You are on page 1of 19

‫‪http://www.sonsofi.org/templates/koraysh9.

html‬‬

‫انتشرت المسيحية في شبه الجزيرة العربية عموما ً وفي الحجاز خصوصا ً ومما يدل‬
‫على ذلك أن عددا ً من القبائل الكبيرة اعتنقت غالبية أفرادها تلك الديانة ‪ ،‬نذكر‬
‫فيها على سبيل المثال ثلثا ً ‪.‬‬

‫أول ً ‪ :‬إياد‬

‫يبدو أن ديانة المسيح كانت متمكنة من هذه القبيلة ‪ ،‬ويظهر ذلك من قيامها بدور‬
‫بارز فيما سمي في التاريخ السلمي بـ " حروب الردة " ونحن نعتقد أنه جانب من‬
‫أهم الجوانب التي غفل عنها المؤرخون وهم يعددون السباب التي دفعت كثيراً‬
‫من قبائل شبه الجزيرة العربية إلى النتفاضة على الحكومة التي قامت في‬
‫المدينة برئاسة الصديق أبى بكر رضي الله عنه بعد وفاة الرسول محمد ( ص ) أو‬
‫قل أن المؤرخون تغافلوا عنها ونعني بذلك الجانب القتصادي والجانب العقائدي‬
‫ونقصد بالخير هو أن اعتناق القبائل للديانة المسيحية وتغلغلها في صفوف‬
‫أفرادها وأن إسلمها من ثم كان ظاهريا ً جعلها تتحين الفرصة للثورة على‬
‫المدينة ‪ ،‬وقد جاء لها الفرصة عند وفاة الرسول ( ص ) ‪ .‬وقبيلة إياد مثل على ذلك‬
‫فقد ساهمت في حروب الردة ووقفت إلى جانب جيوش الروم والفرس أثناء‬
‫الفتح العربي السلمي لبلدها أو للبلد التي كانت تحت سيطرتها ‪ .‬ولم يحدد‬
‫المؤرخون الوقت الذي تحولت فيه قبيلة إياد من الشرك وعبادة الصنام إلى‬
‫المسيحية ولكنهم يطرحون العديد من السباب التي أدخلت النصرانية إليها ‪ ،‬منها‬
‫اتصالها بالدولة اللخمية وانطواؤها تحت هيمنتها ‪ ،‬كذلك ارتحال بعض بطونها إلى‬
‫مشارف بلد الروم واتصالهم بأهلها ‪ ،‬فقام قسس ورهبان من الروم بالتبشير‬
‫بالنصرانية بينهم ‪ ( ،‬والمر المؤكد أن إيادا ً كانت على النصرانية وقت ظهور‬
‫السلم ) وموطن إياد كان " تهامة " وقد عاونت " مضر " في إجلء " جرهم "من‬
‫مكة وتولت حماية البيت ثم هاجرت إلى البحرين والعراق ‪ ،‬ولوجودها هناك خضعت‬
‫لسلطان دولة اللخمين في الحيرة التي كانت المسيحية قد انتشرت فيها منذ أن‬
‫نبذ النعمان عبادة الوثان فبنيت الكنائس والديرة ‪ .‬وأصبحت في الحيرة طائفة‬
‫هامة هي طائفة العباد ( د ‪ .‬السيد عبد العزيز سالم ‪ ،‬دراسات في تاريخ السلم ‪،‬‬
‫ص‪ ) 284‬ومن تلك الديرة ‪ :‬دير اللج الذي بناه النعمان ودير مارت مريم ودير هند‬
‫الكبرى ودير هند الصغرى ودير الجماجم وهو ينسب إلى قبيلة إياد ويفسر البلذري‬
‫في فتوح البلدان سبب هذه التسمية بأن (مالك بن محرز اليادي قتل قوما ً من‬
‫الفرس ونصب الجماجم عند الدير فسمي دير الجماجم ( ودير عبد المسيح )‬
‫( المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪ . ) 281‬ومن أسباب انتشار المسيحية في قبيلة إياد تنصر قس‬
‫بن ساعدة أحد أبناء القبيلة وأحد خطباء العرب المعدودين ‪ ،‬وكانت له في سوق‬
‫عكاظ خطب مأثورة يحفظها الناس عن ظهر قلب لبلغتها ‪ ،‬وعلى الرغم من أن‬
‫وفدا ً من إياد جاء إلى رسول الله ( ص ) في عام الوفود سنة ‪9‬هـ فانه من الثابت‬
‫أن إيادا كانت ضالعة في حروب الردة بشكل متميز ‪.‬‬

‫كما أنها قاتلت جيوش الفتح العربي في فارس والشام ‪ ،‬ونحن نرجع علة ذلك إلى‬
‫تفشي النصرانية في صفوفها وأن السلم كان غطاء ظاهريا ً وأنها كانت تتربص‬
‫مثل بعض القبائل التي كانت دخلت دين المسيح ‪ ،‬وتتحين الفرص لتعود إلى‬
‫دينها ‪ ،‬وهذه مسألة تحتاج من المؤرخين خاصة لفجر السلم ‪ ،‬مزيدا ً من التمحيص‬
‫‪.‬‬

‫وفي سنة ‪11‬هـ انضمت قبيلة إياد إلى " سجاح " التميمية ( وكان على رأسها وتاد‬
‫بن فلن وكان الياديون يشكلون فرقة من جيش سجاح وهي مقبلة من أرض‬
‫الجزيرة بالعراق ) ولم تمهد إياد بعد انكسار المرتدين ( ففي السنة الثانية عشرة‬
‫من الهجرة نجد اسمها في عداد من قاتل خالد بن الوليد في " عين التمر " التي‬
‫انتهت بظفر خالد بن الوليد والمسلمين على جموع العجم والنصارى ) (د ‪ .‬محمد‬
‫إحسان النص قبيلة إياد ‪ ،‬ص‪ ( ) 24‬وإلى جانب هؤلء العاجم أقام عشير عظيم من‬
‫قبائل البادية ‪ :‬بني تغلب والنمر وإياد يرأسهم عقبة ابن أبي عقة والهذيل ومن‬
‫كان معهم على قيادة الجيوش التي نفرت مع سجاح لغزو المسلمين بالمدينة ) (د‬
‫‪ .‬محمد حسين هيكل ‪ ،‬الصديق أبو بكر ‪ ،‬ص‪ ) 221‬وكعادته في المعارك التي تولى‬
‫قيادتها خالد بن الوليد رضي الله عنه دحرهم ‪ ،‬ولكن إياد لم تستسلم وظلت على‬
‫عدائها للسلم والمسلمين فشاركت في قتال خالد بن الوليد وذلك في وقعة "‬
‫الفراض " وهي على تخوم الشام والعراق والجزيرة فدارت الدوائر على الروم‬
‫وأحلفهم ) بل أن هناك من الباحثين من يرى أن ( قبيلة إياد لم تكن من بين‬
‫المنضمين للروم فحسب ‪ ،‬بل كانت من بين من كان يحرضهم على قتال‬
‫المسلمين ) هذه الستجابة من قبل إياد على محاربة المسلمين مرة بعد مرة مع‬
‫من سموا بـ " المرتدين " وأخرى مع العجم ( الفرس ) وثالثة مع الروم دليل ل‬
‫يقبل الشك على تمسكها بعقيدتها النصرانية وأن ذلك كان أحد العوامل وأن لم‬
‫تكن العامل الوحيد في إصرار إياد على عداوة الدين الجديد ‪.‬‬

‫وكما ذكرنا فقد كانت هناك عوامل أخرى اجتماعية واقتصادية ولكنها تخرج عن‬
‫نطاق بحثنا وهو انتشار المسيحية في شبه الجزيرة العربية والحجاز وقت ظهور‬
‫السلم ‪.‬‬

‫أيا ً كان المر ‪ ،‬فالثابت أن المسيحية لم تكن دينا ً عارضا ً أو عقيدة هامشية في تلك‬
‫البقاع بل على العكس فقد كانت هناك من القبائل الكبيرة ذات الثقل ممن دانت‬
‫بها ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬تميم‬

‫عرفت المسيحية طريقها إلى قبيلة تميم مثلها في ذلك مثل قبائل أخرى ‪ :‬تغلب‬
‫وقضاعة وطيء ومذحج وغسان وربيعة ‪ ،‬وسبق أن ذكرنا أسباب ذلك وهناك سبب‬
‫خاص بـ " تميم " ساعد على اعتناق كثير من أفرادها الديانة المسيحية وهو وجود‬
‫علقة حميمة بينها وبين مملكة الحيرة التي دان ملوكها بالدين نفسه مؤخرا ً ‪ ،‬إلى‬
‫جانب ذلك بحث الخباريون عن روابط وثيقة للغاية قامت بين زهماء قبيلة تميم‬
‫وقريش ( ذكر كسترو أن تميما ً لعبت دورا ً كبيرا ً في العصر الجاهلي ‪ ،‬وكانت‬
‫تساهم كثيرا ً في دعم نفوذ هذه المدينة في المجتمع القبلي لشبه الجزيرة العربية‬
‫( د‪ .‬عبد الجبار العبيدي في قبيلة تميم العربية بين الجاهلية والسلم ص‪31‬‬
‫الرسالة ‪ ، 37‬الحولية ‪1406 ، 7‬هـ ‪ 1986 ،‬م ) ‪ .‬ولم تكن تلك الرابطة تقتصر على‬
‫المصالح التجارية أو على " اليلف " بل تعدتها إلى علقات اجتماعية تمثلت في‬
‫قيام مصاهرات أسرية بين القبيلتين إذ تزوج قرشيون من تميميات وتزوج‬
‫تميميون من قرشيات ‪ ،‬وكان ذلك منذ عهد مبكر ‪ ،‬فقد تزوج عبد شمس بن عبد‬
‫مناف ‪ :‬عبلة بنت عبيد ابن جازل " التميمي " وكان أولده وأحفاده منها يسمون "‬
‫العبلت " واستمرت علقة المصاهرة حتى بعد ظهور السلم إذا اصهر عبد الله بن‬
‫عمر بن الخطاب إلى عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي في ابنته " أسماء "‬
‫وكذلك فعل علي وجعفر ـ ابنا أبي طالب ـ ومن الجانب الخر تزوج حنظلة بن‬
‫الربيع كاتب النبي محمد ( ص ) من بنت نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ونلفت‬
‫النتباه أن الصهار إلى قريش كان ل يتم إل من رؤوس بني تميم وشيوخهم ‪ ،‬ل‬
‫من عامتهم كما سبق أن ذكرنا ‪.‬‬

‫علوة على ذلك كانت هناك تداخلت سياسية بين القبيلتين الكبيرتين ‪ ،‬إذ بخلف‬
‫اليلف الذي دخلت فيه " تميم " كغيرها ‪ ،‬فإن فريقا ً من المتنفذين من قبيلة "‬
‫تميم " قبلوا كمستشارين يؤخذ رأيهم في إدارة مكة من الوجهة السياسية بل أن‬
‫قريشا قلدت " تميما " وظائف على درجة كبيرة من الهمية من الناحية الدينية ‪،‬‬
‫فقد كانت وهذا على سبيل المثال وظيفة " الفاضة " غداة النحر إلى منى في يد‬
‫تميمي هو زيد بن عدوان ‪ ،‬واستمرت في بني تميم حتى جاء السلم ‪.‬‬

‫فهذه القبيلة التي كانت المسيحية فيها فاشية توثقت العلقة بينها وبين قريش‬
‫من نواح عديدة ‪ :‬تجارية واجتماعية ودينية ‪ ،‬وهذا التصال الوثيق يجعل المسيحية‬
‫وتعاليمها قريبة المنال من القرشيين ‪.‬‬
‫وإذ أن تميما ً من القبائل التي اتصلت بمصب الفرات وبالخليج الفارسي وكان‬
‫أبناؤه ينتقلون بين شبه الجزيرة العربية وأرض العراق ‪ ،‬فقد كان ذلك واحدا ً من‬
‫أسباب اعتناق كثير منهم النصرانية ‪ ،‬وكان ممن تنصر " سجاح " التي ادعت النبوة‬
‫فيما بعد ‪ ،‬وهي من بني " حروب الردة " موقف سجاح تلك وموقف قبيلة تميم من‬
‫تلك الحروب مع ما قلناه من اعتناق غالبية أبنائها للمسيحية وتنصر سجاح ‪ ،‬كل‬
‫ذلك يدعونا إلى تكرار ما نادينا به من ضرورة تمحيص الباعث الديني لمثل تلك‬
‫القبائل في ضلوعها في حرب حكومة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في المدينة ـ‬
‫وعدم الكتفاء بالسبب السهل " المجاني " الذي يرجع تلك الحروب إلى سبب وحيد‬
‫هو امتناع تلك القبائل عن تأدية الزكاة لحكومة المدينة ‪.‬‬

‫ومما يقطع بأن قبيلة " تميم " قد ضربت بسهم وافر فيما سمي بـ " حروب الردة‬
‫" أن خالد بن الوليد ( لم يدع بني تميم حتى قضى في ديارهم على كل نافخ نار‬
‫للفتنة أو في رمادها ) فهذه القسوة البالغة من جانب " سيف الله المسلول "‬
‫والتي دفعته إلى القضاء على كل " نافخ نار " تقطع بأن مقاومة بني تميم‬
‫لجيوش المسلمين كانت شديدة الصلبة ‪ ،‬بالغة العناد ونرجح أن سبب ذلك هو‬
‫انتشار المسيحية فيها ‪ ،‬وهو الذي جعلهم يستميتون في الدفاع عن عقيدتهم ـ هذا‬
‫بالضافة إلى السباب الخرى التي تند عن مجال بحثنا ويحدد د‪ .‬محمد حسين‬
‫هيكل منازل بني تميم على الوجه التي ‪:‬‬

‫( تمتد من الشمال الشرقي لبلد العرب حتى تتاخم خليج فارس في شرقها وهي‬
‫تقع كذلك إلى شمال المدينة من الشرق ثم تنحدر حتى الجنوب الشرقي من مكة )‬
‫أي أن القبائل التي انتشرت النصرانية فيها كانت مضاربها قريبة من مكة والمدينة‬
‫" الحجاز " ثم تمتد حتى التخوم وأن علقات حميمة وروابط وثيقة انعقدت بينها‬
‫وبين القرشيين ‪.‬‬

‫ولعل من الدلة التي تقوم على فشو النصرانية في قبيلة بني تميم ( قول طخيم‬
‫بن الطخماء في مدحهم ‪:‬‬

‫وأني وأن كانوا نصارى أحبهم ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق‬

‫ثالثا ً ‪ :‬حنيفة‬

‫إحدى القبائل التي كانت تدين بالنصرانية وقد اعتنقها وملكها هوذة ابن علي "‬
‫الحنفي " وزاره آركون أسقف دمشق وتباحث معه في شأن ظهور الدين الجديد "‬
‫السلم " وتروي بعض الخبار أنه بعد أن وعده الرسول ( ص ) أن يقره على ما‬
‫تحت يده ـ في حالة إسلمه ـ فأن جماهير بني حنيفة " النصارى " أبوا عليه ذلك ‪،‬‬
‫وهددوا بخلعه إن فعل ‪ ( .‬د‪ .‬إحسان صدقي العمد ‪ ،‬في حركة مسليمة الكذاب ‪ ،‬ص‬
‫‪ ، 32‬الحولية العاشرة ‪ ،‬الرسالة الثامنة والخمسون ‪ 1410 ، 1409 ،‬هـ ‪ 1982 ، 1981 ،‬م‬
‫حوليات كليات الداب ‪ ،‬جامعة الكويت ) ‪ .‬ويبالغ " ليال " إذ يقول ‪ " :‬أن بني حنيفة‬
‫على بكرة أبيهم كانوا نصارى " وإذ إن مضاربهم كانت في اليمامة في أواسط نجد‬
‫شمال شرق الجزيرة العربية ‪ ،‬فان المر المؤكد أنه كانت توجد في تلك النحاء‬
‫أديرة يسكنها عدد من الرهبان النصارى مما يقطع بوجود مسيحي في اليمامة ‪،‬‬
‫وما هو جدير بالذكر أن بني حنيفة كانوا يسكنون الحجاز وغادروها عقب البسوس‬
‫في منتصف القرن السادس الميلدي ( المرجع نفسه " حركة مسليمة الكذاب " ص‬
‫‪ ) 28‬ومعلوم أن مسليمة الكذاب الذي ادعى النبوة كان من بني حنيفة وكان يقول ‪:‬‬
‫" أن له نصف الرض ولقريش نصف الرض ولكن قريشا ل يعدلون ) ( د ‪ .‬محمد‬
‫حسين هيكل في الصديق أبو بكر ‪ ،‬ص‪ . ) 75‬ودور بني حنيفة فيما عرف بـ " حروب‬
‫الردة " مشهور وقد قاتلوا المسلمين قتال مريرا حتى أن عكرمة بن أبي جهل‬
‫رغم جسارته وقرشيته انهزم أمامهم هزيمة منكرة ( وجاء النصر على يد خالد بن‬
‫الوليد رضي الله عنه بعد شدائد وأهوال في موقعة " حديقة الموت " واستشهاد‬
‫مئات المسلمين منهم تسعة وثلثين من كبار الصحابة والقراء " حفظة القرآن " )‬
‫)‪.‬‬ ‫نفسه‪،‬ص‪19‬‬ ‫( المرجع‬

‫أن الدفاع المستميت والقتال الشرس من جانب بني حنيفة للمسلمين فيما عرف‬
‫بـ " حرب الردة " له أسباب اقتصادية إذ أن " حنيفة " كانت مضاربها في واحات‬
‫خصيبة تغل محصولت زراعية متنوعة ‪ ،‬وكان شطر من أبنائها يعملون في الزراعة‬
‫وكانت منطقتهم مشهورة بإنتاج القمح " الحنطة " ‪ .‬وأحرى اجتماعية إذ كانت‬
‫التركيبة الجتماعية لديهم تختلف عن باقي القبائل لكن بداهة يجيء في مقدمة‬
‫تلك السباب ‪ :‬السبب العقائدي ونعني به إيمان غالبية أناء تلك القبيلة بالمسيحية‬
‫ـ وهذا ينطبق بدوره على سائر القبائل التي اعتنقت هذه الديانة وخاصة القبائل‬
‫الثلث التي ذكرناها في هذا الفصل ‪.‬‬

‫ويرى برهان الدين دلو أن المسيحية ( تسربت إلى اليمامة وهي إحدى الواحات‬
‫الشهيرة بتقدم زراعتها ورقي صناعتها وتحضر سكانها وكان معظم أهل اليمامة‬
‫قبيل السلم من بني حنيفة الذين اعتنق بعضهم المسيحية ) ( برهان الدين دلو ‪،‬‬
‫في جزيرة العرب قبل السلم ‪ ،‬الجزء الثاني ‪ ،‬ص‪. ) 225‬‬

‫الصابئة‬
‫أول ً ‪ :‬الصابئون‬

‫فرقة دينية قديمة ـ سوف نرى فيما بعد لها فرعين ‪ -‬ذات معتقدات يشوبها قدر‬
‫من الغموض والتعقيد ‪ .‬أما عن قدمها ‪ :‬فيزعم بعض أتباعها أنهم يعتنقون ملة‬
‫النبي نوح عليه السلم بل وتعاليم النبي أدريس عليه السلم وغيرهم يرى أن‬
‫اسمهم يرجع إلى اسم صابئ بن لمك أخي نوح ‪.‬‬

‫ولسنا بصدد التأريخ لها وشرح عقائدها إل بالقدر الذي يتصل بجوهر كتابنا ونعني‬
‫به تبين العوامل الفاعلة في التوحيد الذي ساهم في تحول قريش من قبيلة‬
‫هاشمية تسكن جبال مكة وأطرافها إلى دولة مركزية تحكم الجزيرة العربية كلها‬
‫ثم المبراطورية الواسعة التي عرفها التاريخ ‪.‬‬

‫****‬

‫احتدم الخلف بين اللغويين والباحثين والمؤرخين والمفسرين والدارسين في‬


‫حقل الملل والنحل والفرق سواء بين السلميين والسلميين أو بين السلميين‬
‫والغربيين حول الصابئة أو الصابئين حتى هذين السمين لم يفلتا من الختلف ‪،‬‬
‫فالبعض يرى أنهما يدلن على مسمى واحد وأنه ل فرق بين الصابئة والصابئين ‪،‬‬
‫والبعض الخر يذهب إلى أنهما متمايزان وأن الصابئة فرقة والصابئين فرقة أخرى‬
‫‪.‬‬

‫والختلف بدأ مبكرا ً بخصوص أصل السم أوجذره أو مأخذه فهناك من يرى أن "‬
‫صبأ " معناه ظهر وطلع كما تطلع النجوم أو تظهر ( تاج العروس من جواهر‬
‫القاموس ‪ ،‬الزبيدي ‪ ،‬والقاموس المحيط ‪ ،‬الفيروز آيادي ‪ ،‬والمعجم الوسيط ‪،‬‬
‫مجمع اللغة العربية ) ‪.‬‬

‫ومنهم من يذهب إلى أن " صبأ " يصبو ‪ :‬إذا نزع واشتاق أو فعل فعل الصبيان أو‬
‫صبا إذا عشق " (معجم القرآن الكريم ‪ ،‬إعداد مجمع اللغة العربية نشرته الهيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب ) ‪.‬‬

‫فهنا نرى أن جذر الكلمة "صبأ " قد تراوح ما بين ‪:‬‬

‫ـ طلع أو ظهر‬

‫ـ نزع أو اشتاق‬
‫ـ فعل فعل الصبيان‬

‫ـ عشق‬

‫ولكنها جميعا ً تدل على ‪ :‬الظهور والبزوغ والتحول من حال إلى حال ‪.‬‬

‫هناك شبه إجماع بين البحاث العرب المسلمين على أن معنى صبأ الرجل ‪ :‬خرج من‬
‫دينه الذي هو عليه إلى دين آخر ‪.‬‬

‫ومن هنا كان يقال عن النبي محمد ( ص ) " الصابئ " هكذا كانت تسمية العرب‬
‫وقريش وهذه المصادر الثلثة التي أوردناها على سبيل المثال تعلل ذلك بقولها ‪:‬‬

‫أن النبي ( ص ) ترك دين قبيلته قريش إلى دين السلم فهو قد صبأ ‪.‬‬

‫وهو تعليل جرى عليه السلف ةلكن ليس هناك ما يمنع عقل أن يكون هناك تعليل‬
‫أخير ‪.‬‬

‫******‬

‫أما عن الدارسيين الغربيين فهم طالهم الختلف حول جذر الكلمة أو مأخذها وأتى‬
‫كل واحد منهم بتفسير فمنهم من يرجع كلمة ( صبأ ) إلى الكلمة العبرية ( صبغ )‬
‫أي غمس أو غطس أو أغمد ‪...‬‬

‫وبذلك يكونون هم " المعمدون " الذين يباشرون طقس ( التعميد ) بواسطة‬
‫الغطس ‪.‬‬

‫وهنا نورد معلومة قد تلقي مزيدا ً من الضوء على الرأي الذي يذهب إلى أن‬
‫معتقدات الصابئة ترجع في الصل إلى مصر القديمة ‪ ،‬فالتعميد بالغطس كان‬
‫طقسا ً مصريا ً قديما ً في بعض القاليم إذ كان المولود في السبوع الول من‬
‫ولدته يعمد بـ ( تغطيسه ) في نهر النيل المقدس أو حابي وما زالت هذه العادة‬
‫سارية في بعض القرى في النوبة في أسوان إذ تقوم النسوان فيها بممارسة هذا‬
‫الطقس مع مواليدهن ‪.‬‬

‫أما الفريق الخر من الدارسين الغربيين فهو يذهب إلى أن كلمة " صابئة " ربما‬
‫تكون مشتقة من الكلمة المصرية القديمة ( سب ) التي تعني ( الحكمة ) و‬
‫( النجوم ) وربما تكون هذه الكلمة المصرية هي أصل الكلمة اليونانية ( سوفيا ) أو‬
‫( الحكمة ) وربما ولكن بقدر مشكوك فيه تكون هي أصل كلمة ( الصوفية )‪.‬‬

‫ولسنا في حاجة لن نذكر أن هذا التفسير يؤيد المذهب الذي يرجع معتقدات‬
‫الصابئة إلى مصر القديمة وسوف نرى أن النبي إدريس عليه السلم يرجح البعض‬
‫أن ولدته كانت في مصر أو على القل إقامته فيها ردحا ً من عمره ‪ ،‬وسبق أن‬
‫قلنا أن بعض الصابئون يزعمون أنهم على دين ادريس عليه السلم ولو أن البحاث‬
‫السلميين يكذبونهم في ذلك ‪.‬‬

‫وإذا كان هذا هو قدر الختلف حول مأخذ كلمة الصابئة سواء فيما بين السلميين‬
‫أو بين الغربيين ( الفرنجة ) فأن الختلف حول أصل عقائد الصابئين أشد ‪:‬‬

‫( الصابئون يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلم وهم قوم يزعمون أنهم على‬
‫ملة نوح ) (المعجم الوسيط ) وأيضا ً ( … ويزعمون ) أنهم على دين نوح عليه‬
‫السلم بكذبهم وفي التهذيب عن الليث كذلك أما في الروض فهم منسوبون إلى (‬
‫صابئ بن لمك أخي نوح عليه السلم ) (تاج العروس ‪ ،‬الزبيدي )‬

‫ولقد لفت نظري وأنا أبحث حول الصابئة ما ذكره الطبري في تفسيره " جامع‬
‫البيان عن تأويل آي القرآن أو تفسير الطبري " حققه وراجعه الخوان محمود‬
‫وأحمد شاكر ـ المجلد الثاني ـ ص‪ 147‬ـ ط‪ 1969 ، 2‬م ـ دار المعارف بمصر ‪ .‬ومن‬
‫المفسرين من اقتصر على بيان دين الصابئة بقوله ‪:‬‬

‫هم قوم عدلوا عن دين اليهودية أو النصرانية وعبدوا الملئكة ) ( الزمخشري ‪ ،‬في‬
‫الكشاف ‪ ،‬الجزء الول عند تفسير آية البقرة التي ورد بها ذكر الصابئين) ‪.‬‬

‫وللمام العظم أبي حنيفة النعمان رأي جرئ في خصوصية عبادة الصابئة للكواكب‬
‫ل يسعنا إل إيراده ‪[ :‬أما الصابئات فقد قال أبو حنيفة يجوز للمسلم أن يتزوج بهن‬
‫وقال أبو يوسف ومحمد ( الصاحبان ) ل يجوز وسبب الخلف أن أبا حنيفة يرى‬
‫أنهم قوم يؤمنون بكتاب ويقرون بنبي ول يعبدون الكواكب بل يعظمونها كتعظيم‬
‫المسلمين الكعبة في أنهم يستقبلونها عند صلتهم وهذا ل يمنع التزاوج من‬
‫نسائهم ] (أحكام الزواج والطلق في السلم ‪ ،‬للشيخ بدران أبو العينين بدران ‪،‬‬
‫كلية الحقوق بالقاهرة ‪ ،‬ص‪ ، 99‬ط‪ ، 1961 ،2‬مطبعة دار التأليف بمصر ‪ ،‬وكذلك كتاب‬
‫الحكام السلمية في الحوال الشخصية ‪ ،‬للشيخ محمد ذكريا البرديسي ‪ ،‬أستاذ‬
‫الشريعة السلمية بكلية حقوق القاهرة ‪ ،‬ص‪ 167‬ـ ‪ ، 168‬ط‪ 1967، 1966 ، 3‬الناشر دار‬
‫النهضة العربية بمصر ‪) .‬‬

‫ومعلوم أن أبا حنيفة عاش في العراق حيث كانت هناك فرقة من الصابئة فرأيه‬
‫إذن على قدر من الهمية لنه نفى عنهم عبادة الكواكب وأكد أنهم يعظمونها‬
‫وقارن بين تعظيمها للكواكب وتعظيم المسلمين الكعبة وهي لفتة ذكية ول غرو‬
‫فقد اشتهر شيخ الحناف بالذكاء وسرعة البديهة ‪.‬‬

‫وسوف نتناول فيما بعد حكم الفقه في الصابئة ولكننا استبقنا ذلك لن رأي المام‬
‫العظم يدخل في تقييم عقيدة الصابئة ‪.‬‬

‫أما الطبري فيورد في تفسيره ‪ [ :‬كما نقل ‪ :‬أنهم فرقة من أهل الكتاب يقرءون‬
‫الزبور ] ( تفسير الطبري عند تفسيره لية سورة البقرة السابق ذكرها ـ نقل عن‬
‫معجم ألفاظ القرآن الكريم ) وعن مجاهد والحسن ‪ :‬هم طائفة من اليهود‬
‫والمجوس ل تؤكل ذبائحهم ول تنكح نساؤهم ‪ ،‬وعن قتادة ‪ :‬قوم عابدون الملئكة‬
‫ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات ‪.‬‬

‫وقيل وهو القرب أنهم قوم يعبدون الكواكب ‪ ..‬وينسب هذا المذهب إلى‬
‫الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلم ) (غرائب القرآن ‪ ،‬النيسابوري عند‬
‫تفسيره الية ‪ 62 /‬من سورة البقرة )‬

‫أما قول مجاهد والحسن أنهم طائفة من اليهود والمجوس فيشوبه الغموض فهل‬
‫هؤلء ( الصابئة ) كانوا في الصيل يهودا ً ثم صبأوا ومجوسا ً ثم صبأوا وما أهمية‬
‫ذكر الدين السابق إذا العبرة أنهم في نهاية المطاف تحولوا إلى صابئة ‪.‬أما أنهم‬
‫كانوا مجوسا ً ثم تهودوا ثم صبأوا !!!‬

‫والمعلومة التي ذكرها قتادة أنهم يصلون كل يوم خمس مرات للشمس فهي علي‬
‫درجة كبيرة من الهمية ويكاد يكون قتادة قد انفرد بها ‪.‬‬

‫أما تعليله أن هذه الصلوات الخمس هي للشمس فنحن ل نوافق عليه خاصة وأن‬
‫قبلتهم لم تكن نحو الشمس كما سنذكر فيما بعد ‪.‬‬

‫ونذهب إلى أن علة ذلك يرجع إلى أن الصابئة كانوا يعبدون الكواكب أو يعظمونها‬
‫وإذ أن الكواكب السيارات هي خمس ‪ :‬المشترى والزهرة وزحل وعطارد والمريخ‬
‫فيغدو المجموع خمس صلوات لنهم يتوجهون لكل واحد منهم بصلة ‪.‬‬

‫وهناك من يؤكد أنهم ينتهون بعقائدهم إلى غاذيمون وهو شيث بن آدم وهرمس‬
‫وهو أدريس النبي عليه السلم وقالت فرقة منهم أن إدريس وهو هرمس ولد بـ‬
‫( منف ) وسموه هرمس الهرامسة أو مثلث الحكمة وباليونانية آرمسيس أي عطارد‬
‫وعند العبرانيين أخنوخ وقالت فرقة أخرى أن إدريس ولد ببابل وانتقل إلى مصر‬
‫وهو أول من استخرج الحكمة وعلم النجوم وأن الله أفهمه سر الفلك وعدد‬
‫السنين والحساب وأنه أول من نظر في الطب وتكلم فيه ( هامش ص‪ 109‬من‬
‫الجزء الثاني من كتاب الملل والنحل للشهرستاني وهو التعليق بقلم الشيخ أحمد‬
‫فهمي محمد المحامي الشرعي الذي صحح " الملل " وعلق عليه ‪).‬‬

‫ول شك أن مصحح كتاب " الملل " قد نقل ذلك من كتاب التفاسير ( تفاسير‬
‫القرآن ) التي نقلت بدورها بشأن إدريس كثيرا ً من الساطير التي وردت في‬
‫( التوراة ) بشأن ( أخنوخ ) في حين أن المسلم يلتزم في شأنه بما ورد في‬
‫القرآن الكريم أما الساطير التي تعج بها التوراة فهو في غنى عنها ( انظر تعليق‬
‫أ ‪ .‬محمد فريد وجدي على مادة إدريس التي وردت في دائرة المعارف السلمية ‪،‬‬
‫ص‪ 484‬ـ ‪ 485‬من المجلد الثاني دائرة المعارف السلمية‪ ،‬إعداد وتحرير إبراهيم ذكي‬
‫خورشيد وآخرين ‪ ،‬ط‪ ، 1969 ،1‬دار الشعب بمصر ) ‪.‬‬

‫وبعيدا ً عن الساطير فإن تأثر الصابئة بأحد أسلفهم سواء أكان اسمه إدريس أو‬
‫أخنوخ أو هرمس عاش في مصر وتعلم من كهنتها الحكمة والطب ‪ .‬وسر الفلك‬
‫أمر يقوم شاهدا ً على احتواء عقائد الصابئة على وشائج حميمة بالكواكب بلغت‬
‫درجة العبادة ( أو التعظيم ) وعلم القدماء المصريين في الفلك والطب ل يماري‬
‫فيه أحد وقد استطردنا قليل ً في هذه الجزئية للتأكيد على أن من يذهب إلى أن‬
‫عقائد الصابئة تؤوب في مصادرها الولى إلى مصر القديمة لم يخطئ ‪.‬‬

‫********‬

‫وتوسع الشهرستاني ‪ -‬ربما بعكس غيره ‪ -‬من السلميين الذين تكلموا في ( الملل‬
‫والنحل ) في شرح عقائد الصابئة فقال أنهم يقفون في مقابل الحنيفية وأنهم‬
‫يقرون بأن للعالم صانعا ً فاطرا ً حكيما ً مقدسا ً عن الحدوث ويعجز البشر عن‬
‫الوصول إليه وأنما يكون التقرب إليه بالوساطات المقربين وهم ( الروحانيون )‬
‫المقدسون ومنهم شيث بن آدم وإدريس ‪.‬‬

‫وأن أحوال هؤلء الروحانيين من الروح والريحان ‪ ..‬الخ ومنهم الساجد والراكع‬
‫والقائم والساكن والمتحرك ومنهم كروبيون في عالم القبض وروحانيون في‬
‫عالم البسط وهم ل يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( الملل والنحل ‪،‬‬
‫الشهرستاني ‪ ،‬ت‪ 548‬هـ ‪ ،‬صححه وعلق عليه الستاذ الشيخ أحمد فهمي محمد‬
‫المحامي الشرعي ‪ ،‬ص‪ 108‬وما بعدها ‪ ،‬الجزء الثاني ‪ ،‬ط‪ 1467 ، 1‬هـ ‪ ،‬نشرته مكتبة‬
‫الحسين التجارية بمصر ) ‪.‬‬

‫ولعل وصف هؤلء الروحانيين يذكر بأوصاف الملئكة في السلم ( والملئكة‬


‫الكروبيون أقرب الملئكة إلى حملة العرش ‪،‬وقال أبو العالية ‪ :‬الكروبيون سادة‬
‫الملئكة منهم ‪ :‬جبريل وميكائيل وإسرافيل وهم المقربون ( هامش ص‪ 116‬من‬
‫المصدر نفسه ) ‪.‬‬

‫بل كان العرب قبل السلم الجاهلية يعرفون الملئكة الكروبيين يقول أمية بن أبي‬
‫الصلت ‪ :‬ملئكة ل يفترون عبادة ‪ ..‬كروبية منهم ركوع وسجد ( المرجع السابق ) ‪.‬‬
‫وسنذكر فيما بعد أن من تأثير الصابئة في عملية التوحيد تجذير عملية الوساطة‬
‫ولكن حل الملئكة عند عرب ما قبل البعثة المحمدية محل الروحانيين وتهيئة‬
‫الذهان لقبول الوصاف الروحية التقديسية للملئكة ‪..‬وكيف أن عقيدة الوساطة‬
‫تحولت إلى الشفاعة ( من ذا الذي يشفع عنده إل بأذنه ) الية ‪ 355‬من سورة‬
‫البقرة ‪.‬‬

‫أما عن طقوسهم العبادية ‪:‬‬

‫أنهم يصلون خمس صلوات في رأي قتادة وثلث في رأي غيره ـ وقد رجحنا رأي‬
‫قتادة وأن لم نأخذ بتعليله وطرحنا التعليل الصح حسب اجتهادنا ‪.‬‬
‫أما قبلتهم في صلتهم ( نحو مهب الحنوب ) ( تاج العروس ‪ ،‬الزبيدي ) وفي‬
‫الصحاح ‪:‬‬

‫قبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار ‪.‬‬

‫وفي التهذيب ‪ :‬أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ‪.‬‬

‫المصدر نفسه ‪ :‬وقبلتهم مهب الشمال عند منتصف النهار ( المعجم الوسيط )‬
‫ومن مسلكهم ‪:‬‬

‫التضرع والبتهال بالدعوات وإقامة الصلوات وكذلك الزكوات والصيام عن‬


‫المطعومات والمشروبات وتقريب القرابين والذبائح يضاف إلى ذلك أنهم عرفوا‬
‫الوضوء فقد ( كانوا يطهرون أنفسهم بالوضوء عند التصال الجنسي وأنهم كانوا‬
‫يحرمون لحوم الخنزير والكلب والطيور ذات المخالب ‪ ..‬وأنهم كانوا يبيحون‬
‫الطلق أو يجيزونه ) ( ‪) first encyclopedia of islam‬‬

‫وهذه الفروض العبادية قد تسربت إلى الديان الخرى ‪ ،‬ولعل فريضة الصيام هي‬
‫أشدها لفتا للنتباه لنها امتناع عن المطعومات والمشروبات في حين أنها في‬
‫اليهودية والمسيحية امتناع عن أنواع مخصومة من الطعام في أوقات معينة ‪.‬‬

‫وسبق أن تكلمنا عن شعيرة " التعميد " بالغطس أو الغمس في الماء وفي رأينا‬
‫أنه طقس من طقوس النتقال أكثر مما هو طقس عبادي أو شعائري ( معجم‬
‫العلوم الجتماعية ‪ ،‬أشرف على تحريره د‪.‬إبراهيم مدكور ‪ ،‬ط‪ 1975 ، 1‬الهيئة العامة‬
‫المصرية للكتاب ) ‪.‬‬

‫وليس ثمة ما يمنع أن يوحنا المعمدان تلقفه منهم وعنه أخذته المسيحية مع تغيير‬
‫في الداء ونذكر بما قلناه أنه في الساس مأخوذ من مصر القديمة ‪.‬‬

‫ولعل طقس التعميد هذا هو الذي حسم الفرق بين الفرقة التي تدخل في زمرة‬
‫أهل الكتاب وتسمى الصباة أو الصابئة وهم الماندرائيون وهي فرقة يهودية‬
‫مسيحية تمارس طقس التعميد وموطنها فيما بين النهرين ‪.‬‬

‫أما الصابئون فهم الحرانيون نسبة إلى حران وهم وثنيون وهم الذين عاشوا‬
‫شطرا ً من الزمن تحت ظلل السلم ‪.‬‬

‫وهم متأثرون بالثقافة الهللينية وإليهم ينسب عدد من المدرسين المشهورين في‬
‫الثقافة السلمية مثل ثابت بن قره وجابر بن حيان ‪.‬‬

‫ول يعنينا ما تقوله المصادر الغربية في شأن معاملة حكام المسلمين للصابئين أو‬
‫الصباة التي تتراوح بين الرعاية والضطهاد لنها تند عن موضوع درسناه ‪.‬‬

‫ولقد ذكر ابن النديم هؤلء الحرانيين باسم ( الحرنانية الكلدانيين المعروفين بـ‬
‫الصابئة ) وأورد طرفا ً من عبادتهم وطقوسهم العبادية فقال ( المفترض عليهم‬
‫من صلة في كل يوم ثلثة … لموضع الوتاد الثلثة التي هي ‪ :‬وتد المشرق ووتد‬
‫السماء ووتد المغرب ‪ ،‬في صلتهم ركعات وسجدات ‪ .‬وفي صلواتهم ‪ :‬فروض‬
‫ونوافل ‪ .‬ول صلة لهم إل على طهور ‪ .‬والمفترض عليهم من الصيام ثلثون يوماً‬
‫ولهم أعياد منها ‪ :‬عيد ( فطر السبعة ) و ( فطر الشهر ) و ( عيد الميلد ) وهو في‬
‫ثلثة وعشرين من كانون ‪.‬‬

‫ولهم قربان ( ضحية ) يتقربون به وإنما يذبحون للكواكب ويذبحون للقربان‬


‫( الضحية ) ‪ :‬الذكور منهم المعز والضان وسائر ذوات الربع مما ليس له أسنان‬
‫في اللحيين جميعا ً ومن الطير ‪ :‬غير الحمام مما ل مخلب له ‪ .‬والذبيحة عندهم ما‬
‫قطع الوداج والحلقوم والتذكية متصلة بالذبيحة ل انفصال بينهما ‪ .‬ول ذبيحة إل‬
‫لما له رئة ودم ‪ .‬وقد نهوا عن أكل الجزور وما لم يذك وكل ما له أسنان في‬
‫اللحيين جميعا ‪ :‬كالخنزير والكلب والحمار ‪.‬ومن الطير غير الحمام وما له مخلب ‪.‬‬
‫ومن النبات غير الباقلي والثوم ويتركون الختتان ‪ .‬ويتزوجون بشهود ‪ .‬ل من‬
‫قريب القرابة ـ ول طلق إل بحجة بينة عن فاحشة ظاهرة ول يراجع المطلق ول‬
‫يجمع بين امرأتين ول يطأ إل لطلب الولد ‪ .‬وفي الميراث ‪ :‬فريضة الذكر مثل‬
‫النثى ( الفهرست لبن النديم د‪ .‬ت ‪ .‬ن ‪ .‬الناشر دار المعرفة ‪ ،‬بيروت )‬

‫أن كثير من هذه الطقوس والشعائر قد انتقلت أم بحذافيرها أو ببعض التعديلت‬


‫لغيرها من الديان‪.‬‬

‫ولكن يظل سؤال هو ‪:‬‬

‫هذه الطقوس والشعائر كانت سائدة لدى الحرانيين الصابئة في وقت كتابة ابن‬
‫النديم للفهرست أي في القرن الرابع الهجري ؟ فهل هي نفسها التي كانت‬
‫موجودة لدى الصابئة أو الصابئين وقت أن كانت قريش تعمل على السيطرة على‬
‫مقدرات الجزيرة العربية ؟‬

‫أنني من ناحيتي أرجح ذلك لن الطقوس والشعائر من سماتها الرئيسية الدوم‬


‫والستمرار وترثها الجيال بعضها عن بعض كما هي ‪.‬‬

‫وقد ذكر القرآن الكريم الصابئين في ثلثة مواضع ‪:‬‬

‫‪ /‬من سورة البقرة‬ ‫‪62‬‬ ‫الية‬

‫‪ /‬من سورة المائدة‬ ‫‪69‬‬ ‫الية‬

‫‪ /‬من سورة الحج‬ ‫‪17‬‬ ‫الية‬

‫وفي المرات الثلث قرنهم باليهود والنصارى وهناك ملحظ ل يخفي على التأمل‬
‫الذي يقرأ بعين مفتوحة وعقل يقظ وهى أنة في آيتي المائدة والحج قدم‬
‫الصابئين علي النصارى وهما تاليتان في المصحف لسورة البقرة فهل هذا مرجعة‬
‫إلي تقييم أو وزن العقائد في كلتا الديانتين أم مردة لمدي النفتاح علي كل منهما‬
‫‪ .‬وسبق أن ذكرنا أن الصابئين يصلون خمس مرات في اليوم وأن صيامهم كف عن‬
‫تناول المطعومات والمشروبات لمدة ثلثين يوما ً وأنهم يتوضأون ويتضرعون‬
‫ويقدمون الضاحي ويؤدون الزكاة ويحرمون الخنزير ويجيزون الطلق ‪ ...‬الخ فهل‬
‫كان لذلك أثر في تقديم ذكر الصابئين على النصارى في السورتين التاليتين ( في‬
‫ترتيب المصحف ) لسورة البقرة ‪ ...‬ومن نافلة القول أن نذكر أن ما يجئ في‬
‫الذكر الحكيم محسوب بدقة بالغة وبعناية شديدة فل يقال أن تقديم الصابئة على‬
‫النصارى في السورتين المتأخرين قد جاء اعتباطا ً ـ‬

‫تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرا ً ‪.‬‬

‫ولكن ما هي الفرقة التي جاء ذكرها في القرآن العظيم في السور الثلث التي‬
‫أوردناها ؟‬

‫الباحثون السلميون لم يقدموا إجابة مباشرة عن هذا السؤال ـ ولكن يمكن‬


‫الهتداء إليها من خلل ما كتبوه أي ما بين السطور ‪:‬‬

‫عندما يرى أكثر الفقهاء أن الصابئة كحكم النصارى في الذبيحة والنكاح والجزية‬
‫( كتاب الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم ‪ ،‬أبي منصور عبد الله‬
‫البغدادي المتوفي ‪ 429‬هـ ‪ ،‬تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ‪ ،‬ص‪ ( ، 215‬د ‪ .‬ت ‪ .‬ن ‪) .‬‬
‫مؤسسة الحلبي بمصر ) فإن مفاد ذلك أن القرآن الكريم قد عنى الفرقة التي‬
‫ترى أن الخالق صانع حكيم منزه عن الحوادث تؤمن بحدوث العالم حتى وأن وقع‬
‫خلف معها في صفات الصانع وأن عظمت الكواكب لن هذا التعظيم ل يبلغ رتبة‬
‫العبادة وشأنه شأن تعظيم المسلمين الكعبة فلم يقل أحدهم أنهم يعبدونها ومن‬
‫غير المعقول أن يكون القرآن قد قصد الفرقة الوثنية التي تعبد الكواكب ‪.‬‬

‫وقد اختلف شيخ الحناف أبو حنيفة مع تلميذيه الثيرين أبي سيف ومحمد‬
‫الصاحبين في شأن الصابئين فالمام العظم ذهب إلى حلية نكاح نسوانهم أي‬
‫معاملتهم معاملة أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين في حين أن الصاحبين‬
‫يحرمان على المسلمين التزوج من الصابئات ‪...‬الخ ‪.‬‬

‫ومرد الخلف هو تفسير موقف الصابئة من مسألة اللوهية فإن كانوا يعترفون‬
‫بالصانع المبدع فيعاملون كاليهود والنصارى أما إذا كانوا يعبدون الكواكب‬
‫فيعاملون معاملة المشركين ‪.‬‬

‫وذهب رأس الحنيفية إلى أبعد من هذا فقد قال أنهم يؤمنون بكتاب ويقرون بنبي‬
‫( أحكام الزواج والطلق في السلم ‪ ،‬للشيخ بدران والحكام السلمية في‬
‫الحوال الشخصية ‪ ،‬للشيخ البرديسي ) ونحن نميل إلى ترجيح رأي المام العظم‬
‫ودليلنا على ذلك أن القرآن المجيد في اليات الثلث قرن الصابئين باليهود‬
‫والنصارى بل أنه في آيتي المائدة والحج قدم الصابئين على النصارى كما ذكرنا‬
‫ويستحيل عقل ً أن يفعل ذلك لو كانوا وثنيين ول يؤمنون بالصانع المبدع ومعلوم‬
‫أن الخلف او الختلف على صفاته ليس إنكارا ً له ‪ ...‬ولسنا في حاجة إلى التذكير‬
‫بالخلف على صفات الباري بين فرق أهل الكلم في السلم ‪.‬‬

‫ومن هنا نرى أن ما يذهب إليه الدارسون الغربيون ( الفرنجة ) من أن موقف‬


‫القرآن الكريم من الصابئة غير معروف ل يتسم بالنظرة المتأنية إنما أطلق على‬
‫وجه العجلة ( وعلى كل فمن غير المعروف من هم الصابئة الذين ورد ذكرهم في‬
‫القرآن والحقيقة المؤكدة أن عدة طوائف انتسبت إلى السم ومن ثم فان من‬
‫المستحيل تعيين ما عناه القرآن منهم على وجه الدقة ) ‪.‬‬

‫ولو أمعن الدارس النظر في اليات الثلث التي جاء ذكر الصابئين وخاصة في‬
‫السياق الذي شمل هؤلء والنظم الذي سلكهم لستبان له كنه فريق الصابئة الذي‬
‫عناه القرآن ـ هذا بالضافة إلى منهج القرآن ذاته يحيل عقل تمجيد المشركين‬
‫وحشرهم في زمرة المؤمنين بل وتفضيلهم على بعض أهل الكتاب‪.‬‬

‫ولكن دارسا ً عربيا ً إسلميا ً له وزنه توقف عند الصابئة الذين ذكرهن القرآن ولم‬
‫يقطع فيهم برأي كما فعل الباحثون الغربيون أو الفرنجة ( ولكن الذي يفهم من‬
‫القرآن الكريم أن الصابئة جماعة كانت على دين خاص وأنها طائفة مثل اليهود‬
‫والنصارى أي أن الكلمة مصطلح ولها مدلول معين ) (الفصل في تاريخ العرب قبل‬
‫السلم ‪ ،‬د ‪ .‬جواد علي ‪ ،‬الجزء السادس ‪ ،‬ص‪ ، 702‬الطبعة الثانية ‪ ،‬يناير ‪ ، 1978‬دار‬
‫العلم للمليين بيروت ‪ ،‬ومكتب النهضة بغداد ) ‪.‬‬

‫وكنا نود لو أنه أفصح عن رأيه وحدد الفرقة الصابئة التي ذكرها القرآن ويشرح لنا‬
‫مدلول المصطلح ! ثم يعيب على المفسرين أن تعريفهم للصابئة أو تقييد لهم‬
‫( أنما تكون عندهم في السلم وبعد وقوفهم على أحوال الصابئة واتصالهم بهم )‬
‫( الفصل في تاريخ العرب قبل السلم المرجع السابق ص‪. )702‬‬

‫ول ندري كيف كان يتأتى للمفسرين معرفة الصابئة وفرزهم وتصنيفهم دون‬
‫التصال بهم ثم الوقوف على أحوالهم !‬

‫****‬

‫وأهمية تحديد الفرقة الواردة في القرآن يساعد على معرفة مدى تأثيرها في دفع‬
‫عجلة التوحيد إلى المام ‪ ،‬ول يقتصر ذلك على البصمات التي تركتها تعاليم‬
‫ومناسك الصابئة على غيرها فحسب بل قبل ذلك الدور الذي لعبته الصابئة كبوتقة‬
‫ساعدت على صهر مختلف العقائد التي تؤمن بالله في نهاية المطاف ولو كانت‬
‫طريقة الوصول إليه تتم عبر بوابة ( الروحانيين ) أو ( الملئكة ) أو ( الشفعاء ) أو‬
‫( عزير ) أو يسوع )‪..‬الخ ‪ .‬فما دمت تؤمن بالصانع فأنت تدخل في زمرة المؤمنين‬
‫حتى ولو كنت ترى أنه ل يتوصل إليه إل بوسيلة الشفعاء ‪ ..‬الخ فهذا التسامح كان‬
‫عامل ً فعال ً في التأليف والتوحيد وهذا ما ل حظه أحد البحاث الفرنجة ( الغربيين )‬
‫[ أن تصورات ( مفاهيم ) الصابئة أو أفكارهم مفتوحة الباب للتسامح مع أي دين‬
‫يتبين بطريقة صحيحة أنه يؤدي إلى عبادة الله ] ( ‪the concise book of encyclopedia of‬‬
‫‪. )islam‬‬

‫وإذا كان دور اليهودية والمسيحية تمثل في إثراء الخطاب الديني لدى عرب ما قبل‬
‫السلم والتعريف بمفردات ومصطلحات كانت مجهولة لديهم وفي غرس فكرة‬
‫النبي المنتظر في وجدانهم قبل عقولهم ـ فأن دور الصابئة تمثل في تصوير‬
‫التوحيد كمعنى شامل ل يتقيد بألفاظ أو تراكيب أو صيغ ضيقة فما دام القصد هو‬
‫اليمان بالصانع المبدع فأن الوسائط تغدو ثانوية وهو ما يساعد على لم الشمل‬
‫الذي كان خطوة واسعة في طريق التوحيد ‪.‬‬

‫****‬

‫وفكرة الشفاعة عن طريق الملئكة أو غيرها كانت شائعة لدى عرب ما قبل ظهور‬
‫السلم ‪ ،‬فقبولها منهم ـ كما ترى ذلك الصابئة تولف قلوبهم ول تنفرهم فالصابئة‬
‫لم تنظر إليها على أنها شرك بالله أو أن هؤلء الشافعين أو الشفعاء شركاء له‬
‫في ملكه ـ بل كانت تركز نظرتها على الهدف وهو عبادة الصانع المبدع ‪.‬‬

‫وإذا كان السلم قد رفض تلك الفكرة وعدها شركا ً ونسبة بنات إلى الله ‪ ...‬الخ‬
‫فل يعني أن تلك النظرة التسامحية لم تؤد دورها في التماسك والتقارب والمتزاج‬
‫‪.‬‬

‫وكان منطلق السلم في الرفض هو التوحيد الخالص أي من منظور ديني ـ في‬


‫حين أن قريشا ً كانت بارعة في استخدام جميع العوامل الموصلة للتوحيد الذي‬
‫كانت قناعتها به كاملة لتحقيق حلمها وهو السيطرة على الجزيرة العربية تحت‬
‫سلطانها هي دون غيرها من القبائل ‪.‬‬

‫وأخيرا ً يبقى سؤال أخرناه عمدا ً وهو ‪ :‬ما الدليل على وجود الصابئين في مكة أو‬
‫في الحجاز وقت أن كانت قريش تخطو خطواتها الواثقة نحو حكم الجزيرة‬
‫العربية ؟‬

‫ويأتي على رأس الجابة عنه ‪ :‬ذكر الصابئين في القرآن ثلث مرات فلو أنهم كان‬
‫لهم حضور في تلك المنطقة لما ذكرهم ‪.‬‬

‫إل فلماذا لم يذكر القرآن الكريم ‪ :‬الديانة الفيدية أو الديانة البرهمية أو الديانة‬
‫الجينية أو الديانة البوذية وهي ل تقل عراقة عن ديانات الصابئة وتتفوق عليها في‬
‫كثير من النواحي وخاصة الروحية والخلقية ‪.‬‬

‫أنه لم يذكرها لنها لم تكن معروفة في بلد العرب وقت ظهور السلم ‪.‬‬

‫إذن باختصار ذكر الصابئة في القرآن الكريم دليل ل يقبل النقض على وجودها في‬
‫بلد العرب عامة والحجاز خاصة ‪.‬‬

‫ولقد رجح بل أكد كثير من الباحثين وجود " الصابئة " هناك ‪.‬‬

‫وأنهم كانوا يملون حضورا ً ملموسا ً وقت أن أعلن محمد ( ص ) دعوته ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ( ول استبعد أن يكون من سكان مكة أناس كانوا من الصابئة ‪ ،‬جاءوا إليها تجاراً‬
‫من العراق أو جاء بهم الحظ إليها حيث أوقعهم في سوق النخاسة فاشتراهم تجار‬
‫مكة وجاءوا بهم إلى مدينتهم وعرفوا أنهم صابئة ) ( د ‪ .‬جواد علي ‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬‬
‫المفصل في تاريخ العرب قبل السلم ) ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ( والوثنيون على اختلف أربابهم واليهود والنصارى والصابئون كان يمكنهم‬
‫‪،‬‬ ‫ص‪181‬‬ ‫زيارتها ( أي الكعبة أو بيت الله ) والتعبد فيها … ( أحمد إبراهيم الشريف ‪،‬‬
‫دار الفكر العربي بمصر ‪ ،‬مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ) ‪.‬‬

‫وعندما يتناول شعيرة الحج فيقول ‪:‬‬

‫( أن الذين كانوا يشهدون موسم الحج لم يكونوا قاصرين على أهل مكة أو القطر‬
‫الحجازي بل منهم من يأتي من اليمن ونجد ومشارف الشام ومشارف العراق كما‬
‫كان منهم إلى جانب المشركين الحنفاء والصابئة والنصارى واليهود ) ( المرجع‬
‫السابق ‪ ،‬ص‪. ) 193‬‬

‫‪ 3‬ـ [ والذي يفهم من القرآن الكريم أن الصابئة جماعة لهم دين خاص كاليهود‬
‫والنصارى ومن الرجح وجودهم في أرض العرب وفي أرض الحجاز خاصة …]‬
‫( أديان العرب قبل السلم ووجهها الحضاري والجتماعي ‪ ،‬ص‪ ، 333‬الب جرجس‬
‫داوود ‪ ،‬ط‪ 1408 ، 2‬هـ ‪ 1988 /‬م ) ‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ وكان في بلد العرب وفي البلد المجاورة صابئة ومجوس يعبدون النار ]‬
‫( محمد حسين هيكل ‪ ،‬ص‪ ، 166‬ط‪،11‬دار المعارف بمصر ‪ ،‬حياة محمد ) ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ وهناك باحث آخر يرجع بوجودهم إلى زمن سحيق نسجت حوله بعض‬
‫المسطورات التي ل زالت تؤمن بها وتتعبدها بعض المم وهو زمن إبراهيم‬
‫وإسماعيل وأمه هاجر [ ويطرح افتراضا هو أن المذهب الصابئ قد استقل‬
‫بمضمونه الفكري منذ رحلة إبراهيم ] ( في الفكر الديني الجاهلي ‪ ،‬ص‪ ، 131‬د ‪.‬‬
‫محمد إبراهيم الفيومي ‪ ،‬ط‪ 1983‬م ‪ ،‬دار المعارف بمصر ) ‪.‬‬

‫وسواء صح هذا الفتراض أو لم يصح فأن الذي ل مرية فيه أن الصابئة كانت هناك‬
‫عندما طفقت قريش تشد الرحال في طريقها إلى السيطرة على مقدرات جزيرة‬
‫العرب وأنهم لعبوا دورا ً بارزا ً في دفع عجلة التوحيد الذي كان المطية التي ركبتها‬
‫قريش وهي تيمم شطر هدفها المنشود أو بتعبير آخر نحو مشروعها الذي وضع‬
‫أساسه قصي والذي أتم تشييده حفيده محمد بن عبد الله عليه السلم ‪.‬‬

‫****‬

‫( ‪ ) 5‬الحنيفية‬
‫ظهر في شبه الجزيرة العربية تيار ديني متميز هو " الحنيفية " وقد أطلق على‬
‫معتنقيه الحنفاء ( والحنف هو الميل عن الضلل إلى الستقامة وتحنف فلن أي‬
‫تحري طريق الستقامة وسمت العرب كل من حج أو اختتن حنيفا ً تنبيها ً أنه على‬
‫دين إبراهيم عليه السلم ) ( أبو القاسم حسين بن محمد المعروف بـ الراغب‬
‫الصفهاني ‪ ،‬المفردات في غريب القرآن ‪ ،‬تحقيق محمد سيد كيلني " مادة حنف‬
‫" ‪ ،‬ط‪ 1381‬هـ ‪1961 /‬م ‪ ،‬شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولده بمصر ) ‪.‬‬

‫لفظة " حنف " عرفتها اللغات التي كانت سائدة في تلك المنطقة آنذاك ( وقد‬
‫ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني هو " تحنيوث " أو من "‬
‫حنف " ومعناها " التحنث " في العربية والسريان يطلقون لفظة " حنيفية " على "‬
‫الصابئة " وقد وردت لفظة " حنف " في النصوص العربية الجنوبية بمعنى " صبأ "‬
‫أي مال بشيء ما ‪ ..‬فاللفظة إذن من اللفاظ المعروفة عند العرب الجنوبيين ) (د‬
‫‪ .‬جواد علي ‪ ،‬المفصل في تاريخ العرب قبل السلم ‪ ،‬الجزء السادس ‪ ،‬ص‪، ) 543‬‬
‫كما تحدث القرآن الكريم عن الحنفاء وقد وردت لفظة " حنيفا " في ‪ 10‬مواضع من‬
‫القرآن الكريم ولفظة " حنفاء " في موضعين منه وبعض اليات التي وردت فيها‬
‫آيات مكية وبعضها آيات مدنية ) ( المفصل في تاريخ العرب قبل السلم ‪ ،‬ص‪) 451‬‬
‫‪.‬‬

‫رغم أهمية حركة " الحنيفية " وخطورتها فأنها في رأينا لم تنل حظها من الدراسة‬
‫والتمحيص الجادين المستقصيين من قبل الباحثين المحدثين ‪ ،‬وترجع أهميتها إلى‬
‫أنها كانت حلقة في مرحلة النتقال من مرحلة ما قبل السلم إلى السلم ) ( عز‬
‫الدين كشار ‪ ،‬اليمن دنيا ودين ‪ ،‬ص‪ ، 124‬ط‪1988 ، 1‬م ‪ ،‬دار الهمداني ‪ ،‬عدن ) ‪.‬‬

‫لم يكن تنامي حركة الحنيفية وانتشارها واعتناق العديد من الحكماء والعقلء‬
‫والمتنورين والشعراء لها قبيل البعثة المحمدية أمرا ً اعتباطيا ً أو مستغربا ً بل كانت‬
‫تحتمه موجبات ذلك المجتمع فـ ( منطق التاريخ نفسه يدعونا إلى رؤية ظاهرة‬
‫الحنفاء كواقع حتمي تقتضيه طبيعة التغيرات التي كانت تحدث في مجتمع‬
‫الجاهلية خلل القرن السادس الميلدي على طبيعة العلقات القتصادية‬
‫والجتماعية ) ( حسين مروة ‪ ،‬النزعات المادية في الفلسفة العربية السلمية ‪،‬‬
‫الجزء الول ‪ ،‬ص‪ ، 312‬ط‪ 1981 ، 4‬م ‪ ،‬دار الفارابي بيروت ـ لبنان ) ‪.‬‬

‫ويشرح لنا برهان الدين دلو المتغيرات التي طالت مجتمع ما قبل ظهور السلم ‪،‬‬
‫والتي أدت إلى ذيوع الحنيفية بقوله ( تطورت القوى المنتجة وتوسعت أعمال‬
‫الري الصطناعي وازداد النتاج الزراعي وارتبط النتاج الصناعي بسوق التبادل‬
‫ونمت المدن وتحولت العديد من القرى إلى حواضر مدنية‪ ..‬ونظمت السواق‬
‫الموسمية العامة … ونشطت التجارة الداخلية والخارجية فازداد العرب تقاربا ً ‪.‬‬
‫وأدى نشاط التجارة واتساع عمليات التبادل في نشر التعامل النقدي داخل‬
‫المجتمع القبلي مما سارع في تفككه … وتفكك رابطة الدم والنسب بين أبناء‬
‫القبيلة ونما التيقظ القومي متمثل ً في ظهور الحباش في اليمن عام ‪ 575‬م‬
‫وبانتصار العرب على الفرس في موقعة " ذي قار " عام ‪ 609‬م … وعلى الصعيد‬
‫الثقافي انصهرت اللهجات وتوحدت في لهجة مشتركة " لهجة قريش " التي‬
‫أصبحت لغة التعبير الفني ولغة التعامل المشترك بين مختلف القبائل أثناء انعقاد‬
‫المواسم العامة التجارية والدينية و الدبية … وقد ساعد إلى جانب المتغيرات‬
‫القتصادية والجتماعية وجود اليهودية والنصرانية في تغيير الوعي الديني باتجاه‬
‫النظر التجريدي نحو مشكلة الوجود متجاوزا ً النظرة الحسية في خلق " ظاهرة‬
‫الحنفاء " (برهان الدين دلو ‪ ،‬جزيرة العرب قبل السلم ‪ ،‬الجزء الثاني ‪ ،‬ص‪، 237‬‬
‫‪ ، 238‬ط‪1989 ، 1‬م ‪ ،‬دار الفارابي بيروت ‪ ،‬لبنان ) ويرى الباحث أن " ظاهرة الحناف‬
‫" ( كانت بداية الرهاص الفعلي لظهور دعوة السلم ) (المرجع نفسه والصفحة‬
‫نفسها ) ‪.‬‬

‫أما الباحثون المثاليون فيذهبون وجهة أخرى هي أن هؤلء الحنيفية بما امتازوا به‬
‫من رجاحة عقل وسعة أفق وسمو في الخلق وثقافة أعلى نسبيا ً من نظرائهم في‬
‫ذلك المجتمع ( أنفوا من عبادة الصنام ودعوا إلى التوحيد ) ( د ‪ /‬السيد عبد العزيز‬
‫سالم ‪ ،‬دراسات في تاريخ العرب قبل السلم ‪ ،‬ص‪ 436‬د‪ .‬ت‪ ، .‬مؤسسة الشباب‬
‫الجامعة ‪ ،‬السكندرية ) ‪.‬‬

‫ويصف جواد على الحنفاء بأنهم ( جماعة سخرت من عبادة الصنام وثارت عليها‬
‫وعلى المثل الخلقية التي كانت سائدة في ذلك الزمن ) ( د ‪ .‬جواد علي ‪ ،‬المرجع‬
‫السابق ‪ ،‬ص‪ ، ) 462‬ويرى البعض من أصحاب النظرة المثالية في تفسير التاريخ أن‬
‫عرب ما قبل ظهور السلم أخذوا يفكرون في عدم جدوى الصنام وعبث التعبد‬
‫لها ‪ ،‬وأنها غير ذات نفع لهم ‪ ،‬ويضربون على ذلك أمثلة منها ‪ :‬موقف امرئ‬
‫القيس الشاعر المشهور من " ذي الخلصة " وهو صنم كانت تعظمه العرب ‪ ،‬عندما‬
‫أراد الغارة على بني أسد آخذا ً بثأر أبيه فخرج له قدح الناهي فكسر القداح وضرب‬
‫بها وجه الصنم وقال في ذلك شعرا ً ‪ ،‬وموقف أعرابي من صنم آخر يقال له " سعد‬
‫" ذهب إليه ومعه إبله لنوال البركة فنفرت منه البل وتفرقت في كل وجه ‪،‬‬
‫فتناول حجرا ورمى به الصنم وأنشد بعض أبيات الشعر يسخر فيها من الصنم "‬
‫سعد " ( د ‪ .‬محمد إبراهيم الفيومي ‪ ،‬الفكر الديني الجاهلي ‪ ،‬ص‪، 451‬ط‪ 1983‬م ‪ ،‬دار‬
‫المعارف بمصر ) وأن هذا كله كان مدعاة إلى ظهور وانتشار " الحنيفية " بحثا ً عن‬
‫دين جديد يكون أكثر عقلنية ‪.‬‬

‫وفي رأينا أن أصحاب النظرتين المادية والمثالية قد غالوا في مذهبهم ‪ ،‬إذا أننا‬
‫بإزاء حركة عقائدية ‪ ،‬فليس من الصواب القتصار على التفاعلت القتصادية‬
‫والجتماعية التي ضربت مجتمع ما قبل البعثة المحمدية ‪ ،‬كما أن السباب‬
‫الخلقية مثل مدارك المتحنفين ‪ ،‬وعلو كعبهم في السلوك والخلق أو التعلت‬
‫التعبدية أو الطقوسية مثل القناعة بعبثية عبادة الصنام وافتقاد أي نفع من وراء‬
‫ذلك ‪ ،‬جميعها أمور ل تكفي بذاتها لشتداد عود الحنيفية ‪ ،‬ولكن الصح أن يقال أن‬
‫هذه العوامل بكاملها قد تفاعلت حتى نمت ‪ ،‬فأدت إلى تفشي الظاهرة وذيوعها‬
‫وشيوعها في أنحاء متفرقة ‪ ،‬خاصة في المدن أو المراكز المتحضرة ‪ ،‬وليس‬
‫انبثاقها أو ظهورها كما انتهى إليه عديد من الباحثين ‪ ،‬إنما عندما تكاملت تلك‬
‫الظروف وتعاضدت معا بدأت " الحنيفية " وتتحول من " ظاهرة " خافتة الصوت‬
‫إلى " حركة " لها وجود متميز تمثل في الشخصيات العديدة البارزة التي آمنت بها‬
‫والمبادئ التي كانوا يدعون إليها والتي تركت بصمات واضحة على الفكر الديني‬
‫الذي ساد جزيرة العرب ‪.‬‬

‫من هم هؤلء الحناف ؟‬

‫إنهم مجموعة من الحكماء ( سمت نفوسهم عن عبادة الوثان ولم يجنحوا إلى‬
‫اليهودية أو النصرانية وإنما قالوا بوحدانية الله ) ( د ‪ .‬السيد عبد العزيز سالم ‪،‬‬
‫دراسات في تاريخ العرب قبل السلم ‪ ،‬ص‪ ، ) 434‬كذلك تميزوا بجانب سلوكي‬
‫أخلقي راق فرفضوا الرذائل التي تفشت في مجتمعهم مثل الزنا والمخاذنة‬
‫وشرب الخمر والتعامل بالربا ووأد البنات ( كان ذلك من قبائل محدودة ) ‪ ،‬ولم‬
‫يكتفوا بنبذ عبادة الوثان فحسب بل امتنعوا عن الذبح لها وعن أكل ما يذبح لها ‪،‬‬
‫وعن أكل الميتة والدم ‪ ،‬وكانوا على ثقافة عالية نسبيا ً ذلك أن كثيرا ً منهم كان‬
‫يقرأ كتب الديانتين الساميتين ‪ :‬اليهودية والمسيحية وبعضهم كان يعرف لغة أخرى‬
‫غير العربية مثل العبرية والسريانية وكانوا في الغالب على درجة من اليسر المالي‬
‫الذي مكنهم من السياحة في البلد وخاصة فلسطين والشام بحثا عن دين النبي‬
‫إبراهيم عليه السلم الذي يصفه القرآن الكريم أنه كان " حنيفا ً " ‪ ،‬ولم يكتفوا‬
‫باللتزام الذاتي بل كانوا يدعون قومهم إليها مما عرض بعضهم إلى الذى والعنت‬
‫منهم " زيد بن عمرو بن نفيل العدوي " عم " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه‬
‫( وقد كان الخطاب " أبو عمر " آذى زيدا حتى خرج إلى أعلى مكة فنزل " حراء "‬
‫مقابل مكة ‪ ..‬وأغرى به شباب قريش وسفاءها فأخرجوه وآذوه ‪ ،‬كراهة أن يفسد‬
‫عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه ) ( الشيخ أحمد فهمي ‪،‬‬
‫هامش ص‪ ، 297‬من كتاب الملل والنحل ‪ ،‬للمام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم‬
‫الشهرستاني المتوفى عام ‪584‬هـ ‪ ،‬صححه وعلق عليه الشيخ أحمد فهمي ‪ ،‬ج‪ ، 3‬ط‪1‬‬
‫‪ 1949 ،‬م ‪ ،‬مكتبة الحسين التجارية بمصر ) ‪.‬‬

‫والحناف لم يكونوا على مشرب واحد بل كانت لهم توجهات متباينة ( لذلك فنحن‬
‫ل نستطيع أن نقول إن الحنيفية فرقة تتبع دينا ً بالمعنى المفهوم من الدين كدين‬
‫اليهودية أو النصرانية ‪ ،‬لها أحكام وشرعية تستمد أحكامهم من كتب منزلة مقدسة‬
‫ومن وحي نزل من السماء على نحو ما يفهم من الديان السماوية ) ( د‪.‬جواد علي‬
‫‪ ،‬المفصل في تاريخ العرب قبل السلم ‪ ،‬ص‪ ، ) 458‬والقاسم المشترك الذي كان‬
‫يجمعهم هو رفض عبادة الصنام ‪ ،‬والبحث عن دين إبراهيم الحنيف عليه السلم ‪،‬‬
‫وفي سبيل البحث عن حنيفية إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬ساحوا في البلد وقابلوا‬
‫كثيرا ً من رجال الدين ‪ :‬الحبار والرهبان والقساوسة وسألوهم عن دينهم ‪ ،‬وعن‬
‫دين الخليل إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬ونظروا في أسفارهم المقدسة ‪ .‬وانتماء‬
‫المتحنفين متميزة وعشائر موسرة هو الذي أتاح لهم فرصة التجوال في الرض‬
‫واقتناء الكتب الدينية ‪ ،‬وقد نسب إلى بعضهم اعتناق ديانة المسيح عليه السلم‬
‫مثل قس بن ساعدة اليادي ‪ ،‬وعثمان بن الحارث ( أو الحويرث ) القرشي ‪ ،‬ولكن‬
‫غالبية الباحثين تؤكد أن المتحنفين رغم عدم تماثلهم في الرأي أو المنعقد رفضوا‬
‫كل من اليهودية والمسيحية ‪ .‬أما نبذهم للولى فهو واضح ل يحتاج إلى شرح إذا‬
‫أنها ديانة منغلقة وليست تبشيرية نشطة وكان هم أتباعها منحصرا ً في النشطة‬
‫المالية والتجارية ‪ ،‬أما عدم إقبالهم على الخرى وإعراضهم عنها فله دواع كثيرة ‪،‬‬
‫منها أن المسيحية ملة معقدة مليئة بالسرار ول تتناسب مع العقلية العربية‬
‫الساذجة البسيطة ‪ ،‬ومنها أنها ديانة المبراطورية الرومانية البيزنطية التي حاولت‬
‫فرض سيطرتها على الجزيرة العربية ‪ ،‬بل أن القيصر عندما تنصر عثمان بن‬
‫الحويرث أرسله إلى مكة ليصير ملكا ً عليها ـ ومن ثم تكون تابعة له شأنها في ذلك‬
‫شأن طويلة الغساسنة ولكن القرشيين رفضوه بل يقال في إحدى الروايات أنهم‬
‫قتلوه وقالوا كلمتهم المشهورة ‪:‬‬

‫إن قريشا ً لقاح ل تملـك ول تـملـك ‪ ،‬هذا بالضافة إلى زيادة الشعور القومي‬
‫لديهم وهذا ل يتحقق باتباع ديانة غيرهم ‪ ،‬بل حتم عليهم أن يختصوا هم أنفسهم‬
‫بدين مستقل ‪ ،‬ومن هنا جاء بحثهم الدؤوب عن " الحنيفية " دين الخليل إبراهيم‬
‫عليه السلم ‪ ،‬الذي كانوا يعتقدون في قرارة أنفسهم أنه جدهم العلى ‪ .‬ويضيف‬
‫أحد الباحثين في نطاق مجانبتهم لدين المسيح عليه السلم أن النصرانية كانت‬
‫( غير متأهبة لتلبية حاجات التطور القتصادي والجتماعي في جزيرة العرب في‬
‫فترة الجاهلية لما تتسم به من السكينة والخنوع والمطالبة بالخضوع ) ( برهان‬
‫الدين دلو ‪ ،‬جزيرة العرب قبل السلم ‪ ،‬ص‪ ، ) 240‬وفي رأينا أن هذا سبب غير‬
‫مقنع ‪ ،‬لن المسيحية لو كانت كذلك لما قدر لها النتشار بين ربوع شطري‬
‫المبراطورية الرومانية ‪ ،‬كما أن مجتمعها لم يكن خامدا ً ‪ ،‬بل كان أكثر ديناميكية‬
‫من مجتمع الجزيرة قبل السلم ‪ ،‬ومشهور عن الرومان إقبالهم على الحياة‬
‫والعب من لذائذها ‪.‬‬

‫********‬

‫ضمت حركة " الحنيفية " شخصيات تميزت بالسمو العقلي والخلقي أو بالحنكة‬
‫السياسية أو الثقافية العالية نسبيا ً ‪ ،‬ولما كان الشعراء يمثلون في مجتمع ما قبل‬
‫البعثة المحمدية " الفئة المثقفة " لذا كان عدد كبار الشعراء آنذاك من الحناف‬
‫منهم ‪ " :‬أمية بن أبي الصلت " ‪ ،‬وزهير بن أبي سلمى " و "النابغة الذبياني " و "‬
‫عامر بن الظرب " ‪ ،‬ولهم قصائد في اليمان بوحدانية الله والبعث والنشور‬
‫والحساب ‪ ،‬وفي الناحية السلوكية الخلقية ‪ :‬الترفع عن الدنايا وتحريم شرب‬
‫الخمر ‪ .‬ويرى د‪ .‬جواد علي أن في أكثر ما نسب إلى أمية أبن أبي الصلت ( من‬
‫آراء ومعتقدات دينية ووصف ليوم القيامة والجنة والنار تشابه كبير وتطابق في‬
‫الرأي جملة وتفصيل ً لما ورد عنها في القرآن الكريم ‪ ،‬بل ونجد في شعر أمية‬
‫استخداما ً للفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي ) ( د‪.‬جواد‬
‫علي ‪ ،‬المفصل في تاريخ السلم ‪ ،‬ج‪ ، 6‬ص‪. ) 490‬‬

‫ومما يلفت النظر أن قبيلة قريش ضمت عددا ً من " الحناف " ‪ ،‬ويؤكد بعض‬
‫الخباريين أن الحنيفية بدأت فيها مبكرة مع " قصي " الجد العلى لمحمد ( ص )‬
‫مؤسس دولة قريش في يثرب ‪ .‬يقول " الشهرستاني " عنه ‪ 0‬وكان قصي بن كلب‬
‫ينهى عن عبادة غير الله تعالى من الصنام وهو القائل ‪:‬‬

‫أربا ً واحدا ً أم ألف رب أدين إذا تقسمت المور‬

‫تركت اللت والعزى جميعا ً كذلك يفعل الرجل البصير‬

‫وقيل هي لزيد بن عمرو بن نفيل ) ( الشهرستاني ‪ ،‬الملل والنحل ‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص‬


‫‪ ، )332/333‬وفي رأينا أنه ل مانع أن يكون قصي بن كلب هو الذي أنشأ هذا الشعر‬
‫ثم ردده من بعده زيد بن عمرو بن نفيل خاصة وأنهما من قبيلة واحدة ‪ ،‬والتمثل‬
‫بمقولت الجداد أمر طبيعي خاصة في مثل المجتمع المي " غير الكتابي " الذي‬
‫كان يعتمد على الذاكرة في حفظ السلف ‪ ،‬ويصف الشيخ أحمد فهمي وهو محقق‬
‫كتاب " الملل والنحل" قصيا بأنه ( عالم قريش وأقومها للحق وكان يجمع قومه‬
‫يوم العروبة ‪ ،‬ويذكرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم بأنه سيبعث فيه نبي ‪ ،‬وكان ينهي‬
‫عن عبادة الصنام ) ( الشيخ أحمد فهمي علي ‪ ،‬هامش الملل والنحل ‪ ،‬ص‪، 331‬‬
‫‪ ، ) 332‬ثم جاء عبد المطلب الجد المباشر للنبي محمد ( ص ) ويكاد يجمع الخباريين‬
‫على أنه من المتحنفين وقد فصلنا القول فيه في المبحث الخاص به ‪ ،‬ويطلق عليه‬
‫الدكتور سيد القمني لقب " أستاذ الحنيفية وزعيمها " ( د‪.‬سيد القمني ‪ ،‬الحزب‬
‫الهاشمي وتأسيس الدولة السلمية ) ‪.‬‬

‫وهناك رأي أن محمدا ً ( ص ) مؤسس دولة القرشيين في يثرب كان قبل تبليغه‬
‫رسالة السلم من " الحناف " ( ‪ ...‬يمكن الستنتاج من رواية السهيلي إذا صحت‬
‫أن الرسول ( ص ) في حياته الولى ونشاطه الديني كان حنيفيا ً وعلى صلة بـ "‬
‫مسيلمة الكذاب " وغيره من الحناف ) ( برهان الدين دلو ـجزيرة العرب قبل‬
‫السلم ‪ ،‬ص‪ ) 224‬ولعل مما يؤيده ما جاء في دواوين السنة النبوية ‪ :‬أنه عندما‬
‫عرض عليه عمرو بن الخطاب رضي الله عنه أنه يقرأ أشياء في التوراة مع ما جاء‬
‫به الرسول غضب الرسول ( ص ) وقال ‪ :‬امتهوكون يا ابن الخطاب والله لقد‬
‫جئتكم بـ " الحنيفية " السمحة ‪ ،‬ولو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إل أتباعي‬
‫‪ ،‬ولما ورد في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " إن الدين عند الله‬
‫الحنيفية " بدل ً من " أن الدين عند الله السلم " الية ‪ 19‬من سورة آل عمران ( أبو‬
‫بكر عبد الله بن داود بن الشعث السجستاني ‪ ،‬كتاب المصاحف ‪ ،‬هامش الصفحة‬
‫‪1985 ، 70‬م ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬لبنان) ‪ ،‬وكذلك لما ورد في سيرة محمد‬
‫( ص ) من ترفع عن الدنايا والتصاف بالخلق الحميدة والنفور من عبادة الصنام ‪،‬‬
‫والعتكاف في غار " حراء " لـ " التحنث " في شهر رمضان ‪ ،‬و " حراء " هو الغار‬
‫نفسه الذي كان يلجأ إليه " المتحنف " المجمع على تحنفه ‪ :‬زيد بن عمرو بن نفيل‬
‫العدوي ‪ ،‬و " التحنث " في شهر رمضان في غار حراء هو ما كان يفعله الجد‬
‫المباشر عبد المطلب وزعيم الحنيفية ‪ .‬ولو أننا نرى مانعا ً من أنه اختلط بـ "‬
‫الصابئة " الذين كانوا موجودين في مكة خاصة والحجاز عامة واطلع على عقائدهم‬
‫وطقوسهم العبادية التي ظهرت بصماتها جلية بعد ذلك ( مبحث الصابئة ) ‪ .‬كما أن‬
‫إجماع قريش والعرب على تلقيبه ( الصابئ ) أمر له دراسته ‪ .‬أما التعليل الذي‬
‫أورده الخباريين والمفسرون واللغويون من أن ذلك مرجعه هو خروجه عن دين‬
‫قومه فهو غير كاف ذلك أنهم لم يلقبوا زيد بن عمر بن نفيل أو ورقة بن نوفل أو‬
‫غيرهما بـ الصابئ " !!!‬

‫ولم يقتصر أمر الحنيفية في قبيلة قريش على هؤلء بل كان منها ‪:‬‬

‫" ورقة بن نوفل " أحد بني عمومة السيدة خديجة رضي الله عنها أولى زوجات‬
‫محمد ( ص ) ‪ ،‬و " عثمان بن الحويرث " الذي سبق أن ذكرنا محاولة قيصر الروم‬
‫تنصيبه ملكا ً على مكة ورفض ذلك ‪ ،‬و " زيد بن عمرو بن نفيل " وهو من أشهر‬
‫المتحنفين وقد أوردنا خبر معاملة الخطاب أبي عمر له بعد إعلن تحنفه ‪.‬‬

‫وبذلك يجيء محصول قريش من الحنيفية والحناف وفيرا ً بالنسبة لغيرها من‬
‫القبائل ‪ ،‬ولعل سكانها في مكة العاصمة الدينية الهامة وملتقى القوافل المحلية‬
‫والعالمية بما يحمله تجارها من أفكار ومبادئ وعقائد بجانب ما يحملونه من عروض‬
‫التجارة وثراء كبرائها مما أتاح لبعضهم السفر إلى الخارج والختلط بالشعوب‬
‫الخرى ولقاء عدد من رجال الدين ‪ ،‬بالضافة إلى رياح التغيير اجتماعيا ً واقتصادياً‬
‫وثقافيا ً التي أدت إلى ذلك ‪ ،‬تكون حظوة قريش بهذا العدد من " المتحنفين " دون‬
‫غيرها من قبائل الجزيرة أمرا ً كانت تحتمه طبائع المور في تلك الحقبة ‪ ،‬ونحن‬
‫في وجهة نظرنا هذه نختلف مه برهان الدين دلو في ( ‪ ...‬أما في مكة التي كانت‬
‫حصنا ً للشرك وغالبية أهلها من المشركين ‪ ،‬فإن " الحنيفية " لم تنتشر انتشاراً‬
‫واسعا ً ‪ ،‬لن الشعائر الدينية كانت هناك منظمة تنظيما ً حسنا ً ) ( برهان الدين دلو ‪،‬‬
‫جزيرة العرب قبل السلم ‪ ،‬ج‪ ، 2‬ص‪ ، ) 243‬فالسباب التي ساقها ل تؤدي إلى‬
‫تدعيم رأيه بل تنقضه ‪ :‬فكون مكة حصنا ً للشرك وموئل ً للمشركين ‪ ،‬وأن غالبية‬
‫أهلها منهم ‪ ،‬وأن العبادة الصنامية الوثانية نظمت فيها تنظيما ً جيدا ً ‪ ،‬كل هذا‬
‫ادعى لتنامي حركة مضادة لدى أقلية تنادي بعبثية التعبد لغير الله تعالى ‪ ،‬خاصة‬
‫وأن المجتمع المكي كان يضم صفوة من العقلء والحكماء والمتنورين لن قريشاً‬
‫امتازت عن غيرها من القبائل الخرى بالذكاء والفطانة واللسن ‪ ،‬يضاف إليه أن‬
‫مكة بحكم مركزها الديني المرموق وموقعها التجاري الهام كانت نقطة لقاء بين‬
‫أصحاب العقائد والملل كافة مما جعل نخبة المجتمع القرشي تطلع عليها وتنفعل‬
‫بها ‪ ،‬وسبق أن قلنا أن " الحناف " كانوا على بينة من مبادئ الديان والنحل‬
‫الخرى وكتبها المقدسة ‪ ،‬والخطر من ذلك أن المجتمع المكي كان شأنه شأن‬
‫سائر مجتمعات الجزيرة العربية خاصة في المراكز الدينية ـ في حالة تطور وتمور‬
‫بالحركة والنمو ‪ ،‬وكانت العلقات القبلية التقليدية وروابط النسب قد أخذت تميل‬
‫إلى التفكك من أثر المستجدات القتصادية ‪ ،‬كما كان المبحث يؤرق نفوس الصفوة‬
‫للعثور على عقيدة توحد وتجمع وتؤلف القبائل المتفرقة المتنافرة ‪ .‬تلك كانت‬
‫الدوافع التي دفعت " الحنيفية " إلى النمو والتحول من " ظاهرة " إلى " حركة "‬
‫تستجيب إلى مقتضيات الواقع ومسيرة التاريخ ‪ ،‬فكيف يقال بعد ذلك كله أن "‬
‫الحنيفية " لم تكن منتشرة في مكة ؟؟؟ ‪.‬‬

‫لقد خلط الباحث بين أمرين على تباين ظاهر بينهما ‪ :‬أولهما ‪ :‬انتشار " الحنيفية "‬
‫وثانيهما ‪ :‬محاربتها من قبل التجار والمرابين الذين كانوا يجنون الرباح الطائلة‬
‫من عبادة الوثان ‪ ،‬حقيقة أن كبار القرشيين وطواغيتها حاربوا " الحناف "‬
‫واشتدوا عليهم في اليذاء لدرجة النفي كما فعلوا مع زيد بن عمرو بن نفيل‬
‫العدوي ‪ ،‬حفظا ً على الوثنية ‪ ،‬ل حبا ً لها في ذاتها ‪ ،‬وإنما لما توفره لهم من أرباح‬
‫جمة ـ ولكن العداء لـ " الحنيفية " ل يدل على ندرة معتنقيها أو حتى قلتهم بل‬
‫على العكس ‪ ،‬فإن المعان في تعذيبهم قرينة واضحة على تمكن " الحنيفية " بين‬
‫عدد من متنوري قريش ‪.‬‬

‫يخرج عن نطاق بحثنا في " الحنيفية " الكشف عن مكان نشأتها ونقطة انطلقها ‪،‬‬
‫فسواء في " اليمن " باعتبارها ديانة توحيد ( ثم امتد دين الوحدانية المجردة ‪ ،‬كما‬
‫امتد التوحيد المتجسد إلى قلب الجزيرة العربية لتواصل المسيرة ‪ ،‬مسيرة خلق‬
‫الدولة المركزية الموحدة لعموم المنطقة العربية ) ( ثريا منقوش ‪ ،‬التوحيد في‬
‫تطوره التاريخي ـ التوحيد يمان ‪ ،‬ص‪ ، 160‬ط‪ 1981 ، 2‬م ‪ ،‬دار ازال ‪ ،‬بيروت ) ويميل‬
‫إلى هذا الرأي عز الدين كشار مستدل على ذلك بكثرة " الحنفاء اليماننين " من‬
‫أمثال ( قس بن ساعدة ـ اليادي وأرباب بن رئاب وأسعد أبو يكرب الحميري ‪،‬‬
‫ووكيع بن سلمة بن زهرة اليادي ‪..‬‬

‫وسيف بن ذي يزن ‪ ،‬وخالد بن سنان بن غيث العبسي وعبد الله القضاعي وعلف‬
‫بن شهاب التميمي ‪ .‬وقيس بن عاصم بن تميم ‪ ،‬وعفيف بن معدي كرب من كندة‬
‫‪ ..‬وغيرهم من السماء التي يبدو أنها يمنية الصل ‪ ،‬كذلك ما هو معروف من أن‬
‫أهل الجنوب قد عرفوا التوحيد ولو بصورة أولية قبل عرب الشمال ‪ ،‬ومن آلهتهم‬
‫التي تذكر في هذا الشأن ذو سموي والمقة التي يرجح بعض الباحثين أن اسم "‬
‫مكة " هو تحوير لها ‪.‬‬

‫أو أن الحنيفية ( نشأت في اليمامة وهي إحدى المناطق المتحضرة والمتقدمة‬


‫نسبيا ً في الميادين القتصادية والجتماعية والثقافية وانتشرت في غربي الجزيرة‬
‫العربية ) ( برهان الدين دلو ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪ ) 243‬نقول سواء كان هذا أم ذلك‬
‫فأن الثابت تاريخيا ً أنها كانت منتشرة في أنحاء عديدة من جزيرة العرب ولو أننا‬
‫نؤيد الباحثين اليمانيين في أن بدايتها كانت في اليمن ‪ .‬إنما الذي يهمنا أن نفرق‬
‫بين أمرين ذكرناهما هما ‪ :‬نشوء " الحنيفية " كظاهرة دينية أو عقائدية وبين‬
‫اشتداد عودها بعد ذلك وتحولها إلى حركة لها حضورها المتميز الذي ترك آثاره‬
‫العميقة في الفكر الديني الذي تلها في الجزيرة العربية ‪.‬‬

‫ليس صحيحا ً على الطلق ما يذهب إليه د ‪ .‬السيد عبد العزيز سالم عندما ذكر‬
‫( ظهرت قبيل السلم حركة جديدة أصحابها جماعة من العرب ‪ ،‬سمت نفوسهم‬
‫عن عبادة الصنام ‪ ...‬الخ ) ( د‪.‬السيد عبد العزيز سالم ‪ ،‬دراسات في تاريخ العرب‬
‫قبل السلم ‪ ،‬ص‪ ) 435‬وليس د‪ .‬سالم هو الوحيد الذي قرر ذلك بل سبقه ولحقه‬
‫كثير ‪.‬‬

‫أن " الحنيفية " لم تظهر قبيل السلم بل كانت أقدم من ذلك بكثير ‪ ،‬بدليل أن‬
‫كعب بن لؤي بن غالب " وهو أحد أجداد محمد ( ص ) البعيدين عده كثير من‬
‫الباحثين في زمرة " الحناف " منهم د‪ /‬السيد عبد العزيز سالم نفسه ( كعب بن‬
‫لؤي أحد أجداد الرسول كان متحنفا ً ( المرجع السابق ‪ ،‬ص‪ ) 438‬وهذا الخبر في ذاته‬
‫يؤيد وجهة نظرنا عن انتشار " الحنيفية " في قبيلة قريش ثم ما ثبت من أن "‬
‫قصيا ً " كان من الحناف ‪ ،‬وقصي بينه وبين ظهور السلم ما يقرب من مائتي عام‬
‫‪ ،‬وهذه مدة ل يمكن أن يقال بصددها " قبيل السلم " ‪ ،‬فإذا أضفنا إلى ذلك أنه‬
‫بين " كعب " و " قصي " جدان هما " مرة " و " كلب " ومع الفتراض بأن بين كل‬
‫جيل والذي يليه أربعين عاما ً تقدير " ابن خلدون " في المقدمة أضفنا لذلك ثمانين‬
‫عاما كان معنى ذلك ببساطة أن بين " حنيفية كعب " والبعثة المحمدية ما يقرب‬
‫من ثلثة قرون فكيف يجوز للدكتور سيد سالم ومن لف لفه أن يصفها بأنها "‬
‫قبيل السلم " !!!‬

‫" الحنيفية " إذن كانت قديمة نسبيا ً ‪ ،‬وكان وجودها الغالب في المراكز الحضرية أو‬
‫المدينية مثل اليمن واليمامة ومنها ثمامة بم كبير بن حبيب الحنفي المشهور بـ "‬
‫رحمان اليمامة " ثم أطلق عليه محمد ( ص ) لقب " مسيلمة الكذاب " والطائف‬
‫( ومنها أمية بن أبي الصلت ) ويثرب ( ومنها أبو قيس صرمة بن أبي أنس من بني‬
‫النجار ‪ ،‬وأبو عامر بن عبد عمر بن صيفي وكان قومه يسمونه " الراهب " ولما‬
‫عادى محمدا ً ( ص ) أمر المسلمين أن يسموه " الفاسق " ثم تحولت من " ظاهرة‬
‫" إلى " حركة " إذ تضافرت الظروف الجتماعية والقتصادية والسياسية والثقافية‬
‫والعقائدية على نمو عودها فاستوائه فاشتداده ‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يتم بصورة‬
‫واضحة في المدن ‪ ،‬وأن يعتنقها عدد من المستنيرين من أبنائها ‪ ،‬ولكن لماذا‬
‫المدن بالذات ؟‬

‫لن المتغيرات التي لحق بمجتمعاتنا كانت أكثر سرعة من مجتمعات البدو والريف‬
‫معا ً ‪ ،‬لم يكن الهدف " الحنيفية " شن الحرب على الرذائل الجتماعية والدواء أو‬
‫المنكرات السلوكية الخلقية فحسب ‪ ،‬بل نبذ عبادة الصنام والدعوة إلى عبادة إله‬
‫واحد ‪ ،‬تأثرا ً بالديانتين التوحيديتين اللتين عرفهما عرب الجزيرة وهما ‪ :‬اليهودية‬
‫والنصرانية ‪ ،‬ولن عبادة الصنام كانت من عوامل الفرقة بين القبائل إذ كان لكل‬
‫قبيلة أو مجموعة قبائل صنم تعبده وتذبح له وتنتظر منه النفع وكشف الضر‬
‫وتستشيره عن طريق القداح في حالة السفر والحروب … الخ والدعوة إلى عبادة‬
‫إله واحد مدعاة إلى التوحيد المادي ‪ ،‬هذا بالضافة إلى العوامل الخرى التي‬
‫ساهمت في عملية التوحيد ‪ ،‬ومن ثم يصح القول بأن " الحنيفية " قد ( واكبت‬
‫تطور المجتمع المكي وحاجاته وتطورت معه إلى أن دخلت معه مرحلة جديدة هي‬
‫التي مهدت لظهور السلم ) ( بلياييف ‪ ،‬العرب والسلم والخلفة ‪ ،‬ص‪ ، 143‬نقل‬
‫عن برهان الدين دلو ‪ ،‬مرجع سابق ) ‪.‬‬

‫لم يكن تحول الحنيفية إلى حركة قاصرا ً على اعتناق عدد كبير من المتنورين‬
‫العرب إياها ‪ ،‬بل في البصمات العميقة الغور التي تركتها على الفكر الديني‬
‫الخالف لها في جزيرة العرب ‪.‬‬

‫فبادئ ذي بدء كان " للحنيفية " الفضل في نشر العقيدة وتجذرها واستهجان عبادة‬
‫الوثان والسخرية منها ومن عبادها والكشف عن زيف ما كانوا ينسبونه إليها من‬
‫قدرات وتهيئة الذهان إلى اليمان بالبعث والنشور والحساب والجنة والنار ‪..‬الخ ‪.‬‬
‫أما في نطاق التعبديات والسلوكيات والخلقيات فقد تركت من ورائها سنناً‬
‫ترسخت ‪ ،‬منها (تحريم الربا ‪ ،‬تحريم شرب الخمر وحد شاربها ‪ ،‬تحريم الزنا ‪ ،‬وحد‬
‫مرتكبيه ‪ ،‬العتكاف في غار " حراء " في شهر رمضان والكثار من عمل البر‬
‫وإطعام المساكين والفقراء ‪ ..‬وقطع يد السارق ‪ ،‬تحريم أكل الميتة والدم‬
‫والخنزير ‪ ..‬والنهي عن وأد البنات وتحمل تكاليف تربيتهن ‪ ..‬والصوم والختتان‬
‫والغسل من الجنابة ) ( خليل عبد الكريم ‪ ،‬الجذور التاريخية للشريعة السلمية ‪،‬‬
‫ص‪ 25‬و‪ ، 26‬ط‪ 1990 ، 1‬م ‪ ،‬دار سينا للنشر ) ‪.‬‬

‫وإذا كانت الحنيفية كما قلنا في مفتتح المبحث هي إرهاص لـ " السلم " ‪ ،‬وإذ أن‬
‫الدين منذ عهد الجد عبد المطلب قد ظاهر الدولة القرشية وساندها ودعمها فإنها‬
‫بذلك قد شكلت بل ريب إحدى المقدمات الهامة لتلك الدولة التي أقامها الحفيد‬
‫محمد عليه السلم في يثرب ‪.‬‬

You might also like