You are on page 1of 145

‫إبراهيم بن أدهم‬

‫كان والده من أغنى أغنياء خراسان وأحد ملوكها‪ ،‬ولد (إبراهيم) بمكة حينما خرج أبوه وأمه إلى‬
‫الحج عام ‪ 100‬هـ أو قريبًا منها‪ ،‬وفتح عينيه على الحياة؛ ليجد الثراء يحيط به من كل جانب؛‬
‫فعاش حياة الترف والنعيم‪ ،‬يأكل ما يشاء من أطيب‬
‫الطعام‪ ،‬ويركب أحسن الجياد‪ ،‬ويلبس أفخم الثياب‪.‬‬
‫وفي يوم من اليام خرج راكبًا فرسه‪ ،‬وكلبه معه‪ ،‬وأخذ يبحث عن فريسة‬
‫يصطادها‪ ،‬وكان إبراهيم يحب الصيد‪ ،‬وبينما هو كذلك إذ سمع نداء من خلفه يقول له‪( :‬يا‬
‫إبراهيم ليس لذا خلقت‪ ،‬ول بذا أمرت) فوقف ينظر يمينه وشماله‪ ،‬ويبحث عن مصدر هذا‬
‫الصوت فلم ير أحدًا‪ ،‬فأوقف فرسه ثم قال‪ :‬وال ل عصيت ال بعد‬
‫يومي ذا ما عصمني ربي‪.‬‬
‫ورجع إبراهيم بن أدهم إلى أهله‪ ،‬فترك حياة الترف والنعيم ورحل إلى بلد ال الواسعة ليطلب‬
‫العلم‪ ،‬وليعيش حياة الزهد والورع والتقرب إلى ال‬
‫ل يتفرغ للعبادة والزهد فقط ويعيش عالة على غيره‪ ،‬بل‬ ‫سبحانه وتعالى‪ ،‬ولم يكن إبراهيم متواك ً‬
‫كان يأكل من عمل يده‪ ،‬ويعمل أجيرًا عند أصحاب المزارع‪ ،‬يحصد لهم الزروع‪ ،‬ويقطف لهم‬
‫الثمار ويطحن الغلل‪ ،‬ويحمل الحمال على كتفيه‪ ،‬وكان نشيطًا في عمله‪ ،‬يحكي عنه أنه حصد‬
‫ل صاحبًا‪...‬‬ ‫في يوم من اليام ما يحصده عشرة رجال‪ ،‬وفي أثناء حصاده كان ينشد قائل‪ :‬ا ّتخِذِ ا ّ‬
‫و َدعِ النّاسَ جانبا‪.‬‬
‫يروي بقية بن الوليد‪ ،‬يقول‪ :‬دعاني إبراهيم بن أدهم إلى طعامه‪ ،‬فأتيته‪ ،‬فجلس ثم قال‪ :‬كلوا باسم‬
‫ال‪ ،‬فلما أكلنا‪ ،‬قلت لرفيقه‪ :‬أخبرني عن أشد شيء م ّر بك منذ صحبته‪ ..‬قال‪ :‬كنّا صباحًا‪ ،‬فلم‬
‫يكن عندنا ما نفطر عليه‪ ،‬فأصبحنا‪ ،‬فقلت‪ :‬هل لك يا أبا إسحاق أن تأتي ال ّرسْتن (بلدة بالشام‬
‫كانت بين حماة وحمص) فنكري (فنؤجر) أنفسنا مع الحصّادين؟ قال‪ :‬نعم‪ ..‬قال‪ :‬فاكتراني رجل‬
‫بدرهم‪ ،‬فقلت‪ :‬وصاحبي؟ قال‪ :‬ل حاجة لي فيه‪ ،‬أراه ضعيفًا‪ ..‬فمازلت بالرجل حتى اكتراه بثلثي‬
‫درهم‪ ،‬فلما انتهينا‪ ،‬اشتريت من أجرتي طعامي وحاجتي‪ ،‬وتصدقت بالباقي‪ ،‬ثم قربت الزاد‪،‬‬
‫فبكى إبراهيم‪ ،‬وقال‪ :‬أما نحن فاستوفينا أجورنا‪ ،‬فليت شعري أوفينا صاحبه حقه أم ل؟ فغضبت‪،‬‬
‫فقال‪ :‬أتضمن لي أنّا وفيناه‪ ،‬فأخذت الطعام فتصدقت به‪.‬‬
‫وظل إبراهيم ينتقل من مكان إلى مكان‪ ،‬زاهدًا وعابدًا في حياته‪ ،‬فذهب إلى الشام وأقام في‬
‫البصرة وقتًا طويلً‪ ،‬حتى اشتهر بالتقوى والعبادة‪ ،‬في وقت كان الناس فيه ل يذكرون ال إل‬
‫قليل‪ ،‬ول يتعبدون إل وهم كسالي‪ ،‬فجاءه أهل البصرة يومًا وقالوا له‪ :‬يا إبراهيم‪ ..‬إن ال تعالى‬
‫يقول في كتابه‪{ :‬ادعوني أستجب لكم} (غافر‪ )60 :‬ونحن ندعو ال منذ وقت طويل فل يستجيب‬
‫لنا؟! فقال لهم إبراهيم بن أدهم‪ :‬يا أهل البصرة‪ ،‬ماتت قلوبكم في عشرة أشياء‪:‬‬
‫أولها‪ :‬عرفتم ال‪ ،‬ولم تؤدوا حقه ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬قرأتم كتاب ال‪ ،‬ولم تعملوا به ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ادعيتم حب رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتركتم سنته‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬ادعيتم عداوة الشيطان‪ ،‬ووافقتموه ‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬قلتم ‪ :‬نحب الجنة‪ ،‬ولم تعملوا لها ‪.‬‬
‫السادس‪ :‬قلتم ‪ :‬نخاف النار‪ ،‬ورهنتم أنفسكم بها‬
‫السابع‪ :‬قلتم‪ :‬إن الموت حق‪ ،‬ولم تستعدوا له ‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬اشتغلتم بعيوب إخوانكم‪ ،‬ونبذتم عيوبكم‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬أكلتم نعمة ربكم‪ ،‬ولم تشكروها ‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬دفنتم موتاكم‪ ،‬ولم تعتبروا بها ‪.‬‬
‫وكان إبراهيم كريمًا جوادًا‪ ،‬فالعسل والسمن غالبًا ما يكونان على مائدته يطعم من يأتيه‪ ،‬سمعه‬
‫أحد أصحابه ذات مرة وهو يقول‪( :‬ذهب السخاء والكرم والجود والمواساة‪ ،‬من لم يواس الناس‬
‫بماله وطعامه وشرابه فليواسهم ببسط الوجه والخلق الحسن‪ ..‬إياكم أن تكون أموالكم سببًا في أن‬
‫تتكبروا على فقرائكم‪ ،‬أو سببًا في أن ل تميلوا إلى ضعفائكم‪ ،‬وأل تبسطوا إلى مساكينكم)‪.‬‬
‫وكان إبراهيم بن أدهم شديد التواضع‪ ،‬ل يحب الكبر‪ ،‬كان يقول‪( :‬إياكم والكبر والعجاب‬
‫بالعمال‪ ،‬انظروا إلى من دونكم‪ ،‬ول تنظروا إلى من فوقكم‪ ،‬من ذلل نفسه؛ رفعه موله‪ ،‬ومن‬
‫خضع له أعزه‪،‬ومن اتقاه وقاه‪ ،‬ومن أطاعه أنجاه) ودخل إبراهيم بن أدهم المعركة مع الشيطان‬
‫ومع نفسه مصممًا على النتصار‪ ،‬وسهر الليالي متعبدا ضارعًا باكيًا إلى ال يرجو مغفرته‬
‫ورحمته‪ ،‬وكان مستجاب الدعاء‪.‬‬
‫ذات يوم كان في سفينة مع أصحابه‪ ،‬فهاجت الرياح‪ ،‬واضطربت‬
‫السفينة‪ ،‬فبكوا‪ ،‬فقال إبراهيم ‪ :‬يا حي حين ل حي‪ ،‬ويا حي قبل كل حي‪ ،‬ويا حي بعد كل حي‪ ،‬يا‬
‫حي‪ ،‬يا قيوم‪ ،‬يا محسن يا ُمجْمل قد أريتنا قدرتك‪ ،‬فأرنا عفوك‪ ..‬وبدأت السفينة تهدأ‪ ،‬وظل‬
‫إبراهيم يدعو ربه ويكثر من الدعاء‪.‬‬
‫وكان أكثر دعائه‪( :‬اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك) وكان يقول‪:‬‬
‫(ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ول نسأل كشفه من ربنا) وقال‪( :‬كل سلطان ل يكون عادلً فهو‬
‫ل لغير ال‪ ،‬فهو والكلب‬ ‫واللص سواء‪ ،‬وكل عالم ل يكون تقيّا فهو والذئب سواء‪ ،‬وكل من ذ ّ‬
‫سواء) وكان يقول لصحابه إذا اجتمعوا‪( :‬ما على أحدكم إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول‪ :‬اللهم‬
‫احرسنا بعينك التي ل تنام‪ ،‬واحفظنا بركنك الذي ل يرام‪ ،‬وارحمنا بقدرتك علينا‪ ،‬ول نهلك‬
‫وأنت الرجاء)‪.‬‬
‫وكان إبراهيم راضيًا بحالة الزهد القاسية‪ ،‬وظل يكثر من الصوم والصلة ويعطف على الفقراء‬
‫والمساكين إلى أن مات رضوان ال عليه سنة ‪ 162‬هـ‪.‬‬

‫ل اله إل أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‬


‫ابن تيمية‬

‫(حبسي خلوة‪ ،‬وقتلي شهادة‪ ،‬ونفيي سياحة) رحمك ال يا شيخ السلم !!‬
‫سقطت (بغداد) في يد التتار‪ ،‬فأخذوا يخربون البلد‪ ،‬ويأسرون العباد‪ ،‬والناس يفرون من‬
‫أمامهم‪ ،‬وقد ساد الناس ذعر شديد‪ ،‬وفي هذا الوقت العصيب وُلِد‬
‫(تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية) في (حران) بالغرب من دمشق في‬
‫يوم الثنين ‪ 10‬ربيع الول ‪661‬هـ الموافق ‪ 12‬يناير ‪1263‬م‪ ،‬بعد سقوط بغداد في أيدي‬
‫التتار بثلث سنوات‪.‬‬
‫وخوفًا من بطش التتار انتقل به والده إلى (دمشق) وكانت مليئة بالعلماء‬
‫والمدارس‪ ،‬فأخذ يتلقى العلم على علمائها وشيوخها حتى وصل عدد شيوخه إلى (‪ )200‬شيخ‪،‬‬
‫وتفوق (ابن تيمية) في دراسة الحديث والفقه والخط والحساب والتفسير وسنه ل تتجاوز عشر‬
‫سنوات‪ ،‬فقد كان الطفل الصغير (ابن تيمية) سريع الحفظ‪ ،‬قوي الذاكرة‪ ،‬حتى أدهش أساتذته‬
‫وشيوخه من شدة ذكائه‪.‬‬
‫ولم يكن الطفل الصغير (ابن تيمية) كغيره من الطفال يلعب ويلهو‪ ،‬بل كان يسارع إلى مجالس‬
‫العلماء يستمع إليهم‪ ،‬ويستفيد منهم‪ ،‬ولما بلغ السابعة عشرة من عمره بدأ في التأليف والفتاء‪،‬‬
‫فاتسعت شهرته وذاع صيته‪ ،‬ولما توفي والده الذي كان من كبار الفقهاء في الفقه الحنبلي؛ تولى‬
‫التدريس بدلً منه‪.‬‬
‫سنّة حتى سمي‬ ‫كان المام (ابن تيمية) جريئًا في إظهار رأيه‪ ،‬مدافعًا عن ال ّ‬
‫بـ(محيي السنة)‪ ..‬عاش ابن تيمية فترة صباه أيام حكم الملك الظاهر بيبرس لمصر والشام الذي‬
‫عُني بالجهاد في سبيل ال‪ ،‬فوقف (ابن تيمية) معه ثم مع السلطان قلوون‪ ،‬وجاهد بسيفه ضد‬
‫التتار الذين هجموا على البلد‪ ،‬وذهب على رأس وفد من العلماء وقابل (قازان) ملك التتار‪،‬‬
‫وأخذ يخوفه مرة ويقنعه مرة أخرى حتى توقف زحف التتار على دمشق‪ ،‬وأطلق سراح‬
‫السرى‪.‬‬
‫وكان ابن تيمية قوي اليمان‪ ،‬فصيح اللسان‪ ،‬شجاع القلب‪ ،‬غزير العلم‪ ،‬وكان وحده قوة عظمى‬
‫يحسب لها العداء ألف حساب‪ ،‬فازداد الناس تعلقًا به‪ ،‬والتفافًا حوله‪ ،‬وظل ابن تيمية يقضي‬
‫وقته بين التدريس في المساجد‪ ،‬وتبصير الناس بأمور دينهم‪ ،‬وبيان ما أحل ال وحرم‪ ،‬والدفاع‬
‫عن سنة الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ولكن أعداءه ومنافسيه كانوا له بالمرصاد‪ ،‬فأوقعوا بينه وبين سلطان‬
‫مصر والشام (ركن الدين بيبرس الجاشنكير) فنقل إلى مصر وتمت محاكمته بحضور القضاة‬
‫وكبار رجال الدولة‪ ،‬فحكموا عليه بالحبس سنة ونصف في القلعة‪ ،‬ثم أخرجوه من السجن‪،‬‬
‫وعقدوا جلسة مناظرة بينه وبين منافسيه وخصومه‪ ،‬فكسب (ابن تيمية) المناظرة‪ ،‬ورغم ذلك لم‬
‫يتركه الخصوم فنُفِي إلى الشام‪ ،‬ثم عاد مرة أخرى إلى مصر وحبس‪ ،‬ثم نقل إلى السكندرية‬
‫حيث حبس هناك ثمانية أشهر‪.‬‬
‫واستمرت محنة (ابن تيمية) واضطهاده إلى أن عاد إلى القاهرة حيث قرر السلطان الملك‬
‫(الناصر محمد بن قلوون) براءته من التهم الموجهة إليه‪ ،‬وأعطاه الحق في عقاب خصومه‬
‫الذين كانوا السبب في عذابه واضطهاده‪ ،‬لكن المام (ابن تيمية) فضّل أن يعفو عنهم !! وهكذا‬
‫تكون شيم الكرام‪.‬‬
‫وظل (ابن تيمية) في القاهرة ينشر العلم‪ ،‬ويفسر القرآن الكريم‪ ،‬ويدعو المسلمين إلى التمسك‬
‫بكتاب ال وسنة رسوله‪ ،‬ثم رحل إلى (دمشق) بعد أن غاب عنها سبع سنين‪ ،‬وخلل وجوده‬
‫هناك أفتى في مسألة‪ ،‬فأمره السلطان بأن يغير رأيه فيها‪ ،‬لكنه لم يهتم بأوامر السلطان وتمسك‬
‫برأيه وقال‪( :‬ل يسعني كتمان العلم) فقبضوا عليه وحبسوه ستة أشهر‪ ،‬ثم خرج من سجنه‪،‬‬
‫ورجع يفتي بما يراه مطابقًا لكتاب ال وسنة رسوله صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫لكن خصومه انتهزوا فرصة إفتائه في مسألة شد الرحال إلى قبور النبياء‬
‫والصالحين‪ ،‬فقد كان (ابن تيمية) يرى أن تلك الزيارة ليست واجبة على‬
‫المسلمين‪ ،‬فشنّعوا عليه حتى حبس هو وأخوه الذي كان يخدمه‪ ،‬ورغم ذلك لم ينقطع عن التأليف‬
‫والكتابة‪ ،‬لكنهم منعوه من ذلك‪ ،‬فأرادوا كتمان صوت علمه‬
‫أيضًا‪ ،‬فأخرجوا ما عنده من الحبر والورق‪ ،‬فلم تلن عزيمته ولم تضعف همته‬
‫وتحداهم‪ ،‬فكان يكتب بالفحم على أوراق مبعثرة هنا وهناك‪ ،‬وكان من أقواله (حبسي خلوة‪،‬‬
‫وقتلي شهادة‪ ،‬ونفيي سياحة)‪.‬‬
‫وقد توفي (ابن تيمية) عام ‪728‬هـ وهو على حاله صابرًا مجاهدًا‪ ،‬مشتغلً‬
‫بالعلم‪ ،‬وحضر جنازته أكثر من خمسمائة ألف مسلم‪ ،‬وله مؤلفات كثيرة تجاوزت ثلثمائة مجلد‬
‫أغلبها في الفقه وأصوله والتفسير‪ ،‬ومن أهم كتبه (منهاج السنة)‬
‫و(درء تعارض العقل والنقل) و(اقتضاء الصراط المستقيم) و(الفرقان بين أولياء الرحمن‬
‫وأولياء الشيطان) و(الصارم المسلول على شاتم الرسول) و(الفتاوى الكبرى) و(مجموع‬
‫الفتاوى) و(السياسة الشرعية في صلح الراعي والرعية)‪.‬‬
‫أبو حنيفة النعمان‬

‫كان كثير العبادة‪ ،‬ل ينام الليل إل قليل؛ حتى سموه (الوتد) لكثرة صلته‪ ،‬يبكي حتى يسمع‬
‫جيرانه بكاءه فيشفقون عليه مما هو فيه من خوف ووجل من ال!!‬
‫وأبوه (ثابت) كان تاجرًا غنيّا أسلم فحسن إسلمه‪ ،‬قيل‪ :‬إنه التقى بالمام‬
‫على بن أبي طالب ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬فدعا له المام ولذريته بالخير‬
‫والبركة‪ ،‬واستجاب ال الدعاء‪ ،‬ورزق ال ثابتًا بطفل أسماه النعمان وكناه‬
‫(أبا حنيفة النعمان بن ثابت) وكانت ولدته سنة ثمانين للهجرة بمدينة الكوفة‪.‬‬
‫نشأ أبو حنيفة في مدينة الكوفة‪ ،‬فوجد الحلقات العلمية منتشرة في كل مكان‪ ،‬ورأى طلب العلم‬
‫يتعلمون ويجتهدون في الدراسة؛ فتلقى العلم على يد شيوخ وأساتذة كبار‪ ،‬منهم‪ :‬فقيه الكوفة‬
‫(حماد بن أبي سليمان) والمام (جعفر الصادق) و(عطاء) و(الزهري) و(قتادة)‪ ..‬وغيرهم‪،‬‬
‫وكان(حماد) من أكثر شيوخه الذين يحبهم؛ فكان أبو حنيفة يحفظ أقواله ويرددها‪ ،‬وأعجب حماد‬
‫هو الخر بتلميذه (أبي حنيفة) حتى قال لمن حوله‪ :‬ل يجلس في صدر الحلقة بجواري غير أبي‬
‫حنيفة‪.‬‬
‫وبعد موت حماد تولى ابن له اسمه إسماعيل حلقة الدرس بدل من أبيه‪ ،‬لكنه ترك مجلس الفقه‬
‫وانتقل إلى النحو لحبه له‪ ،‬فجاء الناس إلى (أبي حنيفة) يطلبون منه أن يجلس إليهم ويعلمهم‬
‫أمور دينهم؛ فقبل أبو حنيفة‪ ،‬وأخذ يدرس للناس حتى اشتهر فقهه بين البسطاء والمراء‪ ،‬لكنه لم‬
‫ينْسَ فضل شيخه وأستاذه (حماد) بل ظل يذكره بالخير‪ ،‬ويدعو له حتى قال أبو حنيفة‪( :‬ما‬
‫ت لشيخي (حماد) ولكل من تعلمتُ منه علمًا أو علمته)‪.‬‬ ‫صليتُ قط إل ودعو ُ‬
‫وكان أبو حنيفة يهتم بملبسه ومظهره‪ ،‬ويكثر التعطر‪ ،‬ويُرى وقورًا حليمًا‪ ،‬فهو الذي يقول‪:‬‬
‫(اللهم من ضاق بنا صدره‪ ،‬فإن قلوبنا قد اتسعت له) ولقد سبه أحد الناس بقوله‪ :‬يا مبتدع‪ ،‬يا‬
‫زنديق‪ ،‬فردّ عليه بقوله‪ :‬غفر ال لك‪ ،‬ال يعلم مني خلف‬
‫ذلك‪ ،‬وأني ما عدلت به (أي ما أشركت به أحدًا) منذ عرفته‪ ،‬ول أرجو إل‬
‫عفوه‪ ،‬ول أخاف إل عقابه‪.‬‬
‫وكان أبو حنيفة كريمًا واسع الكرم‪ ،‬وتاجرًا أمينًا ماهرًا‪ ،‬ظل يعمل بالتجارة طوال حياته‪ ،‬وكان‬
‫له دكان معروف في (الكوفة) كان أبو حنيفة ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬يحب العمل حتى ينفق على نفسه‪،‬‬
‫فكان يبيع الخز (وهو نسيج من الصوف)‪.‬‬
‫سمع أبو حنيفة رجلً يقول لخر‪ :‬هذا أبو حنيفة ل ينام الليل؛ فقال‪ :‬وال ل يتحدث عني بما لم‬
‫أفعل؛ فكان يحيي الليل صلة وتضرعًا‪ ،‬فكان ورعًا‪ ،‬ول يحدث بالحديث الذي يحفظه‪ ،‬ول‬
‫يحدث بما ل يحفظ‪ ،‬وكان يتورع عن القسم خشية الهلك‪ ،‬حتى إنه جعل على نفسه إن حلف‬
‫بال صادقًا أن يتصدق بدينار‪.‬‬
‫ل قال له‪ :‬اتق ال‪،‬‬‫وكان واسع الصدر هادئ الطبع في حديثه مع الناس‪ ،‬فلقد روي أن رج ً‬
‫فانتفض‪ ،‬وطأطأ رأسه‪ ،‬وأطرق‪ ..‬وقال له‪ :‬يا أخي جزاك ال خيرًا‪ ،‬ما أحوج الناس في كل‬
‫وقت إلى من يذكرهم ال تعالى‪ ،‬وكان يخاف عاقبة الظلم؛ لذا رفض تولي القضاء للخليفة‬
‫المنصور العباسي‪.‬‬
‫ومات سنة ‪150‬هـ‪ ،‬وصلى عليه خمسون ألف رجل‪ ،‬ودفن في بغداد‪ ،‬ويقال إنه مات في نفس‬
‫الليلة التي ولد فيها المام الشافعي‪.‬‬
‫وأبو حنيفة هو مؤسس المذهب الحنفي أحد المذاهب الفقهية الربعة‪ ،‬وقد انتشر مذهبه في‬
‫العراق والهند وبلد المشرق‪ ،‬يقول عنه الشافعي‪( :‬الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة) وقال‬
‫عنه النضر بن شميل‪ :‬كان الناس نيامًا في الفقه حتى أيقظهم‬
‫أبو حنيفة‪ ،‬وقيل‪ :‬لو وزن علم المام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح علمه‬
‫عليهم‪ ،‬وقال عنه ابن المبارك‪( :‬ما رأيت في الفقه مثل أبي حنيفة) وقال عنه‬
‫يزيد بن هارون‪( :‬ما رأيت أحدًا أحلم من أبي حنيفة)‪.‬‬

‫أبو ذر الغفاري‬

‫المجاهر بالحق‬

‫كان أبو ذر الغفاري (رضي ال عنه) من الرجال الذين أحبهم رسول ال (صلى ال عليه‬
‫وسلم) ووصفه بصفتين التصقا به وأصبحا يوجهانه في المواقف المختلفة ‪ ،‬وهما الصدق‬
‫والوحدة والتفرد ‪ ،‬ولقد دفع الصدق أبا ذر لن يكون من أكثر الصحابة مجاهرة بالحق مهما‬
‫عرضه ذلك للذى فكان من القلئل الذين أعلنوا إسلمهم في قريش ‪ ،‬أما الوحدة والتفرد‬
‫فقد قال عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم (رحم ال أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده‬
‫ويبعث يوم القيامة وحده)‪.‬‬

‫من هو أبو ذر؟!‬

‫هو أبو ذر جندب بن جنادة كان طوال آدم وكان يتعبد قبل مبعث رسول ال وكان شجاعا‬
‫ينفرد وحده فيقطع الطريق ويغير على الناس كأنه السبع‪.‬‬

‫إسلمه‬

‫أسلم بمكة قديما وقال كنت في السلم رابعا ورجع إلى بلد قومه فأقام بها حتى مضت بدر‬
‫وأحد والخندق ثم قدم المدينة‪.‬‬

‫ويروي أبو ذر قصة إسلمه في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس(رضي ال‬
‫عنه)قال‪ :‬أل أخبركم بإسلم أبي ذر قال‪ :‬قلنا بلى‪ .‬قال‪:‬‬

‫قال أبو ذر كنت رجل من غفار فبلغنا أن رجل قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لخي‬
‫انطلق إلى هذا الرجل كلمه واتني بخبره فانطلق فلقيه ثم رجع فقلت ما عندك فقال وال لقد‬
‫رأيت رجل يأمر بالخير وينهى عن الشر فقلت له‪ :‬لم تشفني من الخبر فأخذت جرابا وعصا‬
‫ثم أقبلت إلى مكة فجعلت ل أعرفه وأكره أن أسأل عنه وأشرب من ماء زمزم وأكون في‬
‫المسجد قال فمر بي علي فقال كأن الرجل غريب قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪ .‬قال فانطلق إلى المنزل قال‬
‫فانطلقت معه ل يسألني عن شيء ول أخبره فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لسأل عنه‪،‬‬
‫وليس أحد يخبرني عنه بشيء‪.‬‬

‫قال فمر بي علي فقال‪ :‬أما آن للرجل أن يعرف منزله بعد‪.‬‬

‫قال‪ :‬قلت ل‪.‬‬

‫قال‪ :‬انطلق معي‬

‫قال‪ :‬فقال ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة‬


‫قال‪ :‬قلت له إن كتمت علي أخبرتك‬

‫قال‪ :‬فإني أفعل‪ ،‬قال‪ :‬قلت له بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي فأرسلت أخي‬
‫ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر فأردت أن ألقاه‪.‬‬

‫فقال له‪ :‬أما إنك قد رشدت هذا وجهي إليه فاتبعني ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحدا‬
‫أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت فمضى ومضيت معه حتى دخل‬
‫ودخلت معه على النبي (صلى ال عليه وسلم) فقلت له‪ :‬اعرض علي السلم فعرضه‬
‫فأسلمت مكاني فقال لي يا أبا ذر اكتم هذا المر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل‬
‫فقلت والذي بعثك بالحق لصرخن بها بين أظهرهم فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال يا‬
‫معشر قريش إني أشهد أن ل إله إل ال وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬فقالوا قوموا إلى‬
‫هذا الصابئ فقاموا فضربت لموت‪ ،‬فأدركني العباس فأكب علي ثم أقبل عليهم فقال‪ :‬ويلكم‬
‫تقتلون رجل من غفار ومتجركم وممركم على غفار فأقلعوا عني فلما أن أصبحت الغد رجعت‬
‫فقلت مثل ما قلت بالمس فقالوا قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثل ما صنع بالمس‬
‫وأدركني العباس فأكب علي وقال مثل مقالته بالمس قال فكان هذا أول إسلم أبي ذر رحمه‬
‫ال‪.‬‬

‫مناقبه‬

‫وردت أحاديث في كتب الصحاح في فضل أبي ذر ومناقبه ومنها‪:‬‬

‫عن أبي حرب بن أبي السود قال سمعت عبد ال بن عمر قال سمعت رسول ال يقول "ما‬
‫أقلت الغبراء ول أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر" رواه المام أحمد‬

‫وعن الحارث بن يزيد الحضرمي عن ابن حجيرة الكبر "عن أبي ذر قال قلت يا رسول ال‬
‫أل تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم‬
‫القيامة خزي وندامة إل من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" (مسلم)‬

‫وعن ابن بريدة عن أبيه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم "إن ال أمرني بحب أربعة‬
‫وأخبرني أنه يحبهم قيل يا رسول ال سمهم لنا قال علي منهم يقول ذلك ثلثا وأبو ذر‬
‫والمقداد وسلمان أمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبهم" (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن‬
‫غريب ل نعرفه إل من حديث شريك)‬
‫وعن المعرور بن سويد قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلمه حلة فسألته عن‬
‫ذلك فقال إني ساببت رجل فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى ال عليه وسلم "يا أبا ذر أعيرته‬
‫بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم ال تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده‬
‫فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ول تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم"(مسلم)‬

‫وعن الحنف بن قيس قال كنت بالمدينة فإذا أنا برجل يفر الناس منه حين يرونه قال قلت‬
‫من أنت قال أنا أبو ذر صاحب رسول ال (صلى ال عليه وسلم) قال قلت ما يفر الناس قال‬
‫إني أنهاهم عن الكنوز بالذي كان ينهاهم عنه رسول ال (صلى ال عليه وسلم)‪.‬‬

‫أبو موسى الشعري‬

‫رقيق القلب والمشاعر‬

‫وصفه رسول ال (صلى ال عليه وسلم ) ووصف قومه بأنهم أهل رقة في القلوب وعذوبة‬
‫في الصوت حتى إن رسول ال (صلى ال عليه وسلم ) كان يتأثر بقراءته للقرآن ويقول له‬
‫"لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" إنه الصحابي الجليل أبو موسى الشعري ‪.‬‬

‫وا سمه ع بد ال بن ق يس بن سليم أ سلم بم كة وها جر إلى أرض الحب شة ثم قدم مع أ هل‬
‫ال سفينتين ورسول ال بخيبر‪ .‬وأرسله رسول ال (صلى ال عليه وسلم) مع معاذ بن جبل‬
‫إلى الي من ‪ ،‬روي عن أ بي بردة عن أب يه عن جده أن ال نبي ( صلى ال عل يه و سلم) ب عث‬
‫معاذا وأبا موسى إلى اليمن قال يسرا ول تعسرا وبشرا ول تنفرا وتطاوعا ول تختلفا ‪.‬‬

‫مناقبه وفضائله‬

‫قال أبو بردة عن أبي موسى قال النبي (صلى ال عليه وسلم) إني لعرف أصوات رفقة‬
‫الشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن‬
‫كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار ومنهم حكيم إذا لقي الخيل أو قال العدو قال لهم إن‬
‫أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم‬
‫وقد صح من حديث أبي موسى قال‪ :‬قال رسول ال‪ :‬لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة‬
‫لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود‪ ،‬فقلت يا رسول ال‪ ،‬لو علمت أنك تسمع قراءتي‬
‫لحبرته لك تحبيرًا‪.‬‬

‫حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا مالك عن ابن بريدة عن أبيه قال خرج بريدة عشاء فلقيه النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت رجل يقرأ فقال النبي (صلى ال‬
‫عليه وسلم) تراه مرائيا فأسكت بريدة فإذا رجل يدعو فقال اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك‬
‫أنت ال الذي ل إله إل أنت الحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال‬
‫النبي (صلى ال عليه وسلم) والذي نفس محمد بيده لقد سأل ال باسمه العظم الذي إذا‬
‫سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب قال فلما كان من القابلة خرج بريدة عشاء فلقيه النبي‬
‫(صلى ال عليه وسلم) فأخذ بيده فأدخله المسجد فإذا صوت الرجل يقرأ فقال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم أتقول هو مراء؟! فقال بريدة أتقوله مراء يا رسول ال فقال النبي (صلى ال‬
‫عليه وسلم) ل بل مؤمن منيب ل بل مؤمن منيب‪ .‬فإذا الشعري يقرأ بصوت له في جانب‬
‫المسجد فقال رسول ال (صلى ال عليه وسلم) إن الشعري أو إن عبد ال بن قيس أعطي‬
‫مزمارا من مزامير داود فقلت أل أخبره يا رسول ال قال بلى فأخبره فأخبرته فقال أنت لي‬
‫صديق أخبرتني عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بحديث‪.‬‬

‫وفي الصحيحين من حديث أبي موسى قال‪ :‬خرجنا مع رسول ال في غزاة ونحن ستة نفر‬
‫على بعير نعتقبه قال‪ :‬فنقبت أقدامنا ونقبت قدمي وسقطت أظفاري‪ ،‬فكنا نلف على أرجلنا‬
‫الخرق فسميت غزاة ذات الرقاع لما كنا نعصب على أرجلنا من الخرق‪ .‬قال أبو بريدة فحدث‬
‫أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬ما كنت أصنع بأن أذكره‪ ،‬قال‪ :‬كأنه كره أن‬
‫يكون شيئًا من عمله أفشاه‪.‬‬

‫وعن أبي سلمة قال كان عمر بن الخطاب يقول لبي موسى‪ :‬ذكرنا ربنا تعالى‪ ،‬فيقرأ (أي‬
‫القرآن)‪.‬‬

‫وعن أبي عثمان النهدي قال‪ :‬صلى بنا أبو موسى الشعري صلة الصبح فما سمعت صوت‬
‫صنج ول بربط (من آلت العزف) كان أحسن صوتًا منه‪.‬‬
‫من أقواله رضى ال عنه‬

‫* وعن أبي كبشة السدوسي قال‪ :‬خطبنا أبو موسى الشعري فقال‪ :‬إن الجليس الصالح خير‬
‫من الوحدة‪ ،‬والوحدة خير من الجليس السوء‪ ،‬ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب العطر إل‬
‫يحذك يعبق بك من ريحه‪ ،‬أل وإن مثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إل يحرق ثيابك‬
‫يعبق بك من ريحه‪ ،‬أل وإنما سمي القلب من تقلبه‪ ،‬وإن مثل القلب كمثل ريشة بأرض‬
‫فضاء تضربها الريح ظهرًا لبطن‪ ،‬أل وإن من ورائكم فتنًا كقطع الليل المظلم‪ ،‬يصبح الرجل‬
‫فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا‪ ،‬والقاعد فيها خير من القائم‪ ،‬والقائم خير من الماشي‪ ،‬والماشي‬
‫خير من الراكب‪ ،‬قالوا‪ :‬فما تأمرنا؟ قال‪ :‬كونوا أحلس البيوت‪.‬‬

‫* وعن أبي كنانة عن أبي موسى الشعري أنه جمع الذين قرأوا القرآن فإذا هم قريب من‬
‫ثلثمائة فعظم القرآن وقال‪ :‬إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا وكائن عليكم وزرًا فاتبعوا القرآن‬
‫ول يتبعنكم القرآن‪ ،‬فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة‪ ،‬ومن تبعه القرآن زج‬
‫في قفاه فقذفه في النار‪.‬‬

‫* وعن أبي مجلز قال‪ :‬قال أبو موسى‪ :‬إني لغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى‬
‫آخذ ثوبي حياء من ربي عز وجل‪.‬‬

‫* وعن قسامة بن زهير قال‪ :‬خطبنا أبو موسى فقال‪ :‬أيها الناس‪ ،‬ابكوا فإن لم تبكوا‬
‫فتباكوا‪ ،‬فإن أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع‪ ،‬ثم يبكون الدماء حتى لو أرسلت فيها‬
‫السفن لجرت‪.‬‬

‫رواهما المام أحمد رحمه ال‪.‬‬

‫* وعن أبي بردة عن أبي موسى قال‪ :‬خرجنا غازين في البحر والريح لنا طيبة والشراع لنا‬
‫مرفوع‪ ،‬فسمعنا مناديًا ينادي يا أهل السفينة قفوا أخبركم حتى والى بين سبعة أصوات‪ ،‬قال‬
‫أبو موسى‪ :‬فقمت على صدر السفينة فقلت‪ :‬من أنت ومن أين أنت أو ما ترى أين نحن وهل‬
‫نستطيع وقوفًا؟ قال فأجابني الصوت‪ :‬أل أخبركم بقضاء قضاه ال على نفسه‪ ،‬قال‪ :‬قلت بلى‬
‫أخبرنا‪ ،‬قال‪ :‬فإن ال قضى على نفسه أنه من عطش نفسه ل في يوم حار كان حقّا على ال‬
‫أن يرويه يوم القيامة‪ ،‬قال فكان أبو موسى يتوخى ذلك اليوم الحار الشديد الحر الذي يكاد‬
‫ينسلخ فيه النسان فيصومه‪.‬‬
‫* وعن أبي إدريس قال‪ :‬صام أبو موسى حتى عاد كأنه خلل‪ ،‬فقيل له لو أجممت نفسك‬
‫فقال‪ :‬هيهات‪ ،‬إنما يسبق من الخيل المضمرة‪ ،‬قال وربما خرج من منزله فيقول لمرأته‪:‬‬
‫شدي رحلك فليس على جسر جهنم معبر‪.‬‬

‫* حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس قال‪ :‬قال رسول ال (صلى ال عليه وسلم) يقدم‬
‫عليكم أقوام هم أرق منكم قلوبا‪ .‬قال فقدم الشعريون فيهم أبو موسى الشعري فلما دنوا من‬
‫المدينة كانوا يرتجزون يقولون غدا نلقى الحبه محمدا وحزبه ‪.‬‬

‫* حدثنا يحيى بن بشر حدثنا روح حدثنا عوف عن معاوية بن قرة قال حدثني أبو بردة بن‬
‫أبي موسى الشعري قال قال لي عبد ال بن عمر هل تدري ما قال أبي لبيك‪ .‬قال قلت ل‬
‫قال فإن أبي قال لبيك يا أبا موسى هل يسرك إسلمنا مع رسول ال (صلى ال عليه وسلم)‬
‫وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافا رأسا‬
‫برأس فقال أبي ل وال قد جاهدنا بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم وصلينا وصمنا‬
‫وعملنا خيرا كثيرا وأسلم على أيدينا بشر كثير وإنا لنرجو ذلك فقال أبي لكني أنا والذي‬
‫نفس عمر بيده لوددت أن لو نجونا منه كفافا رأسا برأس فقلت إن أباك وال خير من أبي‬

‫دعاء النبي( صلى ال عليه وسلم) له‬

‫روي عن أبي بردة عن أبيه قال لما فرغ النبي (صلى ال عليه وسلم) من حنين بعث أبا‬
‫عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتل دريد وهزم ال أصحابه فقال أبو‬
‫موسى وبعثني مع أبي عامر قال فرمي أبو عامر في ركبته رماه رجل من بني جشم بسهم‬
‫فأثبته في ركبته فانتهيت إليه فقلت يا عم من رماك فأشار أبو عامر إلى أبي موسى فقال إن‬
‫ذاك قاتلي تراه ذلك الذي رماني قال أبو موسى فقصدت له فاعتمدته فلحقته فلما رآني ولى‬
‫عني ذاهبا فاتبعته وجعلت أقول له أل تستحيي ألست عربيا أل تثبت فكف فالتقيت أنا وهو‬
‫فاختلفنا أنا وهو ضربتين فضربته بالسيف فقتلته ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت إن ال قد‬
‫قتل صاحبك قال فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء فقال يا ابن أخي انطلق إلى رسول‬
‫ال (صلى ال عليه وسلم) فأقرئه مني السلم وقل له يقول لك أبو عامر استغفر لي قال‬
‫واستعملني أبو عامر على الناس ومكث يسيرا ثم إنه مات فلما رجعت إلى النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم دخلت عليه وهو في بيت على سرير مرمل وعليه فراش وقد أثر رمال السرير‬
‫بظهر رسول ال (صلى ال عليه وسلم) وجنبيه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقلت له‬
‫قال قل له يستغفر لي فدعا رسول ال (صلى ال عليه وسلم) بماء فتوضأ منه ثم رفع يديه‬
‫ثم قال اللهم اغفر لعبيد أبي عامر حتى رأيت بياض إبطيه ثم قال اللهم اجعله يوم القيامة‬
‫فوق كثير من خلقك أو من الناس فقلت ولي يا رسول ال فاستغفر فقال النبي (صلى ال‬
‫عليه وسلم) اللهم اغفر لعبد ال بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخل كريما قال أبو بردة‬
‫إحداهما لبي عامر والخرى لبي موسى(رواه مسلم)‬

‫وفاته‬

‫عن الضحاك بن عبد الرحمن قال‪ :‬دعا أبو موسى فتيانه حين حضرته الوفاة فقال‪ :‬اذهبوا‬
‫فاحفروا وأوسعوا وأعمقوا‪ ،‬فجاؤوا فقالوا قد حفرنا وأوسعنا وأعمقنا فقال‪ :‬وال إنها لحدى‬
‫المنزلتين إما ليوسعن علي قبري حتى يكون كل زاوية منه أربعين ذراعًا ثم ليفتحن لي باب‬
‫إلى الجنة فلنظرن إلى أزواجي ومنازلي وما أعد ال عز وجل لي من الكرامة ثم ليصيبني‬
‫من ريحها وروحها حتى أبعث‪ ،‬ولئن كانت الخرى ونعوذ بال منها ليضيقن علي قبري حتى‬
‫أكون في أضيق من القناة في الزج ثم ليفتحن لي باب من أبواب جهنم فلنظرن إلى سلسلي‬
‫‪.‬وأغللي وقرنائي ثم ليصيبني من سمومها وحميمها حتى أبعث‬

‫قال أصحاب السير‪ :‬توفي أبو موسى سنة اثنتين وخمسين وقيل اثنتين وأربعين وقيل أربع‬
‫وأربعين ودفن بمكة وقيل دفن بالثوية على ميلين من الكوفة‪.‬‬

‫‪------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫أخي القارئ انتبه جيدا إلى هذه الشخصية‬


‫أكثر السلطين الذين تمّ الفتراء عليهم زورًا وبهتانًا‪.‬‬

‫عبد الحميد الثاني‬

‫(لن يستطيعوا أخذ فلسطين إل عند تشريح جثتي وساعتها يأخذونها بل ثمن‪ ،‬أما وأنا على قيد‬
‫الحياة فل)‪.‬‬
‫في سنة ‪1258‬هـ‪1842-‬م ولد السلطان عبد الحميد ونشأ وترعرع في دار الخلفة العثمانية‬
‫التي كانت محط أنظار المسلمين‪ ،‬كانت لهم نعم العون والسند‪ ،‬يجتمعون تحت رايتها‪،‬‬
‫ويحتمون بها من شرور أعداء السلم‪.‬‬
‫ومرت اليام‪ ،‬وآن لـ(عبد الحميد الثاني) أن يتحمل المسئولية في وقت كانت تحيط فيه‬
‫الخطار بالدولة من كل جانب‪ ،‬بعد أن أصدر شيخ السلم في دار الخلفة العثمانية فتواه‬
‫التاريخية بعزل السلطان (مراد الخامس) وتعيين شقيقه الصغر‬
‫عبد الحميد الثاني خليفة على المسلمين‪.‬‬
‫وقبل أن يباشر السلطان مهامه الجديدة صلى ل تعالى ركعتين شكرًا في جامع‬
‫(أبي أيوب النصاري) وهناك تسلم من شيخ السلم سيف عمر بن الخطاب‬
‫‪-‬رضي ال عنه‪ -‬وهو سيف الخلفة‪ ،‬وبدأ موكب السلطان الجديد يسير في شوارع العاصمة‬
‫(استنبول)‪ ..‬تنثر الزهور‪ ،‬وتنشر الرياحين من شرفات المنازل ابتهاجًا بالسلطان الجديد‪ ،‬حتى‬
‫إذا مرّ الموكب بقبر والد السلطان ومقابر أجداده‬
‫الفاتحين‪ ،‬نزل السلطان عبد الحميد ليدعو لهم بالرحمة والمغفرة وفاء وعرفانًا‪.‬‬
‫وبدأ السلطان عبد الحميد الثاني بداية طيبة تدل على اعتزازه بدينه السلمي وفخره بتعاليمه‪،‬‬
‫فكان أول ما أصدره من قرارات أن أقرّ الدستور الذي يكفل المساواة بين جميع الناس من‬
‫خلل المجالس الشرعية‪ ،‬كما أصدر أوامره بحرية القضاء لتكون كلها نافذة من خلل النظام‬
‫السلمي للدولة‪ ،‬فظل السلم في عهده منبع القوانين ودستورها‪ ،‬كما عرف السلطان للعلماء‬
‫حقهم‪ ،‬فكان ل يقطع أمرًا دونهم‪ ،‬ويحرص على استشارتهم والخذ بآرائهم‪.‬‬
‫وقد حاول اليهود عن طريق زعيمهم الماكر (هرتزل) استمالة السلطان عبد الحميد الثاني‪،‬‬
‫حتى يسمح لهم بإقامة وطن لليهود في فلسطين (بيت المقدس)‪ ،‬فعرضوا عليه مبلغًا ضخمًا في‬
‫ذلك الزمان البعيد يقدر بثلثة مليين من الجنيهات بالضافة إلى دفع مبلغ كبير للدولة‬
‫العثمانية ‪-‬سنويّا‪ -‬مقابل أن يصدر السلطان عبد الحميد قرارًا يسمح فيه لليهود بالهجرة إلى‬
‫فلسطين والتوطن فيها‪ ،‬وهنا قال السلطان عبد الحميد قولته الخالدة التي سجلها التاريخ بمداد‬
‫من ذهب‪( :‬لست مستعدّا لن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلد‪ ،‬فهي ليست ملكي بل هي‬
‫ملك لشعبي‪ ،‬روي ترابها‬
‫بدمه‪ ،‬وليحتفظ اليهود بأموالهم‪ ،‬ولن يستطيعوا أخذ فلسطين إل عند تشريح‬
‫جثتي‪ ،‬وساعتها يأخذونها بل ثمن‪ ،‬أما وأنا على قيد الحياة‪ ..‬فل)‪.‬‬
‫واستمرت مكائد اليهود‪ ،‬فحاول هرتزل‪ ،‬أن يقدم عرضًا مغريّا جديدًا‬
‫للسلطان‪ ،‬فلقد كانت الدولة العثمانية مدينة لوروبا بمبلغ كبير من المال‪ ،‬وعرض اليهود تسديد‬
‫هذه الديون مقابل تحقيق طلبهم‪ ،‬ولكن السلطان كان أثبت جأشًا وأقوى عزيمة عندما قال‪( :‬إن‬
‫الديون ليست عارًا‪ ،‬ولكن العار أن أبيع أرضًا‬
‫لليهود‪ ،‬فليحتفظ اليهود بأموالهم‪ ،‬فالدولة العثمانية ل يمكن أن تحتمي وراء حصون بنيت‬
‫بأموال أعداء المسلمين)‪.‬‬
‫واستمرت الدسائس والحيل الخبيثة‪ ،‬ففي عام ‪1902‬م طلب هرتزل من السلطان أن يسمح له‬
‫بإنشاء جامعة عبرية في فلسطين يديرها أساتذة من بني صهيون‪ ،‬فرفض السلطان هذا العرض‬
‫أيضًا‪ ،‬لنه يعلم أن هذه الجامعة سوف تكون بداية لحتلل الرض‪ ،‬فأنكر جميع رسائلهم‬
‫ورفض قبول هداياهم‪.‬‬
‫وعند ذلك عمل اليهود على تأليب أوروبا وروسيا ضد السلطان عبد الحميد‪ ،‬فقامت الثورات‬
‫على الحدود‪ ،‬وأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية‪ ،‬وتنكرت أوروبا للمعاهدات‬
‫المعقودة معها‪ ،‬فوقفت إلى جوار روسيا في حربها ضد السلطان‬
‫عبد الحميد‪.‬‬
‫وفي نفس العام ثار المسيحيون في (تكريت) بتحريض من البابا‪ ،‬وكان السلطان يحارب ومن‬
‫ورائه قلوب المسلمين تدعو له‪ ،‬ورغم هزيمته فإن القادة والجنود العثمانيين أظهروا شجاعة‬
‫فائقة شهد بها العداء الوربيون‪ ،‬ولكن لم تشغل هذه الحداث السلطان عبد الحميد عن‬
‫الصلحات الداخلية في شتى أنحاء الدول العثمانية؛ فنشر التعليم المدني بجميع مراحله‬
‫وأنواعه‪ ،‬وأنشأ جامعة (استنبول)‬
‫سنة ‪1885‬م والتي كانت تعرف أول باسم (دار الفنون) كما أنشأ دورًا للمعلمين ومعاهد فنية‬
‫ومدارس ابتدائية وثانوية مدنية‪ ،‬واهتم بالتعليم العسكري‪ ،‬وأنشأ المكتبات ومدرسة خاصة‬
‫لتخريج الدعاة‪.‬‬
‫كما توسع في إنشاء الخطوط الحديدية ليسهل الحج وذلك بتقصير مدة الرحلة وليجعله في‬
‫متناول الجميع‪ ،‬واستخدم البرق كوسيلة جديدة للمراسلة‪ ،‬وتبنى مشروع الجامعة السلمية‪،‬‬
‫وسار فيه سيرًا مباركًا‪ ،‬وعمل على إعادة الهيبة إلى الخلفة كما كانت في عهودها الولى‪،‬‬
‫وكان دائمًا يدعو المسلمين إلى التحاد‪ ،‬كما كان حريصًا كل الحرص على نشر هذا المر بين‬
‫المسلمين جميعًا في كل البلد السلمية‪.‬‬
‫لكن اليهود ظلوا يعملون ضده في الخفاء‪ ،‬فسلطوا عليه إعلمهم‪ ،‬واتهموه في حياته الخاصة‪،‬‬
‫وشهروا به وبأسرته‪ ،‬وساهموا في إنشاء جمعية (التحاد والترقي العثمانية) التي قامت بثورة‬
‫عسكرية استمرت عامًا كاملً من سنة ‪ 1908‬حتى سنة ‪ 1909‬ونجحت بعدها في سلب‬
‫الخلفة من السلطان عبد الحميد‪ ،‬وقررت نفيه إلى (سالونيك) في إبريل سنة ‪1909‬م‪.‬‬
‫وظل عبد الحميد الثاني في منفاه حتى لقي ربه سنة ‪1918‬م بعد أن أدار شئون الدولة العثمانية‬
‫لمدة أربعة وثلثين عامًا‪ ،‬فكان من أطول سلطين الدولة العثمانية‬
‫حكمًا‪ ،‬كما كان من أكثر السلطين الذين تمّ الفتراء عليهم زورًا وبهتانًا‪.‬‬

‫الحنف بن قيس‬
‫إمام في الحلم‬

‫ضرب به المثل في الحلم والورع كما ضرب المثل في الذكاء بالقاضي إياس فكانوا يقولون‪:‬‬
‫"في حلم أحنف وذكاء إياس" إنه الصحابي الجليل الحنف بن قيس‪ ،‬ولقد دعا له النبي (صلى‬
‫ال عليه وسلم) فقال "اللهم اغفر للحنف فكان الحنف يقول فما شيء أرجى عندي من‬
‫ذلك"‪.‬‬

‫نسبه‬

‫هو الحنف بن قيس ابن معاوية بن حصين المير الكبير العالم النبيل أبو بحر التميمي‬
‫اسمه ضحاك وقيل صخر وشهر بالحنف لحنف رجليه وهو العوج والميل‪ ،‬قال سليمان بن‬
‫أبي شيخ كان أحنف الرجلين جميعا ولم يكن له إل بيضة واحدة واسمه صخر بن قيس أحد‬
‫بني سعد وأمه باهلية فكانت ترقصه وتقول‪:‬‬

‫وال لول حنف برجله‪ ،‬وقلة أخافها من نسله‪ ،‬ما كان في فتيانكم من مثله‪.‬‬

‫فضله ومناقبه‬

‫كان سيد تميم‪ ،‬أسلم في حياة النبي (صلى ال عليه وسلم) ووفد على عمر‪.‬‬

‫حدث عن عمر وعلي وأبي ذر والعباس وابن مسعود وعثمان بن عفان وعدة‪ ،‬وعنه عمرو‬
‫بن جاوان والحسن البصري وعروة بن الزبير وطلق ابن حبيب وعبد ال بن عميرة ويزيد‬
‫بن الشخير وخليد العصري وآخرون وهو قليل الرواية‪.‬‬

‫قال ابن سعد‪ :‬كان ثقة مأمونا قليل الحديث وكان صديقا لمصعب ابن الزبير فوفد عليه إلى‬
‫الكوفة فمات عنده بالكوفة‪.‬‬

‫قال أبو أحمد الحاكم هو الذي فتح مدينة مرو الروذ وكان الحسن وابن سيرين في جيشه‬
‫ذاك‪.‬‬

‫وروي عن الحنف بن قيس قال بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان إذ لقيني رجل من‬
‫بني ليث فأخذ بيدي فقال أل أبشرك قلت بلى قال أما تذكر إذ بعثني رسول ال (صلى ال‬
‫عليه وسلم) إلى قومك بني سعد أدعوهم إلى السلم فجعلت أخبرهم وأعرض عليهم فقلت‬
‫إنه يدعو إلى خير وما أسمع إل حسنا فذكرت ذلك للنبي (صلى ال عليه وسلم) فقال "اللهم‬
‫اغفر للحنف فكان الحنف يقول فما شيء أرجى عندي من ذلك" رواه أحمد في مسنده‬

‫وروي عن الحنف أيضا أنه قدم على عمر بفتح تستر فقال قد فتح ال عليكم تستر وهي‬
‫من أرض البصرة فقال رجل من المهاجرين يا أمير المؤمنين إن هذا يعني الحنف الذي كف‬
‫عنا بني مرة حين بعثنا رسول ال في صدقاتهم وقد كانوا هموا بنا قال الحنف فحبسني‬
‫عمر عنده سنة يأتيني في كل يوم وليلة فل يأتيه عني إل ما يحب ثم دعاني فقال يا أحنف‬
‫هل تدري لم حبستك عندي قلت ل يا أمير المؤمنين قال إن رسول ال (صلى ال عليه‬
‫وسلم) حذرنا كل منافق عليم فخشيت أن تكون منهم فاحمد ال يا أحنف"‬

‫قال خليفة توجه ابن عامر إلى خراسان وعلى مقدمته الحنف فلقي أهل هراة فهزمهم‬
‫فافتتح ابن عامر أبرشهر صلحا ويقال عنوة وبعث الحنف في أربعة آلف فتجمعوا له مع‬
‫طوقان شاة فاقتتلوا قتال شديدا فهزم ال المشركين قال ابن سيرين كان الحنف يحمل‬
‫ويقول "إن على كل رئيس حقا أن يخضب القناة أو تندقا"‬

‫وقيل سار الحنف إلى بلخ فصالحوه على أربع مائة ألف ثم أتى خوارزم فلم يطقها فرجع‪.‬‬

‫وعن ابن إسحاق أن ابن عامر خرج من خراسان معتمرا قد أحرم منها وخلف على‬
‫خراسان الحنف وجمع أهل خراسان جمعا كبيرا وتجمعوا بمرو فالتقاهم الحنف فهزمهم‬
‫وكان ذلك الجمع لم يسمع بمثله‪.‬‬

‫قال ابن المبارك قيل للحنف بم سودوك قال لو عاب الناس الماء لم أشربه‪.‬‬

‫وقال خالد بن صفوان كان الحنف يفر من الشرف والشرف يتبعه وقيل للحنف إنك كبير‬
‫والصوم يضعفك قال اني أعده لسفر طويل‬

‫وقيل كانت عامة صلة الحنف بالليل وكان يضع أصبعه على المصباح ثم يقول حس ويقول‬
‫ما حملك يا أحنف على أن صنعت كذا يوم كذا‪.‬‬

‫وروي أبو الصفر أن الحنف استعمل على خراسان فأجنب في ليلة باردة فلم يوقظ غلمانه‬
‫وكسر ثلجا واغتسل‪.‬‬
‫وقال عبد ال بن بكر المزني عن مروان الصفر سمع الحنف يقول اللهم إن تغفر لي فأنت‬
‫أهل ذاك وإن تعذبني فأنا أهل ذاك‪.‬‬

‫قال مغيرة ذهبت عين الحنف فقال ذهبت من أربعين سنة ما شكوتها إلى أحد‪.‬‬

‫قال الحسن ذكروا عن معاوية شيئا فتكلموا والحنف ساكت فقال يا أبا بحر مالك ل تتكلم قال‬
‫أخشى ال إن كذبت وأخشاكم إن صدقت‪.‬‬

‫وعن الحنف عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر‪.‬‬

‫حلم الحنف‬

‫قيل عاشت بنو تميم بحلم الحنف أربعين سنة‪ ،‬وفيه قال الشاعر‪:‬‬

‫إذا البصار أبصرت ابن قيس*****ظللن مهابة منه خشوعا‪.‬‬

‫قال سليمان التيمي قال الحنف ثلث في ما أذكرهن إل لمعتبر ما أتيت باب سلطان إل أن‬
‫أدعى‪ ،‬ول دخلت بين اثنين حتى يدخلني بينهما‪ ،‬وما أذكر أحدا بعد أن يقوم من عندي إل‬
‫بخير‪.‬‬

‫وقال‪ :‬ما نازعني أحد إل أخذت أمري بأمور‪ :‬إن كان فوقي عرفت له قدره‪ ،‬وإن كان دوني‬
‫رفعت قدري عنه‪ ،‬وإن كان مثلي تفضلت عليه‪ ،‬وقال لست بحليم ولكني أتحالم‪.‬‬

‫وقيل إن رجل خاصم الحنف وقال لئن قلت واحدة لتسمعن عشرا فقال لكنك إن قلت عشرا‬
‫لم تسمع واحدة‪.‬‬

‫وقيل إن رجل قال للحنف بم سدت وأراد أن يعيبه قال الحنف بتركي ما ل يعنيني كما‬
‫عناك من أمري ما ل يعنيك‪.‬‬

‫وروي عن ذي الرمة قال شهدت الحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم في دم‪ ،‬فتكلم فيه وقال‬
‫احتكموا قالوا نحتكم ديتين قال‪ :‬ذاك لكم فلما سكتوا قال أنا أعطيكم ما سألتم‪ .‬فاسمعوا إن‬
‫ال قضى بدية واحدة وإن النبي (صلى ال عليه وسلم) قضى بدية واحدة وإن العرب تعاطى‬
‫بينها دية واحدة وأنتم اليوم تطالبون وأخشى أن تكونوا غدا مطلوبين فل ترضى الناس منكم‬
‫إل بمثل ما سننتم قالوا ردها إلى دية‪.‬‬
‫من كلمات الحنف‬

‫عن الحنف ثلثة ل ينتصفون من ثلثة شريف من دنيء وبر من فاجر وحليم من أحمق‪.‬‬

‫وقال من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما ل يعلمون‬

‫وسئل ما المروءة قال كتمان السر والبعد عن الشر والكامل من عدت سقطاته‪.‬‬

‫وعنه قال رأس الدب آلة المنطق ل خير في قول بل فعل ول في منظر بل مخبر ول في‬
‫مال بل جود ول في صديق بل وفاء ول في فقه بل ورع ول في صدقة إل بنية ول في حياة‬
‫إل بصحة وأمن والعتاب مفتاح التقالى والعتاب خير من الحقد‪.‬‬

‫ورأى الحنف في يد رجل درهما فقال لمن هذا قال لي قال ليس هو لك حتى تخرجه في‬
‫أجر أو اكتساب شكر وتمثل أنت للمال إذا أمسكته‪ ،‬وإذا أنفقته فالمال لك‪.‬‬

‫وقيل‪ :‬كان الحنف إذا أتاه رجل وسع له فإن لم يكن له سعة أراه كأنه يوسع له وعنه قال‬
‫جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه‪.‬‬

‫وقيل إنه كلم مصعبا في محبوسين قال أصلح ال المير إن كانوا حبسوا في باطل فالعدل‬
‫يسعهم وإن كانوا حبسوا في الحق فالعفو يسعهم‪.‬‬

‫وعنه قال‪ :‬ل ينبغي للمير الغضب لن الغضب في القدرة مفتاح السيف والندامة‪.‬‬

‫وعنه قال‪ :‬ل يتم أمر السلطان إل بالوزراء والعوان‪ ،‬ول ينفع الوزراء والعوان إل‬
‫بالمودة والنصيحة‪ ،‬ول تنفع المودة والنصيحة إل بالرأي والعفة‪.‬‬

‫مواقف من حياته‬

‫قيل كان زياد معظما للحنف فلما ولي بعده ابنه عبيد ال تغير أمر الحنف وقدم عليه من‬
‫هو دونه ثم وفد على معاوية في الشراف‪ .‬فقال لعبيد ال‪ :‬أدخلهم على قدر مراتبهم فأخر‬
‫الحنف‪ .‬فلما رآه معاوية أكرمه لمكان سيادته وقال إلي يا أبا بحر وأجلسه معه وأعرض‬
‫عنهم فأخذوا في شكر عبيد ال بن زياد وسكت الحنف‪ .‬فقال له لم ل تتكلم قال إن تكلمت‬
‫خالفتهم‪ .‬قال‪ :‬اشهدوا أني قد عزلت عبيد ال فلما خرجوا كان فيهم من يروم المارة ثم أتوا‬
‫معاوية بعد ثلث وذكر كل واحد شخصا وتنازعوا‪ .‬فقال معاوية‪ :‬ما تقول يا أبا بحر قال إن‬
‫وليت أحدا من أهل بيتك لم تجد مثل عبيد ال فقال قد أعدته قال فخل معاوية بعبيد ال‪،‬‬
‫وقال كيف ضيعت مثل هذا الرجل الذي عزلك وأعادك وهو ساكت فلما رجع عبيد ال جعل‬
‫الحنف صاحب سره‪.‬‬

‫عن أيوب عن محمد قال نبئت أن عمر ذكر بني تميم فذمهم فقام الحنف فقال‪ :‬يا أمير‬
‫المؤمنين ائذن لي‪ .‬قال تكلم قال إنك ذكرت بني تميم فعممتهم بالذم وإنما هم من الناس فيهم‬
‫الصالح والطالح فقال صدقت فقام الحتات وكان يناوئه فقال يا أمير المؤمنين ائذن لي فأتكلم‬
‫قال اجلس فقد كفاكم سيدكم الحنف‪.‬‬

‫قال الشعبي وفد أبو موسى الشعري وفدا من البصرة إلى عمر منهم الحنف بن قيس فتكلم‬
‫كل رجل في خاصة نفسه‪ .‬وكان الحنف في آخر القوم فحمد ال وأثنى عليه ثم قال أما بعد‬
‫يا أمير المؤمنين فإن أهل مصر نزلوا منازل فرعون وأصحابه وإن أهل الشام نزلوا منازل‬
‫قيصر وأصحابه وإن أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى ومصانعه في النهار والجنان‪ ،‬وفي‬
‫مثل عين البعير وكالحوار في السلى تأتيهم ثمارهم قبل أن تبلغ وإن أهل البصرة نزلوا في‬
‫أرض سبخة زعقة نشاشة ل يجف ترابها ول ينبت مرعاها وطرفها في بحرأجاج وطرف في‬
‫فلة ل يأتينا شيء إل في مثل مريء النعامة فارفع خسيستنا وانعش وكيستنا‪ ،‬وزد في‬
‫عيالنا عيال وفي رجالنا رجال‪ ،‬وصغر درهمنا وكبر قفيزنا ومر لنا بنهر نستعذب منه فقال‬
‫عمر عجزتم أن تكونوا مثل هذا‪ ،‬هذا وال السيد قال فما زلت أسمعها بعد‪.‬‬

‫وفاته‬

‫مات الحنف سنة ‪67‬هـ وقيل‪ :‬مات في إمرة مصعب بن الزبير على العراق رحمه ال‪.‬‬

‫عن عبد الرحمن بن عمارة بن عقبة قال حضرت جنازة الحنف بالكوفة فكنت فيمن نزل‬
‫قبره فلما سويته رأيته قد فسح له مد بصري فأخبرت بذلك أصحابي فلم يروا ما رأيت‪.‬‬

‫قال أبو عمرو بن العلء توفي الحنف في دار عبيد ال بن أبي غضنفر فلما دلي في حفرته‬
‫أقبلت بنت لوس والسعدي وهي على راحلتها عجوز فوقفت عليه وقالت من الموافى به‬
‫حفرته لوقت حمامه قيل لها الحنف بن قيس قالت وال لئن كنتم سبقتمونا إلى الستمتاع به‬
‫في حياته ل تسبقونا إلى الثناء عليه بعد وفاته ثم قالت ل درك من مجن في جنن ومدرج‬
‫في كفن وإنا ل وإنا إليه راجعون نسأل من ابتلنا بموتك وفجعنا بفقدك أن يوسع لك في‬
‫قبرك وأن يغفر لك يوم حشرك أيها الناس إن أولياء ال في بلده هم شهوده على عباده‬
‫وإنا لقائلون حقا ومثنون صدقا وهو أهل لحسن الثناء أما والذي كنت من أجله في عدة‬
‫ومن الحياة في مدة ومن المضمار إلى غاية ومن الثار إلى نهاية الذي رفع عملك عند‬
‫انقضاء أجلك لقد عشت مودودا حميدا ومت سعيدا فقيدا ولقد كنت عظيم الحلم فاضل السلم‬
‫رفيع العماد واري الزناد منير الحريم سليم الديم عظيم الرماد قريب البيت من الناد‪.‬‬

‫قال قرة بن خالد حدثنا أبو الضحاك انه أبصر مصعبا يمشي في جنازة الحنف بغير رداء‪.‬‬

‫المام البخاري‬

‫أمير أهل الحديث‬

‫المام الجليل والمحدث العظيم محمد بن إسماعيل البخاري أمير أهل الحديث وصاحب أصح‬
‫كتاب بعد كتاب ال تعالى‪ ،‬يقول البخاري‪ :‬صنفت الصحيح في ست عشرة سنة وجعلته حجة‬
‫فيما بيني وبين ال تعالى‪.‬‬

‫ولم يشهـد تاريـخ السـلم مثله فـي قوة الحفـظ ودقـة الروايـة والصـبر على البحـث مـع قلة‬
‫المكانات‪ ،‬حتى أصبح منارة في الحديث وفاق تلمذته وشيوخه على السواء‪.‬‬

‫ويقول عنه أحد العلماء‪ :‬ل أعلم أني رأيت مثله كأنه لم يخلق إل للحديث‪.‬‬

‫فمع سيرة البخاري ومواقف من حياته‪.‬‬

‫نسبه ومولده‬

‫هو أبو عبد ال محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري وكلمة بردزبه‬
‫تعني بلغة بخارى "الزراع"‬

‫أســلم جده "المغيرة" على يدي اليمان الجعفــي والي بخارى وكان مجوســيا وطلب والده‬
‫إ سماعيل بن إبراه يم العلم والت قى بعدد من كبار العلماء‪ ،‬وروى إ سحاق بن أح مد بن خلف‬
‫أنه سمع البخاري يقول سمع أبي من مالك بن أنس ورأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك‬
‫بكلتا يديه‪.‬‬

‫ولد أبو عبد ال في يوم الجمعة الرابع من شوال سنة أربع وتسعين‪.‬‬
‫ويروى أن محمد بن إسماعيل عمي في صغره فرأت والدته في المنام إبراهيم الخليل عليه‬
‫ال سلم فقال ل ها يا هذه قد رد ال على اب نك ب صره لكثرة بكائك أو كثرة دعائك شك البل خي‬
‫فأصبحت وقد رد ال عليه بصره‪.‬‬

‫قوة حفظه وذاكرته‬

‫ووهب ال للبخاري منذ طفولته قوة في الذكاء والحفظ من خلل ذاكرة قوية تحدى بها أقوى‬
‫الختبارات التي تعرض لها في عدة مواقف‪.‬‬

‫يقول محمد بن أبي حاتم‪ :‬قلت لبي عبد ال‪ :‬كيف كان بدء أمرك قال ألهمت حفظ الحديث‬
‫وأنا في الكتاب فقلت كم كان سنك فقال عشر سنين أو أقل ثم خرجت من الكتاب بعد العشر‬
‫فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس سفيان عن أبي الزبير عن‬
‫إبراه يم‪ ،‬فقلت له‪ :‬إن أ با الزب ير لم يرو عن إبراه يم فانتهر ني فقلت له ار جع إلى ال صل‪،‬‬
‫فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي‪ :‬كيف هو يا غلم؟ قلت‪:‬هو الزبير بن عدي عن إبراهيم‪.‬‬

‫فأخذ القلم مني وأحكم( أصلح) كتابه وقال‪ :‬صدقت‪.‬‬

‫فقيل للبخاري ابن كم كنت حين رددت عليه قال ابن إحدى عشرة سنة‪.‬‬

‫ولما بلغ البخاري ست عشرة سنة كان قد حفظ كتب ابن المبارك ووكيع‪.‬‬

‫وقال محمد بن أبي حا تم الوراق سمعت حاشد بن إ سماعيل وآخر يقولن كان أ بو عبد ال‬
‫البخاري يختلف مع نا إلى مشا يخ الب صرة و هو غلم فل يك تب ح تى أ تى على ذلك أيام فك نا‬
‫نقول له إ نك تختلف مع نا ول تك تب ف ما ت صنع فقال ل نا يو ما ب عد ستة ع شر يو ما إنك ما قد‬
‫أكثرتما على وألححتما فاعرضا على ما كتبتما فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة‬
‫عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه ثم قال أترون‬
‫أني أختلف هدرا وأضيع أيامي فعرفنا أنه ل يتقدمه أحد‪.‬‬

‫وقال ابن عدي حدثني محمد بن أحمد القومسي سمعت محمد ابن خميرويه سمعت محمد بن‬
‫إسماعيل يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح‬

‫قال وسمعت أبا بكر الكلواذاني يقول ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من‬
‫العلماء فيطلع عليه اطلعة فيحفظ عامة أطراف الحاديث بمرة‪.‬‬
‫طلبه للحديث‬

‫ر حل البخاري ب ين عدة بلدان طل با للحد يث الشر يف ولين هل من كبار علماء وشيوخ ع صره‬
‫في بخارى وغيرها‪.‬‬

‫وروي عن البخاري أ نه كان يقول ق بل مو ته‪ :‬كت بت عن ألف وثمان ين رجل ل يس في هم إل‬
‫صاحب حديث كانوا يقولون اليمان قول وعمل يزيد وينقص‪.‬‬

‫ونعود إلى البخاري في رحلته في طلب العلم ونبدأها من مسقط رأسه بخارى فقد سمع بها‬
‫من الجعفي المسندي ومحمد بن سلم البيكندي وجماعة ليسوا من كبار شيوخه ثم رحل إلى‬
‫بلخ و سمع هناك من مك بن بن إبراه يم و هو من كبار شيو خه و سمع بمرو من عبدان بن‬
‫عثمان وعلي بن الحسن بن شقيق وصدقة بن الفضل‪ .‬وسمع بنيسابور من يحيى بن يحيى‬
‫وجماعة من العلماء وبالري من إبراهيم بن موسى‪.‬‬

‫وفـي أواخـر سـنة ‪210‬هــ قدم البخاري العراق وتنقـل بيـن مدنهـا ليسـمع مـن شيوخهـا‬
‫وعلمائهـا‪ .‬وقال البخاري دخلت بغداد آخـر ثمان مرات فـي كـل ذلك أجالس أحمـد بـن حنبـل‬
‫فقال لي في آ خر ما ودع ته يا أ با ع بد ال تدع العلم والناس وت صير إلى خرا سان قال فأ نا‬
‫الن أذكر قوله‪.‬‬

‫ثم ر حل إلى م كة و سمع هناك من أ بي ع بد الرح من المقرئ وخلد بن ي حي وح سان بن‬


‫حسان البصري وأبي الوليد أحمد بن محمد الزرقي والحميدي‪.‬‬

‫و سمع بالمدي نة من ع بد العز يز الوي سي وأيوب بن سليمان بن بلل وإ سماعيل بن أ بي‬


‫أويس‪.‬‬

‫وأكمل رحلته في العالم السلمي آنذاك فذهب إلى مصر ثم ذهب إلى الشام وسمع من أبي‬
‫اليمان وآدم بن أبي إياس وعلي بن عياش وبشر بن شعيب وقد سمع من أبي المغيرة عبد‬
‫القدوس وأحمد بن خالد الوهبي ومحمد بن يوسف الفريابي وأبي مسهر وآخرين‪.‬‬

‫مؤلفات البخاري‬

‫عد العلماء كتاب الجا مع ال صحيح المعروف ب ـ" صحيح البخاري" أ صح كتاب ب عد كتاب ال‪،‬‬
‫ويقول عنه علماء الحديث "هو أعلى الكتب الستة سندا إلى النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫ش يء كث ير من الحاد يث وذلك لن أ با ع بد ال أ سن الجما عة وأقدم هم لق يا للكبار أ خذ عن‬
‫جماعة يروي الئمة الخمسة عنهم"‬

‫ويقول في قصة تأليفه "الجامع الصحيح "‪ ":‬كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا‬
‫لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب"‬

‫ويقول في بعض الروايات‪:‬‬

‫ـ أخرجت هذا الكتاب من زهاء ست مائة ألف حديث‪.‬‬

‫ـ ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إل اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين‪.‬‬

‫ـ ما أدخلت في هذا الكتاب إل ما صح وتركت من الصحاح كي ل يطول الكتاب‪.‬‬

‫ويروي البخاري أنه بدأ التأليف وعمره ‪ 18‬سنة فيقول‪:‬‬

‫"في ثمان عشرة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وذلك أيام عبيد ال بن‬
‫مو سى‪ ،‬و صنفت كتاب التار يخ إذ ذاك ع ند قبر ر سول ال في الليالي المقمرة و قل ا سم في‬
‫التاريخ إل وله قصة إل أني كرهت تطويل الكتاب‪ ،‬وكنت أختلف إلى الفقهاء بمرو وأنا صبي‬
‫فإذا جئت أسـتحي أن أسـلم عليهـم فقال لي مؤدب مـن أهلهـا كـم كتبـت اليوم فقلت‪ :‬اثنيـن‬
‫وأردت بذلك حديثيـن فضحـك مـن حضـر المجلس فقال شيـخ منهـم ل تضحكوا فلعله يضحـك‬
‫منكم يوما"‬

‫وقال أ بو جع فر مح مد بن أ بي حا تم قلت ل بي ع بد ال تح فظ جم يع ما أدخلت في الم صنف‬


‫فقال ل يخفى علي جميع ما فيه‪ ،‬وسمعته يقول صنفت جميع كتبي ثلث مرات‪.‬‬

‫دقته واجتهاده‬

‫ظل البخاري ستة عشر عاما يجمع الحاديث الصحاح في دقة متناهية‪ ،‬وعمل دؤوب‪ ،‬وصبر‬
‫على البحث وتحري الصواب قلما توافرت لباحث قبله أو بعده حتى اليوم‪ ،‬وكان بعد كل هذا‬
‫ل يدون الحديث إل بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين‪.‬‬

‫يروي أحـد تلمذتـه أنـه بات عنده ذات ليلة فأحصـى عليـه أنـه قام وأسـرج يسـتذكر أشياء‬
‫يعلقها في ليلة ثمان عشرة مرة‪.‬‬
‫وقال محمد بن أبي حاتم الوراق كان أبو عبد ال إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد‬
‫إل في القيظ أحيانا فكنت أراه يقوم في ليلة واحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل‬
‫ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها‪.‬‬

‫وروي عن البخاري أنه قال‪ :‬لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلء كنت إذا كتبت عن رجل‬
‫سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث إن كان الرجل فهما‪ ،‬فإن لم يكن سألته أن‬
‫يخرج إلي أصله ونسخته فأما الخرون ل يبالون ما يكتبون وكيف يكتبون‪.‬‬

‫وكان العباس الدوري يقول‪ :‬ما رأيت أحدا يحسن طلب الحديث مثل محمد بن إسماعيل كان‬
‫ل يدع أصل ول فرعا إل قلعه ثم قال لنا ل تدعوا من كلمه شيئا إل كتبتموه‪.‬‬

‫تفوقه على أقرانه في الحديث‬

‫ظهر نبوغ البخاري مبكرا فتفوق على أقرانه‪ ،‬وصاروا يتتلمذون على يديه‪ ،‬ويحتفون به في‬
‫البلدان‪.‬‬

‫فقد روي أن أهل المعرفة من البصريين يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه‬
‫على نف سه ويجل سوه في ب عض الطر يق فيجت مع عل يه ألوف أكثر هم م من يك تب ع نه وكان‬
‫شابا لم يخرج وجهه‪.‬‬

‫وروي عن يو سف بن مو سى المروروذي يقول ك نت بالب صرة في جامع ها إذ سمعت مناد يا‬


‫ينادي يا أ هل العلم قد قدم مح مد بن إ سماعيل البخاري فقاموا في طل به وك نت مع هم فرأي نا‬
‫رجل شابـا يصـلي خلف السـطوانة فلمـا فرغ مـن الصـلة أحدقوا بـه وسـألوه أن يعقـد لهـم‬
‫مجلس الملء فأجاب هم فل ما كان ال غد اجت مع قر يب من كذا كذ ألف فجلس للملء وقال يا‬
‫أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدون‬
‫منها‪.‬‬

‫وقال أبو أحمد عبد ال بن عدي الحافظ سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل‬
‫البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها‬
‫وأ سانيدها وجعلوا م تن هذا ل سناد هذا و إ سناد هذا لم تن هذا ودفعوا إلى كل وا حد عشرة‬
‫أحاد يث ليلقو ها على البخاري في المجلس فاجت مع الناس وانتدب أحدهم فسأل البخاري عن‬
‫حديث من عشرته فقال ل أعرفه وسأله عن آخر فقال ل أعرفه وكذلك حتى فرغ من عشرته‬
‫فكان الفقهاء يلت فت بعض هم إلى ب عض ويقولون الر جل ف هم‪ .‬و من كان ل يدري ق ضى على‬
‫البخاري بالعجز ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الول والبخاري يقول ل أعرفه ثم الثالث وإلى‬
‫تمام العشرة أنفس وهو ل يزيد هم على ل أعر فه‪ .‬فلما علم أن هم قد فرغوا التفت إلى الول‬
‫منهم فقال أما حديثك الول فكذا والثاني كذا والثالث كذا إلى العشرة فرد كل متن إلى إسناده‬
‫وفعـل بالخريـن مثـل ذلك فأقـر له الناس بالحفـظ فكان ابـن صـاعد إذا ذكره يقول الكبـش‬
‫النطاح‪.‬‬

‫وروي عن أبي الزهر قال كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث فاجتمعوا سبعة أيام‬
‫وأحبوا مغالطـة البخاري فأدخلوا إسـناد الشام فـي إسـناد العراق وإسـناد اليمـن فـي إسـناد‬
‫الحرمين فما تعلقوا منه بسقطة ل في السناد ول في المتن‪.‬‬

‫وقال أحيـد بـن أبـي جعفـر والي بخارى قال محمـد بـن إسـماعيل يومـا رب حديـث سـمعته‬
‫بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت له‪ :‬يا أبا عبد ال بكماله‬
‫قال‪ :‬فسكت‪.‬‬

‫من كلمات البخاري‬

‫[ل أعلم شيئا يحتاج إليه إل وهو في الكتاب والسنة]‬

‫[ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم وحتى نظرت في عامة كتب الرأي وحتى‬
‫دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها فما تركت بها حديثا صحيحا إل كتبته إل ما لم يظهر‬
‫لي]‬

‫[ما أردت أن أتكلم بكلم فيه ذكر الدنيا إل بدأت بحمد ال والثناء عليه]‬

‫مواقف من حياة البخاري‬

‫وقال ب كر بن من ير سمعت أ با ع بد ال البخاري يقول أر جو أن أل قى ال ول يحا سبني أ ني‬


‫اغت بت أحدا قلت صدق رح مه ال و من ن ظر في كل مه في الجرح والتعد يل علم ور عه في‬
‫الكلم في الناس وإنصافه فيمن يضعفه فإنه أكثر ما يقول‪ :‬منكر الحديث‪ ،‬سكتوا عنه‪ ،‬فيه‬
‫نظر ونحو هذا‪ .‬وقل أن يقول فلن كذاب أو كان يضع الحديث حتى إنه قال إذا قلت فلن في‬
‫حدي ثه ن ظر ف هو مت هم واه وهذا مع نى قوله ل يحا سبني ال أ ني اغت بت أحدا وهذا هو وال‬
‫غاية الورع‪.‬‬
‫يقول محمد بن أبي حاتم‪ :‬كان أبو عبد ال يصلي في وقت السحر ثلث عشرة ركعة وكان ل‬
‫يوقظني في كل ما يقوم فقلت أراك تحمل على نفسك ولم توقظني قال أنت شاب ول أحب أن‬
‫أفسد عليك نومك‪.‬‬

‫*يروي البخاري فيقول كنت بنيسابور أجلس في الجامع فذهب عمرو بن زرارة وإسحاق بن‬
‫راهويه إلى يعقوب بن عبد ال والي نيسابور فأخبروه بمكاني فاعتذر إليهم وقال مذهبنا إذا‬
‫رفع إلينا غريب لم نعرفه حبسناه حتى يظهر لنا أمره فقال له بعضهم‪ :‬بلغني أنه قال لك ل‬
‫تحسن تصلي فكيف تجلس فقال لو قيل لي شيء من هذا ما كنت أقوم من ذلك المجلس حتى‬
‫أروي عشرة آلف حديث في الصلة خاصة‪.‬‬

‫وذات يوم ناظر أبو بكر البخاري في أحاديث سفيان فعرفها كلها ثم أقبل محمد عليه فأغرب‬
‫عليه مائتي حديث فكان أبو بكر بعد ذلك يقول ذاك الفتى البازل والبازل الجمل المسن إل أنه‬
‫يريد هاهنا البصير بالعلم الشجاع‪.‬‬

‫قال مح مد بن أ بي حا تم سمعت البخاري يقول دخلت بلخ ف سألني أ صحاب الحد يث أن أملي‬
‫عليهم لكل من كتبت عنه حديثا فأمليت ألف حديث للف رجل ممن كتبت عنهم‪.‬‬

‫قال أبو جعفر سمعت أبا عمر سليم بن مجاهد يقول كنت عند محمد بن سلم البيكتدي فقال‬
‫لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث قال فخرجت في طلبه حتى لحقته قال أنت‬
‫الذي يقول إنـي أحفـظ سـبعين ألف حديـث قال نعـم وأكثـر ول أجيئك بحديـث مـن الصـحابة‬
‫والتابعين إل عرفتك مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم ولست أروي حديثا من حديث الصحابة‬
‫أو التابعين إل ولي من ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب ال وسنة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫قال محمد بن يعقوب بن الخرم‪ :‬سمعت أصحابنا يقولون لما قدم البخاري نيسابور استقبله‬
‫أربعة آلف رجل ركبانا على الخيل سوى من ركب بغل أو حمارا وسوى الرجالة‪.‬‬

‫ورعه‬

‫قال محمد بن أبي حاتم ركبنا يوما إلى الرمي‪ ،‬فجعلنا نرمي وأصاب سهم أبي عبد‬ ‫·‬
‫ال البخاري و تد القنطرة الذي على ن هر ورادة فان شق الو تد فل ما رآه أ بو ع بد ال نزل عن‬
‫دابته فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي وقال لنا ارجعوا ورجعنا معه إلى المنزل‪ .‬فقال لي‬
‫يا أبا جعفر لي إليك حاجة مهمة قالها وهو يتنفس الصعداء‪ ،‬وقال لمن معنا اذهبوا مع أبي‬
‫جع فر ح تى تعينوه على ما سألته فقلت أ ية حا جة هي‪ .‬قال لي‪ :‬تض من قضاء ها؟ قلت ن عم‬
‫على الرأس والعين‪ .‬قال‪ :‬ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة فتقول له إنا قد أخللنا بالوتد‬
‫فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حل مما كان منا‪ .‬وكان صاحب‬
‫القنطرة حميد بن الخضر الفربري‪ .‬فقال لي أبلغ أبا عبد ال السلم وقل له أنت في حل مما‬
‫كان م نك وجم يع مل كي لك الفداء وإن قلت نف سي أكون قد كذ بت‪ ،‬غ ير أ ني لم أ كن أ حب أن‬
‫تحتشمني في وتد أو في ملكي فأبلغته رسالته فتهلل وجهه واستنار وأظهر سرورا وقرأ في‬
‫ذلك اليوم على الغرباء نحوا من خمسمائة حديث وتصدق بثلث مائة درهم‪.‬‬

‫وقال بن أبي حاتم ورأيته استلقى على قفاه يوما ونحن بفربر في تصنيفه كتاب‬ ‫·‬
‫التفسير وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث فقلت له إني أراك تقول إني‬
‫ما أثبت شيئا بغير علم قط منذ عقلت فما الفائدة في الستلقاء قال أتعبنا أنفسنا اليوم‬
‫وهذا ثغر من الثغور خش يت أن يحدث حدث من أ مر العد فأحببت أن ا ستريح وآخذ‬
‫أهبة فإن فاجئنا العدو كان بنا حراك‪.‬‬

‫وضي فه ب عض أ صحابه في ب ستان له وضيف نا م عه فل ما جل سنا أع جب صاحب‬ ‫·‬


‫الب ستان ب ستانه وذلك أ نه كان عمل مجالس ف يه وأجرى الماء في أنهاره فقال له يا‬
‫أبا عبد ال كيف ترى فقال هذه الحياة الدنيا‪.‬‬

‫وقال أحمد بن حفص‪ :‬دخلت على أبي الحسن يعني إسماعيل والد أبي عبد ال‬ ‫·‬
‫ع ند مو ته فقال ل أعلم من مالي دره ما من حرام ول دره ما من شب هة قال أح مد‬
‫فتصـاغرت إلي نفسـي عنـد ذلك ثـم قال أبـو عبـد ال أصـدق مـا يكون الرجـل عنـد‬
‫الموت‪.‬‬

‫وكان الحسـين بـن محمـد السـمرقندي يقول كان محمـد بـن إسـماعيل مخصـوصا بثلث‬
‫خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة كان قليل الكلم وكان ل يطمع فيما عند‬
‫الناس وكان ل يشتغل بأمور الناس كل شغله كان في العلم‪.‬‬

‫عمله بالتجارة‬

‫وعمل البخاري بالتجارة فكان مثال للتاجر الصدوق الذي ل يغش ول ينقض نيته مهما كانت‬
‫المغريات‪.‬‬
‫روي أنه حملت إلى البخاري بضاعة أنفذها إليه ابنه أحمد فاجتمع بعض التجار إليه فطلبوها‬
‫بربـح خمسـة آلف درهـم فقال انصـرفوا الليلة فجاءه مـن الغـد تجار آخرون فطلبوا منـه‬
‫البضاعة بربح عشرة آلف فقال إني نويت بيعها للذين أتوا البارحة‪.‬‬

‫ثناء الئمة عليه‬

‫قال أ بو إ سحاق ال سرماري‪ :‬من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه و صدقه فلينظر إلى مح مد بن‬
‫إسماعيل‪.‬‬

‫قال أبو جعفر سمعت يحيى بن جعفر يقول لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من‬
‫عمري لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموته ذهاب العلم‪.‬‬

‫وكان نعيم بن حماد يقول‪ :‬محمد بن إسماعيل فقيه هذه المة‪.‬‬

‫قال مصعب الزهري محمد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر بالحديث‪.‬‬

‫وروي عن إ سحاق بن راهو يه أ نه كان يقول اكتبوا عن هذا الشاب يع ني البخاري فلو كان‬
‫في زمن الحسن لحتاج إليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه‪.‬‬

‫وكان علي بن حجر يقول أخرجت خرا سان ثلثة أبو زرعة ومحمد بن إ سماعيل وعبد ال‬
‫بن عبد الرحمن الدارمي ومحمد عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم‪.‬‬

‫وقال محمد بن أبي حاتم سمعت إبراهيم بن خالد المروزي يقول رأيت أبا عمار الحسين بن‬
‫حريـث يثنـي على أبـي عبـد ال البخاري ويقول ل أعلم أنـي رأيـت مثله كأنـه لم يخلق إل‬
‫للحديث‪.‬‬

‫وقال محمد حدثني حاتم بن مالك الوراق قال سمعت علماء مكة يقولون محمد بن إسماعيل‬
‫إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان‪.‬‬

‫وقال أبو الطيب حاتم بن منصور الكسي يقول محمد بن إسماعيل آية من آيات ال في بصره‬
‫ونفاذه من العلم‪.‬‬

‫وقال سليم بن مجاهد يقول لو أن وكيعا وابن عيينة وابن المبارك كانوا في الحياء لحتاجوا‬
‫إلى محمد بن إسماعيل‪.‬‬
‫وروي عن قتيبة بن سعيد أنه قال لو كان محمد في الصحابة لكان آية‪ .‬نظرت في الحديث‬
‫ونظرت فـي الرأي وجالسـت الفقهاء والزهاد والعباد مـا رأيـت منـذ عقلت مثـل محمـد بـن‬
‫إسماعيل‪.‬‬

‫وقال المام أحمد بن حنبل‪ :‬لم يجئنا من خراسان مثل محمد بن إسماعيل‪.‬‬

‫وقال أبو عبد ال الحاكم‪ :‬محمد بن إسماعيل البخاري إمام أهل الحديث‪.‬‬

‫قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة‪ :‬ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول ال‬
‫وأحفظ له من محمد بن إسماعيل‪.‬‬

‫قال محمد بن حمدون بن رستم سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى البخاري فقال دعني أقبل‬
‫رجليك يا أستاذ الستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله‪.‬‬

‫وقال سعيد بن جعفر‪ :‬سمعت العلماء بالبصرة يقولون ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل‬
‫في المعرفة والصلح‪.‬‬

‫من كرم البخاري وسماحته‬

‫قال مح مد بن أ بي حا تم كا نت له قط عة أرض يؤجر ها كل سنة ب سبع مائة در هم فكان ذلك‬


‫المؤ جر رب ما ح مل من ها إلى أ بي ع بد ال قثاة أو قثات ين لن أ با ع بد ال كان معج با بالقثاء‬
‫النض يج وكان يؤثره على البط يخ أحيا نا فكان ي هب للر جل مائة در هم كل سنة لحمله القثاء‬
‫إليه أحيانا‪.‬‬

‫قال و سمعته يقول ك نت أ ستغل كل ش هر خ مس مائة در هم فأنف قت كل ذلك في طلب العلم‬


‫فقلت كم ب ين من ين فق على هذا الو جه وب ين من كان خلوا من المال فج مع وك سب بالعلم‬
‫حتى اجتمع له فقال أبو عبد ال‪ :‬ما عند ال خير وأبقى (الشورى‪)36:‬‬

‫وكان يتصدق بالكثير يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى‬
‫الثلثين وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد وكان ل يفارقه كيسه‪.‬‬

‫ويقول عبد ال بن محمد الصارفي‪ :‬كنت عند أبي عبد ال البخاري في منزله فجاءته جارية‬
‫وأرادت دخول المنزل فعثرت على م حبرة ب ين يديه فقال لها‪ :‬ك يف تمش ين؟ قالت إذا لم يكن‬
‫طريق كيف أمشي فبسط يديه وقال لها اذهبي فقد أعتقتك‪ .‬قال فقيل له فيما بعد يا أبا عبد‬
‫ال أغضبتك الجارية قال إن كانت أغضبتني فإني أرضيت نفسي بما فعلت‪.‬‬

‫محنة البخاري‬

‫تعرض البخاري للمتحان والبتلء‪ ،‬وكثيرا مـا تعرض العلماء الصـادقون للمحـن فصـبروا‬
‫على مـا أوذوا فـي سـبيل ال‪ ،‬ولقـد حسـد البعـض البخاري لمـا له مـن مكانـة عنـد العلماء‬
‫وطلب العلم وجماه ير الم سلمين في كل البلد ال سلمية‪ ،‬فأثاروا حوله الشائعات بأ نه يقول‬
‫بخلق القرآن‪ ،‬ولذلك قصة يرويها أبو أحمد بن عدي فيقول‪ :‬ذكر لي جماعة من المشايخ أن‬
‫محمد بن إسماعيل البخاري لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه فحسده بعض من كان في‬
‫ذلك الو قت من مشا يخ ني سابور ل ما رأوا إقبال الناس إل يه واجتماع هم عل يه‪ .‬فقال ل صحاب‬
‫الحديث‪ :‬إن محمد بن إسماعيل يقول اللفظ بالقران مخلوق فامتحنوه في المجلس فلما حضر‬
‫الناس مجلس البخاري قام إل يه ر جل فقال يا أ با ع بد ال ما تقول في الل فظ بالقران مخلوق‬
‫هو أم غير مخلوق فأعرض عنه البخاري ولم يجبه‪ ،‬فقال الرجل يا أبا عبد ال فأعاد عليه‬
‫القول فأعرض عنـه‪ ،‬ثـم قال فـي الثالثـة فالتفـت إليـه البخاري وقال القرآن كلم ال غيـر‬
‫مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والمتحان بدعة فشغب الرجل وشغب الناس وتفرقوا عنه وقعد‬
‫البخاري في منزله‪.‬‬

‫وقالوا له بعد ذلك ترجع عن هذا القول حتى نعود إليك قال ل أفعل إل أن تجيئوا بحجة فيما‬
‫تقولون أقوى من حجتي وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته‪ ،‬وكان يقول أما أفعال العباد‬
‫فمخلوقة فقد حدثنا علي بن عبد ال حدثنا مروان بن معاوية حدثنا أبو مالك عن ربعي عن‬
‫حذيفة قال‪ :‬قال النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن ال يصنع كل صانع وصنعته‪.‬‬

‫وبـه قال وسـمعت عبيـد ال بـن سـعيد يقول سـمعت يحيـى بـن سـعيد يقول مـا زلت أسـمع‬
‫أصـحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقـة قال البخاري حركاتهـم وأصـواتهم واكتسـابهم‬
‫وكتابتهم مخلوقة فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى‬
‫في القلوب ف هو كلم ال ل يس بمخلوق قال ال تعالى { بل هو آيات بينات في صدور الذ ين‬
‫أوتوا العلم} (العنكبوت ‪.)49‬‬

‫وقال البخاري‪ :‬القرآن كلم ال غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر‪.‬‬
‫وقال أيضـا‪ :‬مـن زعـم مـن أهـل نيسـابور وقومـس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفـة‬
‫والبصرة ومكة والمدينة أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله إل أني قلت‬
‫أفعال العباد مخلوقة‪.‬‬

‫وقال أح مد بن سلمة‪ :‬دخلت على البخاري فقلت يا أ با ع بد ال هذا ر جل مقبول بخرا سان‬
‫خ صوصا في هذه المدي نة و قد لج في هذا الحد يث ح تى ل يقدر أ حد م نا أن يكل مه ف يه ف ما‬
‫ترى فقبض على لحيته ثم قال "وأفوض أمري إلى ال إن ال بصير بالعباد" (غافر ‪ )44‬اللهم‬
‫إ نك تعلم أ ني لم أرد المقام بني سابور أشرا ول بطرا ول طل با للرئا سة إن ما أ بت علي نف سي‬
‫في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما آتاني ال ل غير ثم‬
‫قال لي يا أحمد إني خارج غدا لتتخلصوا من حديثه لجلي‪ ،‬فأخبرت جماعة أصحابنا فو ال‬
‫ما شيعه غيري كنت معه حين خرج من البلد وأقام على باب البلد ثلثة أيام لصلح أمره‪.‬‬

‫وقال محمد بن أبي حاتم أتى رجل عبد ال البخاري فقال يا أبا عبد ال إن فلنا يكفرك فقال‪:‬‬
‫" قال ال نبي صلى ال عل يه و سلم‪ ":‬إذا قال الر جل لخ يه يا كا فر ف قد باء به أحده ما" وكان‬
‫كث ير من أ صحابه يقولون له إن ب عض الناس ي قع ف يك فيقول "إن ك يد الشيطان كان ضعي فا"‬
‫(النساء ‪ ،)76‬ويتلو أيضا "ول يحيق المكر السيئ إل بأهله" (فاطر ‪ )43‬فقال له عبد المجيد‬
‫بن إبراه يم ك يف ل تد عو ال على هؤلء الذ ين يظلمو نك ويتناولو نك ويبهتو نك‪ ،‬فقال‪ :‬قال‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" وقال صلى ال عليه وسلم‬
‫"من دعا على ظالمه فقد انتصر"‬

‫محنته مع أمير بخارى‬

‫روى أحمـد بـن منصـور الشيرازي قال سـمعت بعـض أصـحابنا يقول لمـا قدم أبوعبـد ال‬
‫بخارى نصبت له القباب على فرسخ من البلد واستقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق أحد إل‬
‫استقبله ونثر عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير فبقي أياما قال فكتب بعد ذلك محمد بن‬
‫يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى إن هذا الرجل قد أظهر خلف السنة فقرأ كتابه‬
‫على أهل بخارى فقالوا ل نفارقه فأمره المير بالخروج من البلد فخرج‪.‬‬

‫قال أح مد بن من صور فح كى لي ب عض أ صحابنا عن إبراه يم بن مع قل الن سفي قال رأ يت‬


‫مح مد بن إ سماعيل في اليوم الذي أخرج ف يه من بخارى فتقد مت إل يه فقلت يا أ با ع بد ال‬
‫كيف ترى هذا اليوم من اليوم الذي نثر عليك فيه ما نثر فقال ل أبالي إذا سلم ديني‪.‬‬
‫وروي عن بكر بن منير بن خليد بن عسكر أنه قال‪ :‬بعث المير خالد ابن أحمد الذهلي والي‬
‫بخارى إلى مح مد بن إ سماعيل أن اح مل إلي كتاب الجا مع و التار يخ وغيره ما ل سمع م نك‬
‫فقال لر سوله أ نا ل أذل العلم ول أحمله إلى أبواب الناس فإن كا نت لك إلى ش يء م نه حا جة‬
‫فاحضـر فـي مسـجدي أو فـي داري وإن لم يعجبـك هذا فإنـك سـلطان فامنعنـي مـن المجلس‬
‫ليكون لي عذر عند ال يوم القيامة لني ل أكتم العلم لقول النبي صلى ال عليه وسلم "من‬
‫سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار" فكان سبب الوحشة بينهما هذا‪.‬‬

‫وفاة البخاري‬

‫تو في البخاري ـ رح مه ال ـ ليلة ع يد الف طر سنة ست وخم سين و قد بلغ اثنت ين و ستين‬
‫سنة‪ ،‬وروي في قصة وفاته عدة روايات منها‪:‬‬

‫قال محمد بن أبي حاتم سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه أبو عبد ال‬
‫يقول‪ :‬إ نه أقام عند نا أيا ما فمرض واش تد به المرض‪ ،‬فل ما وا فى ته يأ للركوب فل بس خف يه‬
‫وتعمم فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها وأنا آخذ بعضده ورجل آخذ معي يقوده إلى‬
‫الدابة ليركبها فقال رحمه ال أرسلوني فقد ضعفت فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى رحمه‬
‫ال ف سال م نه العرق ش يء ل يو صف ف ما سكن م نه العرق إلى أن أدرجناه في ثيا به وكان‬
‫في ما قال ل نا وأو صى إلي نا أن كفنو ني في ثل ثة أثواب ب يض ل يس في ها قم يص ول عما مة‬
‫ففعل نا ذلك فل ما دفناه فاح من تراب قبره رائ حة غال ية أط يب من الم سك فدام ذلك أيا ما ثم‬
‫علت سواري ب يض في ال سماء م ستطيلة بحذاء قبره فج عل الناس يختلفون ويتعجبون وأ ما‬
‫التراب فإنهـم كانوا يرفعون عـن القـبر حتـى ظهـر القـبر ولم نكـن نقدر على حفـظ القـبر‬
‫بالحراس وغلبنا على أنفسنا فنصبنا على القبر خشبا مشبكا لم يكن أحد يقدر على الوصول‬
‫إلى القبر فكانوا يرفعون ما حول القبر من التراب ولم يكونوا يخلصون إلى القبر وأما ريح‬
‫الط يب فإ نه تداوم أيا ما كثيرة ح تى تحدث أ هل البلدة وتعجبوا من ذلك وظ هر ع ند مخالف يه‬
‫أمره ب عد وفا ته وخرج ب عض مخالف يه إلى قبره وأظهروا التو بة والندا مة م ما كانوا شرعوا‬
‫فيه من مذموم المذهب قال محمد بن أبي حاتم ولم يعش أبو منصور غالب بن جبريل بعده‬
‫إل القليل وأوصى أن يدفن إلى جنبه‪.‬‬

‫وقال محمد بن محمد بن مكي الجرجاني سمعت عبد الواحد بن آدم الطواويسي يقول رأيت‬
‫ال نبي صلى ال عل يه و سلم في النوم وم عه جما عة من أ صحابه و هو وا قف في مو ضع‬
‫ف سلمت عل يه فرد علي ال سلم فقلت ما وقو فك يا ر سول ال قال أنت ظر مح مد بن إ سماعيل‬
‫البخاري فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم فيها‪.‬‬

‫ر حم ال المام البخاري رح مة وا سعة وجزاه ال خيرا عن ال سلم والم سلمين و عن حد يث‬


‫رسول ال (صلى ال عليه وسلم )‪.‬‬

‫المام الطبري‬

‫إمام المؤرخين والمفسرين‬

‫كان أك ثر علماء ع صره ه مة في طلب العلم وتح صيله و في تأل يف أمهات الك تب ح تى روي‬
‫أ نه كان يك تب أربع ين صفحة في كل يوم‪ ،‬إ نه المام مح مد بن جر ير ال طبري صاحب أ كبر‬
‫كتابين في التفسير والتاريخ‪ ،‬قال عنه أحمد بن خلكان صاحب وفيات العيان‪":‬العلم المجتهد‬
‫عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقا حافظا رأسا في التفسير إماما في الفقه‬
‫والجماع والختلف علمة في التاريخ وأيام الناس عارفا بالقراءات وباللغة وغير ذلك"‬

‫فإلى صفحات من سيرته ومواقف من حياته‬

‫حياته العلمية‬

‫بدأ الطـبري طلب العلم بعـد سـنة ‪240‬هــ وأكثـر الترحال ولقـي نبلء الرجال‪ ،‬قرأ القرآن‬
‫بـبيروت على العباس بـن الوليـد ثـم ارتحـل منهـا إلى المدينـة المنورة ثـم إلى مصـر والري‬
‫وخراسان‪ ،‬واستقر في أواخر أمره ببغداد‪.‬‬

‫سمع ال طبري من العديد ين من مشا يخ ع صره وله رحلت إلى العد يد من عوا صم العالم‬
‫السلمي التي ازدهرت بعلمائها وعلومها ومنها مصر‪.‬‬

‫مؤلفات الطبري‬

‫كان ال طبري من أك ثر علماء ع صره نشا طا في التأل يف‪ ،‬أش هر مؤلفا ته تف سيره المعروف‬
‫بتف سير ال طبري‪ ،‬وكتاب " تار يخ ال مم والملوك " روي ع نه أ نه قال‪ :‬ا ستخرت ال و سألته‬
‫العون على ما نويته من تصنيف التفسير قبل أن أعمله ثلث سنين فأعانني‪.‬‬
‫قال الحا كم و سمعت أ با ب كر بن بالو يه يقول قال لي أ بو ب كر بن خزي مة بلغ ني أ نك كت بت‬
‫التفسير عن محمد بن جرير قلت بلى كتبته عنه إملء قال كله قلت نعم قال في أي سنة قلت‬
‫من سنة ثلث وثمانين ومائتين إلى سنة تسعين ومائتين قال فاستعاره مني أبو بكر ثم رده‬
‫بعـد سنين ثـم قال ل قد نظرت ف يه من أوله إلى آخره ومـا أعلم على أديـم الرض أعلم من‬
‫محمد بن جرير‪.‬‬

‫قال أ بو مح مد الفرغا ني تم من ك تب مح مد بن جر ير كتاب التف سير الذي لو اد عى عالم أن‬


‫يصنف منه عشرة كتب كل كتاب يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل وتم من كتبه كتاب‬
‫التاريخ إلى عصره وتم أيضا كتاب تاريخ الرجال من الصحابة والتابعين وإلى شيوخه الذين‬
‫لقي هم و تم له كتاب لط يف القول في أحكام شرائع ال سلم و هو مذه به الذي اختاره وجوده‬
‫واحتـج له وهـو ثلثـة وثمانون كتابـا وتـم له كتاب القراءات والتنزيـل والعدد وتـم له كتاب‬
‫اختلف علماء الم صار و تم له كتاب الخف يف في أحكام شرائع ال سلم و هو مخت صر لط يف‬
‫وتم له كتاب التبصير و هو رسالة إلى أ هل طبر ستان يشرح فيها ما تقلده من أصول الد ين‬
‫وابتدأ بتصنيف كتاب تهذيب الثار وهو من عجائب كتبه ابتداء بما أسنده الصديق مما صح‬
‫عنده سنده وتكلم على كل حديث منه بعلله وطرقه ثم فقهه واختلف العلماء وحججهم وما‬
‫فيه من المعاني والغر يب والرد على الملحدين فتم منه مسند العشرة وأهل البيت والموالي‬
‫وب عض م سند ا بن عباس فمات ق بل تما مه‪ ،‬قلت هذا لو تم لكان يج يء في مائة مجلد‪ ،‬قال‬
‫وابتدأ بكتابه البسيط فخرج منه كتاب الطهارة فجاء في نحو من ألف وخمسمائة ورقة لنه‬
‫ذكر في كل باب منه اختلف الصحابة والتابعين وحجة كل قول وخرج منه أيضا أكثر كتاب‬
‫ال صلة وخرج م نه آداب الحكام وكتاب المحا ضر وال سجلت وكتاب ترت يب العلماء و هو من‬
‫كتبـه النفيسـة ابتدأه بآداب النفوس وأقوال الصـوفية ولم يتمـه وكتاب المناسـك وكتاب شرح‬
‫السنة وهو لطيف بين فيه مذهبه واعتقاده وكتابه المسند المخرج يأتي فيه على جميع ما‬
‫رواه الصحابي من صحيح وسقيم ولم يتمه ولما بلغه أن أبا بكر بن أبي داود تكلم في حديث‬
‫غد ير خم عمل كتاب الفضائل فبدأ بفضل أبي ب كر ثم عمر وتكلم على تصحيح حد يث غدير‬
‫خم واحتج لتصحيحه ولم يتم الكتاب‪.‬‬

‫وقال بعض العلماء‪ :‬لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫أسلوبه في التأليف‬

‫يقول أحمـد بـن خلكان لبـي جعفـر فـي تأليفـه عبارة وبلغـة فممـا قاله فـي كتاب الداب‬
‫النفيسة والخلق الحميدة القول في البيان عن الحال الذي يجب على العبد مراعاة حاله فيما‬
‫يصدر من عمله ل عن نفسه قال إنه ل حالة من أحوال المؤمن يغفل عدوه الموكل به عن‬
‫دعائه إلى سبيله والقعود له ر صدا بطرق ر به الم ستقيمة صادا له عن ها ك ما قال لر به عز‬
‫ذكره إذ جعله من المنظرين {لقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لتينهم من بين أيديهم ومن‬
‫خلف هم} (العراف‪ )17-16 :‬طم عا م نه في ت صديق ظ نه عل يه إذ قال لر به {لئن أخر تن إلى‬
‫يوم القيامة لحتن كن ذريته إل قليل} (ال سراء‪ )62:‬ف حق على كل ذي حجى أن يجهد نفسه‬
‫في تكذ يب ظ نه وتخيي به م نه أمله و سعيه في ما أرغ مه ول ش يء من ف عل الع بد أبلغ في‬
‫مكروهه من طاعته ربه وعصيانه أمره ول شيء أسر إليه من عصيانه ربه واتباعه أمره‬
‫فكلم أبي جعفر من هذا النمط وهو كثير مفيد‪.‬‬

‫وروي عن أبي سعيد الدينوري مستملي ابن جرير أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري‬
‫بعقيد ته ف من ذلك وح سب امرئ أن يعلم أن ر به هو الذي على العرش ا ستوى ف من تجاوز‬
‫ذلك ف قد خاب وخ سر وهذا تف سير هذا المام مشحون في آيات ال صفات بأقوال ال سلف على‬
‫الثبات لها ل على النفي والتأويل وأنها ل تشبه صفات المخلوقين أبدا‪.‬‬

‫ثناء العلماء عليه‬

‫قال أبو سعيد بن يونس‪ :‬محمد بن جرير من أهل آمل كتب بمصر ورجع إلى بغداد وصنف‬
‫تصانيف حسنة تدل على سعة علمه‪.‬‬

‫وقال الخط يب البغدادي‪ :‬محمد بن جر ير بن يز يد بن كث ير بن غالب كان أحد أئ مة العلماء‬


‫يُحكم بقوله ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد‬
‫مـن أهـل عصـره فكان حافظـا لكتاب ال عارفـا بالقراءات بصـيرا بالمعانـي فقيهـا فـي أحكام‬
‫القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة‬
‫والتابعين عارفا بأيام الناس وأخبارهم‪ .‬وكان من أفراد الدهر علما وذكاء وكثرة تصانيف قل‬
‫أن ترى العيون مثله‪.‬‬

‫مواقف من حياته‬
‫قيل إن المكتفي أراد أن يحبس وقفا تجتمع عليه أقاويل العلماء فأحضر له ابن جرير فأملى‬
‫علي هم كتا با لذلك فأخر جت له جائزة فامت نع من قبول ها فق يل له ل بد من قضاء حا جة قال‬
‫اسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة ففعل ذلك وكذا التمس منه الوزير أن يعمل‬
‫له كتابا في الفقه فألف له كتاب الخفيف فوجه إليه بألف دينار فردها‪.‬‬

‫******‬

‫وروي عن مح مد بن أح مد ال صحاف ال سجستاني سمعت أ با العباس البكري يقول جم عت‬


‫الرحلة بين ا بن جرير وا بن خزيمة ومحمد بن ن صر المروزي ومح مد بن هارون الرويا ني‬
‫بم صر فأرملوا ولم ي بق عند هم ما يقوت هم وأ ضر ب هم الجوع فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا‬
‫يأوون إليه فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة فمن خرجت عليه القرعة سأل‬
‫لصحابه الطعام فخرجت القرعة على ابن خزيمة فقال لصحابه أمهلوني حتى أصلي صلة‬
‫الخيرة قال فاندفع في الصلة فإذا هم بالشموع ورجل من قبل والي مصر يدق الباب ففتحوا‬
‫فقال أي كم مح مد بن ن صر فق يل هو ذا فأخرج صرة في ها خم سون دينارا فدفع ها إل يه ثم قال‬
‫وأيكم محمد ابن جرير فأعطاه خمسين دينارا وكذلك للروياني وابن خزيمة ثم قال إن المير‬
‫كان قائل بالمس فرأى في المنام أن المحامد جياع قد طووا كشحهم فأنفذ إليكم هذه الصرر‬
‫وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إلي أحدكم‪.‬‬

‫***‬

‫وقال أ بو مح مد الفرغا ني في ذ يل تاري خه على تار يخ ال طبري قال حدث ني أ بو علي هارون‬
‫بن عبد العزيز أن أبا جعفر لما دخل بغداد وكانت معه بضاعة يتقوت منها فسرقت فأفضى‬
‫به الحال إلى بيع ثيابه وكمي قميصه فقال له بعض أصدقائه تنشط لتأديب بعض ولد الوزير‬
‫أبي الحسن عبيد ال بن يحيى بن خاقان قال نعم فمضى الرجل فأحكم له أمره وعاد فأوصله‬
‫إلى الوز ير ب عد أن أعاره ما يلب سه فقر به الوز ير ور فع مجل سه وأجرى عل يه عشرة دنان ير‬
‫في الش هر فاشترط عل يه أوقات طل به للعلم وال صلوات والرا حة و سأل ا ستلفه رزق ش هر‬
‫ففعل وأدخل في حجرة التأديب وخرج إليه الصبي وهو أبو يحيى فلما كتبه أخذ الخادم اللوح‬
‫ودخلوا مستبشرين فلم تبق جارية إل أهدت إليه صينية فيها دراهم ودنانير فرد الجميع وقال‬
‫قد شرطت على شيء فل آخذ سواه فدرى الوزير ذلك فأدخله إليه وسأله فقال هؤلء عبيد‬
‫وهم ل يملكون فعظم ذلك في نفسه‪.‬‬
‫***‬

‫وكان رب ما أهدى إل يه ب عض أ صدقائه الش يء فيقبله ويكافئه أضعا فا لع ظم مروء ته‪ .‬وكان‬
‫ممن ل تأخذه في ال لومة لئم مع عظيم ما يلحقه من الذى والشناعات من جاهل وحاسد‬
‫وملحد فأما أهل الدين والعلم فغير منكرين علمه وزهده في الدنيا ورفضه لها وقناعته رحمه‬
‫ال ب ما كان يرد عل يه من ح صة من ضي عة خلف ها له أبوه بطبر ستان ي سيرة‪ ،‬و كان ين شد‬
‫لنفسه‪:‬‬

‫إذا أعسـرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغنـي صديقـي‬

‫حيائـي حافظ لي ماء وجهي ورفقي في مطالبتـي رفيقي‬

‫ولو أني سمحت بماء وجهي لكنت إلى العلى سهل الطريق‬

‫وله خلقـان ل أرضى فعالهما بطـر الغنى ومذلـة الفقـر‬

‫فإذا غنيت فل تكـن بطرا وإذا افتقرت فتـهْ على الدهــر‬

‫***‬

‫قال أ بو القا سم بن عق يل الوراق‪ :‬إن أ با جع فر ال طبري قال ل صحابه هل تنشطون لتار يخ‬
‫العالم مـن آدم إلى وقتنـا قالوا كـم قدره فذكـر نحـو ثلثيـن ألف ورقـة فقالوا هذا ممـا تفنـى‬
‫العمار قبل تمامه فقال إنا ل ماتت الهمم فاختصر ذلك في نحو ثلثة آلف ورقة ولما أن‬
‫أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك ثم أمله على نحو من قدر التاريخ‪.‬‬

‫***‬

‫وكان ال طبري ل يق بل المنا صب خو فا أن تشغله عن العلم من ناح ية ولن من عادة العلماء‬


‫البعد عن السلطان من ناحية أخري‪ ،‬فقد روى المراغي قال لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه‬
‫إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير فامتنع من قبوله فعرض عليه القضاء فامتنع فعرض عليه‬
‫المظالم فأ بى فعات به أ صحابه وقالوا لك في هذا ثواب وتح يي سنة قد در ست وطمعوا في‬
‫قبوله المظالم فذهبوا إليه ليركب معهم لقبول ذلك فانتهرهم وقال قد كنت أظن أني لو رغبت‬
‫في ذلك لنهيتموني عنه قال فانصرفنا خجلين‪.‬‬
‫وفاته‬

‫قال أ بو مح مد الفرغا ني حدث ني أ بو ب كر الدينوري قال ل ما كان و قت صلة الظ هر من يوم‬


‫الثنين الذي توفي في آخره ابن جرير طلب ماءً ليجدد وضوءه فقيل له تؤخر الظهر تجمع‬
‫بينها وبين العصر فأبى وصلى الظهر مفردة والعصر في وقتها أتم صلة وأحسنها‪ ،‬وحضر‬
‫وقت موته جماعة منهم أبو بكر بن كامل فقيل له قبل خروج روحه يا أبا جعفر أنت الحجة‬
‫فيما بيننا وبين ال فيما ندين به فهل من شيء توصينا به من أمر ديننا وبينة لنا نرجو بها‬
‫السلمة في معادنا فقال الذي أدين ال به وأوصيكم هو ما ثبت في كتبي فاعملوا به وعليه‬
‫وكلما هذا معناه وأكثر من التشهد وذكر ال عز وجل ومسح يده على وجهه وغمض بصره‬
‫بيده وبسطها وقد فارقت روحه الدنيا‪.‬‬

‫قال أحمد بن كامل توفي ابن جرير عشية الحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلث مئة‬
‫ود فن في داره برح بة يعقوب يع ني ببغداد قال ولم يغ ير شي بة وكان ال سواد ف يه كثيرا وكان‬
‫أسمر أقرب إلى الدمة (السواد) أعين نحيف الجسم طويل فصيحا وشيعه من ل يحصيهم إل‬
‫ال تعالى‪.‬‬

‫المام مالك‬

‫إمام دار الهجرة‬

‫يروى في فضله ومناقبه الكثير ولكن أهمها ما روي [عن أبي هريرة يبلغ به النبي (صلى‬
‫ال عليـه وسـلم) قال ليضربـن الناس أكباد البـل فـي طلب العلم فل يجدون عالمـا أعلم مـن‬
‫عالم المدينة]‬

‫إنه المام مالك بن أنس إمام دار الهجرة‪ ،‬وصاحب أحد المذاهب الفقهية الربعة في السلم‬
‫و هو المذ هب المال كي‪ ،‬و صاحب ك تب ال صحاح في ال سنة النبو ية و هو كتاب المو طأ‪ .‬يقول‬
‫المام الشافعي‪ :‬إذا ذكر العلماء فمالك النجم‪.‬‬

‫نسبه ومولده‬

‫هو ش يخ ال سلم ح جة ال مة إمام دار الهجرة أ بو ع بد ال مالك ا بن أ نس بن مالك بن أ بى‬


‫عا مر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خث يل بن عمرو بن الحارث و هو ذو أ صبح بن‬
‫عوف بن مالك بن زيد بن شداد بن زرعة وهو حمير الصغر الحميري ثم الصبحي المدني‬
‫حليف بني تيم من قريش فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد ال أحد العشرة المبشرين‬
‫بالجنة‪.‬‬

‫وأمه هي عالية بنت شريك الزدية وأعمامه هم أبو سهل نافع وأويس والربيع والنضر أولد‬
‫أبي عامر‪.‬‬

‫ولد مالك على الصـح فـي سـنة ‪93‬هــ عام موت أنـس خادم رسـول ال (صـلى ال عليـه‬
‫وسلم) ونشأ في صون ورفاهية وتجمل‬

‫طلبه للعلم‬

‫طلب المام مالك العلم وهو حدث لم يتجاوز بضع عشرة سنة من عمره وتأهل للفتيا وجلس‬
‫للفادة وله إحدى وعشرون سـنة وقصـده طلبـة العلم وحدث عنـه جماعـة وهـو بعـد شاب‬
‫طري‪.‬‬

‫ثناء العلماء عليه‬

‫عن ابن عيينة قال مالك عالم أهل الحجاز وهو حجة زمانه‪.‬‬

‫وقال الشافعي‪ :‬إذا ذكر العلماء فمالك النجم‪.‬‬

‫وعن ابن عيينة أيضا قال كان مالك ل يبلغ من الحديث إل صحيحا ول يحدث إل عن ثقة ما‬
‫أرى المدينة إل ستخرب بعد موته يعني من العلم‪.‬‬

‫ـ روي عن وه يب وكان من أب صر الناس بالحد يث والرجال أ نه قدم المدي نة قال فلم أرى‬
‫أحدا إل تعرف وتنكر إل مالكا ويحيى بن سعيد النصاري‪.‬‬

‫إمام دار الهجرة‬

‫روي عن أبي موسى الشعري قال [قال رسول ال (صلى ال عليه وسلم) يخرج ناس من‬
‫المشرق والمغرب في طلب العلم فل يجدون عال ما أعلم من عالم المدي نة] ويروى عن ا بن‬
‫عيينة قال كنت أقول هو سعيد بن المسيب حتى قلت كان في زمانه سليمان بن يسار وسالم‬
‫بن عبد ال وغيرهما ثم أصبحت اليوم أقول إنه مالك لم يبق له نظير بالمدينة‪.‬‬
‫قال القاضي عياض هذا هو الصحيح عن سفيان رواه عنه ابن مهدي وابن معين وذؤيب بن‬
‫عما مه وا بن المدي ني والزب ير بن بكار وإ سحاق بن أ بي إ سرائيل كل هم سمع سفيان يف سره‬
‫بمالك أو يقول وأظنه أو أحسبه أو أراه أو كانوا يرونه‪.‬‬

‫وذكـر أبـو المغيرة المخزومـي أن معناه مـا دام المسـلمون يطلبون العلم ل يجدون أعلم مـن‬
‫عالم بالمدينة فيكون على هذا سعيد بن المسيب ثم بعده من هو من شيوخ مالك ثم مالك ثم‬
‫من قام بعده بعلمه وكان أعلم أصحابه‪.‬‬

‫ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والجللة والحفظ فقد كان‬
‫ب ها ب عد ال صحابة م ثل سعيد بن الم سيب والفقهاء ال سبعة والقا سم و سالم وعكر مة ونا فع‬
‫وطبقت هم ثم ز يد بن أ سلم وا بن شهاب وأ بي الزناد ويح يى بن سعيد و صفوان بن سليم‬
‫وربيعة بن أبي عبد الرحمن وطبقتهم فلما تفانوا اشتهر ذكر مالك بها وابن أبي ذئب وعبد‬
‫العز يز بن الماجشون و سليمان بن بلل وفل يح بن سليمان وأقران هم فكان مالك هو المقدم‬
‫فيهم على الطلق والذي تضرب إليه آباط البل من الفاق رحمه ال تعالى‪.‬‬

‫قال أ بو عبد ال الحاكم ما ضربت أكباد ال بل من النوا حي إلى أحد من علماء المدي نة دون‬
‫مالك واعترفوا له وروت الئمة عنه ممن كان أقدم منه سنا كالليث عالم أهل مصر والمغرب‬
‫والوزاعي عالم أهل الشام ومفتيهم والثوري وهو المقدم بالكوفة وشعبة عالم أهل البصرة‬
‫إلى أن قال وح مل ع نه قبل هم يح يى بن سعيد الن صاري ح ين وله أ بو جع فر قضاء القضاة‬
‫ف سأل مال كا أن يك تب له مائة حد يث ح ين خرج إلى العراق و من ق بل كان ا بن جر يج ح مل‬
‫عنه‪.‬‬

‫قصة الموطأ‬

‫يروي أ بو م صعب فيقول‪ :‬سمعت مال كا يقول دخلت على أ بي جع فر أم ير المؤمن ين و قد نزل‬
‫على فرش له وإذا على بسـاطه دابتان مـا تروثان ول تبولن وجاء صـبي يخرج ثـم يرجـع‬
‫فقال لي أتدري من هذا قلت ل قال هذا اب ني وإن ما يفزع من هيب تك ثم ساءلني عن أشياء‬
‫من ها حلل ومن ها حرام ثم قال لي أ نت وال أع قل الناس وأعلم الناس قلت ل وال يا أم ير‬
‫المؤمنيـن قال بلى ولكنـك تكتـم ثـم قال وال لئن بقيـت لكتبـن قولك كمـا تكتـب المصـاحف‬
‫ولبع ثن به إلى الفاق فلحمله نم عل يه‪.‬فقال مالك‪ :‬ل تف عل يا أم ير المؤمن ين‪ ،‬فإن أ صحاب‬
‫رسول تفرقوا في المصار وإن تفعل تكن فتنة!!‬
‫مواقف من حياته‬

‫روي أن مالكا كان يقول ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني هل تراني موضعا‬
‫لذلك سألت ربي عة و سألت يح يى بن سعيد فأمرا ني بذلك فقلت فلو نهوك قال ك نت أنت هي ل‬
‫ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه‬

‫وقال خلف‪ :‬دخلت عليه فقلت ما ترى فإذا رؤيا بعثها بعض إخوانه يقول‪ :‬رأيت النبي (صلى‬
‫ال عل يه و سلم) في المنام في م سجد قد اجت مع الناس عل يه فقال ل هم إ ني قد خبأت ت حت‬
‫منـبري طيبـا أو علمـا وأمرت مالكـا أن يفرقـه على الناس فانصـرف الناس وهـم يقولون إذا‬
‫ينفذ مالك ما أمره به رسول ال (صلى ال عليه وسلم) ثم بكى فقمت عنه‪.‬‬

‫وروي أن المهدي قدم المدي نة فب عث إلى مالك بأل في دينار أو قال بثل ثة آلف دينار ثم أتاه‬
‫الربيـع بعـد ذلك فقال إن أميـر المؤمنيـن يحـب أن تعادله إلى مدينـة السـلم فقال قال النـبي‬
‫(صلى ال عليه وسلم) المدينة خير لهم ولو كانوا يعلمون والمال عندي على حاله‪.‬‬

‫وقدم المهدي المدينة مرة أخرى فبعث إلى مالك فأتاه فقال لهارون وموسى اسمعا منه فبعث‬
‫إل يه فلم يجبه ما فأعل ما المهدي فكل مة فقال يا أم ير المؤمن ين العلم يؤ تى أهله فقال صدق‬
‫مالك صيرا إليه فلما صارا إليه قال له مؤدبهما اقرأ علينا فقال إن أهل المدينة يقرؤون على‬
‫العالم كمـا يقرأ الصـبيان على المعلم فإذا أخطئوا أفتاهـم فرجعوا إلى المهدي فبعـث إلى مالك‬
‫فكل مه فقال سمعت ا بن شهاب يقول جمع نا هذا العلم في الرو ضة من رجال و هم يا أم ير‬
‫المؤمنين سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجه بن زيد وسليمان بن‬
‫يسار ونا فع وعبد الرحمن بن هرمز ومن بعدهم أبو الزناد وربيعه ويحيى بن سعيد وابن‬
‫شهاب كـل هؤلء يقرأ عليهـم ول يقرؤون فقال فـي هؤلء قدوة صـيروا إليـه فاقرؤوا عليـه‬
‫ففعلوا‪.‬‬

‫يروي يحيى ابن خلف الطرسوسي وكان من ثقات المسلمين قال كنت عند مالك فدخل عليه‬
‫رجل فقال يا أبا عبد ال ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق فقال مالك زنديق اقتلوه فقال يا‬
‫أبا عبد ال إنما أحكي كلما سمعته قال إنما سمعته منك وعظم هذا القول‪.‬‬

‫و عن قتي به قال ك نا إذا دخل نا على مالك خرج إلي نا مزي نا مكحل مطي با قد ل بس من أح سن‬
‫ثيابه وتصدر الحلقة ودعا بالمراوح فأعطى لكل منا مروحة‪.‬‬
‫و عن مح مد بن ع مر قال كان مالك يأ تي الم سجد فيش هد ال صلوات والجم عة والجنائز ويعود‬
‫المر ضى ويجلس في الم سجد فيجت مع إل يه أ صحابه ثم ترك الجلوس فكان ي صلي وين صرف‬
‫وترك شهود الجنائز ثم ترك ذلك كله والجمعة واحتمل الناس ذلك كله وكانوا أرغب ما كانوا‬
‫فيه وربما كلم في ذلك فيقول ليس كل أحد يقدر أن يتكلم بعذره‪.‬‬

‫وكان يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطرو حة في منزله يم نة وي سرة ل من يأت يه‬
‫مـن قريـش والنصـار والناس‪ ،‬وكان مجلسـه مجلس وقار وحلم قال وكان رجل مهيبـا نـبيل‬
‫ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ول رفع صوت وكان الغرباء يسألونه عن الحديث‬
‫فل يجيب إل في الحد يث بعد الحد يث وربما أذن لبعضهم يقرأ عليه وكان له كاتب قد نسخ‬
‫كتبه يقال له حبيب يقرأ للجماعة ول ينظر أحد في كتابه ول يستفهم هيبة لمالك وإجلل له‬
‫وكان حبيب إذا قرأ فأخطأ فتح عليه مالك وكان ذلك قليل قال ابن وهب سمعت مالكا يقول ما‬
‫أكثر أحد قط فأفلح‪.‬‬

‫وقيـل لمالك لم ل تأخـذ عـن عمرو بـن دينار قال‪ :‬أتيتـه فوجدتـه يأخذون عنـه قيامـا فأجللت‬
‫حديث رسول ال (صلى ال عليه وسلم) أن آخذه قائما‪.‬‬

‫ويروى عن ابن وهب قال‪ :‬سمعت مالكا يقول لرجل سأله عن القدر نعم قال ال تعالى {ولو‬
‫شئنا لتينا كل نفس هداها}(السجدة‪)12:‬‬

‫وقال جع فر بن ع بد ال قال ك نا ع ند مالك فجاءه ر جل فقال يا أ با ع بد ال [الرح من على‬


‫العرش استوى " كيف استوى فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الرض‬
‫وج عل ين كت بعود في يده ح تى عله الرضاء ثم ر فع رأ سه ور مى بالعود وقال الك يف م نه‬
‫غيـر معقول والسـتواء منـه غيـر مجهول واليمان بـه واجـب والسـؤال عنـه بدعـة وأظنـك‬
‫صاحب بدعة وأمر به فأخرج]‬

‫وفـي روايـة أخرى قال‪ :‬الرحمـن على العرش اسـتوى‪ ،‬كمـا وصـف نفسـه ول يقال له كيـف‬
‫وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه‪.‬‬

‫من كلماته‬

‫العلم ينقص ول يزيد ولم يزل العلم ينقص بعد النبياء والكتب‪.‬‬

‫وال ما دخلت على ملك من هؤلء الملوك حتى أصل إليه إل نزع ال هيبته من صدري‪.‬‬
‫أعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم النسان بكل ما يسمع‪.‬‬

‫ما تعلمت العلم إل لنفسي وما تعلمت ليحتاج الناس إلي وكذلك كان الناس‪.‬‬

‫ليس هذا الجدل من الدين بشيء‪.‬‬

‫ل يؤ خذ العلم عن أرب عة سفيه يعلن ال سفه وإن كان أروى الناس و صاحب بد عة يد عو إلى‬
‫هواه ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت ل أتهمه في الحديث وصالح عابد فاضل إذا كان‬
‫ل يحفظ ما يحدث به‪.‬‬

‫صفة المام مالك‬

‫عن عيسى بن عمر قال ما رأيت قط بياضا ول حمرة أحسن من وجه مالك ول أشد بياض‬
‫ثوب من مالك‪ ،‬ونقـل غ ير واحـد أ نه كان طوال ج سيما عظ يم الهامـة أش قر أب يض الرأس‬
‫واللحية عظيم اللحية أصلع وكان ل يحفي شاربه ويراه مثله‪.‬‬

‫وقيل كان أزرق العين‪ ،‬محمد بن الضحاك الحزامي كان مالك نقي الثوب رقيقه يكثر اختلف‬
‫اللبوس‪ ،‬و قال أشهب كان مالك إذا اعتم جعل منها تحت ذقنه ويسدل طرفها بين كتفيه‪.‬‬

‫إمام في الحديث‬

‫كان المام مالك من أئ مة الحد يث في المدي نة‪ ،‬يقول يح يى القطان ما في القوم أ صح حدي ثا‬
‫من مالك كان إما ما في الحد يث‪ ،‬قال الشاف عي قال مح مد بن الح سن أق مت ع ند مالك ثلث‬
‫سنين وكسرا وسمعت من لفظه أكثر من سبعمائة حديث فكان محمد إذا حدث عن مالك امتل‬
‫منزله وإذا حدث عن غيره من الكوفيين لم يجئه إل اليسير‪.‬‬

‫قال ابن مهدي أئمة الناس في زمانهم أربعة الثوري ومالك والوزاعي وحماد بن زيد وقال‬
‫ما رأيت أحدا أعقل من مالك‪.‬‬

‫محنة المام مالك‬

‫تعرض المام مالك لمحنـة وبلء بسـبب حسـد ووشايـة بينـه وبيـن والي المدينـة جعفـر بـن‬
‫سليمان ويروى أ نه ضرب بال سياط ح تى أ ثر ذلك على يده فيقول إبراه يم بن حماد أ نه كان‬
‫ينظـر إلى مالك إذا أقيـم مـن مجلسـه حمـل يده بالخرى‪ ،‬ويقول الواقدي لمـا ولي جعفـر بـن‬
‫سليمان المدي نة سعوا بمالك إل يه وكثروا عل يه عنده وقالوا ل يرى أيمان بيعت كم هذه بش يء‬
‫وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الحنف في طلق المكره أنه ل يجوز عنده قال فغضب‬
‫جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده‬
‫حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمر عظيم فواال ما زال مالك بعد في رفعة وعلو‪ ،‬وهذه‬
‫ثمرة المحنة المحمودة أنها ترفع العبد عند المؤمنين وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا ويعفو‬
‫ال عن كثير ومن يرد ال به خيرا يصيب منه وقال النبي (صلى ال عليه وسلم) كل قضاء‬
‫المؤ من خ ير له وقال ال تعالى {ولنبلون كم ح تى نعلم المجاهد ين من كم وال صابرين} (مح مد‪:‬‬
‫‪ )31‬وأنزل ال تعالى في وقعه أحد قوله {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني‬
‫هذا قل هو من ع ند أنف سكم}(آل عمران‪ )165:‬وقال {و ما أ صابكم من م صيبة فب ما ك سب‬
‫أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى‪)30:‬‬

‫فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه فال حكم مقسط ثم‬
‫يحمد ال على سلمة دينه ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له‪.‬‬

‫تراث المام مالك‬

‫ع ني العلماء بتحق يق وتأل يف الك تب حول تراث المام مالك‪ ،‬و ما زال العلماء قدي ما وحدي ثا‬
‫لهم أتم اعتناء برواية الموطأ ومعرفته وتحصيله‬

‫وفاة المام مالك‬

‫قال القع نبي سمعتهم يقولون ع مر مالك ت سعا وثمان ين سنة مات سنة ت سع و سبعين ومئة‬
‫وقال إسماعيل بن أبي أويس مرض مالك فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت قالوا تشهد‬
‫ثم قال {ل المر من قبل ومن بعد} (الروم‪ ،)4:‬وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الول‬
‫سنة تسع وسبعين ومائة فصلى عليه المير عبد ال بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي‬
‫بن عبد ال بن عباس الهاشمي‪.‬‬
‫الحسن البصري‬

‫التابعى الجليل‬

‫وصف بأنه من كان من سادات التابعين وكبرائهم‪ ،‬وجمع كل فن من علم وزهد وورع‬
‫وعبادة ومن القلئل الذين أجرى ال الحكمة على ألسنتهم فكان كلمه حكمة وبلغة إنه‬
‫التابعي الجليل الحسن البصري‪.‬‬

‫نسبه ونشأته‬

‫هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري‪ ،‬ولد الحسن في أواخر خلفة عمر بن‬
‫الخطاب رضي ال عنه بالمدينة‪ ،‬وأبوه مولى زيد بن ثابت النصاري رضي ال عنه وأمه‬
‫خيرة مولة أم سلمة زوج النبي وكانت أمه ربما غابت في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة‬
‫رضي ال عنها ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فدر عليه ثديها فشربه فيرون أن تلك‬
‫الحكمة والفصاحة من بركة ذلك‪.‬‬

‫ونشأ الحسن بوادي القرى وكان من أجمل أهل البصرة حتى سقط عن دابته فحدث بأنفه ما‬
‫حدث‪.‬‬

‫وحكى الصمعي عن أبيه قال ما رأيت أعرض زندا من الحسن كان عرضه شبرا‪ .‬وقال أبو‬
‫عمرو بن العلء ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج ابن يوسف الثقفي فقيل‬
‫له فأيهما كان أفصح قال الحسن‪.‬‬

‫مواقف من حياته‬

‫كان الحسن يقص (يحكى القصص) في الحج فمر به علي بن الحسين فقال له يا شيخ‬
‫أترضى نفسك للموت قال ل قال فلله في أرضه معاد غير هذا البيت قال ل قال فثم دار للعمل‬
‫غير هذه الدار قال ل قال فعملك للحساب قال ل قال فلم تشغل الناس عن طواف البيت قال‪:‬‬
‫فما قص الحسن بعدها‪.‬‬

‫***‬
‫وقيل إن رجل أتى الحسن فقال يا أبا سعيد إني حلفت بالطلق أن الحجاج في النار فما‬
‫تقول أقيم مع امرأتي أم أعتزلها فقال له قد كان الحجاج فاجرا فاسقا وما أدري ما أقول لك‬
‫إن رحمة ال وسعت كل شيء وإن الرجل أتى محمد بن سيرين فأخبره بما حلف فرد عليه‬
‫شبيها بما قاله الحسن وإنه أتى عمرو بن عبيد فقال له أقم مع زوجتك فإن ال تعالى إن‬
‫غفر للحجاج لم يضرك الزنا ذكر ذلك‪.‬‬

‫***‬

‫وكان في جنازة وفي ها نوائح وم عه ر جل ف هم الر جل بالرجوع فقال له الح سن يا أ خي إن‬


‫كنت كلما رأيت قبيحا تركت له حسنا أسرع ذلك في دينك‬

‫****‬

‫وقيل له أل ترى كثرة الوباء فقال أنفق ممسك وأقلع مذنب واتعظ جاحد‪.‬‬

‫****‬

‫ونظر إلى جنازة قد ازدحم الناس عليها فقال ما لكم تزدحمون ها تلك هي ساريته في‬
‫المسجد اقعدوا تحتها حتى تكونوا مثله‪.‬‬

‫***‬

‫وحدث الحسن بحديث فقال له رجل يا أبا سعيد عن من فقال وما تصنع بعن من أما أنت‬
‫فقد نالتك موعظته وقامت عليك حجته‪.‬‬

‫***‬

‫وقال لفرقد بن يعقوب بلغني أنك ل تأكل الفالوذج فقال يا أبا سعيد أخاف أل أؤدي شكره قال‬
‫الحسن يا لكع هل تقدر تؤدي شكر الماء البارد الذي تشربه‪.‬‬

‫***‬

‫وقيل للحسن إن فلنا اغتابك فبعث إليه طبق حلوى وقال بلغني أنك أهديت إلي حسناتك‬
‫فكافأتك بهذا‬
‫***‬

‫ولما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد‬
‫الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلث ومائة فقال‬
‫لهم إن يزيد خليفة ال استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع‬
‫والطاعة وقد ولني ما ترون فيكتب إلي بالمر من أمره فأنفذ ذلك المر فما ترون؟! فقال‬
‫ابن سيرين والشعبي قول فيه تقية فقال ابن هبيرة ما تقول يا حسن فقال يا ابن هبيرة خف‬
‫ال في يزيد ول تخف يزيد في ال إن ال يمنعك من يزيد وإن يزيد ل يمنعك من ال وأوشك‬
‫أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن سريرك‪ ،‬ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم ل‬
‫ينجيك إل عملك يا ابن هبيرة إن تعص ال فإنما جعل ال هذا السلطان ناصرا لدين ال‬
‫وعباده فل تركبن دين ال وعباده بسلطان ال فإنه ل طاعة لمخلوق في معصية الخالق‬
‫فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن فقال الشعبي لبن سيرين سفسفنا له فسفسف‬
‫لنا‪.‬‬

‫من كلماته‬

‫ما رأيت يقينا ل شك فيه أشبه بشك ل يقين فيه إل الموت‪.‬‬

‫ورأى الحسن يوما رجل وسيما حسن الهيئة فسأل عنه فقيل إنه يسخر للملوك ويحبونه‬
‫فقال ل أبوه ما رأيت أحدا طلب الدنيا بما يشبهها إل هذا‪.‬‬

‫وفاته‬

‫وتوفي بالبصرة مستهل رجب سنة عشر ومائة رضي ال عنه وكانت جنازته مشهودة قال‬
‫حميد الطويل توفي الحسن عشية الخميس وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره وحملناه‬
‫بعد صلة الجمعة ودفناه فتبع الناس كلهم جنازته واشتغلوا به فلم تقم صلة العصر بالجامع‬
‫ول أعلم أنها تركت منذ كان السلم إل يومئذ لنهم تبعوا كلهم الجنازة حتى لم يبق بالمسجد‬
‫من يصلي العصر وأغمي على الحسن عند موته ثم أفاق فقال لقد نبهتموني من جنات‬
‫وعيون ومقام كريم‪.‬‬

‫وقال رجل قبل موت الحسن لبن سيرين رأيت كأن طائرا أخذ أحسن حصاة بالمسجد فقال‬
‫إن صدقت رؤياك مات الحسن فلم يكن إل قليل حتى مات الحسن‪.‬‬
‫ولم يشهد ابن سيرين جنازته لشيء كان بينهما ثم توفي بعده بمائة يوم‪.‬‬

‫الشافعي‬

‫قال له المام مالك‪ :‬إن ال تعالى قد ألقى في قلبك نورًا فل تطفئه بالمعصية‪ ،‬واتق ال فإنه‬
‫سيكون لك شأن!!‬
‫في غزة بأرض فلسطين سنة ‪150‬هـ‪ ،‬وضعت (فاطمة بنت عبد ال الزدية) مولودها (محمد‬
‫بن إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه المام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم‪،‬‬
‫يمل الرض علمًا ويحيي سنة رسول ال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬ويلتقي الشافعي مع الرسول‬
‫‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬في الجدّ العلى‪.‬‬
‫فتح الشافعي عينيه على الحياة‪ ،‬فلم يجد والده بجانبه‪ ،‬حيث مات بعد ولدته بزمن قصير‪ ،‬فنشأ‬
‫يتيمًا‪ ،‬لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه‪ ،‬وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن‬
‫سنتين‪ ،‬ففيها أهله وعشيرته وعلماء السلم‪ ،‬وظلت تربيه تربية صالحة‪ ،‬وترعاه‪ ،‬وتأمل أن‬
‫يكون من العلماء الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‪.‬‬
‫حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين‪ ،‬ثم شرع في حفظ أحاديث رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه‪ ،‬ولما كان الشافعي ل يقوى على دفع أجر‬
‫المحفظ أو شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع‬
‫قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها!!‬
‫وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي‪ ،‬حتى كان يرمي عشرة سهام‪ ،‬فل يخطئ في سهم‬
‫واحد منها‪ ،‬ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية‪ ،‬وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبلغة؛‬
‫فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم‪ ،‬ويحفظ‬
‫أشعارهم‪ ،‬حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان‪ ،‬ينشد الشعار‪ ،‬ويذكر الداب وأخبار العرب إلى أن‬
‫اتجه إلى طريق الفقه والحديث‪ ،‬فرحل الشافعي إلى مدينة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪،‬‬
‫ليلتقي بعالم المدينة المام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة‪ ،‬ولما التقي به قال له المام مالك‪ :‬إن‬
‫ال تعالى قد ألقى على قلبك نورًا‪ ،‬فل تطفئه بالمعصية‪ ،‬واتق ال فإنه سيكون لك شأن‪.‬‬
‫وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية‪ ،‬فما مال إلى شرّ‪ ،‬ول جنح إلى لهو أو مجون‪ ،‬بل كان قانعًا‬
‫بما قسم ال له‪ ،‬يرضى بالقليل‪ ،‬ويقنع باليسير‪ ،‬ويزداد زهدًا كلما وقف على قيمة الدنيا‪ ،‬ويعيش‬
‫في محراب الحق مسبحًا مناجيًا‪ ،‬يعبد ال بلسانه وقلبه‪ ،‬وظل الشافعي يتتلمذ على يد المام‬
‫(مالك) حتى انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه‪ ،‬لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى‪ ،‬يتعلم على‬
‫أيدي علمائها وشيوخها‪ ،‬فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره‪،‬‬
‫وهناك ظهرت صلبة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد‬
‫اتهموه عند أمير المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين‪ ،‬ولكنه استطاع بثقته في‬
‫ال ورباطة جأشه أن ينفي هذه التهمة عن نفسه‪.‬‬
‫ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي‬
‫الحرم المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه‪ ،‬وحضر مجلسه أناس من جميع القطار والبلدان‪،‬‬
‫والتقى به كبار العلماء وخاصة في مواسم الحج‪ ،‬ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة ‪195‬هـ‪،‬‬
‫وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء يستزيدون من‬
‫علمه‪ ،‬ويقصده الطلب من كل مكان‪.‬‬
‫وجاء الشافعي إلى مصر في عام ‪198‬هـ‪ ،‬لينشر مذهبه فيها‪ ،‬وليبتعد عن جو الضطرابات‬
‫السياسية في العراق‪ ،‬وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم‪ ،‬وبقي‬
‫في (مصر) خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم‬
‫ومن أشهر مؤلفاته‪ :‬كتاب (الم) في الفقه‪ ،‬وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه‪ ،‬وهو يُعدّ أول‬
‫كتاب يُصنف في هذا العلم‪.‬‬
‫وقد لقي الشافعي تقديرًا كبيرًا من فقهاء عصره ومن بعدهم‪ ،‬سأل عبد ال بن‬
‫أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال‪ :‬يا بني‪ ،‬كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن‪.‬‬
‫وقيل فيه ‪:‬‬
‫ومَنْ َيكُ عِلمُ الشافعي إمَامــهَ‬
‫فمرتعه في باحة العلم واســع‬
‫وكان أحمد بن حنبل ‪-‬أحد تلميذه‪ -‬يحرص على أل يفوته درس الشافعي‪ ،‬ويقول لحد أصحابه‪:‬‬
‫(يا أبا يعقوب‪ ،‬اقتبس من الرجل‪ ،‬فإنه ما رأت عيناي مثله) وكان (سفيان بن عيينة) أستاذ‬
‫الشافعي يستفسر منه عن بعض الحكام الفقهية التي لم يقف عليها‪.‬‬
‫وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة‪ ،‬ينتقل من علم إلى‬
‫علم‪ ،‬يجلس في حلقته إذا صلى الفجر‪ ،‬فيأتيه من يريدون تعلم القرآن‪ ،‬فإذا طلعت الشمس قاموا‬
‫وجاء طلب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه‪ ،‬فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية‬
‫والعروض والنحو الشعر‪ ،‬ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صلة الفجر حتى صلة‬
‫الظهر!!‬
‫وكما كان الشافعي فقيهًا ومحدثًا كبيرًا‪ ،‬كان أيضًا شاعرًا رقيقًا فاض شعره بالتقرب إلى ال‪ ،‬فها‬
‫هو ذا يستغفر ال ويدعوه قائل‪:‬‬
‫ت مذاهبـــي‬ ‫ولما قَسا قَلْبي وضاقَ ْ‬
‫ت رجائي نحو عفوِك سُلّمــًا‬ ‫جعل ُ‬
‫ظمَني ذَنبْي فلمّا قِ َر ْنتُــــــــهُ‬
‫تعا َ‬
‫عظَمـا‬ ‫ك ربّي كــان عفُوك َأ ْ‬ ‫بعفْـ ِو َ‬
‫ويوصي الشافعي من خلل شعره بأل نرد على السفيه قائلً‪:‬‬
‫إذا نطق السفيه فل تجبـــــــه‬
‫فخير من إجابته السكــــــوت‬
‫فإن كلمته فرجت عنــــــــه‬
‫وإن خليته كمــدًا يمـــــوت‬
‫ويصور عزة نفسه‪ ،‬وإن كانت ثيابه قديمه بالية‪ ،‬فتحتها نفس أبية عزيزة غالية ل مثيل لها‬
‫فيقول‪:‬‬
‫عليّ ثياب لو يباع جميعهــــا‬
‫بفلس لكان الفلس منهـن أكْثـَرا‬
‫س ببعْضِهــا‬ ‫وفيهن نفسٌ لو يُقا ُ‬
‫نفوسٌ الورى كانت أجلّ وأ ْكبَرا‬
‫ومرض الشافعي‪ ،‬وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له‪ :‬كيف أصبحت؟ فأجاب‬
‫الشافعي‪ :‬أصبحت من الدنيا راحلً‪ ،‬ولخواني مفارقًا‪ ،‬ومن كأس المنية شاربًا‪ ،‬ولسوء عملي‬
‫ملقيًا‪ ،‬وعلى الكريم سبحانه واردًا‪ ،‬ول وال ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى‬
‫النار فأعزيها‪.‬‬
‫ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام ‪204‬هـ‪ ،‬وبعد صلة العصر خرجت الجنازة من‬
‫بيت الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها‪ ،‬حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث‬
‫أمرت السيدة نفيسة ‪-‬رضي ال عنها‪ -‬بإدخال النعش إلى بيتها‪ ،‬ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت‬
‫عليه صلة الجنازة‪ ،‬وقالت‪ :‬رحم ال الشافعي إنه كان يحسن الوضوء‪.‬‬

‫الشيخ الشعراوي‬
‫الشيخ الشعراوي‬

‫عرف بأسلوبه العذب البسيط في تفسير القرآن‪ ،‬وكان تركيزه على النقاط اليمانية في‬
‫تفسيره جعله يقترب من قلوب الناس‪ ،‬وبخاصة وأن أسلوبه يناسب جميع المستويات‬
‫والثقافات‪.‬‬

‫إنه الشيخ محمد متولي الشعراوي أشهر من فسر القرآن في عصرنا‪.‬‬

‫مولده وتعليمه‬

‫ولد فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي في ‪ 5‬أبريل عام ‪ 1911‬م بقرية دقادوس مركز‬
‫ميت غمر بمحافظة الدقهلية وحفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره‪.‬‬

‫في عام ‪ 1926‬م التحق الشيخ الشعراوي بمعهد الزقازيق البتدائي الزهري‪ ،‬وأظهر نبوغا‬
‫منذ الصغر في حفظه للشعر والمأثور من القول والحكم‪ ،‬ثم حصل على الشهادة البتدائية‬
‫الزهرية سنة ‪1923‬م‪ ،‬ودخل المعهد الثانوي‪ ،‬وزاد اهتمامه بالشعر والدب‪ ،‬و حظى بمكانة‬
‫خاصة بين زملئه‪ ،‬فاختاروه رئيسًا لتحاد الطلبة‪ ،‬ورئيسًا لجمعية الدباء بالزقازيق‪ ،‬وكان‬
‫معه في ذلك الوقت الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى‪ ،‬والشاعر طاهر أبو فاشا‪ ،‬والستاذ‬
‫خالد محمد خالد والدكتور أحمد هيكل والدكتور حسن جاد‪ ،‬وكانوا يعرضون عليه ما يكتبون‪.‬‬

‫وكانت نقطة تحول في حياة الشيخ الشعراوي‪ ،‬عندما أراد له والده إلحاقه بالزهر الشريف‬
‫بالقاهرة‪ ،‬وكان الشيخ الشعراوي يود أن يبقى مع إخوته لزراعة الرض‪ ،‬ولكن إصرار‬
‫الوالد دفعه لصطحابه إلى القاهرة‪ ،‬ودفع المصروفات وتجهيز المكان للسكن‪.‬‬

‫فما كان من الشيخ إل أن اشترط على والده أن يشتري له كميات من أمهات الكتب في‬
‫التراث واللغة وعلوم القرآن والتفاسير وكتب الحديث النبوي الشريف‪ ،‬كنوع من التعجيز‬
‫حتى يرضى والده بعودته إلى القرية‪.‬‬

‫ل له‪ :‬أنا أعلم يا بني أن جميع‬


‫لكن والده فطن إلى تلك الحيلة‪ ،‬واشترى له كل ما طلب قائ ً‬
‫هذه الكتب ليست مقررة عليك‪ ،‬ولكني آثرت شراءها لتزويدك بها كي تنهل من العلم‪.‬‬
‫فما كان أمام الشيخ إل أن يطيع والده‪ ،‬ويتحدى رغبته في العودة إلى القرية‪ ،‬فأخذ يغترف‬
‫من العلم‪ ،‬ويلتهم منه كل ما تقع عليه عيناه‪.‬‬

‫والتحق الشعراوي بكلية اللغة العربية سنة ‪1937‬م‪ ،‬وانشغل بالحركة الوطنية والحركة‬
‫الزهرية‪ ،‬فثورة سنة ‪1919‬م اندلعت من الزهر الشريف‪ ،‬ومن الزهر خرجت المنشورات‬
‫التي تعبر عن سخط المصريين ضد النجليز المحتلين‪ .‬ولم يكن معهد الزقازيق بعيدًا عن‬
‫قلعة الزهر الشامخة في القاهرة‪ ،‬فكان الشيخ يزحف هو وزملئه إلى ساحات الزهر‬
‫وأروقته‪ ،‬ويلقى بالخطب مما عرضه للعتقال أكثر من مرة‪ ،‬وكان وقتها رئيسًا لتحاد‬
‫الطلبة سنة ‪1934‬م‪.‬‬

‫التدرج الوظيفي‬

‫تخرج الشيخ عام ‪ 1940‬م‪ ،‬وحصل على العالمية مع إجازة التدريس عام ‪1943‬م‪.‬‬

‫بعد تخرجه عين الشعراوي في المعهد الديني بطنطا‪ ،‬ثم انتقل بعد ذلك إلى المعهد الديني‬
‫بالزقازيق ثم المعهد الديني بالسكندرية وبعد فترة خبرة طويلة انتقل الشيخ الشعراوي إلى‬
‫العمل في السعودية عام ‪ 1950‬ليعمل أستاذًا للشريعة بجامعة أم القرى‪.‬‬

‫ولقد اضطر الشيخ الشعراوي أن يدرّس مادة العقائد رغم تخصصه أصلً في اللغة وهذا في‬
‫حد ذاته يشكل صعوبة كبيرة إل أن الشيخ الشعراوي استطاع أن يثبت تفوقه في تدريس‬
‫هذه المادة لدرجة كبيرة لقت استحسان وتقدير الجميع‪ .‬وفي عام ‪ 1963‬حدث الخلف بين‬
‫الرئيس جمال عبد الناصر وبين الملك سعود‪ .‬وعلى أثر ذلك منع الرئيس عبد الناصر الشيخ‬
‫الشعراوي من العودة ثانية إلى السعودية وعين في القاهرة مديرًا لمكتب شيخ الزهر‬
‫الشريف الشيخ حسن مأمون‪ .‬ثم سافر بعد ذلك الشيخ الشعراوي إلى الجزائر رئيسًا لبعثة‬
‫الزهر هناك ومكث بالجزائر حوالي سبع سنوات قضاها في التدريس وأثناء وجوده في‬
‫الجزائر حدثت نكسة يونيو ‪ ،1967‬وقد تألم الشيخ الشعراوي كثيرًا لقسى الهزائم العسكرية‬
‫التي منيت بها مصر والمة العربية وحين عاد الشيخ الشعراوي إلى القاهرة وعين مديرًا‬
‫لوقاف محافظة الغربية فترة‪ ،‬ثم وكيل للدعوة والفكر‪ ،‬ثم وكيلً للزهر ثم عاد ثانية إلى‬
‫المملكة العربية السعودية‪ ،‬حيث قام بالتدريس في جامعة الملك عبد العزيز‪.‬‬
‫وفي نوفمبر ‪1976‬م اختار السيد ممدوح سالم رئيس الوزراء آنذاك أعضاء وزارته‪ ،‬وأسند‬
‫إلى الشيخ الشعراوي وزارة الوقاف وشئون الزهر‪ .‬فظل الشعراوي في الوزارة حتى‬
‫أكتوبر عام ‪1978‬م‪.‬‬

‫وبعد أن ترك بصمة طيبة على جبين الحياة القتصادية في مصر‪ ،‬فهو أول من أصدر قرارًا‬
‫وزاريًا بإنشاء أول بنك إسلمي في مصر وهو (بنك فيصل) حيث إن هذا من اختصاصات‬
‫وزير القتصاد أو المالية (د‪ .‬حامد السايح في هذه الفترة)‪ ،‬الذي فوضه‪ ،‬ووافقه مجلس‬
‫الشعب على ذلك‪.‬‬

‫وقال في ذلك‪ :‬إنني راعيت وجه ال فيه ولم أجعل في بالي أحدًا لنني علمت بحكم تجاربي‬
‫في الحياة أن أي موضوع يفشل فيه النسان أو تفشل فيه الجماعة هو الموضوع الذي يدخل‬
‫هوى الشخص أو أهواء الجماعات فيه‪ .‬أما إذا كانوا جميعًا صادرين عن هوى الحق وعن‬
‫مراده‪ ،‬فل يمكن أبدًا أن يهزموا‪ ،‬وحين تدخل أهواء الناس أو الشخاص‪ ،‬على غير مراد‬
‫ال‪ ،‬تتخلى يد ال‪.‬‬

‫وفي سنة ‪1987‬م اختير فضيلته عضوا بمجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين)‪ .‬وقرّظه‬
‫زملؤه بما يليق به من كلمات‪ ،‬وجاء انضمامه بعد حصوله على أغلبية الصوات (‬
‫‪40‬عضوًا)‪ .‬وقال يومها‪ :‬ما أسعدني بهذا اللقاء‪ ،‬الذي فرحت به فرحًا على حلقات‪ :‬فرحت‬
‫به ترشيحًا لي‪ ،‬وفرحت به ترجيحًا لي‪ ،‬وفرحت به استقبالً لي‪ ،‬لنه تكريم نشأ عن إلحاق ل‬
‫عن لحوق‪ ،‬واللحاق استدعاء‪ ،‬أدعو ال بدعاء نبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬اللهم إني‬
‫أستعيذك من كل عمل أردت به وجهك مخالطا فيه غيرك‪ .‬فحين رشحت من هذا المجمع‬
‫آمنت بعد ذلك أننا في خير دائم‪ ،‬وأننا لن نخلو من الخير ما دام فينا كتاب ال‪ ،‬سألني‬
‫البعض‪ :‬هل قبلت النضمام إلى مجمع الخالدين‪ ،‬وهل كتب الخلود لحد؟ وكان ردي‪ :‬إن‬
‫الخلود نسبي‪ ،‬وهذا المجمع مكلف بالعربية‪ ،‬واللغة العربية للقرآن‪ ،‬فالمجمع للقرآن‪،‬‬
‫وسيخلد المجمع بخلود القرآن‪.‬‬

‫أسرة الشعراوي‬

‫تزوج الشيخ الشعراوي وهو في البتدائية بناء على رغبة والده الذي اختار له زوجته‪،‬‬
‫ووافق الشيخ على اختياره‪ ،‬وكان اختيارًا طيبًا لم يتعبه في حياته‪ ،‬وأنجب الشعراوي ثلثة‬
‫أولد وبنتين‪ ،‬الولد‪ :‬سامي وعبد الرحيم وأحمد‪ ،‬والبنتان فاطمة وصالحة‪ .‬وكان الشيخ‬
‫يرى أن أول عوامل نجاح الزواج هو الختيار والقبول من الطرفين‪ .‬وعن تربية أولده‬
‫يقول‪ :‬أهم شيء في التربية هو القدوة‪ ،‬فإن وجدت القدوة الصالحة سيأخذها الطفل تقليدًا‪،‬‬
‫وأي حركة عن سلوك سيئ يمكن أن تهدم الكثير‪.‬‬

‫فالطفل يجب أن يرى جيدًا‪ ،‬وهناك فرق بين أن يتعلم الطفل وأن تربي فيه مقومات الحياة‪،‬‬
‫فالطفل إذا ما تحركت ملكاته وتهيأت للستقبال والوعي بما حوله‪ ،‬أي إذا ما تهيأت أذنه‬
‫للسمع‪ ،‬وعيناه للرؤية‪ ،‬وأنفه للشم‪ ،‬وأنامله للمس‪ ،‬فيجب أن نراعي كل ملكاته بسلوكنا‬
‫المؤدب معه وأمامه‪ ،‬فنصون أذنه عن كل لفظ قبيح‪ ،‬ونصون عينه عن كل مشهد قبيح‪.‬‬

‫وإذا أردنا أن نربي أولدنا تربية إسلمية‪ ،‬فإن علينا أن نطبق تعاليم السلم في أداء‬
‫الواجبات‪ ،‬وإتقان العمل‪ ،‬وأن نذهب للصلة في مواقيتها‪ ،‬وحين نبدأ الكل نبدأ باسم ال‪،‬‬
‫وحين ننتهي منه نقول‪ :‬الحمد ل‪ ..‬فإذا رآنا الطفل ونحن نفعل ذلك فسوف يفعله هو الخر‬
‫حتى وإن لم نتحدث إليه في هذه المور‪ ،‬فالفعل أهم من الكلم‪.‬‬

‫الجوائز التي حصل عليها‬

‫منح المام الشعراوي وسام الستحقاق من الدرجة الولى لمناسبة بلوغه سن التقاعد في‬
‫‪ 15/4/1976‬م قبل تعيينه وزيرًا للوقاف وشئون الزهر‪.‬‬

‫ومنح وسام الجمهورية من الطبقة الولى عام ‪1983‬م وعام ‪1988‬م‪ ،‬ووسام في يوم‬
‫الدعاة‪.‬‬

‫حصل على الدكتوراه الفخرية في الداب من جامعتي المنصورة والمنوفية‪.‬‬

‫اختارته رابطة العالم السلمي بمكة المكرمة عضوًا بالهيئة التأسيسية لمؤتمر العجاز‬
‫العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية‪ ،‬الذي تنظمه الرابطة‪ ،‬وعهدت إليه بترشيح من‬
‫يراهم من المحكمين في مختلف التخصصات الشرعية والعلمية‪ ،‬لتقويم البحاث الواردة إلى‬
‫المؤتمر‪.‬‬

‫أعدت حوله عدة رسائل جامعية منها رسالة ماجستير عنه بجامعة المنيا ـ كلية التربية ـ‬
‫قسم أصول التربية‪ ،‬وقد تناولت الرسالة الستفادة من الراء التربوية لفضيلة الشيخ‬
‫الشعراوي في تطوير أساليب التربية المعاصرة في مصر‪.‬‬
‫جعلته محافظة الدقهلية شخصية المهرجان الثقافي لعام ‪1989‬م والذي تعقده كل عام لتكريم‬
‫أحد أبنائها البارزين‪ ،‬وأعلنت المحافظة عن مسابقة لنيل جوائز تقديرية وتشجيعية‪ ،‬عن‬
‫حياته وأعماله ودوره في الدعوة السلمية محليًا‪ ،‬ودوليًا‪ ،‬ورصدت لها جوائز مالية‬
‫ضخمة‪.‬‬

‫مؤلفات الشيخ الشعراوي‬

‫للشيخ الشعراوي عدد من المؤلفات‪ ،‬قام عدد من محبيه بجمعها وإعدادها للنشر‪ ،‬وأشهر‬
‫هذه المؤلفات وأعظمها تفسير الشعراوي للقرآن الكريم‪ ،‬ومن هذه المؤلفات‪:‬‬

‫السراء والمعراج‪.‬‬

‫أسرار بسم ال الرحمن الرحيم‪.‬‬

‫السلم والفكر المعاصر‪.‬‬

‫السلم والمرأة‪ ،‬عقيدة ومنهج‪.‬‬

‫الشورى والتشريع في السلم‪.‬‬

‫الصلة وأركان السلم‪.‬‬

‫الطريق إلى ال‪.‬‬

‫الفتاوى‪.‬‬

‫لبيك اللهم لبيك‪.‬‬

‫‪ 100‬سؤال وجواب في الفقه السلمي‪.‬‬

‫المرأة كما أرادها ال‪.‬‬

‫معجزة القرآن‪.‬‬

‫من فيض القرآن‪.‬‬


‫نظرات في القرآن‪.‬‬

‫على مائدة الفكر السلمي‪.‬‬

‫القضاء والقدر‪.‬‬

‫هذا هو السلم‪.‬‬

‫المنتخب في تفسير القرآن الكريم‪.‬‬

‫الشاعر‬

‫عشق الشيخ الشعراوي ـ رحمه ال ـ اللغة العربية‪ ،‬وعرف ببلغة كلماته مع بساطة في‬
‫السلوب‪ ،‬وجمال في التعبير‪ ،‬ولقد كان للشيخ باع طويل مع الشعر‪ ،‬فكان شاعرا يجيد‬
‫التعبير بالشعر في المواقف المختلفة‪ ،‬وخاصة في التعبير عن آمال المة أيام شبابه‪ ،‬عندما‬
‫كان يشارك في العمل الوطني بالكلمات القوية المعبرة‪ ،‬وكان الشيخ يستخدم الشعر أيضا في‬
‫تفسير القرآن الكريم‪ ،‬وتوضيح معاني اليات‪ ،‬وعندما يتذكر الشيخ الشعر كان يقول‬
‫"عرفوني شاعرا"‬

‫وعن منهجه في الشعر يقول‪ :‬حرصت على أن أتجه في قصائدي إلى المعنى المباشر من‬
‫أقصر طريق‪ ..‬بغير أن أحوم حوله طويل‪ ..‬لن هذا يكون القرب في الوصول إلى أعماق‬
‫القلوب‪ .‬خاصة إذا ما عبرت الكلمات بسيطة وواضحة في غير نقص‪ .‬وربما هذا مع‬
‫مخاطبتي للعقل هو ما يغلب على أحاديثي الن للناس‪.‬‬

‫يقول في قصيدة بعنوان "موكب النور"‪:‬‬

‫أريحي السمــاح واليثـار*****لك إرث يا طيبة النـوار‬

‫وجلل الجمال فيـك عريق*****ل حرمنا ما فيه من أسـرار‬

‫تجتلي عندك البصائر معنى*****فوق طوق العيون والبصار‬


‫الشعر ومعاني اليات‬

‫ويتحدث إمام الدعاة فضيلة الشيخ الشعراوي في مذكراته التي نشرتها صحيفة الهرام عن‬
‫تسابق أعضاء جمعية الدباء في تحويل معاني اليات القرآنية إلى قصائد شعر‪ .‬كان من‬
‫بينها ما أعجب بها رفقاء الشيخ الشعراوي أشد العجاب إلى حد طبعها على نفقتهم‬
‫وتوزيعها‪ .‬يقول إمام الدعاة ومن أبيات الشعر التي اعتز بها‪ ،‬ما قلته في تلك الونة في‬
‫معنى الرزق ورؤية الناس له‪ .‬فقد قلت‪:‬‬

‫تحرى إلى الرزق أسبابه‬

‫فإنـك تجـهل عنـوانه‬

‫ورزقـك يعرف عنوانك‬

‫وعندما سمع سيدنا الشيخ الذي كان يدرس لنا التفسير هذه البيات قال لي‪ :‬يا ولد هذه لها‬
‫قصة عندنا في الدب‪ .‬فسألته‪ :‬ما هي القصة‪ :‬فقال‪ :‬قصة شخص اسمه عروة بن أذينة‪..‬‬
‫وكان شاعرا بالمدينة وضاقت به الحال‪ ،‬فتذكر صداقته مع هشام بن عبد الملك‪ ..‬أيام أن‬
‫كان أمير المدينة قبل أن يصبح الخليفة‪ .‬فذهب إلى الشام ليعرض تأزم حالته عليه لعله يجد‬
‫فرجا لكربه‪ .‬ولما وصل إليه استأذن على هشام ودخل‪ .‬فسأله هشام كيف حالك يا عروة؟‪.‬‬
‫فرد‪ :‬وال إن الحال قد ضاقت بي‪ ..‬فقال لي هشام‪ :‬ألست أنت القائل‪:‬‬

‫لقد علمت وما الشراق من خلقي***إن الذي هـو رزقي سوف يأتيني‬

‫واستطرد هشام متسائل‪ :‬فما الذي جعلك تأتي إلى الشام وتطلب مني‪ ..‬فأحرج عروة الذي‬
‫قال لهشام‪ :‬جزاك ال عني خيرا يا أمير المؤمنين‪ ..‬لقد ذكرت مني ناسيا‪ ،‬ونبهت مني‬
‫غافل‪ ..‬ثم خرج‪..‬‬

‫وبعدها غضب هشام من نفسه لنه رد عروة مكسور الخاطر‪ ..‬وطلب القائم على خزائن بيت‬
‫المال وأعد لعروة هدية كبيرة وحملوها على الجمال‪ ..‬وقام بها حراس ليلحقوا بعروة في‬
‫الطريق‪ ..‬وكلما وصلوا إلى مرحلة يقال لهم‪ :‬كان هنا ومضى‪ .‬وتكرر ذلك مع كل المراحل‬
‫إلى أن وصل الحراس إلى المدينة‪ ..‬فطرق قائد الركب الباب وفتح له عروة‪ ..‬وقال له‪ :‬أنا‬
‫رسول أمير المؤمنين هشام‪ ..‬فرد عروة‪ :‬وماذا أفعل لرسول أمير المؤمنين وقد ردني وفعل‬
‫بي ما قد عرفتم ؟‪..‬‬
‫فقال قائد الحراس‪ :‬تمهل يا أخي‪ ..‬إن أمير المؤمنين أراد أن يتحفك بهدايا ثمينة وخاف أن‬
‫تخرج وحدك بها‪ ..‬فتطاردك اللصوص‪ ،‬فتركك تعود إلى المدينة وأرسل إليك الهدايا معنا‪..‬‬
‫ورد عروة‪ :‬سوف أقبلها ولكن قل لمير المؤمنين لقد قلت بيتا ونسيت الخر‪ ..‬فسأله قائد‬
‫الحراس‪:‬‬

‫ما هو ؟‪ ..‬فقال عروة‪:‬‬

‫أسعى له فيعييني تطلبه*** ولو قعدت أتاني يعينني‬

‫وهذا يدلك ـ فيما يضيفه إمام الدعاة ـ على حرص أساتذتنا على أن ينمو في كل إنسان‬
‫موهبته‪ ،‬ويمدوه بوقود التفوق‪.‬‬

‫مواقف وطنية‬

‫ويروي إمام الدعاة الشيخ الشعراوي في مذكراته وقائع متفرقة الرابط بينها أبيات من الشعر‬
‫طلبت منه وقالها في مناسبات متنوعة‪ ..‬وخرج من كل مناسبة كما هي عادته بدرس‬
‫مستفاد ومنها مواقف وطنية‪.‬‬

‫يقول الشيخ‪ :‬و أتذكر حكاية كوبري عباس الذي فتح على الطلب من عنصري المة وألقوا‬
‫بأنفسهم في مياه النيل شاهد الوطنية الخالد لبناء مصر‪ .‬فقد حدث أن أرادت الجامعة إقامة‬
‫حفل تأبين لشهداء الحادث ولكن الحكومة رفضت‪ ..‬فاتفق إبراهيم نور الدين رئيس لجنة‬
‫الوفد بالزقازيق مع محمود ثابت رئيس الجامعة المصرية على أن تقام حفلة التأبين في أية‬
‫مدينة بالقاليم‪ .‬ول يهم أن تقام بالقاهرة‪ ..‬ولكن لن الحكومة كان واضحا إصرارها على‬
‫الرفض لي حفل تأبين فكان لبد من التحايل على الموقف‪ ..‬وكان بطل هذا التحايل عضو‬
‫لجنة الوفد بالزقازيق حمدي المرغاوي الذي ادعى وفاة جدته وأخذت النساء تبكي‬
‫وتصرخ‪ ..‬وفي المساء أقام سرادقا للعزاء وتجمع فيه المئات وظنت الحكومة لول وهلة أنه‬
‫حقا عزاء‪ ..‬ولكن بعد توافد العداد الكبيرة بعد ذلك فطنت لحقيقة المر‪ ..‬بعد أن أفلت زمام‬
‫الموقف وكان أي تصد للجماهير يعني الصطدام بها‪ ..‬فتركت الحكومة اللعبة تمر على ضيق‬
‫منها‪ ..‬ولكنها تدخلت في عدد الكلمات التي تلقى لكيل تزيد للشخص الواحد على خمس‬
‫دقائق‪ ..‬وفي كلمتي بصفتي رئيس اتحاد الطلبة قلت‪ :‬شباب مات لتحيا أمته وقبر لتنشر‬
‫رايته وقدم روحه للحتف والمكان قربانا لحريته ونهر الستقلل‪ ..‬ولول مرة يصفق‬
‫الجمهور في حفل تأبين‪ .‬وتنازل لي أصحاب الكلمة من بعدي عن المدد المخصصة لهم‪..‬‬
‫لكي ألقى قصيدتي التي أعددتها لتأبين الشهداء البررة والتي قلت في مطلعها‪:‬‬

‫نــداء يابني وطني نــداء*****دم الشهداء يذكره الشبــاب‬

‫وهل نسلوا الضحايا والضحايا*****بهم قد عز في مصر المصاب‬

‫شبـــاب ب ّر لم يفْرِق‪ ..‬وأدى*****رسالته‪ ،‬وها هي ذي تجاب‬

‫فلـم يجبن ولم يبخل وأرغى*****وأزبد ل تزعزعـــه الحراب‬

‫وقــــدم روحه للحق مهرًا*****ومن دمه المراق بدا الخضاب‬

‫وآثر أن يمــــوت شهيد مصر*****لتحيا مصر مركزها مهاب‬

‫مع الشعراء‬

‫وللشيخ الشعراوي ذكريات مع الشعراء والدباء‪ ،‬شهدت معارك أدبية ساخنة‪ ،‬وكان للشيخ‬
‫فيها مواقف ل تنسى‪.‬‬

‫يقول الشيخ‪ :‬حدث أيام الجماعة الدبية التي كنت أرأسها حوالي عام ‪ ..1928‬والتي كانت‬
‫تضم معي أصدقاء العمر الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي ـ أطال ال عمره ـ والمرحوم‬
‫محمد فهمي عبد اللطيف وكامل أبو العينين وعبد الرحمن عثمان رحمه ال‪ ..‬حدث أن كانوا‬
‫على صلة صداقة مع شاعر مشهور وقتها بطول اللسان والفتراء على أي إنسان اسمه عبد‬
‫الحميد الديب‪ ،‬صاحب قصيدة "دع الشكوى وهات الكأس واسكر"‪ ..‬والذي لم يسلم أحد من‬
‫لسانه‪ ..‬والذي كان يعيش على هجاء خلق ال إلى أن يمنحوه مال‪ ..‬وجاءت ذات ليلة‬
‫سيرتي أمامه‪ ..‬وقال له الصدقاء أعضاء الجماعة الدبية عن كل ما أقرضته من قصائد‬
‫شعرية‪ ..‬فرد وقال‪ :‬الشيخ الشعراوي شاعر كويس‪ ..‬ولكن ل يصح أن يوصف بأنه شاعر‪..‬‬
‫ولما سألوه‪ :‬لماذا؟‪ ..‬قال‪ :‬إن المفترض في شعر الشاعر أن يكون مجودا في كل غرض‪..‬‬
‫وهو لم يقل شعرا في غرضين بالذات ولما حكوا لي عن هذا الذي قاله الشاعر محجوب عبد‬
‫الحميد الديب‪ ..‬قلت لهم‪ :‬أما أنني لم أقل شعرا في الغزل‪ ..‬فأرجو أن تبلغوه بأنني أقرضت‬
‫الشعر في الغزل أيضا‪ ..‬لكنه غزل متورع‪ ..‬وانقلوا إليه البيات عني‪ ..‬والتي قلت فيها‪:‬‬
‫مــن لم يحركه الجمال فناقـص تكوينه*****وسوى خلق ال من يهوي ويسمح دينه‬

‫سبحان من خلق الجمال والنهزام لسطوته*****ولهذا يأمرنا بغض الطرف عنه لرحمته‬

‫مـن شاء يطلبه فل إل بطــهر شريعته*****وبذا يدوم لنـا التمتــع ها هنا وبجنته‬

‫وأما عن الهجاء فقلت لصدقائي‪ :‬إنني ل أجد موضوعا أتناوله إل أن أهجو عبد الحميد‬
‫الديب نفسه‪ ..‬ولن أشهر به‪ ..‬ولكن فليأت إلينا‪ ..‬ويجلس معنا‪ ..‬وأقول له أنني سوف‬
‫أهجوك بكذا وكذا‪ ..‬ثم أخيره بعد ذلك أن يعلن هجائي له أو ل يعلنه‪ ..‬وقد تحداني وقدم إلى‬
‫منزلي بباب الخلق وسألني‪ :‬ما الذي سوف تقوله في عبد الحميد الديب يا ابن الشعراوي؟‬
‫فقلت له‪ :‬وال لن أقول شعري في هجائك لحد إلى أن تقوله أنت وأنا أقطع بأنك لن تكرر‬
‫على مسامع الناس هجائي لك‪ ..‬وبالفعل ما سمعه عبد الحميد الديب مني في هجائه لم‬
‫يستطع ـ كما توقعت ـ أن يكرره على مسامع أحد‪ ..‬ولذلك كنت الوحيد من شلة الدباء‬
‫الذي سلم من لسانه بعدها‪ .‬لنه خاف مني وعلم قوتي في شعر الهجاء أيضا‪ ..‬ومن هنا‬
‫ترسخ يقيني بأن التصدي للبطش والقوة ل يكون إل بامتلك نفس السلح‪ ..‬سلح القوة‬
‫ولكن بغير بطش‪..‬‬

‫أشعار ومناسبات‬

‫ويقول الشيخ عن أشعاره في المناسبات المختلفة‪ :‬كنا في كل مناسبة نعقد ندوات ونلقي‬
‫بالشعار‪ ،‬وكان هذا مبعث نهضة أدبية واسعة في زماننا‪ ..‬كانت معينا ل ينضب لغذاء القلب‬
‫والعقل والروح ل يفرغ أبدا‪ ..‬وأذكر من هذه اليام أن كنا نحيي في قريتنا ذكرى الوفاء‬
‫الولى لرحيل حبيب الشعب سعد زغلول‪ .‬وطلب مني خالي أن أقرض أبياتا في تأبين‬
‫الزعيم‪ ..‬فقلت على ما أذكر‪:‬‬

‫عام مضى وكأنه أعوام*****يا ليته ما كان هذا العام‬

‫ويومها قال لي خالي ومن سمعوني‪ :‬يا آمين‪ ..‬قلت وأوجزت‪ ..‬وعبرت‪ ..‬عما يجيش في‬
‫صدور الخلق‪.‬‬
‫الليث بن سعد‬

‫المام الحافظ‬

‫من أشهر الفقهاء في زمانه فاق في علمه وفقهه إمام المدينة المام مالك غير أن تلمذته لم‬
‫يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الفاق مثلما فعل تلمذة المام مالك‪ ،‬وكان المام‬
‫الشافعي يقول‪ :‬الليث أفقه من مالك إل أن أصحابه لم يقوموا به‪.‬إنه المام الليث بن سعد‬
‫ابن عبد الرحمن المام الحافظ شيخ السلم وعالم الديار المصرية ولد بقرقشندة وهي قرية‬
‫من أسفل أعمال مصر في سنة أربع وتسعين للهجرة‪.‬‬

‫طلبه للعلم‬

‫تلقى الليث العلم على عدد من كبار علماء عصره‪ ،‬فسمع من عطاء بن أبي رباح وابن أبى‬
‫مليكة ونافعا العمري وسعيد بن أبي سعيد المقبري وابن شهاب الزهري وأبا الزبير المكي‬
‫وغيرهم كثير‪.‬‬

‫وفي عدة روايات يصف الليث رحلته في طلب العلم‪ :‬قال ابن بكير سمعت الليث يقول‬
‫سمعت بمكة سنة ثلث عشرة ومائة من الزهري وأنا ابن عشرين سنة‪.‬‬

‫قال يحيى بن بكير أخبرني من سمع الليث يقول كتبت من علم ابن شهاب علما كثيرا وطلبت‬
‫ركوب البريد إليه إلى الرصافة فخفت أن ل يكون ذلك ل فتركته ودخلت على نافع فسألني‬
‫فقلت أنا مصري فقال ممن قلت من قيس قال ابن كم قلت ابن عشرين سنة قال أما لحيتك‬
‫فلحية ابن أربعين قال أبو صالح خرجت مع الليث إلى العراق سنة إحدى وستين ومائة‬
‫خرجنا في شعبان وشهدنا الضحى ببغداد قال وقال لي الليث ونحن ببغداد سل عن منزل‬
‫هشيم الواسطي فقل له أخوك ليث المصري يقرئك السلم ويسألك أن تبعث إليه شيئا من‬
‫كتبك فلقيت هشيما فدفع إلي شيئا فكتبنا منه وسمعتها مع الليث‪.‬‬

‫مكانته العلمية‬
‫يقول الحافظ أبو نعيم‪ :‬كان الليث رحمه ال فقيه مصر ومحدثها ومحتشمها ورئيسها ومن‬
‫يفتخر بوجوده القليم بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها من تحت أوامره ويرجعون‬
‫إلى رأيه ومشورته ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على القليم فاستعفى من ذلك‪.‬‬

‫ولليث أحاديث كثيرة في كتب الصحاح‪ ،‬ومن الحاديث التي رويت عن الليث ما رواه‬
‫الترمذي قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس بن مالك أن‬
‫رسول ال (صلى ال عليه وسلم) [قال يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم يصبح‬
‫الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع أقوام دينهم بعرض من‬
‫الدنيا]‬

‫قال أبو صالح كان الليث يقرأ بالعراق من فوق على أصحاب الحديث والكتاب بيدي فإذا فرغ‬
‫رميت به إليهم فنسخوه‪.‬‬

‫قال ابن سعد كان الليث قد استقل بالفتوى في زمانه‪.‬‬

‫روى عبد الملك بن شعيب عن أبيه قال قيل لليث أمتع ال بك إنا نسمع منك الحديث ليس‬
‫في كتبك فقال أو كل ما في صدري في كتبي لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب‪.‬‬

‫وقال عبد ال بن أحمد سمعت أبي يقول أصح الناس حديثا عن سعيد المقبري الليث بن سعد‬
‫يفصل ما روي عن أبي هريرة وما روي عن أبيه عن أبي هريرة هو ثبت في حديثه جدا‪.‬‬

‫ومما يروى عنه أيضا عن الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي‬
‫بكر قالت لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا معشر‬
‫قريش وال ما فيكم أحد على دين إبراهيم غيري وكان يحيى الموؤدة يقول الرجل إذا أراد‬
‫أن يقتل أبنته مه ل تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لبيها إن شئت دفعتها‬
‫إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها‬

‫ولليث أسانيد إلى أبي هريرة ومنها‪ :‬عن الليث عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة‬
‫عن رسول ال (صلى ال عليه وسلم) [قال إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة‬
‫سنة]‬

‫مناقبه وفضائله‬
‫قال ابن بكير‪ :‬كان الليث فقيه البدن عربي اللسان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الحديث‬
‫والشعر حسن المذاكرة‪.‬‬

‫روي عن شرحبيل بن جميل قال أدركت الناس أيام هشام الخليفة وكان الليث بن سعد حدث‬
‫السن وكان بمصر عبيد ال بن أبي جعفر وجعفر بن ربيعة والحارث بن يزيد ويزيد بن أبي‬
‫حبيب وابن هبيرة وإنهم يعرفون لليث فضله وورعه وحسن إسلمه عن حداثة سنة ثم قال‬
‫ابن بكير لم أر مثل الليث‪ ،‬وروى عبد الملك بن يحيى بن بكير عن أبيه قال ما رأيت أحدا‬
‫أكمل من الليث‪.‬‬

‫***‬

‫قال عثمان بن صالح‪ :‬كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث فحدثهم بفضائله‬
‫فكفوا وكان أهل حمص ينتقصون عليا حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائل‬
‫علي فكفوا عن ذلك‪ ،‬وروي عن حرملة يقول كان الليث بن سعد يصل مالكا بمائة دينار في‬
‫السنة فكتب مالك إليه علي دين فبعث إليه بخمس مائة دينار فسمعت ابن وهب يقول كتب‬
‫مالك إلى الليث إني أريد أن أدخل بنتي على زوجها فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر‬
‫فبعث إليه بثلثين حمل عصفرا فباع منه بخمس مائة دينار وبقي عنده فضله‪ ،‬قال أبو داود‬
‫قال قتيبة كان الليث يستغل عشرين ألف دينار في كل سنة وقال ما وجبت علي زكاة قط‬
‫وأعطى الليث ابن لهيعة ألف دينار وأعطى مالكا ألف دينار وأعطى منصور بن عمار الواعظ‬
‫ألف دينار وجارية تساوى ثلث مائة دينار‪.‬‬

‫قال صالح بن أحمد الهمذاني‪ :‬قدم منصور بن عمار على الليث فوصله بألف دينار واحترقت‬
‫دار ابن لهيعة فوصله بألف دينار ووصل مالكا بألف دينار وكساني قميص سندس فهو‬
‫عندي‪.‬‬

‫وروي عن محمد بن رمح يقول كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار ما‬
‫أوجب ال عليه زكاة درهم قط‪،‬‬

‫***‬

‫وروي عن أشهب بن عبد العزيز يقول كان الليث له كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها أما‬
‫أولها فيجلس للسلطان في نوائبه وحوائجه وكان الليث يغشاه السلطان فإذا أنكر من القاضي‬
‫أمرا أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل ويجلس لصحاب الحديث وكان‬
‫يقول نجحوا أصحاب الحوانيت فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم ويجلس للمسائل يغشاه الناس‬
‫فيسألونه ويجلس لحوائج الناس ل يسأله أحد فيرده كبرت حاجته أو صغرت وكان يطعم‬
‫الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر وفي الصيف سويق اللوز في السكر‬

‫***‬

‫وروي عن يعقوب ابن داود وزير المهدي قال‪:‬قال أمير المؤمنين لما قدم الليث العراق الزم‬
‫هذا الشيخ فقد ثبت عندي أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه‪.‬‬

‫وكان الليث بن سعد يقول بلغت الثمانين وما نازعت صاحب هوى قط‪ ،‬ويعلق الحافظ أبو‬
‫نعيم على قوله فيقول‪ :‬كانت الهواء والبدع خاملة في زمن الليث ومالك والوزاعي والسنن‬
‫ظاهرة عزيزة فأما في زمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد فظهرت البدعة وامتحن أئمة‬
‫الثر ورفع أهل الهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب‬
‫والسنة ثم كثر ذلك واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول فطال الجدال واشتد النزاع وتولدت‬
‫الشبة نسأل ال العافية‪.‬‬

‫***‬

‫قال بكر بن مضر قدم علينا كتاب مروان بن محمد إلى حوثرة والى مصر إني قد بعثت إليكم‬
‫أعرابيا بدويا فصيحا من حاله ومن حاله فأجمعوا له رجل يسدده في القضاء ويصوبه في‬
‫المنطق فأجمع رأي الناس على الليث بن سعد وفي الناس معلماه يزيد بن أبي حبيب وعمرو‬
‫بن الحارث‪ ،‬قال أحمد بن صالح أعضلت الرشيد مسألة فجمع لها فقهاء الرض حتى‬
‫أشخص الليث فأخرجه منها‪.‬‬

‫مواقف من حياته‬

‫قال الحسن بن يوسف بن مليح سمعت أبا الحسن الخادم قال كنت غلما لزبيدة (زوجة‬
‫الرشيد) وأتي بالليث بن سعد تستفتيه فكنت واقفا على رأس ستي زبيدة خلف الستارة فسأله‬
‫الرشيد فقال له حلفت إن لي جنتين فاستحلفه الليث ثلثا إنك تخاف ال فحلف له فقال‪ :‬قال‬
‫ال‪{ :‬ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن‪ )16:‬فأقطعه الرشيد قطائع كثيرة بمصر‪.‬‬

‫***‬
‫وروي عن الليث قال‪ :‬قال لي أبو جعفر المنصور تلي لي مصر قلت ل يا أمير المؤمنين إني‬
‫أضعف عن ذلك إني رجل من الموالي فقال ما بك ضعف معي ولكن ضعفت نيتك في العمل‬
‫لي‪.‬‬

‫***‬

‫ل واشتهى عسل فقال يا‬


‫قال وجاءت امرأة إلى الليث فقالت يا أبا الحارث إن ابنا لي علي ً‬
‫غلم أعطها مرطا من عسل والمرط عشرون ومائة رطل‪.‬‬

‫***‬

‫وعن الحارث بن مسكين قال اشترى قوم من الليث ثمرة فاستغلوها فاستقالوا فأقالهم ثم دعا‬
‫بخريطة فيها أكياس فأمر لهم بخمسين دينارا فقال له ابنه الحارث في ذلك فقال اللهم غفرا‬
‫إنهم قد كانوا أملوا فيها أمل فأحببت أن أعوضهم من أملهم بهذا‪.‬‬

‫***‬

‫وروي عن الليث قال لما ودعت أبا جعفر المنصور ببيت المقدس قال أعجبني ما رأيت من‬
‫شدة عقلك والحمد ل الذي جعل في رعيتي مثلك قال شعيب كان أبي يقول ل تخبروا بهذا ما‬
‫دمت حيا‪.‬‬

‫***‬

‫قال يحيى بن بكير‪ :‬قال الليث‪ :‬قال لي المنصور تلي مصر؛ فاستعفيت قال أما إذا أبيت فدلني‬
‫على رجل أقلده مصر قلت عثمان ابن الحكم الجذامي رجل له صلح وله عشيرة‪ .‬قال‪ :‬فبلغ‬
‫عثمان ذلك فعاهد ال أل يكلم الليث‪.‬‬

‫***‬

‫وروي عن سعيد الدم قال مررت بالليث بن سعد فتنحنح فرجعت إليه فقال لي يا سعيد خذ‬
‫هذا القنداق فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ممن ل بضاعة له ول غلة‪ .‬فقلت‪ :‬جزاك ال خيرا يا‬
‫أبا الحارث‪ .‬وأخذت منه القنداق ثم صرت إلى المنزل فلما صليت أوقدت السراج وكتبت بسم ال‬
‫الرحمن الرحيم ثم قلت فلن بن فلن ثم بدرتني نفسي‪ .‬فقلت‪ :‬فلن بن فلن‪ .‬قال فبينا أنا‬
‫على ذلك إذا أتاني آت فقال هال يا سعيد تأتي إلى قوم عاملوا ال سرا فتكشفهم لدمي ما‬
‫الليث وما شعيب أليس مرجعهم إلى ال الذي عاملوه‪ .‬فقمت ولم أكتب شيئا‪ ،‬فلما أصبحت‬
‫أتيت الليث فتهلل وجهه فناولته القنداق فنشره فما رأى فيه غير بسم ال الرحمن الرحيم‬
‫فقال‪ :‬ما الخبر فأخبرته بصدق عما كان فصاح صيحة فاجتمع عليه الناس من الحلق فسألوه‬
‫فقال ليس إل خير ثم أقبل علي فقال يا سعيد تبينتها وحرمتها صدقت ما الليث وما شعيب‬
‫أليس مرجعهم إلى ال‪.‬‬

‫***‬

‫عن أبي صالح كاتب الليث قال كنا على باب مالك فامتنع عن الحديث فقلت ما يشبه هذا‬
‫صاحبنا فسمعها مالك فأدخلنا وقال من صاحبكم قلت الليث قال تشبهونا برجل كتبت إليه في‬
‫قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا فأنفذ منه ما بعنا فضلته بألف دينار‪.‬‬

‫ثناء العلماء عليه‬

‫كان المام الشافعي يقول‪ :‬الليث أفقه من مالك إل أن أصحابه لم يقوموا به‪.‬‬

‫وقال ابن وهب‪ :‬لول مالك والليث لضل الناس‪.‬‬

‫وقال عبد ال بن صالح‪ :‬صحبت الليث عشرين سنة ل يتغدى ول يتعشى إل مع الناس وكان‬
‫ل يأكل إل بلحم إل أن يمرض‪.‬‬

‫وقال أحمد بن سعد الزهري‪ :‬سمعت أحمد بن حنبل يقول الليث ثقة ثبت‪ ،‬وقال أيضا‪ :‬الليث‬
‫كثير العلم صحيح الحديث‬

‫وقال عثمان الدارمي‪ :‬سمعت يحيى بن معين يقول الليث أحب إلي من يحيى بن أيوب ويحيى‬
‫ثقة قلت فكيف حديثه عن نافع فقال صالح ثقة‪.‬‬

‫وعن أحمد بن صالح وذكر الليث فقال‪ :‬إمام قد أوجب ال علينا حقه لم يكن بالبلد بعد عمرو‬
‫بن الحارث مثله‪.‬‬

‫قال ابن سعد‪ :‬استقل الليث بالفتوى وكان ثقة كثير الحديث سريا من الرجال سخيا له‬
‫ضيافة‬

‫وقال العجلي والنسائي‪ :‬الليث ثقة‪.‬‬


‫وقال ابن خراش‪ :‬صدوق صحيح الحديث‪.‬‬

‫وروي عن يحيى بن معين قال‪ :‬هذه رسالة مالك إلى الليث حدثنا بها عبد ال بن صالح‬
‫يقول فيها وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك واعتمادهم‬
‫على ما جاءهم منك‪.‬‬

‫وقال يحيى بن بكير‪ :‬الليث أفقه من مالك ولكن الحظوة لمالك رحمه ال‪.‬‬

‫قال علي بن المديني الليث ثبت‪.‬‬

‫قال العلء بن كثير الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا‪.‬‬

‫وفاته‬

‫قال يحيى بن بكير وسعيد بن أبي مريم مات الليث للنصف من شعبان سنة خمس وسبعين‬
‫ومائة قال يحيى يوم الجمعة وصلى عليه موسى بن عيسى‪.‬‬

‫قال خالد بن عبد السلم الصدفي شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي فما رأيت جنازة قط‬
‫أعظم منها رأيت الناس كلهم عليهم الحزن وهم يعزي بعضهم بعضا ويبكون فقلت يا أبت‬
‫كأن كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة فقال بابني ل ترى مثله أبدا‪.‬‬

‫جعفر الصادق‬

‫استقبلت المدينة المنورة مولودًا من ذرية رسول ال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬فقد ولد (جعفر‬
‫الصادق بن محمد الباقر) وكان ذلك سنة ‪80‬هـ‪.‬‬
‫نشأ جعفر في داصر الهجرة النبوية الشريفة‪ ،‬معتزّا بنسبه؛ فجده لبيه هو المام‬
‫على بن أبي طالب ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬وجده لمه صديق رسول ال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬وهو‬
‫الخليفة (أبو بكر الصديق)‪.‬‬
‫استمع جعفر لنصائح والده الذي أخذ يقول له‪( :‬إياك والكسل والضجر‪ ،‬فإنهما مفتاح كل شر‪،‬‬
‫ت لم تصبر على حق‪ ،‬إن طلب العلم من أداء الفرائض‬ ‫إنك إن كسلتَ لم تؤدّ حقّا‪ ،‬وإن ضجر َ‬
‫خير من الزهد) واستجاب جعفر لنصائح والده‪ ،‬فحفظ القرآن الكريم وأحاديث رسول ال ‪-‬صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬وفهمهما فهمًا‬
‫جيدًا‪ ،‬فلما بلغ جعفر مبلغ الشباب‪ ،‬ورأى آل بيت النبي ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬وخلفهم مع‬
‫الدولة الموية‪ ،‬وشاهد عمه زيدًا قتيل؛ بكى وحزن عليه حزنًا‬
‫شديدًا‪ ،‬ورأى أن خير ما يقاوم به هذا الظلم هو كلمة الحق التي تنير طريق الناس وتحركهم‬
‫للدفاع عن المظلومين‪.‬‬
‫فقد تعلم من سنة رسول ال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬أن طلب العلم ونشره جهاد في سبيل ال‪ ،‬بل‬
‫إنه فريضة على كل مسلم ومسلمة‪ ،‬وأن ال تعالى جعل للعلماء مكانة بين النبياء والشهداء؛‬
‫فاهتم جعفر بعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والنبات والدوية إلى جانب دراسته للقرآن‬
‫والحديث والفقه‪ ،‬وظل جعفر يدرس ويقرأ في كل العلوم؛ حتى أشرفت دولة بني أمية على‬
‫الزوال؛ فأرسل إليه المؤيدون لل بيت رسول ال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬أن ينتهز الفرصة‪،‬‬
‫ويأتي على الفور ليتولى خلفة المسلمين‪ ،‬ولكنه لم يشعر بقبول تجاه هذه الرسالة؛ فأحرقها!!‬
‫لقد كان يشعر أنه بعلمه أقوى من أي ملك على وجه الرض‪ ،‬ومضى المام جعفر الصادق‬
‫يتعلم العلم ويعلمه الناس في تواضع فريد‪ ،‬يسأله الناس فيجيب دون كبر أو خيلء‪ ،‬سأله أحد‬
‫الناس‪ :‬لقد قال ال تعالى‪{ :‬ادعوني أستجب لكم} [غافر‪ ]60 :‬فما بالنا ندعوه فل يجيب؟! فقال‬
‫المام جعفر الصادق‪ :‬لنك تدعو‬
‫من ل تعرف‪.‬‬
‫وأحب الناس جعفر الصادق والتفوا حوله‪ ،‬فاغتاظ الخليفة المنصور‪ ،‬وحاول أن يحرج المام‬
‫جعفر الصادق؛ فأمر أبو حنيفة (الفقيه المشهور) أن يهيئ له مسائل شدادًا يناقشه فيها‪ ،‬فقال أبو‬
‫حنيفة‪ :‬فهيأت له أربعين مسألة‪ ،‬والتقى المامان في حضرة الخليفة المنصور‪ ،‬فلم ي ْلقِ أبو حنيفة‬
‫مسألةً إل أجاب عنها المام جعفر الصادق‪ ،‬فقال أبو حنيفة في النهاية‪( :‬إن أعلم الناس أعلمهم‬
‫باختلف الناس) لن جعفر الصادق كان يجيب عن كل مسألة بما أجاب به كل الفقهاء السابقون‬
‫ثم يأتي برأيه‪.‬‬
‫وكان المام جعفر الصادق حليمًا ل يغضب؛ كان له غلم كسول يحب‬
‫النوم‪ ،‬فأرسله يومًا في حاجة‪ ،‬فغاب‪ ،‬وخشي المام أن يكون الغلم قد أصابه مكروه‪ ،‬فخرج‬
‫يبحث عنه‪ ،‬فوجده نائمًا في الطريق‪ ،‬فجلس عند رأسه‪ ،‬وأخذ يوقظه برفق حتى استيقظ‪ ،‬فقال له‬
‫ضاحكًا‪ :‬تنام الليل والنهار؟! لك الليل ولنا النهار‪.‬‬
‫ولم يخش المام جعفر الصادق أحدًا إل ال‪ ،‬فها هو ذا يقول للخليفة المنصور عندما سأله‪ :‬لماذا‬
‫خلق ال الذباب؟ بعد أن تضايق الخليفة من ذبابة كانت تحط على وجهه ولم يفلح في إبعادها‪،‬‬
‫فقال المام‪( :‬ليذل به الجبابرة)‪.‬‬
‫وأقام المام في المدينة وقد جاوز الستين يعلم الناس ويفقههم‪ ،‬وفي الثامنة والستين من عمره‬
‫سنة ‪148‬هـ توفي المام جعفر الصادق‪ ،‬فحزن الخليفة المنصور عليه حزنًا شديدًا وقال‪ :‬توفي‬
‫سيد الناس وعالمهم‪ ،‬وبقية الخيار منهم‪ ،‬إن جعفرًا ممن قال ال فيهم‪{ :‬ثم أورثنا الكتاب الذين‬
‫اصطفينا من عبادنا} [ فاطر‪.] 32 :‬‬

‫سعيد بن المسيب‬

‫السلم عزيز بك وبأمثالك أيها الرجل‪..‬إنك كالجبل الراسخ‪ ،‬وقفت في وجه الطغاة‪..‬علمتنا أن‬
‫الحقّ العزل قادر على أن يقف في وجه الباطل المدجج‬
‫بالسلح‪ ،‬وأن المؤمن ل تزيده المحن إل عزة وإيمانًا‪ ،‬أما الظالم فيرجع إلى‬
‫الوراء‪ ،‬يتخاذل ويتقهقر‪ ،‬يخشى سيف الحق وعزة السلم‪ ،‬فهنيئًا لك يا‬
‫سيد التابعين‪.‬‬
‫بعد مضي سنتين من خلفة الفاروق عمر ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬ولد (سعيد بن المسيب) في‬
‫المدينة المنورة؛ حيث كبار الصحابة‪ ،‬فرأى عمر بن الخطاب‪ ،‬وسمع عثمان بن عفان‪ ،‬وعليّا‪،‬‬
‫وزيد بن ثابت‪ ،‬وأبا موسى الشعري‪ ،‬وأبا هريرة‪..‬وغيرهم‪ ،‬فنشأ نشأة مباركة‪ ،‬وسار على‬
‫نهجهم‪ ،‬واقتدى بأفعالهم‪ ،‬وروى عنهم أحاديث رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وتزوج بنت‬
‫الصحابي الجليل أبي هريرة‪ ،‬فكان أعلم الناس بحديثه‪.‬‬
‫وهبه ال في نشأته الباكرة ذكاءً متوقدًا‪ ،‬وذاكرة قوية‪ ،‬حتى شهد له كبار الصحابة والتابعين‬
‫بعلو المكانة في العلم‪ ،‬وكان رأس فقهاء المدينة في زمانه‪ ،‬والمقدم عليهم في الفتوى‪ ،‬حتى‬
‫اشتهر بفقيه الفقهاء‪ ،‬وكان عبد ال بن عمر ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬وهو المقدم في الفتوى بالمدينة‬
‫آنذاك‪ -‬إذا سئل عن مسألة صعبة في الفقه‪ ،‬كان يقول‪ :‬سلوا سعيدًا فقد جالس الصالحين‪.‬‬
‫ويقول عنه قتادة‪ :‬ما رأيت أحدًا قط أعلم بالحلل والحرام منه‪ ،‬ويكفي ابن المسيب فخرًا أن‬
‫الخليفة العادل (عمر بن عبد العزيز) كان أحد تلميذه‪ ،‬ولما تولى عمر إمارة المدينة لم يقض‬
‫أمرًا إل بعد استشارة سعيد‪ ،‬فقد أرسل إليه عمر رجلً يسأله في أمر من المور‪ ،‬فدعاه‪ ،‬فلبي‬
‫الدعوة وذهب معه‪ ،‬فقال عمر بن عبد العزيز له‪ :‬أخطأ الرجل‪ ،‬إنما أرسلناه يسألك في‬
‫مجلسك‪.‬‬
‫وعاش سعيد طيلة حياته مرفوع الرأس‪ ،‬عزيز النفس‪ ،‬فلم يحنِ رأسه أبدًا لي‬
‫إنسان‪ ،‬حتى ولو ألهبوا ظهره بالسياط‪ ،‬أو هددوه بقطع رقبته‪ ،‬فها هو ذا أمير المدينة في عهد‬
‫الخليفة عبد الملك بن مروان يأمره بالبيعة للوليد بن عبد الملك‪ ،‬فيمتنع‬
‫فيهدده بضرب عنقه‪ ،‬فلم يتراجع عن رأيه رغم علمه بما ينتظره من العذاب‪ ،‬وما إن أعلن‬
‫سعيد مخالفته حتى جردوه من ثيابه‪ ،‬وضربوه خمسين سوطًا‪ ،‬وطافوا به في أسواق المدينة‪،‬‬
‫وهم يقولون‪ :‬هذا موقف الخزي!! فيرد عليهم سعيد في ثقة وإيمان‪ :‬بل من الخزي فررنا إلى‬
‫ما نريد‪.‬‬
‫ولما علم عبد الملك بما صنعه والى المدينة لمه وكتب إليه‪ :‬سعيد‪..‬كان وال أحوج إلى أن‬
‫تصل رحمه من أن تضربه‪ ،‬وإنا لنعلم ما عنده من خلف‪ ،‬وبعد كل هذا التعذيب الذي ناله‬
‫سعيد جاءه رجل يحرضه في الدعاء على بني أمية‪ ،‬فما كان منه إل أن قال‪ :‬اللهم أعز دينك‪،‬‬
‫وأظهر أولياءك‪ ،‬وأخزِ أعداءك في عافية لمة محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫صلى (الحجاج بن يوسف الثقفي) ذات مرة‪ ،‬وكان يصلى بسرعة‪ ،‬فلم يتم ركوع الصلة‬
‫وسجودها كما يجب‪ ،‬فأخذ سعيد كفًا من الحصى ورماه به‪ ،‬فانتبه الحجاج لذلك واطمأن وتمهل‬
‫في صلته‪ ،‬وكان ذلك قبل أن يتولى الحجاج المارة‪ ،‬ورفض سعيد أن تكون ابنته أعظم سيدة‬
‫في دولة الخلفة السلمية؛ وذلك حين أراد الخليفة عبد الملك بن مروان أن يخطب ابنة سعيد‬
‫لولي عهده الوليد‪ ،‬لكن سعيدًا رفض بشدة‪ ،‬وزوج ابنته من طالب علم فقير‪.‬‬
‫فقد كان لسعيد جليس يقال له (عبد ال بن وداعة) فأبطأ عنه أيامًا‪ ،‬فسأل عنه وطلبه‪ ،‬فأتاه‬
‫واعتذر إليه‪ ،‬وأخبره بأن سبب تأخره هو مرض زوجته وموتها‪ ،‬فقال له‪ :‬أل أعلمتنا بمرضها‬
‫فنعودها‪ ،‬أو بموتها فنشهد جنازتها‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا عبد ال تزوج‪ ،‬ول تلق ال وأنت أعزب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يرحمك ال ومن يزوجني وأنا فقير؟ فقال سعيد‪ :‬أنا أزوجك ابنتي‪ ،‬فسكت عبد ال استحياء‪،‬‬
‫فقال سعيد‪ :‬مالك سكت‪ ،‬أسخطًا وإعراضًا؟ فقال عبد ال‪ :‬وأين أنا منها؟ فقال‪ :‬قم وادع نفرًا‬
‫من النصار‪ ،‬فدعا له فأشهدهم على النكاح (الزواج)‪ ،‬فلما صلوا العشاء توجه سعيد بابنته إلى‬
‫الفقير ومعها الخادم والدراهم والطعام‪ ،‬والزوج ل يكاد يصدق ما هو فيه!!‬
‫وحرص سعيد على حضور صلة الجماعة‪ ،‬وواظب على حضورها أربعين سنة لم يتخلف‬
‫عن وقت واحد‪ ،‬وكان سعيد تقيّا ورعًا‪ ،‬يذكر ال كثيرًا‪ ،‬جاءه رجل وهو مريض‪ ،‬فسأله عن‬
‫حديث وهو مضطجع فجلس فحدثه‪ ،‬فقال له ذلك الرجل‪ :‬وددت أنك لم تتعن ول تتعب نفسك‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إني كرهت أن أحدثك عن رسول ال وأنا مضطجع‪ ،‬ومن احترامه وتوقيره لحرمات ال‬
‫قوله‪ :‬ل تقولوا مصيحف ول مسيجد‪ ،‬ما كان ل فهو عظيم حسن جميل‪ ،‬فهو يكره أن تصغر‬
‫كلمة مصحف‪ ،‬أو كلمة مسجد أو كل كلمة غيرهما تكون ل تعالى إجلل لشأنها وتعظيمًا‪.‬‬
‫ومرض سعيد‪ ،‬واشتد وجعه‪ ،‬فدخل عليه نافع بن جبير يزوره‪ ،‬فأغمى عليه‪ ،‬فقال نافع‪:‬‬
‫َوجّهوه‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬فأفاق فقال‪ :‬من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة‪..‬أنافع؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال له‬
‫سعيد‪ :‬لئن لم أكن على القبلة والملة وال ل ينفعني توجيهكم فراشي‪ ،‬ولما احتضر سعيد بن‬
‫المسيب ترك مالً‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إل لصون بها ديني‪ ،‬ومات سعيد سنة‬
‫ثلث أو أربع وتسعين من الهجرة‪ ،‬فرحمه ال رحمة واسعة‪.‬‬

‫سعيد بن جبير‬

‫وُِل َد سعيد بن جبير في زمن خلفة المام على بن أبي طالب ‪ -‬رضي ال عنه‪ -‬بالكوفة‪ ،‬وقد‬
‫نشأ سعيد محبّا للعلم‪ ،‬مقبلً عليه‪ ،‬ينهل من معينه‪ ،‬فقرأ القرآن على‬
‫ابن عباس‪ ،‬وأخذ عنه الفقه والتفسير والحديث‪ ،‬كما روى الحديث عن أكثر من عشرة من‬
‫الصحابة‪ ،‬وقد بلغ رتبة في العلم لم يبلغها أحد من أقرانه‪ ،‬قال‬
‫خصيف بن عبد الرحمن عن أصحاب ابن عباس‪ :‬كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج‬
‫عطاء‪ ،‬وأعلمهم بالطلق سعيد بن المسيب‪ ،‬وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير‪.‬‬
‫وكان ابن عباس يجعل سعيدًا بن جبير يفتي وهو موجود‪ ،‬ولما كان أهل الكوفة يستفتونه‪،‬‬
‫فكان يقول لهم‪ :‬أليس منكم ابن أم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير‪ ،‬وكان سعيد بن جبير كثير‬
‫العبادة ل‪ ،‬فكان يحج مرة ويعتمر مرة في كل سنة‪ ،‬ويقيم‬
‫الليل‪ ،‬ويكثر من الصيام‪ ،‬وربما ختم قراءة القرآن في أقل من ثلثة أيام‪ ،‬وكان سعيد بن جبير‬
‫مناهضًا للحجاج بن يوسف الثقفي أحد أمراء بني أمية‪ ،‬فأمر الحجاج بالقبض عليه‪ ،‬فلما مثل‬
‫بين يديه‪ ،‬دار بينهما هذا الحوار‪:‬‬
‫الحجاج‪ :‬ما اسمك؟‬
‫سعيد‪ :‬سعيد بن جبير‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬بل أنت شقي بن كسير‪.‬‬
‫سعيد‪ :‬بل أمي كانت أعلم باسمي منك‪.‬‬
‫ت أمك‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬شقيتَ أنت‪ ،‬وشقي ْ‬
‫سعيد‪ :‬الغيب يعلمه غيرك‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬لبدلنّك بالدنيا نارًا تلظى‪.‬‬
‫ت أن ذلك بيدك لتخذتك إلهًا‪.‬‬
‫سعيد‪ :‬لو علم ُ‬
‫الحجاج‪ :‬فما قولك في محمد‪.‬‬
‫سعيد‪ :‬نبي الرحمة‪ ،‬وإمام الهدى‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬فما قولك في على بن أبي طالب‪ ،‬أهو في الجنة أم في النار؟‬
‫سعيد‪ :‬لو دخلتها؛ فرأيت أهلها لعرفت‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬فما قولك في الخلفاء؟‬
‫سعيد‪ :‬لست عليهم بوكيل‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬فأيهم أعجب إليك؟‬
‫سعيد‪ :‬أرضاهم لخالقي‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬فأيهم أرضى للخالق؟‬
‫سعيد‪ :‬علم ذلك عنده‪.‬‬
‫ت أن َتصْ ُد َقنِي‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬أبي َ‬
‫سعيد‪ :‬إني لم أحب أن أكذبك‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬فما بالك لم تضحك؟‬
‫سعيد‪ :‬لم تستوِ القلوب‪..‬وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين‬
‫تأكله النار‪.‬‬
‫وهب سعيد حياته للسلم‪ ،‬ولم َيخْشْ إل ال‪ ،‬ولد في الكوفة‪ ،‬يفيد الناس بعلمه النافع‪ ،‬ويفقه‬
‫الناس في أمور دينهم ودنياهم‪ ،‬فقد كان إمامًا عظيمًا من أئمة الفقه في عصر الدولة الموية‪،‬‬
‫حتى شهد له عبد ال بن عباس ‪-‬رضي ال عنهما‪ -‬بالسبق في الفقه والعلم‪ ،‬فكان إذا أتاه أهل‬
‫مكة يستفتونه يقول‪ :‬أليس فيكم ابن أم الدهماء (يقصد سعيد بن جبير)‪.‬‬
‫كان سعيد بن جبير يملك لسانًا صادقًا وقلبًا حافظًا‪ ،‬ل يهاب الطغاة‪ ،‬ول يسكت عن قول الحق‪،‬‬
‫فالساكت عن الحق شيطان أخرس‪ ،‬فألقى الحجاج بن يوسف القبض عليه بعد أن لفق له تهمًا‬
‫كاذبة‪ ،‬وعقد العزم على التخلص منه‪ ،‬لم يستطع الحجاج أن يسكت لســانه عن قول الحق‬
‫بالتـهديد أو التخويف‪ ،‬فقد كان سعيد بن جبير مؤمنًا قوي اليمان‪ ،‬يعلم أن الموت والحياة‬
‫والرزق كلها بيد ال‪ ،‬ول يقدر عليه أحد سواه‪.‬‬
‫اتبع الحجاج مع سعيد بن جبير طريقًا آخر‪ ،‬لعله يزحزحه عن الحق‪ ،‬أغراه بالمال والدنيا‪،‬‬
‫وضع أموال كثيرة بين يديه‪ ،‬فما كان من هذا المام الجليل إل أن أعطى الحجاج درسًا قاسيًا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إن كنت يا حجاج قد جمعت هذا المال لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح‪ ،‬وإل ففزعة‬
‫واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت‪.‬‬
‫لقد أفهمه سعيد أن المال هو أعظم وسيلة لصلح العمال وصلح الخرة‪ ،‬إن جمعه صاحبه‬
‫بطريق الحلل لتـِقاء فزع يوم القيامة‪{..‬يوم ل ينفع مال ول بنون‬
‫إل من أتى ال بقلب سليم} [الشعراء‪.]89-88:‬‬
‫ومرة أخرى تفشل محاولت الحجاج لغراء سعيد‪ ،‬فهو ليس من عباد الدنيا ول ممن يبيعون‬
‫دينهم بدنياهم‪ ،‬وبدأ الحجاج يهدد سعيدًا بالقضاء عليه‪ ،‬ودار هذا المشهد بينهما‪:‬‬
‫الحجاج‪ :‬ويلك يا سعيد!‬
‫سعيد‪ :‬الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬أي قتلة تريد أن أقتلك؟‬
‫سعيد‪ :‬اختر لنفسك يا حجاج‪ ،‬فوال ما تقتلني قتلة إل قتلتك قتلة في الخرة‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬أتريد أن أعفو عنك؟‬
‫سعيد‪ :‬إن كان العفو فمن ال‪ ،‬وأما أنت فل براءة لك ول عُذر‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬اذهبوا به فاقتلوه‪.‬‬
‫فلما خرجوا ليقتلوه‪ ،‬بكي ابنه لما رآه في هذا الموقف‪ ،‬فنظر إليه سعيد وقال له‪ :‬ما يبكيك؟ ما‬
‫بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ وبكي أيضًا صديق له‪ ،‬فقال له سعيد‪ :‬ما يبكيك؟‬
‫الرجل‪ :‬لما أصابك‪.‬‬
‫سعيد‪ :‬فل تبك‪ ،‬كان في علم ال أن يكون هذا‪ ،‬ثم تل‪{ :‬ما أصاب من مصيبة في الرض ول‬
‫في أنفسكم إل في كتاب من قبل أن نبرأها} [الحديد‪ ]22:‬ثم ضحك سعيد‪ ،‬فتعجب الناس‬
‫وأخبروا الحجاج‪ ،‬فأمر بردّه‪ ،‬فسأله الحجاج‪ :‬ما أضحكك؟‬
‫سعيد‪ :‬عجبت من جرأتك على ال وحلمه عنك‪.‬‬
‫الحجاج‪ :‬اقتلوه‪.‬‬
‫سعيد‪{ :‬وجهت وجهي للذي فطر السموات والرض حنيفًا وما أنا من المشركين} [النعام‪:‬‬
‫‪.]79‬‬
‫الحجاج‪ :‬وجهوه لغير القبلة‪.‬‬
‫سعيد‪{ :‬فأينما تولوا فثم وجه ال} [البقرة‪.]115 :‬‬
‫الحجاج‪ :‬كبوه على وجهه‪.‬‬
‫سعيد‪{ :‬منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه‪.]55 :‬‬
‫الحجاج‪ :‬اذبحوه‪.‬‬
‫سعيد‪ :‬أما أنا فأشهد أن ل إله إل ال وحده ل شريك له وأن محمدًا عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬خذها مني يا حجاج حتى تلقاني بها يوم القيامة‪ ،‬ثم دعا سعيد ربه فقال‪ :‬اللهم ل‬
‫تسلطه على أحد يقتله بعدي‪.‬‬
‫ومات سعيد شهيدًا سنة ‪95‬هـ‪ ،‬وله من العمر سبع وخمسون سنة‪ ،‬مات ولسانه رطب بذكر‬
‫ال‪.‬‬

‫رحمه ال رحمة واسعة‬


‫أين نحن من هؤلء‬

‫سلمان الفارسي‬

‫الباحث عن الحقيقة‬

‫سلمان الفارسي رضي ال عنه‪ ،‬يكنى أبا عبد ال‪ ،‬من أصبهان من قرية يقال لها جي وقيل‬
‫من رامهر مز‪ ،‬سافر يطلب الد ين مع قوم فغدروا به فباعوه لر جل من اليهود ثم إ نه كو تب‬
‫فأعانه النبي في كتاب ته‪ ،‬أسلم مقدم ال نبي المدينة‪ ،‬ومنعه الرق من شهود بدر وأحد‪ ،‬وأول‬
‫غزاة غزاها مع النبي الخندق‪ ،‬وشهد ما بعدها ووله عمر المدائن‪.‬‬

‫عن عبد ال بن العباس قال‪ :‬حدثني سلمان الفارسي قال‪ :‬كنت رجل فارسيّا من أهل أصبهان‬
‫من أهل قرية منها يقال لها جي‪ ،‬وكان أبي دهقان قريته وكنت أحب خلق ال إليه فلم يزل‬
‫به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية‪ ،‬واجتهدت في المجوسية حتى كنت‬
‫ق طن النار الذي يوقد ها ل يترك ها تخ بو ساعة‪ ،‬قال‪ :‬وكا نت ل بي ضي عة عظي مة قال‪ :‬فش غل‬
‫في بنيان له يومًا فقال لي يا ب ني إ ني قد شغلت في بنيا ني هذا اليوم عن ضيع تي فاذ هب‬
‫فاطلعهـا وأمرنـي فيهـا ببعـض مـا يريـد فخرجـت أريـد ضيعتـه فمررت بكنيسـة مـن كنائس‬
‫النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون‪ ،‬وكنت ل أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي‬
‫في بيته‪ ،‬فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون‪ ،‬قال‪ :‬فلما رأيتهم‬
‫أعجبتنـي صـلتهم ورغبـت فـي أمرهـم وقلت هذا وال خيـر مـن الذي نحـن عليـه فوال مـا‬
‫تركتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي ولم آتها فقلت لهم أين أصل هذا الدين قالوا‬
‫بالشام‪ ،‬قال‪ :‬ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله فلما جئته قال أي‬
‫ب ني أ ين ك نت؟ ألم أ كن عهدت إل يك ما عهدت؟ قال‪ :‬قلت يا أ به مررت بناس ي صلون في‬
‫كنيسة لهم فأعجب ني ما رأ يت من دينهم فوال ما زلت عند هم ح تى غر بت الشمس قال أي‬
‫بني ليس في ذلك الدين خير‪ ،‬دينك ودين آبائك خير منه‪ ،‬قلت كل وال إنه لخير من ديننا‪،‬‬
‫قال فخافني فجعل في رجلي قيدًا ثم حبسني في بيته‪ ،‬قال وبعثت إلى النصارى فقلت لهم إذا‬
‫قدم علي كم ر كب من الشام تجارًا من الن صارى فأ خبروني ب هم‪ ،‬قال فقدم علي هم ر كب من‬
‫الشام تجار من الن صارى‪ ،‬قال فأ خبروني بقدوم تجار فقلت ل هم إذا قضوا حوائج هم وأرادوا‬
‫الرجعة إلى بلدهم فآذنوني بهم‪ ،‬قال فلما أرادوا الرجعة إلى بلدهم ألقيت الحديد من رجلي‬
‫ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا السقف‬
‫في الكنيسة‪ ،‬قال فجئته فقلت إني قد رغبت في هذا الدين وأحببت أن أكون معك أخدمك في‬
‫كنيسـتك وأتعلم منـك وأصـلي معـك قال فادخـل‪ ،‬فدخلت معـه‪ ،‬قال فكان رجـل سـوء يأمرهـم‬
‫بال صدقة ويرغب هم في ها فإذا جمعوا إل يه من ها شيئًا اكتنزه لنف سه ولم يع طه الم ساكين ح تى‬
‫جمع سبع قلل من ذهب‪ ،‬قال وأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع‪ ،‬قال ثم مات فاجتمعت‬
‫إل يه الن صارى ليدفنوه فقلت لهم إن هذا كان ر جل سوء يأمركم بال صدقة ويرغب كم في ها فإذا‬
‫جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا قالوا وما علمك بذلك؟ قلت أنا أدلكم‬
‫على كنزه‪ ،‬قالوا فدل نا عل يه‪ ،‬قال فأريت هم موض عه‪ ،‬قال فا ستخرجوا م نه سبع قلل مملوءة‬
‫ذهبًا وور قا‪ ،‬قال فل ما رأو ها قالوا وال ل ندف نه أبدًا‪ ،‬قال ف صلبوه ثم رجموه بالحجارة ثم‬
‫جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه‪ ،‬ف ما رأيت رجل يصلي الخ مس أرى أنه أفضل منه وأزهد‬
‫في الدنيا ول أرغب في الخرة ول أدأب ليل ونهارًا منه‪ ،‬قال فأحببته حبّا لم أحبه من قبله‬
‫فأقمت معه زمانًا ثم حضرته الوفاة قلت له يا فلن‪ ،‬إني كنت معك فأحببتك حبّا لم أحبه أحدا‬
‫من قبلك وقد حضر تك الوفاة فإلى من توصي بي؟ و ما تأمرني؟ قال أي بني‪ ،‬وال ما أعلم‬
‫أحدا اليوم على مـا كنـت عليـه لقـد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثـر مـا كانوا عليـه إل رجل‬
‫بالموصل وهو فلن وهو على ما كنت عليه فالحق به‪ ،‬قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب‬
‫الموصل فقلت له يا فلن إن فلنًا أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك على أمره‪،‬‬
‫قال فقال لي أ قم عندي‪ ،‬قال فأق مت عنده فوجد ته خ ير ر جل على أ مر صاحبه‪ ،‬فلم يل بث أن‬
‫مات فل ما حضر ته الوفاة قلت له يا فلن إن فلنًا أو صى بي إل يك وأمر ني باللحوق بك و قد‬
‫حضرك من أ مر ال ما ترى فإلى من تو صي بي و ما تأمر ني؟ قال أي ب ني‪ ،‬وال ما أعلم‬
‫رجل على م ثل ما ك نا عل يه إل رجل بن صيبين و هو فلن فال حق به‪ ،‬قال فل ما مات وغ يب‬
‫لح قت ب صاحب ن صيبين فجئت فأ خبرته ب ما جرى و ما أمر ني به صاحبي‪ ،‬قال فأ قم عندي‬
‫فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل فوال ما لبث أن نزل به الموت‬
‫فل ما ح ضر قلت له يا فلن‪ ،‬إن فلنًا كان أو صى بي إلى فلن ثم أو صى بي فلن إل يك فإلى‬
‫من توصي بي وما تأمرني قال أي بني‪ ،‬وال ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إل‬
‫رجل بعمور ية فإ نه على م ثل ما ن حن عل يه فإن أحب بت فأ ته فإ نه على م ثل أمر نا‪ ،‬قال فل ما‬
‫مات وغ يب لح قت ب صاحب عمور ية وأ خبرته خبري فقال أ قم عندي فأق مت ع ند ر جل على‬
‫هدي أصحابه وأمرهم‪ ،‬قال وكنت اكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة‪ ،‬قال ثم نزل به أمر‬
‫ال عز وجل فلما حضر قلت له يا فلن إني كنت مع فلن فأوصى بي إلى فلن وأوصى بي‬
‫فلن إلى فلن وأو صى بي فلن إلى فلن وأو صى بي فلن إل يك فإلى من تو صي بي و ما‬
‫تأمر ني؟ قال أي ب ني‪ ،‬وال ما أعلم أ صبح على ما ك نا عل يه أ حد من الناس آمرك أن تأت يه‬
‫ولك نه قد أظلك زمان نبي مبعوث بد ين إبراه يم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض ب ين‬
‫حرتين بينهما نخل به علمات ل تخفى يأكل الهدية ول يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة‬
‫فإن استطعت أن تلحق بتلك البلد فافعل‪ ،‬قال ثم مات وغيب فمكثت بعمورية ما شاء ال أن‬
‫أمكث ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه‬
‫وغنيم تي هذه قالوا ن عم فأعطيت هم إيا ها وحملو ني ح تى إذا قدموا بي وادي القرى ظلمو ني‬
‫فباعو ني لر جل من يهود فك نت عنده ورأ يت الن خل ورجوت أن يكون البلد الذي و صف لي‬
‫صاحبي ولم ي حق لي في نف سي‪ ،‬فبي نا أ نا عنده قدم عل يه ا بن عم له من المدي نة من ب ني‬
‫قريظة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة فوال ما هو إل أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي‬
‫فأق مت ب ها وب عث ال ر سوله فأقام بم كة ما أقام ل أ سمع له بذ كر مع ما أ نا ف يه من ش غل‬
‫الرق‪ ،‬ثم هاجر إلى المدينة فوال إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي‬
‫جالس إذ أق بل ا بن عم له ح تى و قف عل يه فقال‪ ،‬فل نُ قات َل الُ ب ني قيلة! وال‪ ،‬إن هم الن‬
‫لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم زعم أنه نبي‪ ،‬قال فلما سمعتها أخذتني‬
‫العرواء ح تى ظن نت أ ني ساقط على سيدي‪ ،‬قال ونزلت عن النخلة فجعلت أقول ل بن ع مه‬
‫ماذا تقول؟ قال فغضـب سـيدي فلكم ني لكمـة شديدة وقال مـا لك ولهذا أقبـل على عملك‪ ،‬قال‬
‫قلت ل ش يء إن ما أردت أن أ ستثبته ع ما قال‪ ،‬و قد كان ش يء عندي قد جمع ته فل ما أم سيت‬
‫أخذ ته ثم ذه بت به إلى ر سول ال و هو بقباء فدخلت عليه فقلت له إ نه قد بلغ ني أ نك رجل‬
‫صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من‬
‫غير كم‪ ،‬قال فقرب ته إل يه فقال ر سول ال ل صحابه كلوا وأم سك يده هو فلم يأ كل‪ ،‬قال فقلت‬
‫في نفسي هذه واحدة‪ ،‬ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا وتحول رسول ال إلى المدينة ثم جئته‬
‫به فقلت إ ني رأي تك ل تأ كل ال صدقة وهذه هد ية أكرم تك ب ها فأ كل ر سول ال من ها وأ مر‬
‫أ صحابه فأكلوا م عه‪ ،‬قال فقلت في نف سي هاتان اثنتان‪ ،‬قال ثم جئت ر سول ال و هو ببق يع‬
‫الغر قد قد ت بع جنازة من أ صحابه عل يه شملتان و هو جالس في أ صحابه ف سلمت عل يه ثم‬
‫اسـتدرت أنظـر إلى ظهره هـل أرى الخاتـم الذي وصـف لي صـاحبي فلمـا رآنـي رسـول ال‬
‫ا ستدبرته عرف أ ني أ ستثبت في ش يء و صف لي‪ ،‬قال فأل قى رداءه عن ظهره فنظرت إلى‬
‫الخاتـم فعرفتـه فانكببـت عليـه أقبله وأبكـي‪ ،‬فقال رسـول ال تحول فتحولت فقصـصت عليـه‬
‫حديثي كما حدثتك يا بن عباس فأعجب رسول ال أن يسمع ذلك أصحابه‪ ،‬ثم شغل سلمان‬
‫الرق ح تى فاته مع رسول ال بدر وأ حد‪ ،‬قال ثم قال لي رسول ال كا تب يا سلمان فكات بت‬
‫صـاحبي على ثلثمائة نخلة أحييهـا له بالفقيـر وبأربعيـن أوقيـة فقال رسـول ال لصـحابه‬
‫أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل‪ :‬الرجل بثلثين ودية والرجل بعشرين والرجل بخمسة عشر‬
‫والرجـل بعشرة والرجـل بقدر مـا عنده حتـى اجتمعـت لي ثلثمائة وديـة فقال لي رسـول ال‬
‫اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي‪ ،‬قال ففقرت لها وأعانني أصحابي‬
‫حتـى إذا فرغـت منهـا جئتـه فأخـبرته فخرج رسـول ال معـي إليهـا فجعلنـا نقرب له الودي‬
‫ويض عه ر سول ال بيده فوا الذي ن فس سلمان بيده ما مات من ها ود ية واحدة فأد يت الن خل‬
‫فبقي علي المال‪ ،‬فأتى رسول ال بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال ما‬
‫فعل الفارسي المكاتب قال فدُعِيْتُ له‪ ،‬قال فخذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان‪ ،‬قال قلت وأين‬
‫تقع هذه يا رسول ال مما علي؟ قال خذها فإن ال عز وجل سيؤدي بها عنك‪ ،‬قال فأخذتها‬
‫فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم وعتقت فشهدت مع‬
‫رسول ال الخندق ثم لم يفتني معه مشهد‪ .‬رواه المام أحمد‪.‬‬

‫نبذة من فضائله‬

‫السـبّاق أربعـة‪ :‬أنـا سـابق العرب‪ ،‬وصـهيب سـابق الروم‪،‬‬


‫عـن أنـس قال‪ :‬قال رسـول ال‪ُ :‬‬
‫وسلمان سابق فارس‪ ،‬وبلل سابق الحبشة‪.‬‬
‫وعن كثير بن عبد ال المزني عن أبيه عن جده أن رسول ال خط الخندق وجعل لكل عشرة‬
‫أربعيـن ذراعًا فاحتـج المهاجرون والنصـار فـي سـلمان وكان رجل قويّاـ‪ ،‬فقال المهاجرون‬
‫سلمان منا‪ ،‬وقالت النصار ل بل سلمان منا‪ ،‬فقال رسول ال‪ :‬سلمان منا آل البيت‪.‬‬

‫وعن أبي حاتم عن العتبي قال‪ :‬بعث إلي عمر بحلل فقسمها فأصاب كل رجل ثوبا ثم صعد‬
‫المنبر وعليه حلة والحلة ثوبان‪ ،‬فقال أيها الناس أل تسمعون؟! فقال سلمان‪ :‬ل نسمع‪ ،‬فقال‬
‫عمر‪ :‬لم يا أبا عبد ال؟! قال إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا وعليك حلة‪ ،‬فقال‪ :‬ل تعجل يا أبا‬
‫عبد ال‪ ،‬ثم نادى يا عبد ال‪ ،‬فلم يجبه أحد‪ ،‬فقال‪ :‬يا عبد ال بن عمر‪ ،‬فقالك لبيك يا أمير‬
‫المؤمن ين‪ ،‬فقال‪ :‬نشدتك ال الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال‪ :‬اللهم نعم‪ ،‬قال سلمان‪:‬‬
‫فقل الن نسمع‪.‬‬

‫غزارة علمه رضي ال عنه‬

‫عن أ بي جحي فة قال‪ :‬آ خى ر سول ال ب ين سلمان وأ بي الدرداء‪ ،‬فزار سلمان أ با الدرداء‬
‫فرأى أم الدرداء مبتذلة (فـي هيئة رثـة) فقال لهـا‪ :‬مـا شأنـك؟ فقالت‪ :‬إن أخاك أبـا الدرداء‬
‫ليست له حاجة في الدنيا‪ ،‬قال‪ :‬فلما جاء أبا الدرداء قرب طعامًا‪ ،‬فقال‪ :‬كل فإني صائم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ما أ نا بآكل حتى تأكل قال‪ :‬فأ كل‪ ،‬فلما كان الليل ذهب أ بو الدرداء ليقوم فقال له سلمان نم‬
‫فنام‪ ،‬فلما كان من آخر الليل قال له سلمان‪ :‬قم الن‪ ،‬فقاما فصليا‪ ،‬فقال إن لنفسك عليك حقّا‬
‫ولربك عليك حقّا وإن لضيفك عليك حقّا وإن لهلك عليك حقّا فأعط كل ذي حق حقه‪ ،‬فأتيا‬
‫النبي فذكرا ذلك له فقال صدق سلمان‪ .‬انفرد بإخراجه البخاري‪.‬‬

‫وعن محمد بن سيرين قال‪[ :‬دخل سلمان على أ بي الدرداء في يوم جمعة فقيل له هو نائم‬
‫فقال‪ :‬ما له؟ فقالوا إنه إذا كانت ليلة الجمعة أحياها ويصوم يوم الجمعة قال فأمرهم فصنعوا‬
‫طعامًا في يوم جمعة ثم أتاهم فقال كل قال إني صائم‪ ،‬فلم يزل به حتى أكل‪ ،‬فأتيا النبي فذكرا‬
‫ذلك له فقال النـبي‪ :‬عويمـر سـلمان أعلم منـك‪ ،‬وهـو يضرب بيده على فخـذ أبـي الدرداء‪،‬‬
‫عويمر‪ ،‬سلمان أعلم منك ـ ثلث مرات ـ ل تخصن ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي‪ ،‬ول‬
‫تخصن يوم الجمعة بصيام من بين اليام]‬

‫وعن ثابت البناني أن أبا الدرداء ذهب مع سلمان يخطب عليه امرأة من بني ليث فدخل فذكر‬
‫ف ضل سلمان و سابقته وإ سلمه وذ كر أ نه يخ طب إلي هم فتات هم فل نة فقالوا أ ما سلمان فل‬
‫نزوجه ولكنا نزوجك‪ ،‬فتزوجها ثم خرج فقال له إنه قد كان شيء وأنا أستحيي أن أذكره لك‬
‫قال وما ذاك فأخبره الخبر فقال سلمان أنا أحق أن أستحيي منك أن أخطبها وقد قضاها ال‬
‫لك رضي ال عنهما‪.‬‬

‫نبذة من زهده‬

‫عن الح سن قال كان عطاء سلمان الفار سي خم سة آلف وكان أميرًا على زهاء ثلث ين ألفًا‬
‫من المسلمين وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها فإذا خرج عطاؤه‬
‫أمضاه ويأكل من سفيف يديه‪.‬‬

‫وعن مالك بن أنس أن سلمان الفارسي كان يستظل بالفيء حيثما دار ولم يكن له بيت فقال‬
‫له رجل أل نبني لك بيتا تستظل به من الحر وتسكن فيه من البرد فقال له سلمان‪ :‬نعم فلما‬
‫أدبر صاح به فسأله سلمان‪ :‬كيف تبنيه؟ قال أبنيه إن قمت فيه أصاب رأسك‪ ،‬وإن اضطجعت‬
‫فيه أصاب رجليك‪ ،‬فقال سلمان‪ :‬نعم‪ .‬وقال عبادة بن سليم كان لسلمان خباء من عباء وهو‬
‫أمير الناس‪ .‬وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن سلمان أنه تزوج امرأة من كندة فلما كان‬
‫ليلة البناء مشى معه أصحابه حتى أتى بيت المرأة فلما بلغ البيت قال ارجعوا أجركم ال ولم‬
‫يدخلهم‪ ،‬فلما نظر إلى البيت والبيت منجد قال أمحموم بيتكم أم تحولت الكعبة في كندة‪ ،‬فلم‬
‫يدخل حتى نزع كل ستر في البيت غير ستر الباب‪ ،‬فلما دخل رأى متاعًا كثيرًا‪ ،‬فقال لمن هذا‬
‫المتاع؟ قالوا متاعك ومتاع امرأتك‪ ،‬فقال ما بهذا أوصاني خليلي رسول ال‪ ،‬أوصاني خليلي‬
‫أن ل يكون متاعي من الدنيا إل كزاد الراكب‪ ،‬ورأى خدمًا فقال لمن هذه الخدم؟ قالوا خدمك‬
‫وخدم امرأتك‪ ،‬فقال ما بهذا أوصاني خليلي أوصاني خليلي أن ل أمسك إل ما أنكح أو أنكح‬
‫فإن فعلت فبغ ين كان علي م ثل أوزار هن من غ ير أن ين قص من أوزار هن ش يء‪ ،‬ثم قال‬
‫للنسوة اللتي عند امرأته هل أنتن مخليات بيني وبين امرأتي؟ قلن نعم‪ ،‬فخرجن فذهب إلى‬
‫الباب فأجا فه وأر خى ال ستر ثم جاء فجلس ع ند امرأ ته فم سح بنا صيتها ود عا بالبر كة فقال‬
‫ل ها‪ :‬هل أ نت مطيع تي في ش يء آمرك به؟ قالت‪ :‬جل ست مجلس من يط يع قال فإن خليلي‬
‫أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة ال‪ ،‬فقام وقامت إلى المسجد فصليا ما‬
‫بدا لهما ثم خرجا فقضى منها ما يق ضي الرجل من امرأ ته‪ ،‬فلما أصبح غدا عليه أصحابه‬
‫فقالوا ك يف وجدت أهلك؟ فأعرض عن هم ثم أعادوا فأعرض عن هم ثم أعادوا فأعرض عن هم‬
‫ثم قال‪ :‬إن ما ج عل ال عز و جل ال ستور والخدر والبواب لتواري ما في ها‪ ،‬ح سب كل امرئٍ‬
‫منكم أن يسأل عما ظهر له‪ ،‬فأما ما غاب عنه فل يسألن عن ذلك‪ ،‬سمعت رسول ال يقول‪:‬‬
‫المتحدث عن ذلك كالحمارين يتسافدان في الطريق‪.‬‬
‫و عن أ بي قل بة أن رجل د خل على سلمان و هو يع جن فقال‪ :‬ما هذا؟ قال‪ :‬بعث نا الخادم في‬
‫ع مل فكره نا أن نج مع عل يه عمل ين‪ ،‬ثم قال‪ :‬فلن يقرئك ال سلم قال‪ :‬م تى قد مت‪ ،‬قال‪ :‬م نذ‬
‫كذا وكذا فقال أما إنك لو لم تؤدها كانت أمانة لم تؤدها‪ .‬رواه أحمد‪.‬‬

‫كسبه وعمله بيده‬

‫عن النعمان بن حميد قال‪ :‬دخلت مع خالي على سلمان الفارسي بالمدائن وهو يعمل الخوص‬
‫ف سمعته يقول‪ :‬أشتري خو صًا بدر هم فأعمله فأبي عه بثل ثة درا هم فأع يد درهمًا ف يه وأن فق‬
‫درهمًا على عيالي وأت صدق بدر هم‪ ،‬ولو أن ع مر بن الخطاب نها ني ع نه ما انته يت‪ .‬و عن‬
‫الحسن قال‪ :‬كان سلمان يأكل من سفيف يده‪.‬‬

‫نبذة من ورعه وتواضعه‬

‫عـن أبـي ليلى الكندي قال‪ :‬قال غلم سـلمان لسـلمان‪ :‬كاتبنـي‪ ،‬قال‪ :‬ألك شيـء قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فمن أين؟ قال‪ :‬أسأل الناس‪ ،‬قال‪ :‬تريد أن تطعمني غسالة الناس‪.‬‬

‫عـن ثابـت قال‪ :‬كان سـلمان أميرًا على المدائن فجاء رجـل مـن أهـل الشام ومعـه حمـل تبـن‬
‫وعلى سلمان عباءة رثة فقال لسلمان‪ :‬تعال احمل و هو ل يعرف سلمان فحمل سلمان فرآه‬
‫الناس فعرفوه فقالوا هذا الميـر فقال‪ :‬لم أعرفـك!! فقال سـلمان إنـي قـد نويـت فيـه نيـة فل‬
‫أضعه حتى أبلغ بيتك‪.‬‬

‫وعـن عبـد ال بـن بريدة قال‪ :‬كان سـلمان إذا أصـاب الشيـء اشترى بـه لحمـا ثـم دعـا‬
‫المجذومين فأكلوا معه‪.‬‬

‫و عن ع مر بن أ بي قره الكندي قال‪ :‬عرض أ بي على سلمان أخ ته أن يزو جه فأ بى‪ ،‬فتزوج‬


‫مولة يقال لها بقيرة‪ ،‬فأتاه أبو قرة فأخبر أنه في مبقلة له فتوجه إليه فلقيه معه زنبيل فيه‬
‫بقل قد أدخل عصاه في عروة الزنبيل وهو على عاتقه‪.‬‬

‫وعن ميمون بن مهران عن رجل من عبد القيس قال‪ :‬رأيت سلمان في سرية وهو أميرها‬
‫على حمار عل يه سراويل وخدمتاه تذبذبان والج ند يقولون قد جاء الم ير قال سلمان‪ :‬إن ما‬
‫الخير والشر بعد اليوم‪.‬‬
‫وعن أبي الحوص قال‪ :‬افتخرت قريش عند سلمان فقال سلمان‪ :‬لكني خلقت من نطفة قذرة‬
‫ثم أعود جيفة منتنة ثم يؤدى بي إلى الميزان فإن ثقلت فأنا كريم وإن خفت فأنا لئيم‪.‬‬

‫عـن ابـن عباس قال‪ :‬قدم سـلمان مـن غيبـة له فتلقاه عمـر فقال‪ :‬أرضاك ل عبدًا قال‪:‬‬
‫فزوجنـي‪ ،‬فسـكت عنـه‪ ،‬فقال‪ :‬أترضانـي ل عبدًا ول ترضانـي لنفسـك‪ ،‬فلمـا أصـبح أتاه قوم‬
‫فقال‪ :‬حا جة؟ قالوا‪ :‬ن عم‪ ،‬قال‪ :‬ما هي؟ قالوا‪ :‬تضرب عن هذا ال مر يعنون خطب ته إلى ع مر‬
‫فقال أ ما وال ما حمل ني على هذا إمر ته ول سلطانه‪ ،‬ول كن قلت ر جل صالح ع سى ال عز‬
‫وجل أن يخرج مني ومنه نسمة صالحة‪.‬‬

‫و عن أ بي ال سود الدؤلي قال‪ :‬ك نا ع ند علي ذات يوم فقالوا‪ :‬يا أم ير المؤمن ين حدث نا عن‬
‫سلمان‪ ،‬قال‪ :‬من ل كم بم ثل لقمان الحك يم! ذلك امرؤ م نا وإلي نا أ هل الب يت‪ ،‬أدرك العلم الول‬
‫والعلم الخـر‪ ،‬وقرأ الكتاب الول والخـر‪ ،‬بحـر ل ينزف‪ .‬وأوصـى معاذ بـن جبـل رجل أن‬
‫يطلب العلم من أربعة سلمان أحدهم‪.‬‬

‫نبذة من كلمه ومواعظه‬

‫عن ح فص بن عمرو ال سعدي عن ع مه قال‪ :‬قال سلمان لحذي فة‪ :‬يا أ خا ب ني ع بس‪ ،‬العلم‬
‫كثير والعمر قصير فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك ودع ما سواه فل تعانه‪.‬‬

‫وعن أبي سعيد الوهبي عن سلمان قال‪ :‬إنما مثل المؤمن في الدنيا كمثل المريض معه طبيبه‬
‫الذي يعلم داءه ودواءه فإذا اشت هى ما يضره من عه وقال ل تقر به فإ نك إن أتي ته أهل كك فل‬
‫يزال يمنعه حتى يبرأ من وجعه‪ ،‬وكذلك المؤمن يشتهي أشياء كثيرة مما قد فضل به غيره‬
‫من العيش‪ ،‬فيمنعه ال عز وجل إياه ويحجزه حتى يتوفاه فيدخله الجنة‪.‬‬

‫وعن جرير قال‪ :‬قال سلمان‪ :‬يا جرير‪ ،‬تواضع ل عز وجل فإنه من تواضع ل عز وجل في‬
‫الدنيا رفعه ال يوم القيامة‪ ،‬يا جرير‪ ،‬هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟ قلت‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬ظلم‬
‫الناس بينهم في الدنيا‪ ،‬قال‪ :‬ثم أخذ عويدًا ل أكاد أراه بين إصبعيه‪ ،‬قال‪ :‬يا جرير‪ ،‬لو طلبت‬
‫فـي الجنـة مثـل هذا العود لم تجده‪ ،‬قال قلت‪ :‬يـا أبـا عبـد ال‪ ،‬فأيـن النخـل والشجـر؟ قال‪:‬‬
‫أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلها الثمر‪.‬‬

‫وعن أبي البختري عن سلمان قال‪ :‬مثل القلب والجسد مثل أعمى ومقعد قال المقعد إني أرى‬
‫تمرة ول أستطيع أن أقوم إليها فاحملني فحمله فأكل وأطعمه‪.‬‬
‫و عن قتادة قال‪ :‬قال سلمان‪ :‬إذا أ سأت سيئة في سريرة فأح سن ح سنة في سريرة‪ ،‬وإذا‬
‫أسأت سيئة في علنية فأحسن حسنة في علنية لكي تكون هذه بهذه‪.‬‬

‫و عن مالك بن أ نس عن يح يى بن سعيد أن أ با الدرداء ك تب إلى سلمان‪ :‬هلم إلى الرض‬


‫المقدسة‪ ،‬فكتب إليه سلمان‪ :‬إن الرض ل تقدس أحدًا وإنما يقدس النسان عمله وقد بلغني‬
‫أنك جعلت طبيبًا فإن كنت تبرئ فنعمًا لك وإن كنت متطببًا فاحذر أن تقتل إنسانًا فتدخل النار‪،‬‬
‫فكان أ بو الدرداء إذا ق ضى ب ين اثن ين فأدبرا ع نه ن ظر إليه ما وقال متط بب وال ارج عا إلي‬
‫أعيدا قصتكما‪.‬‬

‫عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال‪ :‬ثلث أعجبتني حتى أضحكتني‪ :‬مؤمل دنيا‬
‫والموت يطلبه‪ ،‬وغافل وليس بمغفول عنه‪ ،‬وضاحك ملء فيه ل يدري أساخط رب العالمين‬
‫عليـه أم راض عنـه‪ ،‬وثلث أحزننـي حتـى أبكيننـي‪ :‬فراق محمـد وحزبـه‪ ،‬وهول المطلع‪،‬‬
‫والوقوف بين يدي ربي عز وجل ول أدري إلى جنة أو إلى نار‪.‬‬

‫وعن حماد بن سلمة عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال‪ :‬ما من مسلم يكون‬
‫بفيء من الرض فيتوضأ أو يتيمم ثم يؤذن ويقيم إل أمّ جنودًا من الملئكة ل يرى طرفهم‬
‫أو قال طرفاهم‪.‬‬

‫وعـن ميمون بـن مهران قال‪ :‬جاء رجـل إلى سـلمان فقال أوصـني‪ ،‬قال‪ :‬ل َتكَلّمـُ‪ ،‬قال‪ :‬ل‬
‫ي ستطيع من عاش في الناس أل يتكلم‪ ،‬قال‪ :‬فإن تكل مت فتكلم ب حق أو ا سكت‪ ،‬قال‪ :‬زد ني‪،‬‬
‫قال‪ :‬ل تغ ضب‪ ،‬قال‪ :‬إ نه ليغشا ني مال أمل كه‪ ،‬قال‪ :‬فإن غض بت فأم سك ل سانك ويدك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫زدنـي قال ل تلبـس الناس‪ ،‬قال‪ :‬ل يسـتطيع مـن عاش فـي الناس أل يلبسـهم ‪ ،‬قال‪ :‬فإن‬
‫لبستهم فاصدق الحديث وأد المانة‪.‬‬

‫و عن أ بي عثمان عن سلمان قال‪ :‬إن الع بد إذا كان يد عو ال في ال سراء فنزلت به الضراء‬
‫فدعا قالت الملئكة صوت معروف من آدمي ضعيف فيشفعون له‪ ،‬وإذا كان ل يدعو ال في‬
‫السراء فنزلت به الضراء قالت الملئكة صوت منكر من آدمي ضعيف فل يشفعون له‪.‬‬

‫وعن سالم مولى زيد بن صوحان قال‪ :‬كنت مع مولي زيد بن صوحان في السوق فمر علينا‬
‫سلمان الفار سي و قد اشترى و سقا من طعام فقال له ز يد‪ :‬يا أ با ع بد ال‪ ،‬تف عل هذا وأ نت‬
‫صاحب ر سول ال؟ قال‪ :‬إن الن فس إذا أحرزت قوت ها اطمأ نت وتفر غت للعبادة ويئس من ها‬
‫الوسواس‪.‬‬
‫وعن أبي عثمان عن سلمان قال‪ :‬لما افتتح المسلمون "جوخى" دخلوا يمشون فيها وأكداس‬
‫الطعام فيها أمثال الجبال قال ورجل يمشي إلى جنب سلمان فقال يا أبا عبد ال أل ترى إلى‬
‫ما أعطانا ال؟ فقال سلمان‪ :‬وما يعجبك فما ترى إلى جنب كل حبة مما ترى حساب؟! رواه‬
‫المام أحمد‪.‬‬

‫وعن سعيد بن وهب قال‪ :‬دخلت مع سلمان على صديق له من كندة نعوده فقال له سلمان‪:‬‬
‫إن ال عز وجل يبتلي عبده المؤمن بالبلء ثم يعافيه فيكون كفارة لما مضى فيستعتب فيما‬
‫بقـي‪ ،‬وإن ال عـز وجـل يبتلي عبده الفاجـر بالبلء ثـم يعافيـه فيكون كالبعيـر عقله أهله ثـم‬
‫أطلقوه فل يدري فيم عقلوه ول فيم أطلقوه حين أطلقوه‪.‬‬

‫وعن محمد بن قيس عن سالم بن عطية السدي قال‪ :‬دخل سلمان على رجل يعوده وهو في‬
‫النزع فقال‪ :‬أيها الملك ارفق به‪ ،‬قال يقول الرجل إنه يقول إني بكل مؤمن رفيق‪.‬‬

‫وفاة سلمان رضي ال عنه‬

‫عن حبيب بن الحسن وحميد بن مورق العجلي أن سلمان لما حضرته الوفاة بكى فقيل له ما‬
‫يبكيك قال عهد عهده إلينا رسول ال قال ليكن بلغ أحدكم كزاد الراكب قال فلما مات نظروا‬
‫حوًا من عشرين درهما‪.‬‬
‫في بيته فلم يجدوا في بيته إل إكافًا ووطا ًء ومتاعًا ُق ّومَ َن ْ‬

‫عن أبي سفيان عن أشياخه قال‪ :‬ودخل سعد بن أبي وقاص على سلمان يعوده فبكى سلمان‬
‫فقال له سعد‪ :‬ما يبكيك يا أبا عبد ال توفي رسول ال وهو عنك راض وترد عليه الحوض؟‬
‫قال فقال سلمان‪ :‬أما إني ما أبكي جزعًا من الموت ول حر صًا على الدنيا ولكن رسول ال‬
‫عهد الينا فقال لتكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب وحولي هذه الساود‪ ،‬وإنما حوله إجانة أو‬
‫جفة أو مطهرة‪ ،‬قال فقال له سعد‪ :‬يا أبا عبد ال‪ ،‬اعهد الينا بعهد فنأخذ به بعدك‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬
‫سعد‪ ،‬اذكر ال عند همك إذا هممت‪ ،‬وعند حكمك إذا حكمت‪ ،‬وعند بذلك إذا قسمت‪.‬‬

‫وعن الشعبي قال‪ :‬أصاب سلمان صرة مسك يوم فتح جلولء فاستودعها امرأته فلما حضرته‬
‫الوفاة قال هاتي المسك فمرسها في ماء ثم قال انضحيها حولي فإنه يأتيني زوار الن ليس‬
‫بإنس ول جان‪ ،‬ففعلت فلم يمكث بعد ذلك إل قليل حتى قبض‪.‬‬

‫قال أهل العلم بالسير‪ :‬كان سلمان من المعمرين وتوفي بالمدائن في خلفة عثمان وقيل مات‬
‫سنة ثنتين وثلثين‪.‬‬
‫سيف الدين قطز‬

‫ازداد خطر التتار‪ ،‬وأصبحت مصر مهددة بغزوهم بعد أن نزل (هولكو) قائد التتار بجيوشه‬
‫إلى بغداد في سنة ‪656‬هـ‪ ،‬فقتل مئات اللوف من أهلها‪ ،‬ونهبوا‬
‫خزائنها‪ ،‬وقضوا على الخلفة العباسية‪ ،‬ثم قتلوا الخليفة المستعصم بال وأفراد‬
‫أسرته‪ ،‬وكبار رجال دولته‪.‬‬
‫امتد زحفهم إلى بلد الجزيرة‪ ،‬واستولوا على (حرّان) و(الرّها) و(ديار بكر) ونزلوا على‬
‫(حلب) في سنة ‪658‬هـ‪ ،‬فاستولوا عليها‪ ،‬ووصلوا إلى دمشق‪ ،‬فهرب سلطانها (الناصر‬
‫يوسف بن أيوب) ثم دخلوا المدينة بعد أن استسلم أهلها‪ ،‬وواصل التتار زحفهم‪ ،‬فوصلوا إلى‬
‫(نابلس) ثم إلى (الكرك) وبيت المقدس‪ ،‬وتقدموا إلى (غزة) دون أن يقاومهم أحد‪ ،‬ولم ي ْبقَ‬
‫غير اليمن والحجاز ومصر‪ ،‬التي كان يتولى عرشها في ذلك الوقت المنصور على بن عز‬
‫الدين أيبك‪ ،‬وكان صغيرًا لم يتجاوز عمره خمس عشرة سنة‪ ،‬ولم يكن قادرًا على تحمل أعباء‬
‫الملك في هذه الظروف العصيبة؛ لذلك طلب علماء السلم من قطز أن يتولى العرش مكانه؛‬
‫لنقاذ مصر والبلد السلمية من خطر التتار‪.‬‬
‫ووصلت رسالة إلى قطز من زعيم التتار (هولكو) وكانت الرسالة مليئة بالتخويف والتهديد‪،‬‬
‫ومن بين ما جاء فيها‪ ...( :‬فلكم بجميع البلد معتبر وعن عزمنا‬
‫مزدجر‪ ،‬فاتعظوا بغيركم‪ ،‬وأسلموا إلينا أمركم‪ ،‬قبل أن ينكشف الغطاء‬
‫فتندموا‪ ،‬ويعود عليكم الخطأ‪ ،‬فنحن ما نرحم من بكى ول نرق لمن شكا‪ ،‬وقد سمعتم أننا قد‬
‫فتحنا البلد‪ ،‬وطهرنا الرض من الفساد‪ ،‬وقتلنا معظم العباد‪ ،‬فعليكم‬
‫بالهرب‪ ،‬وعلينا الطلب‪ ،‬فأي أرض تأويكم‪ ،‬وأي طريق ينجيكم‪ ،‬وأي بلد تحميكم؟!)‪.‬‬
‫جمع قطز المراء بعد أن استمع إلى الرسالة‪ ،‬واتفق معهم على قتل رسل هولكو فقبض‬
‫عليهم واعتقلهم وأمر بإعدامهم‪ ،‬ثم علق رءوسهم على (باب زويلة) كان هذا التصرف من‬
‫جانب قطز يعني إعلنه الحرب على التتار‪ ،‬فجمع القضاة والفقهاء والعيان لمشاورتهم وأخذ‬
‫رأيهم في الجهاد‪ ،‬وفي دار السلطنة بقلعة الجبل حضر العالم الكبير الشيخ (عز الدين بن عبد‬
‫السلم)‪ ،‬والقاضي (بدر الدين السنجاري) قاضي الديار المصرية‪ ،‬واتفق الجميع على التصدي‬
‫للتتار والموت في سبيل ال‪.‬‬
‫خرج قطز يوم الثنين الخامس عشر من شعبان سنة ‪658‬هـ بجميع عسكر‬
‫مصر‪ ،‬ومن انضم إليهم من عساكر الشام والعرب والتركمان ‪ ..‬وغيرهم من قلعة الجبل‪،‬‬
‫فنادى في القاهرة وكل أقاليم مصر‪ ،‬يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل ال والتصدي لعداء‬
‫السلم‪ ،‬وجمع المراء‪ ،‬وطلب منهم أن يساعدوه في قتال‬
‫التتار‪ ،‬لكنهم امتنعوا عن الرحيل معه‪ ،‬فقال لهم‪( :‬يا أمراء المسلمين‪ ..‬لكم زمان تأكلون أموال‬
‫بيت المال‪ ،‬وأنتم للغزاة كارهون‪ ،‬وأنا متوجه‪ ،‬فمن اختار الجهاد يصحبني‪ ،‬ومن لم يختر ذلك‬
‫يرجع إلى بيته‪ ،‬فإن ال مطلع عليه‪ ،‬وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين)‪.‬‬
‫وقبل المسير جمع (قطز) قادته‪ ،‬وشرح لهم خطورة الموقف‪ ،‬وذكرهم بما وقع من التتار من‬
‫الخراب والتدمير وسفك الدماء‪ ،‬وطلب منهم وهو يجهش بالبكاء أن يبذلوا أرواحهم وأنفسهم‬
‫في سبيل إنقاذ السلم والمسلمين‪ ،‬ولم يتمالك القادة أنفسهم فأخذوا يبكون لبكائه‪ ،‬ووعدوه أن‬
‫يضحوا بكل شيء لنصرة السلم‪.‬‬
‫وخرج قطز لملقاة التتار خارج مصر‪ ،‬ولم يقف موقف المدافع‪ ،‬وذلك ليمانه بأن الهجوم‬
‫خير وسيلة للدفاع‪ ،‬وحتى يرفع معنويات رجاله‪ ،‬ويثبت لعدائه أنه ل يخافهم ول يرهبهم‪،‬‬
‫وتحرك قطز من مصر في شهر رمضان سنة ‪658‬هـ‪ ،‬ووصل مدينة (غزة) وكانت فيها‬
‫بعض جموع التتار بقيادة (بيدرا) الذي فوجئ بهجوم أحد كتائب المماليك بقيادة بيبرس أحد‬
‫قواد قطز الشجعان‪ ،‬لتتحقق بشائر النصر‪ ،‬ويستعيد قطز (غزة) من التتار‪ ،‬وأقام بها يومًا‬
‫واحدًا‪ ،‬ثم اتجه شمال نحو سهل البقاع بلبنان حيث التتار بقيادة ( َك ُت ْبغَا) الذي فشل في إنقاذ‬
‫التتار الذين هزمهم المسلمون في غزة‪.‬‬
‫وكان قطز رجل عسكريّا من الدرجة الولى‪ ،‬فهو يعد لكل شيء عدته‪ ،‬فقد أرسل حملة‬
‫استطلعية استكشافية تحت قيادة المير (ركن الدين بيبرس) وكان قائدًا ذا خبرة واسعة‬
‫بالحروب‪ ،‬لكي تجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن التتار‪ ،‬عن قوتهم وعددهم وسلحهم‪،‬‬
‫وبعد أن انتهى (بيبرس) من استطلع الخبار اشتبك مع التتار في مكان يسمى (عين جالوت)‬
‫وظل القتال مستمرّا حتى وصل قطز مع قواته إلى ميدان المعركة الفاصلة‪.‬‬
‫وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان من سنة ‪658‬هـ‪ ،‬دارت معركة حاسمة‬
‫بين الطرفين‪ ،‬واقتحم قطز صفوف القتال‪ ،‬وتقدم جنوده وهو يصيح‪:‬‬
‫(وا إسلماه‪ ..‬وا إسلماه) يضرب بسيفه رءوس العداء‪ ،‬ويشجع‬
‫أصحابه‪ ،‬ويطالبهم بالشهادة في سبيل ال‪ ،‬واشتدت المعركة‪ ،‬فأخذ قطز يصرخ أمام جيشه‪:‬‬
‫(وا إسلماه‪ ..‬وا إسلماه‪ ..‬يا ال‪ ..‬انصر عبدك قطز على التتار) وقتل فرس قطز‪ ،‬وكاد‬
‫يتعرض للقتل لول أن أسعفه أحد فرسانه‪ ،‬فنزل له عن فرسه‪ ،‬فسارع قطز إلى قيادة رجاله‪،‬‬
‫ودخل دون خوف في صفوف العداء حتى ارتبكت‬
‫صفوفهم‪ ،‬ولجأ القائد العظيم إلى حيلة ذكية؛ فقد أخفى بعض قواته من المماليك بين التلل؛‬
‫حتى إذا زادت شدة المعركة‪ ،‬ظهر المماليك من كمائنهم‪ ،‬وهاجموا التتار بقوة وعنف‪.‬‬
‫وكانت هناك مزرعة بالقرب من ساحة القتال‪ ،‬فاختفى فيها مجموعة من جنود‬
‫التتار‪ ،‬فأمر (قطز) جنوده أن يشعلوا النار في تلك المزرعة‪ ،‬فاحترق من فيها من التتار‪ ،‬وبدأ‬
‫المسلمون يطاردون التتار‪ ،‬حتى دخل قطز دمشق في أواخر شهر رمضان المبارك‪ ،‬فاستقبله‬
‫أهلها بالفرح والسرور‪ ،‬ولم تمضِ أسابيع قليلة‪ ،‬حتى طهرت بلد الشام من التتار‪ ،‬فخرج من‬
‫دمشق عائدًا إلى مصر‪ ،‬وفي طريق عودته انقض عليه عدد من المراء وقتلوه حسدًا منهم‬
‫وحقدًا على ما أكرمه ال به من نصر‪ ،‬وذلك يوم السبت السادس عشر من ذي القعدة سنة‬
‫‪658‬هـ‪ ،‬ودفن في المكان الذي قتل‬
‫فيه‪ ،‬وحزن الناس عليه حزنًا شديدًا‬
‫شريك بن عبد ال‬

‫القضاء‪ ..‬العدل‪ ..‬الظلم‪ ..‬حق الناس‪ ..‬حق ال‪ ..‬كلمات أخذ يرددها شريك بينه وبين نفسه عندما‬
‫عرض عليه الخليفة أن يتولى قضاء (الكوفة) فما أعظمها من مسئولية!!‬
‫في مدينة (بُخارى) بجمهورية أوزبكستان السلمية الن‪ ،‬وُِلدَ شريك بن عبد ال النخعي سنة‬
‫خمس وتسعين للهجرة‪ ،‬ولمـّا بلغ من العمر تسع سنوات أتم حفظ القرآن الكريم‪ ،‬ثم درس الفقه‬
‫والحديث‪ ،‬وأصبح من حفـاظ أحاديث رسـول الـلـه صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وفي مدينة الكوفة اشتهر بعلمه وفضله‪ ،‬فأخذ يعلم الناس ويفتيهم في أمور‬
‫دينهم‪ ،‬وكان ل يبخل بعلمه على أحد‪ ،‬ول يُ َف ِرقُ في مجلس علمه بين فقير‬
‫وغني؛ فيحكى أن أحد أبناء الخليفة المهدي دخل عليه‪ ،‬فجلس يستمع إلى دروس العلم التي يلقيها‬
‫شريك‪ ،‬وأراد أن يسأل سؤالً؛ فسأله وهو مستند على‬
‫الحائط‪ ،‬وكأنه ل يحترم مجلس العلم‪ ،‬فلم يلتفت إليه شريك‪ ،‬فأعاد الميرُ السؤالَ مرة أخرى‪،‬‬
‫لكنه لم يلتفت إليه وأعرض عنه؛ فقال له الحاضرون‪ :‬كأنك تستخف بأولد الخليفة‪ ،‬ول تقدرهم‬
‫حق قدرهم؟ فقال شريك‪ :‬ل‪ ،‬ولكن العلم أزين عند أهله من أن تضيّعوه‪ ،‬فما كان من ابن الخليفة‬
‫إل أن جلس على ركبتيه ثم سأله‪ ،‬فقال شريك‪ :‬هكذا يطلب العلم‪.‬‬
‫عرِضَ عليه أن يتولى القضاء لكنه امتنع وأراد أن يهرب من هذه المسئولية العظيمة‪ ،‬خوفًا‬ ‫وقد ُ‬
‫من أن يظلم صاحب حق‪ ،‬فعندما دعاه الخليفة المنصور‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫إني أريد أن أوليك القضاء‪ ،‬قال شريك‪ :‬اعفني يا أمير المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬لست أعفيك‪ ..‬فقبل تولي‬
‫القضاء‪ ،‬وأخذ شريك ينظر في المظالم ويحكم فيها بالعدل‪ ،‬ول يخشى في ال لومة لئم‪ ،‬فيحكى‬
‫أنه جلس ذات يوم في مجلس القضاء‪ ،‬وإذا بامرأة تدخل عليه وتقول له‪ :‬أنا بال ثم بك يا نصير‬
‫ن ظلمك؟ قالت‪ :‬المير موسى بن عيسى ابن عم أمير‬ ‫المظلومين‪ ،‬فنظر إليها شريك وقال‪َ :‬م ْ‬
‫المؤمنين‪ ،‬فقال لها‪ :‬وكيف؟ قالت‪ :‬كان عندي بستان على شاطئ الفرات وفيه نخل وزرع ورثته‬
‫عن أبي وبنيت له‬
‫حائطًا‪ ،‬وبالمس بعث المير بخمسمائة غلم فاقتلعوا الحائط؛ فأصبحت ل أعرف حدود بستاني‬
‫من بساتينه؛ فكتب القاضي إلى المير‪" :‬أما بعد‪ ..‬أبقى ال المير وحفظه‪ ،‬وأتم نعمته عليه‪ ،‬فقد‬
‫جاءتني امرأة فذكرت أن المير اغتصب بستانها أمس‪ ،‬فليحضر المير الحكم الساعة‪،‬‬
‫والسلم"‪.‬‬
‫فلما قرأ المير كتاب شريك غضب غضبًا شديدًا‪ ،‬ونادى على صاحب‬
‫الشرطة‪ ،‬وقال له‪ :‬اذهب إلى القاضي شريك‪ ،‬وقل له ‪-‬بلساني‪ : -‬يا سبحان ال!! ما رأيت أعجب‬
‫من أمرك! كيف تنصف على المير امرأة حمقاء لم تصح دعواها؟ فقال صاحب الشرطة‪ :‬لو‬
‫تفضل المير فأعفاني من هذه المهمة‪ ،‬فالقاضي كما تعلم صارم‪ ،‬فقال المير غاضبًا‪ :‬اذهب‬
‫وإياك أن تتردد‪.‬‬
‫فخرج صاحب الشرطة من عند المير وهو ل يدري كيف يتصرف‪ ،‬ثم قال لغلمانه‪ :‬اذهبوا‬
‫واحملوا إلى الحبس فراشًا وطعامًا وما تدعو الحاجة إليه‪ ،‬ومضى صاحب الشرطة إلى شريك‪،‬‬
‫فقال القاضي له‪ :‬إنني طلبت من المير أن يحضر بنفسه‪ ،‬فبعثك تحمل رسالته التي ل تغني عنه‬
‫شيئًا في مجلس القضاء!! ونادي على غلم المجلس وقال له‪ :‬خذ بيده وضعه في الحبس‪ ،‬فقال‬
‫صاحب الشرطة‪ :‬وال لقد علمت أنك تحبسني فقدمت ما أحتاج إليه في الحبس‪.‬‬
‫وبعث المير موسى بن عيسى إليه بعض أصدقائه ليكلموه في المر فأمر‬
‫بحبسهم‪ ،‬فعلم المير بما حدث‪ ،‬ففتح باب السجن وأخرج مَنْ فيه‪ ،‬وفي اليوم‬
‫التالي‪ ،‬عرف القاضي شريك بما حدث‪ ،‬فقال لغلمه‪ :‬هات متاعي والحقني‬
‫ببغداد‪ ،‬وال ما طلبنا هذا المر (أي القضاء) من بني العباس‪ ،‬ولكن هم الذين أكرهونا عليه‪،‬‬
‫ولقد ضمنوا لنا أن نكون فيه أعزة أحرارا‪.‬‬
‫فلما عرف المير موسى بذلك‪ ،‬أسرع ولحق بركب القاضي شريك‪ ،‬وقال له‪ :‬يا‬
‫أبا عبد ال أتحبس إخواني بعد أن حبست رسولي؟ فقال شريك‪ :‬نعم؛ لنهم مشوا لك في أمر ما‬
‫كان لهم أن يمشوا فيه‪ ،‬وقبولهم هذه الوفادة تعطيل للقضاء‪ ،‬وعدوان على العدل‪ ،‬وعون على‬
‫الستهانة بحقوق الضعفاء‪ ،‬ولست براجع عن غايتي أو يردوا جميعًا إلى السجن‪ ،‬وإلّ مضيت‬
‫إلى أمير المؤمنين فاستعفيته من القضاء‪ ،‬فخاف المير وأسرع بردّهم إلى الحبس‪ ،‬وجلس‬
‫القاضي في مجلس القضاء‪ ،‬واستدعى المرأة المتظلمة وقال‪ :‬هذا خصمك قد حضر‪ ..‬فقال‬
‫المير‪ :‬أما وقد حضرت فأرجو أن تأمر بإخراج المسجونين‪ ،‬فقال شريك‪ :‬أما الن فلك ذلك‪.‬‬
‫ثم سأل الميرَ عما َتدّعيه المرأة‪ ،‬فقال المير‪ :‬صدقت‪ ..‬فقال القاضي شريك‪ :‬إذن ترد ما أخذت‬
‫منها‪ ،‬وتبني حائطها كما كان‪ ..‬قال المير‪ :‬أفعل ذلك‪ ،‬فسأل شريك المرأة‪ :‬أبقي لك عليه شيئًا؟‬
‫عظّ َم أمرَ الِ أذل ال‬
‫قالت‪ :‬بارك ال فيك وجزاك خيرًا‪ ،‬وقام المير من المجلس وهو يقول‪ :‬مَنْ َ‬
‫له عظماء خلقه‪ ،‬ومات القاضي شريك‬
‫سنة ‪ 177‬هـ‪.‬‬

‫صلح الدين اليوبي‬

‫فارس نبيل وبطل شجاع‬

‫عرف في ك تب التار يخ في الشرق والغرب بأ نه فارس نب يل وب طل شجاع وقائد من أف ضل‬


‫من عرفتهم البشرية وشهد بأخلقه أعداؤه من الصليبيين قبل أصدقائه وكاتبوا سيرته‪ ،‬إنه‬
‫نموذج فذ لشخصية عملقة من صنع السلم‪ ،‬إنه البطل صلح الدين اليوبي محرر القدس‬
‫من الصليبيين وبطل معركة حطين‪.‬‬

‫فإلى سيرته ومواقف من حياته كما يرويها صاحب وفيات العيان أحمد بن خلكان‪ ،‬والقاضي‬
‫بهاء الدين بن شداد صاحب كتاب "سيرة صلح الدين" وبن الثير في كتابه "الكامل"‪.‬‬

‫نسبه ونشأته‬

‫هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي الملقب بالملك الناصر صلح الدين‪.‬‬
‫ات فق أ هل التار يخ على أن أباه وأهله من (دو ين) و هي بلدة في آ خر أذربيجان وأن هم أكراد‬
‫روادية‪ ،‬والروادية بطن من الهذبانية‪ ،‬وهي قبيلة كبيرة من الكراد‪.‬‬

‫يقول أح مد بن خلكان‪ :‬قال لي ر جل فق يه عارف ب ما يقول و هو من أ هل دو ين إن على باب‬


‫دوين قرية يقال لها (أجدانقان) وجميع أهلها أكراد روادية وكان شاذي ـ جد صلح الدين‬
‫ـ قد أخذ ولديه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك نزلوا‬
‫تكريت ومات شاذي بها وعلى قبره قبة داخل البلد‪.‬‬

‫ولد صلح الدين سنة ‪532‬هـ بقلعة تكريت لما كان أبوه وعمه بها والظاهر أنهم ما أقاموا‬
‫بها بعد ولدة صلح الدين إل مدة يسيرة‪ ،‬ولكنهم خرجوا من تكريت في بقية سنة ‪532‬هـ‬
‫ال تي ولد في ها صلح الد ين أو في سنة ثلث وثلث ين لنه ما أقا ما ع ند عماد الد ين زن كي‬
‫بالمو صل ثم ل ما حا صر دم شق وبعد ها بعل بك وأخذ ها ر تب في ها ن جم الد ين أيوب وذلك في‬
‫أوائل سنة أربع وثلثين‪.‬‬

‫يقول بن خلكان‪ :‬أخبرني بعض أهل بيتهم وقد سألته هل تعرف متى خرجوا من تكريت فقال‬
‫سمعت جما عة من أهل نا يقولون إن هم أخرجوا من ها في الليلة ال تي ولد في ها صلح الد ين‬
‫فتشاءموا به وتطيروا منه فقال بعضهم لعل فيه الخيرة وما تعلمون فكان كما قال وال أعلم‪.‬‬

‫ولم يزل صلح الد ين ت حت ك نف أب يه ح تى ترعرع ول ما ملك نور الد ين محمود بن عماد‬
‫الديـن زن كي دم شق لزم نجـم الد ين أيوب خدم ته وكذلك ولده صلح الديـن وكانـت مخايـل‬
‫السعادة عليه لئحة والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة ونور الدين يرى له ويؤثره ومنه تعلم‬
‫صلح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والجتهاد في أمور الجهاد‪.‬‬

‫صلح الدين في مصر‬

‫هرب الوزير الفاطمي شاور من مصر من الوزير ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس‬
‫المسلمين اللخمي المنذري لما استولى على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة‬
‫كعادتهـم فـي ذلك وقتـل ولده الكـبر طـي بـن شاور فتوجـه شاور إلى الشام مسـتغيثا بالملك‬
‫العادل نور الديـن بـن زنكـي وذلك فـي شهـر رمضان ‪558‬هــ ودخـل دمشـق فـي الثالث‬
‫والعشرين من ذي القعدة من السنة نفسها فوجه نور الدين معه المير أسد الدين شيركوه‬
‫بن شاذي في جما عة من ع سكره كان صلح الد ين في جملت هم في خد مة ع مه و هو كاره‬
‫للسفر معهم وكان لنور الدين في إرسال هذا الجيش هدفان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬قضاء حق شاور لكونه قصده ودخل عليه مستصرخا‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أنه أراد استعلم أحوال مصر فإنه كان يبلغه أنها ضعيفة من جهة الجند وأحوالها‬
‫في غاية الختلل فقصد الكشف عن حقيقة ذلك‪.‬‬

‫وكان كث ير العتماد على شيركوه لشجاع ته ومعرف ته وأمان ته فانتدبه لذلك وج عل أسد الد ين‬
‫شيركوه ا بن أخ يه صلح الد ين مقدم ع سكره وشاور مع هم فخرجوا من دم شق في جمادى‬
‫الولى سنة ‪559‬هـ فدخلوا مصر واستولوا على المر في رجب من السنة نفسها‪.‬‬

‫ول ما و صل أ سد الد ين وشاور إلى الديار الم صرية وا ستولوا علي ها وقتلوا الضرغام وح صل‬
‫لشاور مقصـودة وعاد إلى منصـبه وتمهدت قواعده واسـتمرت أموره غدر بأسـد الديـن‬
‫شيركوه واسـتنجد بالفرنـج عليـه فحاصـروه فـي بلبيـس‪ ،‬وكان أسـد الديـن قـد شاهـد البلد‬
‫وعرف أحوالهـا وأنهـا مملكـة بغيـر رجال تمشـي المور فيهـا بمجرد اليهام والمحال فطمـع‬
‫في ها وعاد إلى الشام‪ ،‬وأقام أ سد الد ين بالشام مدة مفكرا في تدب ير عود ته إلى م صر محد ثا‬
‫نفسه بالملك لها مقررا قواعد ذلك مع نور الدين إلى سنة ‪562‬هـ‬

‫وبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة الوزير الخائن شاور للفرنج وما تقرر بينهم فخافا على‬
‫مصـر أن يملكوهـا ويملكوا بطريقهـا جميـع البلد فتجهـز أسـد الديـن وأنفـذ معـه نور الديـن‬
‫العساكر وصلح الدين في خدمة عمه أسد الدين‪ ،‬وكان وصول أسد الدين إلى البلد مقارنا‬
‫لو صول الفر نج إلي ها وات فق شاور والم صريون بأ سرهم والفر نج على أ سد الد ين وجرت‬
‫حروب كثيرة‪.‬‬

‫وتوجه صلح الدين إلى السكندرية فاحتمى بها وحاصره الوزير شاور في جمادى الخرة‬
‫من سنة ‪562‬ه ـ ثم عاد أ سد الد ين من ج هة ال صعيد إلى بلب يس و تم ال صلح بي نه وب ين‬
‫المصريين وسيروا له صلح الدين فساروا إلى الشام‪.‬‬

‫ثـم إن أسـد الديـن عاد إلى مصـر مرة ثالثـة وكان سـبب ذلك أن الفرنـج جمعوا فارسـهم‬
‫وراجل هم وخرجوا يريدون م صر ناكث ين العهود مع الم صريين وأ سد الد ين طم عا في البلد‬
‫فلمـا بلغ ذلك أسـد الديـن ونور الديـن لم يسـعهما الصـبر فسـارعا إلى مصـر أمـا نور الديـن‬
‫فبالمال والرجال ولم يمكنـه المسـير بنفسـه خوفـا على البلد مـن الفرنـج‪ ،‬وأمـا أسـد الديـن‬
‫فبنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله‬
‫يقول بن شداد‪ :‬لقد قال لي ال سلطان صلح الد ين قدس ال روحه ك نت أكره الناس للخروج‬
‫في هذه الدف عة و ما خر جت مع ع مي باختياري وهذا مع نى قوله تعالى {وع سى أن تكرهوا‬
‫شيئا وهو خير لكم} (البقرة‪)216:‬‬

‫وكان شاور لما أحس بخروج الفرنج إلى مصر سير إلى أسد الدين يستصرخه ويستنجده‬
‫فخرج مسرعا وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الول سنة ‪564‬هـ ولما علم الفرنج‬
‫بوصـول أسـد الديـن إلى مصـر على اتفاق بينـه وبيـن أهلهـا رحلوا راجعيـن على أعقابهـم‬
‫ناك صين وأقام أ سد الد ين ب ها يتردد إل يه شاور في الحيان وكان وعد هم بمال في مقا بل ما‬
‫خسروه من النفقة فلم يوصل إليهم شيئا وعلم أسد الدين أن شاور يلعب به تارة وبالفرنج‬
‫أخرى‪،‬وتحقق أنه ل سبيل إلى الستيلء على البلد مع بقاء شاور فأجمع رأيه على القبض‬
‫عل يه إذا خرج إل يه‪ ،‬فقتله وأ صبح أ سد الد ين وزيرا وذلك في سابع ع شر رب يع الول سنة‬
‫‪564‬هــ ودام آمرا وناهيـا و صـلح الديـن يباشـر المور مقررا لهـا لمكان كفايتـه ودرايتـه‬
‫وحسن رأيه وسياسته إلى الثاني والعشرين من جمادى الخرة من السنة نفسها فمات أسد‬
‫الدين‪.‬‬

‫وذكر المؤرخون أن أسد الدين لما مات استقرت المور بعده للسلطان صلح الدين يوسف‬
‫بن أيوب فبذل الموال وملك قلوب الرجال وها نت عنده الدن يا فملك ها وش كر نع مة ال تعالى‬
‫عليـه‪ ،‬وأعرض عـن أسـباب اللهـو وتقمـص بقميـص الجـد والجتهاد‪ ،‬اسـتعدادا لمواجهات‬
‫مستمرة مع الصليبيين من جهة ومع خزعبلت الدولة الفاطمية من جهة أخرى‪.‬‬

‫هجوم الفرنج على مصر‬

‫ولما علم الفرنج استقرار المر بمصر لصلح الدين علموا أنه يملك بلدهم ويخرب ديارهم‬
‫ويقلع آثار هم ل ما حدث له من القوة والملك واجت مع الفر نج والروم جمي عا وق صدوا الديار‬
‫الم صرية فق صدوا دمياط ومع هم آلت الح صار و ما يحتاجون إل يه من العدد‪ ،‬ول ما رأى نور‬
‫الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط قصد شغلهم عنها فنزل على الكرك محاصرا لها‪،‬‬
‫فقصده فرنج الساحل فرحل عنها وقصد لقاءهم فلم يقفوا له‪.‬‬

‫ول ما بلغ صلح الد ين ق صد الفر نج دمياط ا ستعد ل هم بتجه يز الرجال وج مع اللت إلي ها‬
‫ووعد هم بالمداد بالرجال إن نزلوا علي هم وبالغ في العطا يا والهبات وكان وزيرا متحك ما ل‬
‫يرد أمره في ش يء ثم نزل الفر نج علي ها واش تد زحف هم وقتال هم علي ها و هو ي شن علي هم‬
‫الغارات من خارج والعسكر يقاتلهم من داخل ونصر ال تعالى المسلمين به وبحسن تدبيره‬
‫فرحلوا عنها خائبين فأحرقت مناجيقهم ونهبت آلتهم وقتل من رجالهم عدد كبير‪.‬‬

‫تأسيس الدولة اليوبية‬

‫وا ستقرت المور ل صلح الد ين ون قل أ سرته ووالده ن جم الد ين أيوب إلي ها لي تم له ال سرور‬
‫وتكون قصته مشابهة لقصة يوسف الصديق عليه السلم‪ ،‬ولم يزل صلح الدين وزيرا حتى‬
‫مات العاضد آخر الخلفاء الفاطميين ‪565‬هـ وبذلك انتهت الدولة الفاطمية وبدأت دولة بني‬
‫أيوب (الدولة اليوبية)‪.‬‬

‫ولقب صلح الدين بالملك الناصر وعاد إلى دار أسد الدين فأقام بها‪ ،‬وثبت قدم صلح الدين‬
‫ورسخ ملكه‪.‬‬

‫وأرسل صلح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخوته فلم يجبه إلى ذلك وقال أخاف‬
‫أن يخالف أحد منهم عليك فتفسد البلد‪ ،‬ثم إن الفرنج اجتمعوا ليسيروا إلى مصر فسير نور‬
‫الدين العساكر وفيهم إخوة صلح الدين منهم شمس الدولة توران شاه بن أيوب‪ ،‬وهو أكبر‬
‫من صلح الدين‪.‬‬

‫و ذكر ابن الثير ما حدث من الوحشة بين نور الدين وصلح الدين باطنا فقال‪ :‬وفي سنة‬
‫‪567‬هـ حدث ما أوجب نفرة نور الدين عن صلح الدين وكان الحادث أن نور الدين أرسل‬
‫إلى صلح الد ين يأمره بج مع الع ساكر الم صرية والم سير ب ها إلى بلد الفر نج والنزول على‬
‫الكرك ومحا صرته ليج مع هو أي ضا ع ساكره وي سير إل يه ويجتم عا هناك على حرب الفر نج‬
‫وال ستيلء على بلد هم فبرز صلح الد ين من القاهرة في العشر ين من المحرم وك تب إلى‬
‫نور الد ين يعر فه أن رحيله ل يتأ خر وكان نور الد ين قد ج مع ع ساكره وتج هز وأقام ينت ظر‬
‫ورود الخبر من صلح الدين برحيله ليرحل هو فلما أتاه الخبر بذلك رحل من دمشق عازما‬
‫على ق صد الكرك فو صل إل يه وأقام ينت ظر و صول صلح الد ين إل يه فأر سل كتا به يعتذر ف يه‬
‫عن الوصول باختلل البلد المصرية لمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون‬
‫على الوثوب بها وأنه يخاف عليها مع البعد عنها فعاد إليها فلم يقبل نور الدين عذره‪ ،‬وكان‬
‫سبب تقاعده أن أصحابه وخواصه خوفوه من الجتماع بنور الدين فحيث لم يمتثل أمر نور‬
‫الدين شق ذلك عليه وعظم عنده وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلح الدين عنها‪.‬‬
‫ووصل الخبر إلى صلح الدين فجمع أهله وفيهم والده نجم الدين أيوب وخاله شهاب الدين‬
‫الحارمي ومعهم سائر المراء وأعلمهم ما بلغه عن عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر‬
‫منه واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلح الدين وقال‬
‫إذا جاء قاتلناه و صددناه عن البلد وواف قه غيره من أهله فشتم هم ن جم الد ين أيوب وأن كر‬
‫ذلك واستعظمه وكان ذا رأي ومكر وعقل وقال لتقي الدين اقعد وسبه وقال لصلح الدين أنا‬
‫أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن أن في هؤلء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا فقال‬
‫ل فقال وال لو رأيت أنا وهذا خالك شهاب الدين نور الدين لم يمكنا إل أن نترجل له ونقبل‬
‫الرض ب ين يد يه ولو أمر نا أن نضرب عن قك بال سيف لفعل نا فإذا ك نا ن حن هكذا ك يف يكون‬
‫غير نا و كل من تراه من المراء والع ساكر لو رأى نور الد ين وحده لم يتجا سر على الثبات‬
‫على سرجه ول و سعه إل النزول وتقب يل الرض ب ين يد يه وهذه البلد له و قد أقا مك في ها‬
‫وإن أراد عزلك فأي حاجة له إلى المجيء يأمرك بكتاب مع نجاب حتى تقصد خدمته ويولي‬
‫بلده من يريد وقال للجماعة كلهم قوموا عنا ونحن مماليك نور الدين وعبيده يفعل بنا ما‬
‫يريد فتفرقوا على هذا وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر‪.‬‬

‫ول ما خل أيوب باب نه صلح الد ين قال له أ نت جا هل قل يل المعر فة تج مع هذا الج مع الكث ير‬
‫وتطلع هم على ما في نف سك فإذا سمع نور الد ين أ نك عازم على من عه عن البلد جعلك أ هم‬
‫المور إليه وأولها بالقصد ولو قصدك لم تر معك أحدا من هذا العسكر وكانوا أسلموك إليه‬
‫وأمـا الن بعـد هذا المجلس فسـيكتبون إليـه ويعرفونـه قولي وتكتـب أنـت إليـه وترسـل فـي‬
‫المعنى وتقول أي حاجة إلى قصدي يجبي نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي فهو إذا سمع‬
‫هذا عدل عن ق صدك وا ستعمل ما هو أ هم عنده واليام تندرج وال في كل و قت في شأن‬
‫وال لو أراد نور الد ين ق صبة من ق صب سكرنا لقاتل ته أ نا علي ها ح تى أمن عه أو أق تل فف عل‬
‫صلح الد ين ما أشار به والده فل ما رأى نور الد ين ال مر هكذا عدل عن ق صده وكان ال مر‬
‫كما قال نجم الدين أيوب وتوفي نور الدين ولم يقصده وهذا كان من أحسن الراء وأجودها‪.‬‬

‫توسع الدولة اليوبية‬

‫قال ابن شداد‪ :‬لم يزل صلح الدين على قدم بسط العدل ونشر الحسان وإفاضة النعام على‬
‫الناس إلى سـنة ‪568‬هــ فعنـد ذلك خرج بالعسـكر ير يد بلد الكرك والشو بك وإن ما بدأ ب ها‬
‫لنها كا نت أقرب إليه وكانت في الطريق تمنع من يق صد الديار المصرية وكان ل يمكن أن‬
‫تعبر قافلة حتى يخرج هو بنفسه يعبرها فأراد توسيع الطريق وتسهيلها فحاصرها في هذه‬
‫السنة وجرى بينه وبين الفرنج وقعات وعاد ولم يظفر منها بشيء ولما عاد بلغه خبر وفاة‬
‫والده نجم الدين أيوب قبل وصوله إليه‪.‬‬

‫ولما كانت سنة ‪569‬هـ رأى قوة عسكره وكثرة عدده وكان بلغه أن باليمن إنسانا استولى‬
‫علي ها وملك ح صونها ي سمى ع بد ال نبي بن مهدي ف سير أخاه توران شاه فقتله وأ خذ البلد‬
‫منه وبلغ صلح الدين أن إنسانا يقال له الكنز جمع بأسوان خلقا عظيما من السودان وزعم‬
‫أنه يعيد الدولة المصرية وكان أهل مصر يؤثرون عودهم فانضافوا إلى الكنز‪ ،‬فجهز صلح‬
‫الد ين إل يه جي شا كثي فا وج عل مقد مه أخاه الملك العادل و ساروا فالتقوا وهزمو هم وذلك في‬
‫السابع من صفر سنة ‪570‬هـ‪.‬‬

‫وكان نور الد ين رح مه ال قد خلف ولده الملك ال صالح إ سماعيل وكان بدم شق ع ند وفاة‬
‫أبيه ثم إن صلح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن ولده الملك الصالح صبي ل يستقل بالمر‬
‫ول ينهض بأعباء الملك واختلفت الحوال بالشام وكاتب شمس الدين ابن المقدم صلح الدين‬
‫فتج هز من م صر في ج يش كث يف وترك ب ها من يحفظ ها وق صد دم شق مظهرا أ نه يتولى‬
‫م صالح الملك ال صالح فدخل ها في سنة ‪570‬ه ـ وت سلم قلعت ها وكان أول دخوله دار أب يه‪،‬‬
‫وهي الدار المعروفة بالشريف العقيقي‪ ،‬واجتمع الناس إليه وفرحوا به وأنفق في ذلك اليوم‬
‫مال جليل وأظهـر السـرور بالدمشقييـن وصـعد القلعـة وسـار إلى حلب فنازل حمـص وأخـذ‬
‫مدينتها في جمادى الولى من السنة نفسها ولم يشتغل بقلعتها وتوجه إلى حلب ونازلها في‬
‫يوم الجمعة آخر جمادى الولى من السنة وهي المعركة الولى‪.‬‬

‫ولما أحس سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي صاحب الموصل‬
‫ب ما جرى علم أن صلح الد ين قد ا ستفحل أمره وع ظم شأ نه وخاف إن غ فل ع نه ا ستحوذ‬
‫على البلد وا ستقرت قد مه في الملك وتعدى ال مر إل يه فأن فذ ع سكرا وافرا وجي شا عظي ما‬
‫وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود و ساروا يريدون لقاءه ليردوه عن‬
‫البلد فلما بلغ صلح الدين ذلك رحل عن حلب في مستهل رجب من السنة عائدا إلى حماة‬
‫ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها ووصل عز الدين مسعود إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه‬
‫الملك ال صالح بن نور الد ين صاحب حلب يومئذ وخرجوا في ج مع عظ يم فل ما عرف صلح‬
‫الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم وراسلوه واجتهد أن يصالحوه‬
‫ف ما صالحوه ورأوا أن ضرب الم صاف م عه رب ما نالوا به غرض هم والقضاء ي جر إلى أمور‬
‫و هم ب ها ل يشعرون فتلقوا فق ضى ال تعالى أن هزموا ب ين يد يه وأ سر جما عة من هم ف من‬
‫علي هم وذلك في تا سع ش هر رمضان من سنة ‪ 570‬ه ـ ع ند قرون حماة ثم سار عق يب‬
‫هزيمتهم ونزل على حلب وهي الدفعة الثانية فصالحوه على أخذ المعرة وكفر طاب وبار ين‬
‫ولمـا جرت هذه المعركـة كان سـيف الديـن غازي يحاصـر أخاه عماد الديـن زنكـي صـاحب‬
‫سنجار وعزم على أخذها منه لنه كان قد انتمى إلى صلح الدين وكان قد قارب أخذها فلما‬
‫بلغـه الخـبر وأن عسـكره انكسـر خاف أن يبلغ أخاه عماد الديـن الخـبر فيشتـد أمره ويقوى‬
‫جأ شه فرا سله و صالحه ثم سار من وق ته إلى ن صيبين واه تم بج مع الع ساكر والنفاق في ها‬
‫وسار إلى البيرة وعبر الفرات وخيم على الجانب الشامي وراسل ابن عمه الصالح بن نور‬
‫الد ين صاحب حلب ح تى ت ستقر له قاعدة ي صل علي ها ثم إ نه و صل إلى حلب وخرج الملك‬
‫الصالح إلى لقائه أقام على حلب مدة‪.‬‬

‫المواجهة مع الفرنجة‬

‫فـي سـنة ‪572‬هــ اسـقرت المور بمصـر والشام للدولة اليوبيـة‪ ،‬وكان أخـو صـلح الديـن‬
‫ش مس الدولة توران شاه قد و صل إل يه من الي من فا ستخلفه بدم شق ثم تأ هب للغزاة من‬
‫الفرنجة‪ ،‬فخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة وذلك في أوائل جمادى الولى‬
‫سنة ‪573‬هـ وكانت الهزيمة على المسلمين في ذلك اليوم‪ ،‬فلما انهزموا لم يكن لهم حصن‬
‫قريـب يأوون إليـه فطلبوا جهـة الديار المصـرية وضلوا فـي الطريـق وتبددوا وأسـر منهـم‬
‫جما عة من هم الفق يه عي سى الهكاري وكان ذلك وه نا عظي ما جبره ال تعالى بمعر كة حط ين‬
‫المشهورة‪.‬‬

‫أقام صلح الدين بمصر حتى لم شعثه وشعث أصحابه من أثر هزيمة الرملة ثم بلغه تخبط‬
‫الشام فعزم على العود إليه واهتم بالغزاة فوصله رسول "قليج أرسلن" صاحب الروم يلتمس‬
‫الصلح ويتضرر من الرمن فعزم على قصد بلد ابن لون ـ وهي بلد سيس الفاصلة بين‬
‫حلب والروم من ج هة ال ساحل ـ لين صر قل يج أر سلن عل يه فتو جه إل يه وا ستدعى ع سكر‬
‫حلب لنه كان في الصلح أنه متى استدعاه حضر إليه ودخل بلد ابن لون وأخذ في طريقه‬
‫ح صنا و أخر به ورغبوا إل يه في ال صلح ف صالحهم ور جع عن هم ثم سأله قل يج أر سلن في‬
‫صلح الشرقي ين بأ سرهم فأجاب إلى ذلك وحلف صلح الد ين في عا شر جمادى الولى سنة‬
‫ست و سبعين وخم سمائة ود خل في ال صلح قليج أرسلن والموا صلة وعاد ب عد تمام ال صلح‬
‫إلى دمشق ثم منها إلى مصر‪.‬‬
‫معركة حطين‬

‫كانت معركة حطين المباركة على المسلمين في يوم السبت ‪ 14‬ربيع الخر سنة ‪583‬هـ‬
‫في و سط نهار الجم عة وكان صلح الد ين كثيرا ما يق صد لقاء العدو في يوم الجم عة ع ند‬
‫الصلة تبركا بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر فسار في ذلك الوقت بمن اجتمع له من‬
‫العساكر السلمية وكانت تجاوز العد والحصر على تعبئة حسنة وهيئة جميلة وكان قد بلغه‬
‫عـن العدو أنـه اجتمـع فـي عدة كثيرة بمرج صـفورية بعكـا عندمـا بلغهـم اجتماع الجيوش‬
‫السلمية فسار ونزل على بحيرة طبرية ثم رحل ونزل على طبرية على سطح الجبل ينتظر‬
‫هجوم الصـليبيين عليـه إذا بلغهـم نزوله بالموضـع المذكور فلم يتحركوا ول خرجوا مـن‬
‫منزل هم وكان نزول هم يوم الربعاء ‪21‬رب يع ال خر فل ما رآ هم ل يتحركون نزل على طبر ية‬
‫وهاجمها وأخذها في ساعة واحدة وبقيت القلعة محتمية بمن فيها ولما بلغ العدو ما جرى‬
‫على طبريـة قلقوا لذلك ورحلوا نحوهـا فبلغ السـلطان ذلك فترك على طبريـة مـن يحاصـر‬
‫قلعتهـا ولحـق بالعسـكر فالتقـى بالعدو على سـطح جبـل طبريـة الغربـي منهـا وذلك فـي يوم‬
‫الخميس ‪ 22‬ربيع الخر وحال الليل بين المعسكرين قياما على مصاف إلى بكرة يوم الجمعة‬
‫فر كب الجيشان وت صادما والت حم القتال واش تد ال مر وذلك بأرض قر ية تعرف بلوب يا وضاق‬
‫الخناق بالعدو وهـم سـائرون كأنهـم يسـاقون إلى الموت وهـم ينظرون وقـد أيقنوا بالويـل‬
‫والثبور وأح ست نفو سهم أن هم في غد يوم هم ذلك من زوار القبور ولم تزل الحرب تضطرم‬
‫والفارس مع قر نه ي صطدم ولم ي بق إل الظ فر وو قع الوبال على من ك فر فحال بين هم الل يل‬
‫بظلمـه وبات كـل واحـد مـن الفريقيـن فـي سـلحه إلى صـبيحة يوم السـبت فطلب كـل مـن‬
‫الفريقين مقامه وتحقق المسلمون أن من ورائهم الردن ومن بين أيديهم بلد العدو وأنهم ل‬
‫ينجيهـم إل الجتهاد فـي الجهاد فحملت جيوش المسـلمين مـن جميـع الجوانـب وحمـل القلب‬
‫وصـاحوا صـيحة رجـل واحـد فألقـى ال الرعـب فـي قلوب الكافريـن وكان حقـا عليـه نصـر‬
‫المؤمن ين ول ما أ حس القوم بالخذلن هرب من هم في أوائل ال مر وق صد ج هة صور وتب عه‬
‫جماعة من المسلمين فنجا منهم وكفى ال شره وأحاط المسلمون بالصليبيين من كل جانب‬
‫وأطلقوا علي هم ال سهام وحكموا في هم ال سيوف و سقوهم كأس الحمام وانهز مت طائ فة من هم‬
‫فتبعها أبطال المسلمين فلم ينج منها أحد واعتصمت طائفة منهم بتل يقال له تل حطين وهي‬
‫قرية عندها قبر النبي شعيب عليه السلم فضايقهم المسلمون وأشعلوا حولهم النيران واشتد‬
‫بهم العطش وضاق بهم المر حتى كانوا يستسلمون للمر خوفا من القتل لما مر بهم فأسر‬
‫مقدموهم وقتل الباقون‪.‬‬
‫وكان م من سلم من مقدمي هم الملك جفري وأخوه والبر نس أرناط صاحب الكرك والشو بك‬
‫وابن الهنفري وابن صاحبة طبرية ومقدم الديوية وصاحب جبيل ومقدم السبتار‪.‬‬

‫قال ابن شداد‪ :‬ولقد حكي لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصا واحدا معه نيف وثلثون‬
‫أسيرا قد ربطهم بوتد خيمة لما وقع عليهم من الخذلن‪.‬‬

‫وأما أرناط فان صلح الدين كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله وذلك لنه كان قد عبر به عند‬
‫الشو بك قوم من م صر في حال ال صلح فغدر ب هم وقتل هم فناشدوه ال صلح الذي بي نه وب ين‬
‫الم سلمين فقال ما يتضمن الستخفاف بال نبي (صلى ال عليه و سلم) وبلغ ال سلطان فحملته‬
‫حميته ودينه على أن يهدر دمه‪.‬‬

‫من مواقف صلح الدين‬

‫لما فتح ال تعالى عليه بنصره في حطين جلس صلح الدين في دهليز الخيمة لنها لم تكن‬
‫ن صبت ب عد وعر ضت عل يه ال سارى و سار الناس يتقربون إل يه ب من في أيدي هم من هم و هو‬
‫فرح ب ما ف تح ال تعالى على يده للم سلمين ون صبت له الخي مة فجلس في ها شاكرا ل تعالى‬
‫على ما أن عم به عل يه وا ستحضر الملك جفري وأخاه و أرناط وناول ال سلطان جفري شر بة‬
‫من جلب وثلج فشرب منها وكان على أشد حال من العطش ثم ناولها لرناط وقال السلطان‬
‫للترجمان قل للملك أ نت الذي سقيته وإل أ نا ف ما سقيته وكان من جم يل عادة العرب وكر يم‬
‫أخلقهم أن السير إذا أكل أو شرب من مال من أسره أمن فقصد السلطان بقوله ذلك ثم أمر‬
‫بم سيرهم إلى مو ضع عي نه ل هم فمضوا ب هم إل يه فأكلوا شيئا ثم عادوا ب هم ولم ي بق عنده‬
‫سوى بعض الخدم فاستحضرهم وأقعد الملك في دهليز الخيمة‪.‬‬

‫وأحضر صلح الدين أرناط وأوقفه بين يديه وقال له‪ :‬ها أنا أنت صر لمحمد منك ثم عرض‬
‫عليه السلم فلم يفعل فسل سيفه فضربه بها فحل كتفه وتمم قتله من حضر وأخرجت جثته‬
‫ورميت على باب الخيمة‪،‬فلما رآه الملك على تلك الحال لم يشك في أنه يلحقه به فاستحضره‬
‫وط يب قل به وقال له لم ت جر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك وأ ما هذا فإ نه تجاوز ال حد وتجرأ‬
‫على ال نبياء صلوات ال علي هم وبات الناس في تلك الليلة على أ تم سرور ترت فع أ صواتهم‬
‫بح مد ال وشكره وتهليله وت كبيره ح تى طلع الف جر ثم نزل ال سلطان على طبر ية يوم ال حد‬
‫الخامس والعشرين من شهر ربيع الخر وتسلم قلعتها في ذلك النهار وأقام عليها إلى يوم‬
‫الثلثاء‪.‬‬
‫تحرير عكا وما حولها‬

‫ورحل صلح الدين طالبا عكا فكان نزوله عليها يوم الربعاء وقاتل الصليبيين بها بكرة يوم‬
‫الخميـس مسـتهل جمادى الولى سـنة ‪583‬هــ فأخذهـا واسـتنقذ مـن كان بهـا مـن أسـارى‬
‫الم سلمين وكانوا أك ثر من أرب عة آلف ن فس وا ستولى على ما في ها من الموال والذخائر‬
‫والبضائع لنهـا كانـت مظنـة التجار وتفرقـت العسـاكر فـي بلد السـاحل يأخذون الحصـون‬
‫والقلع والماكـن المنيعـة فأخذوا نابلس وحيفـا وقيسـارية وصـفورية والناصـرة وكان ذلك‬
‫لخلوها من الرجال لن القتل والسر أفنى كثيرا منهم ولما استقرت قواعد عكا وقسم أموالها‬
‫وأسـاراها سـار يطلب تبنيـن فنزل عليهـا يوم الحـد حادي عشـر جمادى الولى وهـي قلعـة‬
‫منيعة فنصب عليها المناجيق وضيق بالزحف خناق من فيها‪ ،‬فقاتلوا قتال شديدا ونصره ال‬
‫سبحانه عليهم فتسلمها منهم يوم الحد ثامن عشرة عنوة وأسر من بقي فيها بعد القتل ثم‬
‫رحـل عنهـا إلى صـيدا فنزل عليهـا وتسـلمها فـي غـد يوم نزوله عليهـا وهـو يوم الربعاء‬
‫العشرون من جمادى الولى وأقام عليها ريثما قرر قواعدها وسار حتى أتى بيروت فنازلها‬
‫ليلة الخميـس الثانـي والعشريـن مـن جمادى الولى وركـب عليهـا المجانيـق وداوم الزحـف‬
‫والقتال ح تى أخذ ها في يوم الخم يس التا سع والعشر ين من الش هر المذكور وت سلم أ صحابه‬
‫جبيل وهو على بيروت‪ ،‬ولما فرغ من هذا الجانب رأى أن قصده عسقلن أولى لنها أيسر‬
‫من صور فأتى عسقلن ونزل عليها يوم الحد السادس عشر من جمادى الخرة من السنة‬
‫وتسلم في طريقه إليها مواضع كثيرة كالرملة والداروم وأقام في عسقلن المناجيق وقاتلها‬
‫قتال شديدا وتسلمها في يوم السبت نهاية جمادى الخرة من السنة وأقام عليها إلى أن تسلم‬
‫أصحابه غزة وبيت جبريل والنطرون بغير قتال وكان بين فتح عسقلن وأخذ الفرنج لها من‬
‫المسلمين خمس وثلثون سنة فإنهم كانوا أخذوها من المسلمين في السابع والعشرين من‬
‫جمادى الخرة سنة ‪548‬هـ‪.‬‬

‫تحرير القدس‬

‫قال ا بن شداد‪ :‬ل ما ت سلم صلح الد ين ع سقلن والما كن المحي طة بالقدس ش مر عن ساق‬
‫الجـد والجتهاد فـي قصـد القدس المبارك واجتمعـت إليـه العسـاكر التـي كانـت متفرقـة فـي‬
‫السـاحل فسـار نحوه معتمدا على ال تعالى مفوضـا أمره إليـه منتهزا الفرصـة فـي فتـح باب‬
‫الخيـر الذي حـث على انتهازه بقوله مـن فتـح له باب خيـر فلينتهزه فإنـه ل يعلم متـى يغلق‬
‫دو نه وكان نزوله عل يه في يوم ال حد الخا مس ع شر من ر جب سنة ‪583‬ه ـ وكان نزوله‬
‫بالجانب الغربي وكان معه من كان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة وحزر أهل الخبرة‬
‫م من كان م عه من كان ف يه من المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين أل فا خار جا عن الن ساء‬
‫وال صبيان ثم انت قل لم صلحة رآ ها إلى الجا نب الشمالي في يوم الجم عة العشر ين من ر جب‬
‫ون صب المناج يق وضا يق البلد بالز حف والقتال ح تى أ خذ الن قب في ال سور م ما يلي وادي‬
‫جهنم ولما رأى أعداء ال الصليبيون ما نزل بهم من المر الذي ل مدفع له عنهم وظهرت‬
‫لهـم إمارات فتـح المدينـة وظهور المسـلمين عليهـم وكان قـد اشتـد روعهـم لمـا جرى على‬
‫أبطالهـم وحماتهـم مـن القتـل والسـر وعلى حصـونهم مـن التخريـب والهدم وتحققوا أنهـم‬
‫صـائرون إلى مـا صـار أولئك إليـه فاسـتكانوا وأخلدوا إلى طلب المان واسـتقرت المور‬
‫بالمرا سلة من الطائفت ين وكان ت سلمه في يوم الجم عة ال سابع والعشر ين من ر جب وليل ته‬
‫كا نت ليلة المعراج المن صوص علي ها في القرآن الكر يم فان ظر إلى هذا التفاق العج يب ك يف‬
‫يسـر ال تعالى عوده إلى المسـلمين فـي مثـل زمان السـراء بنـبيهم وهذه علمـة قبول هذه‬
‫الطاعة من ال تعالى وكان فتحه عظيما شهده من أهل العلم خلق ومن أرباب الخرق والزهد‬
‫عالم وذلك أن الناس لما بلغهم ما يسره ال تعالى على يده من فتوح الساحل وقصده القدس‬
‫قصـده العلماء مـن مصـر والشام بحيـث لم يتخلف أحـد منهـم وارتفعـت الصـوات بالضجيـج‬
‫بالدعاء والتهليل والتكبير وصليت فيه الجمعة يوم فتحه وخطب القاضي محيي الدين محمد‬
‫بن علي المعروف بابن الزكي‪.‬‬

‫وقد كتب عماد الدين الصبهاني رسالة في فتح القدس‪،‬وجمع كتابا سماه الفتح القسي في‬
‫الفتح القدسي وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة‪.‬‬

‫وكان قد حضر الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي الشاعر‬
‫المشهور هذا الفتح فأنشد السلطان صلح الدين قصيدته التي أولها‪:‬‬

‫هذا الذي كانت المال تنتظر*****فليوف ل أقوام بما نذروا‬

‫وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدحه ويهنيه بالفتح‪.‬‬

‫يقول بهاء الدين بن شداد في السيرة الصلحية‪ :‬نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة‬
‫وكان شكل عظيما ونصر ال السلم على يده نصرا عزيزا ‪ ،‬وكان الفرنج قد استولوا على‬
‫القدس سنة ‪492‬هـ ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم صلح الدين‪ ،‬وكانت قاعدة الصلح‬
‫أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين دينارا وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية‬
‫و عن كل صغير ذ كر أو أن ثى دينارا واحدا ف من أح ضر قطيع ته ن جا بنف سه وإل أ خذ أ سيرا‬
‫وأفرج ع من كان بالقدس من أ سرى الم سلمين وكانوا خل قا عظي ما وأقام به يج مع الموال‬
‫ويفرقهـا على المراء والرجال ويحبـو بهـا الفقهاء والعلماء والزهاد والوافديـن عليـه وتقدم‬
‫بإي صال من قام بقطيع ته إلى مأم نه و هي مدي نة صور ولم ير حل ع نه وم عه من المال الذي‬
‫جـبي له شيـء وكان يقارب مائتـي ألف دينار وعشريـن ألفـا وكان رحيله عنـه يوم الجمعـة‬
‫الخامس والعشرين من شعبان من سنة ‪583‬هـ‬

‫حصار صور‬

‫يقول بن شداد‪ :‬لما فتح صلح الدين القدس حسن عنده قصد صور وعلم أنه إن أخر أمرها‬
‫رب ما ع سر عل يه ف سار نحو ها ح تى أ تى ع كا فنزل علي ها ون ظر في أمور ها ثم ر حل عن ها‬
‫متوج ها إلى صور في يوم الجم عة خا مس ش هر رمضان من ال سنة(‪ )583‬فنزل قري با من ها‬
‫وسـير لحضار آلت القتال ولمـا تكاملت عنده نزل عليهـا فـي ثانـي عشـر الشهـر المذكور‬
‫وقاتلها وضايقها قتال عظيما واستدعى أسطول مصر فكان يقاتلها في البر والبحر ثم سير‬
‫من حاصر هونين فسلمت في الثالث والعشرين من شوال من السنة‪ ،‬ثم خرج أسطول صور‬
‫في الليل فهاجم أسطول المسلمين وأخذوا المقدم والريس وخمس قطع للمسلمين وقتلوا خلقا‬
‫كثيرا من رجال الم سلمين وذلك في ال سابع والعشر ين من الش هر المذكور وع ظم ذلك على‬
‫السـلطان وضاق صـدره وكان الشتاء قـد هجـم وتراكمـت المطار وامتنـع الناس مـن القتال‬
‫لكثرة المطار فج مع المراء وا ستشارهم في ما يف عل فأشاروا عل يه بالرح يل لت ستريح الرجال‬
‫ويجتمعوا للقتال فرحل عنها وحملوا من آلت الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا‬
‫عن حمله لكثرة الو حل والم طر وكان رحيله يوم ال حد ثا ني ذي القعدة من ال سنة وتفر قت‬
‫العساكر وأعطى كل طائفة منها دستورا وسار كل قوم إلى بلدهم وأقام هو مع جماعة من‬
‫خواصه بمدينة عكا إلى أن دخلت سنة ‪584‬هـ‬

‫ثم نزل على كو كب في أوائل المحرم من ال سنة ولم ي بق م عه من الع سكر إل القل يل وكان‬
‫حصنا حصينا وفيه الرجال والقوات فعلم أنه ل يؤخذ إل بقتال شديد فرجع إلى دمشق‪ ،‬وأقام‬
‫بدمشق خمسة أيام‪ .‬ثم بلغه أن الفرنج قصدوا جبيل واغتالوها فخرج مسرعا وكان قد سير‬
‫ي ستدعي الع ساكر من جم يع الموا ضع و سار يطلب جب يل فل ما عرف الفر نج بخرو جه كفوا‬
‫عن ذلك‪.‬‬

‫بقية فتوح الشام‬


‫قال ا بن شداد في ال سيرة‪ :‬ل ما كان يوم الجم عة را بع جمادى الولى من سنة ‪584‬ه ـ د خل‬
‫السـلطان بلد العدو على تعبيـة حسـنة ورتـب الطلب وسـارت الميمنـة أول ومقدمهـا عماد‬
‫الد ين زن كي والقلب في الو سط والمي سرة في الخ ير ومقدم ها مظ فر الد ين ا بن ز ين الد ين‬
‫فوصل إلى انطرسوس ضاحي نهار الحد سادس جمادى الولى فوقف قبالتها ينظر إليها لن‬
‫ق صده كان جبلة فا ستهان بأمر ها وعزم على قتال ها ف سير من رد الميم نة وأمر ها بالنزول‬
‫على جانب البحر والميسرة على الجانب الخر ونزل هو موضعه والعساكر محدقة بها من‬
‫الب حر إلى الب حر و هي مدي نة راك بة على الب حر ول ها برجان كالقلعت ين فركبوا وقاربوا البلد‬
‫وزحفوا واشتـد القتال وباغتوهـا فمـا اسـتتم نصـب الخيام حتـى صـعد المسـلمون سـورها‬
‫وأخذوها بالسيف وغنم المسلمون جميع من بها وما بها وأحرق البلد و أقام عليها إلى رابع‬
‫عشر جمادى الولى وسلم أحد البرجين إلى مظفر الدين فما زال يحاربه حتى أخربه واجتمع‬
‫به ولده الملك الظا هر ل نه كان قد طل به فجاءه في ع سكر عظ يم‪ ،‬ثم سار ير يد جبلة وكان‬
‫و صوله إلي ها في ثا ني ع شر جمادى الولى و ما ا ستتم نزول الع سكر علي ها ح تى أ خذ البلد‬
‫وكان فيه م سلمون مقيمون وقاض يح كم بين هم وقوتلت القل عة قتال شديدا ثم سلمت بالمان‬
‫في يوم السبت تاسع عشر جمادى الولى من السنة وأقام عليها إلى الثالث والعشرين منه‪،‬‬
‫ثـم سـار عنهـا إلى اللذقيـة وكان نزوله عليهـا يوم الخميـس الرابـع والعشريـن مـن جمادى‬
‫الولى و هو بلد مل يح خف يف على القلب غ ير م سور وله ميناء مشهور وله قلعتان مت صلتان‬
‫على تل يشرف على البلد واشتد القتال إلى آخر النهار فأخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس‬
‫منـه غنيمـة عظيمـة لنـه كان بلد التجار وجدوا في أمـر القلعتيـن بالقتال والنقوب حتـى بلغ‬
‫طول النقـب سـتين ذراعـا وعرضـه أربعـة أذرع فلمـا رأى أهـل القلعتيـن الغلبـة لذوا بطلب‬
‫المان وذلك في عش ية يوم الجم عة الخا مس والعشر ين من الش هر والتم سوا ال صلح على‬
‫سلمة نفوسهم وزراريهم ونسائهم وأموالهم ما خل الذخائر والسلح وآلت الحرب فأجابهم‬
‫إلى ذلك ورفع العلم السلمي عليها يوم السبت وأقام عليها إلى يوم الحد السابع والعشرين‬
‫من جمادى الولى فر حل عن ها إلى صهيون فنزل علي ها يوم الثلثاء التا سع والعشر ين من‬
‫الش هر واجت هد في القتال فأ خذ البلد يوم الجم عة ثا ني جمادى الخرة ثم تقدموا إلى القل عة‬
‫و صدقوا القتال فل ما عاينوا الهلك طلبوا المان فأجاب هم إل يه بح يث يؤ خذ من الر جل عشرة‬
‫دنانير ومن المرأة خمسة دنانير ومن كل صغير ديناران الذكر والنثى سواء و أقام السلطان‬
‫بهذه الجهـة حتـى أخـذ عدة قلع منهـا بلطنـس وغيرهـا مـن الحصـون المنيعـة المتعلقـة‬
‫ب صهيون‪ ،‬ثم ر حل عن ها وأ تى بكاس و هي قل عة ح صينة على العا صي ول ها ن هر يخرج من‬
‫تحتهـا وكان النزول عليهـا يوم الثلثاء سـادس جمادى الخرة وقاتلوهـا قتال شديدا إلى يوم‬
‫الجمعـة تاسـع الشهـر ثـم يسـر ال فتحهـا عنوة فقتـل أكثـر مـن بهـا وأسـر الباقون وغنـم‬
‫المسلمون جميع ما كان فيها ولها قليعة تسمى الشغر وهي في غاية المنعة يعبر إليها منها‬
‫بجسر وليس عليها طريق فسلطت المناجيق عليها من جميع الجوانب ورأوا أنهم ل ناصر‬
‫لهـم فطلبوا المان وذلك يوم الثلثاء ثالث عشـر الشهـر ثـم سـألوا المهلة ثلثـة أيام فأمهلوا‬
‫وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني على قلعتها يوم الجمعة سادس عشر الشهر‪.‬‬

‫ثم سار إلى برز ية و هي من الح صون المني عة في غا ية القوة يضرب ب ها الم ثل في بلد‬
‫الفرنج تحيط ب ها أودية من جم يع جوانب ها وعلو ها خمسمائة ون يف وسبعون ذرا عا وكان‬
‫نزوله علي ها يوم ال سبت الرا بع والعشر ين من الش هر ثم أخذ ها عنوة يوم الثلثاء ال سابع‬
‫والعشرين منه‪.‬‬

‫ثم سار إلى دربساك فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب وهي قلعة منيعة وقاتلها قتال شديدا‬
‫ور قي العلم ال سلمي علي ها يوم الجم عة الثا ني والعشر ين من ر جب وأعطا ها الم ير علم‬
‫الدين سليمان بن جندر وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر‪.‬‬

‫ونزل على بغراس و هي قلعة حصينة بالقرب من إنطاكية وقاتلها مقاتلة شديدة وصعد العلم‬
‫السلمي عليها في ثاني شعبان وراسله أهل إنطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر‬
‫العسكر من البيكار وكان الصلح معهم ل غير على أن يطلقوا كل أ سير عندهم والصلح إلى‬
‫سبعة أشهر فإن جاءهم من ينصرهم و سلموا البلد‪.‬‬

‫ثم رحل السلطان فسأله ولده الملك الظاهر صاحب حلب أن يجتاز به فأجابه إلى ذلك فوصل‬
‫حلب في حادي ع شر شعبان أقام بالقل عة ثل ثة أيام وولده يقوم بالضيا فة حق القيام‪ ،‬و سار‬
‫مـن حلب فاعترضـه تقـي الديـن عمـر ابـن أخيـه وأصـعده إلى قلعـة حماة وصـنع له طعامـا‬
‫وأحضـر له سـماعا مـن جنـس مـا تعمـل الصـوفية وبات فيهـا ليلة واحدة وأعطاه جبلة‬
‫واللذقية‪ ،‬وسار على طريق بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بأيام يسيرة‪ ،‬ثم سار في‬
‫أوائل شهـر رمضان يريـد صـفد فنزل عليهـا ولم يزل القتال حتـى تسـلمها بالمان فـي رابـع‬
‫عشر شوال‪.‬‬

‫ثم سار إلى كوكب وضايقو ها وقاتلوها مقاتلة شديدة والمطار متواترة والوحول متضاعفة‬
‫والرياح عا صفة والعدو مت سلط بعلو مكا نه فل ما تيقنوا أن هم مأخوذون طلبوا المان فأجاب هم‬
‫إليه وتسلمها منهم في منتصف ذي القعدة من السنة‪.‬‬
‫الصليبيون في عكا‬

‫بلغ صلح الد ين أن الفر نج ق صدوا ع كا ونزلوا علي ها يوم الثن ين ثالث ع شر ر جب سنة‬
‫‪585‬ه ـ فأ تى ع كا ودخل ها بغ تة لتقوى قلوب من ب ها و ا ستدعى الع ساكر من كل ناح ية‬
‫فجاءته وكان العدو بمقدار ألفي فارس وثلثين ألف راجل ثم تكاثر الفرنج واستفحل أمرهم‬
‫وأحاطوا بعكا ومنعوا من يدخل إلي ها ويخرج وذلك يوم الخميس فضاق صدر ال سلطان لذلك‬
‫ثم اجتهد في فتح الطريق إليها لتستمر السابلة بالميرة والنجدة وشاور المراء فاتفقوا على‬
‫مضاي قة العدو لينف تح الطر يق ففعلوا ذلك وانف تح الطر يق و سلكه الم سلمون ود خل ال سلطان‬
‫عكا فأشرف على أمورها ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام وتأخر الناس إلى تل‬
‫العياضية وهو مشرف على عكا وفي هذه المنزلة توفي المير حسام الدين طمان وذلك ليلة‬
‫نصف شعبان من سنة خمس وثمانين وخمسمائة وكان من الشجعان‪.‬‬

‫قال ابن شداد سمعت السلطان ينشد وقد قيل له إن الوخم قد عظم بمرج عكا وإن الموت قد‬
‫فشا في الطائفتين ‪:‬‬

‫اقتلني ومالكا*****واقتل مالكا معي‬

‫يريد بذلك أنه قد رضي أن يتلف إذا أتلف ال أعداءه‪ ،‬وهذا البيت له سبب يحتاج إلى شرح‬
‫وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالش تر النخ عي كان من الشجعان والبطال المشهور ين‬
‫و هو من خواص أ صحاب علي بن أ بي طالب ر ضي ال ع نه تما سك في يوم معر كة الج مل‬
‫المشهورة هو وعبد ال بن الزبير بن العوام وكان أيضا من البطال وابن الزبير يومئذ مع‬
‫خال ته عائ شة أم المؤمن ين وطل حة والزب ير ر ضي ال عن هم أجمع ين وكانوا يحاربون عل يا‬
‫ر ضي ال ع نه فل ما تما سكا صار كل وا حد منه ما إذا قوي على صاحبه جعله تح ته ور كب‬
‫صدره وفعل ذلك مرارا وابن الزبير ينشد ‪:‬‬

‫اقتلني ومالكا*****واقتل مالكا معي‬

‫يريد الشتر النخعي‪.‬‬

‫قال ابـن شداد ثـم إن الفرنـج جاءهـم المداد مـن داخـل البحـر واسـتظهروا على الجيوش‬
‫ال سلمية بع كا وكان في هم الم ير سيف الد ين علي بن أح مد المعروف بالمشطوب الهكاري‬
‫والميـر بهاء الديـن قراقوش الخادم الصـلحي وضايقوهـم أشـد مضايقـة إلى أن غلبوا عـن‬
‫حفظ البلد فلما كان يوم الجمعة سابع عشر جمادى الخرة من سنة ‪587‬هـ خرج من عكا‬
‫رجل عوام ومعه كتب من المسلمين يذكرون حالهم وما هم فيه وأنهم قد تيقنوا الهلك ومتى‬
‫أخذوا البلد عنوة ضربـت رقابهـم وأنهـم صـالحوا على أن يسـلموا البلد وجميـع ما فيـه مـن‬
‫اللت والعدة وال سلحة والمرا كب ومائ تي ألف دينار وخم سمائة أ سير مجاه يل ومائة أ سير‬
‫معينيـن مـن جهتهـم وصـليب الصـلبوت على أن يخرجوا بأنفسـهم سـالمين ومـا معهـم مـن‬
‫الموال والقمشة المختصة بهم وزراريهم ونسائهم وضمنوا للمركيس لنه كان الواسطة في‬
‫هذا المـر أربعـة آلف دينار ولمـا وقـف السـلطان على الكتـب المشار إليهـا أنكـر ذلك إنكارا‬
‫عظيمـا وعظـم عليـه هذا المـر وجمـع أهـل الرأي مـن أكابر دولتـه وشاورهـم فيمـا يصـنع‬
‫واضطر بت آراؤه وتق سم فكره وتشوش حاله وعزم على أن يك تب في تلك الليلة مع العوام‬
‫وينكر عليهم المصالحة على هذا الوجه وهو يتردد في هذا فلم يشعر إل وقد ارتفعت أعلم‬
‫العدو وصـلبانه وناره وشعاره على سـور البلد وذلك فـي ظهيرة يوم الجمعـة سـابع عشـر‬
‫جمادى الخرة مـن السـنة وصـاح الفرنـج صـيحة عظيمـة واحدة وعظمـت المصـيبة على‬
‫المسلمين واشتد حزنهم ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب‪.‬‬

‫ثم ذ كر ا بن شداد ب عد هذا أن الفر نج خرجوا من ع كا قا صدين ع سقلن ليأخذو ها و ساروا‬


‫على ال ساحل وال سلطان وع ساكره في قبالت هم إلى أن و صلوا إلى أر سوف فكان بينه ما قتال‬
‫عظيـم ونال المسـلمين منـه وهـن شديـد ثـم سـاروا على تلك الهيئة تتمـة عشـر منازل مـن‬
‫مسـيرهم مـن عكـا فأتـى السـلطان الرملة وأتاه مـن أخـبره بأن القوم على عزم عمارة يافـا‬
‫وتقويتها بالرجال والعدد واللت فأحضر السلطان أرباب مشورته وشاورهم في أمر عسقلن‬
‫وهل الصواب خرابها أم بقاؤها فاتفقت آراؤهم أن يبقى الملك العادل في قبالة العدو ويتوجه‬
‫هو بنفسه ويخربها خو فا من أن يصل العدو إليها وي ستولي عليها و هي عامرة ويأخذ ب ها‬
‫القدس وتنقطع بها طريق مصر وامتنع العسكر من الدخول وخافوا مما جرى على المسلمين‬
‫بعكـا ورأوا أن حفـظ القدس أولى فتعيـن خرابهـا مـن عدة جهات وكان هذا الجتماع يوم‬
‫الثلثاء سابع ع شر شعبان سنة سبع وثمان ين وخم سمائة ف سار إلي ها ف جر الربعاء ثا من‬
‫عشـر الشهـر قال ابـن شداد وتحدث معـي فـي معنـى خرابهـا بعـد أن تحدث مـع ولده الملك‬
‫الف ضل في أمر ها أي ضا ثم قال لن أف قد ولدي جميع هم أ حب إلي من أن أهدم من ها حجرا‬
‫ولكن إذا قضى ال تعالى ذلك وكان فيه مصلحة للمسلمين فما الحيلة في ذلك قال ولما اتفق‬
‫الرأي على خراب ها أو قع ال تعالى في نف سه ذلك وأن الم صلحة ف يه لع جز الم سلمين عن‬
‫حفظها وشرع في خرابها فجر يوم الخميس التاسع عشر من شعبان من السنة وقسم السور‬
‫على الناس وج عل ل كل أم ير وطائ فة من الع سكر بد نة معلو مة وبر جا معي نا يخربو نه ود خل‬
‫الناس البلد وو قع في هم الضج يج والبكاء وكان بلدا خفي فا على القلب محكـم السـوار عظ يم‬
‫البناء مرغو با في سكنه فل حق الناس على خرا به حزن عظ يم وع ظم عو يل أ هل البلد عل يه‬
‫لفراق أوطان هم وشرعوا في ب يع ما ل يقدرون على حمله فباعوا ما ي ساوي عشرة درا هم‬
‫بدر هم وا حد وباعوا اث ني ع شر ط ير دجاج بدر هم وا حد واخت بط البلد وخرج الناس بأهل هم‬
‫وأولدهم إلى المخيم وتشتتوا فذهب قوم منهم إلى مصر وقوم إلى الشام وجرت عليهم أمور‬
‫عظيمة واجتهد السلطان وأولده في خراب البلد كي ل يسمع العدو فيسرع إليه ول يمكن من‬
‫خرابه وبات الناس على أصعب حال وأشد تعب مما قاسوه في خرابها وفي تلك الليلة وصل‬
‫مـن جانـب الملك العادل مـن أخـبر أن الفرنـج تحدثوا معـه فـي الصـلح وطلبوا جميـع البلد‬
‫السـاحلية فرأى السـلطان أن ذلك مصـلحة لمـا علم مـن نفـس الناس مـن الضجـر مـن القتال‬
‫وكثرة ما عليهم من الديون وكتب إليه يأذن له في ذلك وفوض المر إلى رأيه وأصبح يوم‬
‫الجمعـة العشريـن مـن شعبان وهـو مصـر على الخراب واسـتعمل الناس عليـه وحثهـم على‬
‫العجلة ف يه وأباح هم ما في الهري الذي كان مدخرا للميرة خو فا من هجوم الفر نج والع جز‬
‫عـن نقله وأمـر بإحراق البلد فأضرمـت النيران فـي بيوتـه وكان سـورها عظيمـا ولم يزل‬
‫الخراب يعمل في البلد إلى نهاية شعبان من السنة وأصبح يوم الثنين مستهل شهر رمضان‬
‫أمر ولده الملك الفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه لجل‬
‫الحراق‪ ،‬وفي يوم الربعاء ثالث شهر رمضان أتى الرملة ثم خرج إلى "اللد" وأشرف عليها‬
‫وأمر بخرابها وخراب قلعة الرملة ففعل ذلك وفي يوم السبت ثالث عشر شهر رمضان تأخر‬
‫السلطان بالعسكر إلى جهة الجبل ليتمكن الناس من تسيير دوابهم لحضار ما يحتاجون إليه‬
‫ودار السلطان حول النطرون وهي قلعة منيعة فأمر بتخريبها وشرع الناس في ذلك‪.‬‬

‫الصلح مع الصليبيين‬

‫ثم ذ كر ا بن شداد ب عد هذا أن النكتار و هو من أكابر ملوك الفر نج سير ر سوله إلى الملك‬
‫العادل يطلب الجتماع به فأجا به إلى ذلك واجتم عا يوم الجم عة ثا من ع شر شوال من ال سنة‬
‫وتحادثـا معظـم ذلك النهار وانفصـل عـن مودة أكيدة والتمـس النكتار مـن العادل أن يسـأل‬
‫السلطان أن يجتمع به فذكر العادل ذلك للسلطان فاستشار أكابر دولته في ذلك ووقع التفاق‬
‫على أنـه إذا جرى الصـلح بيننـا يكون الجتماع بعـد ذلك ثـم وصـل رسـول النكتار وقال إن‬
‫الملك يقول إ ني أ حب صداقتك ومود تك وأ نت تذ كر أ نك أعط يت هذه البلد ال ساحلية لخ يك‬
‫فأريد أن تكون حكما بيني وبينه وتقسم البلد بيني وبينه ول بد أن يكون لنا علقة بالقدس‬
‫وأطال الحديث في ذلك فأجابه السلطان بوعد جميل وأذن له في العود في الحال وتأثر لذلك‬
‫تأثرا عظي ما قال ا بن شداد وب عد انف صال الر سول قال لي ال سلطان م تى صالحناهم لم تؤ من‬
‫غائلتهم ولو حدث بي حادث الموت ما كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى الفرنج والمصلحة‬
‫أن ل نزول عن الجهاد ح تى نخرجهم من الساحل أو يأتي نا الموت هذا كان رأيه وإن ما غلب‬
‫على الصلح‪.‬‬

‫قال ا بن شداد ثم ترددت الر سل بين هم في ال صلح و تم ال صلح بين هم يوم الربعاء الثا ني‬
‫والعشريـن مـن شعبان سـنة ‪588‬هــ ونادى المنادي بانتظام الصـلح وأن البلد السـلمية‬
‫والنصـرانية واحدة فـي المـن والمسـالمة فمـن شاء مـن كـل طائفـة يتردد إلى بلد الطائفـة‬
‫الخرى من غ ير خوف ول محذور وكان يو ما مشهودا نال الطائفت ين ف يه من الم سرة ما ل‬
‫يعل مه إل ال تعالى و قد علم ال تعالى أن ال صلح لم ي كن عن مرضا ته وإيثاره ولك نه رأى‬
‫الم صلحة في ال صلح لسآمة الع سكر ومظاهرتهم بالمخالفة وكان مصلحة في علم ال تعالى‬
‫فإنه اتفقت وفاته بعد الصلح فلو اتفق ذلك في أثناء وقعاته كان السلم على خطر‪.‬‬

‫ثم أعطى للعساكر الواردة عليه من البلد البعيدة برسم النجدة دستورا فساروا عنه وعزم‬
‫على الحـج لمـا فرغ باله مـن هذه الجهـة وتردد المسـلمون إلى بلدهـم وجاءوا هـم إلى بلد‬
‫المسلمين وحملت البضائع والمتاجر إلى البلد وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس‪.‬‬

‫أواخر أيامه‬

‫بعد الصلح سنة ‪588‬هـ توجه السلطان إلى القدس ليتفقد أحوالها وتوجه أخوه الملك العادل‬
‫إلى الكرك وابنـه الملك الظاهـر إلى حلب وابنـه الفضـل إلى دمشـق وأقام السـلطان بالقدس‬
‫يقطع الناس ويعطيهم دستورا ويتأهب للمسير إلى الديار المصرية وانقطع شوقه عن الحج‬
‫ولم يزل كذلك إلى أن صح عنده م سير مر كب النكتار متوج ها إلى بلده في م ستهل شوال‬
‫فعند ذلك قوي عزمه أن يدخل الساحل جريدة يتفقد القلع البحرية إلى بانياس ويدخل دمشق‬
‫ويقيم بها أياما قلئل ويعود إلى القدس ومنه إلى الديار المصرية‪.‬‬

‫قال ابـن شداد‪ :‬وأمرنـي صـلح الديـن بالمقام فـي القدس إلى حيـن عوده لعمارة مارسـتان‬
‫أنشأه به وتكم يل المدر سة ال تي أنشأ ها ف يه و سار م نه ضا حي نهار الخم يس ال سادس من‬
‫شوال سنة ثمان وثمان ين وخم سمائة ول ما فرغ من افتقاد أحوال القلع وإزا حة خلل ها د خل‬
‫دم شق بكرة الربعاء سادس ع شر شوال وفي ها أولده الملك الف ضل والملك الظا هر والملك‬
‫الظافر مظفر الدين الخضر المعروف بالمشعر وأولده الصغار وكان يحب البلد ويؤثر القامة‬
‫ف يه على سائر البلد وجلس للناس في بكرة يوم الخم يس ال سابع والعشر ين م نه وحضروا‬
‫عند هم وبلوا شوق هم م نه وأنشده الشعراء ولم يتخلف أ حد ع نه من الخواص والعوام وأقام‬
‫ينشر جناح عدله ويهطل سحاب إنعامه وفضله ويكشف مظالم الرعايا فلما كان يوم الثنين‬
‫م ستهل ذي القعدة ع مل الملك الف ضل دعوة للملك الظا هر ل نه ل ما و صل إلى دم شق وبل غه‬
‫حركـة السـلطان أقام بهـا ليتملى بالنظـر إليـه ثانيـا وكأن نفسـه كانـت قـد أحسـت بدنـو أجله‬
‫فود عه في تلك الدف عة مرارا متعددة ول ما ع مل الملك الف ضل الدعوة أظ هر في ها من اله مم‬
‫العال ية ما يل يق بهم ته وكأ نه أراد بذلك مجازا ته ما خد مه به ح ين و صل إلى بلده وح ضر‬
‫الدعوة المذكورة أرباب الدنيا والخرة وسأل السلطان الحضور فحضر جبرا لقلبه وكان يوما‬
‫مشهودا على ما بلغني‪.‬‬

‫ول ما ت صفح الملك العادل أحوال الكرك وأ صلح ما ق صد إ صلحه ف يه سار قا صدا إلى البلد‬
‫الفراتية فوصل إلى دمشق في يوم الربعاء سابع عشر ذي القعدة وخرج السلطان إلى لقائه‬
‫وأقام يتصيد حوالي غباغب إلى الكسوة حتى لقيه وسارا جميعا يتصيدان وكان دخولهما إلى‬
‫دمشق آخر نهار يوم الحد حادي عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأقام السلطان بدمشق‬
‫يتصيد هو وأخوه وأولده ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا وكأنه وجد راحة مما‬
‫كان به من ملز مة الت عب والن صب و سهر الل يل وكان ذلك كالوداع لولده ومرا تع نز هه‬
‫ونسي عزمه إلى مصر وعرضت له أمور أخر وعزمات غير ما تقدم‪.‬‬

‫وفاة صلح الدين‬

‫قال ا بن شداد‪ :‬و صلني كتاب صلح الد ين إلى القدس ي ستدعيني لخدم ته وكان شتاء شديدا‬
‫ووحل عظيما فخرجت من القدس في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة ‪589‬هـ‬
‫وكان الوصول إلى دمشق في يوم الثلثاء ثاني عشر صفر من السنة وركب السلطان لملتقى‬
‫الحاج يوم الجمعة خامس عشر صفر وكان ذلك آخر ركوبه‪ ،‬ولما كان ليلة السبت وجد كسل‬
‫عظيما وما تنصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية وكانت في باطنه أكثر منها في ظاهره‬
‫وأ صبح يوم ال سبت متكا سل عل يه أ ثر الح مى ولم يظ هر ذلك للناس ل كن حضرت عنده أ نا‬
‫والقا ضي الفا ضل ود خل ولده الملك الف ضل وطال جلو سنا عنده وأ خذ يش كو قل قه في الل يل‬
‫وطاب له الحديث إلى قريب الظهر ثم انصرفنا وقلوبنا عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام‬
‫في خد مة ولده الملك الف ضل ولم ت كن للقا ضي الفا ضل في ذلك عادة فان صرف ودخلت إلى‬
‫اليوان القبلي وقد مد السماط وابنه الملك الفضل قد جلس في موضعه فانصرفت وما كانت‬
‫لي قوة فـي الجلوس اسـتيحاشا له وبكـى فـي ذلك اليوم جماعـة تفاؤل لجلوس ولده فـي‬
‫موض عه ثم أ خذ المرض يتز يد من حينئذ ون حن نلزم التردد طر في النهار وند خل إل يه أ نا‬
‫والقا ضي الفا ضل في النهار مرارا وكان مر ضه في رأ سه وكان من إمارات انتهاء الع مر‬
‫غي بة طبيبه الذي كان قد عرف مزا جه سفرا وحضرا ورأى الطباء ف صده فف صدوه فاش تد‬
‫مر ضه وقلت رطوبات بد نه وكان يغلب عليه الي بس ولم يزل المرض يتزا يد ح تى انت هى إلى‬
‫غاية الضعف واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه ولما‬
‫كان التاسـع حدثـت له غشيـة وامتنـع مـن تناول المشروب واشتـد الخوف فـي البلد وخاف‬
‫الناس ونقلوا أقمشتهم من السواق وعل الناس من الكآبة والحزن ما ل تمكن حكايته ولما‬
‫كان العا شر من مر ضه ح قن دفعت ين وح صل من الحقن ب عض الرا حة وفرح الناس بذلك ثم‬
‫اشتد مرضه وأيس منه الطباء ثم شرع الملك الفضل في تحليف الناس‪ ،‬ثم إنه توفي بعد‬
‫صلة ال صبح من يوم الربعاء ال سابع والعشر ين من صفر سنة ‪589‬ه ـ وكان يوم مو ته‬
‫يوما لم يصب السلم والمسلمون بمثله منذ فقد الخلفاء الراشدون رضي ال عنهم وغشي‬
‫القل عة والملك والدن يا وح شة ل يعلم ها إل ال تعالى وبال ل قد ك نت أ سمع من الناس أن هم‬
‫يتمنون فداء من ي عز علي هم بنفو سهم وك نت أتو هم أن هذا الحد يث على ضرب من التجوز‬
‫والترخص إلى ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالنفس‪.‬‬

‫ثم جلس ولده الملك الفضل للعزاء وغسله‪ ،‬وأخرج بعد صلة الظهر رحمه ال في تابوت‬
‫م سجى بثوب فوط فارتف عت ال صوات ع ند مشاهد ته وع ظم الضج يج وأ خذ الناس في البكاء‬
‫والعويل وصلوا عليه أرسال ثم أعيد إلى الدار التي في البستان وهي التي كان متمارضا بها‬
‫ودفن في الصفة الغربية منها وكان نزوله في حفرته قريبا من صلة العصر‪.‬‬

‫وأنشد بن شداد في آخر السيرة بيت أبى تمام الطائي وهو‪:‬‬

‫ثم انقضت تلك السنون*****وأهلها فكأنها وكأنهم أحلم‬

‫رحمه ال تعالى وقدس روحه فلقد كان من محاسن الدنيا وغرائبها‪ ،‬وذكر ابن شداد ‪ :‬أنه‬
‫مات ولم يخلف في خزان ته من الذ هب والف ضة إل سبعة وأربع ين دره ما نا صرية وجر ما‬
‫واحدا ذهبا صوريا ولم يخلف ملكا ل دارا ول عقارا ول بستانا ول قرية ول مزرعة‪.‬‬

‫وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها‬
‫{لقد كان لكم في رسول ال أسوة حسنة} {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} كتبت إلى مولنا‬
‫السـلطان الملك الظاهـر أحسـن ال عزاءه وجـبر مصـابه وجعـل فيـه الخلف فـي السـاعة‬
‫المذكورة وقـد زلزل المسـلمون زلزال شديدا وقـد حفرت الدموع المحاجـر وبلغـت القلوب‬
‫الحناجـر وقـد ودعـت أباك ومخدومـي وداعـا ل تلقـي بعده وقـد قبلت وجهـه عنـي وعنـك‬
‫وأ سلمته إلى ال تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضيا عن ال ول حول ول قوة إل بال‬
‫وبالباب من الجنود المجندة وال سلحة المعدة ما لم يد فع البلء ول ملك يرد القضاء وتد مع‬
‫العيـن ويخشـع القلب ول نقول إل مـا يرضـي الرب وإنـا عليـك لمحزونون يـا يوسـف وأمـا‬
‫الو صايا ف ما تحتاج إلي ها والراء ف قد شغل ني الم صاب عن ها وأ ما لئح ال مر فإ نه إن و قع‬
‫اتفاق ف ما عدم تم إل شخ صه الكر يم وإن كان غيره فالم صائب الم ستقبلة أهون ها مو ته و هو‬
‫الهول العظيم والسلم‬

‫طارق بن زياد‬

‫يا خيول (طارق) جاوزي الموانع والسدود‪ ،‬وتخطي البحار والنهار‪ ،‬ل تتراجعي ول تترددي‪،‬‬
‫ستصمت أصوات الجراس‪ ،‬وترتفع أصوات المآذن‪ ،‬ليذكر اسم ال في أرض كان يسودها‬
‫الظلم والطغيان‪ ،‬وتسود مبادئ العدل والحق والحرية‪ ،‬فانطلقي على بركة ال !!‬
‫ولد (طارق بن زياد) وفتح عينيه على الحياة ليجد المسلمين يجاهدون في سبيل‬
‫ال‪ ،‬ويضحون بأموالهم وأنفسهم لنصرة دينه‪ ،‬وينتقلون من نصر إلى نصر‪ ،‬وأصبح الطفل‬
‫الصغير شابّا فتيّا‪ ،‬فوهب نفسه لخدمة السلم‪ ،‬ولم يتردد لحظة في القيام بأي عمل من شأنه أن‬
‫يرفع رايته‪ ،‬وتدرج في المناصب حتى أصبح أميرًا لمدينة (طنجة) وقائدًا لجيوش المسلمين‪،‬‬
‫وعامة جنوده كانوا من البربر الذين تميزوا بالشجاعة والقدام‪.‬‬
‫كان (طارق بن زياد) يحلم بذلك اليوم الذي ينتشر فيه السلم في كل أرجاء‬
‫الدنيا‪ ،‬ويتمنى بينه وبين نفسه أن يشارك في تحقيق هذا المر العظيم‪ ،‬وجاءت الفرصة‪ ،‬فقد علم‬
‫(موسى بن نصير) والي إفريقية بضعف الندلس وملوكها‪ ،‬فأرسل إلى الخليفة الموي (الوليد‬
‫بن عبد الملك) يستأذنه في فتحها‪ ،‬فأذن له الخليفة بشرط أل يعرض المسلمين للهلك دون فائدة‪،‬‬
‫وأن يحترس من أعدائه‪ ،‬فرح‬
‫(موسى بن نصير) فرحًا شديدًا وجهز الجيش‪ ،‬ولم يجد خيرًا من (طارق بن زياد) لقيادته‪.‬‬
‫وبمجرد أن تولى طارق بن زياد أمور القيادة أرسل بعض الجواسيس لمعرفة أخبار هذه البلد‪،‬‬
‫فعادوا ليخبروه بضعفها وتنازع أمرائها على السلطة‪ ،‬وأعد (طارق) الخطة لفتح الندلس) وبعد‬
‫أن اطمأن على العداد الجيد لجيشه‪ ،‬عبر بجنوده البحر حتى وصلوا إلى الشاطئ‪ ،‬وانطلق‬
‫طارق كالحصان الجامح يفتح هذه البلد‪ ،‬يساعده في ذلك بعض الثائرين على الملك (ردريك)‬
‫ملك القوط‪ ،‬ولما علم هذا الملك بنزول العرب المسلمين إلى الندلس ‪-‬وكان مشغولً بثورة قامت‬
‫ضده‪ -‬جمع أعدادًا هائلة من الجنود استعدادًا لملقاة المسلمين‪.‬‬
‫ولما رأى طارق هذه العداد الكبيرة‪ ،‬طلب المداد من موسى بن نصير والي إفريقية فأرسل‬
‫إليه اثني عشر ألفًا من الجنود‪ ،‬والتقي الجيشان؛ جيش طارق بن زياد‪ ،‬وجيش ردريك في‬
‫معركة حامية عرفت باسم (وادي البرباط) أو معركة (شذونة) استطاع طارق أن ينتصر عليهم‪،‬‬
‫ويقتل ملكهم ردريك بعد أن استمرت المعركة من‬
‫‪ 28‬رمضان إلى ‪ 5‬شوال سنة ‪92‬هـ‪.‬‬
‫وسعد المسلمون بهذا النصر العظيم‪ ،‬وتوافدوا إلى بلد الندلس التي سمعوا عن اعتدال جوها‪،‬‬
‫وخيراتها التي ل تعد ول تحصى‪ ،‬ولم يكتف القائد العظيم طارق بن زياد بهذا النتصار‬
‫العظيم‪،‬بل واصل فتوحاته حتى استطاع في صيف هذه السنة (‪92‬هـ) أن يفتح أكثر من نصف‬
‫الندلس‪.‬‬
‫وتلقى طارق أوامر من موسى بن نصير بالتوقف عن الفتح خشية محاصرة جيوش العداء لهم‪،‬‬
‫ل في أيديهم‪ ،‬وبعدها جهز (موسى بن نصير)‬ ‫وقطع المداد عنهم‪ ،‬وحتى ل يكونوا صيدًا سه ً‬
‫جيشًا كبيرًا عبر به إلى الندلس؛ ففتح مدينة (إشبيلية) التي كانت خلف ظهر المسلمين‪ ،‬والتقى‬
‫بقائد جيشه (طارق بن زياد) عند مدينة (طليطلة) وانطلق الثنان لفتح باقي مدن الندلس‪.‬‬
‫وظل جيش المسلمين يحقق النتصارات وينتقل من فتح إلى فتح‪ ،‬حتى وصلت رسالة إلى‬
‫القائدين موسى‪ ،‬وطارق من خليفة المسلمين (الوليد بن عبد الملك) تأمرهما بالعودة إلى دمشق‪،‬‬
‫خوفًا من انتشار جيش المسلمين في مناطق مجهولة وغير‬
‫آمنة‪ ،‬وصل القائدان المنتصران إلى دمشق قبل وفاة (الوليد بن عبد الملك) بأربعين يومًا في‬
‫موكب مهيب‪ ،‬أمامهما السرى والغنائم‪ ،‬والجنود يرفعون‬
‫شارات النصر‪ ،‬وظل طارق على العهد مخلصًا لدين ال حتى لقي ربه بعد أن كتب اسمه في‬
‫صفحات التاريخ بحروف من نور‪.‬‬

‫طلحة بن عبيد ال‬

‫طلحة الخير‬

‫يكفيه وصف رسول ال (صلى ال عليه وسلم) له بقوله "من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي‬
‫على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد ال" وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة‪ ،‬وروي عن‬
‫مو سى بن طل حة عن أب يه قال ل ما كان يوم أ حد سماه ال نبي ( صلى ال عل يه و سلم) طل حة‬
‫الخير وفي غزوة ذي العشيرة طلحة الفياض ويوم خيبر طلحة الجود‪.‬‬

‫نسبه ووصفه‬

‫هو طلحة بن عبيد ال ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن‬
‫لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي التيمي المكي أبو محمد‪.‬‬

‫قال أ بو ع بد ال بن منده كان رجل آدم كث ير الش عر ل يس بالج عد الق طط ول بال سبط ح سن‬
‫الوجه إذا مشى أسرع ول يغير شعره‪ .‬وعن موسى بن طلحة قال كان أبي أبيض يضرب إلى‬
‫الحمرة مربو عا إلى الق صر هو أقرب ر حب ال صدر بع يد ما ب ين المن كبين ض خم القدم ين إذا‬
‫التفت التفت جميعا‪.‬‬

‫مناقبه وفضائله‬
‫كان طل حة ر ضي ال عنه م من سبق إلى ال سلم وأوذي في ال ثم ها جر فاتفق أ نه غاب‬
‫عن وقعة بدر في تجارة له بالشام وتألم لغيبته فضرب له رسول ال (صلى ال عليه وسلم)‬
‫بسهمه وأجره قال أبو القاسم بن عساكر الحافظ في ترجمته كان مع عمر لما قدم الجابية‬
‫وجعله على المهاجرين وقال غيره كانت يده شلء مما وقى بها رسول ال (صلى ال عليه‬
‫وسلم) يوم أحد‪.‬‬

‫عن جابر رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال (صلى ال عليه وسلم) "من أراد أن ينظر إلى‬
‫شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد ال"‬

‫و في صحيح م سلم من حد يث أ بي هريرة أن ر سول ال ( صلى ال عل يه و سلم) كان على‬


‫حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول ال‬
‫إهدأ فما عليك إل نبي أو صديق أو شهيد‪.‬‬

‫قال ابن أبي خالد عن قيس قال رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي (صلى ال عليه وسلم)‬
‫يوم أحد شلء (أخرجه البخاري)‬

‫له عدة أحاديث عن النبي (صلى ال عليه وسلم) وله في مسند بقي بن مخلد بالمكرر ثمانية‬
‫وثلثون حدي ثا‪ ،‬له حديثان مت فق عليه ما وانفرد له البخاري بحديث ين وم سلم بثل ثة أحاد يث‬
‫حدث عنه بنوه يحيى وموسى وعيسى وال سائب بن يزيد ومالك بن أوس بن الحدثان وأ بو‬
‫عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم ومالك بن أبي عامر الصبحي والحنف بن قيس التميمي‬
‫وأبو سلمة بن عبد الرحمن وآخرون‬

‫قال الترمذي حدثنا أبو سعيد الشج حدثنا أبو عبد الرحمن نضر بن منصور حدثنا عقبة بن‬
‫علق مة اليشكري سمعت عل يا يوم الج مل يقول سمعت من في ر سول ال ( صلى ال عل يه‬
‫وسلم) يقول طلحة والزبير جاراي في الجنة‬

‫وروي عن مو سى بن طل حة عن أب يه قال ل ما كان يوم أ حد سماه ال نبي ( صلى ال عل يه‬


‫وسلم) طلحة الخير وفي غزوة ذي العشيرة طلحة الفياض ويوم خيبر طلحة الجود‪.‬‬

‫قال مجالد عن الشعبي عن قبيصة بن جابر قال صحبت طلحة فما رأيت أعطى لجزيل مال‬
‫من غير مسألة منه‪.‬‬
‫وروي عن مو سى بن طل حة أن معاو ية سأله كم ترك أ بو مح مد من الع ين قال ترك أل في‬
‫ألف در هم ومائ تي ألف در هم و من الذ هب مائ تي ألف دينار فقال معاو ية عاش حميدا سخيا‬
‫شريفا وقتل فقيدا رحمه ال‪.‬‬

‫وأنشد الرياشي لرجل من قريش‪:‬‬

‫أيا سائلي عن خيار العباد صادفت ذا العلم والخبرة‬

‫خيار العباد جميعا قريش وخير قريش ذوو الهجرة‬

‫وخـير ذوي الهجرة السابقون ثمانية وحدهم نصرة‬

‫عـلي وعثمان ثم الزبير وطلـحة واثنان من زهرة‬

‫وبـران قد جـاورا أحمدا وجاور قبرهـهما قبـره‬

‫فمن كان بعـدهم فاخرا فل يذكـرن بعـدهم فخـره‬

‫مواقف ل تنسى‬

‫أخرج النسائي عن جابر قال لما كان يوم أحد وولى الناس كان رسول ال (صلى ال عليه‬
‫وسلم) في ناحية في اثني عشر رجل منهم طلحة فأدركهم المشركون فقال النبي (صلى ال‬
‫عليه وسلم) من للقوم قال طلحة‪ :‬أنا قال كما أنت فقال رجل أنا قال أنت فقاتل حتى قتل ثم‬
‫التفت فإذا المشركون فقال من لهم قال طلحة أنا قال كما أنت فقال رجل من النصار أنا قال‬
‫أنت فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى بقي مع نبي ال طلحة فقال من للقوم قال طلحة أنا‬
‫فقاتل طلحة قتال الحد عشر حتى قطعت أصابعه فقال فقال رسول ال (صلى ال عليه وسلم)‬
‫لو قلت باسم ال لرفعتك الملئكة والناس ينظرون ثم رد ال المشركين‪.‬‬

‫روي عن مو سى وعي سى اب ني طل حة عن أبيه ما أن أ صحاب ر سول ال ( صلى ال عل يه‬


‫و سلم) قالوا لعرا بي جاء ي سأله ع من ق ضى نح به من هو وكانوا ل يجترئون على م سألته‬
‫(صلى ال عليه وسلم) يوقرونه ويهابونه فسأله العرابي فأعرض عنه ثم سأله فأعرض‬
‫عنه ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر فلما رآني رسول ال (صلى ال عليه‬
‫وسلم) قال‪ :‬أين السائل عمن قضى نحبه قال العرابي أنا قال‪ :‬هذا ممن قضى نحبه‪.‬‬
‫وروي عن سلمة ا بن الكوع قال ابتاع طل حة بئرا بناح ية الج بل ون حر جزورا فأط عم الناس‬
‫فقال رسول ال (صلى ال عليه وسلم)‪" :‬أنت طلحة الفياض"‬

‫عـن موسـى بـن طلحـة عـن أبيـه أنـه أتاه مال مـن حضرموت سـبع مائة ألف فبات ليلتـه‬
‫يتململ فقالت له زوجته مالك قال تفكرت منذ الليلة فقلت ما ظن رجل بربه يبيت وهذا المال‬
‫في بيته قالت فأين أنت عن بعض أخلئك فإذا أصبحت فادع بجفان وقصاع فقسمه فقال لها‬
‫رحمك ال إنك موفقة بنت موفق وهي أم كلثوم بنت الصديق فلما أصبح دعا بجفان فقسمها‬
‫بين المهاجرين والنصار فبعث إلى علي منها بجفنة فقالت له زوجته أبا محمد أما كان لنا‬
‫في هذا المال من نصيب قال فأين كنت منذ اليوم فشأنك بما بقي قالت فكانت صرة فيها نحو‬
‫ألف درهم‪.‬‬

‫جاء أعرابي إلى طلحة يسأله فتقرب إليه برحم فقال إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك إن‬
‫لي أرضا قد أعطاني بها عثمان ثلث مائة ألف فاقبضها وإن شئت بعتها من عثمان ودفعت‬
‫إليك الثمن فقال الثمن فأعطاه‪.‬‬

‫قال ال صمعي حدث نا ا بن عمران قا ضي المدي نة أن طل حة فدى عشرة من أ ساري بدر بماله‬
‫وسئل مرة برحم فقال قد بعت لي حائطا بسبع مائة ألف وأنا فيه بالخيار فإن شئت خذه وإن‬
‫شئت ثمنه‪.‬‬

‫وروي عن عائشة وأم إسحاق بنتي طلحة قالتا جرح أبونا يوم أحد أربعا وعشرين جراحة‬
‫وقع منها في رأسه شجة مربعة وقطع نساه يعني العرق وشلت إصبعه وكان سائر الجراح‬
‫في ج سده وغل به الغ شي (الغماء) ور سول ال ( صلى ال عل يه و سلم) مك سورة رباعي ته‬
‫مشجوج في وج هه قد عله الغ شي وطل حة محتمله ير جع به القهقرى كل ما أدر كه أ حد من‬
‫المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب‪.‬‬

‫عن مالك بن أ بي عا مر قال جاء ر جل إلى طل حة فقال رأي تك هذا اليما ني هو أعلم بحد يث‬
‫رسول ال منكم (يعني أبا هريرة) نسمع منه أشياء ل نسمعها منكم قال أما أنه قد سمع من‬
‫ر سول ال ما لم ن سمع فل أ شك‪ ،‬و سأخبرك إ نا ك نا أ هل بيوت‪ ،‬وك نا إن ما نأ تي ر سول ال‬
‫غدوة وعشية‪ ،‬وكان مسكينا ل مال له إنما هو على باب رسول ال فل أشك أنه قد سمع ما‬
‫لم نسمع وهل تجد أحدا فيه خير يقول على رسول ال (صلى ال عليه وسلم) ما لم يقل‪.‬‬
‫وروى مجالد عن الشعبي عن جابر أنه سمع عمر يقول لطلحة ما لي أراك شعثت واغبررت‬
‫مذ توفي رسول ال (صلى ال عليه وسلم) لعله أن ما بك إمارة ابن عمك يعني أبا بكر قال‬
‫معاذ ال إني سمعته يقول إني لعلم كلمة ل يقولها رجل يحضره الموت إل وجد روحه لها‬
‫روحا حين تخرج من جسده وكانت له نورا يوم القيامة فلم أسأل رسول ال (صلى ال عليه‬
‫وسلم) عنها ولم يخبرني بها فذاك الذي دخلني قال عمر فأنا أعلمها قال فلله الحمد فما هي‬
‫قال الكلمة التي قالها لعمه قال صدقت‪.‬‬

‫مقتله رضي ال عنه‬

‫روي عن علقمة بن وقاص الليثي قال‪ :‬لما خرج طلحة والزبير وعائشة للطلب بدم عثمان‬
‫عرجوا عن من صرفهم بذات عرق فا ستصغروا عروة بن الزب ير وأ با ب كر بن ع بد الرح من‬
‫فردوهما قال ورأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلها وهو ضارب بلحيته على زوره فقلت‬
‫يا أ با مح مد إ ني أراك وأ حب المجالس إل يك أخل ها إن ك نت تكره هذا ال مر فد عه فقال يا‬
‫علقمة ل تلم ني كنا أمس يدا واحدة على من سوانا فأصبحنا اليوم جبل ين من حد يد يزحف‬
‫أحد نا إلى صاحبه ولك نه كان م ني ش يء في أ مر عثمان م ما ل أرى كفار ته إل سفك د مي‬
‫وطلب دمـه‪ .‬قلت الذي كان منـه فـي حـق عثمان تأليـب فعله باجتهاد ثـم تغيـر عندمـا شاهـد‬
‫مصرع عثمان فندم على ترك نصرته رضي ال عنهما‪ ،‬وكان طلحة أول من بايع عليا أرهقه‬
‫قتلة عثمان وأحضروه حتى بايع‪ ،‬قال البخاري حدثنا موسى بن أعين حدثنا أبو عوانة عن‬
‫حصـين فـي حديـث عمرو بـن جاوان قال التقـى القوم يوم الجمـل فقام كعـب بـن سـور معـه‬
‫الم صحف فنشره ب ين الفريق ين وناشد هم ال وال سلم في دمائ هم ف ما زال ح تى ق تل وكان‬
‫طلحة أول قتيل وذهب الزبير ليلحق ببنيه فقتل‪.‬‬

‫وروي عن يحيى القطان عن عوف حدثني أبو رجاء قال رأيت طلحة على دابته وهو يقول‬
‫أيها الناس أنصتوا فجعلوا يركبونه ول ينصتون فقال أف فراش النار وذباب طمع‪.‬‬

‫قال ابن سعد أخبرني من سمع إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال‪ :‬قال طلحة إنا‬
‫داهنا في أمر عثمان فل نجد اليوم أمثل من أن نبذل دماءنا فيه اللهم خذ لعثمان مني اليوم‬
‫حتى ترضى‪.‬‬

‫وروي عن وك يع حدث نا إ سماعيل بن أ بي خالد عن ق يس قال رأ يت مروان بن الح كم ح ين‬


‫رمى طلحة يومئذ بسهم فوقع في ركبته فما زال ينسح حتى مات‪.‬‬
‫وروي عن عبد ال بن إدريس عن ليث عن طلحة بن مصرف أن عليا انتهى إلى طلحة وقد‬
‫مات فنزل عن دابته وأجلسه ومسح الغبار عن وجهه ولحيته وهو يترحم عليه وقال ليتني‬
‫مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة‪.‬‬

‫وروى زيد بن أبي أنيسة عن محمد بن عبد ال من النصار عن أبيه أن عليا قال بشروا‬
‫قاتل طلحة بالنار‪.‬‬

‫وروي عن عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال دخلت على علي مع عمران بن طلحة بعد وقعة‬
‫الجمل فرحب به وأدناه ثم قال إني لرجو أن يجعلني ال وأباك ممن قال فيهم ونزعنا ما في‬
‫صـدورهم من غـل إخوانـا على سرر متقابليـن (الحجـر‪ )15:‬فقال رجلن جالسـان أحدهمـا‬
‫الحارث العور ال أعدل من ذلك أن يقبل هم ويكونوا إخوان نا في الج نة قال قو ما أب عد أرض‬
‫وأسحقها فمن هو إذا لم أكن أنا وطلحة يا ابن أخي إذا كانت لك حاجة فائتنا‪.‬‬

‫وروي عن اسحاق بن يح يى عن جد ته سعدى ب نت عوف قالت ق تل طل حة و في يد خازنه‬


‫ألف ألف درهم ومائتا ألف درهم وقومت أصوله وعقاره ثلثين ألف ألف درهم‪.‬‬

‫وكان قتله في سنة ست وثلثين في جمادي الخرة وقيل في رجب وهو ابن ثنتين وستين‬
‫سنة أو نحوها وقبره بظاهر البصرة‪.‬‬

‫قال يح يى بن بك ير وخلي فة بن خياط وأ بو ن صر الكلباذي إن الذي ق تل طل حة مروان بن‬


‫الحكم ولطلحة أولد نجباء أفضلهم محمد السجاد كان شابا خيرا عابدا قانتا ل ولد في حياة‬
‫النبي (صلى ال عليه وسلم) قتل يوم الجمل أيضا فحزن عليه علي وقال صرعه بره بأبيه‪.‬‬

‫عبد ال بن عمر‬

‫الورع التقي‬

‫هو عبد ال بن عمر بن الخطاب‪ ،‬يكنى أبا عبد الرحمن‪ ،‬أمه زينب بنت مظعون‪ ،‬أسلم بمكة‬
‫مع أبيه ولم يكن بالغًا حينئذٍ‪ ،‬وهاجر مع أبيه إلى المدينة وعرض على رسول ال (صلى ال‬
‫عليه وسلم) يوم بدر فرده ويوم أحد فرده ل صغر سنه‪ ،‬وعرض عليه يوم الخندق و هو ا بن‬
‫خمس عشرة سنة فأجازه‪.‬‬
‫عن سالم [عن ابن عمر قال كان الرجل في حياة رسول ال (صلى ال عليه وسلم) إذا رأى‬
‫رؤيا قصها على النبي قال وكنت غلما شابّا عزبًا فكنت أنام في المسجد على عهد رسول‬
‫فرأ يت في النوم كأن ملك ين أخذا ني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطو ية ك طي البئر وإذا ل ها‬
‫قرنان وأرى فيهـا ناسـًا قـد عرفتهـم فجعلت أقول أعوذ بال مـن النار أعوذ بال مـن النار‬
‫فلقيه ما ملك آ خر فقال لي لن ترع فق صصتها على حف صة فق صتها حف صة على ر سول ال‬
‫(صلى ال عليه وسلم) فقال‪ :‬نعم الرجل عبد ال لو كان يصلي من الليل‪ ،‬قال سالم فكان عبد‬
‫ال بعد ل ينام من الليل إل قليل] أخرجاه في الصحيحين‪.‬‬

‫[وعن نافع قال‪ :‬قال لي عبد ال بن عمر‪ :‬رأيت في المنام كأن بيدي قطعة من استبرق ول‬
‫أش ير ب ها إلى مكان من الج نة إل طارت بي إل يه فق صتها حف صة على ال نبي فقال‪ :‬إن أخاك‬
‫رجل صالح أو إن عبد ال رجل صالح] أخرجاه في الصحيحين‪.‬‬

‫و عن أ بي الزناد قال‪ :‬اجت مع في الح جر م صعب وعروة وع بد ال بن الزب ير وع بد ال بن‬


‫عمر فقالوا تمنوا فقال عبد ال بن الزبير‪ :‬أما أنا فأتمنى الخلفة‪ ،‬وقال عروة‪ :‬أما أنا فأتمنى‬
‫أن يؤخذ عني العلم‪ ،‬وقال مصعب‪ :‬أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة‬
‫و سكينة ب نت الح سين‪ ،‬قال ع بد ال بن ع مر‪ :‬أ ما أ نا فأتم نى المغفرة‪ ،‬قال فنالوا ما تمنوا‬
‫ولعل ابن عمر غفر له‪.‬‬

‫و عن نا فع قال‪ :‬د خل ا بن ع مر الكع بة ف سمعته و هو ساجد يقول‪ :‬قد تعلم ما يمنع ني من‬
‫مزاحمة قريش على هذه الدنيا إل خوفك‪.‬‬

‫عن طاوس قال‪ :‬ما رأيت رجل أورع من ابن عمر ول رأيت رجل أعلم من ابن عباس‪.‬‬

‫وقال سعيد بن المسيب‪ :‬لو كنت شاهدًا لرجل من أهل العلم أنه من أهل الجنة لشهدت لعبد‬
‫ال بن عمر‪.‬‬

‫و عن عروة قال‪ :‬سئل ا بن ع مر عن ش يء فقال ل علم لي به‪ ،‬فل ما أدبر الر جل قال لنف سه‬
‫سئل ابن عمر عما ل علم له به فقال ل علم لي به‪.‬‬

‫وعن نافع أن رجل سأل ابن عمر عن مسألة فطأطأ رأسه ولم يجبه حتى ظن الناس أنه لم‬
‫ي سمع م سألته فقال له يرح مك ال أ ما سمعت م سألتي قال‪ :‬بلى ولكن كم كأن كم ترون أن ال‬
‫تعالى ليس بسائلنا عما تسألونا عنه اتركنا رحمك ال حتى نتفهم في مسألتك فإن كان لها‬
‫جواب عندنا وإل أعلمناك أنه ل علم لنا به‪.‬‬

‫وعن إبراهيم قال‪ :‬قال عبد ال‪ :‬إن أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد ال ابن عمر‪.‬‬

‫وعن محمد قال‪ :‬نبئت أن ا بن ع مر كان يقول‪ :‬إ ني لق يت أصحابي على أ مر وإ ني أخاف إن‬
‫خالفتهم أل ألحق بهم‪.‬‬

‫وعن سعيد بن المسيب قال‪ :‬كان أشبه ولد عمر بعمر عبد ال‪ ،‬وأشبه ولد عبد ال بعبد ال‬
‫سالم‪.‬‬

‫وعن زيد بن أسلم عن أب يه قال‪ :‬ما ناقة أضلت فصيلها في فلة من الرض بأطلب لثر ها‬
‫من ابن عمر لعمر بن الخطاب‪.‬‬

‫وعن المطعم بن مقدام الصنعاني قال‪ :‬كتب الحجاج بن يوسف إلى عبد ال بن عمر‪ :‬بلغني‬
‫أنك طلبت الخلفة وإن الخلفة ل تصلح لعيي ول بخيل ول غيور‪ ،‬فكتب إليه ابن عمر‪ :‬أما‬
‫ما ذكرت من أمر الخلفة أني طلبتها فما طلبتها وما هي من بالي‪ ،‬وأما ما ذكرت من العي‬
‫والب خل والغيرة فإن من ج مع كتاب ال عز و جل فل يس بع يي‪ ،‬و من أدى زكاة ماله فل يس‬
‫ببخيل‪ ،‬وأما ما ذكرت فيه من الغيرة فإن أحق ما غرت فيه ولدي أن يشركني فيه غيري‪.‬‬

‫و عن عائ شة قالت‪ :‬ما رأ يت أحدًا ألزم لل مر الول من ع بد ال بن ع مر‪ .‬وعن ها قالت‪ :‬ما‬
‫رأيت أحدًا أشبه بأصحاب رسول ال (صلى ال عليه وسلم) الذين دفنوا في النمار من عبد‬
‫ال بن عمر‪.‬‬

‫وعن حمزة بن عبد ال بن عمر عن عبد ال بن عمر قال‪ :‬خطرت هذه الية {لن تنالوا البر‬
‫حتى تنفقوا مما تحبون} فتذكرت ما أعطاني ال فما وجدت شيئا أحب إلي من جاريتي رميثة‬
‫فقلت هذه حرة لوجه ال فل أعود في شيء جعلته ل ولول ذلك لنكحتها فأنكحها نافعا وهي‬
‫أم ولده‪ ،‬قال وعن نافع قال كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه عز وجل‬
‫قال نا فع كان رقي قه قد عرفوا ذلك م نه فرب ما ش مر أحد هم فلزم الم سجد فإذا رآه ا بن ع مر‬
‫على تلك الحال الحسـنة أعتقـه فيقول له أصـحابه يـا أبـا عبـد الرحمـن وال مـا بهـم إل أن‬
‫يخدعوك فيقول ابن عمر فمن خدعنا بال انخدعنا له قال نافع فلقد رأيتنا ذات عشية وراح‬
‫ابن عمر على نجيب له (جمل قوي) قد أخذه بمال فلما أعجبه سيره أناخه مكانه ثم نزل عنه‬
‫فقال يا نا فع انزعوا زما مه ورحله وجللوه وأشعروه وأدخلوه في البدن و عن سعيد بن أ بي‬
‫هلل أن عبد ال بن عمر نزل الجحفة وهو شاك فقال إني لشتهي حيتانا‪ ،‬فالتمسوا له فلم‬
‫يجدوا إل حوتا واحدا فأخذته امرأته صفية بنت أبي عبيد فصنعته ثم قربته إليه فأتى مسكين‬
‫حتى وقف عليه فقال له ابن عمر خذه فقال أهله سبحان ال قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه فقال‬
‫إن عبد ال يحبه‪.‬‬

‫وعن أبي بكر بن حفص قال لما اشتكى ابن عمر اشتهى حوتا فصنع له فلما وضع بين يديه‬
‫جاء سائل فقال أعطوه الحوت فقالت امرأ ته نعط يه دره ما فهو أنفع له من هذا وا قض أ نت‬
‫شهوتك منه فقال شهوتي ما أريد‪.‬‬

‫و عن نا فع عن ا بن ع مر أ نه كان ل يعج به ش يء من ماله إل خرج م نه ل عز و جل قال‬


‫وربما تصدق في المجلس الواحد بثلثين ألفا قال وأعطاه ا بن عامر مرتين ثلثين أل فا قال‬
‫فقال ابن عمر يا نافع إني أخاف أن تفتنني دراهم ابن عامر اذهب فأنت حر‪.‬‬

‫وعن ميمون بن مهران قال أتت ابن عمر اثنان وعشرون ألف دينار في مجلس فلم يقم حتى‬
‫فرقها‬

‫وعن أبي بكر بن حفص أن عبد ال بن عمر كان ل يأكل طعاما إل وعلى خوانه يتيم رواه‬
‫عبد ال بن أحمد‪.‬‬

‫وعن نافع قال ما مات ابن عمر حتى أعتق ألف إنسان أو زاد‬

‫و عن أ بي الوازع قال‪ :‬قلت ل بن ع مر ل يزال الناس بخ ير ما أبقاك ال ل هم قال فغ ضب ثم‬


‫قال إني لحسبك عراقيا وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه‪.‬‬

‫وع نه أي ضا أن رجل من ب ني ع بد ال بن ع مر ا ستكساه إزارا وقال قد تخرق إزاري فقال‬


‫ار قع إزارك ثم الب سه فكره الف تى ذلك فقال له ع بد ال وي حك ا تق ال ول تكو نن من القوم‬
‫الذين يجعلون ما رزقهم ال عز وجل في بطونهم وعلى ظهورهم‪.‬‬

‫و عن البراء بن سليم قال‪ :‬سمعت ناف عا يقول ما قرأ ا بن ع مر هات ين اليت ين قط من آ خر‬
‫سورة البقرة إل بكى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‪ }....‬ثم يقول إن هذا لحصاء شديد‬
‫رواه المام أحمد‪.‬‬
‫وعن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه قال جاء سائل إلى ابن عمر فقال لبنه أعطه دينارا‬
‫فلما انصرف قال له ابنه تقبل ال منك يا أبتاه فقال لو علمت أن ال يقبل مني سجدة واحدة‬
‫وصدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت أتدري ممن يتقبل إنما يتقبل ال من المتقين‬

‫وعن عبد ال بن سبرة قال كان ابن عمر إذا أصبح قال اللهم اجعلني من أعظم عبادك نصيبا‬
‫في كل خير تقسمه الغداة ونور تهدي به ورحمة تنشرها ورزق تبسطه وضر تكشفه وبلء‬
‫ترفعه وفتنة تصرفها وعن سمير الرياحي عن أبيه قال شرب عبد ال بن عمر ماء مبردا‬
‫فب كي فاش تد بكاؤه فق يل له ما يبك يك فقال ذكرت آ ية في كتاب ال عز و جل {وح يل بين هم‬
‫وبين ما يشتهون} فعرفت أن أهل النار ل يشتهون شيئا شهوتهم الماء وقد قال ال عز وجل‬
‫{أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم ال} وعن جابر بن عبد ال قال ما أدركنا أحدا أو قال‬
‫ما رأينا أحدا إل قد مالت به الدنيا أو مال بها إل عبد ال بن عمر‬

‫وعن نافع قال كان ابن عمر إذا قرأ {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر ال} بكى‬
‫حتى يغلبه البكاء‪.‬‬

‫وعن عمر بن ميمون عن أبيه قال قيل لعبد ال بن عمر توفي فلن النصاري قال رحمه ال‬
‫فقال ترك مائة ألف قال لكن هي لم تتركه‪.‬‬

‫وقال رجل لبن عمر يا خير الناس وابن خير الناس فقال ابن عمر ما أنا بخير الناس ول‬
‫ابن خير الناس ولكني عبد من عباد ال عز وجل أرجو ال وأخافه وال لن تزالوا بالرجل‬
‫حتى تهلكوه‪.‬‬

‫وعن مجاهد عن ابن عمر قال‪[ :‬قال رسول ال (صلى ال عليه وسلم) أحب في ال وأبغض‬
‫في ال وعاد في ال فإ نك لن تنال ول ية ال إل بذلك ول ي جد ر جل ط عم اليمان وإن كثرت‬
‫صـلته وصـيامه حتـى يكون كذلك و صارت مؤاخاة الناس في أ مر الدن يا وإن ذلك ل يجزى‬
‫ع ند ال شيئا قال وقال لي ا بن ع مر إذا أ صبحت فل تحدث نف سك بالم ساء وإذا أم سيت فل‬
‫تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك فإنك يا عبد ال ل تدري ما‬
‫ا سمك غدا قال وأ خذ ر سول ال ( صلى ال عل يه و سلم) بب عض ج سدي فقال كن في الدن يا‬
‫غريبا أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور] رواه الطبراني‪.‬‬

‫وفاة ابن عمر‬


‫عن عطية العوفي قال سألت مولى لعبد ال بن عمر عن موت عبد ال بن عمر فقال أصابه‬
‫ر جل من أ هل الشام بز جه في رجله فأتاه الحجاج يعوده فقال لو أعلم الذي أ صابك لضر بت‬
‫عنقه فقال عبد ال أنت الذي أصبتني قال كيف؟ قال يوم أدخلت حرم ال السلح ومات بمكة‬
‫سنة أربع وسبعين وقيل سنة ثلث وسبعين وهو ابن أربع وثمانين سنة رضي ال عنه‪.‬‬

‫عبد ال بن مسعود‬

‫ثناء الرسول عليه‬

‫عن عبد ال بن يزيد قال أتينا حذيفة فقلنا له حدثنا بأقرب الناس برسول ال (صلى ال عليه‬
‫وسلم) هديا وسمتا ودل نأخذ عنه ونسمع منه قال‪ :‬كان أقرب الناس برسول ال (صلى ال‬
‫عليـه وسـلم) هديـا وسـمتا ودل عبـد ال بـن مسـعود حتـى يتوارى عنـا فـي بيتـه ولقـد علم‬
‫المحفوظون من أصحاب محمد أن ابن أم عبد من أقربهم إلى ال زلفى‪.‬‬

‫وحكى عنه عمر بن الخطاب ـ رضي ال عنه قال‪[ :‬كان رسول ال (صلى ال عليه وسلم)‬
‫ل يزال يسمر عند أبي بكر الليلة في أمر من أمر المسلمين وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا‬
‫معه فخرج رسول ال (صلى ال عليه وسلم) وخرجنا معه فإذا رجل قائم يصلي في المسجد‬
‫فقام رسول ال (صلى ال عليه وسلم) يستمع قراءته فلما كدنا نعرفه قال رسول ال (صلى‬
‫ال عليه وسلم) من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد‪ ،‬قال‬
‫ثم جلس الرجل يدعو فجعل رسول ال (صلى ال عليه وسلم) يقول له سل تعطه سل تعطه‪.‬‬
‫قال عمـر قلت وال لغدون عليـه فلبشرنـه‪ ،‬قال فغدوت عليـه فبشرتـه فوجدت أبـا بكـر قـد‬
‫سبقني إليه فبشره ول وال ما سابقته إلى خير قط إل سبقني إليه] رواه المام أحمد‪.‬‬

‫وروي [ عن زر بن حبيش عن ا بن م سعود أ نه كان يجت ني سواكا من الراك وكان دق يق‬


‫الساقين فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه! فقال رسول ال (صلى ال عليه وسلم) ‪ :‬مم‬
‫تضحكون؟! قالوا يا نبي ال من د قة ساقيه‪ ،‬فقال والذي نف سي بيده له ما أث قل في الميزان‬
‫من أحد]‬

‫ثناء الناس عليه وكثرة علمه‬

‫عن زيد بن وهب قال أقبل عبد ال ذات يوم وعمر جالس فقال‪ :‬وعاء ملئ علما‪.‬‬
‫وعـن الشعـبي قال‪ :‬ذكروا أن عمـر بـن الخطاب لقـي ركبـا فـي سـفر له‪ ،‬فيهـم عبـد ال بـن‬
‫مسعود فأمر عمر رجل يناديهم من أين القوم فأجابه عبد ال أقبلنا من الفج العميق‪ ،‬فقال‬
‫عمـر أيـن تريدون؟ فقال عبـد ال‪ :‬البيـت العتيـق‪ ،‬فقال عمـر‪ :‬إن فيهـم عالمـا! وأمـر رجل‬
‫فناداهم أي القرآن أعظم؟ فأجابه عبد ال‪{ :‬ال ل إله إل هو الحي القيوم} حتى ختم الية‪،‬‬
‫قال ناد هم أي القرآن أح كم؟ فقال ا بن م سعود‪{ :‬إن ال يأ مر بالعدل والح سان} ال ية‪ .‬فقال‬
‫عمر نادهم أي القرآن أجمع؟ فقال ابن مسعود‪{ :‬فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل‬
‫مثقال ذرة شرًا يره} فقال ع مر ناد هم أي القرآن أخوف؟ فقال ا بن م سعود‪{ :‬ل يس بأماني كم‬
‫ول أما ني أ هل الكتاب من يع مل سوءًا ي جز به} ال ية‪ .‬فقال ع مر ناد هم أي القرآن أر جى؟‬
‫فقال ابن مسعود‪{ :‬يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ل تقنطوا من رحمة ال} فقال عمر‬
‫نادهم أفيكم ابن مسعود؟! قالوا اللهم نعم‪.‬‬

‫وعن أبي البختري قال‪ :‬سئل علي كرم ال وجهه عن أصحاب محمد فقال عن أيهم تسألون؟‬
‫قالوا‪ :‬أخبر نا عن ع بد ال ا بن م سعود‪ ،‬قال‪ :‬علم القرآن وعلم ال سنة ثم انت هى وك فى به‬
‫علما‪.‬‬

‫وعن أبي الحوص قال‪ :‬شهدت أبا موسى وأبا مسعود حين مات ابن مسعود وأحدهما يقول‬
‫حجِب نا‪ ،‬ويش هد إذا غب نا"‬
‫ن له إذا ُ‬
‫ل صاحبه‪ :‬أتراه ترك مثله؟ قال‪ :‬إ نْ قل تَ ذاك! إن كان ل ُيؤْذَ ُ‬
‫رواه المام أحمد‪.‬‬

‫و عن عا مر قال‪ :‬قال أ بو مو سى ل ت سألوني عن ش يء ما دام هذا ال حبر في كم يع ني ا بن‬


‫مسعود‪.‬‬

‫و عن شق يق قال‪ :‬ك نت قاعدا مع حذي فة فأق بل ع بد ال ا بن م سعود فقال حذي فة‪ :‬إن أش به‬
‫الناس هد يا ودل برسول ال (صلى ال عليه و سلم) من ح ين يخرج من بيته إلى أن ير جع‬
‫ول أدري ما ي صنع في أهله لع بد ال بن م سعود‪ ،‬وال‪ ،‬ل قد علم المحفوظون من أ صحاب‬
‫محمد أنه من أقربهم عند ال وسيلة يوم القيامة‪ .‬وعن مسروق قال‪ :‬قال عبد ال‪ :‬والذي ل‬
‫إله غيره ما نزلت آية من كتاب ال إل وأنا أعلم أين نزلت وإل أنا أعلم فيم نزلت ولو أعلم‬
‫أن أحدا أعلم بكتاب ال مني تناله المطي (البل) لتيته‪.‬‬

‫تعبده‬
‫عن زر عن ع بد ال أنه كان ي صوم الثن ين والخم يس‪ ،‬و عن ع بد الرح من بن يز يد قال ما‬
‫رأ يت فقي ها قط أ قل صوما من ع بد ال! فق يل له لم ل ت صوم؟ قال إ ني أختار ال صلة على‬
‫الصوم فإذا صمت ضعفت عن الصلة‪.‬‬

‫وعـن محارب بـن دثار عـن عمـه محمـد قال مررت بابـن مسـعود بسـحر وهـو يقول‪ :‬اللهـم‬
‫دعوتني فأجبتك‪ ،‬وأمرتني فأطعتك‪ ،‬وهذا سحر فاغفر لي‪ ،‬فلما أصبحت غدوت عليه فقلت له‬
‫(أي سألته عن دعائه وقت السحر) فقال‪ :‬إن يعقوب لما قال لبنيه سوف أستغفر لكم أخرهم‬
‫إلى السحر‪.‬‬

‫تواضعه‬

‫عن حبيب بن أ بي ثا بت قال‪ :‬خرج ا بن م سعود ذات يوم فتب عه ناس فقال لهم أل كم حا جة؟‬
‫قالوا ل ولكن أردنا أن نمشي معك‪ ،‬قال‪ :‬ارجعوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع‪.‬‬

‫و عن الحارث بن سويد قال‪ :‬قال عبدال‪ :‬لو تعلمون ما أعلم من نف سي حثي تم على رأ سي‬
‫التراب‪.‬‬

‫إيثاره ثواب الخرة على شهوات النفس‬

‫عن ق يس بن جبير قال‪ :‬قال ع بد ال‪ :‬حبذا المكروهان الموت والف قر! وأ يم ال‪ ،‬إن هو إل‬
‫الغنى والفقر وما أبالي بأيهما بليت‪ ،‬إن حق ال في كل واحد منهما واجب‪ ،‬وإن كان الغنى‬
‫إن فيه للعطف‪ ،‬وإن كان الفقر إن فيه للصبر‪.‬‬

‫وعن الحسن قال‪ :‬قال عبد ال بن مسعود‪ :‬ما أبالي إذا رجعت إلى أهلي على أي حال أراهم‬
‫بخير أو بشر أم بضر‪ ،‬وما أصبحت على حالة فتمنيت أني على سواها‪.‬‬

‫جملة من مناقبه وكلمه رضي ال عنه‬

‫عن ع بد ال بن مرداس قال‪ :‬كان ع بد ال يخطب نا كل خم يس فيتكلم بكلمات في سكت ح ين‬


‫يسكت ونحن نشتهي أن يزيدنا‪.‬‬

‫وقال ر ضي ال ع نه واعظًا‪" :‬إن كم في م مر من الل يل والنهار في آجال منقو ضة وأعمال‬


‫محفوظـة‪ ،‬والموت يأتـي بغتـة‪ ،‬فمـن زرع خيرا فيوشـك أن يحصـد رغبـة‪ ،‬ومـن زرع شرا‬
‫فيوشك أن يحصد ندامة‪ ،‬ولكل زارع مثل ما زرع ل يسبق بطيء بحظه‪ ،‬ول يدرك حريض‬
‫ما لم يقدر له فمن أعطي خيرًا فال أعطاه ومن وقي شرّا فال وقاه‪ ،‬المتقون سادة والفقهاء‬
‫قادة ومجالسهم زيادة" رواه المام أحمد‪.‬‬

‫وعن أبي الحوص عن عبد ال أنه كان يوم الخميس قائما فيقول‪" :‬إنما هما اثنتان‪ :‬الهدي‬
‫والكلم‪ ،‬وأفضل الكلم كلم ال‪ ،‬وأفضل الهدي هدي محمد‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪ ،‬وإن كل‬
‫محدثة بد عة‪ ،‬فل يطولن عليكم المد‪ ،‬ول يلهينكم ال مل‪ ،‬فإن كل ما هو آت قر يب‪ ،‬أل وإن‬
‫بعيدًا ما ليس آتيا‪ ،‬أل وإن الشقي من شقي في بطن أمه‪ ،‬وإن السعيد من وعظ بغيره‪ ،‬أل‬
‫وإن قتال الم سلم ك فر‪ ،‬و سبابه ف سوق‪ ،‬ول ي حل لم سلم أن يه جر أخاه فوق ثل ثة أيام ح تى‬
‫يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه ويعوده إذا مرض‪ ،‬أل وإن شر الروايا روايا الكذب‪ ،‬أل‬
‫وإن الكذب ل يصلح منه هزل ول جد‪ ،‬ول أن َيعِدَ الرجل صبيه شيئا ثم ل ينجزه له‪ ،‬أل وإن‬
‫الكذب يهدي إلى الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدي إلى النار‪ ،‬وإن ال صدق يهدي إلى البر‪ ،‬وإن البر‬
‫يهدي إلى الجنة‪ ،‬أل وإ نه يقال لل صادق صدق وبر ويقال للفا جر كذب وف جر‪ ،‬أل وإن محمدا‬
‫حدثنا أن الرجل ليصدق حتى يكتب عند ال عز وجل صديقا‪ ،‬ويكذب حتى يكتب عند ال عز‬
‫وجل كذابا"‬

‫وعن عبد الرحمن بن عابس قال‪ :‬قال عبد ال بن مسعود‪ :‬إن أصدق الحديث كتاب ال عز‬
‫وجـل‪ ،‬وأوثـق العرى كلمـة التقوى‪ ،‬وخيـر الملل ملة إبراهيـم‪ ،‬وأحسـن السـنن سـنة محمـد‪،‬‬
‫وخ ير الهدي هدي ال نبياء‪ ،‬وأشرف الحد يث ذ كر ال‪ ،‬وخ ير الق صص القرآن‪ ،‬وخ ير المور‬
‫عواقبها‪ ،‬وشر المور محدثاتها‪ ،‬وما قل وكفى خير مما كثر وألهى‪ ،‬ونفس تنجيها خير من‬
‫إمارة ل تحصيها‪ ،‬وشر المعذرة حين يحضر الموت‪ ،‬وشر الندامة ندامة يوم القيامة‪ ،‬وشر‬
‫الضللة الضللة بعد الهدى‪ ،‬وخير الغنى غنى النفس‪ ،‬وخير الزاد التقوى‪ ،‬وخير ما ألقي في‬
‫القلب اليقين والريب من الكفر‪ ،‬وشر العمى عمى القلب‪ ،‬والخمر جماع الثم‪ ،‬والنساء حبالة‬
‫الشيطان‪ ،‬والشباب شع بة من الجنون‪ ،‬والنوح من ع مل الجاهل ية‪ ،‬و من الناس من ل يأ تي‬
‫الجمعة إل دبرا ول يذكر ال إل هجرا‪ ،‬وأعظم الخطايا الكذب‪ ،‬وسباب المسلم فسوق‪ ،‬وقتاله‬
‫كفر‪ ،‬وحرمة ماله كحرمة دمه‪ ،‬ومن يعف يعف ال عنه‪ ،‬ومن يكظم الغيظ يأجره ال‪ ،‬ومن‬
‫يغ فر يغ فر ال له‪ ،‬و من ي صبر على الرز ية يعق به ال‪ ،‬و شر المكا سب ك سب الر با‪ ،‬و شر‬
‫المآكل أكل مال اليتيم‪ ،‬والسعيد من وعظ بغيره‪ ،‬والشقي من شقي في بطن أمه‪ ،‬وإنما يكفي‬
‫أحدكـم مـا قنعـت بـه نفسـه وإنمـا يصـير إلى أربعـة أذرع والمـر إلى آخرة‪ ،‬وملك العمـل‬
‫خوات مه‪ ،‬و شر الروا يا روا يا الكذب وأشرف الموت ق تل الشهداء‪ ،‬و من يعرف البلء ي صبر‬
‫عليه ومن ل يعرفه ينكره‪ ،‬ومن يستكبر يضعه ال‪ ،‬ومن يتول الدنيا تعجز عنه‪ ،‬ومن يطع‬
‫الشيطان يعص ال ومن يعص ال يعذبه"‪.‬‬

‫وعن المسيب بن رافع عن عبد ال بن مسعود قال‪" :‬ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ‬
‫الناس نائمون‪ ،‬وبنهاره إذ الناس مفطرون‪ ،‬وبحزنـــه إذ الناس فرحون‪ ،‬وببكائه إذ الناس‬
‫يضحكون‪ ،‬وب صمته إذ الناس يخلطون‪ ،‬وبخشو عه إذ الناس يختالون‪ ،‬وينب غي لحا مل القرآن‬
‫أن يكون باكيا محزونا حليما حكيما سكيتا‪ ،‬ول ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيا ول غافل‬
‫ول سخابا ول صياحا ول حديدا" رواه المام أحمد‪.‬‬

‫وعن أبي إياس البجلي قال‪ :‬سمعت عبد ال بن مسعود يقول‪" :‬من تطاول تعظما خفضه ال‪،‬‬
‫ومـن تواضـع تخشعـا رفعـه ال‪ ،‬وإن للملك لمـة وللشيطان لمـة‪ ،‬فلمـة الملك إيعاد بالخيـر‬
‫وت صديق بال حق‪ ،‬فإذا رأي تم ذلك فاحمدوا ال عز و جل‪ ،‬ول مة الشيطان إيعاد بال شر وتكذ يب‬
‫بالحق‪ ،‬فإذا رأيتم ذلك فتعوذوا بال"‪.‬‬

‫و عن عمران بن أ بي الج عد عن ع بد ال قال‪" :‬إن الناس قد أح سنوا القول ف من وا فق قوله‬


‫فعله فذاك الذي أصاب حظه‪ ،‬ومن ل يوافق قوله فعله فذاك الذي يوبخ نفسه"‪.‬‬

‫وعن المسيب بن رافع قال‪ :‬قال عبد ال بن مسعود‪" :‬إني لبغض الرجل أن أراه فارغا ليس‬
‫في شيء من عمل الدنيا ول من عمل الخرة" رواه المام أحمد‪.‬‬

‫وعن مرة عن عبد ال قال‪" :‬ما دمت في صلة فأنت تقرع باب الملك ومن يقرع باب الملك‬
‫يفتح له"‪.‬‬

‫وعن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد قال‪ :‬قال عبد ال‪" :‬إني لحسب الرجل ينسى‬
‫العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها" رواه المام أحمد‪.‬‬

‫وعن إبراهيم بن عيسى عن عبد ال بن مسعود قال‪" :‬كونوا ينابيع العلم‪ ،‬مصابيح الهدى‪،‬‬
‫أحلس البيوت‪ ،‬سـرج الليـل‪ ،‬جدد القلوب‪ ،‬خلقان الثياب‪ ،‬تعرفون فـي أهـل السـماء وتخفون‬
‫في أهل الرض"‪.‬‬

‫و عن م عن قال‪ :‬قال ع بد ال بن م سعود‪" :‬إن للقلوب شهوة وإقبال وإن للقلوب فترة وإدبارا‬
‫فاغتنموها عند شهوتها واقبالها ودعوها عند فترتها وإدبارها"‪.‬‬
‫وعن عون بن عبد ال قال‪ :‬قال عبد ال‪" :‬ليس العلم بكثرةالرواية ولكن العلم الخشية"‪.‬‬

‫وعن إبراهيم قال‪ :‬قال عبد ال‪" :‬لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا"‪.‬‬

‫و عن أ بي الحوص عن ع بد ال قال‪ " :‬مع كل فر حة تر حة و ما ملئ ب يت حبرة (فر حة) إل‬


‫ملئ عبرة" رواه أحمد‪.‬‬

‫وعن الضحاك بن مزاحم قال‪ :‬قال عبد ال‪" :‬ما منكم إل ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل‬
‫والعارية مؤداة إلى أهلها"‪.‬‬

‫وعن عبد الرحمن بن عبد ال بن مسعود عن أبيه قال‪ :‬أتاه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن‬
‫علم ني كلمات جوا مع نوا فع فقال له ع بد ال‪" :‬لتشرك به شيئا‪ ،‬وزل مع القرآن ح يث زال‪،‬‬
‫و من جاءك بال حق فاق بل م نه وإن كان بعيدا بغي ضا‪ ،‬و من جاءك بالبا طل فاردده عل يه وإن‬
‫كان حبيبا قريبا"‪ .‬وقال أيضًا‪" :‬الحق ثقيل مريء‪ ،‬والباطل خفيف وبيء‪ ،‬ورب شهوة تورث‬
‫حزنا طويل"‪.‬‬

‫وعن عنبس بن عقبة قال‪ :‬قال عبد ال بن مسعود‪" :‬وال الذي ل إله إل هو‪ ،‬ما على وجه‬
‫الرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان"‪.‬‬

‫وعن عبد الرحمن بن عبد ال بن مسعود عن أبيه قال‪" :‬إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن‬
‫بهلكها"‪.‬‬

‫و عن أ بي عبيدة قال‪ :‬قال ع بد ال‪ " :‬من ا ستطاع من كم أن يج عل كنزه في ال سماء ح يث ل‬


‫تأكله السوس ول يناله السراق فليفعل فإن قلب الرجل مع كنزه"‪.‬‬

‫وعن القاسم قال‪ :‬قال رجل لعبد ال أوصني يا أبا عبد الرح من قال‪" :‬ليسعك بي تك‪ ،‬واكفف‬
‫لسانك‪ ،‬وابك على خطيئتك"‪.‬‬

‫و عن ع بد الرح من بن يزيد عن ع بد ال قال‪" :‬أن تم أطول صلة وأك ثر اجتهادا من أ صحاب‬


‫ر سول ال ( صلى ال عل يه و سلم) ‪ ،‬و هم كانوا أف ضل من كم‪ ،‬ق يل له بأي ش يء؟ قال‪ :‬إن هم‬
‫كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الخرة منكم"‬
‫وعن زاذان عن عبد ال بن مسعود قال‪" :‬يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له أد أمانتك! فيقول‬
‫من أ ين يا رب قد ذه بت الدن يا؟! فتم ثل على هيئت ها يوم أخذ ها (أي الما نة) في ق عر جه نم‬
‫فينزل فيأخذها فيضع ها على عاتقه فيصعد بها حتى إذا ظن أنه خارج بها هوت وهوى في‬
‫إثرها أبد البدين"‪.‬‬

‫وعن أبي الحوص عن عبد ال قال‪" :‬ل يقلدن أحدكم دينه رجل فإن آمن آمن وإن كفر كفر‪،‬‬
‫وإن كنتم لبد مقتدين فاقتدوا بالميت‪ ،‬فإن الحي ل تؤمن عليه الفتنة"‪.‬‬

‫وعن عبد الرحمن بن يزيد قال‪ :‬قال عبد ال‪" :‬ل تكونن إمعة‪ ،‬قالوا وما المعة؟ قال‪ :‬يقول‬
‫أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت وإن ضلوا ضللت‪ ،‬أل ليوطنن أحدكم نفسه على أنه إن كفر‬
‫الناس أن ل يكفر"‪.‬‬

‫و عن سليمان بن مهران قال‪ :‬بين ما ا بن م سعود يو ما م عه ن فر من أ صحابه إذ مر أعرا بي‬


‫فقال‪ :‬عَلمَ اجتمع هؤلء؟ فقال ابن مسعود‪ :‬على ميراث محمد يقتسمونه‪.‬‬

‫عز الدين بن عبد السلم‬

‫قل لي بال عليك‪ ..‬مالك ل تخاف سطوةً ول سلطانًا‪ ..‬تهابك الملوك‬


‫والسلطين‪ ،‬وأنت الذي ل تحمل في يدك سوطًا ول سيفًا؟‍! عفوًا يا سلطان‬
‫العلماء‪ ،‬ل تجب‪ ،‬فقد تذكرت أنك كنت عبدًا طائعًا ل‪ ،‬تطيع أوامره‪ ،‬وتجتنب نواهيه‪ ،‬يعلو‬
‫صوتك بالحق في وجه الطغاة‪ ،‬فمنحك ال قوة وعزة!!‬
‫تمكن التتار من إسقاط الخلفة السلمية في بغداد عام ‪656‬هـ‪ ،‬وواصلوا غزوهم إلى الشام‬
‫ومصر حاملين معهم الخراب والدمار‪ ،‬فهاجر إلى مصر والشام أعداد غفيرة من العلماء‪،‬‬
‫وأصبحت هذه البلد مركزًا للعلم حيث انتشرت فيها المساجد‬
‫والمدارس‪ ،‬ووفد إليها طلب العلم‪ ،‬من كل مكان ليدرسوا علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه‬
‫والنحو والصرف والتاريخ‪ ،‬إلى جانب الفلسفة والفلك والهندسة والرياضيات‪ ..‬وغيرها‪.‬‬
‫وسط هذا الجو الذي يشجع على التعلّم والدراسة‪ ،‬ولد بدمشق عام ‪577‬هـ‬
‫(عز الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد السلم) ففتح عينيه على الحياة ليجد أسرته تعاني من‬
‫الفقر وضيق العيش‪ ،‬ونشأ عز الدين على حب العلم‪ ،‬فسمع الحديث الشريف من العالم الجليل‬
‫(فخر الدين ابن عساكر) الذي اشتهر بعلمه وزهده‪ ،‬وتعلم على يد قاضي قضاة (دمشق) الشيخ‬
‫(جمال الدين بن الحرستاني) وغيرهما من الساتذة الكبار‪ ،‬حتى أصبح عالمًا له مكانته المرموقة‬
‫بين أساتذته‪.‬‬
‫وكان منصب الخطابة في الجامع الموي (بدمشق) منصبًا عظيمًا ل يتوله إل كبار العلماء‪،‬‬
‫فتوله (عز الدين بن عبد السلم) فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر‪ ،‬وصدع بكلمة الحق‪ ،‬ولم‬
‫يكن يخشى في ال لومة لئم‪ ،‬فحارب كل بدعة‪ ،‬وأمات كل ضللة‪ ،‬وكان يقول‪( :‬طوبى لمن‬
‫تولى شيئًا من أمور المسلمين‪ ،‬فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن)‪.‬‬
‫وفي عام ‪635‬هـ وله السلطان الكامل اليوبي قضاء دمشق‪ ،‬لكنه لم يستمر فيه طويل‪ ،‬بل‬
‫تركه في العام نفسه عندما تولى الحكم (الصالح إسماعيل) الذي كان على خلف مع الشيخ عز‬
‫الدين؛ لن الملك الصالح تحالف مع الصليبيين‪ ،‬وأعطاهم بيت المقدس وطبرية وعسقلن‪،‬‬
‫وسمح لهم بدخول دمشق‪ ،‬وترك لهم حرية الحركة‬
‫فيها‪ ،‬وشراء السلح منها‪ ،‬وفوق ذلك وعد الصليبيين بجزء من مصر إذا هم نصروه على أخيه‬
‫نجم الدين أيوب سلطان مصر‪ ،‬فلم يرضَ الشيخ عز الدين بهذا الوضع المهين‪ ،‬فهاجم السلطان‬
‫في خطبه من فوق منبر المسجد الموي هجومًا عنيفًا‪ ،‬وقطع الدعاء له في خطب الجمعة‪،‬‬
‫وأفتى بتحريم بيع السلح للصليبيين أو التعاون‬
‫معهم‪ ،‬ودعا المسلمين إلى الجهاد‪.‬‬
‫غضب السلطان الصالح إسماعيل‪ ،‬وأمر بعزل (عز الدين) من إمامة المسجد‬
‫الموي‪ ،‬ومنعه من الفتوى والتصال بالناس‪ ،‬ولم يكتف بذلك‪ ،‬بل منعه من الخروج من بيته‪،‬‬
‫فقرر عز الدين الهجرة من (دمشق) إلى (مصر) فلما خرج منها‬
‫عام ‪638‬هـ ثار المسلمون في (دمشق) لخروجه‪ ،‬فبعث إليه السلطان أحد‬
‫وزرائه‪ ،‬فلحق به في نابلس‪ ،‬وطلب منه العودة إلى دمشق‪ ،‬فرفض‪ ،‬فقال له الوزير‪ :‬بينك وبين‬
‫أن تعود إلى مناصبك وإلى ما كنت عليه وزيادة أن تنكسر‬
‫للسلطان‪ ،‬وتعتذر إليه وتقبل يده ل غير‪.‬‬
‫فقال عز الدين‪ :‬وال يا مسكين‪ ،‬ما أرضى أن يقبل السلطان يدي‪ ،‬فضلً عن أن أقبل يده‪ ،‬يا قوم‬
‫أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ‪ ..‬الحمد ل الذي عافاني مما ابتلكم به‪ ،‬فقال له الوزير‪ :‬قد أمرني‬
‫السلطان بذلك‪ ،‬فإما أن تقبله‪ ،‬وإل اعتقلتك‪ ،‬فقال‪ :‬افعلوا ما بدا لكم!!‬
‫واعتقله جنود السلطان في نابلس‪ ،‬وظل في محبسه‪ ،‬حتى جاءت جنود مصر‬
‫وخلصته‪ ،‬وجاء الشيخ عز الدين إلى القاهرة عام ‪639‬هـ فرحب به (نجم الدين أيوب) سلطان‬
‫مصر‪ ،‬ووله منصب قاضي القضاة‪ ،‬وخطيب مسجد عمرو بن العاص‪ ،‬واشتهر الشيخ بالعدالة‬
‫في القضاء‪ ،‬والجرأة في الحق‪ ،‬حتى أحبه الناس والتفوا حوله‪.‬‬
‫وقد حدثت له حادثة أثناء توليه القضاء تدل على شجاعته وعدله‪ :‬فقد أفتى العز بن عبد السلم‬
‫أن أمراء المماليك حكام مصر في ذلك الوقت مازالوا عبيدًا رقيقًا‪ ،‬وأنه يجب بيع هؤلء المراء‬
‫لصالح بيت مال المسلمين وذلك لتحريرهم من عبوديتهم وعتقهم بالطريق الشرعي‪ ،‬حتى يجوز‬
‫لهم أن يتصرفوا تصرف الحرار‪ ،‬فكانت هذه الفتوى ضربة قاضية لهم‪ ،‬حطمت كبرياءهم‪،‬‬
‫وعطلت مصالحهم بل إنهم أصبحوا مصدرًا لسخرية الناس بعد أن قوي نفوذهم‪ ،‬وزاد طغيانهم‪،‬‬
‫وكثرت مظالمهم‪.‬‬
‫غضب المراء المماليك غضبًا شديدًا‪ ،‬وقدموا شكوى إلى السلطان‪ ،‬وطالبوه بأن يقنع العز بن‬
‫عبد السلم‪ ،‬بالعدول عن رأيه‪ ،‬فتحدث معه السلطان في ذلك‪ ،‬وطلب منه أن يتركهم وشأنهم‪،‬‬
‫فغضب عز الدين واستقال من منصب قاضي القضاة‪ ،‬وعزم على مغادرة مصر‪ ،‬فحمل أمتعته‬
‫على حمار‪ ،‬وحمل أهله على حمار آخر‪ ،‬وسار خلفهم على قدميه خارجًا من القاهرة؛ وعندما‬
‫علم الناس خرجوا وراءه‪ ،‬فخاف السلطان من الثورة‪ ،‬وقال له أعوانه‪ :‬متى خرج عز الدين من‬
‫مصر ضاع ملكك!! فركب السلطان بنفسه ولحق بالشيخ وطيب خاطره‪ ،‬لكنه لم يقبل أن يعود‬
‫معه إلى القاهرة إل بعد أن وافق السلطان على بيع المراء المماليك في مزاد علني‪.‬‬
‫رجع الشيخ وأمر بأن ينادي على المراء في المزاد‪ ،‬وكان من بين الذين سيباعون في المزاد‬
‫نائب السلطنة‪ ،‬فغضب واشتد غيظه‪ ،‬ورفض أن يباع كما تباع الماشية‪ ،‬وصاح في كبرياء‪:‬‬
‫كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الرض؟! وال لضربنه بسيفي‪.‬‬
‫ركب نائب السلطان فرسه وأخذ معه جماعة من المراء‪ ،‬وذهبوا إلى بيت الشيخ يريدون قتله‪،‬‬
‫وطرقوا الباب‪ ،‬فخرج ابن الشيخ فلما رآهم فزع ورجع إلى أبيه خائفًا يخبره بما رأى‪ ،‬ابتسم‬
‫الشيخ في وجهه‪ ،‬وقال له‪ :‬يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل ال‪ ،‬ثم خرج إلى أمراء‬
‫المماليك‪ ،‬فنظر إليهم نظرة عزة وإباء‪ ،‬وأطال النظر إلى نائب السلطان الذي كان شاهرًا سيفه؛‬
‫فارتعدت مفاصل نائب السلطان وسقط السيف من يده‪ ،‬ثم بكى وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو‬
‫له‪ ،‬وتمّ للشيخ ما أراد وباع المراء في المزاد واحدًا واحدًا‪ ،‬وغالى في ثمنهم‪ ،‬ثم صرفه في‬
‫وجوه الخير‪.‬‬
‫وكانت لسلطان العلماء (العز بن عبد السلم) مواقف إيمانية في ميدان الجهاد ضد التتار أعداء‬
‫السلم والمسلمين‪ ،‬وكان له دور فعال في هذا المر‪ ،‬ولم َيرْضَ أن تتحمل جماهير الشعب‬
‫وحدها نفقات الجهاد‪ ،‬وهو يعلم أن السلطان ورجاله لديهم أموال كثيرة فقال‪ :‬إذا طرق العدو‬
‫بلد السلم وجب قتالهم‪ ،‬وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم‪ ،‬بشرط‬
‫أل يبقى في بيت المال شيء‪ ،‬وأن يؤخذ كل ما لدى السلطان والمراء من أموال وذهب‬
‫وجواهر وحلي‪ ،‬ويبقى لكل الجند سلحه‪ ،‬وما يركبه ليحارب عليه ويتساووا هم والعامة‪ ،‬وأما‬
‫أخذ أموال الناس مع بقاء ما في أيدي الجند من الموال‪ ،‬فل‪.‬‬
‫وقد اشترك الشيخ (عز الدين) بنفسه في الجهاد المسلح ضد العدو‪ ،‬وكان دائمًا يحرض السلطان‬
‫(قطز) على حرب التتار حتى كتب ال له النصر في (عين جالوت) عام ‪658‬هـ(‪1260‬م)‬
‫وكان (العز بن عبد السلم) شجاعًا مقدامًا‪ ،‬فقد ذهب ذات مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى‬
‫القلعة‪ ،‬فشاهد المراء والخدم والحشم يقبلون الرض أمام السلطان‪ ،‬وشاهد الجند صفوفًا أمامه‪،‬‬
‫ورأى البهة والعظمة تحيط به من كل جانب‪ ،‬فتقدم الشيخ إلى السلطان‪ ،‬وناداه باسمه مجردًا‪،‬‬
‫وقال‪ :‬يا أيوب‪ ،‬ما حجتك عند ال إذا قال لك‪ :‬ألم أبوئ لك مصر‪ ،‬ثم تبيح الخمور؟‬
‫فقال السلطان نجم الدين أيوب‪ :‬هل جرى هذا؟‬
‫قال الشيخ‪ :‬نعم تباع الخمور في الحانات وغيرها من المنكرات‪ ،‬وأنت تتقلب في نعمة هذه‬
‫المملكة‪ ،‬وأخذ الشيخ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون‪.‬‬
‫فقال السلطان‪ :‬يا سيدي هذا أنا ما عملته‪ ،‬هذا من زمان أبي‪.‬‬
‫فقال الشيخ‪ :‬أنت من الذين يقولون‪ :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة‪..‬‬
‫فأصدر السلطان أوامره بإغلق تلك الحانات‪ ،‬ومنع تلك المفاسد‪ ،‬وشاع الخبر بين جمهور‬
‫المسلمين وأهل القاهرة‪ ،‬فسأل أحد تلميذ الشيخ عن السبب الذي جعله ينصح السلطان أمام‬
‫خدمه وعساكره في مثل هذا اليوم الكريم؟ فقال الشيخ‪:‬‬
‫يا بني‪ ،‬رأيتُ السلطان في تلك العظمة‪ ،‬فأردتُ أن أذكره لئل تكبر عليه نفسه فتؤذيه‪ ..‬قال‬
‫التلميذ‪ :‬أما خفته؟ قال عز الدين‪ :‬وال يا بني‪ ،‬استحضرتُ هيبة ال تعالى فلم أخف منه‪.‬‬
‫وكان (العز بن عبد السلم) رغم فقره كريمًا كثير الصدقات‪ ،‬فيحكى أنه لما كان بدمشق‪،‬‬
‫وحدثت ضائقة‪ ،‬وعانى الناس من قلة المال‪ ،‬وانخفضت أسعار البساتين فأعطته زوجته‬
‫مصاغها‪ ،‬وقالت‪ :‬اشترِ لنا بثمنه بستانا نصيّف فيه‪ ،‬فأخذ المصاغ وباعه وتصدق بثمنه‪ ،‬فسألته‬
‫زوجته‪ :‬هل اشتريت لنا بستانًا؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬بستانًا في الجنة‪ ،‬إني وجدت الناس في شدة‪ ،‬فتصدقتُ‬
‫بثمنه‪ ،‬فقالت‪ :‬جزاك ال خيرًا‪.‬‬
‫وعاش الشيخ (عز الدين) ‪ 83‬عامًا يدعو إلى ال ويجاهد في سبيله‪ ،‬يأمر بالمعروف وينهي عن‬
‫المنكر إلى أن توفي عام ‪660‬هـ‪ ،‬فخرج الرجال والنساء والشباب والطفال يودعون سلطان‬
‫العلماء‪ ،‬وصلى عليه سلطان مصر والشام ‪-‬في ذلك الوقت‪ -‬الظاهر (بيبرس)‪.‬‬
‫وقد أشاد به العلماء والمؤرخون حتى أطلق عليه تلميذه شيخ السلم‬
‫(تقي الدين بن دقيق العيد) لقب (سلطان العلماء)‪ ..‬رحم ال العز بن عبد السلم رمز العزة‬
‫والباء‪.‬‬
‫عقبة بن نافع‬

‫كان والده من المسلمين الوائل الذين جاهدوا في سبيل ال‪ ،‬فلم يكن غريبًا أن يشب (عقبة بن نافع‬
‫بن عبد القيس الفهري) وحب الجهاد يجري في عروقه‪ ،‬وتمنى أن يكون أحد أبطال مكة‬
‫وفرسانها‪ ،‬تعلم المبارزة‪ ،‬وتدرب مع الشباب المسلم على حمل السلح‪ ،‬وازداد عقبة حبّا واشتياقًا‬
‫للجهاد من سماعه لقصص البطولة التي قام بها المسلمون أثناء حروبهم ضد أعداء السلم‪،‬‬
‫حكاها له ابن خالته‬
‫(عمرو بن العاص)‪.‬‬
‫ولما بلغ عقبة مبلغ الشباب أصبح يجيد المبارزة وكل فنون الحرب والقتال‪ ،‬منتظرًا اللحظة‬
‫المواتية ليدافع عن دين ال‪ ،‬وجاءت الفرصة عندما أسند الخليفة العادل‬
‫(عمر بن الخطاب) فتح بعض بلد الشام إلى عمرو بن العاص‪ ،‬وجعل عمرو‬
‫(عقبة بن نافع) في مقدمة الجيش وهو لم يبلغ بعد سن العشرين‪ ،‬وكان عقبة عند حسن ظن عمرو‬
‫بن العاص‪ ،‬فقد أظهر مقدرة بطولية على اختراق صفوف‬
‫العداء‪ ،‬ونجح نجاحًا كبيرًا في أول امتحان له في الجهاد في سبيل ال‪.‬‬
‫وفي أثناء فتح عمرو بن العاص لمصر أظهر عقبة تفوقًا ملحوظًا‪ ،‬واستطاع بمهارته الحربية أن‬
‫يساعد عمرو بن العاص في هزيمة الروم‪ ،‬وكان كل يوم يمر على عقبة يزداد حبّا للجهاد في‬
‫سبيل ال‪ ،‬وشغفًا بنشر دين السلم في كل بقاع الرض؛ حتى ينعم الناس بالمن والعدل‬
‫والرخاء‪ ،‬وظل عقبة بن نافع جنديّا في صفوف المجاهدين دون تميز عن بقية الجنود‪ ،‬على الرغم‬
‫من براعته في القتال وشجاعته التي ليس لها حدود في مقاتلة أعدائه‪ ،‬إلى أن كلفه عمرو بن‬
‫العاص ذات يوم أن يتولى قيادة مجموعة محدودة من الجنود يسير بهم لفتح فزان (مجموعة‬
‫الواحات الواقعة في الصحراء الكبرى شمال إفريقيا) ‪.‬‬
‫وانطلق عقبة إلى (فزان) وكله أمل ورجاء في النصر على أعدائه‪ ،‬وعندما وصل عقبة إليها‬
‫دارت معارك عنيفة بين البربر والمسلمين أظهر فيها عقبة شجاعة نادرة حتى فرّ البربر من‬
‫أمامه ورفعوا راية الستسلم‪ ،‬وأراد عمرو بن العاص فتح إفريقية‬
‫كلها‪ ،‬لكنه كان في حاجة إلى عدد كبير من الجنود‪ ،‬فبعث إلى الخليفة‬
‫عمر بن الخطاب ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬يستأذنه في فتحها‪ ،‬لكن الخليفة عمر ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬كان من‬
‫رأيه النتظار عدة سنوات حتى يرسخ المسلمون في مصر وتثبت إمارتهم ويزداد جيش المسلمين‬
‫ويقوى عدةً وعتادًا‪.‬‬
‫انتقل عقبة ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬إلى برقة (منطقة في ليبيا) بأمر من عمرو بن العاص رضي ال عنه‬
‫؛ ِل ُيعَّلمَ المسلمين فيها أمور دينهم‪ ،‬وينشر السلم في هذه‬
‫المنطقة‪ ،‬ومكث ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬مخلصًا في نشر نور السلم‪ ،‬وتدعيم شعائره في نفوس الذين‬
‫أقبلوا على تعلم لغة القرآن ‪ ..‬فأسلم على يديه كثير منهم‪ ،‬وأحبوه حتى استطاع عقبة أن يكتسب‬
‫خبرة واسعة بكل أحوال البربر‪.‬‬
‫وتمر اليام والسنون وعقبة يواصل جهاده في سبيل ال‪ ،‬حتى كانت سنة (‪40‬هـ) وهي السنة التي‬
‫تولي فيها معاوية بن أبي سفيان الخلفة‪ ،‬وعاد عمرو بن العاص واليًا على مصر‪ ،‬وحين أراد‬
‫عمرو بن العاص أن يستكمل الفتوحات السلمية التي كان قد بدأها في برقة رأى أن خير من‬
‫يقوم بهذه الفتوحات عقبة بن نافع؛ لقامته بين البربر لسنوات عديدة‪ ،‬فأصبح من أكثر الناس‬
‫معرفة بحياة البربر وعاداتهم‬
‫وتقاليدهم‪.‬‬
‫وبدأ عقبة الجهاد في سبيل ال‪ ،‬ونشر السلم بين قبائل البربر‪ ،‬وكانت برقة آنذاك قد تغيرت‬
‫معالمها بعد أن اعتنق أهلها الدين السلمي‪ ،‬وانتشرت المساجد في كل مكان فيها‪ ،‬وظل عقبة‬
‫واليًا على برقة يدعو إلى السلم إلى أن جاءته رسالة من الخليفة يخبره فيها بأنه قد اختاره لفتح‬
‫إفريقية وأن جيشًا كبيرًا في الطريق إليه‪ ،‬ووصل‬
‫الجيش الذي أرسله الخليفة معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬وكان يبلغ عدده عشرة آلف‬
‫جندي‪ ،‬وكان في انتظاره جيش آخر من البربر الذين أسلموا‬
‫فحسن إسلمهم‪.‬‬
‫انطلق عقبة بجيشه المكون من العرب والبربر يفتتح البلد‪ ،‬ويقاتل القبائل التي ارتدت عن‬
‫السلم دون أن يقتل شيخًا كبيرًا‪ ،‬ول طفلً‪ ،‬ول امرأة‪ ،‬بل كان يعاملهم‬
‫معاملة طيبة‪ ،‬حسب تعاليم السلم في الحروب‪ ،‬واستطاع عقبة أن يستولي على منطقة (ودان)‬
‫وبعدها قام بالسيطرة على (فزان) ثم اتجه ناحية مدينة (خاوار) التي كانت تقع على قمة جبل‬
‫شديد الرتفاع‪ ،‬فكان من الصعب على الجيش‬
‫أن يتسلقه‪ ،‬فوصل عقبة إلى أسوار المدينة‪ ،‬ولكن أهلها دخلوا حصونهم فحاصرها حصارًا شديدًا‪.‬‬
‫وهنا تظهر عبقرية عقبة الحربية‪ ،‬فحين علم أن دخول المدينة أمر صعب‪ ،‬تراجع بجيشه مبتعدًا‬
‫عن المدينة‪ ،‬حتى ظن أهلها أن جيش المسلمين قد انسحب‪ ،‬ففتحوا أبواب مدينتهم آمنين‪ ،‬ولم يكن‬
‫تراجع عقبة إل حيلة من حيله الحربية‪ ،‬فقد علم أن هناك طريقًا آخر للوصول إلى هذه المدينة‬
‫فسار عقبة فيه‪ ،‬ولكنه فوجيء بأن هذا الطريق لم يسلكه أحد من قبل وليس فيه عشب ول ماء‪،‬‬
‫وكاد جيش عقبة يموت عطشًا‪ ،‬فاتجه إلى ال يسأله ويدعوه أن يخرجه من هذا المأزق الخطير‪.‬‬
‫فما كاد ينتهي من دعائه حتى رأى فرسه يضرب الرض برجليه بحثًا عن الماء من شدة العطش‪،‬‬
‫وحدث ما لم يكن في الحسبان‪ ،‬فقد استجاب ال دعاء عقبة وانفجر الماء من تحت أقدام الفرس‪،‬‬
‫وكبّر عقبةُ ومعه المسلمون‪ ،‬وأخذوا يشربون من هذا الماء العذب‪ ،‬ولما شرب الجيش وارتوى؛‬
‫أمر عقبة جنوده بأن يحفروا سبعين حفرة في هذا المكان علّهم يجدون ماء عذبًا‪ ،‬وتحققت قدرة‬
‫ال وأخذ الماء يتفجر من كل حفرة يحفرها المسلمون‪ ،‬ولما سمع البربر المقيمون بالقرب من هذه‬
‫المنطقة بقصة الماء أقبلوا من كل جهة يشاهدون ما حدث‪ ،‬واعتنق عدد كبير منهم السلم‪.‬‬
‫وانطلق عقبة ومعه جنوده إلى مدينة (خاوار) ودخلوها ليلً‪ ،‬ولما عاد عقبة فكر في بناء مدينة‬
‫يعسكر فيها المسلمون‪ ،‬فاختار مكانًا كثيف الشجار يسمي (قمونية)‬
‫جيد التربة‪ ،‬نقي الهواء ليبني فيه مدينته التي أسماها فيما بعد (القيروان) فقال لصحابه‪ :‬انزلوا‬
‫بسم ال‪.‬‬
‫وانشغل عقبة ببناء مدينة القيروان عن الفتح السلمي‪ ،‬وطلب (مسلمة بن مخلد النصاري)‬
‫وكان واليًا على مصر والمغرب من الخليفة معاوية بن أبي سفيان عزل عقبة وتعيين (أبي‬
‫المهاجر بن دينار) وبالفعل تمّ عزله‪ ،‬وفي عهد الخليفة يزيد بن‬
‫معاوية عاد عقبة إلى قيادة الجيش في إفريقية وأقام عقبة عدة أيام في القيروان يعيد تنظيم الجيش‬
‫حتى أصبح على أتم الستعداد للغزو والفتح‪ ،‬ثم انطلق إلى مدينة الزاب‬
‫(وهي المدينة التي يطلق عليها الن اسم قسطنطينة بالجزائر) يسكنها الروم‬
‫والبربر‪ ،‬والتحم الجيشان‪ ،‬وأظهر عقبة في هذه المعركة شجاعة نادرة‪ ،‬فكان يحصد رءوس‬
‫أعدائه حصدًا‪ ،‬أما الجنود المسلمون فقد استبسلوا في القتال حتى تم لهم النصر بإذن ال تعالى‪،‬‬
‫واستراح عقبة بن نافع وجيشه أيامًا قليلة‪ ،‬ثم أمر الجيش بالنطلق إلى (طنجة) في المغرب‬
‫القصى فدخلوها دون قتال‪ ،‬حيث خرج ملكها (يليان) لستقبال جيش المسلمين وأكرمهم ووافق‬
‫على كل مطالبهم‪.‬‬
‫وظل عقبة يجاهد في سبيل ال يتنقل من غزو إلى غزو ومن فتح إلى فتح حتى وصل إلى شاطئ‬
‫المحيط الطلنطي‪ ،‬فنزل بفرسه إلى الماء‪ ،‬وتطلع إلى السماء وقال‪:‬‬
‫ع َب َد غيرك‪..‬‬‫يا رب ‪ ..‬لول هذا المحيط لمضيت في البلد مدافعًا عن دينك‪ ،‬ومقاتلً من كفر بك و َ‬
‫وظن القائد البطل عقبة بن نافع أن البربر مالوا إلى الستسلم وأنهم ليس لديهم استعداد للحرب‬
‫مرة أخرى‪ ،‬فسبقه جيشه إلى القيروان‪ ،‬وبقي هو مع ثلثمائة مقاتل في مدينة طنجة ليتم فتح عدد‬
‫من الحاميات الرومية‪ ،‬ولما علم بعض أعداء السلم من البربر أن عقبة ليس معه إل عدد قليل‬
‫من رجاله‪ ،‬وجدوا الفرصة ملئمة للهجوم عليه‪ ،‬وكان على رأس هؤلء البربر (الكاهنة) ملكة‬
‫جبال أوراس (سلسلة جبال بالجزائر) وفوجئ البطل عقبة بن نافع عند بلدة (تهودة) بآلف الجنود‬
‫من البربر يهجمون عليه فاندفع بفرسه متقدمًا جنوده يضرب العداء بسيفه‪ ،‬متمنيًا الشهادة في‬
‫سبيل ال‪ ،‬حتى أحاط البربر به وجنوده من كل جانب‪ ،‬فاستشهدوا جميعًا‪ ،‬واستشهد معهم (عقبة‬
‫بن نافع) فرحمه ال رحمة واسعة‪ ،‬جزاء ما قدم للسلم‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫وكان استشهاد عقبة في مدينة تهودة سنة ‪64‬هـ (من أرض الزاب) بعد أن خاض كثيرًا من‬
‫المعارك‪ ،‬وذاق حلوة النصر‪ ،‬ورفع راية السلم‪ ،‬و ُيعَد استشهاد عقبة هزيمة عسكرية لكنه كان‬
‫نصرًا رائعًا لليمان‪ ،‬وتناقلت اللسن ملحمة عقبة بن نافع الفارس المؤمن الذي حمل رسالة دينه‬
‫إلى أقصى المعمورة‪ ،‬وأبى إل أن يستشهد بعد أن حمل راية دينه فوق الثمانية آلف كيلو متر‪.‬‬
‫عمر بن عبد العزيز‬

‫ج من بني أمية‪،‬‬
‫ن هذا الش ّ‬
‫رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رؤيا‪ ،‬فقام من نومه يردد‪ :‬مَ ْ‬
‫ن ولد عمر ُيسَمى عمر‪ ،‬يسير بسيرة عمر ويمل الرض عدلً‪.‬‬
‫ومِ ْ‬
‫ومرت اليام‪ ،‬وتحققت رؤيا أمير المؤمنين‪ ،‬ففي منطقة حلوان بمصر حيث يعيش وإلى مصر‬
‫عبد العزيز بن مروان وزوجته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب وُلِد‬
‫عمر بن عبد العزيز سنة ‪61‬هـ‪ ،‬وعني والده بتربيته تربية صالحة‪ ،‬وعلّمه القراءة والكتابة‪،‬‬
‫لكن عمر رغب أن يغادر مصر إلى المدينة ليأخذ منها العلم‪ ،‬فاستجاب‬
‫عبد العزيز بن مروان لرغبة ولده وأرسله إلى واحد من كبار علماء المدينة وصالحيها وهو‬
‫(صالح بن كيسان)‪.‬‬
‫حفظ عمر بن عبد العزيز القرآن الكريم‪ ،‬وظهرت عليه علمات الورع وأمارات التقوى‪ ،‬حتى‬
‫ت أحدًا ‪-‬ال أعظم في صدره‪ -‬من هذا الغلم‪ ،‬وقد‬
‫خبَرْ ُ‬
‫قال عنه معلّمه صالح بن كيسان‪ :‬ما َ‬
‫فاجأته أمه ذات يوم وهو يبكي في حجرته‪ ،‬فسألته‪ :‬ماذا حدث لك يا عمر؟ فأجاب‪ :‬ل شيء يا‬
‫أماه إنما ذكرتُ الموت‪ ،‬فبكت أمه‪.‬‬
‫وكان معجبًا إعجابًا شديدًا بعبد ال بن عمر ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬وكان دائمًا يقول لمه‪ :‬تعرفين‬
‫يا أماه لكونن مثل خالي عبد ال بن عمر‪ ،‬ولم تكن هذه الشياء وحدها هي التي تُنبئ بأن هذا‬
‫الطفل الصغير سيكون علمًا من أعلم السلم‪ ،‬بل كانت هناك علمات أخرى تؤكد ذلك‪ ،‬فقد‬
‫دخل عمر بن العزيز إلى إصطبل‬
‫ت أشجّ‬
‫أبيه‪ ،‬فضربه فرس فشجّه (أصابه في رأسه) فجعل أبوه يمسح الدم عنه‪ ،‬ويقول‪ :‬إن كن َ‬
‫بني أمية إنك إذن لسعيد‪.‬‬
‫وكان عمر نحيف الجسم أبيض الوجه حسن اللحية‪ ،‬وتمضي اليام والسنون ليصبح عمر بن‬
‫عبد العزيز شابّا فتيّا‪ ،‬يعيش عيشة هنيئة‪ ،‬يلبس أغلى الثياب‪ ،‬ويتعطر بأفضل العطور‪ ،‬ويركب‬
‫أحسن الخيول وأمهرها‪ ،‬فقد ورث عمر عن أبيه الكثير من الموال والمتاع والدواب‪ ،‬وبلغ‬
‫إيراده السنوي ما يزيد على الربعين ألف دينار‪ ،‬وزوّجه الخليفة عبد الملك بن مروان ابنته‬
‫غنًى وثراءً‪.‬‬
‫فاطمة‪ ،‬وكان عمر ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬وقتها في سن العشرين من عمره‪ ،‬فازداد ِ‬
‫ولما بلغ عمر بن عبد العزيز الخامسة والعشرين‪ ،‬اختاره الخليفة الموي الوليد بن‬
‫عبد الملك ليكون واليًا على المدينة وحاكمًا لها‪ ،‬ثم وله الحجاز كله‪ ،‬فنشر المن والعدل بين‬
‫الناس‪ ،‬وراح يعمّر المساجد‪ ،‬بادئًا بالمسجد النبوي الشريف‪ ،‬فحفر البار‪ ،‬وشق الترع‪ ،‬فكانت‬
‫وليته على مدن الحجاز كلها خيرًا وبركة‪ ،‬شعر فيها الناس بالمن والطمأنينة‪.‬‬
‫واتخذ عمر بن عبد العزيز مجلس شورى من عشرة من كبار فقهاء المدينة على رأسهم‬
‫التابعي الجليل (سعيد بن المسيّب) فلم يقطع أمرًا بدونهم‪ ،‬بل كان دائمًا يطلب منهم النصح‬
‫والمشورة‪ ،‬وذات مرة جمعهم‪ ،‬وقال لهم‪:‬‬
‫إني دعوتكم لمر تؤجرون فيه‪ ،‬ونكون فيه أعوانًا على الحق‪ ،‬ما أريد أن أقطع أمرًا إل‬
‫برأيكم أو برأي من حضر منكم‪ ،‬فإن رأيتم أحدًا يتعدّى أو بلغكم عن عامل (حاكم) ظلمة‬
‫فأُحرج بال على من بلغه ذلك إل أبلغني‪ ،‬فشكروه ثم انصرفوا‪ ،‬وظل عمر بن عبد العزيز في‬
‫ولية المدينة ست سنوات إلى أن عزله الخليفة الوليد بن‬
‫عبد الملك لن الحجاج أفهمه أن عمر أصبح يشكل خطرًا على سلطان بني أمية‪.‬‬
‫ذهب عمر إلى الشام ومكـث بها إلى أن مـات الـوليد بن عبد الملك‪ ،‬وتولى الخلفة بدلً‬
‫منه أخوه سليمان بن عبد الملك‪ ،‬وكان يحب عمر‪ ،‬ويعتبره أخًا وصديقًا ويأخذ بنصائحه‪،‬‬
‫وذات يوم مرض الخليفة مرض الموت‪ ،‬وشعر بأن نهايته قد‬
‫اقتربت‪ ،‬فشغله أمر الخلفة حيث إن أولده كلهم صغار ل يصلحون لتولي أمور الخلفة‪،‬‬
‫فشاور وزيره (رجاء بن حيوة) العالم الفقيه في هذا المر‪ ،‬فقال له‪:‬‬
‫إن مما يحفظك في قبرك ويشفع لك في أخراك‪ ،‬أن تستخلف على المسلمين رجل صالحًا‪.‬‬
‫قال سليمان‪ :‬ومن عساه يكون؟‬
‫قال رجاء‪ :‬عمر بن عبد العزيز‪.‬‬
‫فقال سليمان‪ :‬رضيت‪ ،‬وال لعقدن لهم عقدًا‪ ،‬ل يكون للشيطان فيه نصيب‪ ،‬ثم كتب العهد‪،‬‬
‫وكلف (رجاء) بتنفيذه دون أن َيعْلَ َم أحدٌ بما فيه‪.‬‬
‫مات سليمان‪ ،‬وأراد (رجاء بن حيوة) تنفيذ العهد لكن عمر كان ل يريد‬
‫الخلفة‪ ،‬ول يطمع فيها‪ ،‬ويعتبرها مسئولية كبيرة أمام ال‪ ،‬شعر عمر بن عبد العزيز بالقلق‬
‫وبعظم المسئولية‪ ،‬فقرر أن يذهب على الفور إلى المسجد حيث يتجمع المسلمون‪ ،‬وبعد أن‬
‫صعد المنبر قال‪ :‬لقد ابتليتُ بهذا المر على غير رَأْي ِمنّي‬
‫فيه‪ ،‬وعلى غير مشورة من المسلمين‪ ،‬وإني أخلع بيعة من بايعني‪ ،‬فاختاروا‬
‫لنفسكم‪ ،‬لكن المسلمين الذين عرفوا عدله وزهده وخشيته من ال أصرّوا على أن يكون‬
‫خليفتهم‪ ،‬وصاحوا في صوت واحد‪ :‬بل إياك نختار يا أمير المؤمنين‪ ،‬فبكي عمر‪.‬‬
‫وتولى الخلفة في يوم الجمعة‪ ،‬العاشر من صفر سنة ‪99‬هـ‪ ،‬ويومها جلس حزينًا مهمومًا‪،‬‬
‫وجاء إليه الشعراء يهنئونه بقصائدهم‪ ،‬فلم يسمح لهم‪ ،‬وقال لبنه‪ :‬قل‬
‫لهم {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس‪.]15 :‬‬
‫دخلت عليه زوجته فاطمة وهو يبكي‪ ،‬فسألته عن سرّ بكائه‪ ،‬فقال‪ :‬إني تَقَّلدْتُ (توليت) من أمر‬
‫ت في الفقير الجائع‪ ،‬والمريض‬
‫أمة محمد ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬أسودها وأحمرها‪ ،‬فتفكر ُ‬
‫الضائع‪ ،‬والعاري والمجهود‪ ،‬والمظلوم المقهور‪ ،‬والغريب‬
‫السير‪ ،‬والشيخ الكبير‪ ،‬وذوي العيال الكثيرة‪ ،‬والمال القليل‪ ،‬وأشباههم في أقطار الرض‬
‫وأطراف البلد‪ ،‬فعلمتُ أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة‪ ،‬فخشيتُ أل تثبتَ لي حجة فبكيتُ‪.‬‬
‫وترك عمر زينة الحياة الدنيا‪ ،‬ورفض كل مظاهر الملك التي كانت لمن قبله من الخلفاء‪ ،‬وأقام‬
‫في بيت متواضع بدون حـرس ول حجاب‪ ،‬ومنع نفسه التمتع بأمواله‪ ،‬وجعلها لفقراء‬
‫المسلمين‪ ،‬وتنازل عن أملكه التي ورثها عن أبيه‪ ،‬ورفض أن يأخذ راتبًا من بيت المال‪ ،‬كما‬
‫جرّد زوجته فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان من حليها وجواهرها الثمينة‪ ،‬وطلب‬
‫منها أن تعطيها لبيت المال‪ ،‬فقال لها‪:‬‬
‫اختاري‪..‬إما أن تردي حليك إلى بيت المال‪ ،‬وإما أن تأذني لي في فراقك‪ ،‬فإني أكره أن أكون‬
‫أنا وأنت ومعك هذه الجواهر في بيت واحد‪ ،‬فأنت تعلمين من أين أتى أبوك بتلك الجواهر‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬بل أختارك يا أمير المؤمنين عليها وعلى أضعافها لو كانت لي‪ ،‬فأمر عمر بتلك‬
‫الجواهر فوضعت في بيت المال‪.‬‬
‫ص بألف درهم‪ ،‬فكتب إليه يلومه‪ ،‬ويقول له‪ :‬بِعه‬
‫وبلغه أن أحد أولده اشترى خاتمًا له ف ّ‬
‫وأشبع بثمنه ألف جائع‪ ،‬واشترِ بدلً منه خاتمًا من حديد‪ ،‬واكتب عليه‪ :‬رحم ال امرءًا عرف‬
‫قدر نفسه‪.‬‬
‫ويحكى أن عمر بن عبد العزيز ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬كان يقسم تفاحًا للمسلمين‪ ،‬وبينما هو يفرقه‬
‫ويقسمه على من يستحقه إذ أخذ ابن صغير له تفاحة‪ ،‬فقام عمر وأخذ التفاحة من فمه‪ ،‬فذهب‬
‫الولد إلى أمه وهو يبكي‪ ،‬فلما علمت السبب‪ ،‬اشترت له تفاحًا‪ ،‬فلما رجع عمر شم رائحة‬
‫التفاح‪ ،‬فقال لزوجته‪ :‬يا فاطمة‪ ،‬هل أخذت شيئًا من تفاح المسلمين؟ فأخبرته بما حدث‪ ،‬فقال‬
‫لها‪ :‬وال لقد انتزعتها من ابني‬
‫ت أن أضيّع نفسي بسبب تفاحة من تفاح المسلمين!!‬
‫فكأنما انتزعتُها من قلبي‪ ،‬لكني كره ُ‬
‫وها هو ذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي تحت تصرفه وطوع أمره أموال الدولة‬
‫وكنوزها‪ ،‬يقول لزوجته يومًا‪ :‬تشتهي نفسي عسل لبنان‪ ،‬فأرسلت فاطمة إلى ابن معد يكرب‪،‬‬
‫عامل (أمير) لبنان‪ ،‬وذكرت له أن أمير المؤمنين يشتهي عسل‬
‫لبنان‪ ،‬فأرسل إليها بعسل كثير‪ ،‬فلما رآه عمر غضب‪ ،‬وقال لها‪ :‬كأني بك يا فاطمة قد بعثتِ‬
‫إلى ابن معد يكرب‪ ،‬فأرسل لك هذا العسل؟ ثم أخرج عمر العسل إلى السوق‪ ،‬فباعه‪ ،‬وأدخل‬
‫ت لمثلها فلن تلي لي‬
‫عدْ َ‬
‫ثمنه بيت المال‪ ،‬وبعث إلى عامله على لبنان يلومه‪ ،‬ويقول له‪ :‬لو ُ‬
‫عمل أبدًا‪ ،‬ول أنظر إلى وجهك‪.‬‬
‫وكان عمر بن عبد العزيز حليمًا عادلً‪ ،‬خرج ذات ليلة إلى المسجد ومعه رجل من الحراس‪،‬‬
‫فلما دخل عمر المسجد مرّ في الظلم برجل نائم‪ ،‬فأخطأ عمر وداس‬
‫عليه‪ ،‬فرفع الرجل رأسه إليه وقال أمجنون أنت؟ فقال‪ :‬ل‪ ،‬فتضايق الحارس و َه ّم أن يضرب‬
‫الرجل النائم فمنعه عمر‪ ،‬وقال له‪ :‬إن الرجل لم يصنع شيئًا غير أنه‬
‫سألني‪ :‬أمجنون أنت؟ فقلت‪ :‬ل‪.‬‬
‫وكان عمر بن عبد العزيز ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬رقيق المشاعر‪ ،‬رحيمًا بالنسان‬
‫والحيوان‪ ،‬كتب ذات يوم إلى واليه في مصر قائلً له‪ :‬بلغني أن الحمالين في مصر يحملون‬
‫فوق ظهور البل فوق ما تطيق‪ ،‬فإذا جاءك كتابي هذا‪ ،‬فامنع أن يحمل على البعير أكثر من‬
‫ستمائة رطل‪.‬‬
‫وقد حرص عمر الزاهد العادل التقي على أل يقرب أموال المسلمين ول يمد يده إليها‪ ،‬فهي‬
‫أمانة في عنقه‪ ،‬سيحاسبه ال عليها يوم القيامة‪ ،‬فكان له مصباح يكتب عليه الشياء التي‬
‫تخصه‪ ،‬ومصباح لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين ل يكتب على ضوئه لنفسه‬
‫حرفًا‪..‬وذات مرة سخنوا له الماء في المطبخ العام‪ ،‬فدفع درهمًا ثمنًا للحطب!!‬
‫لقد كان همه الول والخير أن يعيش المسلمون في عزة وكرامة‪ ،‬ينعمون بالخير والمن‬
‫والمان‪ ،‬كتب إلى أحد أمرائه يقول‪ :‬لبد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه‪ ،‬وخادم‬
‫يكفيه مهنته‪ ،‬وفرس يجاهد عليه عدوه‪ ،‬وأثاث في بيته‪ ،‬وكان يأمر عماله بسداد الديون عن‬
‫المحتاجين‪ ،‬وتزويج من ل يقدر على الزواج‪ ،‬بل إن مناديه كان ينادي في كل يوم‪ :‬أين‬
‫الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى استطاع بفضل من ال أن يغنيهم‬
‫جميعًا‪.‬‬
‫خرج عمر راكبًا ليعرف أخبار البلد‪ ،‬فقابله رجل من المدينة المنورة فسأله عن حال المدينة‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إن الظالم فيها مهزوم‪ ،‬والمظلوم فيها ينصره الجميع‪ ،‬وإن‬
‫الغنياء كثيرون‪ ،‬والفقراء يأخذون حقوقهم من الغنياء‪ ،‬ففرح عمر فرحًا شديدًا وحمد ال‪،‬‬
‫وهكذا رجـل مـن ولـد (زيـد بن الخطــاب) يقول‪( :‬إنما ولي عمر بن عبد العزيز‬
‫سنتين ونصفًا‪ ،‬فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال‬
‫العظيم‪ ،‬فيقول‪ :‬اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء‪ ،‬فما يبرح حتى يرجع بماله‪ ،‬يبحث عمن‬
‫يعطيه فما يجد‪ ،‬فيرجع بماله‪ ،‬قد أغنى ال الناس على يد عمر)‪.‬‬
‫طُلب منه أن يأمر بكسوة الكعبة‪،‬كما جرت العادة بذلك كل عام‪ ،‬فقال‪ :‬إني رأيت أن أجعل ذلك‬
‫(ثمن كسوة الكعبة) في أكباد جائعة‪،‬فإنه أولى بذلك من البيت‪ ،‬وبعد فترة حكمه التي دامت‬
‫تسعة وعشرين شهرًا‪ ،‬اشتد عليه المرض‪ ،‬فجاءه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك‪ ،‬فقال له‪ :‬يا‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬أل توصي لولدك‪ ،‬فإنهم‬
‫كثيرون‪ ،‬وقد أفقرتهم‪ ،‬ولم تترك لهم شيئًا؟!‬
‫فقال عمر‪ :‬وهل أملك شيئًا أوصي لهم به‪ ،‬أم تأمرني أن أعطيهم من مال المسلمين؟ وال ل‬
‫أعطيهم حق أحد‪ ،‬وهم بين رجلين‪ :‬إما أن يكونوا صالحين فال‬
‫يتولهم‪ ،‬وإما غير صالحين فل أدع لهم ما يستعينون به على معصية ال‪ ،‬وجمع أولده‪ ،‬وأخذ‬
‫ينظر إليهم‪ ،‬ويتحسس بيده ثيابهم الممزقة؛ حتى ملئت عيناه‬
‫خيّر بين أمرين‪ :‬بين أن تستغنوا (أي تكونوا أغنياء) ويدخل‬
‫بالدموع‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا َبنِي‪ ،‬إن أباكم ُ‬
‫أبوكم النار‪ ،‬وبين أن تفتقروا‪ ،‬ويدخل أبوكم الجنة‪ ،‬فاختار‬
‫ت أمركم إلى ال وهو يتولى الصالحين‪.‬‬
‫الجنة‪ ..‬يا َبنِي‪ ،‬حفظكم ال ورزقكم‪ ،‬وقد ترك ُ‬
‫ثم قال لهله‪ :‬اخرجوا عني‪ ،‬فخرجوا‪ ،‬وجلس على الباب َمسْلَمة بن عبد الملك وأخته فاطمة‪،‬‬
‫فسمعاه يقول‪ :‬مرحبًا بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ول جان‪ ،‬ثم قرأ‪{ :‬تلك الدار الخرة‬
‫نجعلها للذين ل يريدون علوًا في الرض ول فسادًا والعاقبة للمتقين} [القصص‪.]83 :‬‬
‫ومات عمر بعد أن ضرب المثل العلى في العدل والزهد والورع‪ ...‬مات أمير المؤمنين‬
‫خامس الخلفاء الراشدين!!‬

‫معاذ بن جبل‬

‫إمام العلماء‬

‫هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس‪ ،‬يكنى أبا عبد الرحمن‪ ،‬وأسلم وهو ابن ثماني عشرة‬
‫سنة‪ ،‬وش هد العق بة مع ال سبعين وبدرًا والمشا هد كل ها مع ر سول ال‪ ،‬وأرد فه ر سول ال‬
‫وراءه‪ ،‬وبعثه إلى اليمن بعد غزوة تبوك وشيعه ماشيًا في مخرجه وهو راكب‪ ،‬وكان له من‬
‫الولد عبد الرحمن وأم عبد ال وولد آخر لم يذكر اسمه‪.‬‬

‫صفته رضي ال عنه‬

‫عن أبي بحرية يزيد بن قطيب السكونى قال‪ :‬دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى حوله الناس‪،‬‬
‫جعد قطط‪ ،‬فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ‪ ،‬فقلت من هذا قالوا معاذ بن جبل‪.‬‬

‫وعن أبي مسلم الخولني قال‪ :‬أتيت مسجد دمشق فإذا حلقة فيها كهول من أصحاب محمد‬
‫وإذا شاب في هم أك حل العيـن براق الثنايـا كلمـا اختلفوا في شيـء ردوه إلى الفتـى قال‪ :‬قلت‬
‫لجليس لي من هذا؟ قالوا هذا معاذ بن جبل‪.‬‬
‫طوَال أب يض ح سن الش عر عظ يم العين ين‬
‫و عن الواقدي عن أشياخ له قالوا‪ :‬كان معاذ رجل َ‬
‫مجموع الحاجبين جعدا قططا‪.‬‬

‫ثناء رسول ال على معاذ‬

‫عن أنس قال‪ :‬قال رسول ال‪[ :‬أعلم أمتي بالحلل والحرام معاذ بن جبل] رواه المام أحمد‪.‬‬

‫وعن عاصم بن حميد عن معاذ بن جبل قال‪ :‬لما بعثه رسول ال إلى اليمن خرج معه رسول‬
‫ال يوصيه ومعاذ راكب ورسول ال يمشي تحت راحلته‪ ،‬فلما فرغ قال‪ :‬يا معاذ‪ ،‬إنك عسى‬
‫أل تلقا ني ب عد عا مي هذا‪ ،‬ولعلك ت مر بم سجدي هذا و قبري‪ ،‬فب كى معاذ خشعًا لفراق ر سول‬
‫ال‪ ،‬ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال‪ :‬إن أولى الناس بي المتقون من كانوا وحيث‬
‫كانوا‪.‬‬

‫ثناء الصحابة عليه‬

‫عن الشعبي قال‪ :‬حدثني فروة بن نوفل الشجعي قال‪ :‬قال ابن مسعود‪ :‬إن معاذ بن جبل كان‬
‫أمةً قانتًا ل حنيفًا‪ ،‬فق يل إن إبراه يم كان أمةً قانتًا ل حنيفًا‪ ،‬فقال ما ن سيت هل تدري ما‬
‫المة؟ وما القانت فقلت‪ :‬ال أعلم‪ ،‬فقال‪ :‬المة الذي يعلم الخير‪ ،‬والقانت المطيع ل عز وجل‬
‫وللرسول‪ ،‬وكان معاذ بن جبل يعلم الناس الخير وكان مطيعًا ل عز وجل ورسوله‪.‬‬

‫وعن شهر بن حوشب قال‪ :‬كان أصحاب محمد إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له‪.‬‬

‫نبذة من زهده‬

‫عن مالك الداري أن ع مر بن الخطاب ر ضي ال ع نه أ خذ أربعمائة دينار فجعل ها في صرة‬


‫فقال للغلم اذ هب ب ها إلى عبيدة بن الجراح ثم تَلَهّ ساعةً في الب يت ح تى تن ظر ما ي صنع‪،‬‬
‫فذهـب الغلم قال‪ :‬يقول لك أميـر المؤمنيـن اجعـل هذه فـي بعـض حاجتـك‪ ،‬قال‪ :‬وصـله ال‬
‫ورحمـه‪ ،‬ثـم قال‪ :‬تعالي يـا جاريـة اذهـبي بهذه السـبعة إلى فلن‪ ،‬وبهذه الخمسـة إلى فلن‪،‬‬
‫وبهذه الخم سة إلى فلن ح تى أنفذ ها‪ ،‬فر جع الغلم إلى ع مر فأ خبره فوجده قد أ عد مثل ها‬
‫لمعاذ بن جبل فقال‪ :‬اذهب بها إلى معاذ بن جبل وتَ َلهّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع‪،‬‬
‫فذهب بها إليه‪ ،‬قال‪ :‬يقول لك أمير المؤمنين اجعل هذه في بعض حاج تك‪ ،‬فقال‪ :‬رحمه ال‬
‫ووصـله‪ ،‬تعالي يـا جاريـة اذهـبي إلى بيـت فلن بكذا‪ ،‬اذهـبي إلى بيـت فلن بكذا‪ ،‬فاطلعـت‬
‫امرأته فقالت‪ :‬ونحن وال مساكين فأعطنا‪ ،‬ولم يبق في الخرقة إل ديناران فدحا (فدفع) بهما‬
‫إليها‪ ،‬فرجع الغلم إلى عمر فأخبره بذلك فقال‪ :‬إنهم إخوة بعضهم من بعض‪.‬‬

‫نبذة من ورعه‬

‫عن يح يى بن سعيد قال‪ :‬كا نت ت حت معاذ بن ج بل امرأتان فإذا كان ع ند إحداه ما لم يشرب‬
‫في بيت الخرى الماء‪.‬‬

‫وعن يحيى بن سعيد أن معاذ بن جبل كانت له امرأتان فإذا كان يوم إحداهما لم يتوضأ في‬
‫بيت الخرى ثم توفيتا في السقم الذي بالشام والناس في شغل فدفنتا في حفرة فأسهم بينهما‬
‫أيتهما تقدم في القبر‪.‬‬

‫نبذة من تعبده واجتهاده‬

‫عن ثور بن يز يد قال‪ :‬كان معاذ بن ج بل إذا ته جد من الل يل قال‪ :‬الل هم قد نا مت العيون‬
‫وغارت النجوم وأ نت حي قيوم‪ :‬الل هم طل بي للج نة بط يء‪ ،‬وهر بي من النار ضع يف‪ ،‬الل هم‬
‫اجعل لي عندك هدى ترده إلي يوم القيامة إنك ل تخلف الميعاد‪.‬‬

‫جوده وكرمه‬

‫عن ا بن ك عب بن مالك قال‪ :‬كان معاذ بن ج بل شابّ ا جميل سمحًا من خ ير شباب قو مه ل‬


‫يسأل شيئا إل أعطاه حتى أدان دينا أغلق ماله فكلم رسول ال أن يكلم غرماءه أن يضعوا له‬
‫شيئا ففعل فلم يضعوا له شيئا‪ ،‬فدعاه النبي فلم يبرح حتى باع ماله فقسمه بين غرمائه فقام‬
‫معاذ ل مال له قال الشيخ رحمه ال‪ :‬كان غرماؤه من اليهود فلهذا لم يضعوا له شيئًا‪.‬‬

‫نبذة من مواعظه وكلمه‬

‫عن أ بي إدر يس الخول ني أن معاذ بن ج بل قال إن من ورائ كم فت نا يك ثر في ها المال ويف تح‬


‫فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والصغير والكبير والحمر والسود فيوشك قائل أن‬
‫يقول ما لي أقرأ على الناس القرآن فل يتبعو ني عل يه ف ما أظن هم يتبعو ني عل يه ح تى أبتدع‬
‫ل هم غيره إيا كم وإيا كم و ما ابتدع‪ ،‬فإن ما ابتدع ضللة وأحذر كم زي غة الحك يم فإن الشيطان‬
‫يقول علي في الحك يم كل مة الضللة‪ ،‬و قد يقول المنا فق كل مة ال حق فاقبلوا ال حق فإن على‬
‫ال حق نورًا‪ ،‬قالوا‪ :‬و ما يدري نا رح مك ال أن الحك يم قد يقول كل مة الضللة؟ قال هي كل مة‬
‫تنكرونها منه وتقولون ما هذه فل يثنكم فإنه يوشك أن يفيء ويراجع بعض ما تعرفون‪.‬‬

‫وعن عبد ال بن سلمة قال‪ :‬قال رجل لمعاذ بن جبل‪ :‬علمني‪ ،‬قال وهل أنت مطيعي قال‪ :‬إني‬
‫على طاع تك لحر يص قال‪ :‬صم وأف طر‪ ،‬و صل و نم‪ ،‬واكت سب ول تأ ثم‪ ،‬ول تمو تن إل وأ نت‬
‫مسلم‪ ،‬وإياك ودعوة المظلوم‪.‬‬

‫و عن معاو ية بن قرة قال‪ :‬قال معاذ بن ج بل لب نه‪ :‬يا ب ني‪ ،‬إذا صليت فصل صلة مودع ل‬
‫تظن أنك تعود إليها أبدًا واعلم يا بني أن المؤمن يموت بين حسنتين‪ :‬حسنة قدمها وحسنة‬
‫أخرها‪ .‬وعن أبي إدريس الخول ني قال‪ :‬قال معاذ‪ :‬إنك تجالس قومًا ل محالة يخوضون في‬
‫الحديث‪ ،‬فإذا رأيتهم غفلوا فارغب إلى ربك عند ذلك رغبات‪ .‬رواهما المام أحمد‪.‬‬

‫وعن محمد بن سيرين قال‪ :‬أتى رجل معاذ بن جبل ومعه أصحابه يسلمون عليه ويودعونه‬
‫ح ِفظْ تَ إنه ل غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت‬
‫فقال‪ :‬إني موصيك بأمرين إن حفظتهما ُ‬
‫إلى نصيبك من الخرة أفقر‪ ،‬فآثر من الخرة على نصيبك من الدنيا حتى ينتظمه لك انتظاما‬
‫فتزول به معك أينما زلت‪.‬‬

‫وعن السود بن هلل قال‪ :‬كنا نمشي مع معاذ فقال‪ :‬اجلسوا بنا نؤمن ساعة‪.‬‬

‫وعـن أشعـث بـن سـليم قال‪ :‬سـمعت رجاء بـن حيوة عـن معاذ بـن جبـل قال‪ :‬ابتليتـم بفتنـة‬
‫الضراء فصبرتم‪ ،‬وستبتلون بفتنة السراء‪ ،‬وأخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسورن‬
‫الذهب ولبسن رياط الشام وعصب اليمن فأتعبن الغني وكلفن الفقير ما ل يجد‪.‬‬

‫مرضه ووفاته‬

‫عـن طارق بـن عبـد الرحمـن قال‪ :‬وقـع الطاعون بالشام فاسـتغرقها فقال الناس مـا هذا إل‬
‫الطوفان إل أ نه ل يس بماء‪ ،‬فبلغ معاذ بن ج بل فقام خطيبًا فقال‪ :‬إ نه قد بلغ ني ما تقولون‬
‫وإن ما هذه رحمة ربكم ودعوة نبيكم‪ ،‬وكموت ال صالحين قبلكم‪ ،‬ولكن خافوا ما هو أشد من‬
‫ذلك أن يغدو الرجل منكم من منزله ل يدري أمؤمن هو أو منافق‪ ،‬وخافوا إمارة الصبيان‪.‬‬

‫و عن ع بد ال بن را فع قال ل ما أ صيب أ بو عبيدة في طاعون عمواس ا ستخلف على الناس‬


‫معاذ بن جبل واشتد الوجع فقال الناس لمعاذ ادع ال أن يرفع عنا هذا الرجز فقال إنه ليس‬
‫برجز ولكنه دعوة نبيكم‪ ،‬وموت الصالحين قبلكم وشهادة يختص ال بها من يشاء من عباده‬
‫منكم‪ ،‬أيها الناس أربع خلل من استطاع منكم أن ل يدركه شيء منها فل يدركه شيء منها‪،‬‬
‫قالوا وما هن قال يأتي زمان يظهر فيه الباطل ويصبح الرجل على دين ويمسي على آخر‪،‬‬
‫ويقول الر جل وال ل أدري علم أ نا؟ ل يع يش على ب صيرة ول يموت على ب صيرة‪ ،‬ويع طى‬
‫الرجـل مـن المال مال ال على أن يتكلم بكلم الزور الذي يسـخط ال‪ ،‬اللهـم آت آل معاذ‬
‫نصيبهم الوفى من هذه الرحمة‪ ،‬فطعن ابناه فقال‪ :‬ك يف تجدانك ما؟ قال‪ :‬يا أبانا {الحق من‬
‫ربـك فل تكونـن مـن الممتريـن} قال‪ :‬وأنـا سـتجداني إن شاء ال مـن الصـابرين‪ ،‬ثـم طعنـت‬
‫امرأتاه فهلكتا وطعن هو في إبهامه فجعل يمسها بفيه ويقول‪ :‬اللهم إنها صغيرة فبارك فيها‬
‫فإنك تبارك في الصغيرة حتى هلك‪.‬‬

‫وات فق أ هل التار يخ أن معاذًا ـ ر ضي ال ع نه ـ مات في طاعون عمواس بناح ية الردن‬


‫من الشام سنة ثما ني عشرة‪ ،‬واختلفوا في عمره على قول ين‪ :‬أحده ما‪ :‬ثمان وثلثون سنة‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬ثلث وثلثون‪.‬‬

‫موسى بن نصير‬

‫(وايم ال ل أريد هذه القلع والجبال الممتنعة حتى يضع ال أرفعها‪ ،‬ويذل‬
‫أمنعها‪ ،‬ويفتحها على المسلمين بعضها أو جميعها‪ ،‬أو يحكم ال لي‪ ،‬وهو خير الحاكمين)‪ ..‬ما‬
‫أروع كلمك أيها القائد العظيم‪.‬‬
‫في خلفة (عمر بن الخطاب) ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬ولد (موسى بن نصير)‬
‫سنة ‪19‬هـ‪640/‬م في قرية من قرى الخليل في شمال فلسطين تسمي (كفر مترى) فتعلم الكتابة‪،‬‬
‫وحفظ القرآن الكريم‪ ،‬والحاديث النبوية الشريفة‪ ،‬ونظم الشعر‪ ،‬ولما كان والده (نصير) قائدًا‬
‫لحرس معاوية بن أبي سفيان ومن كبار معاونيه؛ تهيأت الفرصة لـ(موسى) لن يكون قريبًا من‬
‫كبار قادة الفتح‪ ،‬وأصحاب الرأي والسياسة‪ ،‬ويرى عن قرب ما يحدث في دار الخلفة ‪.‬‬
‫وشب موسى وهو يشاهد جيوش المسلمين تجاهد في سبيل ال‪ ،‬لنشر الدين السلمي في ربوع‬
‫الرض‪ ،‬ورأى والده وهو يستعد لحدى الحروب‪ ،‬وقد لبس‬
‫خوذته‪ ،‬وتقلد سيفه‪ ،‬فنظر إليه وأطال النظر‪ ،‬وتمنى أن يكون مثل أبيه يجاهد في سبيل ال‬
‫ويرفع راية السلم‪ ،‬وجاءت اللحظة الموعودة لينال موسى قيادة بعض الحملت البحرية التي‬
‫وجهها معاوية لعادة غزو (قبرص) التي سبق أن فتحها معاوية في سنة ‪27‬هـ؛ فنجح في‬
‫غزوها‪ ،‬وبنى هناك حصونًا‪ ،‬ثم تولى إمارتها‪ ،‬وفي سنة ‪53‬هـ (‪673‬م)‪ ،‬كان موسى أحد القادة‬
‫الذين خرجوا لغزو جزيرة (رودس) التي انتصر المسلمون فيها‪.‬‬
‫وتمر اليام والسنون ويتولى مروان بن الحكم الخلفة‪ ،‬ويتحين موسى بن نصير الفرصة ليحقق‬
‫أحلمه وطموحاته‪ ،‬ففي سنة ‪65‬هـ‪684 /‬م أمر مروان بتجهيز الجيش للسير به نحو مصر‪،‬‬
‫وزحف الجند مسرعين بقيادة ابنه (عبد العزيز) وصديقه‬
‫(موسى بن نصير) ووصل الجيش إلى مصر‪ ،‬واستطاع مروان أن يضمها تحت لواء‬
‫المروانيين المويين‪ ،‬ثم غادرها إلى دمشق بعد أن عين ابنه (عبد العزيز) واليًا‪ ،‬وجعل موسى‬
‫بن نصير وزيرًا له‪.‬‬
‫وعاش موسى مع عبد العزيز بن مروان في مصر‪ ،‬فكان موضع سره‪ ،‬ووزيره‬
‫الول‪ ،‬يساعده في حكم مصر‪ ،‬حتى ازدادت خبرة موسى في شئون السياسة‬
‫والحكم‪ ،‬ومات مروان‪ ،‬وتولى الخلفة بدلً منه ابنه (عبد الملك) وكان‬
‫عبد العزيز بن مروان يشيد بشجاعة موسى وإخلصه أمام الخليفة مما جعله يخص موسى‬
‫بالحفاوة والتكريم‪.‬‬
‫وفي يوم من اليام حمل البريد رسالة من الخليفة إلى أخيـه عبد العزيز والي مصر يخبره فيها‬
‫بأنه قد عين أخاه بشر بن مروان واليًا على البصرة‪ ،‬وجعل موسى بن نصير وزيرًا يساعده‬
‫على إدارة الولية ورئيسًا لديوان العراق‪ ،‬ومكن ال لموسى‪ ،‬وثبت أركان وزارته‪ ،‬فلم يمضِ‬
‫وقت طويل‪ ،‬حتى عين الخليفة أخاه بشرًا على‬
‫الكوفة‪ ،‬وبذلك ترك لموسى بن نصير ولية البصرة ليدير شئونها وحده بوعي‬
‫ع ّينَه صديقه عبد العزيز بن مروان واليًا على شمال إفريقية بدلً من‬‫وبصيرة‪ ،‬ثم َ‬
‫حسان بن النعمان الذي غضب عليه عبد العزيز‪.‬‬
‫وتمكن موسى في زمن قصير من تجهيز جيش إسلمي قوي قادر على النصر‪ ،‬وسار برجاله‪،‬‬
‫ووقف بينهم خطيبًا‪ ،‬فقال بعد أن حمد ال وأثني عليه‪ :‬إنما أنا رجل كأحدكم‪ ،‬فمن رأى مني‬
‫حسنة فليحمد ال‪ ،‬وليحضّ على مثلها‪ ،‬ومن رأى مني سيئة فلينكرها‪ ،‬فإني أخطئ كما تخطئون‪،‬‬
‫وأصيب كما تصيبون‪ ..‬ثم انطلق موسى بجيشه نحو المغرب حيث تزعزع المن هناك برحيل‬
‫المير السابق حسان بن النعمان وقيام البربر بالعديد من الغارات على المسلمين‪.‬‬
‫واستطاع موسى أن يهزم قبائل البربر التي خرجت عن طاعة المسلمين‪ ،‬ولما وصل إلى مدينة‬
‫القيروان‪ ،‬صلى بالجند صلة شكر ل على النصر‪ ،‬ثم صعد المنبر وخطب قائلً‪( :‬وايم ال ل‬
‫أريد هذه القلع والجبال الممتنعة حتى يضع ال أرفعها‪ ،‬ويذل‬
‫أمنعها‪ ،‬ويفتحها على المسلمين بعضها أو جميعها‪ ،‬أو يحكم ال لي وهو خير الحاكمين)‬
‫وانتشرت جيوش (موسى بن نصير) في شرق المغرب وشماله تفتح كل ما يصادفها من‬
‫الحصون المنيعة‪ ،‬حتى أخضع القبائل التي لم تكن قد خضعت بعد للمسلمين‪.‬‬
‫وتطلع موسى إلى فتح (طنجة) التي كانت تحت سيادة المير الرومي‬
‫(يوليان) فانطلق من قاعدته في القيروان بجيش كبير تحت قيادة طارق بن زياد حتى وصل إلى‬
‫(طنجة) فحاصرها حصارًا طويل وشديدًا حتى فتحها‪ ،‬وأقام للمسلمين مُدنًا جديدة فيها‪ ،‬وأسلم‬
‫أهلها‪ ،‬وبعث موسى لصديقه عبد العزيز يبشره بالفتح‪ ،‬وأن خُمس الغنائم قد بلغ ثلثين ألفًا‪،‬‬
‫وجاءت الرسل إلى الخليفة في دمشق تزفّ إليه خبر النصر‪ ،‬ففرح فرحًا شديدًا لنتصارات‬
‫موسى‪ ،‬وكافأه على انتصاراته‪ ،‬ولم يكتفِ موسى بهذه النتصارات‪ ،‬بل أخذ يجهز أسطول‬
‫بحريّا‪ ،‬وأمر في الحال ببناء ترسانة بحرية في تونس‪ ،‬فجاء بصانعي المراكب‪ ،‬وأمرهم بإقامة‬
‫مائة مركب‪.‬‬
‫وبعد أن تمّ له إنشاء السفن أمر جنوده بأن يركبوا السفن وعلى رأسهم ابنه‬
‫عبد ال‪ ،‬ثم أمره بفتح جزيرة (صقلية) وسار عبد ال بن موسى بجند الحق حتى وصل إلى‬
‫الجزيرة فدخلها‪ ،‬وأخذ منها غنائم كثيرة‪ ،‬حتى وصل نصيب الجندي مائة دينار من الذهب‪،‬‬
‫وكان عدد الجنود المسلمين ما بين التسعمائة إلى اللف‪ ،‬ثم عـاد‬
‫عبد ال بن موسى من غزواته سالمًا غانمًا‪ ،‬وبعث موسى قائده (عياش بن أخيل) على مراكب‬
‫أهل إفريقية‪ ،‬ففتح جزيرة صقلية للمرة الثانية‪ ،‬واستولى على مدينة من مدنها تسمي (سرقوسة)‬
‫وعاد منتصرًا‪.‬‬
‫وفي سنة ‪89‬هـ بعث موسى بن نصير (عبد ال بن فرة) لغزو (سردينيا) ففتحها‪ ،‬وفي العام‬
‫نفسه‪ ،‬جهز موسى ولده عبد ال‪ ،‬بما يحتاجه من جند وعتاد‪ ،‬ثم سار في‬
‫البحر‪ ،‬ففتح جزيرتي (ميورقة) و(منورقة) وهما جزيرتان في البحر بين صقلية والشاطئ‬
‫الندلسي‪.‬‬
‫وبدأ موسى بن نصير ينشر دين ال في المدن المفتوحة‪ ،‬ونجح في ذلك نجاحًا‬
‫كبيرًا‪ ،‬وحكم بين أهل هذه البلد بالعدل‪ ،‬ل يفرق بين عربي وأعجمي إل بالتقوى والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬فأحبوا السلم‪ ،‬واستجابوا لدعوة الحق‪ ،‬ودخلوا في دين ال‬
‫أفواجًا‪ ،‬وتحولوا من الشرك والكفر إلى السلم والتوحيد بفضل ال أول‪ ،‬ثم بجهود موسى‬
‫وبطولته‪.‬‬
‫ولما ضمن موسى ولء أهل المغرب واستمساكهم بدعوة السلم‪ ،‬أخذ يعد العدة لغزو جديد‪،‬‬
‫وبينما هو يفكر في هذا المر إذ جاءه رسول من قبل طارق بن زياد يخبره بأن يوليان حاكم‬
‫(سبته) عرض عليه أن يتقدم لغزو أسبانيا‪ ،‬وأنه على استعداد لمعاونة العرب في ذلك‪ ،‬وتقديم‬
‫السفن اللزمة لنقل الجنود المسلمين‪ ،‬وبعث موسى إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يستشيره‪،‬‬
‫ل بالسرايا يعني بقلة من الجنود حتى ترى وتختبر شأنها ول‬ ‫فردّ عليه الخليفة بقوله‪( :‬خضها أو ً‬
‫تغرر بالمسلمين في بحر شديد الهوال)‪.‬‬
‫فأرسل موسى رجلً من البربر يسمى (طريف بن مالك) في مائة فارس وأربعمائة رجل‪،‬‬
‫وركب هو وجنوده البحر في أربعة مراكب حتى نزل ساحل الندلس فأصاب سبيًا كثيرًا ومالً‬
‫وفيرًا‪ ،‬ثم رجع إلى المغرب غانمًا سالمًا‪ ،‬وفي شهر رجب من‬
‫عام ‪92‬هـ جهز موسى جيشًا خليطًا من العرب والبربر تعداده سبعة آلف جندي بقيادة طارق‬
‫بن زياد‪ ،‬وانطلق طارق بالجيش إلى أن وصل سبتة‪ ،‬وهناك خطط لعبور المضيق‪ ،‬وفي اليوم‬
‫الخامس من شهر رجب سنة ‪92‬هـ (إبريل ‪710‬م) وبفضل ال كانت آخر دفعة من الجنود‬
‫بقيادة طارق تعبر المضيق الذي حمل اسم طارق بن زياد منذ ذلك الوقت‪.‬‬
‫ونزل طارق ‪-‬قائد جيش موسى بن نصير‪ -‬أرض الندلس‪ ،‬وبعد عدة معارك فتح الجزيرة‬
‫الخضراء‪ ،‬وعلم المبراطور (لذريق) بنزول المسلمين في أسبانيا من (بتشو) حاكم إحدى‬
‫المقاطعات الجنوبية الذي بعث إليه يقول‪ :‬أيها الملك‪ ،‬إنه قد نزل بأرضنا قوم ل ندري أمن‬
‫السماء أم من الرض‪ ،‬فالنجدة ‪..‬النجدة‪ ،‬والعودة على عجل‪.‬‬
‫وزحف لذريق بجيش كبير ليوقف المسلمين عن الزحف‪ ،‬فأرسل طارق إلى‬
‫موسى مستنجدًا‪ ،‬فأمده بخمسة آلف من المسلمين على رأسهم طريف بن مالك وأكثرهم من‬
‫الفرسان فأصبح تعداد جيش المسلمين اثني عشر ألفًا‪ ،‬وكان اللقاء الحاسم بين جيش المسلمين‬
‫بقيادة طارق بن زياد‪ ،‬وجيش المبراطور لذريق‬
‫يوم الحد ‪ 28‬من شهر رمضان المبارك عام ‪92‬هـ‪ ،‬واستمرت المعركة حوالي سبعة أيام‪،‬‬
‫انتهت بانتصار المسلمين بفضل ال في معركة عرفت باسم معركة (شذونة) أو معركة (وادي‬
‫البرباط)‪.‬‬
‫واصل طارق بن زياد فتوحاته في الندلس‪ ،‬وخشي موسى بن نصير من توغله في أراضيها‪،‬‬
‫فعبر إليه على رأس حملة كبيرة وأخذ القائدان يتمّان فتح ما بقي من مدن الندلس‪ ،‬وظل موسى‬
‫يجاهد في سبيل ال حتى أصبحت الندلس في قبضة‬
‫المسلمين‪ ،‬وبعد أن انتهي موسى من فتوحاته ألحّ عليه (مغيث الرومي) رسول الخليفة بالعودة‬
‫إلى دار الخلفة في دمشق‪ ،‬فاستجاب له موسى‪ ،‬وبدأ يستعد لمغادرة الندلس‪ ،‬وواصل موسى‬
‫السير‪ ،‬حتى وصل إلى دمشق فاستقبله الوليد وأحسن استقباله‪ ،‬وتحامل على نفسه ‪-‬وهو‬
‫مريض‪ -‬وجلس على المنبر لمشاهدة الغنائم وموكب السرى‪ ،‬فدهش الخليفة مما رأى وسجد ل‬
‫شكرًا‪ ،‬ثم دعا موسى بن نصير وصبّ عليه من العطر ثلث مرات‪ ،‬وأنعم عليه بالجوائز‪.‬‬
‫ولم يمضِ أربعون يومًا على ذلك حتى مات الوليد بن عبد الملك‪ ،‬وتولى الخلفة أخوه سليمان‬
‫بن عبد الملك ومن يومها بدأت متاعب موسى بن نصير‪ ،‬فقد أراد سليمان أن يعاقب موسى بن‬
‫نصير لخلف بينهما فأمر به أن يظل واقفًا في حرّ الشمس المتوهجة‪ ،‬وكان قد بلغ الثمانين من‬
‫عمره‪ ،‬فلما أصابه حر الشمس وأتعبه الوقوف سقط مغشيّا عليه‪ ،‬وبعدها اندفع موسى يقول في‬
‫شجاعة مخلوطة بالسى للخليفة سليمان بن عبد الملك‪( :‬أما وال يا أمير المؤمنين ما هذا بلئي‬
‫ول قدر‬
‫جزائي)‪.‬‬
‫وعاش موسى في دمشق وهو راض عما نزل به من قضاء ال‪ ،‬وندم سليمان على‬
‫ما فعله في حق موسى‪ ،‬وكان يقول‪ :‬ما ندمت على شيء ندمي على ما فعلته‬
‫بموسى‪ ،‬وأراد سليمان أن يكفر عن ذنبه‪ ،‬فاصطحب موسى بن نصير معه إلى‬
‫الحج في سنة ‪99‬هـ‪ ،‬لكنه لفظ أنفاسه الخيرة في أثناء الرحلة‪ ،‬وفرح شيخ المجاهدين بلقاء ربه‬
‫بعدما قضى أعوامًا رفع فيها راية الجهاد‪ ..‬فسلمًا عليك يا شيخ المجاهدين‪.‬‬

‫هارون الرشيد‬

‫الخليفة المفترى عليه‬

‫هو أك ثر من تعرض تاري خه للتشو يه والتزو ير من خلفاء ال سلم‪ ،‬مع أ نه من أك ثر خلفاء‬


‫الدولة العباسـية جهادا وغزوا واهتمامـا بالعلم والعلماء‪ ،‬و بالرغـم مـن هذا أشاعوا عنـه‬
‫الكاذيب وأنه ل هم له سوى الجواري والخمر والسكر‪ ،‬ونسجوا في ذلك القصص الخرافية‬
‫ومن هنا كان إنصاف هذا الخليفة واجب على كل مؤرخ مسلم‪.‬‬

‫ومـن المؤرخيـن الذيـن أنصـفوا الرشيـد أحمـد بـن خلكان الذي قال عنـه فـي كتابـه وفيات‬
‫العيان‪" :‬كان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي"‬

‫وكتب التاريخ مليئة بمواقف رائعة للرشيد في نصرة الحق وحب النصيحة وتقريب العلماء ل‬
‫ينكرها إل جاحد أو مزور‪ ،‬ويكفيه أنه عرف بالخليفة الذي يحج عاما ويغزو عاما‪.‬‬

‫نسبه ومولده‬

‫هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد ال بن محمد بن علي‬
‫بن عبد ال بن عباس الهاشمي العباسي‪ ،‬كان مولده بالري حين كان أبوه أميرا عليها وعلى‬
‫خرا سان في سنة ثمان وأربعين ومائة وأمه أم ولد تسمى الخيزران وهى أم الهادي وفيها‬
‫يقول مروان ابن أبى حفصة‪:‬‬

‫يا خيزران هناك ثم هناك *** أمسى يسوس العالمين ابناك‬

‫أغزاه أبوه بلد الروم وهو حدث في خلفته‪.‬‬

‫توليه الخلفة‬
‫ولي الخلفة بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما المهدي في ليلة السبت السادس عشر من‬
‫ربيـع الول سـنة سـبعين ومائة بعـد الهادي‪ ،‬قال الصـولي‪ :‬هذه الليلة ولد له فيهـا عبـد ال‬
‫المأمون ولم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة وقام خليفة وولد خليفة إل هذه الليلة‬
‫وكان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر‪.‬‬

‫وكان ذا ف صاحة وعلم وب صر بأعباء الخل فة وله ن ظر ج يد في الدب والف قه‪ ،‬ق يل إ نه كان‬
‫يصلي في خلفته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ل يتركها إل لعلة ويتصدق من صلب‬
‫ماله كل يوم بألف درهم‪ ..‬قال الثعالبي في اللطائف قال الصولي خلّف الرشيد مائة ألف ألف‬
‫دينار‪.‬‬

‫وكان يحب المديح ويجيز الشعراء ويقول الشعر‪ ،‬أسند عن معاوية بن صالح عن أبيه قال‬
‫أول شعر قاله الرشيد أنه حج سنة ولى الخلفة فدخل دارا فإذا في صدر بيت منها بيت شعر‬
‫قد كتب على حائط‪:‬‬

‫أل أمير المؤمنين أما ترى *** فديتك هجران الحبيب كبيرا‬

‫فدعا بدواة وكتب تحته بخطه‪:‬‬

‫بلى والهدايا المشعرات وما *** مشى بمكة مرفوع الظل حسيرا‪.‬‬

‫وكان يقتفي آثار جده إل في الحرص‪.‬‬

‫وقال محمد بن على الخرساني الرشيد أول خليفة لعب بالصوالجة والكرة ورمى النشاب في‬
‫البرجاس و أول خليفة لعب بالشطرنج من بنى العباس‪.‬‬

‫قال الجاحظ اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره وزراؤه البرامكة وقاضيه القاضي أبو يوسف‬
‫وشاعره مروان بن أبي حفصة ونديمه العباس بن محمد عم والده وحاجبه الفضل بن الربيع‬
‫أتيه الناس ومغنيه إبراهيم الموصلي وزوجته زبيدة‪.‬‬

‫حبه للعلماء‬
‫وكان الرشيـد يحـب العلماء ويعظـم حرمات الديـن ويبغـض الجدال والكلم‪ ،‬وقال القاضـي‬
‫الفا ضل في ب عض ر سائله ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إل للرش يد فإ نه ر حل‬
‫بولديه المين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه ال‪.‬‬

‫ولما بلغه موت عبد ال ابن المبارك حزن عليه وجلس للعزاء فعزاه الكابر‪.‬‬

‫قال أبو معاوية الضرير ما ذكرت النبي صلى ال عليه وسلم بين يدي الرشيد إل قال صلى‬
‫ال على سيدي ورويت له حديثه "وددت أني أقاتل في سبيل ال فأقتل ثم أحيى ثم أقتل فبكى‬
‫حتى انتحب"‬

‫وعن خرزاذ العابد قال حدث أبو معاوية الرشيد بحديث احتج آدم وموسى فقال رجل شريف‬
‫فأين لقيه فغضب الرشيد وقال النطع والسيف زنديق يطعن في الحديث فما زال أبو معاوية‬
‫يسكنه ويقول بادرة منه يا أمير المؤمنين حتى سكن‪.‬‬

‫وعن أبي معاوية الضرير قال صب على يدي بعد الكل شخص ل أعرفه فقال الرشيد تدري‬
‫من يصب عليك قلت‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬أنا إجلل للعلم‪.‬‬

‫وكان العلماء يبادلونه التقدير‪ ،‬روي عن الفضيل بن عياض أنه قال‪ :‬ما من نفس تموت أشد‬
‫علي موتا من أمير المؤمنين هارون ولوددت أن ال زاد من عمري في عمره‪ ،‬قال فكبر ذلك‬
‫علينـا فلمـا مات هارون وظهرت الفتـن وكان مـن المأمون مـا حمـل الناس على القول بخلق‬
‫القرآن قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم‪.‬‬

‫بكاؤه عند سماع الموعظة‬

‫قال منصور بن عمار‪ :‬ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلثة الفضيل بن عياض والرشيد‬
‫وآخر‪.‬‬

‫وقال عبيد ال القواريرى لما لقي الرشيد الفضيل قال له يا حسن الوجه أنت المسئول عن‬
‫هذه المة‪ .‬وتقطعت بهم السباب قال‪ :‬الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا فجعل هارون يبكى‬
‫ويشهق‪.‬‬
‫روى أن ابن السماك دخل على الرشيد يوما فاستسقى فأتى بكوز فلما أخذه قال على رسلك‬
‫يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها قال بنصف ملكي قال اشرب هنأك‬
‫ال تعالى فلما شربها قال أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها قال‬
‫بجميـع ملكـي قال إن ملكـا قيمتـه شربـة ماء وبوله لجديـر أن ل ينافـس فيـه فبكـى هارون‬
‫الرشيد بكاء شديدا‪.‬‬

‫وقال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان عظني قال لن تصحب من يخوفك حتى يدركك المن‬
‫خ ير لك من أن ت صحب من يؤم نك ح تى يدر كك الخوف فقال الرش يد ف سر لي هذا قال من‬
‫يقول لك أ نت م سئول عن الرع ية فا تق ال أن صح لك م من يقول أن تم أ هل ب يت مغفور ل كم‬
‫وأنتم قرابة نبيكم صلى ال عليه وآله وسلم فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله‪.‬‬

‫مواقف ل تنسى‬

‫في سنة سبع وثمان ين ومائة جاء للرش يد كتاب من ملك الروم نقفور بن قض الهد نة ال تي‬
‫كا نت عقدت ب ين الم سلمين وب ين المل كة ري ني مل كة الروم و صورة الكتاب [ من نقفور ملك‬
‫الروم إلى هارون ملك العرب أ ما ب عد فإن المل كة ال تي كا نت قبلي أقام تك مقام الرخ وأقا مت‬
‫نف سها مقام البيذق فحملت إل يك من أموال ها أحمال وذلك لض عف الن ساء وحمق هن فإذا قرأت‬
‫كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها وإل فالسيف بيننا وبينك]‬

‫ل أن‬
‫فل ما قرأ الرش يد الكتاب ا ستشاط غض با ح تى ما تم كن أ حد أن ين ظر إلى وج هه فض ً‬
‫يخاط به وتفرق جل ساؤه من الخوف وا ستعجم الرأي على الوز ير فد عا الرش يد بدواة وك تب‬
‫على ظهر كتابه بسم ال الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد‬
‫قرأت كتا بك يا ا بن الكافرة والجواب ما تراه ل ما ت سمعه ثم سار ليو مه فلم يزل ح تى نزل‬
‫مدينة هرقل وكا نت غزوة مشهورة وفتحا مبي نا فطلب نقفور المواد عة والتزم بخراج يحمله‬
‫كل سنة‪.‬‬

‫وأسند الصولى عن يعقوب بن جعفر قال خرج الرشيد في السنة التي ولى الخلفة فيها حتى‬
‫غزا أطراف الروم وان صرف في شعبان ف حج بالناس آ خر ال سنة وفرق بالحرم ين مال كثيرا‬
‫وكان رأى ال نبي صلى ال عل يه وآله و سلم في النوم فقال له إن هذا ال مر صائر إل يك في‬
‫هذا الشهر فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين ففعل هذا كله‪.‬‬
‫وأخرج ابن عساكر عن ابن علية قال أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له‬
‫الزند يق‪ :‬لم تضرب عن قي قال له أر يح العباد م نك‪ .‬قال فأ ين أ نت من ألف حد يث وضعت ها‬
‫على رسول ال صلى ال عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به قال فأين أنت يا عدو‬
‫ال من أبى إسحاق الفزارى وعبد ال بن المبارك ينخلنها فيخرجانها حرفا حرفا‪.‬‬

‫من أعماله في الخلفة‬

‫حج غ ير مرة وله فتوحات وموا قف مشهودة ومن ها ف تح مدي نة هرقلة‪،‬قال الم سعودي في‬
‫"مروج الذهب"‪ :‬رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما فقال له‬
‫يحيى البرمكي كان يختطف الروم الناس من الحرم وتدخل مراكبهم إلى الحجاز‪.‬‬

‫وزر له يح يى بن خالد مدة وأح سن إلى العلو ية و حج سنة ‪ 173‬وعزل عن خرا سان جع فر‬
‫بن أشعث بولده العباس بن جعفر وحج أيضا في العام التي وعقد بولية العهد لولده المين‬
‫صغيرا فكان أقبح و هن تم في ال سلم وأرضى المراء بأموال عظي مة وتحرك عل يه بأرض‬
‫الديلم يح يى بن ع بد ال بن ح سن الح سيني وع ظم أمره وبادر إل يه الراف ضة فتن كد ع يش‬
‫الرشيد واغتم وجهز له الفضل بن وزيره في خمسين ألفا فخارت قوى يحيى وطلب المان‬
‫فأجابه ولطفه ثم ظفر به وحبسه ثم تعلل ومات ويقال ناله من الرشيد أربعمائة ألف دينار‪.‬‬

‫و في سنة ‪175‬ه ـ ولى خرا سان الغطر يف بن عطاء وولى م صر جعفرا البرم كي واشتدت‬
‫الحرب بين القيسية واليمانية بالشام ونشأت بينهم أحقاد وإحن‪.‬‬

‫وغزا الفضل بن يحي البرمكي بجيش عظيم ما وراء النهر ومهد الممالك وكان بطل شجاعا‬
‫جوادا ربما وصل الواحد بألف ألف وولي بعده خراسان منصور الحميري وعظم الخطب بابن‬
‫طريف ثم سار لحربه يزيد بن مزيد الشيباني وتحيل عليه حتى بيته وقتله ومزق جموعه‪.‬‬

‫وفي سنة ‪179‬هـ اعتمر الرشيد في رمضان واستمر على إحرامه إلى أن حج ماشيا من‬
‫بطن مكة‪.‬وغزا الرشيد وتوغل في أرض الروم فافتتح الصفصاف وبلغ جيشه أنقرة‪ .‬ثم حج‬
‫سنة ست وثمانين الرشيد بولديه المين والمأمون وأغنى أهل الحرمين‪.‬‬

‫ثم حدثت نكبة البرامكة إذ قتل الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي وسجن أباه وأقاربه بعد أن‬
‫كانوا قد بلغوا رتبة ل مزيد عليها‪.‬‬
‫و في العام نف سه انت قض ال صلح مع الروم وملكوا علي هم نقفور فيقال إ نه من ذر ية جف نة‬
‫الغسـاني وبعـث يتهدد الرشيـد فاسـتشاط غضبـا وسـار فـي جيوشـه حتـى نازله هرقلة وذلت‬
‫الروم وكا نت غزوة مشهودة‪ ،‬ثم كا نت الملح مة العظ مى وق تل من الروم عدد كث ير وجرح‬
‫النقفور ثلث جراحات وتـم الفداء حتـى لم يبـق فـي أيدي الروم أسـير‪.‬وبعـث إليـه نقفور‬
‫بالجزية ثلثمائة ألف دينار‪.‬‬

‫وفي سنة ست وسبعين ومائة فتحت مدينة دبسة على يد المير عبد الرحمن بن عبد الملك‬
‫بن صالح العباسى‬

‫وفـي سـنة تسـع وسـبعين ومائة اعتمـر الرشيـد فـي رمضان ودام على إحرامـه إلى أن حـج‬
‫ومشى من مكة إلى عرفات وفي سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى وسقط منها رأس منارة‬
‫السكندرية وفي سنة إحدى وثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة وهو الفاتح له وفي سنة‬
‫ثلث وثمانين خرج الخزر على أرمينية فأوقعوا بأهل السلم وسفكوا وسبوا أزيد من مائة‬
‫ألف نسمة وجرى على السلم أمر عظيم لم يسمع قبله مثله‪.‬‬

‫وفاة الرشيد‬

‫مات الرشيد في الغزو بطوس من خراسان ودفن بها في ثالث من جمادى الخرة سنة ثلث‬
‫وتسعين ومائة وله خمس وأربعون سنة وصلى عليه ابنه الصالح قال الصولى خلف الرشيد‬
‫مائة ألف ألف دينار ومن الثاث والجواهر والورق والدواب ما قيمته ألف ألف دينار‬
‫وخمسة وعشرون ألف دينار‪.‬‬

‫وقيل إن الرشيد رأى مناما أنه يموت بطوس فبكى وقال احفروا لي قبرا فحفر له ثم حمل في‬
‫قبة على جمل وسيق به حتى نظر إلى القبر فقال يا ابن آدم تصير إلى هذا وأمر قوما فنزلوا‬
‫فختموا فيه ختما وهو في محفة على شفير القبر ولما ماتبويع لوالده المين في العسكر وهو‬
‫حينئذ ببغداد فأتاه الخبر فصلى الناس الجمعة وخطب ونعى الرشيد إلى الناس وبايعوه‪.‬‬

‫وال لول هذا الرجل لتعرض السلم إلى فتنة ال اعلم بعواقبها‬

‫أحمد بن حنبل‬

‫خرجت صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من مدينة (مرو) وهي تحمل في بطنها‬
‫جنينًا‪ ،‬وما إن وصلت إلى بغداد حتى ولدت (أحمد بن حنبل) في شهر ربيع الول سنة ‪164‬هـ‪.‬‬
‫كان والده قائدًا في جيش خراسان‪ ،‬أما جده فكان واليًا للمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة‬
‫لبلد خراسان‪ ،‬وحين بلغ أحمد من العمر ثلث سنوات توفي‬
‫والده‪ ،‬فنشأ يتيمًا‪ ،‬تكفله أمه وترعاه‪ ،‬وتقوم على تربيته والعناية به‪ ،‬وعاش أحمد عيشة فقيرة‪،‬‬
‫فلم يترك له والده غير منزل ضيق‪ ،‬مما دفعه إلى العمل وهو طفل‬
‫صغير‪ ،‬فكان يلتقط بقايا الزروع من الحقول بعد استئذان أهلها‪ ،‬وينسج الثياب ويبيعها‪ ،‬ويضطر‬
‫في بعض الوقات أن يؤجر نفسه ليحمل أمتعة الناس في‬
‫الطريق‪ ،‬وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره‪.‬‬
‫حفظ أحمد القرآن الكريم‪ ،‬ولما بلغ أربع عشرة سنة‪ ،‬درس اللغة العربية‪ ،‬وتعلم الكتابة‪ ،‬وكان‬
‫يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم‪،‬‬
‫وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر‪ ،‬فجذبته‬
‫أمه من ثوبه‪ ،‬وقالت له‪ :‬يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس‪.‬‬
‫ومضت اليام حتى بلغ أحمد الخامسة عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول ال ‪-‬صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ -‬من كبار العلماء والشيوخ‪ ،‬فلم يترك شيخًا في بغداد إل وقد استفاد منه‪ ،‬ومن‬
‫شيوخه‪ :‬أبو يوسف‪ ،‬وهشيم بن مشير‪.‬‬
‫وفكّر أحمد أن يطوف ببلد المسلمين ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الحاديث التي‬
‫حفظوها‪ ،‬فزار الكوفة والبصرة‪ ،‬ومكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬واليمن‪ ،‬والشام والعراق وفارس وغيرها من‬
‫بلد السلم‪ ،‬فكان في رحلته إذا لم يجد دابة‬
‫يركبها يمشي حتى تتشقق قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البلد‪ ،‬وظل أحمد طيلة حياته ينتقل‬
‫من بلد إلى آخر‪ ،‬ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء‪.‬‬
‫سأله أحد أصحابه ذات يوم‪ :‬إلى متى تستمر في طلب العلم‪ ،‬وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا‬
‫كبيرًا؟! فقال له‪( :‬مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب العلم إلى أن يموت‬
‫ويدخل القبر‪ ،‬ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول ال ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬حتى‬
‫سمّوْه (إمام السنة وفقيه المحدثين) وقالوا‪ :‬إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من‬ ‫َ‬
‫الحديث والثار‪ ،‬وفتوى التابعين ونحو ذلك‪.‬‬
‫وبعد أن تعلم المام أحمد بن حنبل ما تعلم‪ ،‬وحفظ ما حفظ من أحاديث رسول ال ‪-‬صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ -‬جلس في المسجد الجامع ببغداد سنة (‪24‬هـ) وعمره أربعون سنة‪ ،‬ليعلم الناس أمور‬
‫دينهم؛ فأقبل الناس على درسه إقبال عظيمًا‪ ،‬فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر‬
‫ليتخذوا لهم مكانًا يجلسون فيه‪.‬‬
‫وكان أغلى شيء عند المام أحمد بن حنبل ما جمعه من حديث رسول ال ‪-‬صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ -‬لذلك كان يكتبه في أوراق يحفظها في مكان أمين‪ ،‬وقد حدث ذات يوم أن سرق لص‬
‫منزله‪ ،‬فأخذ ملبسه وكل ما في بيته‪ ،‬فلما جاء المام أحمد إلى البيت‪ ،‬لم يسأل عن شيء إل عن‬
‫الوراق التي يكتب فيها أحاديث رسول ال‬
‫‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما سرق منه‪.‬‬
‫ولم يكن المام أحمد بن حنبل مجرد حافظ لحاديث الرسول ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ -‬بل كان‬
‫يعمل بما في هذه الحاديث‪ ،‬فيقول عن نفسه‪ :‬ما كتبتُ حديثًا إل وقد عملتُ به‪ ،‬وكان المام‬
‫أحمد زاهدًا في الدنيا‪ ،‬يرضى بالقليل‪ ،‬فقد كان كثير العبادة والذكر ل‪.‬‬
‫وقد تعرض المام أحمد ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬للتعذيب والذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن‬
‫والبدع التي حدثت في زمانه‪ ،‬تلك الفتن التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة‬
‫المعتصم‪ ،‬فكان يُضرب بالسياط‪ ،‬حتى أغمي عليه عدة مرات‪ ،‬ودخل السجن وظل فيه عامين‬
‫ونصف‪ ،‬ثم خرج منه مريضًا يشتكي من الجراح‪ ،‬وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي‬
‫وعاد إلى درسه‪ ،‬ولما تولى الخليفة (الواثق) الخلفة لم يتعرض المام أحمد لليذاء‪ ،‬لكنه منعه‬
‫من الجتماع بالناس‪ ،‬فظل معزولً عنهم‪ ،‬حتى مات الخليفة (الواثق) وتولى (المتوكل) الخلفة‬
‫الذي عامل المام أحمد معاملة حسنة وعرض عليه المال‪ ،‬فرفضه‪ ،‬لكنه ألح عليه أن يأخذه‪،‬‬
‫فتصدق به كله على الفقراء‪.‬‬
‫ورغم انشغال المام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد الهتمام بمظهره‪ ،‬فقد كان‬
‫من أنظف الناس بدنًا‪ ،‬وأنقاهم ثوبًا‪ ،‬شديد الهتمام بتهذيب شعر رأسه‪ ،‬وكان المام أحمد يميل‬
‫إلى الفقراء‪ ،‬ويقربهم منه في مجلسه‪ ،‬وكان حليمًا‪ ،‬كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار‪ ،‬وكان‬
‫إذا جلس في مجلسه بعد العصر ل يتكلم حتى يُسأل‪ ،‬كما كان ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬شديد الحياء‪،‬‬
‫كريم الخلق‪ ،‬سخيّا‪ ،‬وكان مع لينه شديد الغضب ل‪.‬‬
‫والمام أحمد مؤسس المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية الربعة‪ ،‬وقد ترك المام أحمد كتبًا‬
‫كثيرة منها‪( :‬المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة النبوية‪ ،‬إذ يحتوي على‬
‫أربعين ألف حديث‪ ،‬وكتاب (الزهد) و(الناسخ‬
‫والمنسوخ)‪.‬‬
‫ومرض المام أحمد ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬واشتد عليه المرض يوم خميس‪ ،‬فتوضأ‪ ،‬فلما كانت ليلة‬
‫الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الول سنة ‪241‬هـ‪ ،‬وفي بغداد صعدت روحه إلى بارئها‪،‬‬
‫فحزن عليه المسلمون حزنًا شديدًا‪ ،‬وصاح الناس‪ ،‬وعل‬
‫بكاؤهم‪ ،‬حتى كأن الدنيا قد ارتجت‪ ،‬وامتلت السكك والشوارع‪ ،‬وأخرجت الجنازة بعد انصراف‬
‫الناس من صلة الجمعة‪ ،‬وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان‪ ،‬بالضافة إلى الذين صعدوا‬
‫إلى أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع الخيرة على المام أحمد بن حنبل‪.‬‬

You might also like