا يرى أهفل الفراسفة والقياففة أو بضرب القداح ،فيصفبح ابفن مفن تقفع عليفه
الحظوظ.
أنكحـة بالعــرف
وقد تواضع العرف القبلي في ظل ظروف التشتت القبلي ،والغارة القتتال بين القبائل وبعضها،
على لون بشفع مفن ألوان النكاح ،هفو لون صفريح مفن الغتصفاب المهيفن ،ينزل بالقفبيلة المهزومفة
ونسفائها ،حيفث كان مفن حفق المنتصفر سفبي النسفاء والسفتمتاع بهفن حيفث تصفبح ملكفه بالسفبي،
ويصفبح مفن حقفه بيعهفا إن لم يجفد مفن يفتديهفا منفه .ومثله نكاح الماء بالشراء والمتلك ،وهذا
اللون مفن النكاح كان ل يعرف عددا للنسفاء الحريفم على سفرير الرجفل ،وهفو شفبيه بالزواج غيفر
المحدد لعدد الزوجات الذي كان معرفففا بدوره بيففن الطبقات الثريففة ،لكنففه كان نادرًا معوداً ،حتففى
تجده في خبر أو أثنين ،كما جاء عن غيلن الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة.
177
رب الزمان ودراسات أخرى
مكانــة المــرأة
حول مكانففة المرأة فففي جاهليففة العرب الخيرة ،أختلف الباحثون إزاء مففا بأيديهففم مففن معطيات
تتضارب أشففد التضارب ،وتتناقففض إلى حففد عدم اللتقاء إبدا .فذهففب الباحثون إلى طريقيففن على
ذات الدرجفة مفن التضارب والتناقفض ،منهفم مفن رأى للمرأة ففي الجاهليفة مكانفة تتميفز بهفا عفن
وضع بني جنسها عند بقية الشعوب ،وأنها سمت إلى وضع السمت في المجتمع ،بينما ذهب فريق
آخر إلى النقيض وهبط بها إلى أسفل سافلين.
الشــكل الرقــى
ومفن ذهبوا بمكانفة المرأة ففي ذلك العصفر إلى مكان السفمت المتميفز ،اعتمدوا على مفا جاء بديوان
العرب مفن أشعار ،تفبين كيفف كانفت المرأة هفي الوتفر الحسفاس ففي قلب كفل عربفي ،ومبعفث كفل
الهام ،حيث التزمت القصائد جميعها تقريبا نهجا يهيم بالمرأة ويمجدها ،وما يلحظ على المعلقات
التي ل تخلو من الشادة بالمرأة والتغزل فيها بل والفخر بها.
ويعود التجاه نفسفففه إلى المأثور العربفففي ومفففا ورد مفففن أخبار عرب الجاهليفففة ففففي المصفففادر
السفلمية ،ليجفد العربفي حريصفًا على كرامفة المرأة ويعتبرهفا موضوع شرففه ،حتفى شنفت مفن
أجلهفا حروب ،وأبرزهفا موقعفة (ذي قار) التفي انتصفرت فيهفا ثلث قبائل عربيفة متحالففة ،على
الفرس ،بسفبب رففض النعمان بفن المنذر تزويفج ابنتفه للملك الفارسفي ،كذلك حرب الفجار الثانيفة
التي قامت بين قريش وهوازن تلبية لستنجاد امرأة بآل عامر للذود عن شرفها ،ول ننسى حرب
البسوس التي دامت أربعين عاما بسبب انتهاك جوار امرأة ،وما قصة عمرو بن هند وعمرو بن
كلثوم إل أبرز مثل لنفه العربي وحرصه على كرامة المرأة وعزتها.
وتروي كتففب الخبار وطبقات الشعراء كيففف كانففت المرأة تسففتشار فففي عظائم المور ،كمففا فففي
حادثة سعدى أم أوس الطائي ،ناهيك عن مشاركتها للرجال في ساحة القتال ،تحثهم على المثابرة
وشد أزرهم ،وتداوي الجرحى وتدعو للخذ بالثأر ،فيستبسل الرجال مخافة سبي نسائهم ،وقد كان
لواء (الحارثية) في شعر حسان بن ثابت وراء نصر قريش في غزوة أحد على المسلمين ،فعندما
سفقط لواء المكييفن هرعفت إليفه (الحارثيفة) وسفط الرماح والسفيوف وحملتفه ،فتجمعفت حوله فلول
المنهزميفن ،وظلت تهتفف بهفم حتفى عادوا وحملوا على المسفلمين حملة شديدة .ودور (هنفد بنفت
178
رب الزمان ودراسات أخرى
عتبفة) ففي ذات المعركفة مفن أهفم الدوار ففي تاريفخ تلك الحروب ،حيفث أتفت بنسفاء مكفة وقيانهفا
يشحذن الرجال ،وينشدن الناشيفد الحماسفية لتأجيفج الحميفة القتاليفة .وكانفت (هنفد) مفن شاعرات
العرب اللئي يصففن المعارك ويحسفن تصفوير البطال ،واشتهرت أيضًا (كفيلة بنفت النضري)،
و(أروى بنفت الحباب) ،وبنفت بدر بفن هفان والهيفاء القضاعيفة ول مراء أن الخنسفاء ذهبفت مفن
بينهن بعمود الشعر رثاء وفخرا وحماسة وحربا.
ول يغيب على فطن انتساب قبائل العرب إلى أمهاتها مثل بجيلة وخندف وطهية ومعاوية وذويرة،
ويبدو أن الحرص على مكانة الم كان وراء حرص العربي على كرم النسب وطهارة الرحم ،وقد
ذكفر كتاب الغانفي ففي حديثفه عفن حرب الفجار أن (مسفعود الثقففي) ضرب على زوجتفه (سفبيعة
بنت عبد شمس) خباء وقال لها :من دخله من قريش فهو آمن ،فجعلت توصل في خبائها ليتسع.
وفي الشعار تقدير عربي شديد للمرأة ،فيخاطبها إذا كانت زوجة بأفضل اللقاب ،فهو يقول لها:
ضمي إليك رحال القوم والقربفا يفا ربه البيت قومي غيفر صاغرة
الشــكل النــي
أما أصحاب التجاه الخر ،فيستندون إلى ذات المعطيات وذات المادة التاريخية ،ليعطونا صورة
من أشد الصور بخسا بحق المرأة ،فكانت تورث مع المتاع إذا توفي زوجها ،ويرث الولد زوجة
أبيفه ويتصفرف فيهفا حسفب مشيئتفه ،فبإمكانفه أن يتزوجهفا ،أو يزوجهفا لغيره ويأخفذ مهرهفا ،أو
يعضلها حتى تموت ،أي يمنعها من الزواج حتى تدفع فدية عن نفسها .فهي في منزلة بين النسان
والنعام ،أو هي مثل متاع البيت متعة لصاحبه ،وسميت متاعا بالفعل ،مهمتها الستيلد والخدمة،
وشاع الكثير عن بغض العرب للبنات ،حتى سُئل أعرابي :ما ولدك؟ قال :قليل خبيث ،قيل :كيف
ذلك؟ قال :ل عدد أقل من الواحد ،ول أخبث من بنت.
وهنففا (أبففو حمزة العينففي) يهجففر زوجتففه إلى بيففت مجاور بعففد أن ولدت بنتاً ،حتففى أمسففت تقول
شعراً:
179
رب الزمان ودراسات أخرى
وغنفي عفن التنفبيه إلى أن تلك الرؤيفة المتقدمفة للرجفل كسفبب ففي جنفس الوليفد ،وأن المرأة مجرد
أرض تقبل الجنس المزروع وتنبته.
هذا ناهيففك عففن ظاهرة الوأد كأبشففع الظواهففر طرا ،وقففد ذهففب بعضهففم إلى قصففر الميراث على
الولدان الذكور وقالوا ،ل يرث إل من يحمل السيف.
التحليــل التاريخــي
ومثل هذا التناقض في المعطيات ،ثم التناقض بالتبعية في تقارير الباحثين حول وضع المرأة في
الجاهليفة ،ل يحله إل رؤيفة تاريخيفة موضوعيفة ،فقفد عاش العرب ففي قبائل متعددة موجودة جنبفا
إلى جنفب ففي زمفن واحفد ،ولكفن ففي مناطفق مختلففة ،وهفي تتداخفل معفا ،فففي مكفة جمفع شكفل
المجتمع القبيلة إلى جوار الواقع الحضري ،وطريقة العيش ووسائل الكسب ،من رعي وغزو إلى
اسفتقرار زراعفي ،إلى تجارة ،أثرهفا الذي يجفب أخذه ففي العتبار عنفد مناقشفة وضفع المرأة ففي
الجاهلية ،وهو موضوعنا التالي.
180
رب الزمان ودراسات أخرى
ممفا أدى إلى نشوء وعفي قومفي وحدوي ،اسفتشعرت فيفه قبائل العرب بوحدة جنسفها ،وكان لكفل
تلك التطورات دورها في اختلف وضع المرأة ،مما أدى لختلف رؤية الباحثين بدورها.
ظاهــرة الــوأد
يقول القرآن الكريم معقبا على ما آل إليه حال المرأة في العصر الجاهلي ،آخرا ،ناهيا {ول تقتلوا
أولدكم من إملق ،نحن نرزقكم وإياهم} ،وينبه (الدكتور على عبد الواحد وافي) هنا إلى أن الوأد
الناتفج عفن الفقفر لم يكفن فيفه تمييفز بيفن الذكفر والنثفى ،فكانوا يئدون على الجملة ،وهفو رأي فيفه
نظر ،حيث لم يثبت وأد الذكور على الطلق ،حيث كانت البداوة ونمطها بحاجة دائمة إلى ذكور
شغيلة محاربيفن ،لكنفه يطرح مفن جانفب آخفر وجهفة نظفر بشأن وأد الناث ،فيقول أنهفم اعتقدوا أن
البنت من خلق الشيطان ،أو خلق إله غير إلههم ،فوجب التخلص منها.
وففي التفسفير الدينفي نجفد تفسفيرا أقرب للمقبول عنفد الدكتور (على زيعور) حيفث يقول :إنفه كان
لونففا مففن طقوس التقرب لله القمففر (ود) رمففز النوثففة فففي رأيففه ،وإنففه كان مففن بقايففا القرابيففن
البشرية ،التي درجت عليها الشعوب القديمة ،قبل استبدالها بذبح الحيوان فداء للنسان.
لكن ما يعني المر هنا هو أن المطالع لكتبنا الخبارية لن يجد ظاهرة الوأد أمرا متفشياً ،كما هو
شائع ،بففل كان على العكففس نادر الوقوع ،ذكرت حالت بعدد قليففل ل يرقففى بالحالة إلى ظاهرة
منتشرة ،وقفد عَابَهُف العرب وانكروه .وأشهفر حالتيفن يتفم ذكرهمفا حالة (قيفس بفن عاصفم) وحالة
(عمر بن الخطاب).
ولعفل صفدق الوحفي والتنزيفل هفو الفيصفل بشأن سفبب الوأد ،ففي بعفض مواضفع وبعفض قبائل
الجزيرة حيفث أشار للوضفع القتصفادي وأثره ففي تلك العادة ،فالفقيفر بحاجفة للولد المنتفج ،وليفس
بحاجفة لنثفى ففم يلتهفم ففي مجتمفع ندرة على العموم ،ثفم كان حال القبائل المتحاربفة يعرض الناث
للسبي والعار ،وكان محتما أن تهزم القبيلة الفقيرة وتسبى بناتها ،لقلة عتادها وخيلها.
والدليفل على عدم تفشفي الوأد ،وأنفه بالفعفل كان ناتفج الملق كمفا قال الوحفي الصفادق ،أن عليفة
القوم ومفن تيسفر معاشهفم فتهذبفت نفوسفهم ،اسفتهجنوا ذلك بشدة ،فكانوا يفتدون البنات مفن الوأد،
181
رب الزمان ودراسات أخرى
واشتهر من بين أجواد العرب (صعصعة بن ناجية) جد (الفرزدق) ،الذي أخذ على نفسه أل يسمع
بمؤودة إل فداها ،فسمى محيي الموءودات ،وقال الفرزدق فيه:
وتعتبر حادثة (أم كحلة النصارية) عن كون السبب القتصادي وراء تعاسة المرأة كفم آكل غير
منتج في وسط فقر وندرة ،حيث ذهبت إلى الرسول صلى ال عليه وسلم تقول :يا رسول ال توفي
زوجي وتركني وابنته فلم نورث ،فقال عم ابنتها قولة فيها صدق الحال ،قال :يا رسول ال هي ل
تركب فرسا ول تحمل كل ول تنكى عوداً ،يكسب عليها ول تكسب.
وهناك سفبب آخفر أدى إلى حالة واحدة أخرى مفن حالت الوأد النادرة ،ويتعلق بالظاهرة ففي قفبيلة
تميفم ،حيفث كانفت تميفم قفد امتنعفت عفن أداء التاوة للنعمان ملك الحيرة ،فجرد عليهفم حملة سفبت
نسفاءهم ،فكلموا النعمان ففي نسفائهم ،فحكفم بترك حريفة النسفاء ففي الختيار لقرار النسفاء أنفسفهن،
فاختلففن ففي الختيار مفا بيفن البقاء ففي حوزة مفن سفباهم وبيفن العودة لذويهفم ،وكانفت فيهفم بنفت
(قيفس بفن عاصفم) ،وهفي الحالة النادرة المشار إليهفا ،فاختارت سفابيها على زوجهفا ،فنذر (قيفس)
أن يدس كل بنت تولد له في التراب ،واقتدى به بعض تميم نكاية في النساء.
الوضــع الطبقــي
كان نشوء الطبقففة عامل أسففاسيا فففي تحديففد وضففع المرأة ،فكان هناك الماء ،والحرائر ،وكانففت
الحرائر تتمتففع بمنزلة سففامية ،يخترن أزواجهففن ،ويتركهففن إذا أسففاءوا معاملتهففن ،ويحميففن مففن
يسفتجير بهفن ،وكفن موضفع فخفر الزواج والبناء ،بعكفس الماء الذيفن كان البناء يسفتحيون مفن
ذكر أمهاتهم.
عل شأن المرأة في الوسط الثري ،خاصة إذا تمتعت هي بالثراء ،فكانت تختار زوجها كما حدث
من السيدة خديجة أم المؤمنين وكانت إحدى ثريات مكة المعدودات ،عندما خطبت لنفسها الرسول
عليه الصلة والسلم ،وكان آخرون يفخرون بنسب أنفسهم إلى أمهاتهم.
وكمفا سفبق وأشرنفا فقفد ارتبفط ذلك التطور الجتماعفي ونشوء الطبقفة بنزوع قومفي واضفح ،كانفت
المرأة طرففا ففي جدله التاريخفي ،حيفث كانفت امرأة سفببا ففي حرب العرب والفرس ففي ذي قار،
182
رب الزمان ودراسات أخرى
والفرح الحتفالي الهائل فففي الجزيرة بالنصففر العربففي ،أمففا النزوع القومففي وشعور قبائل العرب
بأنهم جنس له نوعيته وخصوصيته فقد دفعهم إلى عدم تزويج بناتهم من أعاجم مهما بلغ العجمي
من مراتب الشرف والسؤدد والمال.
الحــب والــزواج
يبدو أنفه رغفم مفا نسفمع عفن قيود وأعراف عربيفة ،وضعهفا المجتمفع على علقفة الشاب بالفتاة،
فإننفا نسفمع أيضاً مفع نشوء الطبقفة الثريفة عفن مجالس سفمر تعقفد ففي أفنيفة الدور ،ويجتمفع فيهفا
الشباب والشابات حيث تضرب الدفوف ويرقص الحداءون ويلقى الشعر ،خاصة في آخر سنوات
الجاهلية الخيرة.
وكان الشاب منفففذ بلوغفففه يبدأ التشفففبيب بالنسفففاء ويلحقهفففن ،وكان ذلك إحدى علمات الرجولة
والفخفر ،ولن الشعفر كان أغنيفة العربفي وفصفاحته ،فقفد كان كفل شاعفر يبدأ شعره بالغزل ،إل أن
الشعفر النسفوي كان يخلو تقريباً مفن ذلك الغزل ،حيفث كان بوح المرأة بمشاعرهفا لونفا مفن خلق
الحياء التقليدي بين العرب.
اختيــار الــزوج
وإذا تأخرت خطبفة الفتاة ،التفي عادة مفا كانفت تتزوج ففي سفن مبكرة (حوالي الثانيفة عشرة) ،فإنهفا
كانفت تلجفأ إلى طلب الرجال ،فتنشفر شعرهفا ،تكحفل واحدة مفن عينيهفا ،وتسفير تحجفل ففي الشارع
ليلً تنادي :يا لكاح ،أبغي النكاح ،قبل الصباح.
وهفو أمفر يشيفر إلى أن العرب وإن درجوا على عادة اختيار الفتفى لفتاتفه ،فإن العكفس كان حادثاً،
وتشيفر الحداث إلى أن المرأة كانفت حرة ففي اختيار زوجهفا ،بخاصفة إذا كانفت مفن عليفة القوم،
فهذه (هند بنت عتبة) تقول لبيها :أني امرأة ملكت أمري ،فل تزوجني رجل حتى تعرضه على،
فقال لها وذلك لكِ.
وتقول المصفادر إن حفق أبفن العفم ففي أبنفه عمفه كان عرففا مقدمفا ومسفنونا ،إل أن العرب بعفد ذلك
صففارت تدرج على التزاوج مففن خارج القففبيلة ،ويقول الباحثون أن كان ناتففج ملحظففة أن زواج
القارب يأتي بالضاوين (الضعفاء والمشوهين) ،فصارت لهم في ذلك أمثال مضروبة ،من قبيلها:
183
رب الزمان ودراسات أخرى
ل تتزوجوا مفن القريبفة فيأتفي الولد ضاويفا ،والزواج مفن البعداء انجفب للولد وأبهفى للخلقفة وأحففظ
لقوة النسل ،ول تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض ،والنزائع ل القرائب.
زواج الغـــريب
ويبدوا لنا أن الزواج من قبائل أخرى ،كان مرحلة متطورة تساوقت مع التطور اللحق ،الذي دفع
بأفراد القبائل للخروج عفففن الحالة القبليفففة الولى ،ونظام التحالفات الذي كان إرهاصفففا بالقوميفففة
والتوحد ،سعيا وراء توفير ممكنات إقامة أخلف قبلية كبرى قوية .وأبرز المثلة على ذلك عندما
بلغ الصفراع ذروتفه بيفن كتلتفي هاشفم وأميفة ففي مكفة ،وبدأ كفل مفن البطنيفن يعقفد تحالفاتفه الكفبرى
ضد الخر ،وكيف هي السياسة التي اختطها هاشم بنفسه ،وتبعه فيها بنوه من بعده.
لكفن ذلك لم يمنفع اسفتمرار الزواج مفن داخفل القفبيلة بالطبفع وكان للطبقفة والفقفر والغنفي دوره ففي
ذلك ،فكانففت الفتاة فففي لطبقات الدنففى تفضففل زواج القارب لنهففم أكثففر معرفففة بشؤونهففا مففن
الغرباء ،وأرص على سففتر عيوبهففا وسففلمتها ،وفففي حكايففة (عشمففة البجليففة) مففا يشيففر إلى هذا
امعنى ،فقد نصحت شقيقتها (خود) عندما جاءها خطاب أغراب حسان بقولها :تزوجي في قومك
ول تغرك الجسام ،فشر الغريبة يعلن ،وخيرها يدفن،ترى الفتيان كالنخل ،وما يدريك ما الدخل؟!
الطـــلق
معلوم أن الطلق كان بيد الرجل ،وكانوا يطلقون ثلثا على التفرقة فإذا تمت امتنعت العودة ،لكن
أيضاً كان مفن حفق المرأة الثريفة – ويشار إليهفا بالشريففة لمفا لهفا – حفق الطلق ،وقفد أشار أبفو
الفرج الصفهاني في أغانية إلى ذلك في حديثة عن نساء الجاهلية يطلقن الرجال ،وبلغ المر حدا
ل يجبر فيه المرأة على المصارحة بالطلق ،بل كان يكفيها أن تحول باب خيمتها من الشرق إلى
الغرب فيفهم الرجل أنه قد طلق من امرأته.
(إل هنا أنقطع الوضوع النشور ف ملة نزوى وقد أوردناه كما نشرته الجلة لفقدنا الصل)
184
رب الزمان ودراسات أخرى
متفى ظهفر العرب ففي تاريفخ المنطقفة؟ السفؤال الذي حاول الباحثون تقديفم إجابفة واضحفة بشأنفه،
اسففتنادا لوثائق التاريخيففة والكيولوجيففة ،وإلى الدراسففات المهتمففة بتاريففخ الجناس والجغرافيففا
والبشرية.
وقففد انتهففت مدرسففة اللمانففي (نولدكففة) بهذا الشأن ،إلى أن المفردة (عرب) ترادف فففي معناهففا
الصحراء (آرابيا ،)ARABIAأو بمعنى آخر ،أنها لم تكن تعني أكثر من البداوة والفقر والجفاف.
أقوام متشرذمففة تتناثففر على امتداد بوادي جزيرة العرب حتففى باديففة الشام وسففيناء شمال وغربففا،
وأنهفا إطلقفا لم تكفن تعنفي مفا نفهمفه اليوم مفن معنفى الجنفس أو القوميفة .بفل أن هؤلء العراب لم
يكفن بينهفم هفم أنفسفهم أي حفس بأنهفم جنفس واحفد أو ذوي أصفول واحدة ،بفل كانوا يأكلون بعضهفم
بعضا بالحروب والغارات القبلية التي تهدأ.
رغفم أن هناك يقيفن غيفر واضفح ،بأن للعرب وجودًا وأصفولً موغلة ففي القدم ،فإن مفا ورد عنهفم
مفن إشارات مكتوبفة ،قليفل ومبعثفر ،ول يرقفى لبعفد مفن اللف الولى قبفل الميلد .كمفا أن تعفبير
(السفاميين) الذي يلتبفس تارة بالعرب وطوراً ببنفي إسفرائيل ،ل يشيفر إلى حقيقيفة بشريفة ،قدر مفا
يشير إلى مجموعة لغات متشابهة ،يفترض أنها تعود إلى لغة أم أولى.
ولعل أقدم الشارات المكتوبة إلى العرب – كما هو معلوم لدا الباحثين – هي تلك التي جاءت في
نقوش آشوريفة ،حوالي عام 853قبفل الميلد ،وحدثتنفا عفن جماعات مفن البدو دمرتهفا القوات
الشوريفة ،وأن تلك الجماعات كانفت تسفتقر ففي باديفة الشام ،ودومفة الجندل ،وتيماء ،وقفد أطلقفت
النصفوص الشوريفة على هؤلء لفظفة اختلف تنغيمهفا نطقفا ففي الترجمفة مفا بيفن :عريفبي ،وعربفا،
وعربفي ،وعربفو .أمفا بلدهفم فيبدو أنهفا تلك التفي ذكرت ففي ذات النصفوص باسفم (عربايفا) ،كمفا
أشارت إلى ملوك وملكات في محيط (دومة الجندل) وإلى كيانات قبلية تمتهن التجارة ،يرجح أنهم
كانوا بدورهم عربانا ،وربما عبارة (ماتو -أربي) الواردة في الكتابات البابلية كانت تعني :أرض
العرب ،لكن من المؤكد أن لفظة (أربايا) الواردة في كتاب (دارا الكبر الخميني) تعني :العرب.
* ل يسبق نشرة.
185
رب الزمان ودراسات أخرى
(من صـ 198- 193ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996 ،
وقد أشارت تلك النصوص الرافدية ،المدونة في القرن التاسع قبل الميلد ،إلى ملكات عربياتن فقد
وردت ففي نفص مفن عهفد (تجلت بلصفر) سفنة 778قبفل الميلد ،روايفة عفن قدوم ملكفة العرب
(زبيبة) تحمل الجزية ،ونظنها تلك التي وردت في أخبار المأثور العربي باسم (الزباء) ،وخلطوا
بينها وبين (زنوبيا) ملكة تدمر .كذلك ترك لنا الملك (سرجون الثاني) نصا يقول فيه أنه قد هزم
جيوش (شمسفى) التفي وصففها بأنهفا (ملكفة العرب) حوالي سفنة 732قبفل الميلد ،وأنفه قفد تسفلم
الجزيفة مفن ملك سفبأ (يفث – عمفر) حوالي سفنة 716قبفل الميلد ،إضاففة إلى دحره جماعات مفن
(ثمود) و(العبابيد) و(المرسماني) و(عفه) الذين وصفهم بأنهم "العرب بعيدو الديار".
وففي نفص للملك الشوري (سفنحاريب) نفهفم أنفه قفد أسفر شقيقفا لملكفة عربيفة أسفمها (ياطيعفا) ،ثفم
هاجم معسكراً لملكة عربية أخرى أسمها (ت .علخونة) ،حوالي عام 691قبل الميلد ،أما الملك
الشوري (أسفرحدون) فقفد ترك وثيقفة تشيفر إلى فرضفه الجزيفة على ملك دومفة الجندل المدعفو
(خزعل) سنة 676قبل الميلد.
وفي كتابات العاهل الشوري الشهير (آشورباني بعل/يُكتب خطأ يانيبالي) سنة 649قبل الميلد،
إشارة واضحة إلى معركة وقعت مع عرب يعرفون باسم عرب (قيدار) ،ثم نعلم أن هؤلء العرب
قد تغلغلوا داخل الردن مما اضطر (نبوخذ نصر) العاهل الكلداني إلى مهاجمتهم عام 599قبل
الميلد ،ويبدو أن شأن هؤلء العرب كان قفد تضخفم إلى الحفد الذي اضطفر الملك الرافدي الشهفر
(نابونيد) إلى نقل عاصمته جنوبا ليقيمها في واحة تيماء ،ليواجه من هناك تلك الهجمات ،وليبسط
186
رب الزمان ودراسات أخرى
هيمنتففه على (ددان .العُل حاليففا شمالي السففعودية) وعلى فدك وخيففبر ويثرب ،وهففو مففا يوضففح
مصدر تلك الهجمات العربية.
وبعدها يتواتر ذكر العرب في نصوص التوارة بذات السفر ،في حكايته عن الملك اليهودي (يهو
شافاط) حيث يقول" :وبعض الفلسطينيين أتو يهوه شافاط بهدايا مل فضة والعربان أتوه أيضاً بغنم
مففن الكباش" .وفففي زمففن الملك (يهورام) يهاجففم العرب مملكففة يهوذا بذات السفففر حيففث يقول:
"والعرب الذيففن بجانففب الكوشييففن ،صففعدوا على يهوذا وسففلبوا كففل الموال الموجودة فففي بيففت
الملك ،مع بنيه ونسائه".
ومن ثم تتصاعد نغمة العداء التوراتية ضد العرب ،فتحكي التوراة عن عودة اليهود من سبي بابل
لبناء الهيكففل الخرب مرة أخرى ،وكيففف كان العرب يهزأون ممففا يفعلون ،وذلك فففي سفففر نحميففا
وهفو يقول" :ولمفا سفمع سفنبلط الحورونفي وطوبيفا العبفد العمونفي ،وجشـم (نظفن صفحيحها جاسفم)
العربي ،هزأوا بنا واحتقرونا" ،ومن ثم نجد في أمنيات النبي (أشعيا) فناء كامل للعرب ،في قوله:
" وحي من جهة بلد العرب ،في الوعر بلد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين (يقصد قوافل تجارة
ددان وهي العل حاليا) ...يا سكان أرض تيماء ...إنهم أمام السيوف قد هربوا ...يفنى كل مجد
قيدار" .أمففا النففبي (إرميففا) فيقدم ذات المانففي فففي نبوءتففه "هكذا قال الرب :قوموا واصففعدوا إلى
قيدار ،أخرجوا كفففل بنفففي المشرق" ،ومعلوم أن (قيدار) اسفففم لقفففبيلة عربيفففة كفففبرى آنذاك ،أمفففا
اصففطلح بنففي المشرق فهففو يعنففي العرب بالمعنففى الواسففع ،وقففد تأكففد صففدق وجود قففبيلة باسففم
(قيدار) ،على القفل ففي إشارة تاريخيفة لنفص (آشور بانفي بعفل) سفالف الذكفر ،وأنفه جرد حملت
عليهفا لنهفا سفاعدت أخاه المتمرد ،وأنفه دمفر (أبفي عاطفي) زعيفم قفبيلة قيدار ،وغنفم منهفم جمال
كثيرة.
187
رب الزمان ودراسات أخرى
أمففا الرومان ،فقففد قسففموا جزيرة العرب قسففمين :العربيففة الصففخرية (أرابيففا بترا) وهففي شمالي
الجزيرة وشبففه جزيرة سففيناء ،والعربيففة السففعيدة (أربيففا فيلكففس) وهففي بلد اليمففن أو جنوبففي
الجزيرة ،وذلك بعفد معرفتهفم الجغرافيفة لشئونهفا ،مفع حملة (آليوس جالوس) على الجزيرة ،والتفي
أثبتت فشلها الذريع في احتلل تلك الفيافي.
البحــر الحمــيري
ومنذ القرن الول قبل الميلد ،نجد النصوص اليونانية تشير إلى وجود مملكة مزدوجة في جنوبي
الجزيرة ،هففي مملكففة (سففبأ وحميففر) ،وأطلقففت تلك النصففوص على سففكان تلك المملكففة اسففم
(الهومرييفن) الذي يجفب نطقفة (الحميرييفن) .ويبدو أن اسفم البحفر (الحمفر) قفد اكتسفب اسفمه مفن
اسفم (حميفر) قبفل سفقوطها ففي القرن الول قبفل الميلد ،بعفد أن كان اسفمه البحفر الرتيري كمفا
سفبق وأسفماه (هيرودوت) ،لكفن المثيفر ففي المفر أن تسفميته بالبحفر (الرتيري) نسفبه إلى وقوع
(أرتيريفا) على مضيقفه الجنوبفي ففي المندب ،يعنفي ذات المعنفى لن (أرتيريفا) نفسفها كانفت جزءا
مفن مملكفة سفبأ ،واسفمها باليونانيفة يعنفي (الحمراء) ،ولتقارن مفع (حميفر) والبحفر (الحمفر) ،وهفو
188
رب الزمان ودراسات أخرى
المر الذي يدفع لمراجعة العلقة التي تربط بين تلك المملكة العربية الجنوبية ،وبين سكان ساحل
المتوسط الشرقي (الفينيقيين) ،حيث تعني كلمة فينيقي بدورها (الحمر) ،وتلك المراجعة مطلوبة
ففي ضوء النفص الفينيقفي المكتشفف ،الذي يؤكفد أنهفم جاءوا إلى سفاحل البحفر المتوسفط الشرقفي،
قادميفن مفن (البحفر الجنوبفي) وهفو الحمفر ،وهفو المفر الذي قفد ينتهفي إلى القول :إن حضارات
الجنوب كانفت هفي الصفل والداففع للحضارة الكفبرى التفي قامفت بعفد ذلك على سفاحل المتوسفط
الشرقفي .لكفن سفتكون العاقبفة هنفا :كيفف ذلك ،بينمفا أبعفد نصفوص تحدثفت عفن وجود للعرب ،ل
ترقفى لبعفد مفن ألف سفنة قبفل الميلد ،بينمفا نعلم أن الفينيقييفن قفد ظهورا على صففحة التاريفخ قبفل
ذلك التاريخ بأكثر من ألف عام أخرى؟ سؤال يجيب عليه الفراعنة.
العرب في الهيروغليفية
وهذا حقفا مفا فاجأتنفي بفه ترجمفة جديدة تمامفا للمفكفر الليفبي (الدكتور على فهمفي خشيفم) ،لكلمفة
الشرق في المصرية القديمة (إ أب ت) ،حيث كان المصري يحدد الجهات الصلية بالتوجه جنوبا
نحفو منابفع النيفل ،ليصفبح الشرق ففي يسفاره ،لتعنفي الكلمفة (إ أب ت) اليسفار والشرق معفا ،كمفا
تشير إلى الريح الشرقية ،وأي مشتقات ترتبط بالشرق ،وجذرها (إ أب) يعني الشرق ،وفي قراءة
الرجفل للكلمفة نجفد الهمزة الولى مبدلة مفن العيفن (أ = ع) ،وذل كمفا ففي المصفرية (ك أب) =
كعففب ،و(إن ق) = عنففق ...الخ ،ومعروف أن العربيففة تبدل العيففن همزة كمففا فففي (الربان =
العربان /أنظفر لسفان العرب) ،أمفا الهمزة الثانيفة ففي (إ أب) فهفي مبدلة مفن الراء ،ونموذجفا لذلك
خمسففين مثال قدمهففم المصففرولوجي (أمففبير) مثففل (ب أ ك) المصففرية = برك ،و (ش أ ع) =
شرع ،و (ج أم) = جرم ،وعليفه فإن الهمزة الولى ففي (إ أب) تصفبح (ع) والهمزة الثانيفة تصفبح
راء ،بينمففا الباء أصففلية ،أي أن (إ أب) هففي بالضبففط (عرب) ،و (إ أب ت) هففي عربففت مؤنففث
عرب أو بلففظ العرب (عربيفة) ،أي بلد العرب ،أي جزيرة العرب ،وهفي الكلمفة المصفرية التفي
صارت تدل على الشرق عموما ،مما يعني أن مصر القديمة قد عرفت بلد العرب باسمها وأنها
كانت تعرف سكانها باسم العرب ،وإذا كان الشرق في اللسان المصري القديم يعرف بأنه (عرب)
وسفكانه (العرب) ،فهفو المفر الذي يعنفي وجوداً لقبائل حملت ذلك السفم وعاشفت شرقفي مصفر،
وأن السم قديم قدم من أطلقه عليهم ،وأنه من المحتمل الن البحث عن أصول الفينيقيين الحمر،
189
رب الزمان ودراسات أخرى
فففي حضارة الجنوب اليمنففي الحمففر الحميري ،لكففن مففا يجففب التأكيففد عليففه هنففا أنففه رغففم كففل
الحتمالت التي تشير إلى قدم العرب في التاريخ ،وأنهم أقاموا ممالك في بعض الحيان ،فإنهم لم
يشعروا يومفا بوحدة جنسفهم ،هفو مفا تشيفر إليفه تلك الكتابات القديمفة ،التفي كانفت دومفا تتحدث عفن
القفبيلة الفلنيفة ثفم تصففها بأنهفا عربيفة ،ممفا يعنفي أنهفا فقفد بدويفة أو صفحراوية ،باعتبارهفا كانفت
مملكفة ،ونحفن نعلم يقينفا وففق الدراسفة العلميفة المدققفة أن الحفس العربفي بمعنفى القوميفة أو الجنفس
الواحد ،لم يظهر إل قبل السلم بزمن وجيز ،بفعل مجموعة من الظروف الموضوعية أدت إليه،
ولم تحمففل كلمففة العرب مدلولهففا الجنسففي والقومففي المعروف ،مففع سففيطرة لغففة واحدة ،إل مففع
السفلم ،الذي نمفى الحفس القومفي لدى سفكان الجزيرة ،ليشعروا لول مرة ففي تاريخهفم أن لهفم
كيان واحففد هففو الكيان العربففي ،وحينهففا ابتدعوا فكرة (يعرب) جففد العرب البعيففد ،الذي يجمعهففم
ويوحفد أصفولهم ففي تاريفخ لم يعرف هذا الجتماع من قبل ،وربما كان (يعرب) هذا هفو الصياغة
العربية (بالقلب) للسم المذكور في التوراة بصيغة (عابر).
190
رب الزمان ودراسات أخرى
رب الزمـــان *
منذ ما يزيد على خمسة آلف عام ،عندما كان الفكر النساني لم يزل في بداياته ،كان العراق في
قمة البداع الحضاري ،حيث نشأت أول حضارة إنسانية على ضفاف دجلة والفرات.
وففي جنوب وادي الرافديفن ،كان هناك الشعفب السفومري الذي ل تقفل حضارتفه عفن أيفة حضارة
أخرى عاصفرته فففي هذا السفهل الغرينفي الخصفب ،أبدع الحكماء السفومريون أدبًا وفكراً يتناسفبان
مع درجة ارتقاء النسان في تلك الزمان.
تطلع الفكففر هناك حوله مسففتكشفًا ظواهففر طبيعففة الكون مفسففراً وقارئًا ومبدعاً ،فففي كيان الوجود
المحيط ،به فترك عدداً غفيراً من اللهة ،تعددت بتعدد الظواهر النافعة والضارة في الطبيعة ومن
تلك اللهة الله (آن) إله السماء.
(آن) رب السمــاء
تعنفي كلمفة (آن) السفماء المنظورة ذاتهفا ففي بدء المفر ،وكانفت السفماء ففي رويتهفم سفقفا محفوظاً
يعلوهفم ،ثفم تحولت بالتدريفج إلى علم ورمفز على اللوهيفة عمومفا ،فعادلت الكلمفة (آن) – بمعنفى
مفن المعانفي – لفظفا جلليفا أو اسفما للجللة ،تدل على ألوهيفة أي مسفمى إلهفي ،كمفا حملت الكلمفة
(آن) معنى السيادة والرفعة ،باعتبار هذا الله هو سيد اللهة جميعاً.
ويقول آثاري السففومريات المعروف (صففموئيل كريمففر) :إن السففباب التففي أدت إلى سففيادة (آن)
على مجموعفة اللهفة السفومرية ،لم تزل وفصفولها أسفبابًا غيفر معروففة .لكننفا يمكفن أن نتصفور
وببساطة ،أن رؤية السومري للسماء بفسحتها واتساعها ،وتعدد اللوان والجرام والظواهر فيها،
مع ضخامة هذه الظواهر ،وجسامتها هذه ،روحاً تحيط الرض ،وتغطيها لها من جميع الجوانب،
كل ذلك كان كفيل بإجللها ،بما يلئم عظمتها ،مقابل ضيق المساحات المرئية أمامه بشكل مباشر
ل وغرابة ،فإنها ل ترقى أبداً إلى درجة الظواهففففر
على الرض ،التي مهما بلغت مظاهرها هو ً
191
رب الزمان ودراسات أخرى
السفماوية ،مفع الخفذ بالحسفبان ،عدم التماس المباشفر بينفه وبيفن السفماء ،ممفا جعلهفا مجهولً دائماً،
يقع في نفسه موقع الجليل بما له من رهبة ورغبة وتقديس ،فكان أن تصور السماء أعظم اللهة
طرا ،وأبففا أول دائم القتدار ،بتواصففل وديمومففة يخصففب الم الكففبرى الرض ،وهففو يحتضنهففا
باستمرار ،ليلقي ماء الحياة فيها.
واستطاع العرب أو الساميون أن يشيدوا بلد الرافدين بعد أن أصبحوا سادة البلد ،وأسسوا هناك
دولً كبرى نتذكرها عندما نتذكر (الكاديين ،والبابليين ،والشوريين ،والكلدانيين) .إن الله (آن)
لم يقفم بإبداع الوجود دفعفة واحدة فيكون قفد فعفل فعلً واحداً شاملً وانتهفى المفر ،إنمفا كان إبداعفه
زواجاً مستمراً من الم الرض ،عن طريق مطره الدائم ورعايته من عليائه باستمرار لولده من
الكائنات الرضية (إنسان ونبات وحيوان وكيانات أخفرى) ،وبذلك كان فعله مستمرا ،وعليه فهو
لم يفعل مرة واحدة إنما يفعل باستمرار ،وربما هذا الفعل هو فعل (آن) الدائم ،فهو (فعل +آن) أو
(فعلن) ،تلك التفعيلة التففي دخلت كففل اللغات السففامية لتدل على الفعففل المسففتمر والحضور فففي
جميفع الزمنفة .فهفو فعفل بدأ ففي الماضفي ،لكنفه مسفتمر ففي الحضور والعمفل ،وباعتبار (آن) أقدم
اللهفة طُرا ،فقفد اكتسفب صففة الزليفة ولن السفماء منفصفلة عفن الوقائع الرضيفة ،التفي تتعرض
للدمار والفساد باستمرار ،فقد بات واضحًا لعيني السومري أن الله (آن) دائم الحضور دون فساد
أو فناء ،ومن هنا اكتسب صفة البدية ،ومن ثم تحول إلى مفهوم ،فأصبح هو الديمومة أو الزمان.
ولو توقفنفا مفع العربيفة ،كفرع مفن اللغات السفامية ،وحللنفا كلمفة (الزمان) ،سفنكتشف عددا ل بأس
بفه مفن الكشوف ،وأول مفا سفنلحظه ففي كلمفة الزمان أنهفا على وون التفعيلة (فعلن) ،كمفا أنهفا
تشير إلى جزئيات الزمن المتراصة المتلحقة المتلصقة في كلما (زمان) ،وأعني أن الزمان هو
مجموعة من اللحظات أو من النات (آن وآن وآن هكذا )...أي مجموعة من اللحظات الحالية أو
الراهنة أو النية (الن) ،مضت منها (آنات) ،ونحضر منها الن (آنات) ،ومنها آنات لم تأت بعد،
فالزمفن هفو مجموع آنات الوجود ،وبضفم هذه النات إلى بعضهفا البعفض ،أو لمهّا ،أو جمعهفا ،أو
زمّهفا تصفبح هفي زم النات أو (زم آن) أو (زمان) أو الزمان ،الذي كان قديمًا هفو الله (آن) رب
السماوات.
192
رب الزمان ودراسات أخرى
(آن) رب المكــان
ونعود مرة أخرى للسففاميين ،فنجدهففم يسففتبعدون الكلمففة السففومرية (أي )Eويسففتبدلونها بمقابففل
السفامي (بيفت ،)Bitوبيفت بالتحديفد تعنفي معناهفا ففي عربيّتنفا (البيفت) ،لكنفه كان يطلق فقفط على
المعابفد فاختفص بالكلمفة (بيفت) بيوت اللهفة ،أمفا باقفي المكنفة على الرض ،فحظيفت باسفم آخفر،
تأخذه مفن فرع أخر باللغات السامية ،أقصد الكنعانيفة ،التفي أُطلقفت على بيوت آلهفة أدنى قليلً من
(آن) ،هفي الكلمفة (بَكفْ) ،وهفي موجودة كمثال ففي اللفظفة الكنعانيفة (بعلبفك) ،وهفي معبفد قديفم للله
(بعففل) لم يزل قائماً للن فففي لبنان ،والله بعففل يعنففي (السففيد) أو (الرب) ،وهففو رب المطار
والخضرة ،ورب الطبيعة المروية بفعله هو ،وليس بمساعدة إنسانية (بالساقية أو الشادوف) وظل
(بعل) حيا في لغتنا حتى الن ويحمل المعنى نفسه .وبعل المرأة سيدها وزوجها ورب بيتها ،كما
لم يزل حيففا فففي أذواقنففا ،حيففن نفضففل أكففل النبات المروي طففبيعياً ،النبات البعلي (الفول البعلي
مثلً) ،ونفضله على (الفول المسقاوي) الذي يدخل في سقايته الفعل البشري.
ولما كان النسان القديم ،يشكل في التاريخ مرحلة الطفولة البشرية ،فإنه كثيرًا ما كان لسانه يلكن
لكنفة أطفال اليوم ،وكثيراً مفا خلط بيفن الباء والميفم ،وهكذا لم يكفن هناك بأس مفن أن يصفبح بيفت
الله (مففك) بدل مففن (بَكفْ) ،فجاز نطففق المعبففد المذكور :بعلبففك ،ومعلبففك ،ومعلمففك!! ومففن هنففا
استساغ (جورجي زيدان) في مبحث لغوي ،أن يستنتج أن كلمة مكة من (مك) وتعني بيت ال في
اللسان القديم ،وقد نؤيده إلى حد ما ،باعتبار ما نعلمه عن أقرب اللغات السامية إلى الفرع الشمالي
العدناني ،هو اللسان الكنعاني ،صاحب الكلمة (بك) ،مع أخذنا بالحسبان ما جاء في القرآن الكريم
عن مكة أنها أيضاً بكة ،في قوله تعالي ":إن أول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركا".
ولما كانت الكلمة :أي ،أو بيت ،أو بك ،أو مك ،تعني بالتحديد والدقة مقراً ،أو محتوى ،أو مسكناً،
أو ملكاً (مفن المتلك) ،فهمنفا مفن ذلك أن أي مكان أرضفي هفو ملك للله المحلي له ،لكفن على
المستوى العظم الذي يليق بجلل أعظم اللهة وسيد الكون (آن) ،فإن كل البيوت أو المكنة هي
بيفت وملك ومحفل لسفكنى الله الذي تحيفط بسفماواته كفل المكنفة( ،آن) سفيد اللهفة ،وعليفه فالكلمفة
ل (ملكاً) ،بإضافففة اللم فففي العربيففة الشماليففة،
(مففك) إنمففا هففي التففي أصففبحت بعففد ذلك تفصففي ً
193
رب الزمان ودراسات أخرى
وأصبحت جميع المكنة هي ملكاً للله (آن) ،فالرض له ومن عليها ،وجميع الف (مك) للله (آن)
أو ملك آن ،فالمكان إذن أيضًا كله لف (آن) وملكه الدائم.
وهكذا نكتشف أن المكان بدوره كالزمان ،ينسب للله العظم ،رب السماوات ورب الزمان ورب
المكان( ،آن).
194
رب الزمان ودراسات أخرى
ففي اللغفة العربيفة ،كفرع مفن اللغات السفامية ،ترك (آن) أثره كحفريفة دائمفة الحضور ففي التفعيلة
(فعلن) ،كحفريات كائنات الطبيعفة التفي نجدهفا ففي الصفخور ،فيدلنفا وجودهفا باعتبارهفا أثرا مفن
الماضفي ،على هويفة هذا الماضفي .ويسفمى العلم الذي يهتفم بحفريات الطبيعفة (جيولوجيفا) ،بينمفا
العلم الذي يهتفم بآثار النسفان ومفا تركفه مفن تراث وحضارة (علم الركيولوجفي) ،أمفا السفلوب
الذي نتبعفه الن ففي بحثنفا القصفير هذا ،فهفو مفا يدخفل تحفت مفا يسفمى علم أركيولوجيفا اللغفة ،ففي
أطار من علم (الميثولوجي) أو دراسة الساطير.
ولو تناولنفا بعفض الكمات ففي لغتنفا لنتعامفل معهفا أركيولوجيفا ،وففق مفا عرفنان ،عفن (آن) ،سفنجد
عدداً مفن المثلة التفي ل يحصفيها الحصفر ،فحرف الميفم (م) ،عندمفا نبحفث عفن جذوره اللغويفة،
نجده يدل على الضم والزم واللم والتلحق والحساس الشديد بالشيء ،وعادة ما يكون مشدداً ( مّ)
كمفا ففي (ضمفّ)( ،همفّ) أي اسفتعدت أحاسفيسه لتحريكفه لمفر شديفد القرب لدرجفة التلصفق ،و(شمفّ)
دللة الحسفاس الشديفد بالشيفء ،و(جمفّ) للدللة على الكثرة الملصفقة المضمومفة لبعضهفا ،و(عمفّ)
بمعنى اشتمل وغطى ....الخ.
والميفم أصفل حرف يعود إلى علقفة قديمفة ،بعبادة قديمفة ،هفي عبادة الم الولى أو الم الكفبرى،
المتميزة بالحنففو الشديففد ،وبأنهففا مصففدر للمففن والمان لعبادهففا وقففد حظيففت فففي مختلف اللغات
السامية بأسماء مثل :ماما ومامي mamiوأمّا Amaوماه ،Mahوهي كلها معبودات أنثوية قديمة.
تشتمفل ميفم المومفة ففي أسفمائها ،وففي أسفماء المعبودات مفن أمهات اللهفة ففي السفر الثالوثيفة
المعبودة ،نجد (م) المومة والضم والحنو أساساً في تركيب أسماء هذه اللهات ،التي تدخل معها
كضلع ففي أسفة ثالوثيفة ،تتركفب مفن أب وأم وابفن( ،فأفروديفت) الرومانيفة كانفت (ماري) ،Mari
وففي سفوريا القديمفة كانفت الم والزوجفة اللهيفة هفي (ميرهفا) ،Myrhaوففي اليونان كانفت (مايفا)
،Maiaوففي الهنفد أيضاً مايفا ،وففي المسفيحية مريفم أو ماريفا Maraiو ... Meriamالخ ،وباعتبار
حرف الفف (م) ،أصفلً صفوتياً ،يعطفي معنفى الضفم والحنفو ،والمومفة ،لو طبقنفا عليفه التفعيلة مفن
(أم) يصفبح (أماناً) ،والكلمفة (أمان) تتركفب مفن ملصفقين( :أم) التفي تعنفي المومفة ،إضاففة إلى
(آن) فيصففبح المان أمراً مسففتمراً دائماً ،يعود أصففل إلى أمففن الوجود فففي دفففء حنان الم ،أو
اللهة الم.
195
رب الزمان ودراسات أخرى
والنفبي محمفد (صفلى ال عليفه وسفلم) هفو ففي علم النسفاب مفن الفرع العدنانفي ،وليفس مفن الفرع
القحطانففي ،و(عدنان) هففي (عدن +آن) ،وعدن لم تزل علمًا حتففى اليوم على مدينففة فففي جنوب
الجزيرة ،ولو تتبعنفا الهجرات القديمفة ففي جزيرة العرب ،سفنجد القبائل العدنانيفة ،قفد هاجرت فعل
بعد دمار مأرب وانهيار اليمن السعيد ،من الجنوب اليمني إلى الشمال ،لتستقر في أرض الحجاز،
بينمفا ظلت بعفض القبائل ففي اليمفن بعفد أن أصفابها القحفط ليصفبحوا (قحطانييفن) ،مفن (قحطان)،
علماً أن (عدن) أو (أدن) كان علماً على إله الخصب والمطر في كثير من المناطق السامية ،وكان
لقباً لرب الخصفب (بعفل) ،وإليفه تنسفب الكلمفة (جنات عدن) ،لن كلمفة (جفن) كانفت تعنفي وحدة
قياس للرض ،تعادل بمقاييس اليوم ثمانية عشر ذراعاً ،وهي في اللسان اليمني القديم (جنان) لن
أداة التعريفف لديهفم كانفت حرف النون (ن) تلحفق بآخفر الكلمفة ،كمفا ففي اسفم أحفد كبار معبودتهفم
القديمة إله الرحمة أو (رحمن) ،و(جن) تجمع في اللسان العدناني الشمالي (جنات).
وباعتبار الرض الخصفبة ملكًا لله الخصفب عدن ،فتصفبح (جنات عدن) و(عدن) بدورهفا كلمفة
تتركفب مفن ملصفقين همفا (عاد +آن) ،لن الله عدن ففي أسفطورته ،كان إلهفا للخيفر والخصفب،
تعرض للقتل والموت كما تموت الطبيعة الخصبة في الشتاء ،لكنه يعود من الموت حيًا في فصل
الربيفع دوماً ،فتعود بعودتفه الخصفوبة والنماء ،وهفي قصفة متواترة ففي ديانات الخصفب التثليثيفة،
ويعد الحتفال بعيد قيامة مجيد للهة الخصب عيداً كبير النتشار في المنطقة ،حيث كل مجموعة
تؤمفن بأله للخصفب تقيفم له احتفال العودة مفن الموت سفنوياً ،ففي فصفل الربيفع بالذات ،ومفن هؤلء
(عدن) أو (يسوع) المسيحية ،ويصبح معنى (عدن) الله (عاد-آن) العائد من عالم الموتى.
ول يغيفب عفن الفطفن ربفط (عدنان) باليمفن السفعيدة المكتظفة بالخيفر ،والتفي حازت على هذا اللقفب
نتيجفة سفعدها ففي سفالف الزمان ،وبخضرتهفا ووفرتهفا وخصفبها ،نتيجفة وجود الله (عدن) أو
(أدن) فففي العبادات القديمففة ،ولنلحففظ أن (اليمففن) بضففم الياء ،يعنففي أيضًا السففعد وكان الرسففول
صلى ال عليه وسلم يقول عن نفسه :أنا رجل يمان ،بمعنى أنه رجل سعد ،بل وقال الحديث:
196
رب الزمان ودراسات أخرى
تأسيس
معلوم ،أنفه بعفد انحسفار عصفر الجليفد الخيفر ،تقاسفمت الرض حالتان طفبيعيتان ،الولى :يمكفن
تمييزهففا فففي تجمففع شراييففن المياه فففي أنهار ،بعففد اسففتقرار أوضاع القشرة الرضيففة .والثانيففة:
وضحت في تصحر مطرد أدى إلى خفوت نبض الحياة تدريجياً ،بحيث تناثرت الحياة حول عيون
الماء والبرك المتباعدة ،ومففع ذلك التصففحر المتزايففد ،وجدت الجماعففة المشاعيففة الولى – ذات
النظام المومفي – نفسفها ،إزاء متغيفر طفبيعي شحيفح بمطالب الحياة والمناففع ،ونرى أن ذلك قفد
أدى بالضرورة إلى تفكيـك بنيـه ذلك المشاع ،تبعفا للتفكيفك الذي حدث ففي الطبيعفة .بحيـث أنتهـى
إلى وحدات اجتماعيـة أصـغر ،وأكثـر قدرة على السـتمرار والديمومـة ،حيفث كان التجمفع الكفبير
يعنفي الهلك جوعفا ،والصفراع على خيرات الطبيعفة الضئيلة ،وهفو الصفراع الذي – ل شفك –
حدث ،وأدى إلى ذلك التفكيك ،ثم النتشار المتباعد للشكال القبلية الولى.
وعليفه ،فقفد وجفد النسفان نفسفه ففي البيئة المتصفحرة ،أمام خياريفن :إمفا الموت جوعفا ،أو تدجيـن
الحيوان ،ومفن هنفا حتفم الظرف على البدوي العتماد على الحيوان ومنتجاتفه ففي معاشفه ،اعتمادا
شبفه كامفل ،فكان يأكفل لحمـه ويتغذى بلبنفه ،ويلبفس مفن نسفيج صفوفه ،ومفن ذات النسفيج كان يبنفي
خيامه.
ولندرة خيرات الطبيعة الخرى ،فقد أدى ذلك المتغير إلى تغير مماثل في تطور البناء المجتمعي،
فقفد أصفبحت الجماعـة ترتبـط برابطـة الدم ،وبنففس القوة ترتبفط بحيواناتهـا وهـي معتمفد حياتهفا.
وربمفا كان ذلك هفو جذر الطوطميفة ،الذي عفبر عفن قرابفة مماثلة – وبالدم أيضاً – بيفن الحيوان
والجماعة ،كما كانت الجماعة بحاجة ماسة إلى تنظيم يضمن للجماعة بشرًا وحيوانات المان من
النفوق أو الشرود أو التيه ،ومع سعي هذه الجماعة المتجانسة وراء الكل ،وما يحتاجه من قدرات
عضليـــة ل تتوفـــر إل للذكور ،انهار وضـــع المرأة! وتحولت الجماعفففة إلى الشكفففل الذكوري،
197
رب الزمان ودراسات أخرى
خصفوصاً بعفد أن امتلك الذكور أسفاسا إنتاجيفا متينفا تمثفل ففي القدرة على السفيطرة على الحيوان
وترويضففه ،فففي وسففط صففحراوي يعتمففد القوة الغشوم ،وسففاعد على تثــبيت مركــز الذكور ،ذلك
الصراع الذي – لبد – قد شب حول مواضع الكل بين الجماعات على المعطى الطبيعي الشحيح
وحده .بينمفا فقدت المرأة قيمتهـا الجتماعيـة فـي مجتمـع الندرة ،بحيفث اقتصفرت وظيفتهفا على
إنجاب مزيــد مــن الذكور .أمففا الناث فكانففت أفواهففا تضيففف على الجماعففة عبئا ،حدثنففا التاريففخ
القريب عن حل إشكاليتها بوأدها .وحتى تضمن الجماعة المتبدية تماسكها ،ذاب الفرد في القبيلة
وذابت القبيلة كلها في الفرد ،وأصبح الفرد يمثل القبيلة بكاملها في كل تصرفاته ،وبحيث أصبحت
القـبيلة كلهـا مسـئولة عفن أعماله ،كمفا أصفبحت مطالبفة جميعهفا باللتزام بتصفرفه ،والثأر له إن
أصابه مكروه ،وذاب الكل في واحد ،هو طوطم القبيلة وسيدها وسلفها ،الذي أصبح محل التبجيل
والتقديففس ،وتحول إلى رمــز عزة قوميــة وجنســية ودينيــة ،وكان كــل فرد فــي القــبيلة يمثــل هذا
السلف ،أو هو دون مبالغة ذلك الطوطم الموحِد والموحد.
وففي شكفل مفن الديمقراطيـة البدائيـة ،التفي تضمفن بدورهفا مشاركفة الكفل وذوبان الكفل كان مجلس
القفبيلة هفو الذي يحدد شيخهـا وقائدهـا ،بصففات محددة ،وترتبفط بظروف آنيـة .فقفد يحتاج الظرف
للحكمة مرة ،وللجسارة والقدام حينا آخر ،بمعنى أن الظرف كان هو الذي يحدد مؤهلت الزعيم
المطلوب ،وحسب الحاجة ،كما يحدد أيضاً ظروف عزله وتعيين البديل الجديد المناسب .لكن من
جانفب آخفر ،تدنـت مسـتويات النتاج إلى حـد كاد يكون اعتمادًا شبـه كامـل على الطبيعـة ،ولن
علقفة النسفان بالطبيعفة هفي علقفة عمفل يؤدي إلى إنتاج اجتماعفي ،فإن الجماعفة البدويفة ظلت
بعيدة عففن هذا المعنففى الصففطلحي ،وظلت كائنففا طبيعيففا فففي حصففولها على الخيرات بالســعي
الدائب وراء الكل ،والغزو وســلب خيرات الجماعات الخرى .أو مففا تمثففل واضحففا فففي تطفلهــا
المستديم على منتوج العمل في المناطق الخصبة ،والستيلء عليه والفرار في غزوات لم تنقطع،
سفجلتها لنفا نصفوص الحضارات القديمفة ،التفي اسفتقرت على الجانفب الخفر مفن الفرز الطفبيعي،
أقصففد فففي وديان النهار ،التففي طورت قاعدة إنتاجيــة ،تبعتهففا نقلت ضروريففة على المسففتوى
الجتماعي.
وعلى مسـتوى العقائد ،فإن الطبيعـة المتصـحرة الضنينـة بأشكال الحياة وألوانهفا – تلك الشكال
واللوان التفي تتعدد تعدداً هائل ففي مناطفق الخصفب النهري – جعلت النسفان ففي بداوتفه أحادي
198
رب الزمان ودراسات أخرى
النظرة ،واحدي العتقاد والنظام ،فهففو كمففا قلنففا واحففد فففي كففل ،يتمازج بذات الوحدة مففع ســلفه
الواحـد ،الذي عادة مفا تمثله ففي أهـم حيواناتـه النافعفة ،لذلك غالبفا مفا قدس أنواع الشياة ،بالذات،
لذلك كان ذلك السف المقدس هو ربه الواحد الوحد ،وهو أفضل من أرباب القبائل الخرى ،وهو
الوطـن – حيـث ل وطـن مـع النتقال الرعوي – والملذ ومصـدر العزة وموحـد الكيان ،ول يوجفد
رب يمكفن أن يديـن بالطاعـة له سـواه ،لنفه إنمفا يمثفل مصفالح جماعتفه ووطنهفا الذي ينتقفل معهفا
أينمفا حلت أو ارتحلت (وهو البعفد الذي نجده بعد ذلك في العقائد السرائيلية المبكرة ،التفي كانت
ل تنكففر الرباب الخرى ،لكففن ل تراهففا فففي مرتبففة رب إسففرائيل) .ومففن هنففا لم يســح الظرف
بنشوء أنظمـة مركزيـة توحفد القبائل المتصفارعة ،فظلت ففي شتاتهفا ،مـع اسـتمرار الله الوطنـي
والعتزاز بالنســب إليــه بحســبانه السففلف الواحففد اللمتعدد ،ول يمكففن أن يتعدد ،لذلك كان مففن
جانفب آخفر شكـل أدلوجـة واحدة للجميـع ،لم تسـمح – لزمان طويلة بعـد ذلك – بظهور ثنائيـة
طبقية تسمح بمزيد من التطور ودعم ذلك الوضع ،الظرف ذاته الذي فرض استمرار الديمقراطية
البتدائية ومجلس القبيلة ،والزعيم الظرفي الذي لم تثبت سيادته مدة زمنية تسمح بامتلكه قدراً
يؤدي إلى ظهور تشكيلة طبقية.
هذا بينمفا على الجانفب الخفر ،وفـي مناطـق الخصـب النهريـة ،كان اسفتقرار النهار ففي مجاريهفا
بشكل نهائي ،قد استغرق زمنا غير قصير ،وسمح بوجود بيئة شبيهة بحال ما قبل انحسار الجليد
الخيــر ،مففن حيففث انتشار الحراش والمسففتنقعات ممففا فرض بالتالي اســتمرار الوضــع البتدائي
للمشاع زمنـا أطول ،ضمفن اسفتمراراً موازيفا لوضـع المرأة المتميـز ففي النظام المومفي ،بسفبب
امتلكهفا أسفاسا اقتصفاديا دعفم ذلك الوضفع (سفنأتي على شرحفه الن) ،واسفتمر ذلك النظام فترة
زمنية توازت مع المرحلة التي تغيرت فيها نظم المجتمع ،الذي تحول للبداوة في مناطق التصحر،
وانتهفت بالسفيادة الذكوريفة ،بينمفا كانفت مناطفق الخصفب لم تسفتمتع بعفد باسفتقرار الطبيعفة النهريفة
تمامفا .ولتوضيفح ذلك سفنحتاج إلى وقفات تفصفيلية – حسفب المسفاحة المتاحفة – ل بفد منهفا ،وهفي
وقفات تنتفج لزومفا عفن رؤيتنفا ،والتفي تمثلت ففي اقتراح يحفل أو يحاول حفل – مسفألة أيهمفا كان
أولً :النظام المومففي أم النظام البوي؟ فبينمففا كان (دارويففن) قففد افترض – بالمقارنففة مففع عالم
الحيوان – أن السيادة المطلقة كانت ذكرية ل شك فيها من البداية ،أكمل (آتكسون) فقال :إنه حدث
أن ثار البناء على الب المتسلط القاسي المتوحش وقتلوه وافترسوه سوية واستكمل (روبرتسون
199
رب الزمان ودراسات أخرى
سففميث) البحففث ليؤكففد أنففه قففد مرت بعففد ذلك فترة انتقاليففة ظهففر فيهففا النظام المومففي ،وانتهففى
(فرويفد) بعفد البناء على مفا سفبق ،إلى أن الوضاع قفد عادت إلى سفابق عهدهفا وسفاد الذكفر .بينمفا
كان يقفف على الجانفب الخفر اقتراح يحمفل أدلة ربمفا كانفت أقوى – كمفا عنفد (إنجلس) مثلً –
يؤكد أن البداية كانت نظاما أموميا ل شك فيه.
وكان اقتراحـي هـو رفـض السـؤال :أيهمـا كان أولً؟ مـن أسـاسه ،بحسـبانه الخطـأ الذي أدى إلى
تضارب الجتهادات ،وزعمت أنه لم يكن هناك قبل ول بعد ،ول سابق ول لحق ،حيث قد انتهى
الظرف البيئي إلى تميـز مجمتمعيـن عـن بعضهمـا رغـم تزامنهمـا ،همـا مجتمـع البداوة ومجتمـع
النهر ،أي أن الختلف كان مكانيا وليس زمانيا ،وهو الزعم الذي أضحى بحاجة إلى تأييد ،وهو
تأييد كما قلنا بحاجة إلى بعض التفصيل الوجيز.
ســيادة النثــى
لنقر مبدئيا أنه من غير المنطقي أن يوجد مجتمع كل آلهته إناث ،ويسوده بشر ذكور ،أو العكس.
ولنقرأ بعفد ذلك الترتيلة السفومرية التفي تقول" :عندمـا تزوجـت اللهات الم ...وعندمـا توزعـت
اللهات الم بيــن الســماء والرض ...وعندمــا ولدت اللهات الم ...عنــد ذلك كتــب العمــل ...
اللهات العظام يراقبـن العمـل ،والبناء يحملون السـلل" (انظفر مثلً :فوزي رشيفد ،خلق النسفان
في الملحم السومرية والبابلية ،آفاق عربية ،آيار – )1981ولنلحظ أن البيئة السومرية في جنوب
وادي الرافديفففن ،لم تكفففن قفففد تحددت فيهفففا معالم نهري دجلة والفرات تحديدًا واضحاً ،ولم تزل،
وحتى الن تختلطان في الدلتا وتنتشر بينهما الهور والحراش والمستنقعات شبه الغابية.
حقيقـة أنـي أرى فـي تلك الترتيلة حفريـة رائعـة ،نقـش فيهـا مـا حدث فـي حقـب الحياة القديمـة،
فاللهات هنا هن اللهات الم ،اللتي توزعن بعد ذلك بين الرض والسماء ،ومن الجدير بالذكر
أن أول تمثـل للم الولى الكفبرى كان فـي تربـة الرض الخصـبة ،ومفع نقلت تطوريفة اسفتغرقت
زمنفا ،تـم تمثلهـا – إلى جوار الرض – فـي كوكـب الزهرة المتللى ذي الحسفن والدلل ،وهفو مفا
تشير إليه الترتيلة بوضوح .ولك أن تلحظ أن قدسية اللهات الم قد ارتبطت بـ "عندما ولدت"
ولنتذكر أهمية (ولدت تلك فسنعود إليها) ،بينما أصبحت مهمة البناء ،وهم جمع الذكور ،العمل،
لتتفرغ الم اللهـة لدارة شئون العشيرة ،ومفن ثفم لم يكفن غريبفا أن ينادي السفومريون تلك اللهفة
200
رب الزمان ودراسات أخرى
بالنداء :مامففا mamaومامفي mamiوأماه ( amaأنظففر حول تلك التسففميات جان بوتيرو :الديانففة
عند البابليين 1970ص .)11
وتلخفص لنفا النثروبولوججيفة جبكيتفا هوكفس Jaquetta Hawkesالتجاهات البحثيفة بصفدد تأليفه
الم النثففى الولى ،فتقول :إن أقدم تماثيففل شكلهففا النسففان للعبادة ،تمثففل إناثففا ضخمففت فيهففن
العضاء المثيرة جنسففياً ،أطلقففت عليهفا هوكفس اسففم تماثيففل إفروديففت الولدة ،وتبــع ذلك عصــر
اتضحـت فيـه بعـض رسـوت تتسـم بالذكورة ،تلهـا عودة كاسـحة إلى اللهات الناث ،وذلك مفع
اكتشاف الزراعفة ففي العصفر الحجري الحديفث ،ويعود تاريفخ التماثيفل الولدة إلى حوالي خمسفة
عشر ألف عام (أي في العصر الحجري القديم) ،ولنا أن نلحظ هنا أن الجليد قد تراجع قبل ذلك
بآلف عشففر أخرى ،ممففا يشيففر إلى التحولت التففي أشرنففا لحدوثهففا فففي البيئات المتصففحرة على
المسفتويين البيئي والمجتمعفي ،مفع بقاء أوضاع المشاع ففي البيئات الخصفيبة على حالهفا ،إلى مفا
يزيد عن عشرة آلف عام.
وتؤكد هوكس أمراً منطقيا تماما ،هو أن النساء هن مكتشفات الزراعة ،إبان جمعهن للثمار في
منطقـة مسـتقرة مـع أطفالهـن ،وملحظتهـن – بالصـدفة المتكررة – لنمـو الثمار المتسـاقطة على
الرض مرة تلو الخرى ،ففي وقفت كان فيفه الرجال يخرجون للقنفص ،وعنـد عودتهـن يكون كـل
الرجال لكـل النسـاء ،فينسفب الطفال للم دون الب ،وقفد شكفل اكتشافهفا الزراعفة ،وإجادتهفا لهذا
العمفل رغم بدائيتفه النسفبية ،أساساً اقتصـاديا ساعد على تثـبيت سـيادتها (التفي حفرتها لنا الترتيلة
السفومرية) ،ثفم تلى ذلك نهايفة العصفر الحجري الحديفث ،أي منفذ حوالي خمسفة آلف سفنة تقريباً،
سـيادة الذكور النهائيـة .ولحظـت هوكـس أن ذلك اقترن بنشأة المدن المسـتقرة الكـبيرة (للمزيفد
ارجفع إلى ،)Hawkes, Pre History Newyork American Libbery, 1963, P.O.35-357 :أمفا
نحفن فقـد أجزنـا لنفسـنا – وفـق مـا بيدنـا مـن شواهـد – أن نلحـظ أن ذلك الزمـن تحديداً( ،نهايـة
العصــر الحجري الحديــث) كان بدايــة هبوط الموجات البدويــة على المناطــق الخصــيبة بالهلل
الخصـيب ،والتـي اسـتمرت نوعـا مـن الهجوم الدوري على الحدود لسـلب المحصـول بعـد جنيـة،
وانتهـت باسـتقرار السـيادة البدويـة فـي المناطـق الخصـيبة فـي شكـل غزو اسـتيطاني كامـل ،وهفي
الموجات التففي اصففطلح على تسففميتها بالهجرات السففامية ،ولعلنففا نذكففر أن البداوة كانففت السففلطة
المطلقة فيها الذكور.
201
رب الزمان ودراسات أخرى
تدعيــم رؤيتنــا
تقول ميد MEADمقولة اعتيادية تماما هي :إن النساء بفضل قدرتهن على النجاب ،ولن مسألة
الولدة كانــت فــي عينــي النســان البدائي مثيرة للدهشــة والعجــب – وربمــا النبهار المؤدي
Male and للتقديـس – فقـد أدى ذلك إلى العتقاد أن النسـاء قابضات على أسـرار الحياة (انظـر:
.)Female, New York, Morrow, 1949, pp 102-103
ونضيف إلى ميد :أن الولدة في مجتمع أمومي ،يأتي فيه أي ذكر أي أنثى ،كانت ل تعطي للذكر
فرصـة لملحظـة أثره ودوره فـي عمليـة النجاب ،إضاففة إلى الفترة الطويلة الفاصفلة بيفن الحمفل
والولدة ،والتفي كان يمكفن أن تخففى عفن عيفن البدائي غيفر المدققفة ،للعلقفة بيفن المريفن ،كمفا أن
معيشففة الولد والبنات سففوية حينذاك دون عائق قبففل المراهقففة ،ومعرفتهففم الجماع الذي ل تنتففج
عنففه ولدة ،أدى بدوره لعدم الربففط بيففن الجماع والولدة ،وعدم إعطاء الذكــر دورا فــي عمليــة
الميلد .بفل أن هناك مفن يعتقدون اليوم – ففي بعفض المجتمعات المتخلففة – أنفه يمكـن للمرأة أن
تحمل دون رجل يأتيها ،بل وتدخل تلك الفكرة ضمن معتقدات كبرى ،لذلك كان طبيعيا أن يتصور
النسفان ففي المبتدا أن النثـى وحدهـا هـي الكائن المسـئول عـن منـح الحياة ،والقادر الوحيفد على
ذلك ،بحيففث أصففبح إعطاء الوجود حياة جديدة اختصففاصا أنثويففا بحتففا ،وقــد دعــم تلك الرؤيــة
اكتشاف النثــى للزراعــة ،حيففث كانففت الزراعففة إنجابففا للحياة وامتلكففا لسففرارها ،لذلك لم يكففن
غريباً أن تكون أول التماثيل المعبودة للهات إناث ولدات.
وإعمال لذلك نرى أنفه قفد تبفع اكتشاف الزراعفة ،اسفتقرار دائم انتظارًا لنضـج المحصـول (وهـو
يشابـه انتظار نضـج الجنيـن) ،وتبعفه بالضرورة دعـم لوضـع المرأة السـيادي ،لكفن ذلك السفاس
النتاجففي ذاتففه اســتبطن فــي داخله النهيار المقبــل لوضــع المرأة ،والمتغيففر التففي الذي فرضففه
التوسع في قطع الغابات مع التحقيل وإحلل الزرع محلها ،وما يحتاجه مثل ذلك العمل الجبار من
قوى عضلية ،وما يحتاجه من حيوانات قوية مدجنة لجر الشجار المقطوعة ،وللعمل في حراثة
الحقففل وحمففل المحصففول ،وهففو مففا اقترن بالضرورة ،بســيادة تدريجيــة للذكور أدت إلى تبادل
المواقـع السفيادية ،وقفد حدث ذلك ففي الوقفت الذي سفجل لنفا فيفه التاريفخ أن الجموع المتبديفة ذات
202
رب الزمان ودراسات أخرى
النظام الذكري ،قفد هبطـت بقطعان مواشيهفا القويفة إلى أراضفي الخصفب ،فيمفا يعرف بالهجرات
السامية.
والملحوظففة الجديرة بالهتمام هنففا ،هففي أنففه بعــد هبوط الهجرات الســامية على الهلل الخصففيب
(وهفو نموذجنفا هنفا) ،ومفا تل ذلك مفن قيام الدول المركزيـة (وهفو مفا سفنأتي على شرحفه) ،نجفد
استمرار تواجد اللهات الناث في حضارات الشرق الدنى القديم ،إلى جوار آلهة الدولة الحاكمة
الذكور ،ثم أن التماثيل التي تركتها لنا فنون تلك الحضارات تصور لنا اللهة النثى تحمل بيدها
حزمة من الحنطة ،أو تقف في حقل حنطة ،أو تصور على ثوبها سنابل الحنطة ،هذا بالتبادل مع
النخلة في رسوم أخرى ،وإن كانت أقل انتشارا ،وهو ما يشير بالحسبان أنه بمرور الوقت ،ومع
النظام الجتماعي الذكري ،ومع الستقرار ،بدأ الذكر يلحظ دوره في علمية النجاب ،كما لحظ
التشابـه الواضـح بيـن حبـة الحنطـة المفلوقـة وبيفن فرج النثفى المفلوق ،وأن كل الفرجيـن ينفلق
عفن ميلد وحياة جديدة بعفد ري الحبفة بالماء وري الفرج بمنفي الذكفر ،فربـط بيـن المنـي والماء
واعتفبر المنفي ماء الحياة المذكفر (أوزيريفس النيفل ففي مصفر ،بعفل المطفر ففي الشام ،أبسفو وآنكفي
ألهي الماء في الرافدين ....الخ) كما ربط بين الحنطة والمرأة ،ناهيك عن رصيدها في اكتشاف
تدجيفن الحنطـة تحديدا ،والتفي تحمفل التشابفه مفع الفرج النثوي ،هذا مفع مفا حمله التشابفه مفع نواة
التمـر الذي انتهفى بتقديفس التمفر بدوره ،وبحيفث حملت النخلة قدسفية المرأة وأصفبحت رمزاً دال
عليهفا ففي العبادات وففي الحوارات الجنسفية ،واحتسفب التمفر دواءء شافيفا يحمفل كثيفر مفن البركات
حتــى اليوم،خصــوصاً إذا خلط باللبــن (وهــو رمــز المنــي الذكري؟!) ول ننسففى أن مريففم أتاهففا
المخاض عند جذع النخلة والتفاعل معها بهزها.
أمففا الكلمففة (تمففر) فالواضففح لدينففا أنهففا الصففل والجذر فففي الكلمففة الدالة على الزرع على وجففه
التعميفم ،أقصفد كملة (ثمفر) .وتأسفيسا على تلك التجربفة والملحظات ،بنفى النسفان تصفوراته عفن
التكويـن والوجود ،فربـط التكويـن بدم الحيـض الشهري ،بعـد أن لحـظ غياب الدم مـع بدء الحمـل
المؤدى في النهاية إلى ظهور الحياة في المولود ،فربط الدم بالحياة ،وتصور أن ذلك الدم المنجس
داخفل الرحفم هفو الذي يكونّف الوليفد المقبفل ،وقفد ربفط ذلك بملحظفة أخرى هـي الموت المحتوم
الذي يصــيب النســان المجروح عندمففا ينزف دمففه ،ذلك الدم الذي أصففبح على وجففه العموم سففر
203
رب الزمان ودراسات أخرى
التكويفن وسفر الحياة ،وبقفى ففي الذكرى ،حتفى ففي مجتمفع السفادة الذكور ،بحسفبانه منحفة النثفى
اللهة الولى.
هذا وقفد لحفظ بعفض الباحثيفن (مثفل فرويفد) ارتباط النثــى بالقمـر ،والذي كان عادة ينقفش إلى
جوارهفا ففي حالة الهلل ،فاحتسفبوا أن النسفان القديفم رمفز للنثفى بالقمفر ،وأن القمـر هـو الله
المؤنث ،لكنا ذهبنا إلى اتجاه معاكس تماما ،فقد افترضنا أن هذا القتران بين النثى والقمر إنما
نتـج عـن تناغـم إيقاعات الدورة الشهريـة للمرأة مفع التبدلت التفي تطرأ على وجفه القمفر خلل
الشهفر القمري ،الذي نضبفط إلى حفد مدهفش مفع الحدى وعشريـن يومـا للدورة الحيضيفة ،وأن
غيابه يترافق مع نزول دم الحيض ،ويربط تلك الظاهرة بظاهرة نزول دم الكبارة عند أول جماع
للفتاة البكـر ،انتهـى بتصـور أن القمـر هـو الزوج الحقيقـي أو الغائب للمرأة ،بخاصـة مـع حدوث
حالت حمــل مــع غياب الذكــر فترة طويلة للصــيد أو وفــي ظروف طارئة ،والقمففر قففد اقترن مففن
جانففب آخففر بحيوانات الرعففي عمومففا (الشياة) ،لشبففه الهلل بقرنففي الخروف أو الثور ،وهــي
الحيوانات التــي شكلت الســاس القتصــادي الذي أدى إلى امتلك الذكور قاعدة إنتاجيــة دعمففت
وضعهفم السفيادي ،والذيفن مالوا عمومفا منفذ البداوة إلى الترميفز للهلل بالخروف ،والذي عادة مفا
رمز بدوره للسلف الب الذي في السماء.
وتأسيسا على ذلك احتسبت أولى نظريات التكوين أن بداية الخلق جميعا من النثى الولدة ،التي
تمثلت ففي قوة أنثويفة تلد كفل شيفء مفن الزرع إلى البشفر ،وأدمجفت كقوة خلق كفبرى ففي جميفع
الناث بشراً وحيوانات وأرضا ولوداً ،وتمثلت المادة الولى للتكوين في دم النثى تحديداً.
ومفن الطريفف أنفه بالقرب مفن موطنفي :مدينفة (الواسفطى) وعلى الطريفق إلى (الفيوم) ،ظهرت
كرامفة زراعيفة رائعفة الدللة ،تشيفر إلى بقاء المأثور القديفم ففي الوجدان الشعفبي بقوة .فمنفذ زمفن
غيفر بعيفد (حوالي 7سفنوات) انتشرت اسفطورة تقول أن رجلً أراد قطفع شجرة الجميفز القابعفة
على الطريفق الرئيسفي ،ومفع أول ضربفة بالفأس (وهفو رمفز ذكري دائم لنفه يشفق رحفم الرض)
صففرخت الشجرة ونزفففت مكان الضربففة دم غزيففر ،وفففي تلك اللحظففة تحديداً ،وكانففت فففي الثلث
الولى مفن الليل ،وعندمفا سفمع أهفل القريفة جميعا دوي الصفرخة الملتاعة ،نزففت كفل امرأة كانفت
في حالة جماع مع زوجها ،ومن ثم اختار الهلون للشجرة اسماً ل جدال في دللته ،وهو (الشيخة
204
رب الزمان ودراسات أخرى
خضرة)؟! ووضعوا بجوارهففا صففندوقا كتففب عليففه :تــبرعوا لبناء مســجد الشيخــة خضرة؟!،
والغريفب أنفك عندمفا تقترب مفن الشجرة – التفي أخذت المئذنفة تتعالي مفن خلفهفا – لتطالع المادة
الصففمغية التففي جفففت قطراتهففا على السففاق المقطوع ،سففتجد أهففل القريففة قففد علقوا على الفروع
أشرطة من نسيج أخضر ،وعلقوا على الجذع قرني خروف؟! ،أما الهلل السيادي فقد تم الهتمام
بوضعه فوق المئذنة ،حتى قبل إتمام بقية المسجد.
النثـــى والرض
ويمكننفا أن نرى ارتباط النثفى الولود بالرض ،متمثل بروعفة أخاذة ففي أسفطورة سفومرية تحمفل
اسفم (أسفطورة الشعيفر والنعجفة) ،ولنلحـظ بدايـة الشعيـر (وهـو الحنطـة رمـز الخصـوبة الرضيـة،
وأول ما دجنت المرأة من زروع ،كما أن النعجة هي رمز النثى الشهر) ،وتتلخص السطورة
فففي القول :عففن البشففر الوائل قففد خرجوا مففن تربففة الرض كمففا يخرج الزرع والحشيففش وكففل
صنوف الحياة.
ويمكنففك أن تجففد ذات الفهففم فففي أسففطورة سففومرية أخرى تحمففل عنوان (هبوط إينانــا إلى العالم
السففلي) ،وقفد وضعفت – فيمفا يبدو – لتفسفير ظاهرة التناوب الفصفلي بيفن الخصفب والجدب ،كمفا
تلخفص المفاهيفم الولى عفن الوجود والتكويفن ،وتقول :إن إلهفة كوكفب الزهرة إينانفا ،كانفت تهبفط
إلى باطففن الرض دوريففا كففل عام حيففث عالم الموتففى ،وبتضحيففة اختياريففة تتففم وقففت العتدال
الخريفففي ،حيففث يبدأ فصففل الجدب على سففطح الرض بغيابهففا ،وهففي النثففى الم الولدة مانحففة
الحياة ،ثفم تعود مفع العتدال الربيعفي إلى سفطح الرض ومفع عودتهفا تخصفب الرض وتتفتففح
الزاهيفر ،لن عودتهفا تعنفي بدأ عمليفة الخصفاب والتوالد "فيعود الخروف إلى شاتفه ،والثور إلى
أنثاه ،والزوج الغاضب إلى بيته" أو كما قالت!! لذلك لم يكن غريبا – مع طرحنا – أن يتم تعديل
تلك السفففطورة السفففومرية الزراعيفففة ،بعفففد سفففيطرة الكادييفففن على بلد سفففومر وقيام دولتهفففم
المركزيفة ،وهفم مفن أصفل رعوي بدوي خيموي ،ليتحول اسفم إينانفا إلى عشتار وعشتروت مفن
العشرة والمعاشرة والتعشيفر ،لكنهفا ل تصفبح السفيدة المطلقفة المسفئولة عفن الخصفب ،إنمـا يظهـر
هنـا سـيد جديـد كان ففي السفاطير السفومرية مجرد ذكفر خامفل الذكفر ،ضمفن مجموعفة عشاقهفا
العديدين( ،ترميزا لزمن النثى في المشاع) ،ليرتفع ذلك الذكر وتعلو مكانته ويصبح هو المسئول
205
رب الزمان ودراسات أخرى
عفن الخصفب ومنفح الحياة واسفتمرار الحياة ،وهفو المعروف ففي السفاطير الرافديفة باسفم (تموز
راعفي الخراف الطيفب) ،ويصـبح هـو رمـز النبات الذي يموت ففي فصفل الجدب وينزل إلى العالم
السفلي ،ويعود مع بداية الربيع ،دون أي ارتباط بواقع الخصب اللهم إل الرتباط بمنطق السيادة
التفي حققهفا الذكور الكاديون ،منطفق نظام اجتماعفي يأخفذ بالسفيادة البويفة ففي نظمفه الجتماعيفة
(وهناك أمثلة عديدة يمكن للقارئ الرجوع إليها في أعمالنا المنشورة) (.)1
ولنلحظ استمرار التواجد النثوي في العبادة حتى الن في العقيدة المسيحية ،حيث تعتبر مريم أم
الله المسيح من أبيه
أما اللغة فكانت كعادتها تحمل دللت أحفورية حملت الخبرة القديمة وما تأسس عليها من مفاهيم،
تقولبفت ففي ألفاظ تحمفل دللت تلك المفاهيفم ،فالكلمفة قديسفة هفي ففي العبريفة قديشفا ،وكانفت ففي
الكاديففة القديمففة قاديشتففو ،وكان أبانهففا اللقففب الذي تحوزه العشتاريففة ،أي المصففطفاه مففن جموع
النسفاء الحاشدة ليلة الحففل النزوي خارج معبفد عشتار ،لتقوم بدور اللهفة داخفل هيكفل اللهفة مفع
الكاهففن الكففبر الذي عادة مففا كان الملك يقوم بدوره (أنظففر كمثال فاضففل عبففد الواحففد ،عشتار
ومأسفاة تموز ،بغداد ،صفف ،158كذلك بالمرجفع السفابق صفف ،)70أمفا التفي كان أهلهفا مفن النبلء
يقدمونهففا طائعففة للهيكففل ،فكانففت تحوز لقففب اللهففة الم ذاتهففا وهففو (البتول) وهففو فففي الكنعانيففة
والكاديفة والعبريفة (بتول ،بتولتفا ،بتول) ويعنفي ففي العقائد القديمفة (إشارة لللهفة) النثفى غيفر
المتزوجة وغير العفيفة في آن معا.
206
رب الزمان ودراسات أخرى
أمفا خلق الكون برمتفه فقفد اعتمفد خطفأ آخفر ،تفم فيفه وصفم النثفى بصففة الشفر ،حيفث احتسفبت الم
اللهففة العظمففى (نيامففة) إلهففة شريرة ،أزعجففت اللهففة الذكور فقام إله الدولة الذكريففة (مردوخ)
بمنازلتها وهزيمتها ،وهو تعبير واضح عن انتصار النظام الجديد ،ثم قام مردوخ بشق تيامة كما
تشفق الصفدفة إلى قسفمين ،رففع القسفم العلوي وجعله سفماء ،وترك النصفف السففلي ليصفبح أرضفا،
وففي تلك التنظيرة نجفد اعتراففا ضمنيفا بضرورة النثفى للتكويفن ،فمفن جسفد اللهفة الكفبرى تفم
تشكيل الكون سماء وأرضا.
ولن الجديفد اسفتبطن القديفم ،ولم يكفن ممكنفا التخلص نهائيفا مفن دور النثـى فـي البناء المعرفـي،
القائم على فرز مادي تاريخي عريق ،فقد حملت النثى في ظل السيادة الذكرية قيمة ثنائية ،فهي
ففي لغفة البداوة السفامية (ففي العبريفة مثل) حواء ،لكفن الكلمفة حفرت ففي تركيبتهفا ومفهومهفا جذر
الحياة ،وفي الوقت نفسه حملت الوجه الخر الجديد فارتبطت حواء بالحية مصدر الذى والشر،
ولنلحفظ الرتباط الجذري بيفن :حواء ،حياة ،حيـة ،حيـا أي (فرج) والمرجفح ففي ربطهفا بالحيفة
ملحظفة البشفر للحيفة تنسفلخ مفن جلودهفا كفل عام ،فتصـوروا أن الحيـة خالدة تجدد حياتهفا بهذا
السلوب كل عام ،فربطوها بالنثى حواء مصدر الحياة المتجددة ،ومع ذلك فإن الحية في المأثور
التوراتفي الشهفر ،وهفو قمفة وتطور وخلصفة المأثور البدوي الذكري ،ترتبـط بالمرأة لكـن فـي
صــيغة تبخيســية ،فهفي توعـز لحواء بأكـل الثمرة المحرمـة ففي عالم الخلد ،فيفقفد الرجفل الخلود
207
رب الزمان ودراسات أخرى
بسببها ،وتتحول المرأة عن منح الحياة إلى سلب الحياة ،وفقدان الخلود ،وعليها يجب أن يقع هذا
الوزر إلى البد.
أما على مستوى القاعدة الجتماعية ،والشكل السياسي ،وارتباطهما بالمنظومة المعرفية ،في ظل
السيطرة الذكرية ،فقط ارتبط جميعه بخطوات تطورية سريعة تلحقت بعد الغزو البدوي السامي
للرافديفن ،فإن المشتركات الولى ظلت تتمتفع ببقايفا الديمقراطيفة البدائيفة البدويفة ،وبمجلس القفبيلة
الذي أصبح مجلس المشترك الذي يختار الزعيم ،لكن مع الستقرار في البيئة النهرية ،والتحول
إلى الفلحـة ،ومـا يفرضـه النهـر مـن تلحـم القوى البشريـة للسـيطرة على مجاري المياه الهائلة
وتوزيعها ،فإن ذلك فرض نوعا من الطوارئ المستمرة ،التي أدت إلى استمرار مماثل في سلطة
الزعيم ،بحيث انتهى المر مع بقائه ببقاء الطوارئ إلى تسليمه كل ألويه وشارات القبائل المتبدية،
ليتحول الشكل السياسي إلى المركزية الصارمة ،وإلى توارث الزعامة في بيت الزعيم الملك ،بعد
دمفج المشتركات القليميفة ففي الدولة المركزيفة ،بعفد صفراع مزمفن بيفن تلك المشتركات ،وهـو ذات
المـر الذي حدث فـي عالم السـماء ،حيفث تقول ملحمفة الينومفا أيليفش أن مجمفع اللهفة الخمسفين
(ولشفك أنفه يقابفل مجلس القفبيلة الرضفي ،أو مجموعفة القاليفم) قفد سفلم سفلطاته للله مردوك،
وأنهففم قففد اجتمعوا فففي السففماء ومنحوه قدرة تغييففر كففل شيففء ،وخلق أي شيففء ،بمجرد النطففق
بالكلمفة ،تعفبيرا عفن السفلطان المطلق الذي أصفبح يتمتفع بفه الملك الرضفي ،وبعفد أن أصفبحت
كلمته نافذة ل تقبل الرجاء ،حيث تقول الملحمة" :واجتمع اللهة الخمسون ،في أبشوكينو فرحين،
وسلموا مردوك شاراتهم ،وقالوا :من مثلك ملك ،مر قطعة القماش الممزقة تلتئم ،مرها ثانية تعود
سيرتها الولى".
لكفن الواضفح ففي كفل السفاطير الرافديفة القديمفة ،أن تلك القدرة كانفت بالقوة ل بالفعفل ،فهـي قدرة
مرجأة حيث كان الخلق يتم دوما بالفعل اليدوي ،بل ويظهر في التوراة التي أقرت الخلق بالكلمة،
لكن في كل مرة كان الرب يصنع مخلوقاته بيديه صنعا ،مما يشير إلى أن المر قد تمت صياغته
فقفط لتفبرير إطلقيفة الكلمفة السفيادية على الرض (راجفع الصفحاحات الولى ففي سففر التكويفن
التوراتي).
208
رب الزمان ودراسات أخرى
حــريم وحــرام
عندمففا نعتاد المففر يتحول إلى بدهيففة ،ول نلتفففت إلى تناقضففه وهشاشففة أسففسه ،وبمرور الوقففت
يصبح من أشد المور اختلفا بين الناس ،بين من يدقق ويرفض منطق العتياد ،وبين من أعتاده
حتى أعتقد أنه بدهية.
ومن المعتاد – لكنه بالفعل ليس بدهيا – أن هناك متسلطا وهناك مقهوراً ،وأن للمستغلين مصالح
تسففتدعي تزييففف وعففي المضطهديففن (بفتففح الطاء) ،ويشهففد التاريففخ أن أشففد الدوات مضاء بهذا
السفبيل هفي الدوات اليمانيفة ،التفي تلعفب على الوجدان العاطففي للمتديفن ،ومفن ثفم تراهفم ينفقون
بسفخاء وذكاء ،على وسفطائهم المحترفيفن مفن كهنفة ورجال ديفن ،ينشرونهفم ففي كفل مكان ،يبثون
الصففبر ،وينفثون السففلوان ،مبشريففن بجزاء أيوب ،يتتبعون أي تحرك واع ضففد تزييففف وعففي
الناس ،ينقضون على كل رأي أو سلوك أو حتى كلمة أو فكرة ،فربما ثقبت الكلمة الجدار السميك
للجهل المنشور ،الذي يمنع المضطهد من الوعي بحاله وبوضعه في المجتمع.
ولن تطور المجتمففع البشري لم يصففل بعففد إلى الوضففع النسففاني اللئق بكرامففة النسففان ،فإن
الظرف الجتماعفي الحالي لزال يسفوغ القسفمة الطبقيفة الصفارخة بيفن الناس ،طبقات ،طوائف،
أجناس ،دائمًا هناك القوى والضعف ،المفترس والفريسة ،القاهر والمقهور.
وربما أبرز نماذج تلك القسمة الل إنسانية ،وتشل وصمة عار كبرى في تاريخ البشرية ،ذلك الذي
حدث منفذ أسفتولى الذكفر على مقدرات المجتمفع البشري ،وأزاح النثفى مفن البؤرة إلى الهامفش،
ليصفوغ مجتمعفا ذكوريفا أسفس لبشفع أنواع التفرقفة العنصفرية داخفل الجنفس الواحفد ،ففرق بيفن
طرفي حيات ل تكتمل الحياة دون التقائهما جنسا وجسدا وروحا وتكامل إنسانيا.
والتاريفخ يؤكفد أن الشرق كان هفو المؤسفس لذلك التقسفيم العنصفري الطبقفي ففي آن معفا ،ولم يزل،
ومن يومها تتعزى المرأة الشرقية بالصبر والسلوان الفقهي ،وتبلسم جراحها بخطابات منبريفففففة،
* ماضرة ألقاها الباحث بدعوة من اتاد النساء التقدمي بقر حزب التجمع ف ،22/12/1993ونشرتا ملة أدب ونقد.
209
رب الزمان ودراسات أخرى
(من صـ 225- 219ف الكتاب الصلي"رب الزمان ودراسات أخرى" ،طبعة مدبول الصغي)1996،
تؤكفد لهفا أنهفا ففي مكان التكريفم بيفن نسفاء العالميفن ،تتعزى صفبرا ففي عالم الرض ،وصفبرا ففي
عالم السفماوات ،ففي الدنيفا وففي الخرة .وإن أحسفنت أيمانهفا وأحصفنت فرجهفا وأمتعفت زوجهفا
وسيدها ،دخلت يوم الدينونة ضمن حريم السيد المؤمن الذكر في جنة رضوان ،ذلك الحريم الذي
تبدأ أعداده من السبعين لتصل إلى المليين في بعض الحاديث المنسوبة للنبي.
وإيمانهففا الذي سففيعطيها تلك المنحففة الخالدة ل يحسففن إل بالطاعففة الكاملة للرجففل والخضوع له
والتسليم الكامل لسيادته الغشوم في دنيانا الفانية ،حتى تضمفن لها مكانا كغانية ضمن حريمة في
الخرة أيضاً.
والدارس للمرأة فـي منظومـة المأثور العربفي ،يجفد ذلك المأثور يميفز جنسفيا وخلقيفا بيفن الذكفر
والنثى ،فهو المخلوق الول ،وهي الثاني ،بل هي منه قطعة ،هو المخلوق لذاته ،وهي المخلوقة
له ومفن أجله ،ويلحفظ أن ذلك الختلف العضوي بيفن الذكفر والنثفى ،قفد تحول ففي مأثورنفا مفن
تكامففل ضروري لصففنع الحياة ،إلى امتياز خاص للرجففل ،مأثورنففا يعيففد وضففع المرأة إلى زمففن
حواء السففطوري ،زمففن الخطيئة الولى ،ويمركففز الشففر كله حولهففا ،فهففي شيطان غوايففة لنهففا
رفيقة إبليس (!) المرأة ل تتحكم بشهوتها ،ول تكون مع رجل إل وكان الشيطان ثالثهما ،ويتأصل
سفوء الظفن بهفا ففي ل وعفي الجماعفة على أسفس مفن اليمان لنهفا هفي التفي أغوت أدم ،حتفى
قصفص النفبياء تخبرنفا أن نسفاء النفبياء قفد وقعفت ففي الخطيئة ...امرأة لوط ،امرأة نوح ،ففي
التوراة سفارة امرأة إبراهيفم ،هاروت وماروت أغوتهمفا امرأة! ولدا آدم تقاتل على امرأة ،فالمرأة
تخضع للشهوة ل للعقل ،ميولها للخيانة طبيعية ومن الطبيعي أن تخون فهي أحد أربعة ل أمان لها
(مفع المال والسفلطان والدهفر) ففي الحديفث (ولو طالت عشرتهفا) .كفل هذا دون أن نلتففت لحظفة
لفظاعة وضعها المجتمعي ،ول لكم الخيانة الذكورية للمرأة ،وللتاريخ كله.
وهكذا يؤسس موروثنا لتبخيس المرأة ،فقد خلقت من ضلع أعوج ،وناقصة عقل ودين ،وشهادتها
نصف شهادة الرجل ،وميراثها نصف ميراث الرجل ،وليس لها من الطلق شيء" ،ولو كنت آمر
أحد أن يسجد لغير ال لمرت المرأة أن تسجد لزوجها" والكهنة رسل الشيطان والنساء مصايده،
شلّ مسفتمر لشخصفيتها ،وإضعاف دائم لفاعليتهفا ،ودففع دائم لهفا لتكون على الصفورة التفي يريدهفا
الرجل ،ليسقط عليها عدم براءته وشهوانتيه ونقائصه ،لتصبح مجرد جسد ،غير مطلوب منها أن
210
رب الزمان ودراسات أخرى
تفكفر فهناك مفن يفكفر بالنيابفة عنهفا .مطلوب منهفا فقفط أن تعطيفه الراحفة والمتعفة! أن تكون مجرد
متاع! ويترسفخ المأثور داخلهفا هفي حتفى تؤمفن هفي ذاتهفا أنهفا مجرد فرج (؟!) وأنهفا لذلك حرمفة
وحرام ،فتفرض المأثور على ذاتهفا ففي شكفل وسفواس قهري داخلي ،يضفع بينهفا وبيفن عالمهفا كفل
التحريمات حتفى الصفوت الذي هفو عورة ،لتحصفل بذلك على رضفا الزوج الذي هفو رضفا الرب،
وتكتسففب رضففا الجماعففة واحترامهففا ،بحيففث تتعايففش مففع الضغوط وألوان العقاب والحتقار،
المفترض احترامفا ،وتصفبح أكثفر أعضاء السفرة والمجتمفع تحمل للضطهاد ،فقفط لتعيفش ففي
وسط يترصدها ويعد عليها سكناتها ،ومن ثم يصبح وضعها هذا في المجتمع طبيعيا تماما ،معتادا
تماما ،بدهيا تماما ،ل نلتفت إليه ،ول نفكر فيه ،إل عندما نصادف امرأة وعت الزمة ،فتكسر في
وجوهنفا عدم براءتنفا بسفلوك جديفد ورأي جديفد ومنطفق جديفد يخيفنفا ويرعبنفا ،هنفا فقفد لن نفكفر إل
ففي هذا النفلت وكيفف نحجمفه ونعاقبفه ،حتفى ل تأخفذ لحريتهفا مسفاحة مفن حريتنفا ،حتفى نظفل
السادة ،وحتى نجد دوما من نحمله أمراضنا الداخلية ،ومن نحمله أيضا أوزارنا – دون أن نناقش
ذلك الفرض الذي فرضه مأثور ،هو الذي فرز لمرحلة تاريخية طال أمدها ،ودون أن نناقش مدى
صدق الفرض ومدى اتساقه مع إنسانيتنا وما ندعيه من رقي بشري ،ونظل نطلب المرأة النموذج،
التفي تظهفر الخجفل عندمفا تحادث الرجفل ،التفي تكبفت ميولهفا الطبيعيفة ول تتذكفر سفوى كونهفا
عورة ،التفي تعرف عفن يقيفن أنهفا حرم ....حرم فلن ....فهفي حرام ،بفل الحرام ذاتفه ،حرمفة،
مقدس ل يجوز لمسه ،وهي أيضًا وفي ذات الوقت منجسة لن طبيعتها النجس ،والفعل الجنسي،
معهفا يؤدي للنجفس ،لبفد أن يغتسفل جسفد الرجفل جميعفا لرففع أي أثفر لتلك الملمسفة والممارسفة،
كذلك دم الحيفض يغطيهفا بالنجفس ،لذلك ترففع عتهفا أثناء ذلك كفل التكاليفف ،ل تصفلي ،ل تصفوم،
كذلك طول فترة النفاس وهفو المفر الذي له أصفوله ففي السفطورة وففي القديفم الذي أسفس لمعنفى
الحرام والحريم ،وهو ما ينقلنا عن تلك الصورة التي قعّدها لها المأثور ،إلى محاولة قراءة نماذج
سريعة لواقع المجتمع منذ ما قبل التاريخ ،وهو يتحول بالمرأة من مركز السيادة إلى الحضيض،
طبقيا وجنسيا وإنسانيا.
211
رب الزمان ودراسات أخرى
وهكذا فالنص يجعل امرأة تأنيث إمرء وليس العكس ،ليظل الرجل أول ،فهي تابعه له في الخلق،
وتابفع ففي المسفمي ،لكفن بالتوراة نفسفها نفص آخفر يعيفن تسفميتها لشأن آخفر فلنهفا مصفدر الحياة
وفاتحفة المواليفد ،يقول النفص" :دعفا آدم اسفم امرأتفه حواء ،لنهفا أم كفل حفي /تكويفن ."3/2وكل
التسفميتين (امرأة) مفن ضلع امرء ،و(حواء) أم كفل حفي ،وففي الصفل العفبري (تلك التفي تحيفي)
يشكلن في يد الباحث مفاتيح تضيء له ذلك القديم ،ليكتشف أصل وضع المرأة في المجتمع.
عنفد قراءة السفطورة بحثفا عفن السفم (امرأة) لن نجفد أبدا أنهفا كانفت تابعفة لفف (امرء) ،بفل العكفس
تمامفا ،فالميفم للمومفة ول تجفد ففي اللهات الكفبرى القديمفة اسفما يخلو مفن ميفم المومفة ،فأصفل
الكون البابلي (مى) ،والم اللهة الكبرى بالسماء الثلثة المتواترة حتى الن (ما) (أماه) (ماما)،
وكل إلهات الخصب في حوض المتوسط يحملن السم (ميرها ،ميريا ،ميريام ،مريم ،ستلماريا)،
والميرة هي الزاد ،هي مانحة الطعام والحياة ،وهو ما يلقي الضوء عليها كمكتشفة أولى للزراعة،
وميرها هي شجرة المر المقدس أيضا التي أنجبت اللهة الذكور البناء.
أمفا الكلمتان :أنثفى وحواء ،فتضيؤهمفا لنفا قصفص الخلق الولى ففي الملحفم السفومرية والبابليفة،
حيفث تحكفي عفن مكان خاص كانفت تعيفش فيفه اللهفة الخالدة يدعفى (دلمون) (البحريفن الحاليفة)،
وهفو مفا يناظفر (أولمفب اليونان) .وهناك جاء إلى الوجود إله باسفم (جفي) ممثل لبدايفة البشريفة
على الرض ،رعيل أول يجمع اللهوت مع الناسوت ،أو اللوهية مع النسانية .واسمه ملصق
من مقطعين يشيران إلى كونه أول سكان الرض فهو من (آن – سيد أو رب) و(جي – الرض)
وتحكي لنا السطورة أن الم اللهة الكبرى (مما ممهور ساج) أو (ننهور ساج) هي التي ولدته،
212
رب الزمان ودراسات أخرى
وأنها حرمت عليه ثمار بعينها في دلمون حرصا على حياته ،فعصاها بجهله وحبه المعرفي وأكل
منها ،فأصيب بمرض شديد في واحد من أضلعه كاد يقضي عليه.
وهنفا أسفرعت الم اللهفة فخلقفت له إلهفة أنثفى مهمتهفا تمريفض ذلك الضلع وعلج النسفان الول
(آنجي) ،وكان اسمها (آنتي) ،والسم (آن تي) من ملصقين (آن = سيدة أو ربة) ( +تي) ،و(تي)
عندمفا تكون اسفما تعنفي الضلع فيكون المعنفى سفيدة الضلع ،لكفن تفي عندمفا تكون فعل تعنفي تحيفي
أي تلك السفيدة التفي تحيفي أي هفي أحيفت آنجفي بعدمفا أشرف على الموت ،وهفو مفا يلقفي الضوء
على معنفى كلمفة حواء ففي التوراة العبريفة (تلك التفي تحيفي) والعربيفة (أم كفل حفي) ،كمفا يلقفي
الضوء على أصل السطورة التي حورت أو فهمت خطأ فيما نقله المأثور التوراتي عن الرافدي،
لتكون حواء أو (إنتفي) مخلوقفة مفن ضلع آدم ،كمفا تبهرنفا دراسفة تلك الصفول عندمفا نعلم ببسفاطة
أن (آن تفي) هفو أصفل كلمفة أنثفى (نتايفه) ببسفاطه ،والنثفى والنتايفة ففي الجذر تشترك أيضفا مفع
النتوء والظهور.
ويبدو لنفا أن السفبب ففي ذلك حسفب قوانيفن الحراك التاريخفي ،هفو امتلكهفا أسفاسا اقتصفاديا ،دعفم
تلك السفيادة .وهفو مفا نلمحفه ففي تصفور لشكفل ذلك المجتمفع البتدائي ،حيفث كان المجتمفع صفيادا،
يخرج فيفه الذكور للصفيد القنفص ،بينمفا كانفت رعايفة الصفغار تسفتدعي اسفتقرار المرأة بجوارهفم،
فكانففت هففي بدايففة السففتقرار فففي المكان ،الذي أدى بعففد ذلك إلى نشوء المشتركات ثففم القرويففة
فالمدنية.
وكان اسففتقرارها هذا دافعففا لهففا لكتشاف الزراعففة ،وهففي تلحففظ سففقوط الثمار على الرض ،ثففم
عودتها للنبات فكان أن حاولت تقليد الطبيعة ،فاستنبتت الثمار ،فأسست لنفسها بذلك الكشف أول
أساس اقتصادي متين لسيادتها .وهو المر الذي كان لبد أن يضيف لنبهار الرجل بقدرتها على
213
رب الزمان ودراسات أخرى
الولدة ابهارا آخففر بأنهففا تمكنففت مففن جعففل الرض تلد بدورهففا ،ممففا أضاف لقدراتهففا السففحرية
(اقتصادية أصل) رصيدا آخر ،وربما كانت أيضا هي مكتشفة الفخار ،بالنظر إلى شكل الوعية
التفي عثر عليهفا بجوار اللهات الناث القديمفة وهي ما كانت تمثل دوما ثديا أو فرجا أو فخذا إذا
اسفتطالت ،كمفا كانفت مكتشففة الخمفر ،بتخمفر الطعام الزائد ففي أوانيهفا ،وهفو مفا فاجفأ الذكور عنفد
العودة مفن القنفص بمزيفد مفن السفحر ،يضفونفة على المرأة السفيدة اللهفة بعفد مفا دارت الرءوس
بسحرها الجديد.
وهي أيضا مكتشفة النسيج ،بما توفر لها من وقت واستقرار للملحظة والكشف والتجربة والخطأ
والمحاولة ،حتى النجاح الذي أضاف لساسها النتاجي مزيدا ورصيدا .لكنها وهي بسبيل تأسيس
الستقرار الول اذي أسس للمدنية فيما بعد ،كانت تضع ثمار خسارتها لساسها النتاجي وفقدها
لمقوم سففيادتها القتصففادي ،عندمففا احتاجففت الزراعففة إلى حيوانات أقوى تحتاج فففي ترويضهففا
وتدجينهففففا إلى عضلت أقوى وتفرغ أوسففففع ،بعففففد أن اسففففتقر الرجال إلى جوار زرع المرأة
وغرسففها ،ومففن ثفم تفم سفحب البسفاط مفن تحتهفا لصفالح الذكور .ويلحفظ الباحفث أنفه مففع ذلك
السفتقرار المدينفي وبدء اسفتخدام الحيوانات القويفة ففي الحرث ،يبدأ ظهور اللهفة الذكور بوضوح
ففي منظومفة السفماء ،وهفو أمفر فيفه تفاصفيل كثيرة نحيفل فيفه الحضور إلى كتبنفا للمزيفد ،ونكتففي
بتلك الشارات السفريعة لضيفق الوقفت المتاح ،فقفط نلمفح ونؤكفد على السفاس النتاجفي لسفيادة
المرأة الذي فقدتفه ،فسفاد الذكفر ،وتحولت ربفه السفماء مفن أنثفى إلى ذكفر ،فأصفبحت الشمفس ذكرا
بعفد أن كانفت أنثفى ،كذلك عشتار نجمفة الجمال الزهرة ،تحولت مفع السفيطرة الذكوريفة إلى الله
الذكر عستر في خطوط المسند والخط النبطي.
أمفا تصفورات ذلك المجتمفع لبدايفة الخلق فكانفت بسفيطة بسفاطة المجتمفع المومفي الول ،الحدث
سفهل ،كان على الربفة الكفبرى أن تلد الكائنات ،والتفي تفم تمثيلهفا ففي الم الرض ممتزجفة بالنثفى
السيدة على المجتمع آنذاك.
ولما كان الرجل قد لحظ اختفاء دم الحيض مع بدء الحمل ،فقد تصور أن ذلك الدم هو الذي يقوم
بتكويففن الجنيففن فففي الداخففل ليعطففي بعففد ذلك تلك الظاهرة المدهشففة المذهلة ظاهرة إعطاء الحياة
والمواليفد ،لكفن بعفد السفيطرة الذكوريفة وتحول الله إلى ذكفر ،كان لبفد أن يتحول فعفل الخلق مفن
214
رب الزمان ودراسات أخرى
النثفى للرجفل ،ولكفن لن فكرة خلق الولدة مفن دم الحيفض المختففي ففي بطفن النثفى قفد ترسفخت
تماما ،قامت أسطورة الخلق الذكرية على ذات الساس ،فقام اللهة الذكور بذبح إله صغير مخنث
ل هو ذكر ول هو أنثى ليستخدموا دمه بعجن طين الرض ليصنعوا منه النسان الول .ومن ثم
تحولت القصففة عففن فعففل الولدة إلى فعففل الخلق ،وهففو مففا يترافففق مففع مزيففد التفرغ الذي أحدثففه
الستقرار والوفرة للبشر على الرض لمزيد من الكشف والبتكار أو الخلق.
لكفن ففي نففس الن كان لبفد أن يتفم تبخيفس النثفى كرد فعفل نفسفي إزاء سفيادتها القديمفة وسفحرها
الدائم ،فتحول الدم الحيضففي فففي المأثور إلى نجففس ،لكففن يبقففى المأثور فففي اللشعور الجمعففي
مستيقظا ،فحين تحيض المرأة ترفع عنها التكاليف فل تصوم للله الذكر ،ول تصلي للله الذكر،
لنهفا ففي هذه اليام الخمفس تسفتعيد وضعهفا القديفم ،إنهفا ل تعبفد أحداً حينئذ ،لنهفا ففي هذه اليام
الخمففس حيففن يتغيففب القمففر الله الذكري عففن الحضور ،والذي يوافففق إيقاعففه الحيففض ،يظهففر
حيضهفا وتحضفر قدسفيتها ،لتصفبح ففي هذه اليام الخمفس إلهفة ،وتتقدس الخمسفة لتصفبح مانعفة
السفحر والحسفد كمفا كانفت ففي القديفم ،أمفا يوم الخميفس فيصفبح ففي المأثور اليوم المفضفل لجماع
المرأة ،أما الخمسة فهي دللة واضحة على الفرج.
وللتذكرة فقفط ،ظفل دم الحيفض حتفى عهفد الجاهليفة الخيفر ففي جزيرة العرب مقدسفا .فقفد كانفت
نسفوة العرب ومكفة يطففن بالكعبفة ،ثفم يمسفسن بدم حيضهفن الحجفر السفود ،تواصفل مفع ذكفر
السففماء ،وهففو مففا عففبرت عنففه كتبنففا التراثيففة كأبلغ مففا يكون ،وهففي تلخففص قصففة تحول المرأة
وبتخيس الدم الخالق ،بقولها :إن الحجر السود كان أبيضاً ،فأسود من مس الحيض في الجاهلية.
أمفا الكلمفة حواء فتقترن بعفد ذلك ففي الجذر مفع الحيفة التفي تحمفل الكيفد والدس والخديعفة ،وتقترن
حواء بالحيفة ،والبليفس ،الذيفن اشتركوا معفا ففي خديعفة آدم ،ذلك الدم الذي خدع الجميفع وخدع
التاريفخ ،لنفه حقيقفة إنمفا كان ضحيفة شهوانيتفه وعدم براءتفه ومرضفه السفيادي ،لن خضوعفه
الداخلي الذي كان يرفضفه باسفتمرار فيبخفس المرأة ،كان خضوعفا لحواء الحياة الحيفة أم كفل حفي،
ذلك المشترك الذي يضفم ففي الجذر كلمفة "الحيفا" أي الفرج النثوي سفر الحياة ومصفدر الميلد،
وأزمة عدم البراءة في الرجال.
215
رب الزمان ودراسات أخرى
ففي كتاب المواجهفة الصفادر ضمفن سفلسلة كتاب الهالي ،كتفب السفتاذ خليفل عبفد الكريفم (ص
)147يقول( :الحواريون أو الرسفل أو التلميفذ الذيفن كانوا مفع المسفيح عليفه السفلم كانوا ثلثفة
عشر ،وعدة أهل بدر الكبرى من المسلمين كانوا ثلثة عشر وثلثمائة ،فهل هناك صلة من نوع
خاص بيفن الديانتيفن السفاميتين ،وبيفن الرقفم 13؟ وهفل لهذا الرقفم مكان ملحوظ ففي الميثولوجيفا
السامية القديمة؟
وعندمفا يطرح مفكفر ففي قيمفة السفتاذ خليفل عبفد الكريفم سفؤالً ،فإن الحصفافة تسفتدعي السفتجابة
الفوريفة للرجفل الذي أثرى مكتبتنفا العربيفة بقراءتفه المسفتنيرة ففي منتوج الفكفر السفلمي ،وإعمالً
لذلك قمففت بكتابففة هذه العجالة السففريعة ،مففع وعففد بتقديففم دراسففة مطولة حول الرقام والشياء
والظواهر المقدسة في ديانات حوض المتوسط الشرقي ،في المستقبل القريب.
مقدســات البيئــة
ورغفم اشتراك معظفم ديانات شعوب العالم ففي معالم أسفاسية مقدسفة ،فإن هناك اختلفات جذريفة
في كثير من التفاصيل بين تلك الديانات ،كنتيجة محتمة لختلف الظروف البيئية باعتبار النسان
أبفن بيئتفه ،وأن الديفن يتفاعفل مفع ظروف البيئة والمجتمفع ،كذلك يسفهم اختلف المكان والزمان
والتشكيلت الجتماعيففة والنماط القتصففادية والمرحلة التطوريففة التففي وصففلها المجتمففع ،وكففم
التراكفم المعرففي لديفه وكيفف يسفهم جميعفه ففي طبفع الديفن بسفمات تختلف أو تقترب مفن ديانات
الشعوب الخرى.
وملحظفة السفتاذ خليفل حول تشابفه ديانات شرقفي المتوسفط السفامية أمفر صفحيح تماماً ،مفن حيفث
كون تلك الديانات قفد ظهرت ففي مجتمعات تتشابفه ففي ظروفهفا الجتماعيفة والبيئيفة مفع التجاور
المكانفي ،وإن اختلففت زمانياً فدخفل على المتأخفر منهفا بعفض التطويفر والتجريفد الذي لم يحفظ بفه
السابق.
216
رب الزمان ودراسات أخرى
ولعففل أكثففر أوجففه التشابففه تكمففن بيففن الديانتيففن السففاميتين :اليهوديففة والسففلم ،لتشابففه الظرف
المجتمعفي والبيئي ،فكل المجتمعيفن قفد نشفأ ففي بيئة صفحراوية جبليفة ،وكلهمفا كان مجتمعاً قبلياً
تسفوده أعراف القفبيلة ونظمهفا ومرحلتهفا ففي التطور التاريخفي ،ومفن ثفم تجفد ألوانًا مفن التقديفس
لرقام بعينهفا ،ولشياء أخرى عينيفة هفي مفن أهفم معالم البيئة الصفحراوية ،فكلتفا الديانتيفن ديانفة
قمريفة :الشهور قمريفة ،مواعيفد التضحيفة قمريفة ،الحتفاليات الكرنفاليفة الكفبرى قمريفة ،الصفيام
قمري( ،والقمر يعلو المآذن السلمية) ،والمطالع للتوراة سيكتشف أن القمر في أحيان كثيرة كان
يعد أحد تمثلت الله ذاته.
كذلك قدس البدو الصفخور النادرة والحجار والجبال ،فاليهود يقدسفون جبفل (حوريفب – كاتريفن)
بسففيناء ويطلقون عليففه اسفم (جبفل ال) ،وعرب الجاهليففة والسففلم يقدسفون جبفل عرفات ،وكان
اليهود يقدسففون كففل مرتفففع مففن الرض ،يقدمون عنده قرابينهففم وأضحياتهففم ،ويمارسففون عليففه
طقوس الجنففففس المقدس ،وعرب الجزيرة كانوا أيضاً يذبحون عنففففد عرفات ويقدسففففون الصفففففا
والمروة.
كما كان تقديس الحجار في البيئة الصحراوية أمراً واضحاً في ديانات الصحراء ،خاصة إذا كان
الحجر من النوع النادر ،ومن ثم قدس العربان منذ القديم الحجار النيزكية المنصهرة القادمة من
الفضاء ،باعتبارهفا قادمفة مفن حيفث عرش الله ،ونتيجفة انصفهارها اكتسفت بلون أسفود لمفع زاد
ففي روعتهفا وجللهفا ،ومفن ثفم قاموا يضعونهفا ففي أفنيفة البيوت المقدسفة والمعابفد ،وللسفبب ذاتفه
قدس اليهود النيزك الكفبير الموجود بالقدس ،والموجود الن تحفت مفا يعرف باسفم قبفة الصفخرة،
وأحاطته القدسية السلمية بعد حديث السراء والمعراج ،كذلك قدس عرب الجاهلية حجر أسود
وضعوه بالكعبة ،ورغم ما جاء به السلم من تطور ،فإنه جعل للحجر السود مكانة قدسية.
الرقـــم ()7
ويلحفظ الباحثون أن رقفم ( )7قفد أحيفط بهالة كفبرى مفن التقديفس ففي الديانات السفامية الكفبرى،
فقصفة الخلق التوراتيفة تقول :إن ال خلق السفماوات والرض ففي سفتة أيام ،ثفم اسفتراح مفن عناء
عمله ففي اليوم السفابع ،لذلك تقدس اليوم السفابع الذي اعتفبروه يوم السفبت ،مفن (شباث) أو الثبات
والسففكون ،لذلك ل يعمففل اليهودي يوم السففبت ويقلل مففن حركتففه مففا أمكففن ،واعتقففد اليهود بأن
217
رب الزمان ودراسات أخرى
المحافظة على قدسية اليوم السابع مجلبة لرضا الله ولحسن الحظ ،وأن أنتهاكه نذير شؤم ودمار،
ثم انصرف ذلك التقديس إلى مواضيع شتى يشغل فيها الرقم ( )7مكاناً بارزاً فتحدثوا عن أعمار
النسان السبعة ،وما للقطط من السبع أرواح ...الخ ،ثم جاءت المسيحية لتستمر في تقديس ذات
الرقففم ،وتحدثنففا عففن الخطايففا السففبع المميتففة ،وسففيوف الحزن السففبعة فففي قلب العذراء ،وأبطال
المسفيحية السفبعة ،مفع تقديفس اليوم السفابع الذي أصفبح يوم الحفد ،وكلهفا لدى المؤمفن المسفيحي
أمور واضحة ومعقولة لمجرد أنها سبعة وكفى بذلك سبيل.
أمفا القرآن الكريفم ،فقفد قال بقصفة الخلق ذاتهفا ،لكفن السفلم خالف كل المعتقديفن ففي يوم الراحفة
المقدس ،وكرس له يوم الجمعة الذي كان يعرف باسم يوم العروبة ،ثم أفسح مجال فسيحا للرقم (
)7وهو ما نجد نماذج له في اليات الكريمة:
ومفع الميفل للمبالغفة يصفل التقديفس مفن السفبعة إلى السفبعين ،كمفا ففي عدد السفبعين إسفرائيلياً الذيفن
اختارهفم موسفى لمقابلة الله (يهوه) ففي جبفل سفيناء ،كذلك السفبعون تابعًا للمسفيح ،وهفو مفا يجفد
صداه في اليات الكريمة من قبيل:
218
رب الزمان ودراسات أخرى
أصــل الســبوع
مفن غيفر المعلوم يقيناً السفر ففي تقديفس الرقفم ( )7وقفد وضفع بسفبيل ذلك عدة احتمالت ،منهفا
أنفه عدد تام ل يقبفل القسفمة إلى على نفسفه ،وقيفل إن الجذر (سفبع) لغفة يعنفي الكفايفة والتمام
والمتلء ،وهفو بالعبريفة (شبفع) أي امتل ،ثفم هفو يعنفي القسفم المغلظ ،كمفا ففي حادثفة بئر سفبع
التفي أقسفم عندهفا إبراهيفم وأهفل فلسفطين ،وتسفمى لذلك بئر القسفم ،كمفا تعنفي أيضاً رقفم ()7
لنهم ذبحوا عندها سبع نعاج ،أما السبع – السد – فهو ملك الحيوانات وأكملها وأجلها شأناً.
ولما كانت الباء تتبادل مع الفاء في اللغات السامية ،باعتبار أن كلتيهما من الحروف الشفاتية،
فقد تحولت سبع وشبع لتصبح شفع ،علمة على الرباب الشفعاء في الجاهلية ،أما السلم فقد
ألغى جميع الشفاعات وأبقى على شفاعة واحدة للمصطفى – صلى ال عليه وسلم.
لكفن بعفد التأمفل والتدقيفق ،يمكفن أن يطلعنفا على السفر وراء كفل مفا أسفبغ على الرقفم سفبعة مفن
هالت قدسية ،لنكتشف أنه ليس لخاصية فيه ،بقدر ما كان ناتجاً عن تقديس الساميين القدماء،
وبخاصة أهل الرافدين للكواكب السيارة الخمسة مع النيرين الكبيرين الشمس والقمر وعددهم
سبعة.
وكان للقمفر بالذات ففي البداوة وليفل الصفحراء مكانفه المتميفز ،لذلك كان ألصفق بخيال البدوي
من الشمس المحرقة خاصة في ليل الصحراء ،مع السحر القمري المبهر المتمثل في تحولته
ما بين هلل وتربيع وبدر محاق.
وقفد لحفظ السفاميون القدماء أن تحولت القمفر تنقسفم إلى قسفمين متسفاويين ،مفن ولدتفه إلى
تمامه بدراً أربعة عشر يوماً ،ومن ظهوره بدراً إلى محاقفه أربعفة عشر يوماً ،والربعفة عشر
يومًا ينقسفم إلى قسفمين متسفاويين ،7 + 7ومفن هنفا وصفلوا إلى تقسفيم الزمان بمعرففة معنفى
219
رب الزمان ودراسات أخرى
السبوع ،الذي هو وربع الشهر القمري ،وقد قرن البابليون المتفوقون في دراسة الفلك تلك
النتيجة بالسيارات الخمس المعروفة آنذاك :المشترى (الله مردوخ) والزهرة (اللهة عشتار)،
وزحفل (الله نيناب) وعطارد (الله نابفو) والمريفخ (الله نرجال) مفع الشمفس (الله شماس)
والقمر (الله سين) (وعددهم جميعاً سبعة آلهة) ،لينتهوا إلى وضع الزمن في أسابيع على عدد
اللهفة السفماوية السفبعة ،وكانفت أعظفم اللهفة ففي المعتقدات الرافديفة ،وغنفى عفن الذكفر أن
هياكل بلد الرافدين كانت هياكل لعبادة تلك الجرام ،كما كانت في الوقت نفسه مراصد فلكية
ل لدراسة الفلك ومتابعتها.
ومح ً
ولعل القارئ سيلحظ معنا أن السنة تتكون من ( )52أسبوعاً ،ولو جمعنا طرفي الرقم 5 + 2
سيعطينا النتيجة (.)7
والخلصفة مفن كفل ذلك أن تقديفس الرقفم ( )7يعود أصفلً إلى تقديفس اللهفة الكوكبيفة السفبعة
العظمى المعروفة باللهة مقررة المصائر ،وقد تمت عبادة كل إله من تلك اللهة في يوم سمي
باسفمه ،وقفد ترك ذلك التقديفس القديفم أثره ففي أسفماء تلك اليام حتفى اليوم ففي أسفماء اليام
الفرنجيفة ،التفي تعود إلى أصفول سفكسونية قديمفة ،فيوم الحفد كان يوم عبادة الشمفس ،وكان
ففي السفكسونية sund's dayالذي جاء منفه اسفم يوم الحفد Sundayويفم الثنيفن المكرس
لعبادة الله القمفر اسفمه Mondayوقفد أخفذ مفن الصفل السفكسوني Moond's dayأمفا
الثلثاء الذي كان مكرسفًا لعبادة إله الحرب ،وهفو عنفد السفكسون الله Tiwesفقفد جاء منفه
اسفففففففم يوم الثلثاء Tiwesdayكذلك شأن الربعاء الذي كرس لعبادة الله ودن Woden
ومنه جاء اسم يوم الربعاء ،Wednes dayثم يوم الخميس يوم إله الرعد الصاعقة Ther
ومنفه جاء اسفم الخميفس ،Thurs dayأمفا الجمعفة المنسفوبة للله Frigaفاشتفق منفه السفم
،Fri dayلينتهففي التقسففيم بيوم عبادة الله زحففل Saternالذي اشتففق منففه اسففمه اسففم يوم
السبت .Satur day
الــــرقم 12
وهكذا كانفت عبادة الجرام السفماوية هفي الصفل والمنشفأ لمقدسفات ظلت تفرض وجودهفا ففي
تاريخ النسانية حتى اليوم ،وهو المر الذي قصدنا بيانه من خلل التوضيح العاجل السالف،
220
رب الزمان ودراسات أخرى
لنصفل إلى عدد تلمذة المسفيح وحوارييفه ،إلى العدد ( ،)12وهفو مفا جاء ففي سفؤال السفتاذ
خليل بخطأ من قبيل السهو فقال :إن عددهم ثلثة عشر.
والرقم ( )12أحيلت إليه أعداد مقدسة الشخاص مقدسين ،فتلمذة المسيح من غير اليقيني أبداً
أنهفم كانوا أثنفى عشفر حوارياً ،لكفن كتاب الناجيفل ضبطوا عدد التلميفذ مفع العدد المقدس،
وكذلك فعلت التوراة عندما جعلت أبناء يعقوب – إسرائيل المعروفين بالسباط اثني عشر ولداً
هم بنو إسرائيل ،وفي الجلجال بفلسطين كان يقوم اثنا عشر عموداً مقدساً من سالف الزمان،
كذلك كانفت مجالس المفكتيون المشرففة على المعابفد اليونانيفة تتكون مفن أثنفي عشفر عضواً،
وكذلك كان عدد أعضاء مجلس معبفد دلففي المشهور ففي اليونان ،أمفا يسفوع المسفيح فقفد أظهفر
تفوقفه العقلي وهفو يناهفز الثانيفة عشرة ،عندمفا كان يواجفه كهنفة الهيكفل ويفحمهفم (أنظفر مثلً
إنجيل لوقا .)47 /2
وكمفا كانفت قدسفية الرقفم سفبعة قفد فرضفت نفسفها حتفى أصفبحت أشواط الحفج سفبعة ،ليدور
المؤمفن حول المركز المقدس ،كمفا تدور الكواكفب السيارة حول مركزها الله الكبير الشمفس،
فقد جاء كذلك تقديس الرقم ( )12من ذات المصدر القديم ،فالمنازل السماوية للكواكب اللهية
المعروففة بالبروج عددهفا اثنفا عشفر برجاً ،فالعدد ( )12هفو رسفم البروج ،أي عدد علمات
الزودياك ،وكما كانت اللهة السبعة تسكن البروج الثنى عشر الفلكية البابلية القديمة ،فقد تم
إسكان أسابيع الزمن في اثنى عشر شهراً وهي عدة شهور السنة عند ال.
221