Professional Documents
Culture Documents
-مدخل
-1تدمير المبنى وتتبير المعنى ،تخريب العمران و تخريب النسان
اسمحوا لي أيها السادة الفاضل أن أعترف قبل بدإ هدا الحديث ،أنه لن يكون حديثا متسقا منــــــطقيا ،مــشيدا
واضحا مهما حاولت ،و إن كان ذلك يؤول إلى مقتضيات أحوالنا ،أو لواقع أو وقائع أحوالنا و أحوال العـــــــــالم ،و
إفلس جل ،إن لم نقل كل الخطابات و الفلسفات و الرؤى التي كنا نستند إليها و نتبناها حتى قبل سنوات معـدودة،أو
ربما حتى قبل سنة واحدة .يبدو أن كل التجاهات قد استنفذت ،وآلت إلى عطب آلياتها ،فساد العمــــــاء أو العمى و
التيه الفكري و الثقافي و السياسي و الخلقي ..
غير أني سأعمل بالحكمة الشعبية المغربية " ألي تلف يشد الرض" لكن أين هي الرض أين هي الرضية؟تلك
هي المسألة .سقط الجدار الذي كنا نسند إليه ظهورنا و نحن نقاوم .سنة 1982سقط المركز العربي ،كــــما أعلن
عن ذلك بمأساوية الشاعر العربي الكبير محمود درويش في مديح الظل العالي ،بل إننا عدنا لنجد أنفـــــــــسنا أمام
إحساس سلفه الشعري العظيم المتنبي عندما استشعر حصار المة في قوله:
**** فعلى أي جانبيك تميل . و دون الروم خلف ظهرك روم
على جغرافيتنا السياسية و الجتماعية و الثقافية و الفكرية و النفسية ركامات الدمار ،و أطــــــــــلل الخراب
الحضاري التي تشن علينا في العصر الحديث باسم التحديث و الحداثة و التنمية و التقدم و الديمقراطية و حقـوق
النسان ..حالنا الثقافي اليوم في صورته شبيه تماما بما نراه من صور الدمار و الخراب و الفوضــــــى و التيه و
التخبط في العراق ..فالفكار و الرؤى و المشاريع ،التي تستنهض نفسها من تحت النقاض و تــــحاول أن ترفع
هامتها ،و ترمم أو تؤسس لبناء جديد ،تغتال و تقصف و تنسف دونما رحمة من أولئك الروم الجـــــــــدد ،أو من
العشائر و الطوائف الثقافية الداخلية ،في اقتتال داخلي فضيع ،و أصبحت الهزيمة خبزا يومـــــيا أو سخاما يوميا
نغمس فيه خبزنا اليومي و نحن أمام القنوات الفضائية أو الفضائحية سيان سادرون مستسلمون للـــــــــــــوحش
المفترس ،ننتظر منه أن يشبع من دمائنا و يرتد لذاته عن جثتنا ،عسى أن يتبقى فيها شيء من الحياة ..لكـــــني
أومن دوما أن الحياة شجرة خضراء ،و أن للعشب حيله و مكره في أن ينهض من تحت القدام وأن ينتظر الماء
و الهواء ..و لو لزمن ربما يبدو للقاتل أنه كاف لتأبيد الموت،فالحياة دائما مبدعة بأشكالها تبدو أحيانا أقرب إلى
المعجزات .
- 2الحداثة المنقولة :طابورهم الخامس .
استحضروا معي -أيها الخوة – فكرة و مصطلح الطابور الخامس ..الفرانكوية ؛ ففي إطار الحــــرب الهلــــــية
السبانية ،و قد كانت مقدمة للحرب العالمية الثانية ، 1939 -1936قبل أن يستتب المر للديكتاتور الفاشستي
الدموي فرانكو و قبل أن تدخل جيوشه العاصمة القشتالية مدريد ( كانت قوة تلك الجيوش الضاربة مكونة أساسا
من الشباب الميين المغاربة -كان فرانكو يحلو له أن يتحدث إلى الصحافة عن طوابيره الخمسة في الوقت الذي
كان يعلم فيه الجميع أن جيشه ل يتكون إل من أربعة طوابير ل غير -و عندما سئل مرة عن مكان هذا الطابـــــور
الخامس ،أين يوجد؟ أجاب :إنه في قلب العاصمة مدريد ،و يقصد به طابور الجاسوسية – الجواســـــــــيس و
المخبرين -و الخونة و المتعاونين العملء ..
إنه تقريبا نفس المر رأيناه في حرب الخليج الثانية أو الثالثة – من يعد ،ربما المـــــــتفرج و ليس المضروب –
عندما انهار الجيش العراقي و الحرس الجمهوري و دخلت جيوش الروم – كان يسميهم وزير العلم /الصحاف
بالعلوج – بغداد كما لو كانت تدخل قاعة مسرح ،لنرى ذلك العرض ليوم التاسع من أبريل .. 2003مر الن على
ذلك أكثر من ثلث سنوات عجاف .
كان ذلك بفضل الختراق بطابور خامس سرب إلى قلب بغداد و إلى قلب الحرس الجمهوري ..
في الفكر و الثقافة و الدب ل يختلف المر كثيرا ؛ فقط يسبق الجانبين السياسي و العسكري ...فكل قوة غـــازية
تعتمد على طابور خامس تسربه إلى قلب و كيان عدوها أو ضحيتها .أشير بهـــــــــــــــذا إلى دور المخابرات أو
الستخبارات المريكية ،و تابعتها الوروبية أو الغربية عموما ،في كثير من المشاريع الثقافية في العالم العربي
كما بينت ذلك أطروحة الباحثة البريطانية فرانسيس سوندرز في كتابها بعنوان " :من دفع أجر العازف ؟ :
*عنوان المحاضرة التي ألقاها ذ .مصطفى الزين في إطار النشطة الثقافية للمهرجان الربيعي الثالث ،أيام 6-5-4ماي 2006لثانوية المولى إدريس
الكبر/رباط الخير /إقليم صفرو .المغرب
1
تبعية أو تمويل مجلة" شعر" التي تبنت أطروحة الحداثة الشعرية و الفكرية و قضية قصيدة النثر فـــــــي أواخر
الخمسينات التي كان يترأس تحريرها الشاعر الحداثي يوسف الخال ،وكان إلى جانبه أكبر منظريها و مترجميها
الشاعر المفكر السوري أدونيس (علي أحمد سعيد) المرشح منذ سنوات لجائزة نوبل للداب ،و المـسجل علــــى
لئحة انتظارها حتى يثبت حسن سلوكه أو أدائه ،و هل من أداء أحسن أو عزف أجمل من عزفه في الســــنوات
الخيرة ،في كل مناسبة ،في استجواباته ،و حواراته الصحفية و العلمية ،و منها ظهوره قبل أسابــيع على
قناتنا الثانية ،و ظهوره في تطوان ..يعزف على هذين الوترين :
-1الثقافة العربية محكومة ببنية مسبقة تعوق حداثتها و تحديثها و تقف عائقا كبيرا أمام حرية التعبير .و هو
نفس الوتر الذي عزف عليه أديبنا المغربي الفرانكفوني الطاهر بنجلون أخيرا في فرنسا و هو يؤكد أن
اللغة العربية عتيقة عقيمة ل تسمح بحرية التعبير ..عندما يخلو لشياطينه ،أما عندما و ينقلب إلينا ..
فيقول إنه لم يقل هذا و إنما الصحافة حرفت كلمه عن سياقه ..فأصيب بسوء فهم ،و هو المسكين – كما
أكد الدــيب المغربي أحمد المد يني -يصاب دائما بسوء الفهم .بل كما سنرى أن الحداثة المنقولة تصاب
دائما بـــــسوء الفهم ،لنها قائمة أساسا على سوء الفهم .
-2التأكيد أن على المسلمين أن يكفوا عن العتقاد أن إسلمهم أو قرآنهم هو خاتم الرسالت السماوية وخـــاتم
النبوات..
عجبا ،لنفترض أن المرين صحيحان ،بالمقابل أليس من ثوابت الحضارة الغربية الحداثية بنية فكرية و فلسفية
مسبقة تحكم تطورها ؟ أليس فكرة المحرقة و معاداة السامية بنية مغلقة ؟ و هذا الغرب المسيحي -هو الخــــــر
يعتبر مسيحيته ،حتى البروتستانتية هي خاتم الديانات و الرسالت .أليس في اعتقادهم أن السلم لم يــــــــكن
سوى هرطقة مسيحية ؟بل إن الرأسمال و النظام الستهلكي الحر ،أصبح عندهم خاتم اللهة و الوثان .
ليس غرضي أن أكفر أو أجرم أو أخون أحدا ،و إنما يجمل بنا أن ننظر إلى المر على انه تغرير طويل ،و أنــه
من قبيل الوهام تقفيناها لجيال ،و هاهي تفضي بنا إلى هذه الحقيقة المأساوية الماثلة أمامنا ...أن الحـــــــداثة
الغربية " و انتصار عقلنيتها – يا للمفارقة – ل يعني لبلدان الرض الخرى سوى كارثة ثـــــقافية ؛ فالقــــوى
الوروبية أو الغربية ،بفضل طاقة آلياتها العسكرية المخيفة ،تستبعد و تستعمر و تستغل سكان قارات خمس ،و
الثقافات الخرى ل تدرك من العبقرية العقلنية إل وقاحتها و اكتفاءها و عنفها ،و ذلك في الغالب قبل أن تنــدثر
بقوة الحديد و النار " كما يؤكد إنياسيو راموني ،و هو ما يؤكده الفيلسوف المغربي ،طه عبد الرحمن تـــــحت
تسمية" وقاحة النكار " و " وقاحة الستعلء" في كتابه " الحق السلمي في الختلف الفكري" .
-3الحداثة المنقولة و الحداثة المأصولة :عود على بدء
هذه إذن هي المقصودة في عنوان هذا الموضوع بالحداثة المنقولة؛الحداثة التبعية ،الحداثة الهامـــــــــشية ،أو
المتسولة أو المتسوَلة على الموائد الثقافية الغربية .و مدار حديثنا سيكون إذن عن هذه الحداثة المـــــنقولة ،و
نقيضها " الحداثة المأصولة" كما يقترحها و ينظر لها فيلسوفنا المبدع طه عبدالرحمن الذي كنت قد اســــتندت
إليه في موضوع الدورة السابقة من هذا المهرجان الربيعي و استعرت منه مفهوم المة في محــــــــــاضرة كنت
عنونتها بــ" تجليات الزمة في نقد /عملة المة" .و هي محاضرة للسف الشديد ،كنت قد اضطررت اختزالها
اختزال نظرا لتوقيتها الذي لم يكن مناسبا ذلك اليوم حيث تركت إلى آخر المسية الولى بعد مجمـــــــــــوعة من
النشطة،كانت قد استنفذت صبر و انتباه الجمهور ..و كأن المحاضرة أجهضت ..حتى أن بعض الزمــــــــــلء
الساتذة طلبوا مني إعادتها ...و لم آت اليوم كي أعيدها و إنما جئت كي أتابع نبشي و تأملي ،و لهذا فإنها حقـا
قسم ثان من الموضوع.
من أجل ذلك ،اسمحوا لي أن أعود على بدء فأذكر بأهم أطروحاتها و تمفصلتها ،باختصار :
كنت ،على منهج طه عبدالرحمن ،قد أقمت مفهوم النقد على طريقته في تشقيق الكلم و اجتراح المــــــفاهيم و
المصطلحات ،فأعدت كلمة النقد التي كانت و ل تزال شعار الفكر الحديث في كل المجالت بما فيه التـــــــربوي
التعليمي ،أعدت الكلمة إلى أصل استعمالها و هو النقد/العملة المالية ،و أعدت كلمة النـــــاقد الدبي ،أو ناقد
الشعر كما نشأت في المجال التداولي الجاهلي ،إلى دللة الصيرفي الختصاصي في ميدان العـــملة – الدرهم أو
الدينار ؛ فالناقد الدبي هو الذي يميز صحيح الشعر من زائفه أو فاسده ،و انتهيت إلى أن النصوص هي ،إذن،
بمثابة عملت رمزية متداولة ،و النقاد هم الذين يميزونها و يصنفونها و يحددون قيمها ،فهم إذن من يوجــه
الدباء نحو القيم التي يجب أن تتداول ..و رأينا أن النصوص النقدية بدورها تتحول إلى عملت رمزية أي إلى
موضوع للنقد ،و هو ما يسمى نقد النقد ،و هذا يتحول أيضا إلى موضوع لنقد نقد النقد ،و هكذا دواليك .
و بالمقابل حددت مفهوم المة – كما طرحه طه عبدالرحمن – باعتبار أن المة مفهوم يتجاوز القوم أو الشعب
أو المجتمع و أنه يضيق حتى ليقتصر على الرجل – أو المرأة – على الفرد الواحد ؛ إذ كان إبراهيم أمة لوحده
2
مثل و كان محمد صلى ال عليه و على آله و سلم أميا بهذا المفهوم ،و أنه ليتسع حتى يشمل الشــــــعوب و
القبائل عندما يقوم على التعارف ؛ فالنسان الفرد ،أو القوم أو المجتمع أو المجتمعات تكون أمة عندما تمتلك
مشروعا من القيم و المقاصد فيه جواب عن أسئلة العصر أو أسئلة زمانها ،تقدمه في إطار العمل التعارفي إلى
المم الخرى ،على أساس الخير و الصلح و العدل و الحوار ...
و رأينا كيف أن المة العربية السلمية في مرحلة قيامها استطاعت أن تقدم مشروعا تعارفيا اقترحته على كثير
من المجتمعات و المم الخرى و أنها بالمقابل أنتجت عملة مادية مالية أصبحت مهيمنة ،كما أنتـــــــجت عملة
رمزية فكرية ثقافية أخلقية كانت أيضا هي العملة المهيمنة عالميا .
و تساءلنا لماذا ،بعد قرنين ،من محاولة النهضة العربية الحديثة ،لم تستطع المة السلمية إنتاج عملة رمزية
خاصة منافسة في سوق العملت كما لم تستطع إنتاج عملة مادية مالية ..و إنما أصبحت تابعة ملحقة مستهلكة
للعملة الرمزية الغربية الستعمارية ،و للعملة المادية أيضا لنفس المة .
و رحنا نسائل المشاريع النقدية العربية ،على أساس أن النقد الدبي يستند إلى الفكر أو النقد الفلسفي – نسائل
تلك المشاريع النقدية العربية لماذا فشلت في إنتاج هذه العملة الرمزية القومية الخاصة ،فرأينا أنها إنــــما هي
ثلثة مشاريع أو استبدالت أساسية :
كان الول هو المشروع النقدي الرومانسي الليبرالي العقلني الذي ساد و هيمن من ثورة 1919إلى نهايـــــــة
الربعينات أو بداية الخمسينات من القرن العشرين ،و رأينا أنه بقدر ما قدم بعض الفراد الذين حــــــــاولوا أن
يقدموا مشاريع رائدة كطه حسين مثل و ميخائيل نعيمة ،بقدر ما كان بداية الرتهان للمرجعية الغربية في تحقير
التراث الخلقي و الجمالي و الشعري العربي ؛ أي تحقير الذات ،كما كان المر مثل عند أبي القاسم الشابـــــــي
خصوصا في تنظيراته الشعرية و الخيال ،في كتابه " الخيال الشعري عند العرب " و كما كان المر مثــــل عند
العقاد في نقده النفسي المستند إلى تبسيطات كمناهج و منظورات أحيانا عنصرية ..
أما المشروع الثاني أو الستبدال الثاني فتمثل في تيار الواقعية الشتراكية المستند إلى بعض الفلسفات الثوريــة
الشتراكية ،و بعض الفلسفات الماركسية الممزوجة بفلسفة سارتر الوجودية التي كانت طبعا تحويرا أو تطويرا
لوجودية الفيلسوف الدانمركي كيركوجارد – فتم تبني مفهوم اللتزام أو الدب الهادف المجند ،و هو التيار الذي
تواكب مع ثورة الشعر الحر و شعر الحداثة ،كما واكب ما كان يسمى بالمد القومي العربي أو العروبي الــــــذي
انكسر أو انهزم مع الحرب العربية السرائيلية الثانية في هزيمة حزيران /يونيو ، 1967و دفن مع زيـــــــــارة
السادات لسرائيل سنة ، 1978ومعاهدة كامب ديفد ،و بداية مشروع الهرولة نحو العتراف و التطبـــــــيع مع
العدو ،و كانت التبعية النقدية فيه إنما للمرجعية السفياتية الستالينية ،و أوهام الممية الشتراكية ...
و ما يهمنا هو المشروع أو البدال الثالث ،وهو ما يسمى بالنقد الحداثي العربي الذي هيـــــمنت فيه المقاربات
البنيوية بمختلف أطيافها اللسانية و التوليدية و الشعرية،و تم فيه النتقال من المرجعيات الجــــــــــــــتماعية أو
التاريخية أو النفسية إلى اليمان بالنص و ل شيء غير النص ،حيث استبعد التاريخ ،حتى أفضى المر إلى تبني
سيل من الموضات في سير محموم إلى الحدث ،مع ما ساد من ترجمات بئيسة مبسترة ،و عماء أو عمى فكري
،و انتهى المر إلى السقوط تماما في تبعية لصندوق النقد الرمزي الدولي مثلما سقطت القطار العربية في تبعية
صندوق النقد الدولي المالي.
وكنت قد استحضرت تلك الطروحة التي تقول بأن المركز العربي تحول نحو المغرب خصوصا بعدما سقـــــــطت
القاهرة و بيروت و بغداد ...أصبحت الرباط أو الدار البيضاء مركزا و قطبا ،خصوصا مع ما يلحظ من نهــــــضة
فكرية فلسفية ابستمولوجية ،لعل أسماءها الكبرى تتمثل في عبد ال العروي ،ومحمد عابد الجابري ،و عبــــد
الكبير الخطيبي و محمد سبيل و عبد السلم بن عبد العالي ، ...و إذا وسعنا الدائرة إلى المغرب العربـــــــــــــــي
استحضرنا مثل من الجزائر محمد أركون ومن تونس هشام جعيط و أبو يعرب المرزوقي ...
كما أصبح يبدو أن المامة النقدية الدبية أصبحت للمغاربة و المغاربيـين من أمثال محمد برادة و محمد مفتـاح و
عبد الفتاح كيليطو ،و الشاعر الناقد محمد بنيس من المغرب،و إذا وسعنا الدائرة استحضرنا من الجزائر الراحـل
جمال بن الشيخ و عبد المالك مرتاض ..و من تونس مثل محمد لطفي اليوسفي و عبدا لهادي الطرابلسي ..
و تساءلت إن كان من بين هؤلء من يستطيع أن يقدم مشروعا نقديا مغربيا/مغاربيا عربيا ..تعارفيا يفك معضلة
التبعية ،و يؤسس لعملة نقدية .
هذا باختصار مجمل الخطوط العريضة لحديث سابق ،و اليوم إنما أحاول أن أثبت أن المر ل يتعلق سوى بحداثة
موهومة مأزومة ،منقولة مفصولة ،مفصومة ،تحتضر أو قل إنما هي في غرفة العناية المركزة أو في مــــوت
سريري الذي إنما هو شر من الموت البيولوجي .سأحاول أن أتأمل معكم العوامل التي أفضت إلى هذه النهايـــــة
المأساوية من خلل بعض المشاريع الوهام :كحداثة عبدالكبير الخطيبي متفلسفا و أديبا و حداثة بنيس شاعــرا
و دارسا و جمعويا و حداثة عبدال العروي مؤرخا و فيلسوف تاريخ إسطوغرافيا وأديبا روائيا و حداثة محمد
مفتاح ناقدا دارسا و بعض الحداثات أو التصورات المنقولة الخرى .
3
I-الحداثة المأصولة أو نقد الحداثة المنقولة
قبل أن أتبع هذه الحداثات المنقولة ،أود أن أتوقف معكم ،أمام الخطوط العريضة للحداثة العربية السلمية
المأصولة كما يقترحها الفيلسوف المفكر المبدع طه عبدالرحمن ،الذي ما فتئ ،بحكمة و إيمان ،يشيد صرحا
فلسفيا فريدا على المستوى العربي و السلمي بل وعلى المستوى العالمي ،و الذي -للسف الشديد – اكتشفته
متأخرا جدا ،لني كنت أقتدي بتأشيرات الحداثيين النقلة الذين ما فتئوا يضربون عليه طوقا من التجاهل و
التناسي ،لنه وضع أصبعه على الجرح العميق واضعا هؤلء النقلة أمام حقيقة قدامتهم و تقليديتهم التي هي
شر من تقليدية مقلدة المتقدمين .
ومن غايات هذا الحديث التعريف بهذا المتفلسف الصيل المبدع ،خصوصا و أن بعض الساتذة الزملء كانوا
يقترحون أهمية أن يتناول في أنشطتنا الموازية الثقافية مشاريع متفلسفتنا لنقدمهم إلى تلميذنا ،و إن كان
المعول في ذلك على أساتذة الفلسفة .و لكن يبدو أن الفلسفة عندنا تسير نحو التأنيث بالمعنى المادي و الرمزي
؛ أي فقدان الفحولة و القدرة على الفعل .
قبل ثلث أو أربع سنوات أثار انتباهي مقال في العلم الثقافي بقلم طه عبدالرحمن ،يتعلق بالفلسفة والترجمة،
لعله كان مقدمة كتابه الذي بسط فيه جزءا من مشروعه الفلسفي تحت عنوان رئيس " فقه الفلسفة " و عنوان
رديف " الفلسفة و الترجمة" و الذي سيصدر سنة ..1995أثار انتباهي من ناحيتين :
الناحية المنهجية أو معمار المقالة القائم على هندسة تشييدية واضحة ،بحيث يقدم المسألة أو الدعوى أو
الطروحة سواء التي يدافع عنها بالستدلل و البرهنة و الحجاج ..أو التي ينقضها أو يردها أيضا بالبرهنة و
الستدلل و الحجاج .أما الناحية الثانية التي أثارت انتباهي لغته أو بيانه الرصين المتين و اتساق أسلوبه و دقة
معجمه و تراكيبه ،بشكل ل نكاد نجد له مثيل في الخطابات العربية فلسفية كانت أو نقدية .
فل إبهام و ل غموض و ل نبو لية مفردة أو كلمة ،و إنما بناء مشيد أو مشيد ،يخاطب ذهن القارئ و روحه ،
فل يجد أية صعوبة في وعي و إدراك قول الرجل ،و قد تكون الصعوبة فقط في استيعاب كل قوله و دلئله و
براهينه و تأثيلته و تشقيقاته .
و أخذت أتلهف و أتلقف بمتعة بعض مقالته التي تنشر في مجلة "المنعطف " ثم أخذت أتلهف و أتلقف كتبه
بدءا بكتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث " ...إلى" سؤال الخلق" ثم " الحق العربي في الختلف
الفلسفي" ثم " الحق السلمي في الختلف الفكري" و أخيرا " روح الحداثة"( . )2006
لقد صحبت هذا الرجل منذ السنة الماضية ،أو صاحبني ،بالخصوص في غربتي أو عزلتي في مدينة صفرو
...فانكببت عليه دفعة واحدة ؛ ما أكاد أقرأ الفصل أو الفصلين من كتاب له حتى أقتني آخر فيصرفني عن
السابق ،و قد وجدت فيه الكاتب المتفلسف الذي يناسب ذوقي و طريقتي الخاصة في التفكير حتى لني أقرأ له
الفكرة أو الدعوى فيخطر لي أنه سبقني إليها .
و عندما زارني أحد الزملء الجدد ،و أخبرته أنني منكب على قراءة هذا المفكر ..قال لي فيما يشبه النصيحة "
احذر أن يصيبك أو يعديك بالحمق أو الجنون" و هو قول ل شك أن صاحبي قد سمعه من آخرين .أجبت زميلي
بأن ما يؤدي إلى الجنون إنما هو قليل الفلسفة أو كما يقول طه عبدالرحمن نفسه" إن القليل من الفلسفة يورث
الشك و الكثير منها يورث اليقين"،و حقا ،،لحظت أن من يأخذ الفلسفة أو ينقلها يصاب بمس ،و أن من
يمارسها حقا يكسب الحكمة.
و ربما جئت إليكم لختبر نفسي أو عقلي ،فلعلي ما أصبت بمس ،و لعلي باق كما فارقتكم قبل أ شهر.
و أعتبر أن الجيال الجديدة ستكون محظوظة عندما تقرأ طه عبدالرحمن .و بعض نصوصه قد دخلت المناهج
المدرسية في بعض الكتب في اللغة العربية و في الفلسفة ..و ربما تحاول المدرسة أن تدجن أو تلتف على فكره
و الحقيقة أنني ل أثق كثيرا في هذا التبني الكمي للفلسفة و" تجديعها "( تدريسها منذ مستوى الجذوع
المشتركة) ،عندما نظرت إلى احد الكتب المدرسية في اللغة العربية للجذوع العلمية و التقنية وجدت انه يقدم هذا
الرجل بأكثر من عقدين من التخلف عن جديده ،فل يثبت له سوى بعض الكتب .و الحق أني كنت أجهلها ؛ إثنين
منها أطروحتاه الجامعيتان من باريس /جامعة السربون :الول بعنوان " اللغة و الفلسفة " 1972و الثاني
بعنوان " المنطق النحوي و الصوري " و لعلهما كتابان أنجزا باللغة الفرنسية ( بالمناسبة فهذا الفيلسوف
يعرف كثيرا من اللغات الحية حق المعرفة ؛فإلى جانب الفرنسية يتقن النجليزية و اللمانية خصوصا ،و قليل
من متفلسفتنا من يعرف اللمانية ،و هو من مواليد 1944و هو أستاذ فلسفة اللغة و المنطق بكلية الداب
بالرباط ).و ل تتجاوز تلك النبذة المدرسية كتابه المبكر" أصول الحوار و تجديد علم الكلم" ،و اندهشت كيف
ل يوضع التلميذ أمام جديد الرجل ،و ما أكثره و ما أجله و أجزله.
ومن أهم كتبه ،مشروعه الضخم الذي أنجز نصفه ،و لشك أنه منكب على النصف الثاني .إنه مشروعه " فقه
الفلسفة" الذي يتكون من أربعة كتب اثنان منها منجزان و الخران ينتظران :
الول ":الفلسفة و الترجمة "
4
الثاني " :القول الفلسفي" و يتكون من ثلثة كتب ( المفهوم و التأثيل /الدليل و التخييل /البرهان و التمثيل)
و متابعة لنفس المشروع ،و في جانب آخر منه جاءت كتبه الخرى :
"العمل الديني و تجديد العقل "– " سؤال الخلق " ثم " الحق العربي في الختلف الفلسفي " و الحق
السلمي في الختلف الفكري" و كتابه الخير " روح الحداثة" .
و في باب المنطق و فلسفة الحوار و المناظرة أصدر كتابه المتميز " اللسان و الميزان أو التكوثر العقلي"
إضافة إلى كتيب " حوارات من اجل المستقبل " الذي هو في الصل مجموعة من الحوارات الصحفية التي
أجريت معه...
عندما نتأمل هذه العناوين أو هذه المواضيع نجد أنها تتمحور حول جملة من الموضوعات الساسية :
موضوعة الحوار و الحجاج :و يمكن أن نقول إن الرجل إنما يجدد فعل علم الكلم و يؤصل للحوار و مراتبه ،و
سيعيد و يطور قيم المناظرة كما تطورت في التقليد العربي السلمي .يدعم ذلك بعلم المنطق باجتهاده المتميز
عالميا ":اللسان و الميزان أو التكوثر العقلي "؛ و هو فعل يعطي نموذجا فريدا لخلقية الحوار بالتي هي
أحسن ،متعاليا عن أية أهواء أو حسابات ضيقة أو مسائل شخصية ؛ يجادل الدعوى و الرؤى و البراهين ل
الشخاص ،فهو ينظر إلى القوال و ليس إلى القائلين .
موضوعة الفلسفة و الترجمة :هي فلسفة مأصولة ،نقيض الفلسفة المنقولة .أو قل فلسفة مؤثولة موصولة
نقيضا للفلسفة المفصولة .لقد تأمل الرجل وضعنا الفلسفي العربي و المغربي خاصة فلم يجد فيلسوفا واحدا
يمكن أن يقال عنه إنه صاحب فلسفة ما ،أو صاحب نظرية أو أطروحة ما و إنما وجد طائفة من النقلة التابعين ؛
وجوديين أو شخصانيين أو تاريخانيين أو تفكيكيين ،أو تواصليين ..أو بنيويين ،مجرد مقلدة يوصفون عند
البعض بأنهم مفكرون حداثيون .و من هنا أصبح يلح عليه السؤال أو القضية ،كيف النتقال بالمة العربية من
التبعية الفلسفية ،ومن التقليد في الفلسفة إلى البداع أو الفلسفة المبدعة الحية ،على أساس أن الفلسفة إنما
هي إبداع حي و ل يمكن أن تكون تقليدا و تبعية ،لن في ذلك موتا للفلسفة .من هنا جاء مشروعه في فقه
الفلسفة أو قل فلسفة الفلسفة :العلم الذي بواسطته نتأمل و نفكك سيرورة الفلسفة ،و طرائق اشتغالها ...فذلك
هو الخطوة الولى الضرورية لتأسيس القول الفلسفي العربي الحي المبدع المأصول؛ فقدم نظريته حول ترجمة
الفلسفة ،و هي عنده لبد أن تخضع لتصور تدرجي ديداكتيكي –إن شئنا -يؤسس للممارسة الفلسفية ،و ليس
للنقل أو الحفظ الفلسفي ،فلبد في نظره أن تمر الترجمة الفلسفية بهذه المراتب:
الترجمة التأصيلية( المأصولة) التي تراعي المجال التداولي العربي ،لنه لحظ أن الفلسفة تظل غربية ما لم
تتأثل لغويا و تتأسس مفاهيمها على التأثيل من المجال التداولي ( و التأثيل عنده رديف التأصيل تقريبا ،إنما
التأثيل فيه ربط بالصول ؛ فل مجد مؤثل دون تلك الصول) و قد أعطى مثال على ذلك التأثيل ،و على تلك
الترجمة المأصولة بترجمة كوجيتو ديكارت ،حسب المجال التداولي العربي و حسب ما يسميه خصيصة البيان
العربي أو اللسان العربي و هي الطابع الخطابي :هيمنة صيغة الخطاب ..و هو نفس الطابع الذي سيستعمله في
كتاباته الفلسفية .في مقابل ما يسميه بهيمنة الصيغة الذاتية النوية مثل في اللغة الفرنسية .وراح يعدد صيغ
تلك الترجمة على أساس وجود الذات في الخر و وجود الخر في الذات ..و هي الترجمة التي استهجنها أولئك
الحداثيون المقلدة .
الترجمة التوصيلية :تربط الترجمة التأصيلية بما لدى الخر.
الترجمة التحصيلية :ترجمة دقيقة و التي ليمكن أن تكون حرفية أبدا.
و يرى أن القول الفلسفي ل يعدو أن يكون ،مفهوما أو برهانا أو دليل .فالمفهوم يلزمه التأثيل حسب المجال
التداولي ؛ و من تأثيلته مثل مفهوم الكلم نفسه ،فالكلم في العربية يعود إلى أصل كلمة (كلم) بمعنى (جرح)؛ و
عليه ،فالقول الفلسفي إنما هو تشقيق و اجتراح للمفاهيم .و من أمثلة هذا التأثيل الخلق ما جاء في كتابه "
الحق العربي في الختلف الفلسفي " عندما شقق أو كلم كلمة قومية ،من قوم و قوام و قيام و قومة و تقويم و
مقاومة...و يكتمل هذا المشروع " فقه الفلسفة" بكتابي" الدليل و التمثيل " و " البرهان و التخييل" .
تبدو العلقة عند الرجل وطيدة بين اللغة و الفلسفة و لهذا فإنه يتحدث عن" الحق السلمي في الختلف
الفكري"و عن " الحق العربي في الختلف الفلسفي " خصوصا و أنه دفع الشبهة الكبرى بين التضاد ما بين
السلمي و العربي .
موضوعة الختلف و الحق :فالفلسفة عنده إنما هي اختلف و حق في الختلف ،و الكلم في ذلك إنما اندرج
عنده في نقد الهيمنة الغربية أو تمركزها العرقي الفلسفي و ذلك بتفكيك أطروحة كونية الفلسفة و عالميتها ،
عندما يبين أن الغرب إنما يؤمن بأن الفلسفة هي خصوصية غربية ،بل إن الوروبيين يومنون بأن الفلسفة إنما
هي أوروبية ،بل إن اللمان يؤمنون أن الفلسفة إنما هي خاصية ألمانية ،فلحظ أن الفلسفة فا فتئت" تتأورب "
،ثم ما فتئت تتألمن ،ثم ما فتئت تتهود مقدما هذه المسارات من خلل العديد من السماء ،مبرزا كيف أن
هيدغر -الذي يلتقي معه فيلسوفنا في خاصة التأثيل و تشقيق الكلم -عندما راح يبرز كيف أن الفلسفة الغربية
5
ل تخلو من أصول دينية مسيحية بل يهودية حتى في مرحلتها اليونانية ،و كيف هيمن اليهود على الفلسفة اليوم
،حاصره اللوبي الصهيوني و رافعو شعار معاداة السامية ليرتد عن رأيه أو يهون منه .يرى طه عبدالرحمن أن
العرب قد ابتلوا بشر ما ابتلي به عدوهم ؛ فإذا كان هذا العدو قد ابتلي بالتيه في الرض ،فإن العرب قد ابتلوا
بالتيه في الفكر و ل خلص إل بتأصيل القول الفلسفي .
و يكاد يجزم بأنه ل توجد اليوم فلسفة عربية ،كما أنه يكاد يجزم بأنه لم توجد فلسفة عربية إسلمية في
الماضي ؛ و حتى عندما حاول العرب أن يضيفوا شيئا إلى الفلسفة اليونانية من خلل علم الكلم ..فإن ابن رشد
الذي يرفعه اليوم الكثيرون كنموذج للعقلني العربي لم يفعل سوى أن جرد الفلسفة من كل الضافات السلمية ،
و ترجم و لخص أرسطو و قدمه للغرب ،و لهذا يشرح طه عبدالرحمن في كتيب "حوارات من اجل المستقبل "
لماذا هو ليس رشديا ،معتبرا أن ابن رشد إنما قتل الفلسفة العربية وأحيا الفلسفة الغربية .
و يبني طه عبدالرحمن مشروع الختلف الفلسفي العربي و الختلف الفكري السلمي عند الغرب على أساس
مفهوم العقل ،حيث يتجاوز مفهوم العقل و حدوده كما اعتبره الغرب في إطار سيادة النموذج العلم -تقني ،و هو
عنده العقل المجرد المفصول الذي قام على آليتي التجريب و الترويض ( من رياضيات ) و على مفهوم الجرائية
التي تهدف إلى تحصيل نوعين متكاملين من القدرات ؛ هما المكانات و التمكنات ،و إلى مبدإ سيادة النسان
المتمثلة على ثلث مستويات :
سيادة التنبؤ و سلطان السطوة
سيادة التحكم و سلطان البأس
سيادة التصرف و سلطان البطش .
و عنده هذا العقل المجرد هو أدنى مراتب العقل ،سيما و أنه ليس أداة و ل جهازا و ل ذاتا يعرف بها النسان و
إنما هو فاعلية كباقي الفاعليات الجوارح كالسمع و البصر تجمل و تقبح تبعا لثرها.
و النسان عنده ل يعرف بكونه حيوان عاقل على أساس أن هذا ما يميزه عن سائر الكائنات؛ فالعقل عنده يشترك
فيه النسان مع سواه ،ل يفضلهم إل بالنسبة ؛ وإنما يتميز عن باقي الكائنات بالخلق ،فهو كائن أخلقي ؛
يتطلع إلى الكمالت الروحية .ومن هنا يعتبر طه عبدالرحمن الزمن الحالي ،زمنا إسلميا أو مسؤولية أخلقية
إسلمية ،باعتبار أن السلم خاتم الرسالت التي إنما جوهرها هو الكمال الخلقي و أن محمدا ،صلى ال عليه
وعلى آله و سلم ،بعث ليكمل مكارم الخلق ،فالسلم إذن يعطي أساس منظومة الكمالت الخلقية و الروحية
ومن هنا يقول طه عبدالرحمن بوجود نوعين من العقل على القل يطويان/يتجاوزان العقل المجرد :أولهما العقل
المسدد بالشريعة وهو بدوره يطويه أو يتجاوزه العقل المؤيد بالكمالت الروحية ؛ فالعقل المسدد يتجاوز آفات
العقل المجرد و يتضمنه و العقل المؤيد يتجاوز آفات العقل المسدد و يتضمنه.
مدار هذه المراتب من العقل ،إنما هو الفطرة البشرية على اليمان التي ينكرها العقل المجرد أو يتنكر لها ؛
فالنسان كائن منشد إلى اليات ،و لهذا يقترح طه عبدالرحمن مفهوم النظر الملكوتي الذي يتجاوز النظر الملكي
المجرد .النظر الملكوتي في اليات الذي يتجاوز النظر الملكي في الظواهر؛ فخلف كل ظاهرة آية ،و اليات إنما
تشير إلى موجد الوجود و علة العلل؛ و لهذا يحيلنا طه عبدالرحمن على نظرية المقاصد أو الغاية من الوجود.
كنت و أنا أقرأ طه عبدالرحمن أتساءل عن غياب أمرين عنده :
•ألم يفكر هذا الرجل المؤمن في كتابة تفسير حديث أو حداثي للقرآن الكريم ،سيما و أن التفاسير أو
التحليلت الحداثية إنما هي تحليلت العقل المجرد المفصول ..
•هل يقصي هذا الفيلسوف من جمهوريته الشعراء و الدباء و الفنانين ،مثلما أقصى أو طرد أفلطون
الشعراء من جمهوريته ؛ فانا أقرأ أو أقلب مئات الصفحات في كتبه التي تزيد عن العشرة ،لم أجده
يستحضر و لو بيتا شعريا واحدا .
أما عن السؤال الول حول إحجام طه عبدالرحمن عن تفسير القرآن الكريم ،فقد وجدت إشارة إلى الجواب في
كتابه الخير" روح الحداثة" .يأتي هذا الكتاب " روح الحداثة – المدخل إلى تأسيس الحداثة السلمية" تكملة
أو جزءا ثانيا في مشروع "سؤال الخلق" الذي نقد فيه الحداثة و العقلنية الغربية المجردة ؛ فطرح – كعادته
– تصورات و حلول بديلة ،حيث يقوم هذا النقد على نفس الساس الذي انتقد به الحداثيين السلميين ،على
أنهم مجرد مقلدة .ذلك أن تقليد الحداثة ل يكون أبدا حداثة؛ فالحداثة نقيض التقليد ،وهي البداع .و هو ل يرى
فرقا كبيرا بين مقلدة المتقدمين أي السلفيين السلميين و مقلدة المتأخرين أي الحداثيين .
و يميز في هذا الكتاب بين ما يسميه روح الحداثة و التطبيق الغربي للحداثة ،بعد أن يعرض لمجمل السس التي
تم تعريف الحداثة بموجبها ،ينتهي إلى أن الحداثة إنما قامت على ثلثة مبادئ :
* مبدأ الرشد :و يقتضي وجود الستقلل عن الوصياء و الولياء و وجود إبداع في القوال و الفعال.
* مبدأ النقد و يقتضي ممارسة التعقيل في كل شؤون الحياة و ممارسة التفصيل في كل أمر يحتاج إلى مزيد
الضبط .
6
* مبدأ الشمول :و يقتضي حصول التوسع في كل المجالت و حصول التعميم على كل المجتمعات .
فروح الحداثة إنما هي روح راشدة ناقدة شاملة .
هذا عن روح الحداثة ،أما التطبيق الغربي للحداثة فقد أفضى إلى ما بعد الحداثة التي تناقض هذه الروح و تلك
المبادئ الثلثة .
و على أساس روح الحداثة يقول طه إن التطبيقات لبد و أن تكون مختلفة ،و في مقدمتها التطبيق السلمي
الذي يعطي منه نماذج :
* التطبيق السلمي لمبدإ النقد الحداثي :و فيه يبين أحقية السلم بدرء الفات الخلقية للعولمة ،خصوصا تلك
التي لحقت بنظام السرة.
* التطبيق السلمي لمبدإ الرشد :و فيه يتطرق إلى الترجمة الحداثية و الستقلل المسؤول؛ حيث يفكك و ينتقد
القراءات الحداثية للقرآن الكريم ،أي القراءة المقلدة و خططها ،و يقدم ،بالمقابل ،القراءة الحداثية المبدعة
للقرآن الكريم بشروطها و خططها ذات البداع الموصول .و في هذا قسط من الجواب عن تساؤلي الول ،إل
أنني سأنتظر يوما يخرج فيه طه عبدالرحمن بقراءته المبدعة للقرآن الكريم ،أو يخرج فيه أحد تلميذه بتلك
القراءة .
* التطبيق السلمي لمبدإ الشمول الحداثي القائم على ركني التوسع و التعميم :تناوله الكاتب من خلل النتقال
من التوسع المقلد ،الذي اهتم باللت أكثر من الفكار /النسان ،إلى التوسع المبدع الذي يبتدئ فيه مسار
الحداثة من الخلق/النسان ثم الفكار ثم المؤسسات ،فاللت .و النسان ،في هذا التوسع المبدع أقوى من
الحداثة نظرا لتبعية الجسمانية للروحانية .أما التعميم المبدع فهو دعوة إلى العالمية ؛ ذلك أن السلم جاء رحمة
للعالمين .
أما التساؤل عن موقف طه عبدالرحمن من الشعراء فقد عثرت في مجمل ما كتب على بيت شعري يتيم أحاله
عليه أحد أصدقائه بعدما ترجم كوجيتو ديكارت إلى " فكر تجد " ،يقول ذلك البيت :
***** انظر تجد فيك الوجود بأسره يا تائها في مهمه( )1عن سره
و لكن في كتيبه "حوارات من أجل المستقبل" في باب صوفيات نص /جواب طريف رائع عن سؤال :
انطلقا من تجربتكم الصوفية و الفلسفية كيف تبنون موقفكم الجمالي حيال مجال الفن و البداع و فنون القول و
المسرح و الموسيقى ،،هل لكم نظرية جمالية حيال هذا الموضوع؟
قدمت إجابة طه عبدالرحمن نواة نظرية جمالية طريفة يمكن تسميتها " نظرية الجمال و الجلل" ،كما نود
عرضها في نهاية هذا الحديث لننا سنفترض أنها تؤسس لحداثة أدبية جمالية عربية تحتاج إلى من يتعهدها ،
من النقاد المبدعين .و لكن ،قبل ذلك ،نحاول أن نعرض لمظاهر التيه و التبعية في بعض الحداثات الفكرية و
الدبية المغربية على الخصوص .
IIالحداثة المنقولة :حداثة التيه و الفراغ و الستلب
-1حس الزمة و وعي الزمة
يدرك اليوم جل مقلدة المتأخرين أي الحداثيين النقلة أنهم في أزمة ،و أمام هزيمة فكرية شنيعة ،على مستوى
النقد الدبي عندما استجلب أو استحلب هؤلء نقد النقد عن" تودوروف" و عن" رولن بارط" ،وقفوا على
حقيقة أنهم ساقطون في تبعية مستحكمة لصندوق النقد الدولي الرمزي ،مثلما نقرأ ذلك عند المصري سيد
بحراوي أو عند شكري محمد عياد أو عند التونسي محمد لطفي اليوسفي ،أو عند المغربي محمد بنيس في
كتابه الخير" الحداثة المعطوبة" وهو كتاب يحاول أن يعكس أو يعبر عن الحبسة التي تقف في حلقه ،حتى
لكأن الكتاب غمغمة و فقدان للسان ،تعبيرا عن إخفاق مستشر .حبسة تصيب المصدوم جراء انكشاف الوهم
الذي ظل يتبعه هؤلء الحداثيون لعقود ..و لضيق المقام ،لنكتف باستحضار بعض عناوينه الداخلية المعبرة عن
عطب اللة أو الليات :هل الليل هو النهار ؟هو عنوان الفتتاحية ،و نقرأ فيها مثل" :هي الكلمات تحترق في
الحلق ،قبل النطق ..أرصد و ألحظ هذا الذي يقع في ثقافة سعت إلى حداثة ،فيما هي تبرز منفية في عهد لم تكن
تعلم أنه سيكون عهد المأساوي ...ما ل يدركه أنصار التمجيد .سنوات من التأمل ظلت الكتابة فيها بهذا الوعي
مرادفة للمعنى أو للهرطقة السفسطائية في مجتمع ثقافي غير مهيأ ليبصر ما يحدث حوله ، .لنه كان يتوهم
أنه يعيش عهد المجد .كل كتابة نقدية عن الثقافة و السلطة و الهوية و الوحدة و المؤسسات و السياسي و
الثقافي و المثقفين كان ينزع عنها حق القامة في المدينة"
و عدم القامة في المدينة أي في مشروع حضاري جمعي ،هو ما عبر عنه المفكر الديب الصريح بنسالم
حميش في آخر كتبه " ،بداوة الفكر في مقابل ثقافة الحجر" الجنبية من طرف الهيمنة اللينة و الهيمنة الصلبة
أو ما يسميه الهيجمونيا أي النتشار و الكتساح بدافع إرادة القوة و السيطرة ،في طبعتها الخيرة ؛العولمة .و
قدم حميش نموذجين للتدليل على ذلك :الفرانكفونية و الفرنسية من جهة ،و عن مأساة( أدبنا) الفرنسي ..و
7
في نقد بداوة الفكر تحدث عن محنة الفكر بين العرابي و التباعي ..و عن خطاب المازيغيات و فخاخ البداوة
الجديدة و عن تاريخانية العروي أو الحداثة المعاقة...
هناك إذن حس عام بالعطب الشامل و بانكشاف الوهم ،وهم تقليد الحداثة و حداثة التاريخانية .و هناك من جهة
أخرى وعي أولي بأسباب العطب ،وطرق تجاوزه أو البديل أي العودة إلى جوهر الحداثة من رشد و نقد و
شمول .و هناك مكابرة من كثيرين في عدم العتراف بالغي الحداثي التباعي ،و ذلك بوضع الصابع في
الذان و تجاهل نصائح الطباء.
من الحكايات التراثية العربية الطريفة ما يحكى عن نبي ال سليمان عليه السلم أنه لقي يوما شيخا يقود أربعة
حمير (أحمرة) ،فعرف انه الشيطان لعنه ال..فسأله عن المر ،فقال إنما هي تجارته /تجارة الشيطان ،و إنما
هي أربعة أحمال أو سلع :حمل الحمار الول :هو تجارة الكبر يبيعها الشيطان للملوك ،و حمل الحمار الثاني :
تجارة الخيانة و يبيعها الشيطان للتجار ،و حمل الحمار الثالث :تجارة الكيد ،و طبعا يبيعها الشيطان للنساء ،
و أما حمل الحمار الرابع فهو تجارة الحسد و يبيعها الشيطان للعلماء .
و مغزى هذه الحكاية أن الكبر شر ما يكون عند ما يدخل الملوك ،و أن الخيانة شر ما تكون عندما تدخل
التجار ..و أن الكيد شر ما يكون عندما يدخل النساء ..و أن الحسد شر ما يكون عندما يدخل قلوب العلماء..و
النقاد و المثقفين..
تصوروا كتيبا يصدر بعنوان " في الحاجة إلى إبداع فلسفي " في سلسلة منشورات الزمن ،و ليس فيه أية
إشارة من قريب أو من بعيد إلى صاحب مشروع البداع الفلسفي العربي و لو من قبيل الدحض أو التفنيد ..و هو
أمر نجده في الدراسات الفلسفية و النقدية و الدبية العربية ؛ تجاهل طه عبدالرحمن بشكل شبه كلي ،إنه
الحسد و قد دخل قلوب علمائنا ابتاعوه من الشيطان .
-2حداثة الغموض و العمى
إذا سألت مثل هذه القاعة عن أهم أفكار أو تصورات العروي أو عن فلسفته ..لغمغم البعض بأنها فلسفة
التاريخانية و مقولة القطيعة البستمولوجية مع التراث و تجاوز الفكر السلفي أو النزعات السلفية ،وبناء حداثة
عربية /مغربية على هدى التاريخانية ،و إذا سألت عن التاريخانية لغمغم البعض أيضا بأنها كذا و كذا ..من قرأ
العروي ؟ من فهم العروي ؟ من تداول العروي ؟ و كيف تداولوه في العالم العربي ..هنا مثال عن مكمن الداء
..إنه نموذج لجنبية العملة الرمزية ،فما التاريخانية سوى نزعة التمركز الغربي ،و ما هي إل مقدمة
للهيجمونيا الكتساحية ،وتأمل نشأتها و مقولتها كما لخصها المفكر المغربي علي أمليل (.انظر ص . )11
و لنتساءل مثل لماذا يكتب العروي دراساته التاريخية و الفكرية و المفهومية أو المفاهيمية باللغة الفرنسية ،
بينما يكتب رواياته باللغة العربية ،هو يبرر المر بأن الرواية تتصل بالوجدان الفردي و الجمعي ،و إنها
استدراك بواسطة الميتوس على ما ل يستطيع أن يقوله بواسطة اللوغوس ؛ أي العقل المجرد ،وهل هناك عقل
مجرد إذ الميتوس يخترق حتى النساق العلمية نفسها ؟
أل يتصل الفكر النظري هو كذلك بالوجدان ؟ لماذا يكتب العروي عن المغرب أو عن العرب و ليس عن اليابان أو
أستراليا مثل ؟ الجواب طبعا أن وجدانه متعلق بالمغرب و بالهوية المغربية .و لكن المر متعلق بانفصام
الشخصية و اللسان ؛ حداثيون أرواحهم في الغرب و أجسادهم هنا أو العكس ،هم أول من أحرق( حرك)
"الحريك" الثقافي ،بل إنهم" حراكة" مشرفون على هذه الهجرة السرية ؛ تهريب الوجدان قبل تهريب البدان
و ليست الرواية عند العروي سوى تقفي لوهام الذات و ظللها ،تلك الذات المفتقدة كما يمكن أن نقرأ سيرة
إدريسه الذهنية في إطار لعبة مراياها المتقابلة و تعددية أصواتها.إذ تقوم هذه الرواية على أطروحة مركزية ،و
هي أن السيرة مفهوم و همي و أنها ممتنعة ،و أن " أوراق " إنما هي فيقول في امتناع السيرة .
و نعرف أن السيرة تاريخ فرد ،و بالمقابل ،فإن التاريخ سيرة جماعية .فإذا كانت السيرة ممتنعة ،و السيرة
تاريخ ،يكون التاريخ بدوره ممتنعا .نعم إنه مجرد وجهات نظر ،ما يغزله العروي في دراساته ينكثه في
رواياته ،و لهذا ل يريد أن تقرأ رواياته في ضوء دراساته ،فهل يقبل أن تقرأ دراساته في ضوء رواياته ؟
مثلما يبني العروي صرحه على مفهوم التاريخ الغربي و التاريخانية ،فإنه أيضا يبني تصوره للرواية ؛
فـــأوراق يمكن تسميتها أو نعتها بكونها رواية الرواية و بأنها خطاب ميتاروائي – سيستحضر فيها العروي
الكثير من التجارب الروائية و النظريات الغربية فقط ،دون أية إحالة على رواية عربية أو حتى أمريكولتينية
واحدة،فكأنه يقول علينا أن نلعب لعبة الرواية و الحكي ،بالطريقة التاريخانية نفسها ؛ فل توجد – في رأيه –
رواية عربية ،و إنما هناك قصص فقط و حتى نجيب محفوظ عنده ل يضيف شيئا .
إن الهيمنة اللينة أو الستتباع الثقافي ،كما يقول إدوارد سعيد ،و هو الخر أحد نقاد ما بعد الستعمار ،تريد أن
تمحو ذاكرات الشعوب و المم الخرى و تكتب تاريخ العالم كما تريد .و لهذا تعتبر الرواية أحد رهاناتها لنها
ترتبط بالذاكرة و التاريخ ..و ربما لهذا السبب نلحظ كيف أن بعض الروائيين الصلء العرب يراهنون على
الرواية التاريخية ،أو التاريخ الروائي..
8
من النقاد المغاربة الذين تبنوا رؤى العروي و تاريخانيته وحداثته الناقد محمد مفتاح ،الذي كان قد قدم إحدى
أطروحاته تحت إشراف أحد الحداثيين المفصولين العقلنيين المجردين ،الجزائري محمد أركون ،
السلمولوجي الذي ما فتئ ينزع عن القرآن قدسيته و يجرده و يضفي عليه طابع الدنيوية ،فهذا الناقد الذي ما
فتئ يعلمن النقد و يتحول به نحو علم للدب أو علم للنص ،يمارسه بالخصوص على النصوص ذات الطابع
الصوفي أو المتبني للدبيات و الجماليات الصوفية ..يخرج علينا بكتابه الخير" رؤيا التماثل " و هو يتبنى
نظرية النتظام ؛ انتظام الكون ،معتبرا أن الكتاب مقاربة عقلنية للدفاع عن فلسفة التماثل التي هي أساس
لفلسفة الختلف ،و إذ هي كذلك فإنها تشييد ،و كل تشييد يتم في مقتضيات أحوال ..و أنه كتاب يسعى إلى ..
أن يكشف عن البنيات العميقة المشتركة بين أناس يتوطنون في مجال معين (يقصد حوض البيض المتوسط)
مما جعلهم يتفاعلون و يتفاهمون ،و يتبادلون المصالح و المنافع و يتواجهون من أجلها ،لكنهم كانوا يحتكمون
إلى معايير و مكتوبات و تقاليد قبل أن تهيمن الداروينية الشعبية ،و الماركسية الحرفية ،و النظريات السياسية
النفعية ،أي قبل انتشار أطروحة البقاء للصلح و صراع الطبقات و صراع الثقافات و الحضارات ..و هي
أطروحات ناتجة عن قياس عالم النسان على عالم الحيوان.
و حتى ل نقول إن الكتاب يقوم على مغالطة أو مغالطات ،نقول إنه يقوم على نوع من التأسي على إثر انكشاف
الوهم ،وهم العقلنية المجردة .فما رؤيا التماثل التي هي أساس فلسفة الختلف إل رؤيا ما قبل الحداثة لن
الفلسفات التي يؤرخ صاحبنا لما قبلها و هذه النزعات ،ليست سوى فلسفات و نزعات الحداثة الغربية التي
أردنا نقلها و استنساخها .
و من جهة أخرى نجد أن الكتاب فعل هو دراسة في رؤيا التماثل على ثلثة مستويات :الزمنية ،و النغمية و
الشعرية ،و لكن في الضفة الشرقية أي العربية السلمية فقط عند ،ابن عربي و ابن خلدون ،و في شعر
الملحون و أدونيس ،و الشاعر محيي الدين عبدا لعزيز خوجة ،في ديوانه "أسفار الرؤيا" .
و لكأني بصاحبنا يكذب على نفسه ،بهذا الوهم ،و إل تقصى رؤيا التماثل في الضفة الشمالية متجاوزا إلغدي
دانتي اليطالي الذي يحضر استثناءا .و نفس التصور حول مقولة ثقافة المتوسط هو ما اعتمده عبداللطيف
اللعبي في أنطولوجياه للشعر المغربي ؟ !
ج -الحداثة كنضال على الطريقة الطاوية :
"المناضل على الطريقة الطاوية" عنوان ديوان الشاعر الروائي المفكر السيميولوجي المغربي المتفلسف
عبدالكبير الخطيبي ،الذي ربما غمغمنا معه بمفهوم النقد المزدوج لميتافيزيقا السلم و ميتافيزيقا الفلسفة
الغربية ،و بالسم العربي الجريح ،و الذاكرة الموشومة ،،و هو في نفس الن داعية الحداثة كبناء للمستقبل و
من أوائل من دعوا إلى بناء المجتمع المدني و الديمقراطية و حرية التعبير و حقوق النسان ..و لكنه بالمقابل
ذاك المستغرب الذي يكتب باللغة الفرنسية و يهتم بالثقافة الشعبية المغربية و الفن المغربي كخصوصية
ثقافية ،و هو صاحب القول الشائع أن المثقف (متقف ) عاجز عن الفعل ،و أنه هو شخصيا ل يمكن أن يحيا
حداثة إل في إطار الغرب الذي انتقده.
و من أطروحاته ،أطروحة التشغيب على الفكر و الحضارة الغربية بلعبة النقيض و الضديد ،و المفكك الناقد
المفكر على طريقة نيتشه و هيدغر و بل نشو و هيغل و رولن بارط ،و هذا التشغيب بإحياء اللمفكر فيه و
الهامشي أو المهمش و المسكوت عنه و المقموع ،قاده إلى النضال على الطريقة الطاوية التي تعني معانقة
الهاوية أو التحديق في اليأس و الفراغ و اللمعنى .
كيف يجمع اللمعنى و المعنى ؟ ل يجتمعان إل عند الشعراء أمثال محمد بنيس و محمد بنطلحة ..ممن أخذوا
مشاغبات و حدوس عبدالكبير الخطيبي و نقده المزدوج ،فل نستغرب إذا سمعنا محمد بنيس ،و هو الذي راهن
على المجلت و الجامعة ،و دور النشر ،والجمعيات ،آخرها" بيت الشعر " .ل نستغرب عندما نسمعه في
برنامج " فنون و آداب" " "arts et lettresفي القناة الثانية المغربية ،قبل أشهر يقول إنه لم يعد يدافع عن
شيء ،و إذا سمعناه يغمغم بحبسة الحداثة المعطوبة ،و هو الذي اختار منذ البدء بالمقابل أن يناضل على
الطريقة الطاوية ؛ أن يحدق في اليأس و الفراغ و اللمعنى و يعنون أحد دواوينه بهبة الفراغ ،و هو الذي ترجم
النقد المزدوج لستاذه الخطيبي .
من تجليات أزمة الحداثة المنقولة المعطوبة إذن :
-1انشقاق اللسان و انفصام الشخصية كمعطى للتغريب ،و التكوين الثقافي الستعماري .
-2الجمع أو الخلط بين الحداثة الحضارية العامة ؛ القتصادية و الجتماعية و الفلسفية و السياسية ،و
الحداثة الفنية أو الشعرية ؛ أي الجمع بين الدعوة إلى بناء الحداثة و التشغيب على الحداثة .أهو
تشغيب على الحداثة المتطلع إليها عربيا أم على الحداثة الغربية التي تتسم بالمكر باحتواء نقيضها و
المشاغب ّ ،بل هي التي تحرض عليه.
9
-3فساد و اختلط المجال التداولي العربي عموما و المغربي خصوصا برطانات ،عرنسيات و فرانكفونية
و نزعات أمازيغية ...
-4إن عطب هذه الحداثة ،حداثة مقلدة الخرين ،فسحت المجال نحو نزعات أصولية أصبحت تنادي
بالدب السلمي رابطة أو مسقطة الدين على الدب ،كما تحاول أن تسقطه على السياسة ،كما
يتبدى ذلك في رابطة الدب السلمي بالسعودية و مجلتها" الدب السلمي " ،و مجلة "المشكاة
"المغربية ،و تنظير الدكتور حسن المراني بكتيبه " الدب السلمي"الذي أراد أن يتصدى له الناقد
المقارن سعيد علوش في كتابه الخير " المركزية العقائدية في نظرية الدب السلمي " و هو كتاب
يشبه المسودة التي تحتاج إلى تبييض و لعلها خاصية جل كتب هذا الرجل غزير النتاج ،و هو ينتقد
مركزية عقائدية بمركزية عقائدية أخرى ،هي المركزية العقائدية للتطبيق الحداثي الغربي.
III-هل يمكن أن تشكل حداثة طه عبدالرحمن المأصولة المبدعة على مستوى الفكر و الفلسفة خلفية فلسفية جمالية
لنظرية أدبية نقدية ؟
يفاجئنا طه عبدالرحمن في "حوارات من أجل المستقبل " بهذه المعطيات عن حياته :
-أنه قبل أن تكون له نظرية في الجماليات ،كانت له فيها إبداعات .
-أنه تابع سنة ، 1967/1968و هو طالب في الفلسفة ،دروسا في الجماليات و تاريخ الفن بمعهد الفنون
الجميلة بباريس.
-انه مارس الشعر في سن مبكرة ،ن و أن النقاد شهدوا آنذاك أنه شعر جيد ،لكنه توقف عن كتابة الشعر
بقرار اختياري غداة حرب يونيه ،1967و كانت آخر قصائده بعنوان " في طريقي إلى قصيدة"و كأنه يقول
ما قله امرئ القيس اليوم خمر و غدا أمر.
-إنه ربما يعود بعد نهاية مشروعه الفكري إلى دنيا الشعر متى كان يعرج بالروح إلى العوالم البعيدة.
و أما نظريته الجمالية فلنستمع إليه يقول :
"إن النسان الذي ل تكون له نظرة جمالية إلى الشياء في نفسه و في أفقه ،ل أظن أنه سيكون إنسانا كامل ،
نظرا لن النسان ذو بعدين اثنين :أحدهما ،البعد الجللي ،و هو ما تتفتق عنه قريحته من الحقائق التي تمده
بالقوة ،علما أو فكرا أو منطقا أو صناعة أو ماشابه ذلك ؛ و الثاني البعد الجمالي ،و هو ما تتفتق عنه موهبته
من القيم التي تمده بالرقة ؛ أدبا أو رسما أو مسرحا أو موسيقى أو ما شابه ذلك ؛ و النسان الكامل لبد أن
يجمع بين البعدين في حياته الخاصة و حياته العامة ،لنه إنسان متوازن مستو،فبقدرما يكون قويا ،يكون رقيقا،
لن قوته من عقله و رقته من ذوقه ؛ لذلك لبد أن تكون التربية على الجلل عند الصغار و الكبار معا مصحوبة
بالتربية على الجمال حتى يتحقق هذا التوازن و الستواء".
وتختص نظريتي في الجمال(يقول طه) بصفات ثلث ،ل يشاركني ،على ما اعلم ،فيها غيري من المحدثين.
أولها :أن الجمال متعة طيبة ترفع همة النسان إلى مزيد الكمال،بحيث كلما حصلت منها نصيبا ارتقيت في
درجة إنسانيتك ،و ما أن تدرك هذه الدرجة حتى تطلب متعة فوق المتعة الولى ،ترقى بها إلى درجة في
إنسانيتك فوق الدرجة الولى،و هكذا دواليك في جدلية دائمة بين الستمتاع و الستكمال ،كل متعة تنقلك إلى
كمال و كل كمال ينقلك إلى متعة فوقها .
و الثانية أن القيمة الجمالية ،على خلف العقيدة السائدة بين أهل الدب والفن ،ل تعارض أبدا القيمة الخلقية
لن الجمال مراتب ،طرفه الدنى الجمال الظاهر القريب ،و العلى الجمال الباطن البعيد ،و بينهما مراتب ل
تحصى ،و الخلق كذلك مراتب ،طرفها الدنى الخلق الظاهر المقيد ،و طرفها العلى الخلق الباطن المحرر ،و
بينهما مراتب هي الخرى ل تحصى ؛ و كلما ارتقت رتبتك في إحدى القيمتين ازداد قربك من القيمة الخرى ،
حتى إذا نزلت أعلى الرتب في إحداها كنت في ذات الوقت نازل أعلى الرتب في الثانية ،بحيث ل يفترقان إل في
الرتب الدنيا ،أما في الرتب العليا ،فهما مجتمعان اجتماعا ل افتراق معه ؛ فالجمالي العظيم أخلقي عظيم،
والخلقي العظيم جمالي عظيم.
و الثالثة أنه إذا تعذر على أمة ما السهام في محيطها الحضاري ببعدها الجللي ،الذي هو القوة و البأس ،فإنه
يبقى لها دائما متسع في أن تسهم في هذا المحيط ببعدها الجمالي ،الذي هو الرقة و اللطف ؛ من هنا أذهب إلى
أنه يتعين على مفكرينا أن يفكروا مليا في الطرق الجمالية التي ينبغي أن تسهم المة السلمية العربية في القرن
الذي أهل علينا ] القرن [ 21ما دامت ل تتراءى لنا آفاق السهام فيه ببعدنا الجللي قوة بأسا ،و إني متيقن أنه
لو أننا نهتدي إلى هذه الطرق ،فسوف يكون لنا العطاء الجمالي ما نجعل أهل هذا القرن يحتاجون إلينا قدر
احتياجنا إلى عطائهم الجللي.
و عند طه عبدالرحمن أن الصل في فن الكلم ليس ،كما يظن الجمهور،هو النثر ،و إنما الشعر ،فعنده أن
النسان الول إنما تكلم شعرا ،فالكلم الول ل يمكن أن يكون إل كلما مجازيا ،ل كلما حقيقيا ،لن الحقيقة
بناء عقلي بينما المجاز معطى فطري ،و المعطى الفطري متقدم على البناء العقلي ،و ل يتحقق المجاز في أكمل
10
صوره إل في الشعر ..و النثر إنما هو الشعر و قد جرده العقل من نصيب مجازه الصلي ] ..فالتطلع [ إلى
الشعر هو استكمال النسانية و هل يتطلع النسان إلى شيء تطلعه إلى استكمال إنسانيته.
إن لغة الوجود هي لغة شعرية و ليست لغة نثرية ،ذلك أن الحوال في داخلنا و الشياء من خارجنا ،ليست
جامدة و ل صامتة ،و إنما هي حية ناطقة ،و واضح أن حياتها و نطقها ل يظهران في عبارات ملفوظة ،تصدر
من هذه الحوال الشياء ،فتدركها أسماعنا ،و إنما يظهران في إشارات مرموزة تدل بها على مقاصدها،
فتدركها مشاعرنا ،و حقيقة الشعر أنه كلم يتولد من الشعور بالشارة ،بحيث تكون الشارات التي يحملها الشعر
هي عين الشارات التي تحملها الحوال في أنفسنا و الشياء في أفقنا ؛ و على هذا يكون الكلم الشعري جامعا
لطراف الوجود أحوال و أشياء..فالتطلع إلى الشعر هو استكمال الوجود و هل يطمع النسان في شيء طمعه في
تمام وجوده.
و الشعر عنده هو الموصل إلى ما وراء العقل المجرد ،وليس النثر ،لن النثر من آثار العقل المجرد ،و الطلع
على ما وراء حجاب ينبغي أن ل يكون بواسطة تكون أثرا لهذا العقل ،و ليس تلكم الوسيلة إل الشعر ،فالشعر
هو الذي يمكن النسان من اختراق السبع الطباق و النفاذ إلى العوالم الخفية و الفاق اللمتناهية.
فالقصد من التطلع إلى الشعر تجديد روحانية النسان ،و أقصى ما يطمح إليه النسان تجيد روحانيته.
وبعد هذا النص الطريف في نظرية الجمال و الجلل و الستمتاع و الستكمال ن اعتقد أن المستقبل القريب ،
سيعطينا نقادا و منظرين لمثل هذه الحداثة الموصولة التي ل تعارض فيها بين الخلق و الجمال ،بل هو التكامل
في أعلى رتبه الذي ل يلغي المراتب الخرى بما فيها المراتب الدنيا ،و إن حضارة يكون لها من الجلل ما كان
للحضارة العربية السلمية ،تكون قادرة على احتواء كل الشغب الجمالي بشرط أن يكون داخل مجالها التداولي
المنسجم ،و داخل لغتها و لسانها المبين ،فلنتأمل هذا الشاعر المسلم ،سارق البل ،كيف يشاغب من داخل
الخلق السلمية فيقول:
و إني لستحيي من ال أن أرى ***** أجرجر حبلي و ليس فيه بعير
و أن أسأل المرء الدنيء بعيره ***** و أجمال ربي في البلد كثير
و بهذا نفهم كيف كان أحد الئمة الربعة ،كان يردد حتى داخل المسجد بيت المشاغب الجميل أبي نواس:
أنبئت أن فتاة كنت أخطبها ***** عرقوبها كشهر الصوم في الطول .
و شكرا . و عسى أن ل يكون حديثي هذا عرقوبه كشهر الصوم في الطول .
*****************************************************************
ملحق :التاريخانية ( ص ) 8
التاريخانية أصبحت بعدا أساسيا في النظر (رؤية) إلى العالم .و هي تقوم على اعتبار التاريخ محددا للوجود البشري ،و تدخل أي
حقبة من تاريخ المجتمع في مسار تاريخي أعم ،تفسرها به.فلتاريخ منطق ،و المستقبل هو القطب الجاذب للزمان ،و هكذا يكون ما
يسمى الوعي بالتاريخ أو الوعي التاريخي كمحدد و مفسر للوجود البشري .إل أن التاريخانية هي بتن القرن التاسع عشر الوروبي
...و هي نظرة حديثة نسبيا إلى العالم ،تصور الحقبة التاريخية كحلقة في مسار تاريخي شامل أشمل ،و تعتبر التاريخ فاعل في
تشكيل الوجود النساني و الوعي به.
بيد أن التاريخانية أحلت التاريخ الغربي في قلب التاريخ ،وجعلت الغرب هو الطريق السيار للتاريخ ،أما الشرق فتاريخه قد تجمد و
كأنه سقط في بركة من الزمان السن ،و منذ القرن 18تحدث رحالة غربيون عن زمان الشرق الراكد ،و فسروا ركوده ،بكون
الشرق لم يعرف تطورا الملكية العقارية الخاصة ،كما أن نظامه الستبدادي ساهم أيضا في ذلك .و هكذا فإن الملكية الخاصة و
الحرية هما محرك التاريخ .و اعتمد فلسفة الغرب و كتاب غربيون على وصف هؤلء الرحالة لبلدان الشرق ليصفوا نظريتهم عن
الستبداد الشرقي ،وكان ّمنتسكيو " أكبر منظريه ،واعتمد كارل ماركس كتابة أولئك الرحالة نفسها ليصوغ نظريته في نمط "
النتاج السيوي " الذي راج بين ماركسيي العالم الثالث في الستينيات و السبعينيات من القرن 20بمن فيهم ماركسيون مصريون ،
حاولوا تطبيق هذه النظرية على الدولة المصرية عرض النيل .و مؤدى هذه النظرية أن مناطق النهار الكبرى في آسيا تطلبت
وجود دولة عالية المركزية لتنظيم الري و تأمينه على مسافات شاسعة ،مما جعل ملكية الرض في يد ملك أو إمبراطور مطلق
السلطان .و الذي يهمنا هنا أن ماركس أخرج نمطه السيوي في النتاج من تحقيبه لمراحل التاريخ و أنماط النتاج كما تطورت في
المجتمعات الغربية :عبودية –إقطاع – رأسمالية –اشتراكية .هناك إذن غرب في قلب التاريخ المتطور و شرق تاريخه مجمد ،لم
تتطور فيه وسائل النتاج فتخلق تناقضات تدفع التاريخ إلى المام ،تناقض بين ملكية وسائل النتاج و علقاته ..تناقض بين الوعي
و الواقع ،انقسام طبقي –دخول قوة العمل كقيمة تبادلية .
و الواقع أن الماركسية أشاعت فلسفة تاريخانية لم تخل من مفارقة ؛ فهي من جهة كسرت المركزية الغربية ،إذ أدخلت المجتمعات
كلها في مسار تاريخي عام ،و الفضل في ذلك يرجع إلى الرأسمالية التي أدمجت الجميع في سوق عالمية واحدة ،و خلقت
البروليتارية -الطبقة العصرية بامتياز -التي عليها أن تتوحد متجاوزة الحدود الوطنية و الختلفات الثقافية ،لتقود حركة التاريخ
نحو التقدم و التحرر ،و هكذا أصبح التاريخ طريقا سيارا تسيرا فيه المم جميعها .لكن الماركسية من جهة ثانية حافظت بكيفية ما
على مركزية التاريخ الغربي ،فما وصلت إليه المجتمعات الغربية المتقدمة عبر تراكم زماني عادي ،على المجتمعات الخرى أن
تختزله بالثورة.
ذ .مصطفى الزين
11
12