Professional Documents
Culture Documents
هذا جزء من كتابي الجديد ،وهو مقدمة الكتاب ،على أمل أن أوافيكم بالبقية قريبا.
خالد أبوشادي
تحرير قلب!!
بطاقة دخول
المقدمة
إن الحمد ل نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،
من يهده ال فل مضل له ،ومن يضلل فل هادي له ،وأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك
له ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " ،يا أيها الذين آمنوا اتقوا ال حق تقاته ول تموتن إل
وأنتم مسلمون" " ،يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها
وبث منهما رجال كثيرا ونساء واتقوا ال الذي تساءلون به والرحام إن ال كان عليكم رقيبا" ،
" يا أيها الذين آمنوا اتقوا ال وقولوا قول سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع
ال ورسوله فقد فاز فوزا عظيما " ،أما بعد :
ظاهرة تراها من بعض المربين والدعاة وهي انصرافهم عن مجالس الوعظ والرقائق بحجة
الكتفاء الذاتي ،وأن تربية المواعظ والرقائق قد تجاوزوها من زمن ،فالمواعظ وترقيق
القلوب إنما هي للمبتدئين أو من هم على عتبة باب الدعوة!! أما هم فقد تخرّجوا من جامعة
اليمان وتسلموا شهادات التفوق منها ،ولم يعد لهم في هذا الميدان مطمع ،هذا لسان الحال
وإن لم يُفصح عنه المقال.
كان عكرمة حريصا كل الحرص على أن ل يصل هذا العلم إلى من ل يستحق ،لذا قال رحمه
ال :
" ل تعلّموا العلم إل لمن يعطي ثمنه " ،فقيل له :وما ثمنه؟ قال " :يضعه العالم عند من يعمل
به " .
وبيّن سفيان الثوري السبب في ما قال عكرمة ،فانطلق يشرح :
" إذا رأيتم طالب العلم يطلب الزيادة من العلم دون العمل فل تعلّموه ،فإنّ من لم يعمل بعلمه
كشجرة الحنظل كلما ازداد ريا بالماء ازداد مرارة ،وإذا رأيتموه يُخلّط في مطعمه ومشربه
وملبسه ونحو ذلك ول يتورع ،فكُفّوا عن تعليمه تخفيفا للحجة عليه غدا " ،وصدق الشاعر
حين قال :
لو كان العلم دون التقى شرف ...لكان أشرف خلق ال إبليس
لذا لما بعث قوم إلى سفيان الثوري يطلبون أن يُحدّثهم اشترط عليهم " :حتى تعملوا بما
تعلمون ،ثم تأتوني فأحدّثكم " ،ثم أردف في صراحة فاضحة :
" يدنّسون ثيابهم ثم يقولون تعالوا اغسلوها!! " .
ولذا خوّفك سري بن المغلّس السقطي فقال :
" كلما ازددت علما كانت الحجة عليك أوكد " .
وأهمية عودة الروح كانت واضحة وأخذت ما تستحق من سلفنا المبارك ،ومن هذا ما ذكره
المام الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن شريح رحمه ال :قال هانئ بن المتوكل :حدثني
محمد بن عبادة المعافري قال :كنا عند أبي شريح فكثرت المسائل فقال " :قد درنت قلوبكم ،
فقوموا إلى خالد بن حميد المهري استقلوا قلوبكم ،وتعلموا هذه الرغائب والرقائق ؛ فإنها
تُجدّد العبادة وتورث الزهادة ،وتجر الصداقة ،وأقلّوا المسائل فإنها في غير ما نزل تقسّي
القلب وتورث العداوة " .
وحضارة اليوم وهي ترمي سهام خداعها صوب القلوب الغافلة لتصيب لٌبّها ؛ تحتاج إلى درع
حصين تتكسّر عليه ،فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ،وما هذا الدرع سوى تربية
إيمانية راسخة تورث النظر في العاقبة ،واليقين بالخرة ،والتنافس في الخيرات ،والزهد في
الفانيات ،ول يتم ذاك إل إذا رد ال إليك روحك.
وما أشبه هذه الحضارة ببساط يسحب الناس ببطء تجاه نهايتهم المحتومة ،وهم عنها غافلون
شدّهم بعيدا عن طريق النجاة وبغيرها مشتغلون ،والشيطان يرقص بينهم فرحا ،ويقهقه وهو ي ُ
،حتى إذا ما وقعت بهم الداهية أفاقوا لكن ..هناك ..على أعتاب الحساب وفي ظلمة القبر ؛
فيا إخوان ..أترضون أن يكون هذا حالكم :تغفلون تغفلون ،ثم تموتون فتندمون!!
أخي ..أتبكي في بيت ال ندما على ما سرقت ،فإذا عدت إلى بيتك أكلت المسروق!! يا غافل
..أنفقت ما سرقت وبقي قطع اليد!! أتحفر قبرك بظفرك؟! أتقطع أنفك بسيفك؟! أتقتل نفسك
بنفسك؟!
أخي ..قلبك قلبك ..أنقذه منك قبل أن تهلكه ،قلبك ..سفينة نجاتك الوحيدة إلى الجنة وليس
لك غيرها ،فإياك والغرق ،والغرق اليوم معناه فقدان التألم باقتراف المعصية ،واللمبالة
بمواطن الزلل ،ومجاراة أهل السوء دون أدنى ندم ،وعدم إنكار المنكر ولو بالقلب ،فإن
وجدت نفسك تنجرف منك في هذا السيل ؛ فأعلن حالة الطوارئ ،واجذبها نحو النجاة بقوةٍ
تفوق قوة الغريق الذي يتشبث بأي شيء لدراك النجاة ،وأسرع قبل أن تلفظ أنفاسك الخيرة ،
وإل فإنها المحرقة!!
ويحك ..كيف تنفصل عنه ،وما خلقك إل لتتصل به!!
هذا الكتاب باب من أبواب الخير " ،وال سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه ،
بأن يحول بين قلبه وإرادته ،فل يُمكّنه بع ُد من إرادته عقوبة له ،فمن لم يستجب ل ورسوله
إذا دعاه ،حال بينه وبين قلبه وإرادته ،فل يمكنه الستجابة بعد ذلك .قال تعالى ﴿ :يا أيّهَا
الّذ ْينَ آمَنوا اسْتَجيْبوا لِ َولِلرّسوْلِ إِذا ُدعَ ْاكُمْ ِلمَاْ ُيحْي ْيكُمْ وَاعْلَموا َأنّ الَ يَحوْلُ بَ ْينَ ال َم ْرءَ َوقَلْ ِبهِ
﴾ [ النفال ، ] 24 :وقد صرح سبحانه بهذا في قوله َ ﴿ :ونُقَلّبُ َأفْ ِئدَتَهُمْ َوأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ
يُ ْؤمِنُوا ِبهِ أَوّلَ َم ّرةٍ ﴾ [ النعام ، ] 110 :وقال تعالى ﴿ :فَ َلمّا زَاغُوا َأزَاغَ الّلهُ قُلُوبَهُم
﴾ [ الصف ، ] 5 :وقال َ ﴿ :ومَا كَانَ الّلهُ ِل ُيضِلّ قَ ْومًا َب ْعدَ ِإذْ َهدَاهُمْ حَتّى يُبَ ّينَ لَهُمْ مَا يَتّقُونَ ﴾
[ التوبة ، ] 115 :وهو كثير في القرآن " .
أخي ..هذا الكتاب بضاعة وشراؤها بالعمل ،فاقرأه موقنا أن قراءتك هي سبيل الرقي في
الدنيا قبل الخرة « اقرأ وارقَ » ،واستعد بعد قراءته للتسابق وتهيّأ للنطلق ،وطلّق زمن
اللهو وانس أيام الغفلة ،واحطم اللت والعزى لديك ،وتزوّد بالوقود لتبدأ الرحلة ،واتخذه
زادا لتشغيل آلة القلب لتستأنف المسير وتتحمل المشاق وتستعذب اللم لتستوجب الثمن ،
واقبله مني هدية متواضعة ولمسة رقيقة ليكون جليس روحك وهي تولد من جديد من رحم
الغفلة وتتحرر من أسر البدن.
هذا الكتاب رحلة سفر أخروية ،ومن المعلوم أنه " لما سافر موسى إلى الخضر وجد في طريقة
مس الجوع والنصب فقال لفتاه :آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ،فإنه سفر إلى
مخلوق ،ولما واعده ربه ثلثين ليلة وأتمها بعشر فلم يأكل فيها ؛ لم يجد مس الجوع ول
النصب ،فإنه سفر إلى ربه تعالى ،وهكذا سفر القلب وسيره إلى ربه ل يجد فيه من الشقاء
والنصب ما يجده في سفره إلى بعض المخلوقين " .
هذا الكتاب نهر صاف يسقي القلوب العطشى ويغسل الرواح التي دنستها الذنوب على مدى
سنين ،وليس هدف الكتاب صبّ اليمان في قلبك كل ،بل لثارة بواعثه الكامنة في عروقك ،
ولست أزعم أنني هنا الن لجعلك خيرا مما أنت عليه بل لُعلِمك أنك خيرٌ بكثير مما تظن ،
وأصيح فيك بأن رصيد الفطرة الراقد فيك ينتظر شرارة تقدح الحماسة وتطرد الغفلة والكسل ،
وأسأل ال أن يجعل هذه الشرارة بين ثنايا هذه الصفحات وفي بطن هذا الكتاب.
ول تتم الفائدة من هذا الكتاب إل إذا انتقلت روحك من شعور إلى شعور ومن حال إلى حال ،
فإذا سافرت في ثنايا هذا الكتاب وهمّ الدنيا يمل قلبك ،وأشغالها تشغلك ،وهمومها تُهِمك ،
فكأنك قرأت وما قرأت ،وحفظت وما فهمت.
ما هو القلب؟!
لكن
لماذا الحديث عن القلب بالذات دون سائر العضاء؟!
لقد أحصيت في هذا الباب عشرين سببا لهذا ،وتبدأ بما يلي :
.1إنه الملك :
القلب أمير الجسد وملك العضاء ،فهو راعيها الوحيد وقائدها ،وإنما الجوارح والحواس تبع
له وآلت تصدع بما تؤمر ،فل تصدر أفعالها إل عن أمره ،ول يستعملها في غير ما يريد ،
فهي تحت سيطرته وقهره ،ومنه تكتسب الستقامة أو الزيغ ،وبين القلب والعضاء صلة
عجيبة وتوافق غريب بحيث تسري مخالفة كل منهما فورا إلى الخر ،فإذا زاغ البصر فلنه
مأمور ،وإذا كذب اللسان فما هو غير عبد مقهور ،وإذا سعت القدم إلى الحرام فسعي القلب
أسبق ،لهذا قال صلى ال عليه وسلم عن المصلي العابث في صلته « :لو خشع قلب هذا
لخشعت جوارحه » ،وقال لمن يؤم من المصلين « :استووا ول تختلفوا فتختلف قلوبكم » ،
فأعمال الجوارح ثمرة لعمال القلب ،والخلصة :القلب هو خط الدفاع الول والخير ،فإذا
ضعف القلب أو فسد أو استسلم انهارت الجوارح!!
وفي المقابل إذا ذكر العبد ربه فلن القلب ذَكَر ،وإذا أطلق يده بالصدقة فلن القلب أذِن ،وإذا
بكت العين فلن القلب أمر ،فالقلب مملي الكلم على اللسان إذا نطق ،وعلى اليد إذا كتبت ،
وعلى القدام إذا مشت ،وقد عرف النبي صلى ال عليه وسلم للقلب حقه ومكانته حتى وصفه
بأنه « :مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله » ،وتوجه أول ما توجّه إليه ليربّيه ويهتم به
ويزكّيه.
فكل الفعال مردها إلى القلب وانبعاثها من القلب ،وكل الفعال تعني كل الفعال ولو كانت لبس
ثيابك وزينة بدنك!! وهذا ما أدركه مستودع القرآن الصحابي الجليل عبدال بن مسعود رضي
ال عنه فقال " :ل يشبه الزي الزي حتى تشبه القلوب القلوب " .
والسبب الثالث في أهمية القلب أن طهارته شرط دخول الجنة ،لذا ذم ال خبثاء القلوب فقال
خ َرةِ عَذابٌ عَظيْمٌ خزْيٌ وَلَهُمْ في ال ِ ط ّهرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدّنيا ِ
﴿ :أُولِئك اّلذِينَ لَمْ ُي ِردِ الُ أنْ يُ َ
﴾ [ المائدة ، ] 41 :والية دليل دامغ على أن من لم يطهّر قلبه فل بد أن يناله الخزي في
الدنيا والعذاب في الخرة ،ولهذا حرّم ال سبحانه الجنة على من كان في قلبه مثقال ذرة من
خبث ،قال صلى ال عليه وسلم « :ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر » .
ول يدخلها أحد إل بعد كمال طيبه وطهره ،لنها دار الطيبين ،ولذا يُقال لهم وهم على مشارف
الجنة ﴿ :طِبْ ُتمْ فَادْخُلُوهَا خَا ِلدِينَ ﴾ [ الزمر .] 73 :
ويُبشّرون عند موتهم دون غيرهم على لسان الملئكة ﴿ :اّلذِينَ تَتَ َوفّا ُهمُ المَلئِ َكةُ طَيّبِينَ
يَقُولُونَ سَلمٌ عَلَ ْيكُ ُم ادْخُلُوا الج ّنةَ ِبمَا كُنْتمْ تَ ْع َملُونَ ﴾ [ النحل .] 32 :
قال ابن القيّم " :فالجنة ل يدخلها خبيث ،ول مَن فيه شيء من الخبث ،فمن تطهّر في الدنيا
ولقي ال طاهرا من نجاساته دخلها بغير معوّق ،ومن لم يتطهر في الدنيا ؛ فإن كانت نجاسته
عينية كالكافر لم يدخلها بحال ،وإن كانت نجاسته كسبية عارضة دخلها بعد ما يتطهر فى النار
من تلك النجاسة ،ثم يخرج منها حتى إن أهل اليمان إذا جازوا الصراط حُبسوا على قنطرة
بين الجنة والنار ،في َهذّبون وينقّون من بقايا بقيت عليهم قصرت بهم عن الجنة ،ولم توجب
لهم دخول النار ،حتى إذا ُهذّبوا ونقوا ُأذِن لهم في دخول الجنة " .
ط ّهرْ ﴾ [ المدثر .] 4 : من أجل ذلك جاء المر جازما للنبي صلى ال عليه وسلم ﴿ :وَثِيَا َبكَ فَ َ
قال ابن القيّم " :وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا
القلب ،والمراد بالطهارة إصلح العمال والخلق " .
النجاسة الكبرى
جسٌ ﴾ [ التوبة ] 9 :
شرِكُونَ نَ َ
قال ال تعالى ﴿ :إِ ّنمَا ا ْل ُم ْ
فعبّر سبحانه وتعالى عن نجاستهم بالمصدر للمبالغة ؛ وكأنهم عين النجاسة لن خبائث الباطن
أولى بالجتناب وهل أخبث من الشرك؟! فإن خبائث القلب مع خبثها في الحال مهلكات في المآل
،ومعنى آخر :هو أن الطهارة والنجاسة غير مقصورة على الظاهر ،فالمشرك قد يكون نظيف
الثوب مغسول البدن ولكنه نجس القلب ،وهذا الذي ذهب إليه أهل المذاهب الربعة إلى أن
الكافر ليس بنجس الذات لن ال سبحانه أحلّ طعامهم ،وثبت عن النبي صلى ال عليه وسلم
في ذلك من فعله وقوله ،فأكل في آنيتهم ،وشرب منها ،وتوضأ فيها ،وأنزلهم في مسجده.
وإضافة إلى هذا ؛ فالنجاسات المعنوية ليست على درجة واحدة بل تتفاوت ،وليس محلها قلوب
الكفار فحسب ،بل قد توجد في قلوب المسلمين ،فالغضب والكبر والحسد وغيرها من أمراض
القلوب نجاسة ،وإذا كان صلى ال عليه وسلم قد قال « :ل تدخل الملئكة بيتا فيه كلب ول
صورة » ،فإن أبا حامد الغزالي [ ت ] 505 :قد تأمل في هذا الحديث تأمل قد يكون بعيدا عن
الظاهر لكنه ذو دللة فقال :
" والقلب بيت هو منزل الملئكة ،ومهبط أثرهم ،ومحل استقرارهم ،والصفات الرديئة مثل
الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلب نابحة ،فأنى تدخله الملئكة
وهو مشحون بالكلب ،ونور العلم ل يقذفه ال تعالى في القلب إل بواسطة الملئكة ،وما كان
لبشر أن يكلمه ال إل وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسول فيوحي بإذنه ما يشاء ،وهكذا
ما يرسل من رحمة العلوم إلى القلوب إنما تتولها الملئكة الموكلون بها ،وهم المقدسون
المطهرون المبرءون عن الصفات المذمومات ،فل يلحظون إل طيبا ،ول يعمرون بما عندهم
من خزائن رحمة ال إل طيبا طاهرا " .
من القلوب قلب كقبور الموتى ظاهرها الزرع والورد وباطنها الجيف والموت ،أو كبيت مظلم
على سطحه سراج وباطنه ظلم ،والنبي صلى ال عليه وسلم يقول في هذا « :إن ال ل ينظر
إلى صوركم وأموالكم ،ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم » .
إنها حياة القلب وإن كانت البطون خاوية والثياب بالية ،وقد أبان الحديث أن القلب هو موضع
نظر الرب ،فل عبرة إذن بحسن الظاهر مع خبث الباطن ،فاعجب ممن يعتني بمظهره
وهندامه الذي هو محل نظر الخلق ؛ فيغسل ثوبه ويعطّره ،وينظّف بدنه ويطهّره ،ويتزيّن بما
أمكن ،لئل يطّلع مخلوق على عيب فيه ،ول يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق ؛ فيطهّره
ويزيّنه لئل يطلع ربه منه على دنس أو خبث أو أحد غيره.
ومعنى آخر من الحديث قاله ابن الجزري :
ختِيار والرحمة والعَطْف لنّ النظر في الشاهد دليلُ المحبّة ،و َترْك النظر دليل
" النّظَر ها هنا ال ْ
البُغْض والكراهة " .
مذنب وبرئ!!
عمِلَت الخطيئة في الرض كان من شهِدها ؛ وتأمل قول النبي صلى ال عليه وسلم « :إذا ُ
فكرِهها كمن غاب عنها ،ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها » .
سبحان ال! غائبٌ عن ساحة الجريمة لكنه أول المتهمين واسمه في سجل المذنبين ،وآخر
حضر الجريمة بنفسه ورآها بعينه ومع ذلك يأتي الحكم له بالبراءة!! والسبب في ذلك كله القلب
الذي أنكر فسلِم أو رضي فأثم.
وفي الحديث بشارة ونذارة ؛ بشارة لمن اضطر إلى حضور مجلس يُعصى ال فيه ولم يستطع
أن ينكره بيده أو بلسانه بل ولم يقدر حتى على مغادرة المكان ؛ فيقوم القلب بالواجب وينبري
للنكار ،ونذارة لرجل أراد ال له الخير فأبى لنفسه إل الشر ،وعصمه من المنكرات فأبى إل
التلطخ بها ،وصرف جسده عن مكان الثم فسافر إليه بقلبه وروحه فعوقب بمساواته مع
مرتكب الجرم.
إنه القلب حين يزني!! نعم يزني ،ومع شدة وقع هذه الكلمة على النفس إل أن الذي أطلقها هو
من وصفه ربه أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ،ومن رحمته ورأفته بأمّته تحذيره الصريح لها
بقوله « :وزنا القلب :التمني » .قال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا " :زنا القلب التمني :أي
يهوى وقوع ما تحبه النفس من الشهوة " .
إن للقلب كسبا كسب الجوارح وعمل كعملها ،وال سبحانه أعلن أنه يؤاخذ على كسب القلب
سبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [ البقرة .] 225 : خذُكُمْ ِبمَا َك َ
ثوابا وعقابا ،فقال سبحانه َ ﴿ :ولَ ِكنْ ُيؤَا ِ
ويشهد لعمل القلب هذا وأن ال يحاسب العبد عليه حديث :
« إذا التقى المسلمان بسيفيهما ،فقتل أحدهما صاحبه ،فالقاتل والمقتول في النار » .قيل :يا
رسول ال!! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال « :إنه كان حريصا على قتل صاحبه » .
فدخل هذا المسلم النار بشيء وقر في قلبه وهلك بسبب عمل قلبي ؛ ليس غير.
الظاهر والباطن!!
نعم ..صورة القلب هي الصل ،فإن وافق الظاهر الباطن كان ما في القلب حقيقيا ،وإن خالف
الظاهر الباطن كان ما في القلب مزيفا ،وعلى القلب أيضا يتوقف صحة الظاهر أي قبوله عند
ال ،أما الناس فإنهم مكلّفون بقبول الظاهر فحسب والحكم على أساسه وال يتولى السرائر ،
ومن هنا كان مقصد الشهادتين هو توجيه رسالة ملموسة إلى الناس بإسلم الناطق بها ،في
حين أن ال وحده هو المطلع على غير الملموس من محتوى الباطن ،وقد نطقت ألسنة
المنافقين بالشهادتين ،فعصمت دماءهم في الدنيا ،لكن مستقرهم في النهاية هو الدرك السفل
من النار بما حوت قلوبهم.
واسمعوا إلى ارتباط الظاهر بالباطن في قوله تعالى ﴿ :قُلْ ِإنْ كُ ْنتُمْ تُحِبّونَ الّلهَ فَاتّبِعُونِي
﴾ [ آل عمران ، ] 31 :فإن حب ال في القلب يورث اتباع الجوارح ول بد ؛ وإل كان ادعاء
وكذبا وزورا.
قال عز وجل ﴿ :يَوْمَ ل َينْ َفعُ مالٌ وَل بَن ْونٌ * إِل َمنْ أَتَى الَ بِقَ ْلبٍ سَل ْيمٍ ﴾ [ الشعراء -88 :
.] 89
فل القول ينفع ،ول العمل يشفع ،بل سلمة القلب هي أصل كل نجاة ؛ كما أن فساده أصل كل
بلية ،لكن ما هو القلب السليم؟!
والجواب :هو القلب الذي سلم من كل شيء إل من عبوديته لربه .قال شيخ السلم ابن تيمية
" :فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير ل الشر ،وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر ؛
فأما من ل يعرف الشر فذاك نقص فيه ل يُمدح به " .
وتأمل كيف جعل ال المال والبنون بمعنى الغنى ،كأن المعنى :يوم ل ينفع أحد غناه إل غنى
من أتى ال بقلب سليم ؛ لن غنى الرجل الحقيقي هو في دينه بسلمة قلبه كما أن غناه فى
دنياه بماله وولده ،وعلى هذا يكون من معاني القلب السليم أي من فتنة المال والبنين.
لكن تلميذا نجيبا من تلمذة ابن تيمية أفاض في شرح معنى القلب السليم ؛ يبغي بذلك إزالة أي
لبس أو غموض حتى يسهل الوصول إلى المراد ،فقال المام ابن القيّم [ ت : ] 751 :
" والقلب السليم هو الذى سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا
والرياسة ،فسلم من كل آفة تبعده من ال ،وسلم من كل شبهة تعارض خبره ،ومن كل شهوة
تعارض أمره ،وسلم من كل إرادة تزاحم مراده ،وسلم من كل قاطع يقطعه عن ال ،فهذا
القلب السليم فى جنة معجلة فى الدنيا ،وفى جنة فى البرزخ ،وفى جنة يوم المعاد ،ول يتم
له سلمته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء :من شرك يناقض التوحيد ،وبدعة تخالف السنة
،وشهوة تخالف المر ،وغفلة تناقض الذكر ،وهوى يناقض التجريد والخلص ،وهذه
الخمسة حجب عن ال " .
وفي آية سورة ق :
ح َمنَ بِا ْلغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ ق :
خشِيَ الرّ ْ
حفِيظٍ * َمنْ َ
عدُونَ ِلكُلّ أَوّابٍ َ
﴿ َهذَا مَا تُو َ
.] 33-32
وتأمل قوله تعالى في الشعراء ﴿ :أَتَى ﴾ ،وفي ق ﴿ :جَاءَ ﴾ ،وكأن المعنى الذي يريد أن
يوصله لك ربك :ائتني بقلب سليم وجئني بقلب منيب تنجُ من عذابي وتنل رضائي ،فأنت يا
أخي وحدك الذي تملك أن تأتي بهذا القلب وليس أحد غيرك.
وفي المقابل قد يدخل عبد النار بسبب قلب كما قال تعالى :
جنّ وَالْإِ ْنسِ َلهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْ َقهُونَ بِهَا ﴾ [ العراف .] 179 :
﴿ َولَ َقدْ َذرَأْنَا لِجَ َهنّمَ كَثِيرًا ِمنَ الْ ِ
بل إن حال العبد في قبره ما هو إل انعكاس لحال قلبه في الدنيا كما قرّر ذلك ابن القيم وهو
يزيدنا في كتابه زاد المعاد :
" فحال العبد في القبر كحال القلب في الصدر نعيما وعذابا وسجنا وانطلقا " .
قال خبير القلوب وكاتم سر النبي صلى ال عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي ال عنه :حدّثنا
رسول ال صلى ال عليه وسلم حديثين ،رأيتُ أحدهما ،وأنا أنتظر الخر :حدّثنا أن المانة
نزلت في جِذر قلوب الرّجال ،ثم علموا من القرآن ،ثم علموا من السّنة ،وحدّثنا عن رفعها
قال « :ينام الرجل النوْمة ف ُتقْبَض المانة من قلبه . » .. ،
ع َرضْنَا الْ َأمَا َنةَ
والمانة المذكورة في الحديث هي المانة التي جاءت في قوله تعالى ﴿ :إِنّا َ
حمََلهَا الِْإ ْنسَانُ إِ ّنهُ كَانَ ظَلُومًا
ح ِملْنَهَا َوَأشْفَ ْقنَ مِنْهَا وَ َ
سمَاوَاتِ وَالْ َأ ْرضِ وَا ْلجِبَالِ فَأَبَ ْينَ َأنْ يَ ْ
عَلَى ال ّ
جَهُولًا ﴾ [ الحزاب ، ] 72 :وهي عين اليمان ،فالمانة هنا هي اليمان ،وقد أخبرنا صلى
ال عليه وسلم في هذا الحديث أن اليمان نزل أول ما نزل في القلب تعبيرا عن الفطرة السوية
التي يولد بها العبد ،ثم يزيد اليمان بعد ذلك اكتسابا بتعلم القرآن والسنّة ،وتأتي أهمية المانة
من أنها إذا تمكنت من قلب العبد ؛ قام بأداء ما ُأمِر به واجتنب ما نُهِي عنه في بكل طواعية
وتسليم.
وفي الشطر الثاني من الحديث أشار صلى ال عليه وسلم إلى أن اليمان يُنزع أول ما يُنزع
كذلك من القلب ،فمن القلب الزيادة ومنه النقصان ،وفيه نشأة الخير ومولد الشر ،ولو لم
يكن للقلب من فضل إل أنه وعاء اليمان لكفاه وفضل عليه.
والقلب كذلك هو وعاء التقوى ،وقد قال النبي صلى ال عليه وسلم « :التقوى ها هنا » ،
وأشار إلى صدره ،علمة على أن مكان التقوى هو القلب ،والقلب وحده ،فليست التقوى
نبرة خشوع أو دمعة عين أو إطالة سجدة أو غير ذلك من المظاهر الفارغة من الروحانية
والخشوع ،إنما هي سر قلبي مستودع في القلب ل يطلع عليه أحد إل ال.
.8السرطان :
أصعب المرض عدم معرفة المرض ،وأصعب منه عدم معرفة أنك مريض ،وأصعب وأصعب
أن ترفض الستماع إلى وصية الطبيب ،وهذه ثلثتها تجتمع في أمراض القلوب ،فمرض
القلب خفي قد ل يعرفه صاحبه ؛ لذلك يغفل عنه ،وأمراض القلوب هي سرطان الروح ،
وخطورتها في أنها كالمرض الخبيث تتسلل إليك دون أن تشعر ،فل ارتفاع حرارة ول ضغط
مرتفع ول نزيف يؤلم أو جرح ينذر ،لذا يمرض فيها الطب ول ينفع.
قال لنا ابن القيّم [ ت ] 751 :بعد أن زرناه في عيادته الربانية :
" وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ول يعرف به صاحبه لشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته
وأسبابها ،بل قد يموت وصاحبه ل يشعر بموته ،وعلمة ذلك أنه ل تؤلمه جراحات القبائح
ول يوجعه جهله بالحق ،فإن القلب إذا كان فيه حياة تألّم بورود القبيح عليه ،وتألّم بجهله
بالحق بحسب حياته ،وما لجرح بميت إيلم " .
ومما يجعل مرض القلب أخطر من مرض البدن بكثير أن مرض القلب عذابه دائم بعد الموت ل
ينقضي ؛ بعكس مرض البدن الذي يُتخَلّص منه بالموت ،مما يجعل الهتمام بأمراض القلوب
أوجب والسعي في علجها أدعى.
إن ما يصيب البدن من أسقام في هذه الحياة يؤجر عليه النسان ،أما ما يصيب القلب من
أمراض فهو الثم كله والهلك كله في الحياة وبعد الممات ،إنك إذا دخلت معركة فقتلك العدو
الظاهر وسلبك حياتك لمتّ شهيدا ،أما إذا غلبك العدو الباطن بأسلحة الشهوات والشبهات لمتّ
حينئذ طريدا ،وشتان عند ال ما بين شهيد وطريد ،شتان شتان.
سمَاءِ ثُمّ
خ َرةِ َفلْ َي ْم ُددْ ِبسَبَبٍ إِلَى ال ّ
صرَهُ الّلهُ فِي الدّنْيَا وَالْآ ِ
ظنّ َأنْ َلنْ َي ْن ُ قال تعالى َ ﴿ :منْ كَانَ يَ ُ
ظرْ هَلْ ُي ْذهِ َبنّ َك ْي ُدهُ مَا َيغِيظُ ﴾ [ الحج ] 15 : طعْ فَلْ َينْ ُلِ َيقْ َ
هذه الية تصف حال نفر من المنافقين امتلت قلوبهم غيظا من رسول ال صلى ال عليه وسلم
ومن علوه ونصره ،فقال ال لهم :إن ال ناصر رسوله في الدنيا والخرة ؛ فمن كان يظن من
حاسديه وأعاديه أن ال لن يفعل ويغيظه أن يظفر نبينا بموعود ال له ؛ فليستقص وسعه
وليستفرغ جهده في إزالة ما في قلبه من غيظ بأن يفعل أقصى ما يستطيع فعله ،ولو كان ذلك
أن يفعل من بلغ منه الغيط كل مبلغ حتى مدّ حبل إلى سماء بيته فشنق به نفسه ،فإنه وإن فعل
ذلك فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من غيظ ،كل وال فلن يذهب غيظه ولن يزول
مرضه إل أن يشاء ال ،فال وحده هو شافي الصدور ورافع وحر القلوب.
والمعنى :
* إذا كنت تعاني الكآبة والحزن واليأس والجزع ،فهل تملك قوى الرض جميعا أن تغيّر من
ذلك مثقال ذرة؟!
* إذا حيزت لك الدنيا بحذافيرها وصارت تحت أقدامك ؛ لكن امتل قلبك كمدا وغما فهل تهنأ من
دنياك بشيء؟!
* إذا غرق قلب في الشك والشبهات والزيغ والرّيَب ؛ فهل يملك نزع ذلك المرض من صدرك
أحد من أهل الدنيا ما لم يشأ ربك؟!
* إذا رأيت نعيم الدنيا مقبل على غيرك ومُعرِضا عنك ،فممدت عينيك حسدا ولسانك حقدا
وقلبك غل ،فهل يملك تطهيرك مما أنت فيه أحد غير ال؟!
* إذا أحب قلبك شهوة وأُشرِبها ومال إلى خطيئة وعشقها ،فهل يملك أن يعدل قلبك المنكوس
ويحيي فطرتك السليمة أحد سوى خالقه؟!
* إذا كره قلبك طاعة واستثقلها وملّ المداومة عليها حتى كاد أن ينقطع ،فهل يملك أحد أن
يحبّبك فيها ويدنيك منها سوى الذي حبب إلينا اليمان وزيّنه في قلوبنا؟!
هذا ما أدركه مطرف بن عبد ال [ ت ] 95 :حين انخلع من رؤية عمله واعترف بقمة عجزه
وغاية ضعفه وردّ الفضل كل الفضل إلى ال وحده حين قال " :لو أُخرِج قلبي فجُعِل في يدي
هذه في اليسار ،وجيء بالخير فجُعِل في هذه اليمنى ،ثم ُقرّبت من الخرى ما استطعت أن
أولج في قلبي شيئا حتى يكون ال عز وجل يضعه " .
.10النقلب :
القلب هو أرق أعضاء الجسم وأسرعها تأثرا بما يحيط به ويغشاه ،ومن رقته أن تؤثّر فيه
أدنى خاطرة وأقل هاجس ،وأثر القليل عليه كثير ،فالفات إليه أسرع ،وهو إلى النفلت أدنى
،ومن النقلب أقرب ،فإن قلب المرء وإن صفا زمنا ،وثبت على اليمان فترة ،واستلذ
بحلوته حينا ،فإنه معرّض للنتكاسة ،وهذه هي طبيعة القلب ومنها اشتُقّ اسمه ،قال
القرطبي وهو يشرح معنى كلمة القلب :
" وهو في الصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته ،وقلبت الناء :رددته
سمّي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان لسرعة الخواطر على وجهه ،ثم نُقِل هذا اللفظ ف ُ
إليه ولترددها عليه كما قيل :
سمّي القلب إل من تقلّبه ...فاحذر على القلب من قلب وتحول " ما ُ
سمّي القلب من تَقَلّبِه ،إنما مثل القلب مثل ريشة
قال النبي صلى ال عليه وسلم « :إنما ُ
بالفلة تعلقت في أصل شجرة يُقلّبها الريح ظهرا لبطن » ،وإن القلب شديد التقلب سريع
التحول ،ويضرب النبي صلى ال عليه وسلم لذلك مثل فيقول « :لقلب ابن آدم أسرع انقلبا
من القدر إذا استجمعت غليانًا » .
إن بقاء قلب المؤمن على الدرجة الرفيعة من اليمان التي يجدها بعد أعظم العبادات قدرًا ،
وعقب أكثر المواسم خيرا وفضل ؛ أمر مستحيل ؛ لشدة انشغال القلب بالدنيا وملذاتها ،وما
يعتريه فيها من أفراح وأتراح ،بل وتعرّضها لغزوات الشيطان المتلحقة ،وتلعب اليهود
بالعورات ،وعزفهم على وتر الهواء ،ومع ذلك أريد أن أطمئنك وأُخوّفك في الوقت ذاته ما
دام تقليب القلوب بيد ال وحده .يقول النبي صلى ال عليه وسلم « :إن قلوب بني آدم كلها
بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرّفه حيث يشاء » ،ثم قال رسول ال صلى ال
عليه وسلم « :اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك » .
أخي ..لقد صليت اليوم خمس صلوات فأجبني صادقا :كم مرة دعوت بهذا الدعاء؟! مع أنك
أحوج إليه من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والفتن اليوم أعم وأطغى ،والقلب أضعف
وأوهن ،فاحرص على ما بينك وبين ال ،وصِل ما انقطع من حبالك معه حتى يثبّتك على
مرضاته اليوم ويهديك.
.11أطباؤه مرضى :
وطب القلوب من العلوم التي شحّت في زماننا ،ونتج عنه المرض الذي عمّ وانتشر حتى أصاب
كثيرا من علمائنا وحاملي دوائنا ؛ فحفظت أذهانهم الشروح والمتون ،ونسيت جوارحهم الهدى
والمنون ،وقالت ألسنتهم أنهم عالمون ونطقت أفعالهم أنهم جاهلون.
وأكثر علماء زماننا نوعان :
نوع منكبٌ على حطام الدنيا لهث وراءها ،ل يمل جمعها ،ويتقلب شهره ودهره في ملذاتها ،
وقد أخذت دنياه بمجامع قلبه ،ولزمه خوف الفقر وحب التكاثر ؛ وأكثر هؤلء ُدفِع إلى ذلك
دفعا وأُريد له أن ينشغل بالسعي وراء لقمة العيش والكدّ من أجل الرزق وأُعطوا في مقابل ذلك
الكفاف ؛ ليس غير الكفاف ،ليظلوا دوما غارقين في العصار ،دائرين في الرحى ،ل يبلغون
ما يأملون ،ول يتركون السعي إلى ما يطمحون ،وبذلك نسوا أسمى مهامهم وأشرفها وهي
وراثة النبياء والقيام بوظيفة الرّسل.
ونوع آخر اختصر الطريق على نفسه ،ورضي بالحرام السهل ،والشبهة المربحة ،واتخذ
اليمان سلعة ،يبيع بعضه أو كله ،ويقبض الثمن توسعة وإكراما وإغداقا وأموال ،أهل تصنّع
ودهاء ،وتزيّن للمخلوقين ،وتملّق للحكام ،يلتقطون الرّخص ويفتون بها ،ديدنهم المداهنة ،
وطريقتهم المنافقة ،ولذا عمّ البلء وعزّ الدواء ،وقد سبق للعالم المجاهد عبد ال بن المبارك
أن رأى أحد إخوانه يسلك أول هذا الطريق فقام بواجبه في النصح على الفور ،ومدّ له يد
العون ،وما أطيب سيرة رجل كابن المبارك كأريج الزهور تنقلها الريح من سهل إلى سهل
ومن عصر إلى عصر متجاوزة حدود الزمان والمكان ،لتنقل لنا أنه لما قيل له :إن إسماعيل
بن علية قد ولي الصدقات كتب إليه ابن المبارك [ ت ] 181 :أبياتا من الشعر تصلح لكل زمان
سرى فيه هذا الداء فقال :
يا جاعل العلم له بازيا ...يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها ...بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعد ما ...كنت دواءً للمجانين
أين رواياتك في سردها ...عن ابن عون وابن سيرين
أين رواياتك والقول في ...لزوم أبواب السلطين
إن قلت أُكرهتُ فماذا كذا ...زلّ حمار العلم في الطين
فلما قرأ الكتاب بكى واستعفى .
وإن كان لموت القلب علمات تختلف من شخص إلى آخر ومن مهنة إلى أخرى ؛ فإن أبرز
علمات موت قلب العلماء وأشهرها هي ما عرفناه من مالك بن دينار [ ت ] 130 :الذي قال :
" سألتُ الحسن [ ت : ] 110 :ما عقوبة العالم؟ قال :موت القلب .قلت :وما موت القلب؟ قال
:طلب الدنيا بعمل الخرة " .
وسمّاهم ربيعة الرأي [ ت ] 133 :بالسفلة وسفلة السفلة ،فقد روى مالك بن أنس [ ت :
" : ] 179قال لي أستاذي ربيعة الرأي :يا مالك! من السفلة؟ قلت :من أكل بدينه ،فقال :
فمن سفلة السفلة؟ قال :من أصلح دنيا غيره بفساد دينه " .
أظهروا ل دينا * وعلى الدينار داروا
وله صاموا وصلوا * وله حجوا وزاروا
لو بدا فوق الثريا * ولهم ريش لطاروا
عالم السوء الذي ل يعمل بعلمه فتنة ووبال على نفسه وغيره ،ومَثَله مثل صخرة وقفت في فم
النهر ؛ ل هي تشرب ول هي تدع الماء يخلص إلى الزرع ..ارحمونا يا علماء السوء!!
إن الفقيه إذا غوى وأطاعه ** قوم غووا معه فضاع وضيّعا
مِثل السفينة إن هوت في لجة ** تغرقْ ويغرقُ كل من فيها معا
.12رسالة تحذير :
لعمل القلب المكانة العظمى والمنزلة السمى في دولة اليمان ،لذا ذكر العلماء أن عمل القلب
أهم من عمل الجوارح ،قال المام ابن القيم رحمه ال :
" ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب ،وأنها
ل تنفع بدونها ،وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح ،وهل يُميّز المؤمن
عن المنافق إل بما في قلب كل واحد منهما من العمال التي ميّزت بينهما؟! وهل يمكن أحد
الدخول في السلم إل بعمل قلبه قبل جوارحه؟! وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح
وأكثر وأدوم ،فهي واجبة في كل وقت " .
وقال في موضع آخر :
" فعمل القلب هو روح العبودية ولبها ،فإذا خل عمل الجوارح منه كان كالجسد الموات بل
روح " .
وقال أيضا :
" فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح ؛ إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة
عليها " .
ولهذا يسبق أصحاب القلوب أصحاب الجوارح بمراحل وعلى الدوام " ،فالكيّس يقطع من
المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف
أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق ،فان العزيمة والمحبة تذهب
المشقة وتُطيّب السير ،والتقدم والسبق إلى ال سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة
والعزيمة ،فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل ،فإن ساواه في همته
تقدّم عليه بعمله " .
فتتفاوت الجور في كل عمل حسب محتوى القلوب ،ففي الصلة :قد يصلي الرجلن في صف
واحد وبين ثوابهما كما بين السماء والرض ،وقد ينفق الخوان مبلغا واحدا فينال أحدهما
أجرا واحدا بينما الخر ينال سبعمائه أجر أو أكثر ،وقد يدرك قلبان ليلة القدر فيتضاعف أجر
أحدهما عن الخر أضعافا مضاعفة ،بل حتى في الجهاد ؛ ففي غزوة مؤتة لما قتل جعفر أخذ
عبد ال بن رواحة الراية ،ثم تقدّم بها وهو على فرسه ،فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض
التردد ،ثم أخذ سيفه وتقدم فقاتل حتى قُتِل رضي ال عنه .قال صلى ال عليه وسلم « :لقد
رُفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب ،فرأيت في سرير عبد ال بن رواحة
ازورارا عن سريري صاحبيه ،فقلت :ع ّم هذا؟! فقيل لي :مضيا وتردد عبد ال بن رواحة
بعض التردد ثم مضى » .
لحظة واحدة من عمل القلب كانت سببا في تأخر ابن رواحة ،ولمحة من طرْف العين أنزلته
دون صاحبيه ،ليحوز شهادة دون شهادة ،وفوزا دون فوز ،وهذ كله من عمل لحظة!! لكنها
لحظة قلبية ،لكن كيف بمن غرق قلبه اليام والعوام في غفلت متتابعات وسكرات
متلزمات؟! تُرى كم يتأخر في الجنة ؛ هذا إن دخلها!!
لذا أدرك ابن عطاء السكندرى قيمة عمل القلب فانطلق يرسي قاعدة وزن العمال ،وهي قاعدة
سارية المفعول في زمانه وغير زمانه :
" ما قلّ عمل برز من قلب زاهد ،ول كثر عمل برز من قلب راغب " .
وأكّدها يحيى بن معاذ في قوله الخّاذ :
" مفاوز الدنيا تُقطع بالقدام ،ومفاوز الخرة تُقطع بالقلوب " .
بل وشهد لعمال القلوب من قبل هؤلء جميعا الصحابي المُعلّم عبد ال بن مسعود رضي ال
عنه حين قال مخاطبا جموع التابعين المجدّين في عبادات الجوارح :
" أنتم أطول صلة ،وأكثر اجتهادا من أصحاب رسول ال ،وهم كانوا أفضل منكم " .قيل له :
بأي شيء؟ قال " :إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الخرة منكم " .
واسمع كيف رفعت القلوب قوما كانوا خدما وعبيدا ،وسمت بذكرهم فوق السحاب ،ووال لو
كانت قلوبهم غير نقية أو خالصة لطمس ال ذكرهم وبعثر علمهم ومحى سيرتهم ،أو قرنها
بكل خبيث وسوء ،ولكنه القلب الحي يظل ينبض بعد موت صاحبه يتغنى بالذكر الجميل
والسيرة العطرة ،بذا نطق المير شوقي فقال :
الناس صنفان :موتى في حياتهم ** وآخرون ببطن الرض أحياءُ
قال ابن أبي ليلى :
" قال لي عيسى بن موسى وكان جائرا شديد العصبية (أي للعرب) :من كان فقيه البصرة؟ قلت
الحسن بن أبي الحسن .قال :ثم من؟ قلت :محمد بن سيرين .قال :فما هما؟ قلت :موليان.
قال :فمن كان فقيه مكة؟ قلت :عطاء بن أبي رباح ،ومجاهد بن جبر ،وسعيد بن جبير ،
وسليمان بن يسار .قال :فما هما؟ قلت :موالي.
فتغيّر لونه ،ثم قال :فمن كان أفقه أهل قباء؟ قلت :ربيعة الرأي ،وابن أبي الزناد ،قال :
فما كانا؟ قلت :من الموالي.
فاربدّ وجهه ثم قال :فمن كان فقيه اليمن؟ قلت :طاووس ،وابنه ،وهمام بن منبه .قال :فما
هؤلء؟ قلت :من الموالي.
فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا ،ثم قال :فمن كان فقيه خراسان؟ قلت :عطاء بن عبد ال
الخراساني .قال :فما كان عطاء هذا؟ قلت :مولى.
فازداد تغيظا وحنقا ،ثم قال :فمن كان فقيه الجزيرة؟ قلت :ميمون بن مهران .قال :فما كان؟
قلت :مولى.
قال :فتنفس الصعداء ،ثم قال :فمن كان فقيه الكوفة؟ قلت :فوال لول خوفه لقلت :الحكم
بن عُيينة ،وعمار بن أبي سليمان ،ولكن رأيت فيه الشر ،فقلت :إبراهيم ،والشعبي .قال :
فما كانا؟ قلت :عربيان .قال :ال أكبر! وسكن جأشه " .
ل درّهم ..عبيدٌ أشرف من سادة ،وهمم تناطح الجبال ؛ ونجوم ساطعة وإن رآهم الجاهل في
أدنى سلم المجتمع أو في القاع ،وملوك آخرة ولو لم يجدوا ما يسد الرمق ،والسر من وراء
هذا كله القلب ،وما يضرهم أن يكونوا من الحطام الفاني والعز الراحل فارغي اليد إذا كانوا من
كنوز الشفاء ونوافع الدواء ممتلئي القلب؟! وصدق إقبال وهو يجزم :
بامتثال المر يعلو من َرسَب ** وهوى الطاغي ولو كان اللهب
وهو علم القلوب ،وقد فهم سلفنا الصالح أهمية هذا علم القلوب على سائر العلوم ،فقال عنه
أبو حامد الغزالي " :وهو فرض عين في فتوى علماء الخرة " ،وقال عمرو بن قيس الملئي
شرَيح
" :حديث أُرقّق به قلبي ،وأتبلّغ به إلى ربي ،أحب إليّ من خمسين قضية من قضايا ُ
" ،بل لما قيل للمام أحمد :من نسأل بعدك؟! قال عبدالوهاب الوراق .قيل له :إنه ليس له
اتساع في العلم قال :إنه رجل صالح مثله يُوفّق لصابة الحق ،وسُئل كذلك عن معروف
الكرخي ؛ فقال :كان معه أصل العلم :خشية ال .
واستُفتي الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له :إن فقهاءنا ل يقولون ذلك ،فقال " :وهل رأيت
فقيها قط؟! الفقيه القائم ليله الصائم نهاره الزاهد في الدنيا " .
وعن ليث قال " :كنت أسأل الشعبي فيُعرِض عني ويجبهني بالمسألة ،فقلت :يا معشر
العلماء! يا معشر الفقهاء! تروون عنا أحاديثكم وتجبهوننا بالمسألة ،فقال الشعبي :يا معشر
العلماء! يا معشر الفقهاء! لسنا بفقهاء ول علماء ،ولكنا قوم قد سمعنا حديثا ،فنحن نحدثكم
بما سمعنا ،إنما الفقيه من ورع عن محارم ال ،والعالم من خاف ال " .
وليس الوصول إلى ال والدار الخرة بكثرة العلم والرواية بل بثمرة العلم والهداية ،وما قيمة
علم ل يدفع صاحبه إلى العمل؟! وهل هو إل حجة عليه ودليل إدانته وعلمة استهزائه بربه؟!
لذا كان نهج السلف تجهيز تربة القلب وإعدادها جيدا قبل أن يبذروا فيها أي بذرة علم .قال
سفيان الثوري " :كان الرجل ل يطلب الحديث حتى يتعبّد قبل ذلك عشرين سنة " .
يا من تباعد عن مكارم خلقه ** ليس التفاخر بالعلوم الزاخرة
من لم يهذّب علمُه أخلقَه ** لم ينتفع بعلومه في الخرة
المحتالون
حيَل يظن بها أن يتخلص من حكم الشرع وعاقبة البغي وإذا مرِض قلب العالم استخدم علمه في ِ
وكأن ال غير مطّلع عليه ،وقد انتشرت هذه الحيل عندما وهن اليمان في الصدور واستثقل
الناس أحكام الشرع ؛ حتى أفرد ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان فصول عن الحيل وأقسامها ،
واسمع إلى واحدة من هذه الحيل يرويها لك أبو حامد الغزالي :
" وحُكي أن أبا يوسف القاضي كان يهب ماله لزوجته آخر الحول ،ويستوهب مالها إسقاطا
للزكاة ،فحُكِي ذلك لبي حنيفة رحمه ال ؛ فقال :ذلك من فقهه ،وصدق فإن ذلك من فقه
الدنيا ،ولكن مضرته في الخرة أعظم من كل جناية ،ومثل هذا هو العلم الضار " .
لذا كان عليك وأنت تدرس أي علم من علوم الشرع اليوم أن تقرأه بروح جديدة ،وقلب كأنه
وُلِد اليوم ولم يتلطّخ بخطيئة بعد ،وخذ مثل على ذلك :عِلم السيرة الذي حثّك الستاذ البهي
الخولي على قراءته بهذه الطريقة الجديدة باستخدام قلبك قبل عينك ،وبروحك وعاطفتك مع
عقلك ،وأرشدك إلى الطرح الحي فقال :
" أن تُكثِر مصاحبة مولنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في سيرته المطهرة مصاحبة وجدانية
عميقة ،تجعلك في مجلسه عليه السلم إذا جلس ،وفي ركابه إذا ركب ،وفي معيته إذا سار ،
وتُسمعك قوارع وعظه ،وتُسرّب إلى قلبك رقة مناجاته إذا ناجى ربه في جوف الليل ،أو في
خلوات النهار ،وتصل عواطفك بعواطفه صلوات ال عليه ،حتى تكاد تشعر بخلجات قلبه
العظيم إذا غضب ،وبشاشته وسماحته إذا تسهل لشيء وتهلل ،وتسلكك في صفوف المؤمنين
به ،فأنت معهم حين يسامون العذاب ،تألم كما يألمون ،وتهاجر كما يهاجرون ،تهاجر معهم
بوجدانك وخيالك وعواطفك إلى الحبشة أو غيرها من بلد ال ،فإذا شرع له الجهاد في المدينة
،فأنت تحت لوائه المظفر ،تشهده ممتطيا صهوة جواده ،وقد لبس لمة الحرب ،وتقلّد
السيف ،وأخذ برمحه ،فهو فارس الميدان ،وقائد الفرسان ،تزهر عيناه الشريفتان من تحت
مغفره صلى ال عليه وسلم ،فما يصعد شرفا ول يهبط واديا ،ول ينال من عدو نيل إل وأنت
معه عليه السلم ،تكاد تضرِب إذا ضرب ،وتُقدِم إذا أمر ،وتفديه بما تملك ،وتحوطه بكل ما
في سويداء قلبك من حب وعاطفة " .
قال ابن القيم في كتابه الطب النبوي عندما تكلم عن الطبيب الحاذق وذكر أنه يجب أن يراعى
في علجه عشرين أمرًا كان منها :
" أن يكون له خبرة باعتلل القلوب والرواح وأدويتها ،وذلك أصل عظيم في علج البدان ،
فإن انفعال البدن وطبيعته عن القلب والنفس أمر مشهود ،والطبيب إذا كان عارفا بأمراض
القلب والروح وعلجها كان هو الطبيب الكامل ،والذي ل خبرة له بذلك وإن كان حاذقا في
علج الطبيعة وأحوال البدن نصف طبيب ،وكل طبيب ل يداوي العليل بتفقد قلبه وصلحه ،
وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة وفعل الخير والحسان والقبال على ال والدار الخرة فليس
بطبيب بل متطبب قاصر " .
إن غاية ما وصل إليه طب الدنيا أنه يصف الدواء ،لكنه ل يضمن لك حتمية الشفاء ،أما دواء
الخرة فال هو الذي ضمن لمن تناوله تمام الشفاء ،ولو علم الناس ما للطاقة الروحية من
فوائد علجية على الجسم والنفس لتخلوا عن استعمال كمية وافرة من الدوية التي في معظمها
ل تعالج إل العراض ،ول تنفذ إلى السباب ،وقد كان سلفنا الصالح أدرى ما يكونون بذلك ،
فأرشدوا أطباء الدنيا إلى ما غاب عنهم من طب الخرة ،وعلّموهم أن راحة قلب للمريض
وسعادته لها أعظم الثر في محاصرة داء الجسد ودفع بلئه.
قال ابن القيّم وهو يصف حال شيخه ابن تيمية :
" وحدّثني شيخنا قال :ابتدأني مرض ،فقال لي الطبيب :إن مطالعتك وكلمك في العلم يزيد
المرض ،فقلت له :ل أصبر على ذلك ؛ وأنا أحاكمك إلى علمك ،أليست النفس إذا فرحت
سرّ بالعلم ،فتقوى
سرّت قويت الطبيعة فدفعت المرض ،فقال :بلى ،فقلت له :فإن نفسي ُت َ
وُ
به الطبيعة ،فأجد راحة ،فقال :هذا خارج عن علجنا " .
قد يدخل قلبٌ المعركة فيقلب الهزيمة الساحقة نصرا مبينا خاصة إن كان من نوع قلب أبي
طلحة رضي ال تعالى عنه الذي شهد له النبي صلى ال عليه وسلم « :صوت أبي طلحة في
الجيش خير من ألف رجل » .
صوته فحسب بألف فكيف بسيفه؟! وهل بلغ هذا إل بقلبه وما يحويه قلبه؟ وهل هذا إل نتاج
شجاعته وإقدامه وثباته وإيمانه وهي كلها أعمال قلوب؟! رحمة ال عليه وكأنه يشرح بفعله
معنى قول ابن الجوزي :
" الشجاع يلبس القلب على الدرع ،والجبان يلبس الدرع على القلب " .
ليدخل بذلك في زمرة من عناهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله :
« خير الصحابة أربعة ،وخير السرايا أربعمائة ،وخير الجيوش أربعة آلف ،ول تُهزَم اثنا
عشر ألفا من قلة » .
ومعنى آخِر مقطعٍ في الحديث « :ول تُهزَم اثنا عشر ألفا من قلة » :أن هزيمة أي جيش إن
بلغ هذا العدد ل تكون بسبب قلته لكن بسبب قلوب جنوده ،فهل علمتم الن سبب غثائية المّة
وكثرة زبدها وضعف قوتها ووهن عزيمتها وتبوئها ذيل المم؟
وفي المقابل :قد ينقلب قلب نصر المة هزيمة ماحقة ،فإن مرضا واحدا من أمراض القلب
وهو الوهن كان كافيا لتسلط حفنة من اليهود ل تجاوز مليينها عدد أصابع اليدين على مقدّرات
أمّة فاق عددها اللف ومائتي مليون مسلم ،إن قلوبنا هي سلحنا الحقيقي في معركتنا الفاصلة
مع العدو ،لذا كانت ول زالت هي هدف العدو الساسي ومرمى سهامه الوحيد ،يبث فيها السم
ليتفشى فيها الداء ؛ فتبقى دوما طريحة فراش الشهوات والمنيات ،وتترك بوابة المّة مفتوحة
على مصراعيها لغارات العدو بعد أن رفعت رايتها البيضاء مستسلمة.
ويعضّد هذا قول رسولنا صلى ال عليه وسلم « :صلح أول هذه المّة بالزهد واليقين ،ويهلك
آخرها بالبخل والمل » ،وهي كما ترى ليست أعمال جوارح بل أعمال قلوب ،فاعلم قدر قلبك
وأعطه ما يستحق واعتن به يا غافل عن أثمن ما يملك!! نصر المّة في قلب وهزيمتها من
قلب ،فأي القلبين قلبك؟!
إن قلب المرء هو الذي يتحكم في أخلقه ويكظم انفعالته ويضبط سلوكه ويهذّب الشارد من
طباعه ،وهل تسكن أخلق المانة والوفاء والصبر والحلم والرحمة والعفو والصدق والعدل بيتا
غير القلب؟! ولذا قال الحنف بن قيس :
ولربما ضحك الحليم من الذى ** وفؤاده من حرّه يتأوّه
ولربما شكل الحليم لسانه ** حذر الجواب وإنه لمُفوّه
حسْن الخلق من حياة القلب ،وسوء الخلق من مرض القلب أو موته ،وقد كان النبي صلى فُ
ال عليه وسلم أحسن الناس خلقا ،ولذا فقد كان قلبه أعمر القلوب بالحياة حتى أيقظ قلوب كل
من كان حوله في حياته وبعد رحيله.
قال أبو حامد الغزالي :
" القلب خزانة كل جوهر للعبد نفيس ،وكل معنى خطير ،أولها العقل ،وأجلّها معرفة ال تعالى
التي هي سبب سعادة الدارين ،ثم البصائر التي بها التقدّم والوجاهة عند ال تعالى ،ثم النية
الخالصة في الطاعات التي بها يتعلّق ثواب البد ،ثم أنواع العلوم والحكم التي هي شرف
العبد ،وسائر الخلق الشريفة الخصال الحميدة التي بها يحصل تفاضل الرجال ،وحُقّ لهذه
سرّاق والقُطّاع ،وتُكرم الخزانة أن تُحفظ وتصان عن الدناس والفات ،وتُحرس وتُحرز من ال ُ
جلّ بضروب الكرامات ،لئل يلحق تلك الجواهر العزيزة دنس ،ول يظفر بها -والعياذ بال- وتُ َ
عدو " .
إن قلبا عزيزا يمتلئ بالحزن سوف يرسل الوامر إلى الوجه ليبتسم حتى ل يعلم الناس ما به
من أذى ،فإن علموا ما به ظلّ متألما ِبذُلّ الشكوى محترقا بنار شفقة الناس عليه ،وهكذا كان
قلب العزيز أسامة بن منقذ حين قال :
نافقتُ قلبي فوجـهي ضاحكٌ جذِل ** طلـق وقلبي كئيب مُكْمد باكِ
وراحة القلب في الشكوى ولذتها ** لو أمكنت ل تساوي ذلة الشاكي
إن القلب والباطن هو من يضبط ويتحكم في الجوارح والظاهر ليظهر أمام الناس ما يسمح به
القلب فحسب ،ويأذن به ويرضاه ،واسمع مرة ثانية إلى قول أسامة بن منقذ وتمثيله الجميل :
انظر إلى حسن صبر الشمع يُظ ِهرُ للـ ** رائين نورا وفيه النار تستعِر
كذا الكـريم تراه تـراه ضاحكا جـذِل ** وقلـبه بدخـيل الغـم منفطر
تُرى لو قبضنا ال الن فبأي قلب نلقى ال؟! واسأل نفسك اليوم صادقا :قلبك معك أم عليك؟!
عندك أم عند غيرك؟! ومن العجب أن الرجل فينا كلما لقي أخاه أو صاحبه سأله عن أولده
وعن عمله وعن أهله وعن صحته وعن تجارته وعن كل شيء ،لكنه ل يسأله أهم سؤال :ما
حال قلبك؟ ولو سُئل أحدنا هذا السؤال لستغرب أشد الستغراب هذا إن فهمه في الصل ،فأي
القلوب قلبك؟! أم أنك ل تملك قلبا من الساس؟!
قال ابن القيّم :
" اطلب قلبك في ثلثة مواطن :عند سماع القرآن ،وفي مجالس الذكر ،وفي أوقات الخلوة ،
فان لم تجده في هذه المواطن ؛ فسل ال أن يمنّ عليك بقلب فإنه ل قلب لك " .
ولذا لما قابل رجلٌ قلبا من القلوب الحية من أمثال الربيع بن خثيم وسأله عن حاله انصرف
عقل الربيع أول ما انصرف أنه يسأله عن قلبه وحياة روحه ،فلما قال له قائل :كيف أصبحت؟
قال " :أصبحنا مذنبين ،نأكل أرزاقنا ،وننتظر آجالنا " .
فكم منا يفهم ما فهم الربيع ،ويجيب مثل ما أجاب؟! فالحياة حياة القلب ،والموت موت القلب ،
والمرض مرض القلب ،وإلى أقسام القلوب نتجوّل في هذا الباب.
ول تزال قصة الطبيب المسلم الذي عاد أحد مرضاه قديما دالة على معنى وجل القلب ،
وذلك أنهم حكوا أن طبيبا ذهب ليتفقد أحد المرضى ،والذي كان طريح الفراش ل يُدرى
سبب مرضه ،ول يُعرف له علة ظاهرة ،فتناول الطبيب يد المريض ليقيس النبض ،
وأخذ أثناء ذلك يسأل من حوله عن أحواله ،ثم عرّج فسأل عن جيرانه ،فأخذ النبض
عندها يسرع شيئا فشيئا ،حتى إذا سأل عن جار بعينه وهنا أسرع النبض أكثر ؛ حتى
إذا سأل عن أبناء هذا الجار اضطربت أوصال المريض وازداد النبض علوا ،فلما ذُكِر
سرَت الرعشة من نبضه إلى جسده الذي بدأ أن له ابنة حسناء وأتى ذكر اسمها َ
يرتجف وبصره الذي زاغ ووجهه الذي أمطر العرق ،فقال الطبيب لهله عندها :هذا
ليس بمريض!! هذا رجل عاشق!!
ول المثل العلى! أيحضر القلب عند ذكر الحبيب ول يحضر عند ذكر المجيب؟! أتخشع
الجوارح لذكر المخلوق ول تبالي بذكر الخالق؟! أينقطع الفؤاد كمدا لغياب فان وزائل
ول يبالي بهجران باق ودائم؟!
من علمات المحب انزعاجه عند ذكر محبوبه ،فإذا أردت اختبار قلبك لتعرف أي
القلوب هو؟! فاسأل نفسك :أيحضر القلب عند ذكر ربه؟ أيخشع لسماع كلمه؟ أينصت
لترديد أذانه؟ أبكى ليلة خوفا من عذابه؟ أضطرب يوما لحتمال طرده من جواره؟ أقلق
من خاتمة أعماله؟ كن صادقا وإن لم يطلع عليك أحد ،فإنه سبحانه أدرى منك
بسريرتك وأعلم بك منك ،فاعرف موقعك من اليمان كما سبق وعرف الحسن البصري
لما سأله رجل فقال :يا أبا سعيد! أمؤمن أنت؟ فقال له " :اليمان إيمانان ،فإن كنت
تسألني عن اليمان بال وملئكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به
مؤمن ،وإن كنت تسألني عن قول ال تبارك وتعالى ﴿ :إِ ّنمَا ا ْلمُ ْؤمِنُونَ اّلذِينَ ِإذَا ذُ ِكرَ
علَى رَبّ ِهمْ َيتَوَكّلُونَ ﴾ إلى قوله الّلهُ َوجِلَتْ قُلُوبُ ُهمْ َوِإذَا تُلِ َيتْ عَلَيْ ِهمْ آيَا ُت ُه زَادَتْهُمْ إِيمَانًا َو َ
﴿ أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ْؤمِنُونَ حَقّا ﴾ فوال ما أدري أنا منهم أم ل " .
أحياء القلوب إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدا وبكيّا بينما غيرهم خرّ عليها
صمّا وعميانا ،لنهم أصحاب حياة يسمعون بقلوبهم قبل أسماعهم ،ولذا قال ابن زيد
في قوله ﴿ وَتَ ِعيَهَا ُأ ُذنٌ وَاعِ َيةٌ ﴾ [ الحاقة ] 12 :واعية " :إنما تعي القلوب ما تسمع
الذان من الخير والشر " .
قال ابن القيّم :
" فالوعي توصف به الذن كما يوصف به القلب ،يقال :قلب واع وأذن واعية لما بين
الذن والقلب من الرتباط ،فالعلم يدخل من الذن إلى القلب ،فهي بابه والرسول
الموصل إليه العلم ؛ كما أن اللسان رسوله المؤدي عنه ،ومن عرف ارتباط الجوارح
بالقلب علم أن الذن أحقها أن توصف بالوعي ،وأنها إذا وعت وعى القلب " .
للفراسة رجالها
ول تكون الفراسة إل بتفريغ القلب من هَمّ الدنيا ،وتطهيره من أدناس المعاصي
وكدورة الخلق وفضول المباحات ،وعندها يجري على مرآة القلب كل حق ل خيال ،
لنه تقلب بين آيات الحق وأنوار الطاعات فانهالت عليه الفيوضات والشراقات ،ومثل
ذلك قول ابن عباس رضي ال عنه :ما سألني أحد عن شيء إل عرفت أفقيه هو أو
غير فقيه.
وما رُوِي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب
المسجد فقال أحدهما :أراه نجارا ،وقال الخر :بل حدادا ،فتبادر من حضر إلى
الرجل فسأله فقال :كنت نجارا وأنا اليوم حداد!!
ورُوي عن جندب بن عبد ال البجلي أنه أتى على رجل يقرأ القرآن فوقف فقال :من
سمّع سمّع ال به ومن راءى راءى ال به ،فقلنا له :كأنك عرّضت بهذا الرجل ،فقال
:إن هذا يقرأ عليك القرآن اليوم ويخرج غدا حروريا ؛ فكان رأس الحرورية واسمه
مرداس.
ورُوِي عن الحسن البصري أنه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال :هذا سيد فتيان البصرة
إن لم يُحدِث ،فكان من أمره من القدَر ما كان حتى هجره عامة إخوانه.
وقال ليوب :هذا سيد فتيان أهل البصرة ولم يستثن.
ورُوِى عن الشعبي أنه قال لداود الزدي وهو يماريه :إنك ل تموت حتى تُكوى في
رأسك وكان كذلك.
ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه دخل عليه قوم من مذحج فيهم الشتر فصعّد
فيه النظر وصوّبه وقال :أيهم هذا؟ قالوا :مالك بن الحارث فقال :ما له قاتله ال!
إني لرى للمسلمين منه يوما عصيبا ،فكان منه في الفتنة ما كان.
ورُوِي عن عثمان بن عفان رضي ال عنه :أن أنس بن مالك دخل عليه وكان قد مر
بالسوق ،فنظر إلى امرأة فلما نظر إليه قال عثمان :يدخل أحدكم علي وفي عينيه أثر
الزني! فقال له أنس :أوحيا بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم؟! فقال :ل ! ولكن
برهان وفراسة ،وصدق ،ومثله كثير من الصحابة والتابعين رضي ال عنهم أجمعين
.
العقوبات إشارات
حرِم القلب الحي من طاعة بادر على الفور بالسؤال :بأي معصية وفي المقابل إذا ُ
حرِمت وبأي خطيئة مُنِعت؟ أبكلمة غيبة؟ أبنظرة محرّمة؟ أبعقوق والدة؟! أبسماع ُ
فحش؟! يسأل نفسه خاصة بعد أن ارتجف خوفا واضطرب وجل واقتنع بسلمة تحليل
ابن القيم الذي انتهى إلى ( أن ال سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما
قصدوا له بتلك الجرائم ،فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلمه ورده عليه ،وجعل عقوبة
الغالّ من الغنيمة لمّا قصد تكثير ماله بالغلول :حرمانه سهمه وإحراق متاعه ،وجعل
عقوبة من اصطاد فى الحرم أو الحرام :تحريم أكل ما صاده وتغريمه نظيره ،وجعل
عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته :أن صيّره عبدا لهل عبوديته وطاعته ،
وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق :أن تُقطع أطرافه وتُقطع عليه الطرق
كلها بالنفي من الرض ؛ فل يسير فيها إل خائفا ،وجعل عقوبة من التذ بدنه كله
وروحه بالوطء الحرام :إيلم بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل اللم إلى حيث وصلت
اللذة ،وشرع النبي صلى ال عليه وسلم عقوبة من اطلع في بيت غيره :أن تقلع
عينه بعود ونحوه ؛ إفسادًا للعضو الذى خانه ،وأولجه بيته بغير إذنه ،وعاقب من
حرص على الولية والمارة والقضاء بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه ،ولهذا
عاقب أبا البشر آدم عليه السلم بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالكل من الشجرة
ليخلد فيها ،فكانت عقوبته إخراجه منها ضد ما أمّله ،وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل
والميزان بجور السلطان عليهم ؛ يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم
بعضا ،وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لموالهم بحبس الغيث عنهم ،
فيمحق بذلك أموالهم ،ويستوى غنيهم وفقيرهم في الحاجة ،وعاقبهم إذا أعرضوا عن
كتابه وسنّة نبيه صلى ال عليه وسلم وطلبوا الهدى من غيره :بأن يضلهم ويسد
عليهم أبواب الهدى ،وهذا باب واسع جدا عظيم النفع لمن تدبّره يجده متضمنا لمعاقبة
الرب سبحانه من خرج عن طاعته ،بأن يعكس عليه مقصوده شرعا وقدرا دنيا وآخره
).
وممن تدبر هذا الباب :عمر بن الخطاب رضي ال عنه ول أعقل ،فقد روى الزهري
أن عمر بن الخطاب رضي ال عنه أصابه حجر وهو يرمي الجمار فشجّه فقال " :ذنب
بذنب ،والبادي أظلم " .
وآخر على الدرب يقتفي أثر الفاروق خطوة خطوة وقدمه في إثر قدمه وهو أبو زرعة
الرازي ،فعن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال " :اعتل أبو زرعة الرازي ،
فمضيت مع أبي لعيادته ،فسأله أبي عن سبب هذه العِلّة ،فقال :بِتّ وأنا في عافية ،
فوقع في نفسي أني إذا أصبحت أخرجتُ ما أخطأ سفيان الثوري ،فلما أصبحتُ خرجتُ
إلى الصلة ،وفي دربنا كلبٌ ما نبحني قطّ ،ول رأيته عدا على أحد ،فعدا عليّ
حمِمت ،فوقع في نفسي أن هذا لِما وضعتُ في نفسي ،فأضربتُ عن ذلك وعقرني ،و ُ
الرأي " .
وثالثهم سجّان!! نعم سجّان .قال بعض السجانين " :كنتُ سجّانا نيّفا وثلثين سنة أسأل
كل مأخوذ بالليل أنه هل صلى العشاء في جماعة؟! فكانوا يقولون :ل " .
وصدق صلى ال عليه وسلم حين قال « :ل يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إل
بذنب ،وما يعفو ال عنه أكثر » ،بل وأكّد « :المصائب والحزان في الدنيا جزاء » .
فمع أن العين مبصرة لما حولها ،لكنها لو رأت مشهدا محرّما فلن يُمكّن القلب الحي
الخواطر منه بحال ،ومع أن الذن مصغية ؛ لكنه لو كان الحرام لرتعدت وجل ،وبنت
على الفور سدا منيعا وحجابا حاجزا بينها وبين ما يُغضب ال ،وإذا جلس صاحب هذا
القلب مجلسا وتسلل إليه الحرام للمحه على الفور وتسلل خارجا في الحال إن لم يقدر
على التغيير والمواجهة ،وهذا هو مصدر سلمة هذا القلب وعنوان نقائه .قال تعالى :
صرُونَ ﴾ [ العراف ﴿ ِإنّ اّلذِينَ اتّقَوْا ِإذَا َمسّهُمْ طَا ِئفٌ ِمنَ الشّيْطَانِ َتذَ ّكرُوا فَ ِإذَا هُمْ مُ ْب ِ
] 201 :
وتأمل قوله ﴿ َمسّهُمْ ﴾ الدال على إصابة غير مكينة ،وذلك بسبب فزعهم إلى ال
ليعصمهم من الشيطان عند ابتداء خواطره ؛ فإن الخواطر ولدة إن أُهملت لم تلبث أن
تصير شهوة ،ثم تصير الشهوة إرادة ،ثم تصير الرادة عزما ،ثم يتحول العزم عمل.
وتأمل قوله ﴿ طَا ِئفٌ ﴾ وكأن خواطر الشر طافت بهم ،ودارت حولهم فلم تقدر أن
تدخل إليهم وتؤثّر فيهم لقوة قلوبهم ويقظة إيمانهم ،فهم كمن طاف به الخيال ولم
يجرؤ على أن يدفعهم إلى الفعال ،والطائف يُطلق على الذي يمشي حول المكان ينتظر
الذن له بالدخول ،فشبّه ال الخاطر في ابتداء وروده في النفس بحلول الطائف على
المكان دون أن يستقر فيه.
عن أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال « :إن العبد ليتكلم
بالكلمة من رضوان ال ل يُلقي لها بال يرفع ال بها درجات » .
والبال هو القلب ،وتأمل قوله « ل يُلقي لها بال » ،أي أنها تخرج رغما عنه دون
تفكير أو تدبر ودون أن يُمرّها على قلبه ،ومع ذلك تخرج منه طيبة نقية ،لن كل
وعاء بما فيه ينضح ،وحديقة الورد ل يفوح منها غير شذى الورد ،إن حي القلب
يتذوّق كل كلمة بقلبه قبل النطق بها ،فإن كانت حلوة علم أن طعمها في الخرة
سيكون أحلى فأطلقها ،وإن كانت ُمرّة عرف أن طعمها في الخرة أشد مرارة فسكت.
واسمع إلى طهارة ل تدانيها طهارة ،وقلب طهور كالماء الطهور طاهر ومطهّر لما
حوله من القلوب ،وهو قلب عبد ال بن عون الذي قال عنه خارجة بن مصعب " :
صحبتُ عبدال أربعا وعشرين سنة ،فما أعلم أن الملئكة كتبت عليه خطيئة " .
فمهما استفزه الشيطان ببعض جنده وكافة حيله واجتمع عليه من أعوانه ما اجتمع ؛
فلن يفلحوا إذا أبدا ،فعن بكار بن محمد وابن قعنب قال " :كان ابن عون ل يغضب
فإذا أغضبه الرجل قال :بارك ال فيك " .
ومن ذلك أن جاءه غلم له فقال :فقأت عين الناقة!! قال :بارك ال فيك .قال :قلت
فقأت عينها فتقول بارك ال فيك!! قال :أقول ..أنت حر لوجه ال.
أي تربية؟! وأي صفاء ونقاء؟! وأي مجاهدة أورثت هذا السمو الراقي من سماحة
النفس وطيب الكلم وروعة التقى حتى صار مضرب المثال ،ومنتهى غاية الصالحين ،
وأسمى أمنيات المخلصين ؛ في عصره وغير عصره ،فعن معاذ بن معاذ قال :
" حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد قال :إني لعرف رجل منذ عشرين
سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فما يقدر عليه ،وليس ذاك أن يسكت
رجلٌ ل يتكلم ،ولكن يتكلم فيسلم كما يسلم ابن عون " .
لكنه ليس وحده في الميدان بل ينافسه في الحلبة أطهار كُثر ،منهم الفضيل الذي أراد
أن يعطّر ألسنتنا ويطيّب كلمنا بطريقته الخاصة وأسلوبه المقنع فقال :
" حسناتك من عدوك أكثر منها من صديقك!! قيل :وكيف ذلك يا أبا علي؟! قال :إن
صديقك إذا ذُكِرتَ بين يديه قال :عافاه ال ،وعدوك إذا ذُكِرت بين يديه يغتابك الليل
ض إذا ذُكِر بين يديك أن تقول :والنهار ،وإنما يدفع المسكين حسناته إليك ،فل تر َ
اللهم أهلكه ..ل ،بل ادعُ ال :اللهم أصلحه ..اللهم راجع به ،ويكون ال معطيك
أجر ما دعوت به ،فإنه من قال لرجل :اللهم أهلكه ،فقد أعطى الشيطان سؤاله ،لن
الشيطان إنما يدور على هلك الخلق " .
رحمة ال على أصحاب تلك القلوب ،وصدق فيها وصف من وصفها بقوله :
" إن من الرجال ما هو كالنسخة المخطوطة ؛ ربما كانت ناقصة أو مخرومة ،أو مسّ
الزيت أطرافها فأفسدها ،ولكنها أثمن وأغلى لنها واحدة ل ثانية لها " .
الرسول قدوتنا
ولماذا نذهب بعيدا وبين أيدينا سيد القدوات نبينا صلى ال عليه وسلم الذي روى عنه
جابر بن سمرة رضي ال عنه « :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم طويل الصمت
قليل الضحك » ،وهو مع صمته كان إذا تكلم ل يُخرِج غير الرحيق والعبير والدواء
والشفاء ،وبهذا وصفه رسول ال صلى ال عليه وسلم « :مثل المؤمن مثل النحلة ؛
ل تأكل إل طيبا ول تضع إل طيبا » .
قال ابن الثير :
" ووجه المشابهة بينهما :حذق النحل وفطنته ،وقلة أذاه ،وحقارته ،ومنفعته ،
وقنوعه ،وسعيه في الليل ،وتنزهه عن القذار ،وطيب أكله ،وأنه ل يأكل من كسب
غيره ،ونحوله ،وطاعته لميره " .
إنه قطعة ذهب نقية ليس فيها شائبة واحدة ول ذرة غريبة من غير الذهب ،فل زيف
ول خبث ول تلوّن أو تغير بل ثبات وطهارة تماما ،وليس فيها أدنى خبث تنفيه النار ،
مصداق وصف رسول ال صلى ال عليه وسلم للمؤمن :
« ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب ؛ إن نُفِخت عليها احمرت ،وإن ُوزِنت لم تنقص »
.
أخي المريض ..إن ساعدك الدمع وإل فتباكَ ،فليس مثل الدموع علمة على القلب
الحي ،وإنما يحصد الزرع يوم القيامة من روّى أرض قلبه قبل الندامة ،فماذا أنت
حرِمت الدموع؟!
حاصد إذا ُ
حي القلب يبكي شوقا وقلقا :قال عبد الواحد بن زيد :
" يا إخوتاه! أل تبكون شوقا إلى ال؟ أل إنه من بكى شوقا إلى سيده لم يحرمه النظر
إليه ..
يا إخوتاه! أل تبكون خوفا من النار؟ أل إنه من بكى خوفا من النار أعاذه ال منها ..
يا إخوتاه! أل تبكون خوفا من العطش يوم القيامة؟ أل إنه من بكى خوفا من ذلك سُقِي
على رؤوس الخلئق يوم القيامة ..
يا إخوتاه! أل تبكون؟ بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله أن يسقيكموه في
حظائر القدس مع خير الندماء والصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
غشِي عليه! .وحسن أولئك رفيقا " ،ثم جعل يبكي حتى ُ
حي القلب قد يبكي من الذان :كان أبو زكريا النهشلي إذا سمع النداء تغيّر لونه
وأرسل عينيه فبكى ،فسُئل عن ذلك فقال :أشبّهه بالصريخ يوم العرض ،ثم غشي
عليه .
حي القلب قد يبكي من الوضوء .كان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه انتفض
وارتعد وبكى بكاء شديدا ،فيُقال له في ذلك فيقول " :إني أريد أن أُقدِم على أمر عظيم
..أريد أن أقوم بين يدي ال عز وجل " .
حي القلب تُبكيه الذنوب :نظر حذيفة المرعشي إلى رجل يبكي فقال :ما يبكيك يا فتى؟
قال :ذكرت ذنوبا سلفت فبكيت .قال :فبكى حذيفة ثم قال :نعم يا أخي! فلمثل الذنوب
فليُبكَ ،ثم أخذ بيده فتنحيا فجعل يبكيان!
حي القلب يزعجه الختام فيبكي .قال محسن بن موسى :كنت عديل سفيان الثوري إلى
مكة فرأيته يكثر البكاء فقلت له :يا أبا عبد ال بكاؤك هذا خوفا من الذنوب ؟ قال :
فأخذ عودا من المحمل فرمي به فقال " :إن ذنوبي أهون علي من هذا ،ولكني أخاف
أن أسلب التوحيد " .
لكن من الناس أجدب العينين ،فل يستطيع البكاء مع أن قلبه تعمره الخشية ،ومنهم
في المقابل من هو رقيق الحس سريع النفعال والدمع ؛ وإن لم يصاحب ذلك منه عمل
صالح أو خشية دائمة ،وعندما نفاضل بين الثنين نقول :بكاء القلب أولى وأعلى ،
لن بكاء العين شهادة على حيوية القلب لكن الشهادة قد تكون مزورة أحيانا إذا لم
يصاحبها العمل ،أما بكاء القلب وخشيته فشهادة دامغة على حيوية القلب ،وهي
شهادة ل تقبل التزوير على الطلق.
بكاء الحبيب
قال ابن القيّم :
" وكان بكاؤه تارة رحمة للميت ،وتارة خوفا على أمّته وشفقه عليها ،وتارة من
خشية ال ،وتارة عند سماع القرآن ،وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلل مصاحب
للخوف والخشية ،ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال « :تدمع
العين ويحزن القلب ول نقول إل ما يرضي ربنا وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون » ،
وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ،وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة
النساء ،وانتهى فيها إلى قوله تعالى ﴿ :فَكَ ْيفَ ِإذَا جِئْنَا ِمنْ ُكلّ ُأ ّمةٍ ِبشَهِيدٍ َوجِئْنَا ِبكَ
عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [ النساء ، ] 41 :وبكى لما مات عثمان بن مظعون ،وبكى لما
كسفت الشمس وصلى صلة الكسوف ،وجعل يبكي في صلته وجعل ينفخ ويقول« :
رب ألم تعدني أل تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك » ،وبكى لما جلس
على قبر إحدى بناته ،وكان يبكي أحيانا في صلة الليل.
والبكاء أنواع :
أحدها :بكاء الرحمة والرقة.
والثاني :بكاء الخوف والخشية.،
والثالث :بكاء المحبة والشوق.
والرابع :بكاء الفرح والسرور.
والخامس :بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.
والسادس :بكاء الحزن .
والسابع :بكاء الخور والضعف.
والثامن :بكاء النفاق ،وهو :أن تدمع العين ،والقلب قاس ،فيظهر صاحبه الخشوع
،وهو من أقسى الناس قلبا.
والتاسع :البكاء المستعار والمستأجر عليه كبكاء النائحة بالجرة فإنها كما قال عمر
بن الخطاب :تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها .
والعاشر :بكاء الموافقة ،وهو :أن يرى الرجل الناس يبكون لمر ورد عليهم فيبكي
معهم ،ول يدري لي شيء يبكون ،ولكن يراهم يبكون فيبكي " .
فإن فات حي القلب ورده من قرآن أو صلة وجد لفواته ألما أشد من فوات ماله ،
وتقلّب بالليل على فراش كالجمر ،فما عسانا نقول لمن ليس له ورد بالساس؟! بل
ماذا عسانا نقول لمن إذا فاتته الصلة المفروضة لم يجد ألما ول حسرة؟! وكأن رسول
ال صلى ال عليه وسلم ل يخاطب بالحديث التالي إل أحياء القلوب حين يقول « :
الذي تفوته صلة العصر كأنما ُوتِر أهله وماله » .
أي كأنما فقد أهله وماله وهلكوا ،فصاحب القلب الحي فحسب هو من يشعر بهذا وأما
غيره فهيهات هيهات ،ولما كان حاتم الصم رجل كريما من أرباب القلوب الحية ،فقد
أراد أن يبعث الحياة في قلوب من حوله ،فكان أن روى لنا تجربته قائل وهو يحمل هَم
فوات الخير :
" فاتتني صلة الجماعة مرة فعزاني أبو إسحق البخاري وحده ،ولو مات لي ولد
لعزّاني أكثر من عشرة آلف ؛ لن مصيبة الدين عندهم أهون من مصيبة الدنيا " .
وآخر كان يحمل َهمّ المّة وهو أويس القرني الذي كان رغم فقره المدقع وبؤسه الشديد
مستشعرا مسئوليته تجاه كل مسلم جائع أو عريان ،ويسأل ال أن يغفر ذنبه هذا!!
فكيف بنا يا أصحاب النعيم والترف؟! قال عنه سفيان الثوري " :كان لويس القرني
رداء إذا جلس مسّ الرض ،وكان يقول :اللهم إني أعتذر إليك من كبد جائعة وجسد
عار ،وليس لي إل ما على ظهري وفي بطني " .
ومن القرن العشرين يطل علينا المام حسن البنا الذي حمل الهم حتى أطار النوم من
عينيه ،وذلك لما انتشرت موجتا اللحاد والباحية في آن واحد على أرض مصر ،
واسمع إليه يقول :
" وصرتُ أرقب هذين المعسكرين فأجد معسكر الباحية والتحلل في قوة وفتوة ،
ومعسكر السلمية الفاضلة في تناقص وانكماش ،واشتد بي القلق حتى إني لذكر أنني
قضيت نحوا من نصف رمضان هذا العام في حالة أرق شديد ل يجد النوم إلى جفني
سبيل من شدة القلق والتفكير في هذه الحال ".
ومثله في حمل هذا الهم كان الشيخ رشيد رضا الذي دخلت عليه أمه يوما فوجدته
مهموما فقالت له " :مالك؟! هل مات مسلم بالصين؟!" .
ورابع ممن يحمل حيوية القلب يحمل معها هَمّ الخاتمة ،فل يدري أيختم له بخير أم
يودّع الدنيا بسوء؟! قال يحيى بن معاذ " :التائب يبكيه ذنبه ،والزاهد يبكيه غربته ،
والصديق يبكيه خوف زوال اليمان " .
وخامس يحمل هم التقصير حتى أبكاه وهو يحيى بن معاذ كذلك الذي قال " :لست أبكي
على نفسي إن ماتت ؛ إنما أبكي على حاجتي إن فاتت " .
حي القلب ل يخشى إل ال ،فل خوف من بشر ولو كان جائرا ،ول من حدث ولو كان
قاهرا ،ول خوف على رزق أو أجل ،ول خوف على ولد أو متاع ،بل وبسبب حياة
قلبه ؛ كلما عل وعزّ من أمامه كلما هوى وهان في عينيه ،وهكذا كان طاووس
اليماني ،فعن الصلت بن راشد قال :كنت جالسا عند طاووس فسأله سلم بن قتيبة عن
شي فانتهره قال :قلت هذا سلم بن قتيبة صاحب خراسان .قال " :ذلك أهون له علي "
.
ول يخاف أحد من غير ال إل لمرض في قلبه ،وقد حكى ال أن من صفات الذين في
خشَى َأنْ ُتصِي َبنَا دَا ِئ َرةٌ ﴾ [ المائدة ، ]52 :وحكى أن قلوبهم مرض أنهم قالوا ﴿ :نَ ْ
جمَعُواأحياء القلوب الذين سلمت قلوبهم قالوا ﴿ :اّلذِينَ قَالَ لَ ُهمُ النّاسُ ِإنّ النّاسَ َقدْ َ
حسْبُنَا الّلهُ وَنِ ْعمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران .]173 : خشَ ْوهُمْ فَزَا َدهُمْ إِيمَانا َوقَالُوا َ
لَ ُكمْ فَا ْ
خشَ ْونِخشَوُا النّاسَ وَا ْ وهؤلء امتثلوا أمر ربهم الذي طمأن قلوبهم بقوله ﴿ :فَل تَ ْ
﴾ [المائدة ، ]44 :وقد ربط سبحانه الخوف منه وحده باليمان ،وجعل الخشية منه
خشَوْنَ ُهمْ فَالّلهُ أَحَقّ
حكرا على أحياء القلوب ،فقال على سبيل التقرير والتوبيخ ﴿ :أَتَ ْ
خشَ ْوهُ ِإنْ كُ ْنتُمْ مُ ْؤمِنِينَ ﴾ [ التوبة ، ]13 :وقال آمرا وناهيا في آن واحد ﴿ :فَل َأنْ َت ْ
تَخافُوهُمْ وَخَافُونِ ِإنْ كُ ْنتُمْ مُؤمِن ْينَ ﴾ [ آل عمران ] 175 :
وعدم الخوف إل من ال دليل على حياة القلب وجسارته كما ذكروا أن رجل شكا إلى
المام أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولة فقال " :لو صححت لم تخف أحدا " .
وذلك مع التسليم بأن الخوف الجبلي الذي ل يمنع من أداء الواجب ل يقدح في صحة
القلب كخوف النسان من عدوه ومن المخاطر والهوال ،أما الخشية الكاملة فل تكون
إل من ال وحده.
قال صلى ال عليه وسلم وهو يحكي قصة المعراج إلى السماء « :ثم انطلقنا حتى
انتهينا إلى السماء السادسة ،فأتيت على موسى عليه السلم ،فسلمت عليه ،فقال :
مرحبا بالخ صالح والنبي الصالح ،فلما جاوزته بكى فنودي :ما يبكيك؟ قال :رب!!
هذا غلم بعثته بعدي يدخل من أمّته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي ».
قال العلماء :
" لم يكن بكاء موسى حسدا معاذ ال ،فان الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد
المؤمنين ،فكيف بمن اصطفاه ال تعالى؟! بل كان أسفا على ما فاته من الجر الذي
يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمّته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص
أجورهم المستلزم لتنقيص أجره ،لن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه ،ولهذا كان من
اتبعه من أمّته في العدد دون من اتبع نبينا صلى ال عليه وسلم مع طول مدتهم
بالنسبة لهذه المّة ،وأما قوله « غلم » فليس على سبيل النقص بل على سبيل
التنويه بقدرة ال وعظيم كرمه ؛ إذ أعطى لمن كان في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله
ممن هو أسن منه " .
وانظروا مثل إلى حياة قلبي أبي بكر وعمر رضي ال عنهما ،وهل أشد حياة من قلبي
أقرب وأحب صحابيين إلى رسول ال؟! وتأمّل أثر ذلك على تنافسهما في الخيرات ،
وليس ذلك في ميدان العبادات فحسب بل تعدّاها إلى العادات والذوقيات ،وعن ذلك قال
عمر بن الخطاب رضي ال عنه :
" إنا سهرنا ليلة في بيت عند أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى ال
عليه وسلم ،ثم خرجنا ورسول ال صلى ال عليه وسلم يمشي بيني وبين أبي بكر ،
فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ فقام النبي صلى ال عليه وسلم يستمع إليه ،ثم
قال « :من سرّه أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد » ،فعلمت أنا
وصاحبي أنه عبد ال بن مسعود ،فلما أصبحت غدوت إليه لبشّره ،فقال :سبقك بها
أبو بكر!! " .
وموقف آخر ل يقل غرابة في الحرص على الخير يرويه أبو صالح الغفاري أن عمر
بن الخطاب رضي ال عنه كان يتعاهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة
من الليل ،فيستسقي لها ،ويقوم بأمرها ،وكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها ،
فأصلح ما أرادت ،فجاءها غير مرة ،فل يسبق إليها ،فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر
الصديق الذي يأتيها وهو خليفة .
لذا اعترف عمر رضي ال عنه بفضل أبي بكر وأقرّ له قائل " :ما سبقتُ أبا بكر قطّ
إلى خير إِلّ سبقني إليه ،ولو ِددْتُ أنّي شعرة في صدر أبي بكر "
والقسوة هي الموت ،والقساوة عبارة عن غلظة مع صلبة ،وهي عبارة عن خلو القلب من
ضرِبت بها النابة والذعان ليات ال تعالى ،وهي أشد عقوبات القلب على الطلق ،ولذا ُ
قلوب الكافرين والمنافقين.
قال مالك بن دينار " :إن ل عقوبات في القلوب والبدان :ضنك في المعيشة ،ووهن في
ضرِب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب " ،وأكّد على نفس المعنى حذيفة العبادة ،وما ُ
المرعشي فقال " :ما أُصيب أحد بمصيبة أعظم من قساوة قلبه " .
وتأمل قول ال :
جرُ مِ ْنهُ
شدّ َقسْ َوةً َوِإنّ ِمنَ ا ْلحِجَا َرةِ َلمَا يَتَ َف ّ﴿ ثُمّ َقسَتْ قُلُو ُبكُمْ ِمنْ بَ ْعدِ ذَ ِلكَ فَهِيَ كَا ْلحِجَا َرةِ أَوْ َأ َ
خشْ َيةِ الّلهِ َومَا الّلهُ ِبغَافِلٍ خرُجُ مِ ْنهُ ا ْلمَاءُ َوِإنّ ِمنْهَا َلمَا يَهْبِطُ ِمنْ َ الْأَ ْنهَارُ َوِإنّ مِنْهَا َلمَا َيشّقّقُ فَ َي ْ
عمّا تَ ْع َملُونَ ﴾ [ البقرة ] 74 : َ
إشارة الى ما ذكره ال من آية إحياء القتيل أو إلى جميع العظات والقوارع التي مرّت ببني
إسرائيل ،والتي تزول منها الجبال وتلين لها الصخور ؛ وكان الجدر أن تلين لها قلوبهم ،أما
وقد لم تفعل فقد استحقت أن توصف بالقسوة لنفورها من اليمان بعد معاينة أسبابه وموجباته ،
شدّ َقسْ َوةً ﴾ ،وقد كانت صلبة الحجر أعرف للناس وأشهر مثل فهذه القلوب ﴿ كَالْحِجَا َرةِ أَوْ َأ َ
يضرب للقساوة لنها محسوسة لديهم ،ومع ذلك فقد عذر ال الحجارة لكنه لم يعذر القاسية
خرُجُ ِم ْنهُ ا ْلمَاءُ جرُ مِ ْنهُ ا ْلأَنْهَارُ َوِإنّ ِمنْهَا َلمَا َيشّقّقُ فَيَ ْ
قلوبهم فقال َ ﴿ :وِإنّ ِمنَ ا ْلحِجَا َرةِ َلمَا يَ َتفَ ّ
خشْ َيةِ الّلهِ ﴾. َوِإنّ ِمنْهَا َلمَا يَ ْهبِطُ ِمنْ َ
وتأمل قول ال المُعجِز يصف صاحب القلب القاسي َ ﴿ :وأَح ْاطَتْ ِبهِ خَطيْئَ ُتهُ ﴾ أي استولت
عليه ،وشملت جميع أحواله حتى صار محاطا بها ل ينفذ إليه من حوله شيء ،وذلك أن من
أذنب ذنبا ولم يُقلع عنه جرّه ذلك إلى العودة لمثله ،والنهماك فيه ،وارتكاب ما هو أكبر منه ؛
حتى تستولي عليه الذنوب ،وتأخذ بمجامع قلبه ،فيتحول طبعه مائل إلى المعاصي ،مستحسنا
إياها ،معتقدا أن ل لذة سواها ،مُبغِضا لمن يحول بينه وبينها ،مُكذّبا لمن ينصحه بالبعد عنها
،كما قال ال تعالى ﴿ :ثُمّ كَانَ عَاقِ َبةَ اّلذِينَ َأسَاءُوا السّوءَى َأنْ َكذّبُوا بِآيَاتِ الّلهِ وَكَانُوا بِهَا
َيسْتَ ْهزِئُونَ ﴾ [ الروم .] 10 :
فتصبح ذنوبه كالخيمة تحجب عنه كل شيء :نظر ال إليه ،ونعيم الجنة المنتظر ،وعذاب
النار المترقّب ،وكيد إبليس المتحفّز ،وحسرة الملئكة المشفقة ،كل ذلك يغيب عنه عند
وقوعه في الذنب ول يراه ،وهو معنى قول النبي صلى ال عليه وسلم :
« ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ،ول يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ،ول
يسرق حين يسرق وهو مؤمن ،ول ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها
وهو مؤمن » .
القساوة الموسمية
قاسي القلب يموت أقرب الناس إليه ول يتأثر ،وحي القلب يموت أبعد الناس عنه ويخشع
لموته ،بل قد يقسو القلب في وقت ويلين في آخر ،فحي القلب نفسه تمر به حالت قساوة ،
فيسمع الية من كتاب ال فيبكي ،ويسمع قوارع اليات في يوم آخر ول يتأثر ،لنه سمع
الولى حال سلمة قلبه والثانية حال قساوته ،وقد تأتيه الموعظة فتسري في جسده كتيار
الكهرباء في يوم ،وتنزل عليه في اليوم الذي يليه كما تنزل على عمود الرخام!! والسبب
قلبه ،وقد تجود يداه بالصدقة حينا وتمسك أنامله عليها أحايين كثيرة وكأنها صخرة ،والسبب
أيضا قلبه .ول تستثني القسوة أحدا حتى أنها لتضرب قلوب الذين يحملون مفاتيح القلوب ،
ويعلمون سر حيوية الرواح ،وهم قراء القرآن ،لذا بعث أبو موسى الشعري رضي ال عنه
إلى قراء أهل البصرة ،فدخل عليه ثلثمائة رجل قد قرءوا القرآن ،فقال " :أنتم خيار أهل
البصرة وقراؤهم ،فاتلوه ول يطولن عليكم المد ،فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم
".
قسوة من تسعة
روى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال :
أكلت ثريدا بلحم سمين فأتيت النبي صلى ال عليه وسلم وأنا أتجشأ ،فقال « :كفّ عنا
جشاءك ،فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة » ،فما أكل أبو جحيفة بملء
بطنه حتى فارق الدنيا ،وكان إذا تغدى ل يتعشى وإذا تعشى ل يتغدى.
لكن ما العلقة بين التجشؤ والجوع يوم القيامة والتي قد تبدو بعيدة من أول وهلة؟
قال المناوي موضّحا خطورة السراف في الطعام الذي استهان به الكثيرون ،يحسبونه هينا
وهو عند أطباء القلوب عظيم :
" والنهي عن الجشاء نهي عن سببه وهو الشبع ،وهو مذموم طبا وشرعا ،كيف وهو يقرب
الشيطان ويهيّج النفس إلى الطغيان ،والجوع يضيق مجاري الشيطان ،ويكسر سطوة النفس ،
فيندفع شرهما ،ومن الشبع تنشأ شدة الشبق إلى المنكوحات ،ثم يتبعها شدة الرغبة إلى الجاه
والمال اللذان هما الوسيلة إلى التوسع في المطعومات والمنكوحات ،ثم يتبع ذلك استكثار المال
والجاه وأنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات ،ثم يتولد من ذلك آفة الرياء وغائلة
التفاخر والتكاثر والكبرياء ،ثم يتداعى ذلك إلى الحسد والحقد والعداوة والبغضاء ،ثم يُفضي
ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء والبطر والشر ،وذلك مُفضٍ إلى الجوع في
القيامة وعدم السلمة إل من رحم ربك " .
ولذا كانت سنّة وطريقة عبد ال بن عمر رضي ال عنهما التي سار عليها طوال حياته أن يقلل
من طعامه عن طريق وسيلة تفيض ثوابا وتقذف أجرا ،فقد كان ل يأكل حتى يؤتى بمسكين
فيأكل معه ،فأُدخِل عليه يوما رجل فأكل أكل كثيرا ،فقال ابن عمر لغلمه :يا نافع ل تُدخل
علي هذا ،فإني سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول « :المؤمن يأكل في معيّ واحد ،
والكافر يأكل في سبعة أمعاء » .
وهنا يبادرنا سؤال :كم من كافر أقل أكل من مؤمن ،وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله!!
قال ابن حجر :
" قيل :المراد حض المؤمن على قلة الكل إذا علم أن كثرة الكل صفة الكافر ،فإن نفس
المؤمن تنفر من التصاف بصفة الكافر ،ويدل على أن كثرة الكل من صفة الكفار قوله تعالى :
﴿ وَاّلذِينَ َك َفرُوا يَ َتمَتّعُونَ وَ َيأْكُلُونَ َكمَا تَأْكُلُ الْأَ ْنعَامُ ﴾ [ محمد .] 12 :
وقال الطيبي :ومحصل القول أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والقتناع بالبلغة
بخلف الكافر ،فإذا وجد مؤمن أو كافر على غير هذا الوصف ل يقدح في الحديث ،ومن هذا
ش ِركٌ
حهَا إِلّا زَانٍ أَوْ ُم ْ
شرِ َكةً وَالزّانِ َيةُ لَا َينْكِ ُ
قوله تعالى ﴿ الزّانِي لَا يَ ْن ِكحُ إِلّا زَانِ َيةً أَوْ ُم ْ
﴾ [ النور ، ] 3 :وقد يوجد من الزاني نكاح الحرة ومن الزانية نكاح الحر.
وقيل أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث التام اليمان ؛ لن من حسن إسلمه وكمل ايمانه
اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده ،فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والشفاق
على نفسه من استيفاء شهوته " .
وإن كثرة الطعام ما هي إل علمة على قسوة القلب وطريق ُممَهّد موصل إلى موته ،لذا غفل
قساة القلوب عن سبب رئيسي لفراطهم في الطعام وبالتالي جهلوا سبب القساوة ،وهو ما
أشار إليه ابن القيّم في الفوائد :
" لو تغذّى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات.
ولو كنت عذري الصبابة لم تكن ...بطينا وأنساك الهوى كثرةَ الكل " .
وإن كثرة الطعام كذلك تُدخل القلب في متاهة الفات الستة التي أشار إليها أبو سليمان الدارانى
بقوله " :من شبع دخل عليه ست آفات :فقد حلوة المناجاة ،وحرمان الشفقة على الخلق ؛
لنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع ،وثقل العبادة ،وزيادة الشهوات ،وإن سائر المؤمنين
يدورون حول المساجد ،والشباع يدورون حول المزابل " .
بل أوصى الحسن البصري كل من ضاع خشوعه والتمس دموع الخشية فلم يجدها ؛ أوصاه
بهذه الوصية العملية المُجرّبة واقعيا فقال " :من أراد أن يخشع قلبه ويغزر دمعه فليأكل في
نصف بطنه " .
فضل عن أن كثرة الطعام تضيّع على المرء فرص الثواب الجزيل لنها تصرف الطعام في غير
وجهه الصحيح ،ولو صرِفت صدقة وبذل بدل من أكلها لكان خيرا لصاحبها في الدنيا
والخرة ،وقد رُوِي عن النبي صلى ال عليه وسلم أنه رأى رجل عظيم البطن فأشار إلى بطنه
بأصبعه فقال « :لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك » .
لكن ..هل مقصود كلمي أن يجوّع النسان نفسه ويُحرّم على نفسه ما أحل ال له؟! حاشا
وكل ؛ بل كل ما أريد قوله جاء موجزا على لسان الحليمي رحمه ال الذي بيّن مغزى الكلم :
" وكل طعام حلل فل ينبغي لحد أن يأكل منه ما يثقل بدنه ،فيحوجه إلى النوم ،ويمنعه من
العبادة ،وليأكل بقدر ما يسكن جوعه ،وليكن غرضه من الكل أن يشتغل بالعبادة ويقوي
عليها " .
فالمطلوب منك على الفور إذن ثلثة أمور :
أول :نية صالحة لكل لقمة تؤكل ،حتى يتحوّل الطعام إلى عبادة ،ويُغذّي روحك مع جسدك.
الثاني :قلة الكل ،وهي ما قال عنه النبي صلى ال عليه وسلم :ثلث لطعامه وثلث لشرابه
وثلث لنفسه ،وعلمة ذلك أن تفارق المائدة وأنت ل تزال جائعا ،وهو معنى قوله « :وإذا
أكلنا ل نشبع ».
ثالثا :الصيام الدائم انتصارا لروحك على شهوة الكل.
النوم كالملح ل بد من قليل منه في الطعام ،لكن زيادته مضرة وتجعل طعم الحياة غير مستساغ
،فلكثرة النوم أضرار كثيرة ،وما قسوة القلب إل أحد نتائجها ،وقد سبق وأن أحصى أبو حامد
الغزالي عواقب كثرة النوم فقال :
" وفي كثرة النوم :ضياع العمر ،وفوت التهجد ،وبلدة الطبع ،وقساوة القلب ،والعمر أنفس
الجواهر ،وهو رأس مال العبد فيه يتجر ،والنوم موت ،فتكثيره يُنقص العمر ،ثم فضيلة
التهجد ل تخفى ،وفي النوم فواتها " .
وكيف يكثر النوم في هذه الدنيا من ينتظر أطول رقدة له في القبر؟! وكيف يُسرِف أحد في النوم
وهو أخو الموت من الرضاع؟! يا من قساوة قلبه أشد من الحجر ..
يا طويل الرقاد والغفلت ...كثرة النوم تورث الحسرات
إنّ في القبر إن نزلت إليه ...لرقادا يطول بعد الممات
ومِهادا ُممَهّدا لك فيه ...بذنوب عملت أو حسنات
أأمنت الهجوم من ملك المو ...ت وكم نال آمنا ببيات
لكن لماذا يصحو قاسي القلب إذا كان يتقلب طوال يومه في طبقات من النوم المتواصل ،من
نوم في اليقظة إلى نوم في المنام ،إنها قسوة القلب تجعل صاحبها غير آبه بقيمة الوقت ول
مكترث به ،فل يوجد ما يفعله كي يستيقظ ،لذا يغط في نوم عميق.
أمّة وسطا
لكن الدعوة إلى التقليل من النوم ل بد أن تكون معتدلة ل تغمط النفس حقها وضرورات
حياتها ،فتضر من حيث تريد أن تنفع ،ول تبلّغ المقصود بل ضد المقصود .قال ابن القيم وهو
يقود قافلتنا بحكمة في طريق العتدال :
" وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الفات ؛ فمدافعته وهجره مورث لفات أخرى عظام :من
سوء المزاج ويبسه وانحراف النفس وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل ،ويورث
أمراضا متلفة ل ينتفع صاحبها بقلبه ول بدنه معها ،وما قام الوجود إل بالعدل ،فمن اعتصم
به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير " .
مراعاة الفوارق
ومن الخطأ الفاحش :معاملة الناس معاملة واحدة وعدم مراعاة اختلف حال الشخاص
والقدرات ؛ فمن الناس من تقل عدد ساعات نومه بطبيعته ،ول بد كذلك من مراعاة اختلف
البيئات ؛ فالبلد الحارة غير البلد الباردة ،والبلد المزدحمة غير البلد الهادئة ،ومراعاة
اختلف العمار كذلك ؛ فما يحتاجه الشاب غير ما يحتاجه الشيخ ،ومراعاة اختلف العمال
فأصحاب الشغال الشاقة غير أصحاب العمال السهلة ؛ والعمال البدنية غير العمال الذهنية ،
ول بد كذلك من فهم قضية البركة في الوقات لدى الصالحين وإعطائها حقها ،ومن الخطأ عدم
مغالبة النعاس الخفيف إن وُجِد والستجابة لدواعيه ،ولو صمد صاحبه قليل لنقشع عنه وزال
وربح هو وقته ،وأخيرا فمن الخطأ الشائع الكثار من جوالب النعاس ككثرة الطعام والتمدد
الطويل في غير وقت النوم .
.
قال عطاء بن أبي رباح " :إن من قبلكم كانوا يعدّون فضول الكلم ما عدا كتاب ال أو أمر
بمعروف أو نهي عن منكر أو أن تنطق في معيشتك التي ل بد لك منها ،أتذكرون أن عليكم
حافظين كراما كاتبين ،عن اليمين وعن الشمال قعيد ،ما يلفظ من قول إل لديه رقيب عتيد ،
أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفة التي أملى صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته " .
إن من القلوب القاسية من ل يصلح معه إل مثل هذه اللهجة القاسية ،وإن كثرة الكلم بالباطل
ل تعالج إل بقوة كلم الحق ،لكن عبد ال بن المبارك كان أخف لهجة حين خاطب من كان قلبه
بين القساوة والحياة قائل :
وإذا ما هممت بالنطق في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا
فاغتنام السكوت أفضل من خوض وإن كنت في الحديث فصيحا
إن كثرة الكلم هي علمة واضحة على قسوة القلب لكن كثرة الكلم كذلك من أسهل الطرق
الموصلة إليه ،لذا قال بشر بن الحارث " :خصلتان تقسيان القلب :كثرة الكلم وكثرة الكل
" ،وأخطر من ذلك قول النبي صلى ال عليه وسلم :
« وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الخرة أسوؤكم أخلقا الثرثارون المتفيهقون المتشدّقون »
.
و « الثرثارون » أي الذين يُكثرون الكلم تكلفا وتشدقا ،و « المتفيهقون » هم مدّعو الفقه
الذين يتوسعون في الكلم ويفتحون به أفواههم تفاصحا وتفاخرا ؛ وهو مأخوذ من الفهق وهو
المتلء والتساع ،لنه يمل فمه بالكلم ويتوسع فيه إظهارا لفصاحته وفضله واستعلء على
غيره ؛ ليميل بقلوب الناس وأسماعهم إليه ،أما « المتشدّقون » فهم الذين يتكلمون بأشداقهم
ويتقعرون في مخاطبتهم من غير احتياط واحتراز ،لكن يبادرنا هنا سؤال :
ما الدافع إلى كثرة الكلم؟!
قال المناوي :
" كثرة الكلم تتولد عن أمرين :إما طلب رئاسة يريد أن يرى الناس علمه وفصاحته ،وإما قلة
العلم بما يجب عليه في الكلم " .
فكثرة الكلم نابعة من قسوة القلب ،فإن القلب القاسي إما أن يمتل بحب الرئاسة أو يمتل غفلة
وعدم إدراك عواقب الكلم ،وكلٌ منهما دافع إلى كثرة الكلم ،أما حب الرئاسة فيدفع صاحبه
إلى التباهي بما فيه وما ليس فيه ،فيمتلئ فخرا وينطق زهوا ،وأما قلة العلم فتجعل صاحبها
ينسى أنه محاسب على فلتات لسانه ومنتجات فمه ،فيكثر كلمه وإن كان فيه الهلك ،وصدقك
نصر بن أحمد النصيحة حين أنشدك محذّرا :
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل ...وكل امرىء ما بين فكيه مقتل
ب شرّ لنفسه ...إذا لم يكن قفل على فيه مقفل وكم فاتحٌ أبوا ِ
إذا ما لسان المرء أكثر هذره فذاك لسان بالبلء مُوَكّل
إذا شئت أن تحيا سعيدا مُسلّما ...فدبّر وميّز ما تقول وتفعل
وإن كثرة الكلم مُهلكة مُهلكة حتى وإن كان الكلم مباحا ،لنها ستجر حتما إلى الكلم الحرام ،
والشيطان يستدرجك لينقلك من المنطقة المباحة إلى الدائرة المحرّمة ،وكثرة السير في الرض
الموحلة ل بد أن تؤدي بصاحبها إلى النزلق في الوحل .قال عمر رضي ال عنه " :من كثر
كلمه كثر سقطه ،ومن كثر سقطه قلّ حياؤه ،ومن قلّ حياؤه ق ّل ورعه ،ومن قلّ ورعه مات
قلبه " .
وحسب كثير كلمه أنه بمثابة منتظر الفتنة وموشك على الخطأ ،ويكفي قليل الكلم أنه ينتظر
الرحمة ويدنو بإنصاته من الهداية والصواب.
ولن العاقل يعلم أنه محاسب عن كل كلمة ،لذا يتفكّر في كلمه أول ،فإن كان ل أمضاه ،
وإن كان لغيره حبسه ،لذا قلّ كلمه ،وسكت عن كثير الكلم ،أما قاسي القلب فل يعمل حسابا
لقول أو كلم لذا ينطق بكل سوء ،ويزيد في منطقه دون خشية أو مراقبة ،إن القلب الحي
مصفاة لكل قول سيء ،والقلب القاسي باب مفتوح لكلمات السوء .فعن الحسن البصري قال :
" كانوا يقولون إن لسان المؤمن وراء قلبه ،فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه
بلسانه ،وإن لسان المنافق أمام قلبه فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه " .
وليست كثرة كلم المرء من العقل في شيء ،لذا كان من أحكم ما قيل :إذا تمّ العقل نقص
الكلم ،وقد قال المهلب بن أبي صفرة الزدي " :يعجبني أن أرى عقل الرجل الكريم زائدا على
لسانه " ،وهل أوفر عقل وأكثر نبوغا من رسول ال صلى ال عليه وسلم؟! لذا كان من صفات
كلم النبي صلى ال عليه وسلم أنه كان يُحدّث حديثا لو عده العاد لحصاه ،وهذا إشارة إلى
قلة كلمه ،وفي هذا كذلك :الوقار والمهابة التي يلبس تاجها أحياء القلوب.
تاج الوقار وحسن سمت المسلم ..صمت المليء وحكمة المتـكلّم
وقد جعل أبو الدرداء رضي ال عنه قلة الكلم من علمات الفقه ؛ ما هو بغزارة العلم ول كثرة
الرواية ،فقال رحمه ال " :من فقه الرجل قلة كلمه فيما ل يعنيه " .
أقلل كلمك واستعذ من شرّه ...إنّ البلء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من عِيّه ...حتى يكون كأنه مسجون
وكّل فؤادك باللسان وقُْلْ له ...إنّ الكلم عليكما موزون
وفي نهاية كلمنا عن كثرة الكلم يبادرنا سؤال :هل ل بد لحياء القلوب أن يكونوا قليلي
الكلم؟!
والجواب :كل ،وليس إذا كان الكلم صحيحا وفي الخير؟! ولذا لما عيب إياس بن معاوية
بكثرة الكلم قال :وأما كثرة الكلم فبصواب أتكلم أم بخطأ؟ قالوا :بصواب .قال " :فالكثار من
الصواب أمثل " .
والمقصود بها :مخالطة المرضى والحتكاك بأموات القلوب ومعايشة قساة المشاعر اليمانية
والمبيت وسط من يذكّرونك بالدنيا وليس لهم من الخرة نصيب ،وهؤلء يجرونك نحو النار
جرا ويوصدون في وجهك أبواب الجنة ،وفيهم يقول ابن القيّم رحمه ال :
" وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ،ودفعت من نعمة ،وأنزلت من محنة ،وعطّلت من منحة ،
وأحلت من رزية ،وأوقعت في بلية ،وهل آفة الناس إل الناس ،وهل كان علي أبي طالب
رضي ال عنه عند الوفاة أضرّ من قرناء السوء ؛ لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة
واحدة توجب له سعادة البد " .
وغني عن القول أن الصاحب جسر إلى الرحمة أو اللعنة ،والصديق سائق إلى الجنة أو النار ،
علَى َيدَ ْيهِ َيقُولُ لذا قصّ ال تعالى علينا في القرآن قصة يوم الندم فقال َ ﴿ :ويَوْمَ يَ َعضّ الظّالِمُ َ
خلِيلًا ﴾ [ الفرقان .] 28-27 : خذْ فُلَانًا َ
خذْتُ َمعَ ال ّرسُولِ سَبِيلًا * يَا َويْلَتَا َليْتَنِي لَمْ أَتّ ِ
يَا َليْتَنِي اتّ َ
والقصة أن عقبة كان قد همّ بالسلم فمنعه منه أمية بن خلف وكانا صديقين ،وكان عقبة قد
صنع وليمة فدعا إليها قريشا ،ودعا رسول ال صلى ال عليه وسلم فأبى أن يأتيه إل أن يُسلم
،وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه أحد من أشراف قريش فأسلم ونطق بالشهادتين ،فأتاه
رسول ال صلى ال عليه وسلم وأكل من طعامه ،فعاتبه خليله أمية بن خلف وكان غائبا ،
فقال عقبة :رأيت عظيما أل يحضر طعامي رجل من أشراف قريش ،فقال له خليله :ل أرضى
حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت ،ففعل عدو ال ما أمره به خليله ؛
فأنزل ال عز وجل َ ﴿ :ويَوْمَ يَ َعضّ الظّالِمُ عَلى َيدَ ْيهِ ﴾ [ الفرقان .] 27 :
والظالم هنا هو عقبة بن أبي معيط وخليله هو أمية بن خلف ،ولم يُسمّيا في الية لنه أبلغ في
الفائدة ،ليُعلم أن هذا سبيل كل ظالم أطاع صاحبه في معصية ال.
قال مجاهد " :الظالم عام في كل ظالم " .
إشارة إلى كل ظالم اتخذ خليل له يصده عن الذكر بعد إذ جاءه على يد نبيه ،ويصرفه عن ما
فيه نجاته ،ليرتدع التابع ويرتجف رعبا هو يرى نفسه يُقرن بمن بصق في وجه رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،وداس على عنقه وقُتل على يديه.
ومن يكن الغراب له دليل ..يمرّ به على جيف الكلب
إن تأمل في من يُحشر معهم المرء يكفي للتخلص من أثر هذا السم في الحال ﴿ الَخِلّ ْاءُ يَ ْومَ ِئذٍ
عدُوّ إل ال ُمتّق ْينَ ﴾ [ الزخرف ، ] 67 :ولكن قساة القلوب من الظالمين أعاجم ل بَ ْعضُهُمْ لِبَ ْعضٍ َ
يفهمون لغة القرآن ،وهو سُم ليس لك تتهاون في تناول جرعة واحدة منه وإل كان العطب ( ل
تصاحب إل مؤمنا ،ول يأكل طعامك إل تقي ).
وإن أي طالب للشفاء اليوم وباحث عن العافية سيفشل حتما ويظل متخبّطا في الضلل
والظلمة ،وكلما قام سقط ،وكلما تقدّم تعثّر ؛ ما لم يتخذ القرار المصيري الحاسم بهجر الرفقة
المهلكة والتي تشده إلى الوراء وتهوي بإيمانه إلى السفل ،ولن تُجدي أبدا جرعة دواء ما دام
يتبعها جرعة سم ،ولن تحصل عافية يوما ما دمت تُصبح وتُمسي بين أعداء العافية ..أل
فانتبه!!
أخي ..
كاذبٌ ثم كاذبٌ من ادعى قدرته على معايشة البيئة الفاسدة دون التأثر بغبارها ،لن قلبه قلب
بشر ل قلب َملَك ،وسيتأثر حتما بالبيئة المحيطة سلبا أو إيجابا ،وإل لماذا أمر ال رسوله
المؤيد بالوحي والذي رأى الجنة والنار رأي العين بصيانة سمعه وبصره ومفارقة مجالس
ع ِرضْ
السوء؟ بل وحذّره من أن يفتن بهم قائل َ ﴿ :وِإذَا َرأَيْتَ اّلذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَ َأ ْ
حدِيثٍ غَ ْي ِرهِ ﴾ [ النعام ، ] 68 :فإذا كان هذا التحذير للنبي صلى ال عَنْهُمْ حَتّى َيخُوضُوا فِي َ
عليه وسلم وهو أطهر القلوب وأنقاها وأشرفها وأزكاها ؛ بل وأبعدها عن التأثر بما يتأثر به
غيره ،فكيف بغيره؟! بل لما ذهب إلى عرس من أعراس الجاهلية ألقى ال على عينيه بالنعاس
صيانة له وحفظا.
سببا المرض
إن سبب القبال على صحبة السوء هو التشابه أو الغفلة ،فأما التشابه فقد كان مالك بن دينار
يقول " :ل يتفق اثنان في عِشرة إل وفي أحدهما وصفٌ من الخر ،وإن أجناس الناس
كأجناس الطير ،ول يتفق نوعان من الطير في الطيران إل وبينهما مناسبة .قال :فرأى يوما
غرابا مع حمامة فعجب من ذلك ،فقال :اتفقا وليسا من شكل واحد ،ثم طارا فإذا هما أعرجان
،فقال :من ها هنا اتفقا " .
ولذلك قال بعض الحكماء :كل إنسان يأنس إلى شكله ؛ كما أن كل طير يطير مع جنسه ،وإذا
اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكل في الحال فل بد أن يتفرقا ،وهذا معنى خفي فطن
له الشعراء حتى قال قائلهم :
وقائل كيف تفارقتما ...فقلت قول فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته ...والناس أشكال وألف
وأما الغفلة فالمقصود بها :عدم النتباه إلى سهولة انتشار العدوى وعموم البلوى بالمخالطة ،
والنسان بطبعه وحكم بشريته يتأثر بصديقه وجليسه ،ويكتسب أخلق قرينه وخليله ؛ لن
رفقة السوء أعدى من الجرب ،ولربما يعدي السليمَ الجربُ ،وقد قال ابو قدامة في كلم
مختصر حواه كتابه مختصر منهاج القاصدين ،وهو يرصد فيه ما خفي عن غيره من الطباء
والمرضى من عواقب رفقة السوء :
" مسارقة الطبع من أخلقهم الرديئة ،وهو داء دفين قلما ينتبه له العقلء فضل عن الغافلين ،
وذلك أنه قلّ أن يجالس النسان فاسقا مدة ،مع كونه منكرا عليه في باطنه ،إل ولو قاس
نفسه إلى ما قبل مجالسته لوجد فارقا في النفور عن الفساد ،لن الفساد يصير بكثرة المباشرة
هيّنا على الطبع ،ويسقط وقعه واستعظامه ،ومهما طالت مشاهدة النسان الكبائر من غيره ،
احتقر الصغائر من نفسه " .
ومن آثار صحبة السوء :الرضا عن النفس ،وما حال مريض يقارن نفسه بالموات؟! أو
يفرح أن وجد نفسه أعور بين قطيع من العُمي؟! أو يظن بنفسه الخير أن كان يهوي إلى أسفل
وغيره أسفل منه ؛ كلهما يهوي لكنه مطمئن أن أخاه أقرب منه إلى الهاوية!! وهو معنى قول
ابن عطاء :ربما كنت مسيئا فأراك الحسان صحبة من هو أسوأ حال منك.
ومن آثارها :حالة الموت السريري أو ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،لن مخالطة
الفاسدين تُضعِف قوة النكار في القلب ،ومع مرور الوقت تنعكس المشاعر ،وتتحول كراهة
المنكر إلى حب له واستئناس به ،وحتى إن لم تنطمس الفطرة وتصل إلى هذا المنحدر يكون
السكوت عن النكار حتى ل يخسر الصديق صديقه أو حتى يؤذي مشاعره!!
وجّه علي باشا ماهر الدعوة للمام الشهيد حسن البنا لحضور حفل زفاف ابنه بالسكندرية ،
فذهب الستاذ المرشد إلى السكندرية ونزل عند الخوان ،وكلف الستاذ أحد الخوة الذين
رافقوه بالذهاب إلى الحفل ،وقال له :إذا لم تجد أي مخالفة شرعية فاتصل بي تليفونيا حتى
أحضر ،وإذا وجدت ما يسبب أي حرج فقم أنت بالواجب ،وانتظر الستاذ فترة ،ولم يتصل
الخ ،فقال الستاذ للخوان :أل توجد مناسبة عند أحد الخوة؟ قالوا :بلى ،عند فلن عقد
زواج ،فذهبوا جميعا ،وكانت مفاجأة سارة ،وعمت الفرحة والبهجة .
ومن آثارها نفور الصالحين منك بعد أن أدنيت أهل السوء ،وهي وصية الواعظ أبي حازم لما
دخل على أمير المدينة ،فقال له :تكلم .قال له " :انظر الناس ببابك ،إن أدنيت أهل الخير
ت أهل الشّر ذهب أهل الخير " .
ذهب أهل الشّر ،وإن أدني َ
فإذا وجدت الصالحين يهربون منك ولم تجد حولك غير قساة القلوب ،فاعلم أنك أنت السبب ،
فل يدخل الضوء مكانا حتى يطرد الظلم ،ول يملؤ العسل وعاءً مُلئ بالعلقم.
ولهذا حذّر عالم المدينة وسيد التابعين في زمانه سعيد بن المسيب [ ت ] 94 :من مجرّد النظر
إلى الفئة الضالة فضل عن مخالطتهم ؛ فقال متخذا أقصى درجات الحيطة ومتجنبا أولى خطوات
النهيار والسقوط :
" ل تنظروا إلى الظلمة فتحبط أعمالكم الصالحة ؛ بل هؤلء ل سلمة في مخالطتهم ،وإنما
السلمة في النقطاع عنهم " .
قال تعالى ﴿ :فَ ِبمَا نَ ْقضِهِمْ مِيثَاقَ ُهمْ لَ َعنّاهُمْ َوجَعَ ْلنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِ َيةً ﴾ [ المائدة ] 13 :
فجعل ال نقض العهد معه سببا رئيسا لقسوة القلب ،ويشهد لهذا قوله تعالى َ ﴿ :و ِمنْهُمْ َمنْ
ص ّد َقنّ وََلنَكُو َننّ ِمنَ الصّاِلحِينَ * َفَلمّا آَتَاهُمْ ِمنْ َفضْ ِلهِ بَخِلُوا ِبهِ عَا َهدَ الّلهَ لَ ِئنْ آَتَانَا ِمنْ َفضْ ِلهِ لَ َن ّ
عدُوهُ
َوتَوَلّوْا َوهُمْ ُم ْع ِرضُونَ * فَ َأعْقَبَ ُهمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ َيلْقَوْ َنهُ ِبمَا َأخْلَفُوا الّلهَ مَا َو َ
َو ِبمَا كَانُوا َي ْكذِبُونَ ﴾ [ التوبة ] 77-75 :
فتأمل هذه القصة وهي أن هؤلء القوم عاهدوا ال إن آتاهم من فضله أن يتصدقوا مما آتاهم ،
ولكن لما آتاهم ال من فضله نكصوا على أعقابهم ،وغدروا في ما عاهدوا ،فكانت العقوبة أن
أعقبهم ال تعالى نفاقا دائما في قلوبهم يبقى معهم حتى الممات ،وهذا وعيد مخيف يرتعد منه
المرء إن هو خالف ما سبق وأن عاهد ربه عليه :أن يصل إلى ما انحدر إليه هؤلء المنافقون
،فإن قانون التماثل ل يتخلّف ول يتبدّل ،فإن فعلنا مثل ما فعل أسلفنا من المم والقوام
السابقة وصلنا إلى ما وصلوا إليه خيرا كان أو شرا ،وما ربك بظلم للعبيد.
إن منا من إذا نزلت به بلية أو مرض أو احتاج ربه في حل مشكلة ألمّت به ؛ أناب وخضع
وتاب وخشع ،وعاهد ال لئن كشف ال عنه ما هو فيه ليفعلن وليكونن ،ثم ل يكون بعدها إل
التولي يوم الزحف ،وإخلف الوعد مع البشر من نواقض المروءة ؛ فكيف بنقض العهد مع
ال؟! لذا يشتد غضب ال على هذا المستهين بربه ،فيضرب على قلبه القسوة والنفاق.
أعرف رجل كان أبعد ما يكون عن ال ،لكنه ابتُلي بمرض عضال ،فصار المسجد بيته ،
والقرآن نطقه ،وأقبل على الصلة بعد أن هجرها دهرا ،وأشرقت عيناه بدمع الندم بعد أن ولى
زمان الجدب ؛ حتى شفاه ال وأخذ بيديه إلى العافية ،فرجع إلى سابق عهده ناكثا مدبرا ،دون
أن يدرك قبح فعلته وهول غدرته ،فماذا كانت النتيجة؟! تيه في دروب الحياة وقسوة أشد وبعدا
أكثر عن ساحل النجاة ،حتى يتوفاه الموت أو يجعل ال له سبيل.
قال صلى ال عليه وسلم « :الثم حوّاز القلوب ،وما من نظرة إل وللشيطان فيها مطمع » .
وحوازّ بتشديد الزاي أو الواو ،فهي حَوَازّ بتشديد الزاي جمع حازّ ،وهي المور التي تحزّ
فيها أي تؤثر ،كما يؤثر الحزّ في الشيء ،أو حوّاز بتشديد الواو ،أي يحوزها ويتملكها
ويغلب عليها.
وسواء كان المراد أن الذنوب تجرح القلوب وتؤثر فيها ،أو تحوز القلوب وتسيطر عليها ،فإن
ضررها عظيم وفادح ،ولذا كان من رحمة ال بعباده أن فرض عقوبات تنبيهية لتستيقظ
القلوب رهبا وترتعد الطراف وجل ،فتغلق على العدو بابا سبق وأن ولج منه ،وتطرد فلوله
على أدبارها بعد أن غزوا قلعته.
الذنب إذن يُضعف مقاومة حصن القلب العتيد في مواجهة المعاصي ،فتنهار مقاومته أمام أي
شهوة ويستسلم لي غفلة ،فإن تتابعت على القلب غزوات العدو مع انعدام الحراسة عليه
أصابته حالة من حالة السّكر ،فيصبح كالمخمور بل إن المخمور قد يكون أفضل حال منه ،
فإنه تأتيه ساعة إفاقة يصحو فيها ويعقل ،بل لو صادف شيئا ينقذه من همومه غير الخمر
لربما تركها ،أما مخمور القلب فل يفيق من سكرته إل على دقات ملك الموت يطرق بابه!!
فهو ميت في صورة حي ،وحجر في صورة قطعة لحم!!
إن الوقوع في الذنوب مع عدم النزوع عنها والقامة عليها يؤدي إلى القساوة أو الموت ؛ لذا
كان من بديع شعر ابن المبارك الذي رصد فيه هذا المعنى :
رأيت الذنوب تميت القلوب ...ويورث الذلّ أدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ...وخيرٌ لنفسك عصيانها
وهي وصية النبي صلى ال عليه وسلم لنا حيث قال ناصحا أبا هريرة :
« ول تكثر الضحك ؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب » .
قال المناوي :
" أي تصيره مغمورا في الظلمات بمنزلة الميت الذي ل ينفع نفسه بنافعة ،ول يدفع عنها شيئا
من مكروه ،وحياته وإشراقه مادة كل خير ،وموته وظلمته مادة كل شر ،وبحياته تكون قوته
وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه " .
وموت القلب هو أصل فساده ،لذا قال صلى ال عليه وسلم في حديث آخر :
« وإياك وكثرة الضحك ،فإن كثرة الضحك فساد القلب » .
أي أن كثرة الضحك تورث قسوة القلب ،لن الفراط فيه يورث النغماس في اللهو والغفلة عن
الخرة ،وإذا كان السلم يكره الغلو والسراف في كل شي ولو كان في العبادة ؛ فكيف باللهو
والمرح؟!
هزل الطباء!!
والبعد عن الفراط في المزاح أوجب للدعاة ،فهم القدوات والصور التي يتأمل الناس حسنها ثم
يقلّدونها ،وهم الصل الذي يستنسخ منه الناس نسخا من أعمالهم الزكية ،فإذا كان الصل
مهتزا فكيف بالصورة؟! والبحر الذي يغسل الدران إذا كان غير نظيف فكيف يُطهّر؟! وكيف
تقسو قلوب من مهمتهم أن تلين بهم قلوب الناس؟! وكيف يموت قلب مطلوب منه أن يحيي
قلوب الخرين؟! ولذا كان من الوصايا العشر للمام البنا وصيتان مرتبطتان بهذا المر ؛ الولى
" :ل تمزح فإن المّة المجاهدة ل تعرف إل الجد " ،والثانية " :ل تكثر الضحك فإن القلب
المتصل بال ساكن وقور " ،ويبيّن ذلك جليا ويحذّر منه بشدة بعد أن رصده بدقة في تقريره
الميداني المفصّل الستاذ الراشد فيقول :
" وقضايا السلم أوفر جدا وأثقل هموما من أن تدع عصبة من الدعاة تطيل الضحك ،وتستجيز
المزاح ،وتتخذ لها من صاحب خير فيها محور تندّر وتروي قصصه وغرائبه ،والبتسامة
علمة المؤمن ولسنا نُنْكرها ،والنكتة في ساعتها سائغة ،والريحية أصل في سلوكنا واللفة
والبشاشة ،ليس العبوسة ،والقهقهة الولى لك ،والثانية نهبها لك أيضا ،فإنا كرماء ،ولكن
الثالثة عليك ،وتشفع حسناتك لها عندنا ،وأما الرابعة فيلزمها حد ل شفاعة فيه ،وشعار :
الضحك للضحك ؛ باطل ،والهزل الهزيل مرفوض في أوساط العمل السلمي ،وإنما الداعية
مُفوّض بالجد والتجديد " .
بقي لك أربعة
حتى تستكمل آداب المزاح وتحيط بها علما ؛ هاك ما يلي من شروط المزاح المباح :
أولها :أل يكون كذبا ،ولهذا قال صلى ال عليه وسلم « :ويل للذي يُحدّث فيكذب ليُضحك به
القوم ،ويل له ،ويل له » .
قال المناوي " :كرّره إيذانا بشدة هلكته ،وذلك لن الكذب وحده رأس كل مذموم ،وجماع كل
فضيحة ،فإذا انضم إليه استجلب الضحك الذي يميت القلب ،ويجلب النسيان ،ويورث
الرعونة ؛ كان أقبح القبائح " .
وغالبا ما يؤدي بصاحبه إلى الكذب ،لن غرضه أن يُضحك الناس كيفما كان ،فيسحبه
الشيطان رويدا رويدا دون أن يشعر حتى يكذب ليُضحك غيره.
ثانيا :أل يشتمل على تحقير أو استهزاء أو سخرية من أحد « :بحسب امرئ من الشّر أن
يحقر أخاه المسلم ».
ثالثا :أل يؤدي إلى ترويع مسلم ،فقد روى النعمان بن بشير رضي ال عنهما قال :كنا مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم في مسير فخفق رجل على راحلته ،فأخذ رجل سهما من كنانته
،فانتبه الرجل ففزع ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم « :ل يحل لرجل أن ُيرَوّع مسلما
».
والسياق يدل على أن الذي فعل ذلك كان يمزح ،وقد ورد في الحديث « :ل يأخذن أحدكم متاع
صاحبه لعبا ول جادا ،وإن أخذ عصا صاحبه فليردها عليه » .
رابعا :أل يهزل في موضع الجد ،ول يضحك في مجال يستوجب البكاء ،فلكل شئ أوانه ،
ولكل مقام مقال ،والحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب.
وأقبح المزاح ما كان في لحظة خشوع أو عقيب طاعة ،فإنه يذهب بأثرها ويضيع مفعولها في
الحال ،وبعد أن كان القلب خاشعا وجل خائفا رطبا ؛ إذا به يتحوّل ،وليس قلب المازح وحده
بل قلوب كل من سمعوا مزاحه وتأثّروا به.
وقد عاب ال تعالى على المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم
حكُونَ وَلَا تَ ْبكُون * َوأَنتُمْ سَا ِمدُونَ
حدِيثِ َتعْجَبُونَ * وَ َتضْ َ
البكاء ،فقال عز وجل َ ﴿ :أ َف ِمنْ َهذَا الْ َ
﴾ [ النجم ] 60-58 :
اعتراض!!
قال أبو حامد الغزالي متقمّصا كل من شخصية المعارض والمؤيد :
" فإن قلت :قد نقل المزاح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه فكيف يُنهى عنه؟!
فأقول :إن قدرت على ما قدر عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه وهو :أن تمزح
ول تقول إل حقا ،ول تؤذي قلبا ،ول تُفرّط فيه ،وتقتصر عليه أحيانا على الندور ،فل حرج
عليك فيه ،ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ النسان المزاح حرفة يواظب عليه ،ويُفرّط فيه ،
ثم يتمسك بفعل الرسول صلى ال عليه وسلم ،وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم
وإلى رقصهم ؛ ويتمسك بأن رسول ال صلى ال عليه وسلم أذن لعائشة في النظر إلى رقص
الزنوج في يوم عيد ،وهو خطأ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالصرار ،ومن المباحات ما
يصير صغيرة بالصرار ،فل ينبغي أن يُغفل عن هذا " .
السم الذي يصل إلى القلب عن طريق أكلة محرمة يتسبب على الفور في موت القلب ويبوسه ؛
إن لم يتدارك النسان نفسه بترياق التوبة ودموع الندم ،وقد قرّر علماء القلوب مرارا أنه ل
ينشأ من أكل الحرام إل فعل الحرام ،ول من أكل الحلل إل فعل الطاعات ،فلو أراد آكل الحلل
أن يعصي لما قدر ،ولو أراد آكل الحرام أن يطيع لما قدر.
فأكل الحلل هو الذي تلين به القلوب وتسمو على إثره الروح ،وهو دواء غير معتاد وزاد
يغفل عنه الكثيرون ،ويحسبون المر بكثرة الصيام وطول القيام فحسب ،وهو المر الذي غاب
عن بشر بن الحارث وعن صاحبه عبد الوهاب بن أبي الحسن ،لكن ما كان ليغيب عن
إستاذهما أحمد بن حنبل ،فعن أبي حفص عمر بن صالح الطرسوسي قال :
" ذهبت أنا ويحيى الجلء إلى أبي عبد ال فسألته ،فقلت :رحمك ال يا أبا عبد ال بم تلين
القلوب؟! فأبصر إلى أصحابه فغمزهم بعينه ،ثم أطرق ساعة ،ثم رفع رأسه ،فقال :يا بني
بأكل الحلل ،فمررت كما أنا إلى أبي نصر بشر بن الحارث ،فقلت له :يا أبا نصر! بم تلين
القلوب؟! قال :أل بذكر ال تطمئن القلوب .قلت :فإني جئت من عند أبي عبد ال ،فقال :هيه
..إيش قال لك أبو عبد ال؟! قلت :بأكل الحلل ،فقال :جاء بالصل ،فمررت إلي عبد
الوهاب بن أبي الحسن ،فقلت :يا أبا الحسن! بم لين القلوب؟! قال :أل بذكر ال تطمئن
القلوب .قلت :فإني جئت من عند أبي عبد ال ،فاحمرت وجنتاه من الفرح ،وقال لي :إيش
قال أبو عبد ال؟! قلت :قال بأكل الحلل ،فقال :جاءك بالجوهر ..جاءك بالجوهر ،الصل
كما قال ،الصل كما قال " .
ومن هنا أفتاك إبراهيم بن أدهم بما يلي :
" أطب مطعمك ؛ ول عليك أن ل تقوم بالليل وتصوم بالنهار " .
بل وعقد هؤلء العلماء المقارنات وعلّموك مبكّرا ما يُعرف بفقه الولويات ،فنطق عبد ال بن
المبارك وقال " :ردّ درهم من شبهة أحب إليّ من أن أتصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة
ألف ؛ حتى بلغ إلى ستمائة ألف " .
ومن بعد جاء إبراهيم بن أدهم الذي أرشدنا إلى طريق الرتقاء في مدارج المتقين فقال " :ما
أدرك من أدرك إل من كان يعقل ما يدخل جوفه ".
والثالث هو الفضيل بن عياض الذي قال " :من عرف ما يدخل جوفه كتبه ال صديقا ،فانظر
عند من تفطر يا مسكين " ،وأخيرا سفيان الثوري الذي فضح آكلي الحرام المتستّرين بالتصدق
منه ببعض الحسان ،فعرّفهم حقيقة ما صنعوا بمثل واضح فاضح " :من أنفق من الحرام في
طاعة ال كان كمن طهّر الثوب النجس بالبول ،والثوب النجس ل يطهّره إل الماء ،والذنب ل
يكفّره إل الحلل ".
وقرّر أخيرا أبو حامد الغزالي في صرامة واضحة بعد أن استدل بكلم هؤلء الفضلء السابقين
( أن العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام ،وأن أكل الحلل هو أساس العبادات كلها ) .
علمات القسوة
لكل شيء علمة ،بمعرفة هذه العلمة يسهل الكتشاف المبكّر لهذا الداء الوبيل ،أل إن أبرز
علمات القلب القاسي :
القلب القاسي ..ل القرآن يُزكّيه ول النظر في آيات ال يحييه ،والسبب موت حواسه وتعطل
عملها.
قال ابن الجوزي :
ختَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ َمنْ إِ َلهٌ غَ ْيرُ
سمْ َعكُمْ َوأَ ْبصَارَ ُكمْ وَ َ
خذَ الّلهُ َ
" رأيتُ هذه الية ﴿ :قُلْ َأ َرأَيْتُمْ ِإنْ َأ َ
ص ِدفُونَ ﴾ [ النعام ] 46 :فلحت لي فيها ص ّرفُ الْآيَاتِ ثُمّ هُمْ َي ْ ظرْ كَ ْيفَ ُن َ الّلهِ يَ ْأتِي ُكمْ ِبهِ انْ ُ
إشارة كدت أطيش منها ،وذلك أنه إن كان عنى بالية نفس السمع والبصر ،فإن السمع آلة
لدراك المسموعات والبصر آلة لدراك المبصرات ،فهما يعرضان ذلك على القلب فيتدبر
ويعتبر ،فإذا عرضت المخلوقات على السمع والبصر أوصل إلى القلب أخبارها من أنها تدل
على الخالق ،وتحمل على طاعة الصانع ،وتحذّر من بطشه عند مخالفته.
وإن عنى معنى السمع والبصر ؛ فذلك يكون بذهولها عن حقائق ما أدركا شُغِل بالهوى ،
فيُعاقب النسان بسلب معاني تلك اللت ،فيرى وكأنه ما رأى ،ويسمع كأنه ما سمع ،والقلب
ذاهل عما يتأذى به ل يدري ما يُراد به ،ل يؤثر عنده أنه يبلى ،ول تنفعه موعظة تُجلى ،ول
يدري أين هو ،ول ما المراد منه ،ول إلى أين يُحمل ،وإنما يلحظ بالطبع مصالح عاجلته ،
ول يتفكر في خسران آجلته ،فل يعتبر برفيقه ،ول يتعظ بصديقه ،ول يتزود لطريقه ،فنعوذ
بال من سلب فوائد اللت فإنها أقبح الحالت " .
.iالسمع :
وصف ال حال الكفار حال سماعهم الهدى أنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ،وأطلق ال اسم
الصابع على النامل على وجه المجاز ،فإن الذي يُجعل في الذن النملة ل الصبع كله ،لكنه
عبّر عن النامل بالصابع للمبالغة في إرادة السامعين سد المسامع ؛ بحيث لو أمكن لدخلوا
الصابع كلها ،فإن حدث ووصلت إلى آذانهم كلمة واحدة من كلمات الحق قبل أن يسدوها ،
ونفذ إليها سهم من سهام الخير ،لرتد من على أبواب الذان المؤصدة ،لذا قال تعالى ﴿ :
َوفِي آذَانِهِمْ َو ْقرًا ﴾ أي صمما وثقل مانعا من سماع الحق ،بل لو أزال ال انسداد هذه السماع
حتى تصل الموعظة إلى قلوبهم لوصلت ؛ لكن إلى قلوب غلفاء ل تُنفِذ النور ،ظلمات بعضها
سمَعَهُمْ َلتَوَلّوْا َوهُمْسمَعَ ُهمْ وَلَوْ َأ ْ
فوق بعض ،لذا قال تعالى ﴿ :وََلوْ عَلِمَ الُ فِيهِمْ خَ ْيرًا لَ َأ ْ
مُ ْع ِرضُونَ ﴾ [ النفال ] 23 :
والسماع المطلوب هو إسماع القلوب وهو أعلى درجة من إسماع الذان ،فإن الكلم له لفظ
ومعنى ،فسماع لفظه هو حظ الذن ،سماع معناه هو حظ القلب ،ومتى لم ينصت القلب ضاع
الحديث والحدث ،وقد نفى سبحانه عن الكفار غلظ القلوب سماع المعنى الذي هو حظ القلب ،
وأثبت لهم سماع اللفظ فقط الذي هو حظ الذن ،وهذا النوع من السماع ل يفيد السامع بل
يضره لقيامه حجة عليه.
س َمعٍ ﴾ [ النساء ] 46 :أي اسمع س َمعْ غَ ْيرَ ُم ْ وهو ما يلخصه قول أهل الكتاب لنبينا ﴿ :وَا ْ
غير مسموع منك ،فآذاننا معك وقلوبنا مع غيرك ،فقاسي القلب ل يسمع ،وإذا سمع ل
ينصت ،وإذا أنصت ل يعي ،وإذا وعى ل يُدرك ،وإذا أدرك ل يعمل ،وإذا عمل أتبع عمله
برياء وسمعة ،فعمله كله عليه مردود ،وعاقبته ضلل وحسرة.
لهم وإن كان هذا هو وصف القرآن لسمع أصحاب القلوب القاسية فإن وصف النبي « :
صرّون على ما فعلوا وهم ويل لقماع القول!! ويل للمصرّين الذين قريب من قريب .قال ُي ِ
يعلمون " .
فكما أن القمع يدخل ما يوضع فيه من جانب ويخرج من الخر ؛ فكذلك قاسي القلب أذناه طرفا
قمع!! يدخل الكلم من الذن اليمنى ليخرج من اليسرى دون أن يستقر في القلب منه شيء.
.iiالبصر :
ما أشقى قساة قلوب رانت عليها ذنوب ،فلم تعد عيونهم تبصر دلئل الحق وآيات الخير ،ول
عرَضْنَا جَ َهنّمَ يَ ْو َم ِئذٍترى رسل ال نظرا لِما غطى أبصارها من قساوة وجهالة .قال تعالى َ ﴿ :و َ
سمْعًاعنْ ذِ ْكرِي وَكَانُوا لَا َيسْ َتطِيعُونَ َ غطَاءٍ َ ع ْرضًا * اّلذِينَ كَانَتْ َأعْ ُينُهُمْ فِي ِ لِلْكَافِرِينَ َ
﴾ [ الكهف ] 101-100 :
قال ابن القيم :
" وهذا يتضمن معنيين :أحدهما أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات ال وأدلة
توحيده وعجائب قدرته ،والثاني أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والهتداء
به ،وهذا الغطاء للقلب أول ثم يسري منه إلى العين " .
لذا كان الكافرون -وقلوبهم أشد القلوب قساوة -لهم عيون ل يبصرون بها ،فهم عمي عن
الحق ل يبصرونه ،لذا وصفهم ربهم وهو العلم بهم بقوله ﴿ :وَلَوْ فَ َتحْنَا عَلَيْ ِهمْ بَابًا ِمنَ
حنُ قَ ْومٌ َمسْحُورُونَ ﴾ [ الحجر : سمَاءِ َفظَلّوا فِيهِ يَ ْعرُجُونَ * لَقَالُوا ِإ ّنمَا سُ ّكرَتْ أَ ْبصَارُنَا بَلْ نَ ْال ّ
] 15-14
فشبّه تعطّل حاسة البصر بسكر الشراب ،أي غشيهم ما غطّى أبصارهم كما غشي السكران ما
غطّى عقله ،فلم ير شيئا ،وإن كان لصاحب القلب الحي في الية الواحدة آيات ،فإن صاحب
القلب القاسي نظرا لتقلبه في ظلمات الذنب وغوصه في أعماق الخطيئة يُعاقَب بأشد العقوبة
وهي َ ﴿ :وِإنْ َيرَوْا كُلّ آ َيةٍ لَا يُ ْؤمِنُوا ِبهَا ﴾ [ النعام ، ] 25 :وهذا يشمل كل من آيات ال
المنظورة في كونه أو المستورة في كتابه ،فمرور اليات عليه شبيه بطلوع الشمس والقمر
على العميان.
أل رب ذي عينين ل تنفعانــه وهل تنفع العينان من قلبـه أعمى
قد يُنصَح من بعينيه رمد بِعدم البروز إلى الشمس ،وما في الشمس مِن عيب ول مرض!
والمرض في عيني الرمد! وقد يُنصح المريض بِعَدم شمّ الطّيب ..وما في الطّيب إل الشذى
والعطر.
فقل للعيون ال ّرمْد للشمس أعينُ تراها ِبحَقّ في َمغِيبٍ ومَطلعِ
وسامِح عيونا أطفأ ال نورهـا بأبصارها ل تسْتفيق ول تَعِي
.iiiاللسان :
εقاسي القلب الخرس أحسن من معانيه والعي أبلغ من بيانه ،وقال فيه نبينا « :وإن العبد
ليتكلم بالكلمة من سخط ال ل يلقي لها بال يهوي بها في جهنم » .
واسمع مثل إلى ابن هانئ الندلسي وهو يمدح الخليفة المعز بقوله :
ما شئت ل ما شاءت القدار ...فاحكم فأنت الواحد القهار
فابتله ال بمرض شديد على إثر هذا الكلمة ،صار يعوي فيه من شدة اللم نادما على ما قال ،
لسان حاله :
أبعين مفتقرٍ إليك نظرتَ لي ...فأهنتني وقذفتني من حالق
لستَ الملوم أنا الملوم لنني ...أنزلت آمالي بغير الخالق
فقاسي القلب على الجمال ما سلمت له يد ول قدم ول عقل ول جارحة ،وهذا حال القلب حين
يقسو ويذبل ويفقد رطوبة إيمانه ،فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ،والذي خبث ل يخرج إل
نكدا ،فكل شيء طالح ،وهل يخرج من الفاسد إل فاسد؟! وهل يلد الضال غير ( ضلّ ) ( يضلّ
) ( ضلل )؟!
قاسي القلب غافل عن الغاية التي خلق ال لجلها لسانه فل ذكر ول دعاء ول خير ول بناء ،
بل غيبة وفحش ،وخشن قول واعتداء ،والقساوة القلبية ستؤدي إلى قساوة اللفظ ول بد.
مثل فقهي
وحتى تقترب الصورة وتكون أوضح ،وتعرف معنى تعطل الحواس عند قاسي القلب وتُصدّق ما
أقول هاك هذا المثل العملي في هذا الحديث :
قال « :ل طلق ول عِتاق في إغلق » ε .عن صفية بنت شيبة قالت :حدثتني عائشة أن
رسول ال
والغلق هو شدة الغضب أو الكراه ،ذلك أن النسان في حالة الغضب الشديد قد يفقد إحساسه
بمن حوله فل سماع لصوت الحق ول إبصار لعواقب المر ول عقل يُرشد للصواب ،تماما كما
يُغْلَق البابُ على النسان ،فل يدرك ما حوله ،ولذا جعل الشارع الحكيم ل عبرة عندها بالطلق
أو العتاق ،وهو شبيه بما يحدث لقاسي القلب الذي لجّ في عصيانه حتى ذهب عقله ،وكما
تأتي النسان حالت يفقد فيه عقلة وسيطرته على حواسه من جراء غضب عارم ؛ تأتيه كذلك
أوقات وحالت تتعطّل فيها حواسه من جراء غفلة عارمة أو قساوة شديدة أو طول غياب عن
أنوار الحق.
يا مؤثر المراض على العافية ..يا مختار الكدر على الصافية :
إذا كنت تضجر من حجاب الشمس ساعة ،فكيف ل يضجر من شمس عقله محجوبة عن الحق
أربعين عاما؟!
ومن القلوب القاسية :القلوب الممسوخة ،قال ابن القيّم وهو يتكلم عن أثر الذنوب :
" ومنها مسخ القلب فيمسخ كما تُمسخ الصورة ،فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه
في أخلقه وأعماله وطبيعته ،فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير لشدة شبه صاحبه به ،
ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك ،وهذا تأويل سفيان بن
عيينة فى قوله تعالى َ ﴿ :ومَا ِمنْ دَا ّبةٍ فِي الْ َأ ْرضِ وَلَا طَا ِئرٍ َيطِيرُ ِبجَنَاحَ ْيهِ إِلّا ُأمَمٌ َأمْثَالُكُمْ مَا
شرُونَ ﴾ [النعام .] 38:قال :منهم من يكون على ح َ
يءٍ ثُمّ إِلَى رَبّهِمْ يُ ْ
َفرّطْنَا فِي الْ ِكتَابِ ِمنْ شَ ْ
أخلق السباع العادية ،ومنهم من يكون على أخلق الكلب ،وأخلق الخنازير ،وأخلق
الحمير ،ومنهم من يتطوّس في ثيابه لحما بتطوس الطاووس فى ريشه ،ومنهم من يكون
بليدا كالحمار " .
ومن أقسام القلوب القاسية :القلوب المحجوبة ،فقد قال ابن القيّم وهو يُكمل كلمه عن أثر
الذنوب :
" ومنها حجاب القلب عن الرب فى الدنيا ،والحجاب الكبر يوم القيامة كما قال تعالى َ ﴿ :كلّا
حجُوبُونَ ﴾ [المطففين ، ] 15 :فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة عنْ رَبّهِمْ يَ ْو َم ِئذٍ َلمَ ْ
إِنّهُمْ َ
بينهم وبين قلوبهم فيصلوا إليها ،فيروا ما يصلحها ويزكيها وما يفسدها ويشقيها ،وأن
يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم فتصل القلوب إليه ،فتفوز بقربه وكرامته وتقرّ به عينا
،وتطيب به نفسا ،بل كانت الذنوب حجابا بينهم وبين قلوبهم ،وحجابا بينهم وبين ربهم
وخالقهم " .
ط َبعُ عَ َلىٰ قُلُوبِ ِهمْ فَهُمْ لَ
ومن أقسام القلوب القاسية :القلوب المطبوعة .قال تعالى ﴿ :وَنَ ْ
سمَعُونَ ﴾ [العراف ، ]100 :وأصل الطبع :الصدأ يكون على السيف ونحوه ،فل يدخلها َي ْ
شيء من ضوء الهدى ،فصاروا بسبب استغراقهم في ذنوبهم مطبوعا على قلوبهم ل يصل
إليها من النور في الحديث ε « :شيء ،فل يسمعون ما يُتلى من الوعظ والنذار ،ومنه قوله
من ترك الجمعة ثلث مرات متواليات من غير ضرورة طبع ال على قلبه » .
ومن أقسام القلوب القاسية :القلوب المكنونة كما قال سبحانه وتعالى َ ﴿ :وقَالُواْ قُلُو ُبنَا فِى
أَكِ ّنةٍ ِممّا َت ْدعُونَا إِلَ ْيهِ َوفِى ءاذانِنَا َو ْقرٌ َومِن َبيْنِنَا وَ َبيْ ِنكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت ، ] 5 :وهي جمع
كِنان ،وأصله من الستر والتغطية ،فذكر ال في هذه الية غطاء القلب وهو الكنة ،وغطاء
الذن وهو الوقر ،وغطاء العين وهو الحجاب ،والمعنى :إنا في ترك قبول أي شيء منك
بمنزلة من ل يسمع ما تقول ول يراك.
فهذا الصنف من الناس ل يكتفي بما قاله أصحاب القلوب المغلفة ﴿ :قُلُو ُبنَا غُ ْلفٌ ﴾ ،إنما
يتجاوز ذلك ،ويبدي كراهيته لسماع أي خير ،بل وعدم رغبته حتى في رؤية من يرشده إلى
الخير ،فمجرد رؤيتُه تُنغّص عليه لذته الدنيوية ،وهذا النوع من أقسى أنواع القلوب ،وقد
عنِ ال ّتذْ ِك َرةِ ُم ْع ِرضِينَ *قال تعالى في تشبيه هؤلء المعرضين عن كلمه وهديه َ ﴿ :فمَا لَهُمْ َ
ح ُمرٌ ُمسْتَ ْن ِفرَةٌ * َفرّتْ ِمنْ َقسْ َو َرةٍ ﴾ [ المدثر ] 51-49 :
كَأَنّ ُهمْ ُ
قال ابن القيم :
" شبّههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحُمر رأت السد أو الرماة ففرّت منه ،وهذا من
بديع القياس والتمثيل ،فإن القوم في جهلهم بما بعث ال به رسوله كالحمر وهي ل تعقل
شيئا ،فإذا سمعت صوت السد أو الرامي نفرت منه أشد النفور ،وهذا غاية الذم لهؤلء ،
فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يُهلكها ويعقرها ،وتحت
المستنفرة معنى أبلغ من النافرة ؛ فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضّه على
النفور ،فإن في الستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد ،فكأنها تواصت بالنفور
وتواطأت عليه " .
وهل تنفع الموعظة مع أمثال هؤلء؟! كل وال ..
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة كالرض إن سبخت لم ينفع المطر
ب -احتلل الدنيا القلب :
« :تعس عبد ما فائدة شراب الدنيا الحلو إذا كان يورثُ الشرق .قال الدينار وعبد الدرهم
وعبد الخميصة ؛ إن أُعطِي رضي ،وإن لم يُعطَ سخِط ،تعس وانتكس ،وإذا شيك فل انتقش »
.
قال الطيبي " :خصّ العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها ،كالسير الذي ل
يجد خلصا ،ولم يقل :مالك الدينار ول جامع الدينار ،لن المذموم من المُلك والجمع :الزيادة
عن قدر الحاجة " .
وكذلك خصّ الشوكة بالذكر لنه أقل ما يُتصوّر من اللم ،فإذا دعا بعدم على زوال أقل اللم
انتفى زوال ما فوقه بالوْلى ،فهو دعاء من النبي عاشق الدنيا بالتعاسة والكآبة وفقدان
السعادة ،ومن معاني التعاسة في اللغة :سقوط العبد من فوق دابته وتعثره وانكبابه على
وجهه ،فيكون معنى الدعاء :سقوطه الدائم مع ما في هذا السقوط من هوان وذلة وصغار ،
وأما الدعاء عليه بالنتكاس فالنتكاس هو النقلب على الرأس كناية عن الخيبة والخسار ،
ومنه انتكاسة المريض وهو رجوع المرض إليه بعد أن ظن أنه منه دعا على عبد الدنيا أن
يظل في سقوط دائم أي كلما شُفِي ،فكأن الرسول أفاق سقط وكلما نهض تعثر ،ولذا تجد
الغارق في دنياه وأمواله قلما يفيق ،وإذا أفاق كان ذلك على قارعة وقعها شديد تهزه هزا
عنيفا ليس غير.
بالمؤمنين رؤوف رحيم
ونظرا لتسلل مرض حب الدنيا إلى القلوب ،وغزوه لها في هدوء وكتمان وتدرج بأمته أن
علّمها هذه الدعوات وخبث فل يشعر به أحد ؛ كان من رحمة النبي لطلعه من وراء ستار
الغيب على المستقبل ،فعن عبد ال بن عمر رضي ال يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلء
الكلمات عنهما قال :قلما كان رسول ال لصحابه :
« اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ،ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ،
ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا ،ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ،
واجعله الوارث منا ،واجعل ثأرنا على من ظلمنا ،وانصرنا على من عادانا ،ول تجعل
مصيبتنا في ديننا ،ول تجعل الدنيا أكبر همنا ول مبلغ علمنا ،ول تسلّط علينا من ل يرحمنا »
.
وأصحابه وهي مجالس آخرة ل تُذكر فيها الدنيا وكان هذا في مجالس النبي إل لتزرع
للخرة ،وهو دعاء موجه إلى قلوب القرن الول التي لم يكن لغير ال فيها شيء ،فكيف
بمجالس القرن الواحد والعشرين ورسول ال عنها غائب ،وقلوبنا تشكو فيها توالي غارات
المادية عليها ،وتعاني إزاحة همّ الخرة تحت مطارق التنافس المادي الشرس والتكالب
الدنيوي الشره؟! فيا إخوتاه!! يا أهله!! أفيقوا قبل أن تُضرب على قلوبكم القسوة التي يعجز
معها أبرع الطباء ،أفسحوا لخراكم نصيبا من دنياكم قبل نزول الموت ،وأيقنوا أنكم إن لم
تركعوا ل بقلوبكم وأجسامكم في خشوع ؛ ستركع قلوبكم وتسجد للدنيا في تذلل وخضوع ،
ومن رغِب عن عبودية ال ابتُلي بعبودية الخلق ول بد ،ومن زهد في حب ال عوقب بحب
الدنيا حتى الثمالة ،أل فاهدموا هذه الصنام التي أنتم لها عاكفون.
قال ابن القيّم :
" ومن لم يعكف قلبه على ال وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء لقومه
﴿ :مَا َهذِهِ ال ّتمَاثِيلُ الّتِي أَ ْنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [ النبياء ، ] 52 :فاقتسم هو وقومه حقيقة
العكوف ،فكان حظ قومه العكوف على التماثيل ،وكان حظه العكوف على الرب الجليل ،
والتماثيل جمع تمثال وهو الصور الممثلة ،فتعلق القلب بغير ال واشتغاله به والركون إليه
عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه ،وهو نظير العكوف على تماثيل الصنام ،ولهذا كان
شرك عباد الصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإرادتهم على تماثيلهم ،فإذا كان في القلب
تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها ؛ فهو نظير عكوف الصنام عليها ،ولهذا
سماه النبي عبدا لها ودعا عليه بالتعس والنكس فقال :تعس عبد الدينار " .
رحم ال رجال سلمت منهم القلوب وطهروا من العيوب ،فكانت الدنيا عندهم أحقر من أن
تحتاج إلى محاربة أو تتطلب مجاهدة ،قال ابن الجوزي :
" ويحك!! إنما يكون الجهاد بين المثال ،ولذلك مُنِع من قتل النساء والصبيان ،فأي قدر للدنيا
حتى يحتاج قلبك إلى محاربة لها؟! أما علمت أن شهواتها جيف ملقاة؟! أفيحسن ببازي الملك
أن يطير عن كفه إلى ميتة؟! " .لسان حال أحدهم :
ال يعلم أني لست أعشقها ...ول أريد بقاءً ساعة فيها
لكن تمرّغت في أدناسها زمنا ...وبت أنشرها حينا وأطويها
وكم تحمّلت فيها غير مكترث ...من شامخات ذنوب لستُ أحصيها
فقلت أبقى لعلي أهدم ما ...بنيتُ منها وأدناسي أنقيها
ومن ورائي جبال لست أقطعها ...حتى أخفّف أحمالي وألقيها
يا ويلتي وبحار العفو زاخرة ...إن لم تُصبني برش في تثنيها
ج -انتكاسة الفطرة :
قال شيخ السلم ابن تيمية وهو يصف حال عاشق انتكست فطرته :
أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلب
" فقد أحب سوداء فأحب جنس السواد حتى في الكلب ،وهذا كله مرض في القلب في تصوراته
وإرادته " .
واسمع هذه القصة التي تثبت لك صحة كلم ابن تيمية والتي أوردها ابن الجوزي في المنتظم
عن رجل كان صريع شهوته وقتيل هواه ،واسمه أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر ؛ وكان
قد عشِق عشقا حراما ،ولو كان مع امرأة لكان مع جرمه معذورا بحال مع الحوال ،لكنه كان
عشقا قبيحا فاحشا انتكست به فطرته مع غلم!! والغلم اسمه أسلم بن أبي الجعد من بنى
خلد ،وكان فيهم وزارة أي كانوا وزراء للملوك وحجابا ،فأنشد فيه أشعارا تحدث الناس بها ،
وكان هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ ؛ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه
استحى من الناس ،وانقطع في دارهم ،وكان ل يجتمع بأحد من الناس ،فازداد غرام ابن
كليب به حتى مرض من ذلك مرضا شديدا بحيث عاده منه الناس ،ول يدرون ما به ،وكان في
جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء ،فسأله عن مرضه ،فقال :أنتم تعلمون ذلك ومن
أي شيء مرضي وفي أي شيء دوائي ؛ لو زارني أسلم ونظر إليّ نظرة ،ونظرته نظرة واحدة
لبرأت!! فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة
مختفيا ،ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته ؛ فانطلقا إليه فلما دخل دربه
ومحلته تجتن الغلم ،واستحى من الدخول عليه ،وقال للرجل العالم ل أدخل عليه وقد ذكرني
ونوّه بأسمي ؛ وهذا مكان ريبة وتهمة ،وأنا ل أحب أن أدخل مداخل التهم ،فحرص به الرجل
كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه ،فقال له إنه ميت ل محالة ،فإذا دخلت عليه أحييته ،فقال
:يموت وأنا ل أدخل مدخل يُسخِط ال علي ويغضبه ،وأبى أن يدخل وانصرف راجعا إلى
دارهم ،فدخل الرجل على ابن كليب ،فذكر له ما كان من أمر أسلم معه ؛ وقد كان غلم ابن
كليب دخل عليه قبل ذلك ،وبشّره بقدوم معشوقه عليه ،ففرح بذلك جدا ،فلما تحقق رجوعه
عنه اختلط كلمه واضطرب في نفسه ،وقال لذلك الرجل الساعي بينهما :اسمع يا أبا عبد ال
واحفظ عنى ما أقول ثم أنشده :
أسلم يا راحة العليل ...رفقا على الهائم النحيل
وصلك أشهى إلى فؤادى ...من رحمة الخالق الجليل
فقال له الرجل :ويحك!! اتق ال تعالى!! ما هذه العظيمة!! فقال :قد كان ما سمعت أو قال
القول ما سمعت .قال :فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه وسمع
صيحة الموت وقد فارق الدنيا على ذلك .
وهو ما عبّر عنه ابن الجوزي بمثل من عالم الحيوان حين قال " :هيهات ..إن الطبع الردي ل
يليق به الخير ،هذه الخنفساء إذا ُدفِنت في الورد لم تتحرك ،فإذا أعيدت إلى الروث رتعت ،
وما يكفي الحية أن تشرب اللبن حتى تمج سمها فيه ،وكل إلى طبعه عائد " .
د -الفرح بالخطيئة :
الفرح بالمعصية والتفاخر بها والدعوة إليها كل هذه أدلة على شدة الرغبة فيها والجهل بسوء
عاقبتها والستهانة بقدر من عصاه العبد ،فكل من اشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه ،
وليبك على موت قلبه ،فإنه لو كان حيا لحزنه ارتكابه للذنب وغاظه وصعب عليه ،ول يحس
القلب الميت بذلك فحيث ،فما لجرح بميت إيلم.
قال ابن عطاء :
" من علمات موت القلب :عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات ،وترك الندم على ما فعلته
من وجود الزلت " .
وقد سمى ابن القيم هذه العلمة :الخسف بالقلب كما " يُخسف بالمكان وما فيه ،فيخسف به
إلى أسفل سافلين وصاحبه ل يشعر ،وعلمة الخسف به أنه ل يزال جوال حول السفليات
والقاذورات والراذائل كما أن القلب الذى رفعه ال وقربه إليه ل يزال جوّال حول البر والخير
ومعالي المور والعمال والقوال والخلق " .
ه -ألعوبة الشيطان :
تذكّر دائما أن العقل السليم في الجسم السليم ،ومعنى هذا أن التغذية اليمانية وتعاهد الرجل
قلبه لبد وأن تثمِر بإذن ال تصحيح مفاهيمك وضبط أفكارك في إطار الشرع الحنيف ودوائر
الهدى ،والعكس بالعكس في حالة قسوة القلب ويبوسته ،فيتبع قسوة القلب فساد يحصل له
يُفسِد تصوره للحق ،فل يرى الحق حقا ،أو يراه باطل ،أو ينقص إدراكه له ،وتنعدم إرادته
له ،فيبغض الحق النافع ،ويحب الباطل المهلك.
واسمع إلى حالة مستعصية من حالت تلعب الشيطان بالقلب ،وإفساده لتصوراته ،وعكسه
لدراكاته ،ومثل جليّ على الفطرة حين تنتكس والشيطان حين يتحكم وهو عبد الرحمن
والغواية وقد غلبت ،وذلك في قصة قاتل علي بن أبي طالب بن ملجم :
كان عبد الرحمن بن ملجم قد أبصر امرأة من بني تميم يُقال لها قطام ،وكانت من أجمل أهل
زمانها ،وكانت ترى رأي الخوارج فولع بها فقالت :ل أتزوج بك إل على ثلثة آلف وقتل
علي بن أبي طالب ،فقال لها :لك ذلك ،فأتى ابن ملجم رجل من أشجع يقال له شبيب بن
بجرة ليعاونه في قتل علي ،فقال له :هل لك في شرف الدنيا والخرة؟ قال :وما ذاك؟ قال :
قتل علي بن أبي طالب!! فاتفقا على قتله وقد كان ،واسمع إلى خاتمته وكيف سخر الشيطان
منه حتى آخر لحظات حياته :
" ثم إن الحسن بن علي استحضر عبد الرحمن بن ملجم من السجن فأحضر الناس النفط
والبواري ليحرقوه فقال لهم أولد علي :دعونا نشتفي منه ،فقُطعت يداه ورجله فلم يجزع ول
فتُر عن الذكر!! ثم كحلت عيناه وهو فى ذلك يذكر ال!! وقرأ سورة اقرأ باسم ربك إلى
آخرها ،وإن عينيه لتسيلن على خديه ،ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعا
شديدا ،فقيل له في ذلك فقال :إني أخاف أن أمكث في الدنيا فواقا ل أذكر ال!! " .
τوأيضا وقع في هذا الفخ وانخدع للشيطان عمرو بن الحمق وهو من قتلة عثمان ،فقد وثب
على عثمان فجلس على صدره وبه رمق ،فطعنه تسع طعنات قال عمرو " :فأما ثلث منهن ؛
فإني طعنتهن إياه ل ،وأما ست فإني طعنتهن إياه لما كان في صدري عليه " .
إنه تلعب الشيطان بهذه القلوب ،وإلباسه أكبر الكبائر ثياب أعظم القربات ،وإدخالهم النار بما
يظنونه يُدني من الجنة ،ونيل سخط ال وهم واهمون أن الرحمة تغمرهم ،نسأل ال العافية.
و -بكاء الذليل :
علم يبكي قاسي القلب؟! لكم أن تتوقّعوا ،هل يبكي على فوات حظه من ال أم حظه من
الشيطان؟! هل يبكي على ضياع الجر أو فوات الوزر؟! هل يبكي على الدنيا أم الخرة؟! أل
فلتسمعوا الطنطاوي يخاطب فريقا من هؤلء وهم عشاق لبنى وليلى قائل :
" ول تقيموا الدنيا وتقعدوها ،وتغرقوا الرض بالدموع لن الحبيبة المحترمة لم تمنح قُبلة
وَعدت بها ،ولم تصِل وقد لوّحت بالوصل ،تنظمون الشعار في هذه الكارثة وتنشؤون فيها
الفصول ،تبكون وتستبكون ،ثم تنامون آمنين مطمئنين ،والنار من حولكم تأكل البلد والعباد.
الشعر شعور ،فأي شعور وأي حس فيمن يرى أمة كريمة مجيدة بقضّها وقضيضها ،
ومفاخرها وتاريخها وحياتها وأمجادها تُطرد من ديارها وتُخرج من بيتها –وهي أمته ،
ضرِبت عليها الذلة والمسكنة وأفرادها إخوته – لتعطى مساكنها إلى أمة من أسقط المم ،أمة ُ
وباءت بغضب من ال ،وغضب من الناس ومن الحق والفضيلة والتاريخ ،ويرى صدورها
مفتحة للرصاص ،وشيوخها مساقين إلى حبال المشانق ،وشبابها في شعاف الجبال وبطون
الودية يدفعون الظلم بالدم ،وأطفالها ونساءها بين لصين :لص ديار ،ولص أعراض ،لص
يحارب بالذهب ،ولص يقاتل بالبارود ثم ل ُيحِس بهذا كله ،ول يدري به ول يفكّر فيه لماذا؟
لن الشاعر المسكين مصاب متألم!.
ما له؟ ما مُصابه؟ إن حبيبته لم تعطه خدّها ليقبّله!! إن العاطفة إذا بلغت هذا المبلغ كانت
جريمة " .
ز -داء الذكر :
لسْلمِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِ َيةِ قُل ْوبُهُمْ ِمنْ ِذ ْكرِ الِ ص ْد َرهُ ِل ِ
شرَحَ الُ َ قال تعالى متوعّدا ومنذرا َ ﴿ :أ َف َمنْ َ
﴾ [ الزمر ] 22 :
أي قست قلوبهم بسبب ذكر ال الذي لنت له قلوب المؤمنين وانشرحت صدورهم ،فاستقبلوا
الدواء على أنه داء ،وتلقوا الغيث بسد المنافذ عليه ،وقابلوا الضيف المحمّل بالهدايا بالبواب
المؤصدة ،فإذا ذُكر ال تعالى عندهم أو ُتلِيت آياته اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة
وغلظة وشدة ،وللمبالغة في وصف أحياء القلب بالقبول ووصف قساة القلب بالصدود ؛ فقد
ذكر ال شرح الصدر دون القلب الذي يسكن فيه ليدل على شدة قبول أحياء القلوب للسلم
حتى مل الصدر الوسع من القلب ؛ بعكس قساة القلوب.
وسبب هذا التباين الرهيب والبون الشاسع :اختلف قابلية القلب واستعداده للهداية ،فإن
السبب الواحد تختلف آثاره وأفعاله باختلف القلب المتلقي ونوعية التربة المستقبلة ،فذكر ال
سبب لين القلوب وإشراقها إذا كانت القلوب سليمة من مرض العناد والمكابرة والكبر ،فإذا حلّ
ح َدهُ
فيها هذا المرض صارت إذا ذكر ال عندها أشد مرضا مما كانت عليه َ ﴿ :وِإذَا ذُ ِكرَ الّلهُ وَ ْ
شرُونَ ﴾ [ الزمر : ستَ ْب ِ
خ َرةِ َوِإذَا ذُ ِكرَ اّلذِينَ ِمنْ دُو ِنهِ ِإذَا هُمْ َي ْ
شمَ َأزّتْ قُلُوبُ اّلذِينَ لَا يُ ْؤمِنُونَ بِا ْلآَ ِ
ا ْ
] 45
قلوب بذكر ال تزداد قسوة فل الوعظ يُجدي ول العُتب ينفع
أسوق لها طيب الكلم لعلها تلين فل تصغي ول تتخشّع
إذا قلت هذا مدرج القوم فارتقي يقول الهوى :جدّثت من لم يسمع
وإذا هوت يوما إلى الناس شهوة تراها إلى ما يُغضب الرب تُسرِع
-3 .القلب المريض
المرض دون القساوة ،والقلب المريض هو المتذبذب بين السلمة والقساوة ،فهو يعلو حينا
ويهبط حينا ،وهو القلب الذي تمده مادتان :مادة إيمان ومادة كفر ،وهو إن غلب عليه
مرضه التحق بالميت القاسى ،وإن غلبت عليه صحته التحق بالقلب السليم ،وخطورة هذا
القلب وأهميته تتمثّل في أن الشيطان ل يقرب القلب القاسي الميت فهذا ل مطمع له فيه ،ول
يستطيع أن يقرب القلب الحي وإل احترق ،إنما يهاجم القلوب المريضة.
وخطورة هذا القلب كذلك في أن أمراض القلوب تفوق أمراض البدان كمّا وكيفا ،بل تتفاوت
تفاوتا عظيما من حيث مدة المرض ،فالمراض لها أعمار ،فمن مرض موسمي عارض إلى
مرض مستحكم دائم ،ومن مرض ساعة إلى مرض شهر إلى مرض ل يزول إل بموت
صاحبه ،فكم سيطول مرضك ،ومتى الشفاء من العناء؟! كما تتفاوت خطورة المرض الواحد
تفاوتا شديدا ،فمن إصابة حادة إلى إصابة مزمنة ،ومن مرض مؤلم إلى آخر مميت ،ومن
مرض محدود الثر ل يتعدّى صاحبه إلى مرض مُعدي يضر بالمجتمع ،لكن ..وقبل الدخول في
التفاصيل ..
ماهو المرض؟!
نوعا المرض
وأمراض القلوب نوعان :أمراض تتعلق بالجوارح وهي الشهوات ،وأخرى تتعلق بالعقول
وهي الشبهات ،وقد جمعهما النبي صلى ال عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي برزة
رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال « :إنما أخشى عليكم شهوات الغي في
بطونكم وفروجكم ،ومضلت الهوى » .
ومضلت الهوى هي الشبهات .قال ابن القيم :
" وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل ،فالول :أصل فتنة
الشبهة ،والثاني :أصل فتنة الشهوة ،ففتنة الشبهات تُدفع باليقين ،وفتنة الشهوات تدفع
بالصبر ،ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين المرين ،فقال َ ﴿ :وجَعَ ْلنَا مِ ْنهُمْ أَ ِئ ّمةً
يَ ْهدُونَ بِ َأ ْمرِنَا َلمّا صَ َبرُوا َوكَانُوا بِآيَا ِتنَا يُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة ، ] 17 :فدلّ على أنه بالصبر
واليقين تنال المامة في الدين " .
الفضيحة!!
ومن علمات حب الدنيا :بيع الخرة بالغتراف من المال دون مبالة بمصدره :حلل أم
حرام ،وقد تنبّأ النبي صلى ال عليه وسلم بهذا الزمان ،ولعله زماننا الذي نعيش فيه فقال :
« ليأتين على الناس زمان ل يبالي المرء مما أخذ المال؟ أمن حلل أم من حرام؟ » .
وجزم في قول آخر أن هذا الداء داء قديم موغل في القِدم فقال :
« إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم » .
وإذا كان ل بد من ورود كلمة الحرص في قاموس حياتك ،فليكن الحرص النافع ل الحرص
الفاجع كما في نصيحة العابد الزاهد عبد الواحد بن زيد الذي قال :
" الحرص حرصان :حرص فاجع ،وحرص نافع ،فأما النافع :فحرص المرء على طاعة
ال ،وأما الحرص الفاجع :فحرص المرء على الدنيا " .
ومن علمات حب الدنيا :الحسد الذي يحس صاحبه باللم إذا فاته من حظوظ الدنيا شيء
كالمال والجاه والمنصب والسلطان ،فل يرضى عن حاله أبدا ،بل يعتبر نفسه دائما سيء الحظ
صريع القدار لنه لم ينل ما نال غيره ،مع أنه ل يحس بنفس الشعور إذا رأى من هو خير
منه دينا وأفضل منه خلقا ،فل يغار إل لدنيا ،ول ينافس أبدا في دين ،ليكون ممن ع ّيرَهم ابن
المبارك بقوله :
أرى أناسا بأدنى الدين قد قنعوا ** ول أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغنِ بالدين عن دنيا الملوك كما ** استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
والحسد كما علّمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يخدش اليمان كما قال صلى ال عليه وسلم
« :ول يجتمعان في قلب عبد :اليمان والحسد » ،فيا أخي الحاسد :
متى تُمسي وتُصبح مستريحا ** وأنت الدهر ل ترضى بحال
وقد يجري قليل المال مجرى ** كثير المال في سد الخلل
إذا كان القليل يسدّ فقري ** ولم أجد الكثير فل أبالي
ومن علمات حب الدنيا :كثرة الحديث عنها ،فمن أحبّ شيئا أكثر من ذكره ،فكثرة الكلم عن
التجارات ،وأحدث الزياء والموضات ،وأنواع السيارات ،وآخر الصيحات ،وأشهى
المأكولت ،وإضاعة المجالس في الشادة بهذه المور ؛ كل هذا يدل على أن القلب مزدحم
بدنيا لم تفسح للخرة موضع قدم.
ومن علمات حب الدنيا :المغالة في الهتمام بترفيه النفس مأكل ومشربا وملبسا ومسكنا
ومركبا ،والهتمام بالكماليات والترفيات اهتماما يملك عليه وقته وعقله ،فيجهد نفسه بشراء
النيق من اللباس ويزوّق مسكنه وينفق الموال والوقات في هذا ،ويغرق في التنعيم والترف
المنهي عنه في حديث معاذ بن جبل رضي ال عنه لما بعث به النبي صلى ال عليه وسلم إلى
اليمن وأوصاه فقال « :إياك والتنعيم ،فإن عباد ال ليسوا بالمتنعمين » .
ولذلك حثّ النبي صلى ال عليه وسلم على أخذ الكفاية من الدنيا دون التوسع الذي يشغل عن
ذكر ال ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم « :إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في
سبيل ال » ،بل هدّد النبي صلى ال عليه وسلم المكثرين من الموال إل أهل الصدقات فقال :
« ويل للمكثرين إل من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا ،أربع عن يمينه وعن شماله ومن ُقدّامه
ومن ورائه » ،وصدق القائل :
سنٍ ** إذا لم يكن فيها معاش لظالم
فلو كانت الدنيا جزاءً لمُح ِ
لقد جاع فيها النبياء كرامة ** وقد شبِعت فيها بطون البهائم
ل تذموها ولكن
قال يحيى بن معاذ الرازي " :الدنيا خزانة ال فما الذي يُبغض منها ،وكل شيء من حجر أو
مدر أو شجر يسبّح ال فيها .قال ال تعالى " :وإن من شيء إل يسبح بحمده " ،وقال ال
تعالى " :ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ،فالمجيب له بالطاعة ل يستحق أن يكون
بغيضا في قلوب المؤمنين " .
فليس المطلوب منك سب الدنيا أو الهرب منها بل الواجب عليك :تحقيق الزهد ،والزهد في
أبسط صوره ومعانيه أن تحوز الدنيا في يدك ل في قلبك ،وأن تملكها ل أن تملكك ،وأن
تضحي بها في سبيل آخرتك ل أن تبيع الخرة من أجلها ،وأن تطلب الخرة بالدنيا ل أن تطلب
الدنيا بالخرة ،وأن تفرّغ قلبك مما خلت منه يدك ،ويبشّرك عندها بحسن العاقبة الدنيوية
والخروية يحيى بن معاذ فيقول :
" الدنيا أمير من طلبها ،وخادم من تركها ،الدنيا طالبة ومطلوبة ،فمن طلبها رفضته ،ومن
رفضها طلبته ،الدنيا قنطرة الخرة فاعبروها ول تعمروها ،ليس من العقل بنيان القصور على
الجسور ،ومن طلّق الدنيا فالخرة زوجته ،فالدنيا مطَلّقة الكياس ،ل تنقضي عدتها أبدا ،
فخلّ الدنيا ول تذكرها ،واذكر الخرة ول تنسها ،وخذ من الدنيا ما يبلّغك الخرة ،ول تأخذ
من الدنيا ما يمنعك الخرة " .
وما يعين قلبك على التشبع بالزهد :المقارنة العابرة بين الدنيا والخرة كمّا وكيفا ،فالدنيا أيام
قلئل معدومة في مواجهة خلود ل آخر له ،والدنيا نعيمها متنغص ،إن أضحكت اليوم أبكت
غدا ،وإن سرّت تبع سرورها الردى ،وإن حلّت فيها النعم جميعا نزلت فيها النقم سريعا ،إن
أخصبت أجدبت ،وإن جمعت فرّقت ،وإن ضمت شتّتت ،وإن زادت أبادت ،وإن أسفرت أدبرت
،وإن راقت أراقت ،وإن عمّت بنوالها غمّت بوبالها ،وإن جادت بوصالها جاءت بفصالها ،
غزيرة الفات ،كثيرة الحسرات ،قليلة الصفا ،عديمة الوفا ،ومن لم يتبصر في أمرها اليوم
عضّ يديه غدا ،وبكى مع الدمع دما ،بل وحتى من ملك أقصى نعيمها ..أتظنونه قد
استراح؟! كل وال ..
أرى من الدنيا لمن هي في يديه ** عذابا كلما كثُرت لديه
تهين لها المكرمين لها بذل ** و ُتكِرم كل من هانت لديه
وأين كل هذا من الخرة ونعيم الخرة ولذة الخرة وخلود الخرة؟!
وبعد الحاطة بالزهد علما تنزل إلى ساحة الجد عمل ،وممارسة يومية ومشقة نفسية ،
والنفس على ما عوّدتها نشأت ،وكيف ما ربيتها نمت وترعرت ،ولذا لما قيل هذا المعنى
شعرا على لسان أبي ذؤيب الهذلي :
والنفسُ راغب ٌة إذا رغّبتها ** وإذا تُردّ إلى قليلٍ تقنع
قال الصمعي " :هذا أبدع بيت قالته العرب " .
نعم ..آن لنا نحن أبناء السلم في القرن الحادي والعشرين أن ندرك الزهد الحقيقي بعد أن
فهمناه دهرا فقرا ورضا بالقليل وإيثارا للعزلة في الزوايا على المضاربة في السواق تاركين
الساحة لكل عابث فاجر أو عدو ماكر ،وهو ما فطن إليه علم الزهد في زمانه سفيان الثوري
وأدرك تغير أولويات كل زمن فقال " :كان المال فيما مضى يُكره ،فأما اليوم فهو ترس
المؤمن " .
ب .شهوة حب الشهرة
وله صور خفية وجلية منها :
حب تصدر المجالس والستئثار بالكلم وفرض الستماع على الخرين ،وصدر أي مجلس هو
من بقوله « :اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب التي حذرنا منها رسول ال المحاريب» .
فالمحراب الذي يعظ منه الواعظ مثل من المذابح إن لم يراع هو العمل بما يقول ،وامتثال ما
أمر به ؛ مع أنها قد تكون مراكز التوجيه للخير والهداية إلى الفوز لكنها مع ذلك قد تودي
بصاحبها إلى الشر وترمي به في الخسران.
يقول " :المدح هو الذبح " τ .النتشاء بالمدح :ولذا كان عمر بن الخطاب
قال المناوي " :وسماه ذبحا لنه يميت القلب فيخرج من دينه ،وفيه ذبح للممدوح ،فإنه يغره
بأحواله ويغريه بالعجب والكبر ،ويرى نفسه أهل للمدحة سيما إذا كان من أبناء الدنيا أصحاب
النفوس وعبيد الهوى " .
الدرس من أبيه الذي روى الحديث السابق ،وقد تعلّم عبد ال بن عمر فكان لسلمة قلبه
يكره المدح وينقبض منه ،ولما جاءه رجل وقال له :يا خير الناس وابن خير الناس ،قال له
" :ما أنا بخير الناس ول أنا ابن خير الناس ،ولكني عبد من عباد ال ،أرجو ال وأخافه ،
وال لن تزالوا بالرجل حتى تُهلِكوه " .
« :من سرّه أن يمتثل له الرجال قياما فليتبوأ بيتا من النار » ε .محبة أن يقوم الناس له :
وقد قال رسول ال
ومثل هذا النوع من الناس يعتريه الغضب إن لم يقم له أحد ليجلس مكانه ويشعر عن ذلك في
قوله « :ل يُقيم الرجل بالمهانة وانتقاص القدر ؛ رغم نهيه الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه
».
وأين هؤلء من القلوب الحية التي كرهت الشهرة وعافت علو المكانة وتميز المكانة بين
العامة .كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام ،وكان خالد بن معدان إذا عظمت
حلقته قام وانصرف كراهة الشهرة ،وغيرهم وغيرهم لن كل واحد منهم قد عرف قدر نفسه
وحقيقة جهله وضعفه فما غرّه ثناء الناس عليه .قال المروزي للمام أحمد " :إني أرجو أن
يكون يُدعى لك في المصار فقال :يا أبا بكر!! إذا عرف الرجل نفسه فما ينفعه كلم الناس " .
لذا ما تفاخروا مرة واحدة في حياتهم ول غالوا في أثمانهم حتى لقاء ربهم بل تواضعوا ،
والمواقف ل تزال تُروى للمام أحمد .قال عنه يحيى بن معين " :ما رأيت مثل أحمد!! صحبناه
خمسين سنة فما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير " .
ومما يرتبط ارتباطا وثيقا بشهوة حب الشهرة :
ج .شهوة حب الرئاسة
وهي شهوة مرتبطة ارتباطا وثيقا بحب الظهور ،وهي بقوله « :إنكم ستحرصون على
المارة ،وستكون التي حذر منها رسول ال ندامة يوم القيامة ،فنعم المرضعة وبئس
الفاطمة » .
وقوله « :نعم المرضعة » وذلك أولها لن معها المال والجاه والسلطة ،وقوله « :بئس
الفاطمة » أي :آخرها لن معه القتل والعزل في الدنيا عواقب الرئاسة ومراحلها والحسرة
والتبعات يوم القيامة ،وقد بيّن النبي الثلث في قوله « :إن شئتم أنبأتكم عن المارة وما هي
:أولها ملمة ،وثانيها ندامة ،وثالثها عذاب يوم القيامة إل من عدل » .
والرئاسة التي نقصدها هنا ليست دنيوية فحسب بل قد تكون دينية كذلك لمن يتبوأ مراكز
الرشاد والتوجيه والنصح والتربية ،ولو كان يدفع إلى التطلع للرئاسة :القيام بالواجب وتحمل
التبعة الثقيلة في وقت ل يسد الثغرة فيه من هو أفضل بذل وعمل لكان المر محمودا ،أما إذا
كان الدافع :رغبة جامحة في الزعامة ونفرة من قبول التوجيه من غيره واستئثار بمركز المر
والنهي ؛ فيا خطورة ما أصاب من مرض.
إسلم من ابتلي بهذا المرض وردّه ولم يقبله ،وقد رفض رسول ال أتى بني عامر بن
صعصعة فدعاهم إلى ال واسمعوا ما رواه الزهري أن النبي ،وعرض عليهم نفسه ،فقال
له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس :وال لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لكلت به
العرب ،ثم قال له :أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ،ثم أظهرك ال على من يخالفك ؛
أيكون لنا المر من بعدك؟ قال « :المر ل يضعه حيث يشاء » .قال :فقال له " :أفنهدف
نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك ال كان المر لغيرنا! ل حاجة لنا بك " .
لرجلين سأله المارة « :إنا ل نولّي هذا َمنْ سأله ،ول من حرص عليه » ε .بل قال
يسن بذلك أحد قوانين الدارة اليمانية ويميّزها عن إدارة اليوم الحديثة هذا الصنف من الدعاة
،الذين ليس يعنيهم ويشغل فكرهم سوى رضا ،ويمدح ال سبحانه وتعالى بارزين كانوا أو
مستترين ،في المقدمة أو في المؤخّرة « :طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل ال ،أشعث
رأسه ، ،وذلك بقوله مغبرة قدماه ،إن كان في الحراسة كان في الحراسة ،وإن كان في
الساقة كان في الساقة ،إن استأذن لم يؤذن له ،وإن شفع لم يُشفّع » .
وتأمل أنه ذكر هنا الساقة والحراسة وكلهما ليس من أماكن الصدارة أو مراكز القيادة ،فكأنه
أراد ترسيخ معنى الجندية ومعالجة حب الرئاسة في قلوب السامعين معالجة جذرية ،فل يذكر
الرئاسة ولو بكلمة لتغيب حتى حروفها عن عينك وتتوارى عن قلبك.
يا ذئاب!!
« :ما ذئبان جائعان أُرسل في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء قال النبي على المال
والشرف لدينه » .والذئبان الجائعان هما :الحرص على المال والحرص على الشرف ،وإذا
أُرسِلت الذئب في الغنم فماذا تفعل؟! فكذلك يفعل الحرص على المال والحرص على الجاه
والشرف في الدين ،إنها تلتهم دين المرء وتفترس إيمانه.
قال ابن رجب :
أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من " فأخبر النبي إفساد الذئبين
لهذه الغنم ،بل إما أن يكون مساويا وإما أكثر ،يشير أنه ل يسلم من دين المسلم مع حرصه
على المال والشرف في الدنيا إل القليل ،كما أنه ل يسلم من الغنم مع إفساد الذئبين المذكورين
فيها إل القليل ،فهذا المثل العظيم يتضمن غاية التحذير من شر الحرص على المال والشرف
في الدنيا " .
وحب الرئاسة والسعي لها شهوة خفية في النفس ،وكثير من الناس قد يزهد في الطعام
والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة عنده نجم سماوي ل يُدرك .قال سفيان الثوري رحمه
ال " :ما رأيت زهدا في شيء أقل منه في الرئاسة ،ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب
والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى " ،وقال يوسف بن أسباط " :الزهد في
الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا " ،ولذلك كان السلف رحمهم ال يحذرون من يحبون منها ،
فقد كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالة فيها " :إياك وحب الرئاسة ،فإن الرجل تكون
الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض ل يبصره إل البصير من العلماء
السماسرة ،فتفقّد نفسك واعمل بنية ".
واتهم أيوب السختياني كل محب للرئاسة بالكذب فقال " :ما صدق عبد قط فأحب الشهرة " ،
ونفى عنه التقوى بشر بن الحارث فقال " :ما اتقى ال من أحب الشهرة " ،ووصفه بعدم
الفلح يحيى بن معاذ حين قال " :ل يفلح من شممت منه رائحة الرياسة ".
لحب الرئاسة بالشهوة الخفية حين قال محذرا τ :وما أحسن وصف شدّاد بن أوس يا بقايا
العرب ...إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء ،والشهوة الخفية .قيل لبي داود السجستاني :ما
الشهوة الخفية؟ قال :حب الرئاسة.
قال ابن تيمية معقبا " :فهي خفية ،تخفى عن الناس ،وكثيرا ما تخفى على صاحبها " .
أمارة حب المارة
لكنها وإن كانت خفية ،ومهما توارت وأتقنت فن التستر والهرب ،فقد أذن ال لنا أن نفضحها
عن طريق علماتها حتى ل يعود لمبتلى عذر في ترك التداوي وهجر التسامي ،ومن العلمات
:
ما ذكره الفضيل بن عياض " :ما من أحد أحب الرئاسة إل حسد وبغى ،وتتبع عيوب الناس ،
وكره أن يُذكر أحد بخير " .
فمن علماتها إذن حب ذكر الغير بالنقائص والعيوب ،وكراهة أن يُذكر أحد عنده بخير ،بل
وانتقاص الخرين ليرفع نفسه ،فل يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم ،بل ويحجب
فضائل الخرين ويكتم أخبارهم خشية أن يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبوا إلى غيره ،أو
يقارنوا بينه وبين من هو خير منه فينفضوا عنه.
الحسرة إذا زالت أو سُلِبت منه الرئاسة ،وتأمل لو أن عالما تصدّر مجلس علم مثل ،فالتف
الناس حوله ،ثم جاء من هو أعلم منه فقدّمه الناس عليه وانقطعوا إليه ،فهل يفرح هذا العالم
أو يحزن؟ هل يفرح لنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة ويفيد
الناس أكثر منه ؛ أم يحزن ويغتم لنه قد جاء من خطف منه الضواء وصيحات العجاب؟! بهذا
تفضح قلبك أيها الداعية إذا خشيت مرضه وأردت شفاءه .قال ابن الجوزي :
" وقد يكون الواعظ صادقا قاصدا للنصيحة إل أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان
فيحب أن يُعظّم ،وعلمته :أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك ،ولو
صحّ قصده لم يكره أن يعينه على خلئق الخلق " .
وقال كذلك :
" ومنهم من يفرح بكثرة التباع ،ويلبّس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلب العلم ،وإنما
مراده كثرة الصحاب " .
إنها مجالس السوء وإن كان ظاهرها الخير ،وأماكن الفتنة وإن رُفِعت عليها رايات الهدى ،
ووسائل الهلك وإن صُنِعت للنجاة!!
كم شارب عسل فيه منِيته وكم تقلّد سيفا من به ذُبِحا
وتستطيع أخي الداعية أن تُجري اختبارا واحدا يكشف لك حقيقة مجالسك على الفور ،وذلك
على طريقة ابتكرها عبد الرحمن بن مهدي وهي كما يلي :
عن عبد الرحمن بن مهدي قال " :كنتُ أجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت ،وإذا قلوا
حزنت ،فسألت بشر بن منصور فقال :هذا مجلس سوء فل تعُد إليه ،فما عدتُ إليه " .
حسرة قلبه إذا منع من الظهور وفاتته فرصة إبداء إمكاناته واستعراض قدراته ،وبالحلو تُعرف
المرارة ،وبالضد تتميز الشياء لذا فاسمعوا ما فعل المحدّث الرباني شيخ نيسابور أبي عمرو
إسماعيل بن نجيد فيما قصّه المام الذهبي :
" ومن محاسنه أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري طلب في مجلسه مال لبعض الثغور فتأخّر ،
فتألم وبكى على رؤوس الناس ،فجاءه ابن نجيد بألفي درهم فدعا له ،ثم إنه نوّه به ،وقال :
قد رجوت لبي عمرو بما فعل ،فإنه قد ناب عن الجماعة ،وحمل كذا وكذا ،فقام ابن نجيد
وقال :لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة فينبغي أن ترده لترضى ،فأمر أبو عثمان
بالكيس فرد إليه ،فلما جنّ الليل جاء بالكيس والتمس من الشيخ ستر ذلك ،فبكى وكان بعد
ذلك يقول :أنا أخشى من همة أبي عمرو " .
إضفاء هالت الهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والنشغالت التافهة ،ليوقع في روع
الناس علو قدره وارتفاع منزلته وتهافت الناس عليه ،والنبي يقول « :المتشبّع بما لم يُعطَ
كلبس ثوبي زور » ε .
قال ابن حجر :
" المتشبّع أي المتشبّه بالشبعان وليس به شبع ،واستعير للتحلي بفضيلة لم يرزقها ،وشُبّه
بلبس ثوبي زور ؛ أي ذي زور ،وهو الذي يتزيا بزي أهل الصلح رياء ،وأضاف الثوبين
إليه لنهما كالملبوسين ،وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ارتدى
بأحدهما واتزر بالخر كما قيل :إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا ،فالشارة بالزار والرداء إلى أنه
متصف بالزور من رأسه إلى قدمه ،ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع
حالتان مذمومتان :فقدان ما يتشبع به ،وإظهار الباطل " .
عدم المشاركة بفاعلية عندما يكون مرؤوسا ،بل والتهرب من التكاليف حين ل يكون هناك
فرصة للبروز ،واشتعال قلبه حماسة ونشاطا عندما يكون رأس المر وقائده.
كثرة نقده لغيره بسبب وبغير سبب ،ومحاولة التقليل من أهمية مقترحات الغير ومبادراتهم مع
عدم تقديم البديل ،والعمل على إخفاق ما لم يشارك فيه.
الصرار على رأيه وصعوبة التنازل عنه ،وإن ظهرت أدلة بطلنه ورجحان غيره.
سبب هذا المرض
السبب الرئيس :عدم تقدير عواقب التقصير في الخرة ،وقد قال «:ما من رجلٍ يلي أمر
عشرةٍ فما فوق ذلك ،إل أتى ال مغلولً يده إلى عنقه ،فكه بره أو أوثقه إثمه ،أولها ملمة ،
وأوسطها ندامة ،وآخرها خزي يوم القيامة » .
أل فانتبه يا طالب العلم وأنت تعلّم الناشئة ،وانتبه أيها المربي حين ،وكيف حثّنا على الزهد
تربّي من حولك ،وتعلّم من سعد بن أبي وقاص في الرئاسة بلسان حاله مما أغنانا عن
آلف الخطب والصفحات ،فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال :كان سعد في إبلٍ له وغنم
فأتاه ابنه عمر بن سعد ،فلما رآه قال :أعوذ بال من شر هذا الراكب ،فلما أتاه قال :يا أبت!
أرضيتَ أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة ؟! εفضرب سعدٌ
صدر عمر وقال :اسكت فإني سمعت رسول ال يقول « :إن ال يحب العبد التقي الغني الخفي
».
وتأمّل أيضا كيف كان هروب العلماء من مسئولية القضاء ،والقضاء منصب وسلطة ومكانة
وأبهة ،وقد كان القاضي من أعظم الناس مكانة في زمانه ،وكلمته مسموعة ل ترد ؛ ومع
ذلك كان الصالحون يهربون من القضاء ويُضربون عنه ول يتولونه ،بل ويسجنون ول
يرضونه ،مع أنهم أهل له ،وذلك لخوفهم ينذر « :قاضيان في النار من تبعات المر ،
وكيف ل وقد سمعوا قول النبي ،وقاض في الجنة » .
يحذّر « :من أتى أبواب السلطان اف ُتتِن » ،وكثرة من وكيف ل والنبي قضاة اليوم والعلماء
على باب السلطان وقوف ،وعلى رضاه حريصون ،ول يحسون بالكارثة!!
التوازن المفقود
التوازن المنشود بين كراهية الشهرة
ووجوب قيادة جموع المة ،فإننا نريد لجموع الصالحين أن تبرز في الوقت الذي توارت فيه
الكفايات وبرزت فيه الرويبضات ،وأن تفخر بعملها الصالح قائلة :هلم إلينا أيها الناس ،وذلك
في الوقت الذي تبارت رموز الشر في الدعوة إلى باطلها ،وتنافست في طمس فطرة الناس
ببث سمومها وشرورها ،لذا كان لبد للطيّب أن يدافع الخبيث ويزاحمه حتى يبث الخير إلى
محيط الناس الملوّث ،وعلى كل واحد أن يتفرّس في نفسه اليوم ،ويرى هل فيه من علمات
حب الرئاسة شيء ،ويعيد تقييم نفسه باستمرار وعلى مرور الشهر والعوام ،فإن البداية قد
تكون صحيحة ويتسلل الخطأ بعد ذلك ،والنية قد تبدأ خالصة حتى تتسرّب إليها جرثومة رياء ،
لذا وجب التنبه والمراقبة.
د .شهوة النساء
ويسأل سائل :لماذا نتكلم عن شهوة الرجال نحو النساء ول نتكلم عن شهوة النساء نحو
الرجال؟! إن كثيرا ما يتساءلون :لماذا تكلم القرآن عن الحور العين في الجنة ولم يتكلم عن
مثيل ذلك للمؤمنات؟! والجواب أن الحب عند الرجل يتمحور حول الفعال ،فهو عنده غريزة
تتبعها عاطفة ،بينما الحب عند المرأة عاطفة مقدمة على الغريزة ،وحين يمتزج الحب
بالشهوة عند الرجال ؛ فهو عند النساء :كلمات وثناء وغزل ،لذا وجدنا الشعر عربيا وغربيا
قديما وحديثا يحفل بغزل الرجال للنساء ل غزل النساء للرجال ،فالرجل يعلن عن الرغبة
ويطلب ،والمرأة سلحها التمنع والدلل.
« :ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » ε .من هنا جاء تحذير الرسول
" :إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في وقد سبق أن أخبرنا النبي صورة شيطان " ،
إشارة إلى الهوى والميل الطبيعي الذي جعله ال تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى
النساء ،واللتذاذ بالنظر إليهن ،والحديث معهن ،وسماع أخبارهن ،وكل ما يتعلق بهن ،ول
غرو ،فالمرأة أعظم فتن إبليس وأشد محنه وأيسر طرقه وأخفى حيله ،ولذا يتبعها ويلزمها
ويزيّنها ويُحلّيها في عيون الرجال .قال مجاهد " :إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها
فزيّنها لمن ينظر ،فإذا أدبرت جلس على عجزها فزيّنها لمن ينظر " .
وعدّها الحسن بن صالح نصف جيش الشيطان المرابط على ثغر القلب فقال " :سمعت أن
الشيطان قال للمرأة :أنت نصف جندي ،وأنت سهمي الذي أرمي به فل أخطأ ،وأنت موضع
سري ،وأنت رسولي في حاجتي " .
ويُشخّص ابن الجوزي مرضا عضال يُصاب به مطلق بصره -وما أكثر جراحاته – فيقول :
" يُعرِض النسان عن زوجته ويؤثر عليها الجنبية ،وقد تكون الزوجة أحسن ،والسبب في
ذلك أن عيوب الجنبية لم تَبِن له ،وقد تكشفها المخالطة ،ولهذا إذا خالط هذه المحبوبة
الجديدة ،وكشفت له المخالطة ما كان مستورا ملّ وطلب أخرى إلى ما ل نهاية له " .
ثم يكمل وصيته أثناء صيده لحدى خواطره فيقول :
" ليعلم العاقل أن ل سبيل إلى حصول مراد تام كما يريد ﴿ َوَلسْتُمْ بِآخِذ ْيهِ إِلّا َأنْ تُ ْغمِضوا ف ْيهِ
﴾ [ البقرة ، ] 267 :ما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل ﴿ وَلَ ُهمْ فيهَا َأزْوَاجٌ
مُطَ ّه َرةٌ ﴾ [ البقرة . " ] 25 :
الطنطاوي يصيح
قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه ال :
" لو أتيت مال قارون وجسد هرقل وواصلتك عشر آلف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل
وكل نوع من أنواع الجمال هل تظن أنك تكتفي؟ ل ..أقولها بالصوت العالي :ل ..أكتبها
بالقلم العريض ،ولكن واحدة بالحلل تكفيك ،ول تطلبوا مني الدليل فحيثما تلفتم حولكم وجدتم
في الحياة الدليل قائما ظاهرا مرئيا " .
لكن ما الذي يزيّن الحرام للنسان ويبغّض له الحلل؟! وما الذي يجعله تهفو نفسه للغريبة عنه
وتزهد في سكنه ومودته وشريكة عمره؟! إنه الرغبة في التغيير والقضاء على الملل ،إنه
التطلع إلى كل جديد ،فالمرء توّاق إلى ما لم ينل ،ويجيب الطنطاوي ثانية قائل :
" فالنساء مختلفات ،ولكن طعم المتعة بهن واحد ل يختلف ،وما فرق بين تلك لراقصة وبين
امرأتك إل أن الولى تأتيك على جوعك بالرغيف قد لفته بمنديل الحرير ،ووضعت المنديل في
شملة ،وألقت الشملة في صندوق من الفضة المذهبة ،وجعلت حول الصندوق الورق
الشفاف ،فأنت كلما رفعت حجابا من هذه الحجب اشتد جوعك وشوقك إلى ما وراءها ،فإذا
بلغت الرغيف حسبته قُطِف من قمح الجنة ،ثم طحنته الملئكة ،ثم عجنته بأيديهن الحور
العين ،وأنت ل تأكل المنديل ول الشملة ول الصندوق ،إنما تأكل الرغيف ،وأنت ل تريد هذه
الثياب ول هذه النوار ،إنما تريد المرأة ،ولعل امرأتك أبهى منها وأجمل " .
السجود للصنم
وإليك نماذج من هؤلء المرضى الذين استسلموا لمرضهم ،فلم يحاولوا الستشفاء بطبيب بارع
أو مشفى جامع حتي غزاها المرض فشوّه ملمحها ومسخ فطرتها ووصل إلى النخاع وقطع
عليها خط الرجعة .قيل لحدهم :جاهد في سبيل ال ،فقال :
لكن أين حال هؤلء من أحياء القلوب وأرباب العقول الذين يتدبرون ويعتبرون ،ويقرؤون ما
وراء الحداث فيرشدون ،ومن سادات هؤلء ابن الجوزي الذي علّمنا في إحدى كنوزه الرائقة
:
" تأملتُ حالة أزعجتني ،وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل وهي ل تحبه ،وكذا يفعل
مع صديقه والصديق يبغضه ،وقد يتقرّب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه والسلطان ل يؤثره ،
فيبقى متحيّرا يقول :ما حيلتي؟! فخفتُ أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه ،أتقرّب إليه
وهو ل يريدني ،وربما يكون قد كتبني شقيا في الزل " .
ه .شهوة حب الهل والولد :
وقد ورد التحذير من هذه الشهوة في أكثر من آية من كتاب ال عز وجل ،ولعل أخطرها
عدُوّا وأعظمها وقعا على القلب قوله تعالى ﴿ :يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا ِإنّ ِمنْ َأزْوَاجِكُمْ َوأَوْلدِكُمْ َ
ح َذرُوهُمْ َوِإنْ تَعْفُوا وَ َتصْفَحُوا َوتَغْ ِفرُوا فَ ِإنّ الّلهَ غَفُو ٌر رَحِيمٌ.إِ ّنمَا َأمْوَالُ ُكمْ َوأَوْلدُكُمْ فِتْ َنةٌ
لَكُمْ فَا ْ
جرٌ عَظِيمٌ ﴾ [ التغابن ] 15-14 : وَالّلهُ عِ ْن َدهُ أَ ْ
قال المام البغوي عند تفسير هذه الية " :وقال عطاء بن يسار :نزلت في عوف بن مالك
الشجعي :كان ذا أهل وولد ،وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه ،وقالوا :إلى من تدعنا؟
عدُوّا لَ ُكمْ ﴾ بحملهم إياكم على ترك جكُمْ َوأَوْلدِ ُكمْ َ فيرق لهم ويقيم ،فأنزل ال ِ ﴿ :إنّ ِمنْ َأزْوَا ِ
الطاعة ،فاحذروهم أن تقبلوا منهم ".
وتأمّلوا :لما ذكر ال العداوة أدخل ﴿ ِمنْ ﴾ للتبعيض ،فقال ِ ﴿ :إنّ ِمنْ َأزْوَاجِكُمْ َوأَوْل ِدكُمْ
عدُوّا َلكُمْ ﴾ ،لن ليس كل الهل أعداء ،ولم يذكر ﴿ ِمنْ ﴾ في قوله ﴿ :إَ ّنمَا َأمْوَالُكُمْ َوأَوْلدُكُمْ َ
فِ ْت َنةٌ ﴾ لنه ل تخلو الزوجة والولد من الفتنة واشتغال القلب بها.
تأكيدا لمعناها وشرحا لفحواها حيث قال وقد تآخت هذه الية مع حديث بريدة يخطب فجاء
الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران " : ،كان رسول ال من المنبر ،فحملها ،
فوضعها بين يديه يمشيان ويعثران ،فنزل رسول ال ،ثم قال « :صدق ال ﴿ :إَ ّنمَا
َأمْوَالُكُمْ َوأَوْلدُكُمْ فِ ْتنَة ﴾ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ،فلم أصبر حتى قطعت
حديثي ورفعتهما » .
ويعلق سيد قطب رحمه ال تعالى على آية التغابن هذه فيقول :
" ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي ،وأبعد مدى وأطول أمدا ؛ فهذا التحذير من
الزواج والولد كالتحذير الذي في الية التالية من الموال والولد معا ﴿ :إَ ّنمَا َأمْوَالُكُمْ
َوأَوْل ُدكُمْ فِ ْت َنةٌ ﴾ .
والتنبيه إلى أن من الزواج والولد من يكون عدوا ،إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة
البشرية ؛ ويمس وشائج متشابكة ودقيقة في التركيب العاطفي ،وفي ملبسات الحياة سواء ،
فالزواج والولد قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر ال ،كما أنهم قد يكونون دافعا للتقصير
في تبعات اليمان ،اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه ،فلقي ما يلقاه
المجاهد في سبيل ال! والمجاهد في سبيل ال يتعرض لخسارة الكثير ،وتضحية الكثير.
كما يتعرض هو وأهله للعنت ،وقد يحتمل العنت في نفسه ول يحتمله في زوجه وولده ،فيبخل
ويجبن ليوفر لهم المن والقرار ،أو المتاع والمال ،فيكونون عدوا له ؛ لنهم صدوه عن
الخير ،وعوّقوه عن تحقيق غاية وجوده النساني العليا.
كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه ؛ اتقاء لما يصيبهم من جرائه ،
أو لنهم قد يكونون في طريق غير طريقه ،ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد ل ،
وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات ،وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آن
،ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة :التحذير من ال ،لثارة اليقظة في قلوب الذين
آمنوا ،والحذر من تسلل هذه المشاعر ،وضغط هذه المؤثرات ،ثم كرر هذا التحذير في صورة
أخرى من فتنة الموال والولد ،وكلمة فتنة تحتمل معنيين :
الول :أن ال يفتنكم بالموال والولد بمعنى يختبركم ،فانتبهوا لهذا ،وحاذروا وكونوا أبدا
يقظين لتنجحوا في البتلء ،وتخلصوا وتتجردوا ل ،كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه
من الشوائب!
والثاني :أن هذه الموال والولد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية ،فاحذروا
هذه الفتنة ل تجرفكم وتبعدكم عن ال ".
والمعنى الثاني من كلم سيد يبين أن الولد قد يشغلون عن ال وعن ذكره ومرضاته وقربه
كما دلّ على ذلك قوله تعالى ﴿ :يَا أَيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا لَا تُلْ ِهكُمْ َأمْوَالُ ُكمْ وَلَا أَوْلَادُ ُكمْ عَن ذِ ْكرِ الّلهِ
سرُونَ ﴾ [ المنافقون .] 9 : َومَن يَفْعَلْ ذَ ِلكَ فَأُوَْل ِئكَ هُمُ ا ْلخَا ِ
وهي آية من سورة المنافقين التي سردت صفات المنافقين وأحوالهم ،ثم تحذير المؤمنين من
الوقوع في ما وقعوا فيه من النشغال بها عن الخرة والتفريط في صالح العمال ،وأخذ المال
من حل وحرمة ؛ تحت ذريعة توفير الراحة والسعادة للهل والولد .قال الزجاج :
" أعلمهم ال عز وجل أن الموال والولد مما يفتنون به ؛ وهذا عام في جميع الولد ،فإن
النسان مفتون بولده ؛ لنه ربما عصى ال تعالى بسببه ،وتناول الحرام لجله ،ووقع في
العظائم إل من عصمه ال تعالى " .
ومن آثار هذه الشهوة إذا طغت وخرجت عن حدود الفطرة السوية :الوقوع في صفتين
ذميمتين هما :البخل والجبن ،مما سبق وأن نبّه عليه الرسول بقوله « :إن الولد مبخلة
مجبنة » .
والجبن والخوف يصدان عن القيام بواجب الدعوة والجهاد ؛ وقد يحتمل الداعية الذى والعنت
على نفسه في سبيل ال عز وجل ،لكن القليل هو من يحتمله في أهله وأولده ؛ خاصة إذا
تعرض لما يبعده عنهم كالسجن والتشريد.
يقول سيد رحمه ال تعالى " :هناك فتنة الهل والحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الذى
بسببه ،وهو ل يملك عنهم دفعا وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ،وينادونه باسم الحب
والقرابة ،واتقاء ال في الرحم التي يعرضها للذى أو الهلك ".
وفي هذا فتنة واختبار أيما اختبار ،وهل خُلِقت الشهوات إل للختبار؟! ول يثبت إل من ثبته
ال عز وجل وعصمه بصدق التوكل عليه وحسن الظن به والوثوق برحمته وحفظه.
لكن ماذا إذا ربّى النسان ولده ليكون عونا له على مشقات الطريق ،وعامل ثبات ل فتنة ،
وقوة تقدم ل تقهقر ،كما سبق وفعل إبراهيم بن أبي الليث مع بناته اللتي صرن أساتذة الرجال
في مدارس الثبات ،فقد روى محمد بن سويد الطحان :
" كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد ،وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة ،وأحمد بن حنبل
يضرب ،فجعل عاصم يقول :أل رجل يقوم معي ،فنأتي هذا الرجل ،فنكلمه؟ قال :فما يجيبه
أحد ،ثم قال ابن أبي الليث :أنا أقوم معك يا أبا الحسين ،فقال :يا غلم :خُفّي .فقال ابن أبي
الليث :يا أبا الحسين ..أبلغُ إلى بناتي ،فأوصيهم ،فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط ،ثم جاء ،
فقال :إني ذهبت إليهن ،فبكين .قال :وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط :يا أبانا! إنه بلغنا
أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل ،فضربه على أن يقول :القرآن مخلوق ،فاتق ال ،ول
تُجِبه ،فوال لن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت!! "
وسر عن قريب واستجب واجتنب (غدا) وشمّر عن الساق اجتهادا بنهض ِة
وكن صارما كالسيف فالموت في (عسى) وإياك (مهل) فهي أخطر علــةِ
جدّتِ
جدْتَ َ
جدْ خيرا فالنفس إن ُ
وجُـذّ بسـيف العزم (سوف) فإن تجُـدْ ت ِ
كم عمرك الن؟!
وفي ضوء نشاطك أو كسلك ،ومبادرتك أو تقاعسك ،وانتباهتك أو غفلتك تستطيع أن تحدّد
عمرك الحقيقي اليوم ،وأعني بذلك عمرك المحسوب بميزان اليمان ل بذاكرة اليام ،وبحساب
الكرام البررة ل بسجلت موظّف الحي الذي تسكنه ،وهو ما قال به ابن القيم :
" فما كان من
وقته ل وبال فهو حياته وعمره ،وغير ذلك ليس محسوبًا في حياته وإن عاش عيش
البهائم ،فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والماني الباطلة ،وكان خير ما قطعه به النوم
والبطالة ،فموت هذا خير له من حياته ،وإذا كان العبد -وهو في الصلة -ليس له من
صلته إل ما عقل منها ،فليس له من عمره إل ما كان فيه بال ول " .