You are on page 1of 12

‫الحداثة المنقولة و الحداثة المأصولة في الفلسفة و النقد العربيين*‬

‫‪ -‬مدخل‬
‫‪ -1‬تدمير المبنى وتتبير المعنى ‪ ،‬تخريب العمران و تخريب النسان‬

‫اسمحوا لي أيها السادة الفاضل أن أعترف قبل بدإ هدا الحديث ‪ ،‬أنه لن يكون حديثا متسقا منــــــطقيا ‪،‬مــشيدا‬
‫واضحا مهما حاولت ‪،‬و إن كان ذلك يؤول إلى مقتضيات أحوالنا ‪،‬أو لواقع أو وقائع أحوالنا و أحوال العـــــــــالم ‪،‬و‬
‫إفلس جل ‪،‬إن لم نقل كل الخطابات و الفلسفات و الرؤى التي كنا نستند إليها و نتبناها حتى قبل سنوات معـدودة‪،‬أو‬
‫ربما حتى قبل سنة واحدة ‪.‬يبدو أن كل التجاهات قد استنفذت ‪،‬وآلت إلى عطب آلياتها ‪،‬فساد العمــــــاء أو العمى و‬
‫التيه الفكري و الثقافي و السياسي و الخلقي ‪..‬‬
‫غير أني سأعمل بالحكمة الشعبية المغربية " ألي تلف يشد الرض" لكن أين هي الرض أين هي الرضية؟تلك‬
‫هي المسألة ‪ .‬سقط الجدار الذي كنا نسند إليه ظهورنا و نحن نقاوم ‪ .‬سنة ‪ 1982‬سقط المركز العربي ‪ ،‬كــــما أعلن‬
‫عن ذلك بمأساوية الشاعر العربي الكبير محمود درويش في مديح الظل العالي ‪ ،‬بل إننا عدنا لنجد أنفـــــــــسنا أمام‬
‫إحساس سلفه الشعري العظيم المتنبي عندما استشعر حصار المة في قوله‪:‬‬
‫**** فعلى أي جانبيك تميل ‪.‬‬ ‫و دون الروم خلف ظهرك روم‬
‫على جغرافيتنا السياسية و الجتماعية و الثقافية و الفكرية و النفسية ركامات الدمار ‪،‬و أطــــــــــلل الخراب‬
‫الحضاري التي تشن علينا في العصر الحديث باسم التحديث و الحداثة و التنمية و التقدم و الديمقراطية و حقـوق‬
‫النسان‪ ..‬حالنا الثقافي اليوم في صورته شبيه تماما بما نراه من صور الدمار و الخراب و الفوضــــــى و التيه و‬
‫التخبط في العراق ‪ ..‬فالفكار و الرؤى و المشاريع‪ ،‬التي تستنهض نفسها من تحت النقاض و تــــحاول أن ترفع‬
‫هامتها ‪،‬و ترمم أو تؤسس لبناء جديد ‪،‬تغتال و تقصف و تنسف دونما رحمة من أولئك الروم الجـــــــــدد ‪،‬أو من‬
‫العشائر و الطوائف الثقافية الداخلية ‪،‬في اقتتال داخلي فضيع‪ ،‬و أصبحت الهزيمة خبزا يومـــــيا أو سخاما يوميا‬
‫نغمس فيه خبزنا اليومي و نحن أمام القنوات الفضائية أو الفضائحية سيان سادرون مستسلمون للـــــــــــــوحش‬
‫المفترس ‪،‬ننتظر منه أن يشبع من دمائنا و يرتد لذاته عن جثتنا ‪،‬عسى أن يتبقى فيها شيء من الحياة ‪ ..‬لكـــــني‬
‫أومن دوما أن الحياة شجرة خضراء ‪ ،‬و أن للعشب حيله و مكره في أن ينهض من تحت القدام وأن ينتظر الماء‬
‫و الهواء ‪..‬و لو لزمن ربما يبدو للقاتل أنه كاف لتأبيد الموت‪،‬فالحياة دائما مبدعة بأشكالها تبدو أحيانا أقرب إلى‬
‫المعجزات ‪.‬‬
‫‪ - 2‬الحداثة المنقولة ‪ :‬طابورهم الخامس ‪.‬‬
‫استحضروا معي‪ -‬أيها الخوة – فكرة و مصطلح الطابور الخامس ‪..‬الفرانكوية ؛ ففي إطار الحــــرب الهلــــــية‬
‫السبانية ‪،‬و قد كانت مقدمة للحرب العالمية الثانية ‪ ، 1939 -1936‬قبل أن يستتب المر للديكتاتور الفاشستي‬
‫الدموي فرانكو و قبل أن تدخل جيوشه العاصمة القشتالية مدريد ( كانت قوة تلك الجيوش الضاربة مكونة أساسا‬
‫من الشباب الميين المغاربة ‪ -‬كان فرانكو يحلو له أن يتحدث إلى الصحافة عن طوابيره الخمسة في الوقت الذي‬
‫كان يعلم فيه الجميع أن جيشه ل يتكون إل من أربعة طوابير ل غير‪ -‬و عندما سئل مرة عن مكان هذا الطابـــــور‬
‫الخامس ‪ ،‬أين يوجد؟ أجاب ‪ :‬إنه في قلب العاصمة مدريد ‪ ،‬و يقصد به طابور الجاسوسية – الجواســـــــــيس و‬
‫المخبرين‪ -‬و الخونة و المتعاونين العملء ‪..‬‬
‫إنه تقريبا نفس المر رأيناه في حرب الخليج الثانية أو الثالثة – من يعد ‪ ،‬ربما المـــــــتفرج و ليس المضروب –‬
‫عندما انهار الجيش العراقي و الحرس الجمهوري و دخلت جيوش الروم – كان يسميهم وزير العلم ‪ /‬الصحاف‬
‫بالعلوج – بغداد كما لو كانت تدخل قاعة مسرح ‪ ،‬لنرى ذلك العرض ليوم التاسع من أبريل ‪.. 2003‬مر الن على‬
‫ذلك أكثر من ثلث سنوات عجاف ‪.‬‬
‫كان ذلك بفضل الختراق بطابور خامس سرب إلى قلب بغداد و إلى قلب الحرس الجمهوري ‪..‬‬
‫في الفكر و الثقافة و الدب ل يختلف المر كثيرا ؛ فقط يسبق الجانبين السياسي و العسكري ‪...‬فكل قوة غـــازية‬
‫تعتمد على طابور خامس تسربه إلى قلب و كيان عدوها أو ضحيتها ‪ .‬أشير بهـــــــــــــــذا إلى دور المخابرات أو‬
‫الستخبارات المريكية ‪ ،‬و تابعتها الوروبية أو الغربية عموما ‪ ،‬في كثير من المشاريع الثقافية في العالم العربي‬
‫كما بينت ذلك أطروحة الباحثة البريطانية فرانسيس سوندرز في كتابها بعنوان ‪ " :‬من دفع أجر العازف ؟ ‪:‬‬

‫*عنوان المحاضرة التي ألقاها ذ‪ .‬مصطفى الزين في إطار النشطة الثقافية للمهرجان الربيعي الثالث‪ ،‬أيام ‪ 6-5-4‬ماي ‪ 2006‬لثانوية المولى إدريس‬
‫الكبر‪/‬رباط الخير‪ /‬إقليم صفرو‪ .‬المغرب‬

‫‪1‬‬
‫تبعية أو تمويل مجلة" شعر" التي تبنت أطروحة الحداثة الشعرية و الفكرية و قضية قصيدة النثر فـــــــي أواخر‬
‫الخمسينات التي كان يترأس تحريرها الشاعر الحداثي يوسف الخال ‪ ،‬وكان إلى جانبه أكبر منظريها و مترجميها‬
‫الشاعر المفكر السوري أدونيس (علي أحمد سعيد) المرشح منذ سنوات لجائزة نوبل للداب ‪،‬و المـسجل علــــى‬
‫لئحة انتظارها حتى يثبت حسن سلوكه أو أدائه ‪ ،‬و هل من أداء أحسن أو عزف أجمل من عزفه في الســــنوات‬
‫الخيرة ‪ ،‬في كل مناسبة ‪ ،‬في استجواباته ‪ ،‬و حواراته الصحفية و العلمية ‪ ،‬و منها ظهوره قبل أسابــيع على‬
‫قناتنا الثانية ‪ ،‬و ظهوره في تطوان ‪ ..‬يعزف على هذين الوترين ‪:‬‬
‫‪-1‬الثقافة العربية محكومة ببنية مسبقة تعوق حداثتها و تحديثها و تقف عائقا كبيرا أمام حرية التعبير ‪ .‬و هو‬
‫نفس الوتر الذي عزف عليه أديبنا المغربي الفرانكفوني الطاهر بنجلون أخيرا في فرنسا و هو يؤكد أن‬
‫اللغة العربية عتيقة عقيمة ل تسمح بحرية التعبير ‪ ..‬عندما يخلو لشياطينه ‪ ،‬أما عندما و ينقلب إلينا ‪..‬‬
‫فيقول إنه لم يقل هذا و إنما الصحافة حرفت كلمه عن سياقه ‪ ..‬فأصيب بسوء فهم ‪ ،‬و هو المسكين – كما‬
‫أكد الدــيب المغربي أحمد المد يني‪ -‬يصاب دائما بسوء الفهم ‪ .‬بل كما سنرى أن الحداثة المنقولة تصاب‬
‫دائما بـــــسوء الفهم ‪ ،‬لنها قائمة أساسا على سوء الفهم ‪.‬‬
‫‪-2‬التأكيد أن على المسلمين أن يكفوا عن العتقاد أن إسلمهم أو قرآنهم هو خاتم الرسالت السماوية وخـــاتم‬
‫النبوات‪..‬‬
‫عجبا ‪ ،‬لنفترض أن المرين صحيحان ‪ ،‬بالمقابل أليس من ثوابت الحضارة الغربية الحداثية بنية فكرية و فلسفية‬
‫مسبقة تحكم تطورها ؟ أليس فكرة المحرقة و معاداة السامية بنية مغلقة ؟ و هذا الغرب المسيحي‪ -‬هو الخــــــر‬
‫يعتبر مسيحيته ‪ ،‬حتى البروتستانتية هي خاتم الديانات و الرسالت‪ .‬أليس في اعتقادهم أن السلم لم يــــــــكن‬
‫سوى هرطقة مسيحية ؟بل إن الرأسمال و النظام الستهلكي الحر ‪ ،‬أصبح عندهم خاتم اللهة و الوثان ‪.‬‬
‫ليس غرضي أن أكفر أو أجرم أو أخون أحدا ‪ ،‬و إنما يجمل بنا أن ننظر إلى المر على انه تغرير طويل ‪ ،‬و أنــه‬
‫من قبيل الوهام تقفيناها لجيال ‪ ،‬و هاهي تفضي بنا إلى هذه الحقيقة المأساوية الماثلة أمامنا ‪...‬أن الحـــــــداثة‬
‫الغربية " و انتصار عقلنيتها – يا للمفارقة – ل يعني لبلدان الرض الخرى سوى كارثة ثـــــقافية ؛ فالقــــوى‬
‫الوروبية أو الغربية ‪،‬بفضل طاقة آلياتها العسكرية المخيفة ‪ ،‬تستبعد و تستعمر و تستغل سكان قارات خمس ‪ ،‬و‬
‫الثقافات الخرى ل تدرك من العبقرية العقلنية إل وقاحتها و اكتفاءها و عنفها ‪ ،‬و ذلك في الغالب قبل أن تنــدثر‬
‫بقوة الحديد و النار " كما يؤكد إنياسيو راموني ‪ ،‬و هو ما يؤكده الفيلسوف المغربي ‪ ،‬طه عبد الرحمن تـــــحت‬
‫تسمية" وقاحة النكار " و " وقاحة الستعلء" في كتابه " الحق السلمي في الختلف الفكري" ‪.‬‬
‫‪ -3‬الحداثة المنقولة و الحداثة المأصولة ‪ :‬عود على بدء‬
‫هذه إذن هي المقصودة في عنوان هذا الموضوع بالحداثة المنقولة؛الحداثة التبعية ‪ ،‬الحداثة الهامـــــــــشية ‪ ،‬أو‬
‫المتسولة أو المتسوَلة على الموائد الثقافية الغربية ‪ .‬و مدار حديثنا سيكون إذن عن هذه الحداثة المـــــنقولة ‪ ،‬و‬
‫نقيضها " الحداثة المأصولة" كما يقترحها و ينظر لها فيلسوفنا المبدع طه عبدالرحمن الذي كنت قد اســــتندت‬
‫إليه في موضوع الدورة السابقة من هذا المهرجان الربيعي و استعرت منه مفهوم المة في محــــــــــاضرة كنت‬
‫عنونتها بــ" تجليات الزمة في نقد‪ /‬عملة المة" ‪ .‬و هي محاضرة للسف الشديد‪ ،‬كنت قد اضطررت اختزالها‬
‫اختزال نظرا لتوقيتها الذي لم يكن مناسبا ذلك اليوم حيث تركت إلى آخر المسية الولى بعد مجمـــــــــــوعة من‬
‫النشطة‪،‬كانت قد استنفذت صبر و انتباه الجمهور ‪ ..‬و كأن المحاضرة أجهضت ‪ ..‬حتى أن بعض الزمــــــــــلء‬
‫الساتذة طلبوا مني إعادتها ‪...‬و لم آت اليوم كي أعيدها و إنما جئت كي أتابع نبشي و تأملي‪ ،‬و لهذا فإنها حقـا‬
‫قسم ثان من الموضوع‪.‬‬
‫من أجل ذلك ‪،‬اسمحوا لي أن أعود على بدء فأذكر بأهم أطروحاتها و تمفصلتها ‪ ،‬باختصار ‪:‬‬
‫كنت‪ ،‬على منهج طه عبدالرحمن‪ ،‬قد أقمت مفهوم النقد على طريقته في تشقيق الكلم و اجتراح المــــــفاهيم و‬
‫المصطلحات ‪ ،‬فأعدت كلمة النقد التي كانت و ل تزال شعار الفكر الحديث في كل المجالت بما فيه التـــــــربوي‬
‫التعليمي ‪ ،‬أعدت الكلمة إلى أصل استعمالها و هو النقد‪/‬العملة المالية ‪ ،‬و أعدت كلمة النـــــاقد الدبي ‪ ،‬أو ناقد‬
‫الشعر كما نشأت في المجال التداولي الجاهلي ‪،‬إلى دللة الصيرفي الختصاصي في ميدان العـــملة – الدرهم أو‬
‫الدينار ؛ فالناقد الدبي هو الذي يميز صحيح الشعر من زائفه أو فاسده‪ ،‬و انتهيت إلى أن النصوص هي‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫بمثابة عملت رمزية متداولة ‪ ،‬و النقاد هم الذين يميزونها و يصنفونها و يحددون قيمها ‪،‬فهم إذن من يوجــه‬
‫الدباء نحو القيم التي يجب أن تتداول ‪ ..‬و رأينا أن النصوص النقدية بدورها تتحول إلى عملت رمزية أي إلى‬
‫موضوع للنقد ‪ ،‬و هو ما يسمى نقد النقد ‪ ،‬و هذا يتحول أيضا إلى موضوع لنقد نقد النقد‪ ،‬و هكذا دواليك ‪.‬‬
‫و بالمقابل حددت مفهوم المة – كما طرحه طه عبدالرحمن – باعتبار أن المة مفهوم يتجاوز القوم أو الشعب‬
‫أو المجتمع و أنه يضيق حتى ليقتصر على الرجل – أو المرأة – على الفرد الواحد ؛ إذ كان إبراهيم أمة لوحده‬
‫‪2‬‬
‫مثل و كان محمد صلى ال عليه و على آله و سلم أميا بهذا المفهوم ‪ ،‬و أنه ليتسع حتى يشمل الشــــــعوب و‬
‫القبائل عندما يقوم على التعارف ؛ فالنسان الفرد ‪ ،‬أو القوم أو المجتمع أو المجتمعات تكون أمة عندما تمتلك‬
‫مشروعا من القيم و المقاصد فيه جواب عن أسئلة العصر أو أسئلة زمانها ‪ ،‬تقدمه في إطار العمل التعارفي إلى‬
‫المم الخرى ‪ ،‬على أساس الخير و الصلح و العدل و الحوار ‪...‬‬
‫و رأينا كيف أن المة العربية السلمية في مرحلة قيامها استطاعت أن تقدم مشروعا تعارفيا اقترحته على كثير‬
‫من المجتمعات و المم الخرى و أنها بالمقابل أنتجت عملة مادية مالية أصبحت مهيمنة ‪ ،‬كما أنتـــــــجت عملة‬
‫رمزية فكرية ثقافية أخلقية كانت أيضا هي العملة المهيمنة عالميا ‪.‬‬
‫و تساءلنا لماذا‪ ،‬بعد قرنين‪ ،‬من محاولة النهضة العربية الحديثة‪ ،‬لم تستطع المة السلمية إنتاج عملة رمزية‬
‫خاصة منافسة في سوق العملت كما لم تستطع إنتاج عملة مادية مالية ‪ ..‬و إنما أصبحت تابعة ملحقة مستهلكة‬
‫للعملة الرمزية الغربية الستعمارية ‪ ،‬و للعملة المادية أيضا لنفس المة ‪.‬‬
‫و رحنا نسائل المشاريع النقدية العربية ‪ ،‬على أساس أن النقد الدبي يستند إلى الفكر أو النقد الفلسفي – نسائل‬
‫تلك المشاريع النقدية العربية لماذا فشلت في إنتاج هذه العملة الرمزية القومية الخاصة ‪ ،‬فرأينا أنها إنــــما هي‬
‫ثلثة مشاريع أو استبدالت أساسية ‪:‬‬
‫كان الول هو المشروع النقدي الرومانسي الليبرالي العقلني الذي ساد و هيمن من ثورة ‪ 1919‬إلى نهايـــــــة‬
‫الربعينات أو بداية الخمسينات من القرن العشرين ‪ ،‬و رأينا أنه بقدر ما قدم بعض الفراد الذين حــــــــاولوا أن‬
‫يقدموا مشاريع رائدة كطه حسين مثل و ميخائيل نعيمة ‪ ،‬بقدر ما كان بداية الرتهان للمرجعية الغربية في تحقير‬
‫التراث الخلقي و الجمالي و الشعري العربي ؛ أي تحقير الذات ‪ ،‬كما كان المر مثل عند أبي القاسم الشابـــــــي‬
‫خصوصا في تنظيراته الشعرية و الخيال ‪،‬في كتابه " الخيال الشعري عند العرب " و كما كان المر مثــــل عند‬
‫العقاد في نقده النفسي المستند إلى تبسيطات كمناهج و منظورات أحيانا عنصرية ‪..‬‬
‫أما المشروع الثاني أو الستبدال الثاني فتمثل في تيار الواقعية الشتراكية المستند إلى بعض الفلسفات الثوريــة‬
‫الشتراكية ‪ ،‬و بعض الفلسفات الماركسية الممزوجة بفلسفة سارتر الوجودية التي كانت طبعا تحويرا أو تطويرا‬
‫لوجودية الفيلسوف الدانمركي كيركوجارد – فتم تبني مفهوم اللتزام أو الدب الهادف المجند ‪ ،‬و هو التيار الذي‬
‫تواكب مع ثورة الشعر الحر و شعر الحداثة ‪ ،‬كما واكب ما كان يسمى بالمد القومي العربي أو العروبي الــــــذي‬
‫انكسر أو انهزم مع الحرب العربية السرائيلية الثانية في هزيمة حزيران ‪/‬يونيو ‪ ، 1967‬و دفن مع زيـــــــــارة‬
‫السادات لسرائيل سنة ‪ ، 1978‬ومعاهدة كامب ديفد ‪ ،‬و بداية مشروع الهرولة نحو العتراف و التطبـــــــيع مع‬
‫العدو ‪ ،‬و كانت التبعية النقدية فيه إنما للمرجعية السفياتية الستالينية ‪ ،‬و أوهام الممية الشتراكية ‪...‬‬
‫و ما يهمنا هو المشروع أو البدال الثالث ‪ ،‬وهو ما يسمى بالنقد الحداثي العربي الذي هيـــــمنت فيه المقاربات‬
‫البنيوية بمختلف أطيافها اللسانية و التوليدية و الشعرية‪،‬و تم فيه النتقال من المرجعيات الجــــــــــــــتماعية أو‬
‫التاريخية أو النفسية إلى اليمان بالنص و ل شيء غير النص ‪،‬حيث استبعد التاريخ ‪،‬حتى أفضى المر إلى تبني‬
‫سيل من الموضات في سير محموم إلى الحدث ‪،‬مع ما ساد من ترجمات بئيسة مبسترة ‪ ،‬و عماء أو عمى فكري‬
‫‪ ،‬و انتهى المر إلى السقوط تماما في تبعية لصندوق النقد الرمزي الدولي مثلما سقطت القطار العربية في تبعية‬
‫صندوق النقد الدولي المالي‪.‬‬
‫وكنت قد استحضرت تلك الطروحة التي تقول بأن المركز العربي تحول نحو المغرب خصوصا بعدما سقـــــــطت‬
‫القاهرة و بيروت و بغداد ‪...‬أصبحت الرباط أو الدار البيضاء مركزا و قطبا‪ ،‬خصوصا مع ما يلحظ من نهــــــضة‬
‫فكرية فلسفية ابستمولوجية‪ ،‬لعل أسماءها الكبرى تتمثل في عبد ال العروي ‪ ،‬ومحمد عابد الجابري ‪ ،‬و عبــــد‬
‫الكبير الخطيبي و محمد سبيل و عبد السلم بن عبد العالي‪ ، ...‬و إذا وسعنا الدائرة إلى المغرب العربـــــــــــــــي‬
‫استحضرنا مثل من الجزائر محمد أركون ومن تونس هشام جعيط و أبو يعرب المرزوقي ‪...‬‬
‫كما أصبح يبدو أن المامة النقدية الدبية أصبحت للمغاربة و المغاربيـين من أمثال محمد برادة و محمد مفتـاح و‬
‫عبد الفتاح كيليطو‪ ،‬و الشاعر الناقد محمد بنيس من المغرب‪،‬و إذا وسعنا الدائرة استحضرنا من الجزائر الراحـل‬
‫جمال بن الشيخ و عبد المالك مرتاض ‪..‬و من تونس مثل محمد لطفي اليوسفي و عبدا لهادي الطرابلسي ‪..‬‬
‫و تساءلت إن كان من بين هؤلء من يستطيع أن يقدم مشروعا نقديا مغربيا‪/‬مغاربيا عربيا ‪..‬تعارفيا يفك معضلة‬
‫التبعية ‪ ،‬و يؤسس لعملة نقدية ‪.‬‬
‫هذا باختصار مجمل الخطوط العريضة لحديث سابق ‪ ،‬و اليوم إنما أحاول أن أثبت أن المر ل يتعلق سوى بحداثة‬
‫موهومة مأزومة ‪ ،‬منقولة مفصولة ‪ ،‬مفصومة ‪ ،‬تحتضر أو قل إنما هي في غرفة العناية المركزة أو في مــــوت‬
‫سريري الذي إنما هو شر من الموت البيولوجي ‪.‬سأحاول أن أتأمل معكم العوامل التي أفضت إلى هذه النهايـــــة‬
‫المأساوية من خلل بعض المشاريع الوهام ‪ :‬كحداثة عبدالكبير الخطيبي متفلسفا و أديبا و حداثة بنيس شاعــرا‬
‫و دارسا و جمعويا و حداثة عبدال العروي مؤرخا و فيلسوف تاريخ إسطوغرافيا وأديبا روائيا و حداثة محمد‬
‫مفتاح ناقدا دارسا و بعض الحداثات أو التصورات المنقولة الخرى ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪I-‬الحداثة المأصولة أو نقد الحداثة المنقولة‬
‫قبل أن أتبع هذه الحداثات المنقولة ‪ ،‬أود أن أتوقف معكم ‪ ،‬أمام الخطوط العريضة للحداثة العربية السلمية‬
‫المأصولة كما يقترحها الفيلسوف المفكر المبدع طه عبدالرحمن ‪ ،‬الذي ما فتئ‪ ،‬بحكمة و إيمان‪ ،‬يشيد صرحا‬
‫فلسفيا فريدا على المستوى العربي و السلمي بل وعلى المستوى العالمي ‪ ،‬و الذي‪ -‬للسف الشديد – اكتشفته‬
‫متأخرا جدا ‪ ،‬لني كنت أقتدي بتأشيرات الحداثيين النقلة الذين ما فتئوا يضربون عليه طوقا من التجاهل و‬
‫التناسي ‪ ،‬لنه وضع أصبعه على الجرح العميق واضعا هؤلء النقلة أمام حقيقة قدامتهم و تقليديتهم التي هي‬
‫شر من تقليدية مقلدة المتقدمين ‪.‬‬
‫ومن غايات هذا الحديث التعريف بهذا المتفلسف الصيل المبدع ‪ ،‬خصوصا و أن بعض الساتذة الزملء كانوا‬
‫يقترحون أهمية أن يتناول في أنشطتنا الموازية الثقافية مشاريع متفلسفتنا لنقدمهم إلى تلميذنا ‪ ،‬و إن كان‬
‫المعول في ذلك على أساتذة الفلسفة ‪ .‬و لكن يبدو أن الفلسفة عندنا تسير نحو التأنيث بالمعنى المادي و الرمزي‬
‫؛ أي فقدان الفحولة و القدرة على الفعل ‪.‬‬
‫قبل ثلث أو أربع سنوات أثار انتباهي مقال في العلم الثقافي بقلم طه عبدالرحمن ‪ ،‬يتعلق بالفلسفة والترجمة‪،‬‬
‫لعله كان مقدمة كتابه الذي بسط فيه جزءا من مشروعه الفلسفي تحت عنوان رئيس " فقه الفلسفة " و عنوان‬
‫رديف " الفلسفة و الترجمة" و الذي سيصدر سنة ‪ ..1995‬أثار انتباهي من ناحيتين ‪:‬‬
‫الناحية المنهجية أو معمار المقالة القائم على هندسة تشييدية واضحة ‪ ،‬بحيث يقدم المسألة أو الدعوى أو‬
‫الطروحة سواء التي يدافع عنها بالستدلل و البرهنة و الحجاج ‪..‬أو التي ينقضها أو يردها أيضا بالبرهنة و‬
‫الستدلل و الحجاج‪ .‬أما الناحية الثانية التي أثارت انتباهي لغته أو بيانه الرصين المتين و اتساق أسلوبه و دقة‬
‫معجمه و تراكيبه ‪ ،‬بشكل ل نكاد نجد له مثيل في الخطابات العربية فلسفية كانت أو نقدية ‪.‬‬
‫فل إبهام و ل غموض و ل نبو لية مفردة أو كلمة ‪ ،‬و إنما بناء مشيد أو مشيد ‪ ،‬يخاطب ذهن القارئ و روحه ‪،‬‬
‫فل يجد أية صعوبة في وعي و إدراك قول الرجل ‪ ،‬و قد تكون الصعوبة فقط في استيعاب كل قوله و دلئله و‬
‫براهينه و تأثيلته و تشقيقاته ‪.‬‬
‫و أخذت أتلهف و أتلقف بمتعة بعض مقالته التي تنشر في مجلة "المنعطف " ثم أخذت أتلهف و أتلقف كتبه‬
‫بدءا بكتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث " ‪ ...‬إلى" سؤال الخلق" ثم " الحق العربي في الختلف‬
‫الفلسفي" ثم " الحق السلمي في الختلف الفكري" و أخيرا " روح الحداثة"( ‪. )2006‬‬
‫لقد صحبت هذا الرجل منذ السنة الماضية ‪،‬أو صاحبني ‪ ،‬بالخصوص في غربتي أو عزلتي في مدينة صفرو‬
‫‪...‬فانكببت عليه دفعة واحدة ؛ ما أكاد أقرأ الفصل أو الفصلين من كتاب له حتى أقتني آخر فيصرفني عن‬
‫السابق ‪ ،‬و قد وجدت فيه الكاتب المتفلسف الذي يناسب ذوقي و طريقتي الخاصة في التفكير حتى لني أقرأ له‬
‫الفكرة أو الدعوى فيخطر لي أنه سبقني إليها ‪.‬‬
‫و عندما زارني أحد الزملء الجدد ‪ ،‬و أخبرته أنني منكب على قراءة هذا المفكر ‪ ..‬قال لي فيما يشبه النصيحة "‬
‫احذر أن يصيبك أو يعديك بالحمق أو الجنون" و هو قول ل شك أن صاحبي قد سمعه من آخرين ‪ .‬أجبت زميلي‬
‫بأن ما يؤدي إلى الجنون إنما هو قليل الفلسفة أو كما يقول طه عبدالرحمن نفسه" إن القليل من الفلسفة يورث‬
‫الشك و الكثير منها يورث اليقين"‪،‬و حقا‪ ،،‬لحظت أن من يأخذ الفلسفة أو ينقلها يصاب بمس ‪ ،‬و أن من‬
‫يمارسها حقا يكسب الحكمة‪.‬‬
‫و ربما جئت إليكم لختبر نفسي أو عقلي ‪ ،‬فلعلي ما أصبت بمس ‪ ،‬و لعلي باق كما فارقتكم قبل أ شهر‪.‬‬
‫و أعتبر أن الجيال الجديدة ستكون محظوظة عندما تقرأ طه عبدالرحمن ‪ .‬و بعض نصوصه قد دخلت المناهج‬
‫المدرسية في بعض الكتب في اللغة العربية و في الفلسفة‪ ..‬و ربما تحاول المدرسة أن تدجن أو تلتف على فكره‬
‫و الحقيقة أنني ل أثق كثيرا في هذا التبني الكمي للفلسفة و" تجديعها "( تدريسها منذ مستوى الجذوع‬
‫المشتركة) ‪،‬عندما نظرت إلى احد الكتب المدرسية في اللغة العربية للجذوع العلمية و التقنية وجدت انه يقدم هذا‬
‫الرجل بأكثر من عقدين من التخلف عن جديده ‪ ،‬فل يثبت له سوى بعض الكتب ‪ .‬و الحق أني كنت أجهلها ؛ إثنين‬
‫منها أطروحتاه الجامعيتان من باريس ‪/‬جامعة السربون ‪ :‬الول بعنوان " اللغة و الفلسفة " ‪ 1972‬و الثاني‬
‫بعنوان " المنطق النحوي و الصوري " و لعلهما كتابان أنجزا باللغة الفرنسية ( بالمناسبة فهذا الفيلسوف‬
‫يعرف كثيرا من اللغات الحية حق المعرفة ؛فإلى جانب الفرنسية يتقن النجليزية و اللمانية خصوصا ‪ ،‬و قليل‬
‫من متفلسفتنا من يعرف اللمانية ‪ ،‬و هو من مواليد ‪ 1944‬و هو أستاذ فلسفة اللغة و المنطق بكلية الداب‬
‫بالرباط )‪.‬و ل تتجاوز تلك النبذة المدرسية كتابه المبكر" أصول الحوار و تجديد علم الكلم" ‪ ،‬و اندهشت كيف‬
‫ل يوضع التلميذ أمام جديد الرجل ‪ ،‬و ما أكثره و ما أجله و أجزله‪.‬‬
‫ومن أهم كتبه ‪ ،‬مشروعه الضخم الذي أنجز نصفه ‪ ،‬و لشك أنه منكب على النصف الثاني ‪ .‬إنه مشروعه " فقه‬
‫الفلسفة" الذي يتكون من أربعة كتب اثنان منها منجزان و الخران ينتظران ‪:‬‬
‫الول ‪ ":‬الفلسفة و الترجمة "‬
‫‪4‬‬
‫الثاني ‪ " :‬القول الفلسفي" و يتكون من ثلثة كتب ( المفهوم و التأثيل‪ /‬الدليل و التخييل‪ /‬البرهان و التمثيل)‬
‫و متابعة لنفس المشروع ‪ ،‬و في جانب آخر منه جاءت كتبه الخرى ‪:‬‬
‫"العمل الديني و تجديد العقل "– " سؤال الخلق " ثم " الحق العربي في الختلف الفلسفي " و الحق‬
‫السلمي في الختلف الفكري" و كتابه الخير " روح الحداثة" ‪.‬‬
‫و في باب المنطق و فلسفة الحوار و المناظرة أصدر كتابه المتميز " اللسان و الميزان أو التكوثر العقلي"‬
‫إضافة إلى كتيب " حوارات من اجل المستقبل " الذي هو في الصل مجموعة من الحوارات الصحفية التي‬
‫أجريت معه‪...‬‬
‫عندما نتأمل هذه العناوين أو هذه المواضيع نجد أنها تتمحور حول جملة من الموضوعات الساسية ‪:‬‬
‫موضوعة الحوار و الحجاج ‪ :‬و يمكن أن نقول إن الرجل إنما يجدد فعل علم الكلم و يؤصل للحوار و مراتبه ‪ ،‬و‬
‫سيعيد و يطور قيم المناظرة كما تطورت في التقليد العربي السلمي ‪ .‬يدعم ذلك بعلم المنطق باجتهاده المتميز‬
‫عالميا ‪ ":‬اللسان و الميزان أو التكوثر العقلي "؛ و هو فعل يعطي نموذجا فريدا لخلقية الحوار بالتي هي‬
‫أحسن ‪ ،‬متعاليا عن أية أهواء أو حسابات ضيقة أو مسائل شخصية ؛ يجادل الدعوى و الرؤى و البراهين ل‬
‫الشخاص ‪ ،‬فهو ينظر إلى القوال و ليس إلى القائلين ‪.‬‬
‫موضوعة الفلسفة و الترجمة ‪ :‬هي فلسفة مأصولة ‪ ،‬نقيض الفلسفة المنقولة ‪ .‬أو قل فلسفة مؤثولة موصولة‬
‫نقيضا للفلسفة المفصولة ‪ .‬لقد تأمل الرجل وضعنا الفلسفي العربي و المغربي خاصة فلم يجد فيلسوفا واحدا‬
‫يمكن أن يقال عنه إنه صاحب فلسفة ما ‪ ،‬أو صاحب نظرية أو أطروحة ما و إنما وجد طائفة من النقلة التابعين ؛‬
‫وجوديين أو شخصانيين أو تاريخانيين أو تفكيكيين ‪،‬أو تواصليين ‪..‬أو بنيويين ‪ ،‬مجرد مقلدة يوصفون عند‬
‫البعض بأنهم مفكرون حداثيون ‪.‬و من هنا أصبح يلح عليه السؤال أو القضية ‪،‬كيف النتقال بالمة العربية من‬
‫التبعية الفلسفية ‪ ،‬ومن التقليد في الفلسفة إلى البداع أو الفلسفة المبدعة الحية ‪ ،‬على أساس أن الفلسفة إنما‬
‫هي إبداع حي و ل يمكن أن تكون تقليدا و تبعية ‪،‬لن في ذلك موتا للفلسفة ‪ .‬من هنا جاء مشروعه في فقه‬
‫الفلسفة أو قل فلسفة الفلسفة ‪ :‬العلم الذي بواسطته نتأمل و نفكك سيرورة الفلسفة ‪ ،‬و طرائق اشتغالها ‪...‬فذلك‬
‫هو الخطوة الولى الضرورية لتأسيس القول الفلسفي العربي الحي المبدع المأصول؛ فقدم نظريته حول ترجمة‬
‫الفلسفة ‪ ،‬و هي عنده لبد أن تخضع لتصور تدرجي ديداكتيكي –إن شئنا‪ -‬يؤسس للممارسة الفلسفية ‪ ،‬و ليس‬
‫للنقل أو الحفظ الفلسفي ‪ ،‬فلبد في نظره أن تمر الترجمة الفلسفية بهذه المراتب‪:‬‬
‫الترجمة التأصيلية( المأصولة) التي تراعي المجال التداولي العربي ‪،‬لنه لحظ أن الفلسفة تظل غربية ما لم‬
‫تتأثل لغويا و تتأسس مفاهيمها على التأثيل من المجال التداولي ( و التأثيل عنده رديف التأصيل تقريبا ‪ ،‬إنما‬
‫التأثيل فيه ربط بالصول ؛ فل مجد مؤثل دون تلك الصول) و قد أعطى مثال على ذلك التأثيل ‪ ،‬و على تلك‬
‫الترجمة المأصولة بترجمة كوجيتو ديكارت ‪ ،‬حسب المجال التداولي العربي و حسب ما يسميه خصيصة البيان‬
‫العربي أو اللسان العربي و هي الطابع الخطابي ‪ :‬هيمنة صيغة الخطاب ‪ ..‬و هو نفس الطابع الذي سيستعمله في‬
‫كتاباته الفلسفية ‪ .‬في مقابل ما يسميه بهيمنة الصيغة الذاتية النوية مثل في اللغة الفرنسية ‪ .‬وراح يعدد صيغ‬
‫تلك الترجمة على أساس وجود الذات في الخر و وجود الخر في الذات ‪ ..‬و هي الترجمة التي استهجنها أولئك‬
‫الحداثيون المقلدة ‪.‬‬
‫الترجمة التوصيلية ‪ :‬تربط الترجمة التأصيلية بما لدى الخر‪.‬‬
‫الترجمة التحصيلية‪ :‬ترجمة دقيقة و التي ليمكن أن تكون حرفية أبدا‪.‬‬
‫و يرى أن القول الفلسفي ل يعدو أن يكون ‪ ،‬مفهوما أو برهانا أو دليل ‪ .‬فالمفهوم يلزمه التأثيل حسب المجال‬
‫التداولي ؛ و من تأثيلته مثل مفهوم الكلم نفسه‪ ،‬فالكلم في العربية يعود إلى أصل كلمة (كلم) بمعنى (جرح)؛ و‬
‫عليه‪ ،‬فالقول الفلسفي إنما هو تشقيق و اجتراح للمفاهيم ‪ .‬و من أمثلة هذا التأثيل الخلق ما جاء في كتابه "‬
‫الحق العربي في الختلف الفلسفي " عندما شقق أو كلم كلمة قومية ‪ ،‬من قوم و قوام و قيام و قومة و تقويم و‬
‫مقاومة‪...‬و يكتمل هذا المشروع " فقه الفلسفة" بكتابي" الدليل و التمثيل " و " البرهان و التخييل" ‪.‬‬
‫تبدو العلقة عند الرجل وطيدة بين اللغة و الفلسفة و لهذا فإنه يتحدث عن" الحق السلمي في الختلف‬
‫الفكري"و عن " الحق العربي في الختلف الفلسفي " خصوصا و أنه دفع الشبهة الكبرى بين التضاد ما بين‬
‫السلمي و العربي ‪.‬‬
‫موضوعة الختلف و الحق ‪ :‬فالفلسفة عنده إنما هي اختلف و حق في الختلف ‪ ،‬و الكلم في ذلك إنما اندرج‬
‫عنده في نقد الهيمنة الغربية أو تمركزها العرقي الفلسفي و ذلك بتفكيك أطروحة كونية الفلسفة و عالميتها ‪،‬‬
‫عندما يبين أن الغرب إنما يؤمن بأن الفلسفة هي خصوصية غربية ‪ ،‬بل إن الوروبيين يومنون بأن الفلسفة إنما‬
‫هي أوروبية ‪ ،‬بل إن اللمان يؤمنون أن الفلسفة إنما هي خاصية ألمانية‪ ،‬فلحظ أن الفلسفة فا فتئت" تتأورب "‬
‫‪ ،‬ثم ما فتئت تتألمن ‪ ،‬ثم ما فتئت تتهود مقدما هذه المسارات من خلل العديد من السماء ‪ ،‬مبرزا كيف أن‬
‫هيدغر‪ -‬الذي يلتقي معه فيلسوفنا في خاصة التأثيل و تشقيق الكلم ‪ -‬عندما راح يبرز كيف أن الفلسفة الغربية‬
‫‪5‬‬
‫ل تخلو من أصول دينية مسيحية بل يهودية حتى في مرحلتها اليونانية ‪ ،‬و كيف هيمن اليهود على الفلسفة اليوم‬
‫‪ ،‬حاصره اللوبي الصهيوني و رافعو شعار معاداة السامية ليرتد عن رأيه أو يهون منه ‪.‬يرى طه عبدالرحمن أن‬
‫العرب قد ابتلوا بشر ما ابتلي به عدوهم ؛ فإذا كان هذا العدو قد ابتلي بالتيه في الرض ‪ ،‬فإن العرب قد ابتلوا‬
‫بالتيه في الفكر و ل خلص إل بتأصيل القول الفلسفي ‪.‬‬
‫و يكاد يجزم بأنه ل توجد اليوم فلسفة عربية‪ ،‬كما أنه يكاد يجزم بأنه لم توجد فلسفة عربية إسلمية في‬
‫الماضي ؛ و حتى عندما حاول العرب أن يضيفوا شيئا إلى الفلسفة اليونانية من خلل علم الكلم ‪ ..‬فإن ابن رشد‬
‫الذي يرفعه اليوم الكثيرون كنموذج للعقلني العربي لم يفعل سوى أن جرد الفلسفة من كل الضافات السلمية ‪،‬‬
‫و ترجم و لخص أرسطو و قدمه للغرب ‪ ،‬و لهذا يشرح طه عبدالرحمن في كتيب "حوارات من اجل المستقبل "‬
‫لماذا هو ليس رشديا ‪ ،‬معتبرا أن ابن رشد إنما قتل الفلسفة العربية وأحيا الفلسفة الغربية ‪.‬‬
‫و يبني طه عبدالرحمن مشروع الختلف الفلسفي العربي و الختلف الفكري السلمي عند الغرب على أساس‬
‫مفهوم العقل ‪،‬حيث يتجاوز مفهوم العقل و حدوده كما اعتبره الغرب في إطار سيادة النموذج العلم‪ -‬تقني ‪ ،‬و هو‬
‫عنده العقل المجرد المفصول الذي قام على آليتي التجريب و الترويض ( من رياضيات ) و على مفهوم الجرائية‬
‫التي تهدف إلى تحصيل نوعين متكاملين من القدرات ؛ هما المكانات و التمكنات ‪ ،‬و إلى مبدإ سيادة النسان‬
‫المتمثلة على ثلث مستويات ‪:‬‬
‫سيادة التنبؤ و سلطان السطوة‬
‫سيادة التحكم و سلطان البأس‬
‫سيادة التصرف و سلطان البطش ‪.‬‬
‫و عنده هذا العقل المجرد هو أدنى مراتب العقل ‪ ،‬سيما و أنه ليس أداة و ل جهازا و ل ذاتا يعرف بها النسان و‬
‫إنما هو فاعلية كباقي الفاعليات الجوارح كالسمع و البصر تجمل و تقبح تبعا لثرها‪.‬‬
‫و النسان عنده ل يعرف بكونه حيوان عاقل على أساس أن هذا ما يميزه عن سائر الكائنات؛ فالعقل عنده يشترك‬
‫فيه النسان مع سواه ‪،‬ل يفضلهم إل بالنسبة ؛ وإنما يتميز عن باقي الكائنات بالخلق ‪ ،‬فهو كائن أخلقي ؛‬
‫يتطلع إلى الكمالت الروحية ‪ .‬ومن هنا يعتبر طه عبدالرحمن الزمن الحالي‪ ،‬زمنا إسلميا أو مسؤولية أخلقية‬
‫إسلمية ‪ ،‬باعتبار أن السلم خاتم الرسالت التي إنما جوهرها هو الكمال الخلقي و أن محمدا ‪،‬صلى ال عليه‬
‫وعلى آله و سلم ‪ ،‬بعث ليكمل مكارم الخلق ‪ ،‬فالسلم إذن يعطي أساس منظومة الكمالت الخلقية و الروحية‬
‫ومن هنا يقول طه عبدالرحمن بوجود نوعين من العقل على القل يطويان‪/‬يتجاوزان العقل المجرد ‪ :‬أولهما العقل‬
‫المسدد بالشريعة وهو بدوره يطويه أو يتجاوزه العقل المؤيد بالكمالت الروحية ؛ فالعقل المسدد يتجاوز آفات‬
‫العقل المجرد و يتضمنه و العقل المؤيد يتجاوز آفات العقل المسدد و يتضمنه‪.‬‬
‫مدار هذه المراتب من العقل ‪ ،‬إنما هو الفطرة البشرية على اليمان التي ينكرها العقل المجرد أو يتنكر لها ؛‬
‫فالنسان كائن منشد إلى اليات ‪ ،‬و لهذا يقترح طه عبدالرحمن مفهوم النظر الملكوتي الذي يتجاوز النظر الملكي‬
‫المجرد ‪ .‬النظر الملكوتي في اليات الذي يتجاوز النظر الملكي في الظواهر؛ فخلف كل ظاهرة آية ‪ ،‬و اليات إنما‬
‫تشير إلى موجد الوجود و علة العلل؛ و لهذا يحيلنا طه عبدالرحمن على نظرية المقاصد أو الغاية من الوجود‪.‬‬
‫كنت و أنا أقرأ طه عبدالرحمن أتساءل عن غياب أمرين عنده ‪:‬‬
‫•ألم يفكر هذا الرجل المؤمن في كتابة تفسير حديث أو حداثي للقرآن الكريم ‪ ،‬سيما و أن التفاسير أو‬
‫التحليلت الحداثية إنما هي تحليلت العقل المجرد المفصول ‪..‬‬
‫•هل يقصي هذا الفيلسوف من جمهوريته الشعراء و الدباء و الفنانين ‪ ،‬مثلما أقصى أو طرد أفلطون‬
‫الشعراء من جمهوريته ؛ فانا أقرأ أو أقلب مئات الصفحات في كتبه التي تزيد عن العشرة ‪ ،‬لم أجده‬
‫يستحضر و لو بيتا شعريا واحدا ‪.‬‬
‫أما عن السؤال الول حول إحجام طه عبدالرحمن عن تفسير القرآن الكريم‪ ،‬فقد وجدت إشارة إلى الجواب في‬
‫كتابه الخير" روح الحداثة" ‪ .‬يأتي هذا الكتاب " روح الحداثة – المدخل إلى تأسيس الحداثة السلمية" تكملة‬
‫أو جزءا ثانيا في مشروع "سؤال الخلق" الذي نقد فيه الحداثة و العقلنية الغربية المجردة ؛ فطرح – كعادته‬
‫– تصورات و حلول بديلة ‪ ،‬حيث يقوم هذا النقد على نفس الساس الذي انتقد به الحداثيين السلميين ‪ ،‬على‬
‫أنهم مجرد مقلدة ‪ .‬ذلك أن تقليد الحداثة ل يكون أبدا حداثة؛ فالحداثة نقيض التقليد ‪ ،‬وهي البداع ‪.‬و هو ل يرى‬
‫فرقا كبيرا بين مقلدة المتقدمين أي السلفيين السلميين و مقلدة المتأخرين أي الحداثيين ‪.‬‬
‫و يميز في هذا الكتاب بين ما يسميه روح الحداثة و التطبيق الغربي للحداثة‪ ،‬بعد أن يعرض لمجمل السس التي‬
‫تم تعريف الحداثة بموجبها‪ ،‬ينتهي إلى أن الحداثة إنما قامت على ثلثة مبادئ ‪:‬‬
‫* مبدأ الرشد‪ :‬و يقتضي وجود الستقلل عن الوصياء و الولياء و وجود إبداع في القوال و الفعال‪.‬‬
‫* مبدأ النقد و يقتضي ممارسة التعقيل في كل شؤون الحياة و ممارسة التفصيل في كل أمر يحتاج إلى مزيد‬
‫الضبط ‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫* مبدأ الشمول ‪ :‬و يقتضي حصول التوسع في كل المجالت و حصول التعميم على كل المجتمعات ‪.‬‬
‫فروح الحداثة إنما هي روح راشدة ناقدة شاملة ‪.‬‬
‫هذا عن روح الحداثة ‪،‬أما التطبيق الغربي للحداثة فقد أفضى إلى ما بعد الحداثة التي تناقض هذه الروح و تلك‬
‫المبادئ الثلثة ‪.‬‬
‫و على أساس روح الحداثة يقول طه إن التطبيقات لبد و أن تكون مختلفة ‪ ،‬و في مقدمتها التطبيق السلمي‬
‫الذي يعطي منه نماذج ‪:‬‬
‫* التطبيق السلمي لمبدإ النقد الحداثي ‪ :‬و فيه يبين أحقية السلم بدرء الفات الخلقية للعولمة ‪ ،‬خصوصا تلك‬
‫التي لحقت بنظام السرة‪.‬‬
‫* التطبيق السلمي لمبدإ الرشد ‪ :‬و فيه يتطرق إلى الترجمة الحداثية و الستقلل المسؤول؛ حيث يفكك و ينتقد‬
‫القراءات الحداثية للقرآن الكريم ‪ ،‬أي القراءة المقلدة و خططها ‪ ،‬و يقدم‪ ،‬بالمقابل‪ ،‬القراءة الحداثية المبدعة‬
‫للقرآن الكريم بشروطها و خططها ذات البداع الموصول ‪ .‬و في هذا قسط من الجواب عن تساؤلي الول ‪ ،‬إل‬
‫أنني سأنتظر يوما يخرج فيه طه عبدالرحمن بقراءته المبدعة للقرآن الكريم ‪ ،‬أو يخرج فيه أحد تلميذه بتلك‬
‫القراءة ‪.‬‬
‫* التطبيق السلمي لمبدإ الشمول الحداثي القائم على ركني التوسع و التعميم ‪ :‬تناوله الكاتب من خلل النتقال‬
‫من التوسع المقلد ‪،‬الذي اهتم باللت أكثر من الفكار‪ /‬النسان ‪ ،‬إلى التوسع المبدع الذي يبتدئ فيه مسار‬
‫الحداثة من الخلق‪/‬النسان ثم الفكار ثم المؤسسات ‪،‬فاللت‪ .‬و النسان‪ ،‬في هذا التوسع المبدع أقوى من‬
‫الحداثة نظرا لتبعية الجسمانية للروحانية ‪.‬أما التعميم المبدع فهو دعوة إلى العالمية ؛ ذلك أن السلم جاء رحمة‬
‫للعالمين ‪.‬‬
‫أما التساؤل عن موقف طه عبدالرحمن من الشعراء فقد عثرت في مجمل ما كتب على بيت شعري يتيم أحاله‬
‫عليه أحد أصدقائه بعدما ترجم كوجيتو ديكارت إلى " فكر تجد " ‪ ،‬يقول ذلك البيت ‪:‬‬
‫***** انظر تجد فيك الوجود بأسره‬ ‫يا تائها في مهمه(‪ )1‬عن سره‬
‫و لكن في كتيبه "حوارات من أجل المستقبل" في باب صوفيات نص ‪/‬جواب طريف رائع عن سؤال ‪:‬‬
‫انطلقا من تجربتكم الصوفية و الفلسفية كيف تبنون موقفكم الجمالي حيال مجال الفن و البداع و فنون القول و‬
‫المسرح و الموسيقى ‪ ،،‬هل لكم نظرية جمالية حيال هذا الموضوع؟‬
‫قدمت إجابة طه عبدالرحمن نواة نظرية جمالية طريفة يمكن تسميتها " نظرية الجمال و الجلل" ‪ ،‬كما نود‬
‫عرضها في نهاية هذا الحديث لننا سنفترض أنها تؤسس لحداثة أدبية جمالية عربية تحتاج إلى من يتعهدها ‪،‬‬
‫من النقاد المبدعين‪ .‬و لكن‪ ،‬قبل ذلك‪ ،‬نحاول أن نعرض لمظاهر التيه و التبعية في بعض الحداثات الفكرية و‬
‫الدبية المغربية على الخصوص ‪.‬‬
‫‪II‬الحداثة المنقولة ‪ :‬حداثة التيه و الفراغ و الستلب‬
‫‪-1‬حس الزمة و وعي الزمة‬
‫يدرك اليوم جل مقلدة المتأخرين أي الحداثيين النقلة أنهم في أزمة ‪،‬و أمام هزيمة فكرية شنيعة ‪ ،‬على مستوى‬
‫النقد الدبي عندما استجلب أو استحلب هؤلء نقد النقد عن" تودوروف" و عن" رولن بارط" ‪ ،‬وقفوا على‬
‫حقيقة أنهم ساقطون في تبعية مستحكمة لصندوق النقد الدولي الرمزي ‪ ،‬مثلما نقرأ ذلك عند المصري سيد‬
‫بحراوي أو عند شكري محمد عياد أو عند التونسي محمد لطفي اليوسفي ‪ ،‬أو عند المغربي محمد بنيس في‬
‫كتابه الخير" الحداثة المعطوبة" وهو كتاب يحاول أن يعكس أو يعبر عن الحبسة التي تقف في حلقه ‪ ،‬حتى‬
‫لكأن الكتاب غمغمة و فقدان للسان ‪ ،‬تعبيرا عن إخفاق مستشر ‪.‬حبسة تصيب المصدوم جراء انكشاف الوهم‬
‫الذي ظل يتبعه هؤلء الحداثيون لعقود‪ ..‬و لضيق المقام‪ ،‬لنكتف باستحضار بعض عناوينه الداخلية المعبرة عن‬
‫عطب اللة أو الليات‪ :‬هل الليل هو النهار ؟هو عنوان الفتتاحية‪ ،‬و نقرأ فيها مثل‪" :‬هي الكلمات تحترق في‬
‫الحلق ‪ ،‬قبل النطق ‪..‬أرصد و ألحظ هذا الذي يقع في ثقافة سعت إلى حداثة‪ ،‬فيما هي تبرز منفية في عهد لم تكن‬
‫تعلم أنه سيكون عهد المأساوي ‪...‬ما ل يدركه أنصار التمجيد ‪.‬سنوات من التأمل ظلت الكتابة فيها بهذا الوعي‬
‫مرادفة للمعنى أو للهرطقة السفسطائية في مجتمع ثقافي غير مهيأ ليبصر ما يحدث حوله ‪ ، .‬لنه كان يتوهم‬
‫أنه يعيش عهد المجد ‪.‬كل كتابة نقدية عن الثقافة و السلطة و الهوية و الوحدة و المؤسسات و السياسي و‬
‫الثقافي و المثقفين كان ينزع عنها حق القامة في المدينة"‬
‫و عدم القامة في المدينة أي في مشروع حضاري جمعي ‪ ،‬هو ما عبر عنه المفكر الديب الصريح بنسالم‬
‫حميش في آخر كتبه ‪" ،‬بداوة الفكر في مقابل ثقافة الحجر" الجنبية من طرف الهيمنة اللينة و الهيمنة الصلبة‬
‫أو ما يسميه الهيجمونيا أي النتشار و الكتساح بدافع إرادة القوة و السيطرة ‪ ،‬في طبعتها الخيرة ؛العولمة ‪ .‬و‬
‫قدم حميش نموذجين للتدليل على ذلك ‪ :‬الفرانكفونية و الفرنسية من جهة ‪ ،‬و عن مأساة( أدبنا) الفرنسي ‪ ..‬و‬

‫‪7‬‬
‫في نقد بداوة الفكر تحدث عن محنة الفكر بين العرابي و التباعي ‪ ..‬و عن خطاب المازيغيات و فخاخ البداوة‬
‫الجديدة و عن تاريخانية العروي أو الحداثة المعاقة‪...‬‬
‫هناك إذن حس عام بالعطب الشامل و بانكشاف الوهم ‪ ،‬وهم تقليد الحداثة و حداثة التاريخانية ‪ .‬و هناك من جهة‬
‫أخرى وعي أولي بأسباب العطب ‪ ،‬وطرق تجاوزه أو البديل أي العودة إلى جوهر الحداثة من رشد و نقد و‬
‫شمول ‪ .‬و هناك مكابرة من كثيرين في عدم العتراف بالغي الحداثي التباعي ‪ ،‬و ذلك بوضع الصابع في‬
‫الذان و تجاهل نصائح الطباء‪.‬‬
‫من الحكايات التراثية العربية الطريفة ما يحكى عن نبي ال سليمان عليه السلم أنه لقي يوما شيخا يقود أربعة‬
‫حمير (أحمرة) ‪ ،‬فعرف انه الشيطان لعنه ال‪..‬فسأله عن المر ‪ ،‬فقال إنما هي تجارته ‪ /‬تجارة الشيطان ‪ ،‬و إنما‬
‫هي أربعة أحمال أو سلع ‪ :‬حمل الحمار الول ‪ :‬هو تجارة الكبر يبيعها الشيطان للملوك ‪ ،‬و حمل الحمار الثاني ‪:‬‬
‫تجارة الخيانة و يبيعها الشيطان للتجار ‪ ،‬و حمل الحمار الثالث ‪ :‬تجارة الكيد ‪ ،‬و طبعا يبيعها الشيطان للنساء ‪،‬‬
‫و أما حمل الحمار الرابع فهو تجارة الحسد و يبيعها الشيطان للعلماء ‪.‬‬
‫و مغزى هذه الحكاية أن الكبر شر ما يكون عند ما يدخل الملوك ‪ ،‬و أن الخيانة شر ما تكون عندما تدخل‬
‫التجار‪ ..‬و أن الكيد شر ما يكون عندما يدخل النساء ‪..‬و أن الحسد شر ما يكون عندما يدخل قلوب العلماء‪..‬و‬
‫النقاد و المثقفين‪..‬‬
‫تصوروا كتيبا يصدر بعنوان " في الحاجة إلى إبداع فلسفي " في سلسلة منشورات الزمن ‪ ،‬و ليس فيه أية‬
‫إشارة من قريب أو من بعيد إلى صاحب مشروع البداع الفلسفي العربي و لو من قبيل الدحض أو التفنيد ‪..‬و هو‬
‫أمر نجده في الدراسات الفلسفية و النقدية و الدبية العربية ؛ تجاهل طه عبدالرحمن بشكل شبه كلي ‪ ،‬إنه‬
‫الحسد و قد دخل قلوب علمائنا ابتاعوه من الشيطان ‪.‬‬
‫‪-2‬حداثة الغموض و العمى‬
‫إذا سألت مثل هذه القاعة عن أهم أفكار أو تصورات العروي أو عن فلسفته ‪..‬لغمغم البعض بأنها فلسفة‬
‫التاريخانية و مقولة القطيعة البستمولوجية مع التراث و تجاوز الفكر السلفي أو النزعات السلفية ‪ ،‬وبناء حداثة‬
‫عربية ‪/‬مغربية على هدى التاريخانية‪ ،‬و إذا سألت عن التاريخانية لغمغم البعض أيضا بأنها كذا و كذا ‪..‬من قرأ‬
‫العروي ؟ من فهم العروي ؟ من تداول العروي ؟ و كيف تداولوه في العالم العربي ‪..‬هنا مثال عن مكمن الداء‬
‫‪..‬إنه نموذج لجنبية العملة الرمزية ‪ ،‬فما التاريخانية سوى نزعة التمركز الغربي ‪ ،‬و ما هي إل مقدمة‬
‫للهيجمونيا الكتساحية ‪،‬وتأمل نشأتها و مقولتها كما لخصها المفكر المغربي علي أمليل‪ (.‬انظر ص ‪. )11‬‬
‫و لنتساءل مثل لماذا يكتب العروي دراساته التاريخية و الفكرية و المفهومية أو المفاهيمية باللغة الفرنسية ‪،‬‬
‫بينما يكتب رواياته باللغة العربية ‪ ،‬هو يبرر المر بأن الرواية تتصل بالوجدان الفردي و الجمعي ‪ ،‬و إنها‬
‫استدراك بواسطة الميتوس على ما ل يستطيع أن يقوله بواسطة اللوغوس ؛ أي العقل المجرد ‪ ،‬وهل هناك عقل‬
‫مجرد إذ الميتوس يخترق حتى النساق العلمية نفسها ؟‬
‫أل يتصل الفكر النظري هو كذلك بالوجدان ؟ لماذا يكتب العروي عن المغرب أو عن العرب و ليس عن اليابان أو‬
‫أستراليا مثل ؟ الجواب طبعا أن وجدانه متعلق بالمغرب و بالهوية المغربية ‪.‬و لكن المر متعلق بانفصام‬
‫الشخصية و اللسان ؛ حداثيون أرواحهم في الغرب و أجسادهم هنا أو العكس ‪ ،‬هم أول من أحرق( حرك)‬
‫"الحريك" الثقافي ‪ ،‬بل إنهم" حراكة" مشرفون على هذه الهجرة السرية ؛ تهريب الوجدان قبل تهريب البدان‬
‫و ليست الرواية عند العروي سوى تقفي لوهام الذات و ظللها ‪ ،‬تلك الذات المفتقدة كما يمكن أن نقرأ سيرة‬
‫إدريسه الذهنية في إطار لعبة مراياها المتقابلة و تعددية أصواتها‪.‬إذ تقوم هذه الرواية على أطروحة مركزية ‪ ،‬و‬
‫هي أن السيرة مفهوم و همي و أنها ممتنعة ‪ ،‬و أن " أوراق " إنما هي فيقول في امتناع السيرة ‪.‬‬
‫و نعرف أن السيرة تاريخ فرد ‪ ،‬و بالمقابل‪ ،‬فإن التاريخ سيرة جماعية ‪ .‬فإذا كانت السيرة ممتنعة ‪ ،‬و السيرة‬
‫تاريخ ‪ ،‬يكون التاريخ بدوره ممتنعا ‪ .‬نعم إنه مجرد وجهات نظر ‪ ،‬ما يغزله العروي في دراساته ينكثه في‬
‫رواياته ‪ ،‬و لهذا ل يريد أن تقرأ رواياته في ضوء دراساته ‪ ،‬فهل يقبل أن تقرأ دراساته في ضوء رواياته ؟‬
‫مثلما يبني العروي صرحه على مفهوم التاريخ الغربي و التاريخانية ‪ ،‬فإنه أيضا يبني تصوره للرواية ؛‬
‫فـــأوراق يمكن تسميتها أو نعتها بكونها رواية الرواية و بأنها خطاب ميتاروائي – سيستحضر فيها العروي‬
‫الكثير من التجارب الروائية و النظريات الغربية فقط ‪ ،‬دون أية إحالة على رواية عربية أو حتى أمريكولتينية‬
‫واحدة‪،‬فكأنه يقول علينا أن نلعب لعبة الرواية و الحكي ‪ ،‬بالطريقة التاريخانية نفسها ؛ فل توجد – في رأيه –‬
‫رواية عربية ‪ ،‬و إنما هناك قصص فقط و حتى نجيب محفوظ عنده ل يضيف شيئا ‪.‬‬
‫إن الهيمنة اللينة أو الستتباع الثقافي ‪،‬كما يقول إدوارد سعيد ‪ ،‬و هو الخر أحد نقاد ما بعد الستعمار ‪ ،‬تريد أن‬
‫تمحو ذاكرات الشعوب و المم الخرى و تكتب تاريخ العالم كما تريد ‪ .‬و لهذا تعتبر الرواية أحد رهاناتها لنها‬
‫ترتبط بالذاكرة و التاريخ ‪..‬و ربما لهذا السبب نلحظ كيف أن بعض الروائيين الصلء العرب يراهنون على‬
‫الرواية التاريخية ‪ ،‬أو التاريخ الروائي‪..‬‬
‫‪8‬‬
‫من النقاد المغاربة الذين تبنوا رؤى العروي و تاريخانيته وحداثته الناقد محمد مفتاح ‪ ،‬الذي كان قد قدم إحدى‬
‫أطروحاته تحت إشراف أحد الحداثيين المفصولين العقلنيين المجردين ‪ ،‬الجزائري محمد أركون ‪،‬‬
‫السلمولوجي الذي ما فتئ ينزع عن القرآن قدسيته و يجرده و يضفي عليه طابع الدنيوية ‪ ،‬فهذا الناقد الذي ما‬
‫فتئ يعلمن النقد و يتحول به نحو علم للدب أو علم للنص ‪ ،‬يمارسه بالخصوص على النصوص ذات الطابع‬
‫الصوفي أو المتبني للدبيات و الجماليات الصوفية ‪..‬يخرج علينا بكتابه الخير" رؤيا التماثل " و هو يتبنى‬
‫نظرية النتظام ؛ انتظام الكون ‪،‬معتبرا أن الكتاب مقاربة عقلنية للدفاع عن فلسفة التماثل التي هي أساس‬
‫لفلسفة الختلف ‪ ،‬و إذ هي كذلك فإنها تشييد ‪ ،‬و كل تشييد يتم في مقتضيات أحوال ‪..‬و أنه كتاب يسعى إلى ‪..‬‬
‫أن يكشف عن البنيات العميقة المشتركة بين أناس يتوطنون في مجال معين (يقصد حوض البيض المتوسط)‬
‫مما جعلهم يتفاعلون و يتفاهمون ‪ ،‬و يتبادلون المصالح و المنافع و يتواجهون من أجلها ‪ ،‬لكنهم كانوا يحتكمون‬
‫إلى معايير و مكتوبات و تقاليد قبل أن تهيمن الداروينية الشعبية ‪،‬و الماركسية الحرفية ‪،‬و النظريات السياسية‬
‫النفعية ‪ ،‬أي قبل انتشار أطروحة البقاء للصلح و صراع الطبقات و صراع الثقافات و الحضارات ‪..‬و هي‬
‫أطروحات ناتجة عن قياس عالم النسان على عالم الحيوان‪.‬‬
‫و حتى ل نقول إن الكتاب يقوم على مغالطة أو مغالطات‪ ،‬نقول إنه يقوم على نوع من التأسي على إثر انكشاف‬
‫الوهم ‪ ،‬وهم العقلنية المجردة ‪ .‬فما رؤيا التماثل التي هي أساس فلسفة الختلف إل رؤيا ما قبل الحداثة لن‬
‫الفلسفات التي يؤرخ صاحبنا لما قبلها و هذه النزعات ‪ ،‬ليست سوى فلسفات و نزعات الحداثة الغربية التي‬
‫أردنا نقلها و استنساخها ‪.‬‬
‫و من جهة أخرى نجد أن الكتاب فعل هو دراسة في رؤيا التماثل على ثلثة مستويات‪ :‬الزمنية ‪ ،‬و النغمية و‬
‫الشعرية ‪ ،‬و لكن في الضفة الشرقية أي العربية السلمية فقط عند‪ ،‬ابن عربي و ابن خلدون ‪ ،‬و في شعر‬
‫الملحون و أدونيس ‪ ،‬و الشاعر محيي الدين عبدا لعزيز خوجة ‪ ،‬في ديوانه "أسفار الرؤيا" ‪.‬‬
‫و لكأني بصاحبنا يكذب على نفسه ‪ ،‬بهذا الوهم ‪ ،‬و إل تقصى رؤيا التماثل في الضفة الشمالية متجاوزا إلغدي‬
‫دانتي اليطالي الذي يحضر استثناءا ‪.‬و نفس التصور حول مقولة ثقافة المتوسط هو ما اعتمده عبداللطيف‬
‫اللعبي في أنطولوجياه للشعر المغربي ؟ !‬
‫ج‪ -‬الحداثة كنضال على الطريقة الطاوية ‪:‬‬
‫"المناضل على الطريقة الطاوية" عنوان ديوان الشاعر الروائي المفكر السيميولوجي المغربي المتفلسف‬
‫عبدالكبير الخطيبي ‪ ،‬الذي ربما غمغمنا معه بمفهوم النقد المزدوج لميتافيزيقا السلم و ميتافيزيقا الفلسفة‬
‫الغربية‪ ،‬و بالسم العربي الجريح ‪ ،‬و الذاكرة الموشومة ‪ ،،‬و هو في نفس الن داعية الحداثة كبناء للمستقبل و‬
‫من أوائل من دعوا إلى بناء المجتمع المدني و الديمقراطية و حرية التعبير و حقوق النسان ‪..‬و لكنه بالمقابل‬
‫ذاك المستغرب الذي يكتب باللغة الفرنسية و يهتم بالثقافة الشعبية المغربية و الفن المغربي كخصوصية‬
‫ثقافية ‪ ،‬و هو صاحب القول الشائع أن المثقف (متقف ) عاجز عن الفعل ‪ ،‬و أنه هو شخصيا ل يمكن أن يحيا‬
‫حداثة إل في إطار الغرب الذي انتقده‪.‬‬
‫و من أطروحاته ‪ ،‬أطروحة التشغيب على الفكر و الحضارة الغربية بلعبة النقيض و الضديد ‪،‬و المفكك الناقد‬
‫المفكر على طريقة نيتشه و هيدغر و بل نشو و هيغل و رولن بارط ‪ ،‬و هذا التشغيب بإحياء اللمفكر فيه و‬
‫الهامشي أو المهمش و المسكوت عنه و المقموع ‪ ،‬قاده إلى النضال على الطريقة الطاوية التي تعني معانقة‬
‫الهاوية أو التحديق في اليأس و الفراغ و اللمعنى ‪.‬‬
‫كيف يجمع اللمعنى و المعنى ؟ ل يجتمعان إل عند الشعراء أمثال محمد بنيس و محمد بنطلحة‪ ..‬ممن أخذوا‬
‫مشاغبات و حدوس عبدالكبير الخطيبي و نقده المزدوج ‪ ،‬فل نستغرب إذا سمعنا محمد بنيس ‪ ،‬و هو الذي راهن‬
‫على المجلت و الجامعة ‪ ،‬و دور النشر ‪ ،‬والجمعيات ‪ ،‬آخرها" بيت الشعر " ‪ .‬ل نستغرب عندما نسمعه في‬
‫برنامج " فنون و آداب" " ‪ "arts et lettres‬في القناة الثانية المغربية ‪ ،‬قبل أشهر يقول إنه لم يعد يدافع عن‬
‫شيء ‪ ،‬و إذا سمعناه يغمغم بحبسة الحداثة المعطوبة ‪ ،‬و هو الذي اختار منذ البدء بالمقابل أن يناضل على‬
‫الطريقة الطاوية ؛ أن يحدق في اليأس و الفراغ و اللمعنى و يعنون أحد دواوينه بهبة الفراغ ‪ ،‬و هو الذي ترجم‬
‫النقد المزدوج لستاذه الخطيبي ‪.‬‬
‫من تجليات أزمة الحداثة المنقولة المعطوبة إذن ‪:‬‬
‫‪-1‬انشقاق اللسان و انفصام الشخصية كمعطى للتغريب‪ ،‬و التكوين الثقافي الستعماري ‪.‬‬
‫‪-2‬الجمع أو الخلط بين الحداثة الحضارية العامة ؛ القتصادية و الجتماعية و الفلسفية و السياسية ‪ ،‬و‬
‫الحداثة الفنية أو الشعرية ؛ أي الجمع بين الدعوة إلى بناء الحداثة و التشغيب على الحداثة ‪ .‬أهو‬
‫تشغيب على الحداثة المتطلع إليها عربيا أم على الحداثة الغربية التي تتسم بالمكر باحتواء نقيضها و‬
‫المشاغب ّ‪ ،‬بل هي التي تحرض عليه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪-3‬فساد و اختلط المجال التداولي العربي عموما و المغربي خصوصا برطانات ‪،‬عرنسيات و فرانكفونية‬
‫و نزعات أمازيغية ‪...‬‬
‫‪-4‬إن عطب هذه الحداثة ‪ ،‬حداثة مقلدة الخرين ‪،‬فسحت المجال نحو نزعات أصولية أصبحت تنادي‬
‫بالدب السلمي رابطة أو مسقطة الدين على الدب ‪ ،‬كما تحاول أن تسقطه على السياسة ‪ ،‬كما‬
‫يتبدى ذلك في رابطة الدب السلمي بالسعودية و مجلتها" الدب السلمي "‪ ،‬و مجلة "المشكاة‬
‫"المغربية ‪ ،‬و تنظير الدكتور حسن المراني بكتيبه " الدب السلمي"الذي أراد أن يتصدى له الناقد‬
‫المقارن سعيد علوش في كتابه الخير " المركزية العقائدية في نظرية الدب السلمي " و هو كتاب‬
‫يشبه المسودة التي تحتاج إلى تبييض و لعلها خاصية جل كتب هذا الرجل غزير النتاج ‪ ،‬و هو ينتقد‬
‫مركزية عقائدية بمركزية عقائدية أخرى ‪ ،‬هي المركزية العقائدية للتطبيق الحداثي الغربي‪.‬‬
‫‪III-‬هل يمكن أن تشكل حداثة طه عبدالرحمن المأصولة المبدعة على مستوى الفكر و الفلسفة خلفية فلسفية جمالية‬
‫لنظرية أدبية نقدية ؟‬
‫يفاجئنا طه عبدالرحمن في "حوارات من أجل المستقبل " بهذه المعطيات عن حياته ‪:‬‬
‫‪-‬أنه قبل أن تكون له نظرية في الجماليات ‪ ،‬كانت له فيها إبداعات ‪.‬‬
‫‪-‬أنه تابع سنة ‪، 1967/1968‬و هو طالب في الفلسفة ‪ ،‬دروسا في الجماليات و تاريخ الفن بمعهد الفنون‬
‫الجميلة بباريس‪.‬‬
‫‪-‬انه مارس الشعر في سن مبكرة ‪،‬ن و أن النقاد شهدوا آنذاك أنه شعر جيد ‪ ،‬لكنه توقف عن كتابة الشعر‬
‫بقرار اختياري غداة حرب يونيه ‪ ،1967‬و كانت آخر قصائده بعنوان " في طريقي إلى قصيدة"و كأنه يقول‬
‫ما قله امرئ القيس اليوم خمر و غدا أمر‪.‬‬
‫‪-‬إنه ربما يعود بعد نهاية مشروعه الفكري إلى دنيا الشعر متى كان يعرج بالروح إلى العوالم البعيدة‪.‬‬
‫و أما نظريته الجمالية فلنستمع إليه يقول ‪:‬‬
‫"إن النسان الذي ل تكون له نظرة جمالية إلى الشياء في نفسه و في أفقه ‪ ،‬ل أظن أنه سيكون إنسانا كامل ‪،‬‬
‫نظرا لن النسان ذو بعدين اثنين ‪ :‬أحدهما‪ ،‬البعد الجللي‪ ،‬و هو ما تتفتق عنه قريحته من الحقائق التي تمده‬
‫بالقوة‪ ،‬علما أو فكرا أو منطقا أو صناعة أو ماشابه ذلك ؛ و الثاني البعد الجمالي ‪ ،‬و هو ما تتفتق عنه موهبته‬
‫من القيم التي تمده بالرقة ؛ أدبا أو رسما أو مسرحا أو موسيقى أو ما شابه ذلك ؛ و النسان الكامل لبد أن‬
‫يجمع بين البعدين في حياته الخاصة و حياته العامة‪ ،‬لنه إنسان متوازن مستو‪،‬فبقدرما يكون قويا ‪ ،‬يكون رقيقا‪،‬‬
‫لن قوته من عقله و رقته من ذوقه ؛ لذلك لبد أن تكون التربية على الجلل عند الصغار و الكبار معا مصحوبة‬
‫بالتربية على الجمال حتى يتحقق هذا التوازن و الستواء‪".‬‬
‫وتختص نظريتي في الجمال(يقول طه) بصفات ثلث ‪ ،‬ل يشاركني ‪ ،‬على ما اعلم ‪ ،‬فيها غيري من المحدثين‪.‬‬
‫أولها ‪ :‬أن الجمال متعة طيبة ترفع همة النسان إلى مزيد الكمال‪،‬بحيث كلما حصلت منها نصيبا ارتقيت في‬
‫درجة إنسانيتك ‪ ،‬و ما أن تدرك هذه الدرجة حتى تطلب متعة فوق المتعة الولى ‪،‬ترقى بها إلى درجة في‬
‫إنسانيتك فوق الدرجة الولى‪،‬و هكذا دواليك في جدلية دائمة بين الستمتاع و الستكمال ‪ ،‬كل متعة تنقلك إلى‬
‫كمال و كل كمال ينقلك إلى متعة فوقها ‪.‬‬
‫و الثانية أن القيمة الجمالية ‪ ،‬على خلف العقيدة السائدة بين أهل الدب والفن ‪،‬ل تعارض أبدا القيمة الخلقية‬
‫لن الجمال مراتب ‪ ،‬طرفه الدنى الجمال الظاهر القريب ‪ ،‬و العلى الجمال الباطن البعيد ‪ ،‬و بينهما مراتب ل‬
‫تحصى ‪ ،‬و الخلق كذلك مراتب ‪ ،‬طرفها الدنى الخلق الظاهر المقيد ‪ ،‬و طرفها العلى الخلق الباطن المحرر‪ ،‬و‬
‫بينهما مراتب هي الخرى ل تحصى ؛ و كلما ارتقت رتبتك في إحدى القيمتين ازداد قربك من القيمة الخرى ‪،‬‬
‫حتى إذا نزلت أعلى الرتب في إحداها كنت في ذات الوقت نازل أعلى الرتب في الثانية ‪ ،‬بحيث ل يفترقان إل في‬
‫الرتب الدنيا ‪ ،‬أما في الرتب العليا ‪،‬فهما مجتمعان اجتماعا ل افتراق معه ؛ فالجمالي العظيم أخلقي عظيم‪،‬‬
‫والخلقي العظيم جمالي عظيم‪.‬‬
‫و الثالثة أنه إذا تعذر على أمة ما السهام في محيطها الحضاري ببعدها الجللي ‪ ،‬الذي هو القوة و البأس ‪ ،‬فإنه‬
‫يبقى لها دائما متسع في أن تسهم في هذا المحيط ببعدها الجمالي ‪ ،‬الذي هو الرقة و اللطف ؛ من هنا أذهب إلى‬
‫أنه يتعين على مفكرينا أن يفكروا مليا في الطرق الجمالية التي ينبغي أن تسهم المة السلمية العربية في القرن‬
‫الذي أهل علينا ] القرن ‪ [ 21‬ما دامت ل تتراءى لنا آفاق السهام فيه ببعدنا الجللي قوة بأسا ‪ ،‬و إني متيقن أنه‬
‫لو أننا نهتدي إلى هذه الطرق ‪ ،‬فسوف يكون لنا العطاء الجمالي ما نجعل أهل هذا القرن يحتاجون إلينا قدر‬
‫احتياجنا إلى عطائهم الجللي‪.‬‬
‫و عند طه عبدالرحمن أن الصل في فن الكلم ليس ‪،‬كما يظن الجمهور‪،‬هو النثر ‪ ،‬و إنما الشعر ‪ ،‬فعنده أن‬
‫النسان الول إنما تكلم شعرا ‪ ،‬فالكلم الول ل يمكن أن يكون إل كلما مجازيا ‪ ،‬ل كلما حقيقيا ‪ ،‬لن الحقيقة‬
‫بناء عقلي بينما المجاز معطى فطري ‪ ،‬و المعطى الفطري متقدم على البناء العقلي ‪ ،‬و ل يتحقق المجاز في أكمل‬
‫‪10‬‬
‫صوره إل في الشعر ‪ ..‬و النثر إنما هو الشعر و قد جرده العقل من نصيب مجازه الصلي ‪ ] ..‬فالتطلع [ إلى‬
‫الشعر هو استكمال النسانية و هل يتطلع النسان إلى شيء تطلعه إلى استكمال إنسانيته‪.‬‬
‫إن لغة الوجود هي لغة شعرية و ليست لغة نثرية ‪ ،‬ذلك أن الحوال في داخلنا و الشياء من خارجنا ‪،‬ليست‬
‫جامدة و ل صامتة ‪ ،‬و إنما هي حية ناطقة ‪ ،‬و واضح أن حياتها و نطقها ل يظهران في عبارات ملفوظة ‪ ،‬تصدر‬
‫من هذه الحوال الشياء ‪ ،‬فتدركها أسماعنا ‪ ،‬و إنما يظهران في إشارات مرموزة تدل بها على مقاصدها‪،‬‬
‫فتدركها مشاعرنا ‪،‬و حقيقة الشعر أنه كلم يتولد من الشعور بالشارة‪ ،‬بحيث تكون الشارات التي يحملها الشعر‬
‫هي عين الشارات التي تحملها الحوال في أنفسنا و الشياء في أفقنا ؛ و على هذا يكون الكلم الشعري جامعا‬
‫لطراف الوجود أحوال و أشياء‪..‬فالتطلع إلى الشعر هو استكمال الوجود و هل يطمع النسان في شيء طمعه في‬
‫تمام وجوده‪.‬‬
‫و الشعر عنده هو الموصل إلى ما وراء العقل المجرد‪ ،‬وليس النثر‪ ،‬لن النثر من آثار العقل المجرد ‪ ،‬و الطلع‬
‫على ما وراء حجاب ينبغي أن ل يكون بواسطة تكون أثرا لهذا العقل ‪ ،‬و ليس تلكم الوسيلة إل الشعر ‪ ،‬فالشعر‬
‫هو الذي يمكن النسان من اختراق السبع الطباق و النفاذ إلى العوالم الخفية و الفاق اللمتناهية‪.‬‬
‫فالقصد من التطلع إلى الشعر تجديد روحانية النسان ‪ ،‬و أقصى ما يطمح إليه النسان تجيد روحانيته‪.‬‬
‫وبعد هذا النص الطريف في نظرية الجمال و الجلل و الستمتاع و الستكمال ن اعتقد أن المستقبل القريب ‪،‬‬
‫سيعطينا نقادا و منظرين لمثل هذه الحداثة الموصولة التي ل تعارض فيها بين الخلق و الجمال ‪ ،‬بل هو التكامل‬
‫في أعلى رتبه الذي ل يلغي المراتب الخرى بما فيها المراتب الدنيا ‪ ،‬و إن حضارة يكون لها من الجلل ما كان‬
‫للحضارة العربية السلمية ‪ ،‬تكون قادرة على احتواء كل الشغب الجمالي بشرط أن يكون داخل مجالها التداولي‬
‫المنسجم ‪ ،‬و داخل لغتها و لسانها المبين ‪ ،‬فلنتأمل هذا الشاعر المسلم ‪ ،‬سارق البل ‪ ،‬كيف يشاغب من داخل‬
‫الخلق السلمية فيقول‪:‬‬
‫و إني لستحيي من ال أن أرى ***** أجرجر حبلي و ليس فيه بعير‬
‫و أن أسأل المرء الدنيء بعيره ***** و أجمال ربي في البلد كثير‬
‫و بهذا نفهم كيف كان أحد الئمة الربعة ‪،‬كان يردد حتى داخل المسجد بيت المشاغب الجميل أبي نواس‪:‬‬
‫أنبئت أن فتاة كنت أخطبها ***** عرقوبها كشهر الصوم في الطول ‪.‬‬
‫و شكرا ‪.‬‬ ‫و عسى أن ل يكون حديثي هذا عرقوبه كشهر الصوم في الطول ‪.‬‬
‫*****************************************************************‬
‫ملحق ‪ :‬التاريخانية ( ص ‪) 8‬‬
‫التاريخانية أصبحت بعدا أساسيا في النظر (رؤية) إلى العالم‪ .‬و هي تقوم على اعتبار التاريخ محددا للوجود البشري ‪ ،‬و تدخل أي‬
‫حقبة من تاريخ المجتمع في مسار تاريخي أعم‪ ،‬تفسرها به‪.‬فلتاريخ منطق ‪ ،‬و المستقبل هو القطب الجاذب للزمان ‪ ،‬و هكذا يكون ما‬
‫يسمى الوعي بالتاريخ أو الوعي التاريخي كمحدد و مفسر للوجود البشري ‪ .‬إل أن التاريخانية هي بتن القرن التاسع عشر الوروبي‬
‫‪ ...‬و هي نظرة حديثة نسبيا إلى العالم ‪ ،‬تصور الحقبة التاريخية كحلقة في مسار تاريخي شامل أشمل ‪ ،‬و تعتبر التاريخ فاعل في‬
‫تشكيل الوجود النساني و الوعي به‪.‬‬
‫بيد أن التاريخانية أحلت التاريخ الغربي في قلب التاريخ ‪ ،‬وجعلت الغرب هو الطريق السيار للتاريخ ‪ ،‬أما الشرق فتاريخه قد تجمد و‬
‫كأنه سقط في بركة من الزمان السن ‪ ،‬و منذ القرن ‪ 18‬تحدث رحالة غربيون عن زمان الشرق الراكد ‪ ،‬و فسروا ركوده ‪ ،‬بكون‬
‫الشرق لم يعرف تطورا الملكية العقارية الخاصة ‪ ،‬كما أن نظامه الستبدادي ساهم أيضا في ذلك ‪ .‬و هكذا فإن الملكية الخاصة و‬
‫الحرية هما محرك التاريخ ‪ .‬و اعتمد فلسفة الغرب و كتاب غربيون على وصف هؤلء الرحالة لبلدان الشرق ليصفوا نظريتهم عن‬
‫الستبداد الشرقي ‪ ،‬وكان ّمنتسكيو " أكبر منظريه ‪ ،‬واعتمد كارل ماركس كتابة أولئك الرحالة نفسها ليصوغ نظريته في نمط "‬
‫النتاج السيوي " الذي راج بين ماركسيي العالم الثالث في الستينيات و السبعينيات من القرن ‪20‬بمن فيهم ماركسيون مصريون ‪،‬‬
‫حاولوا تطبيق هذه النظرية على الدولة المصرية عرض النيل ‪ .‬و مؤدى هذه النظرية أن مناطق النهار الكبرى في آسيا تطلبت‬
‫وجود دولة عالية المركزية لتنظيم الري و تأمينه على مسافات شاسعة‪ ،‬مما جعل ملكية الرض في يد ملك أو إمبراطور مطلق‬
‫السلطان ‪ .‬و الذي يهمنا هنا أن ماركس أخرج نمطه السيوي في النتاج من تحقيبه لمراحل التاريخ و أنماط النتاج كما تطورت في‬
‫المجتمعات الغربية ‪ :‬عبودية –إقطاع – رأسمالية –اشتراكية ‪.‬هناك إذن غرب في قلب التاريخ المتطور و شرق تاريخه مجمد‪ ،‬لم‬
‫تتطور فيه وسائل النتاج فتخلق تناقضات تدفع التاريخ إلى المام ‪ ،‬تناقض بين ملكية وسائل النتاج و علقاته ‪..‬تناقض بين الوعي‬
‫و الواقع ‪،‬انقسام طبقي –دخول قوة العمل كقيمة تبادلية ‪.‬‬
‫و الواقع أن الماركسية أشاعت فلسفة تاريخانية لم تخل من مفارقة ؛ فهي من جهة كسرت المركزية الغربية ‪ ،‬إذ أدخلت المجتمعات‬
‫كلها في مسار تاريخي عام ‪ ،‬و الفضل في ذلك يرجع إلى الرأسمالية التي أدمجت الجميع في سوق عالمية واحدة ‪ ،‬و خلقت‬
‫البروليتارية ‪ -‬الطبقة العصرية بامتياز‪ -‬التي عليها أن تتوحد متجاوزة الحدود الوطنية و الختلفات الثقافية ‪ ،‬لتقود حركة التاريخ‬
‫نحو التقدم و التحرر ‪ ،‬و هكذا أصبح التاريخ طريقا سيارا تسيرا فيه المم جميعها‪ .‬لكن الماركسية من جهة ثانية حافظت بكيفية ما‬
‫على مركزية التاريخ الغربي ‪ ،‬فما وصلت إليه المجتمعات الغربية المتقدمة عبر تراكم زماني عادي ‪ ،‬على المجتمعات الخرى أن‬
‫تختزله بالثورة‪.‬‬
‫ذ‪ .‬مصطفى الزين‬

‫‪11‬‬
12

You might also like