You are on page 1of 140

‫السفر إلى حيث يبكي القمر‬

‫‪-2-‬‬
‫الحقوق كافة‬
‫مـحــــفــــوظـة‬
‫لتـحــاد الـكـتـاب‬

‫‪unecriv@net.sy‬‬ ‫البريد اللكتروني‪:‬‬


‫‪: E-mail‬‬
‫‪aru@net.sy‬‬
‫موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة النترنت‬
‫‪http://www.awu-dam.org‬‬

‫‪‬‬

‫‪-3-‬‬
‫سها جلل جودت‬

‫السفر إلى حيث‬


‫يبكي القمر‬
‫روايــــــــــــة‬

‫‪-4-‬‬
‫من منشورات اتحاد الكتاب العرب‬
‫دمشق ‪2004 -‬‬

‫‪-5-‬‬
-6-
‫التقديم والهداء‬

‫يقول ابن القيم في التربية‪ :‬فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد‬
‫أ ساء غا ية ال ساءة‪ ،‬وأك ثر الولد إن ما جاء ف سادهم من الباء وإهمال هم ل هم‪،‬‬
‫فأضاعوهم صغارا‪ ،‬فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارا‪.‬‬
‫معن هذا المدخعل لكلم ابعن قيعم جوزيعة أقدم روايتعي‪ ،‬العمعل الول بععد‬
‫ل في المزاد)‪ ،‬و قد ا ستغرقت م عي‬ ‫إ صدار مجموع تي الق صصية الولى ( رج ٌ‬
‫زمنا غ ير ي سير لك شف النقاب عن كوا من الط فل النف سية وال سباب المباشرة‬
‫غيعر المباشرة فعي تشرده وضياععه‪ ،‬وذلك معن خلل تقديعم هذا العمعل الروائي‬
‫والذي ا ستند في مج مل أحدا ثه على الوا قع الدم يم الذي تعا ني م نه مجتمعات نا‪،‬‬
‫ك أن هذه المجتمعات السرية تخلق في نفس الطفل انعكاسا إيجابيا‬ ‫وأجزم بل ش ٍ‬
‫ع ند ب عض الطفال ح ين تر فض نف سية الط فل وا قع حياة الضياع فيب حث لذا ته‬
‫ععن مخرج إمعا بمتابععة التعليعم‪ ،‬أو فعي اسعتقراره على تعلم حرفعة أو صعناعة‬
‫ليغدو إنسانا سويا‪ ،‬على عكس ما سنجده في هذه الرواية‪.‬‬

‫سها جلل جودت‬


‫الجمعة ‪15‬ذو الحجة ‪1424‬‬

‫الموافق ‪ 6‬شباط ‪2004‬‬

‫***‬

‫‪-7-‬‬
-8-
‫يقول سارتر‪( :‬الكا تب يم ثل ضم ير الع صر)‪ .‬والروائ ية سها جلل‬
‫جودت أحسعت بالمسعؤولية الدبيعة والثقافيعة والنسعانية تجاه مجتمعهعا‪،‬‬
‫ولذلك سعت جادة لتكون بم ستوى هذه الم سؤولية من خلل هذه الروا ية‬
‫الشائقة‪...‬‬
‫فالروا ية تمتاز بكثا فة شديدة وح ساسية مره فة أ سهمت في تشك يل‬
‫عالم يمزج الواقعع بالرمعز والحلم معن خلل عبارة رشيقعة أقرب إلى‬
‫الشاعر ية وأ سلوب ملون دا فئ و سبل تعبير ية وفكر ية تحت ضن ال صدق‬
‫والوفاء للوصول إلى آفاق مزهرة‪.‬‬
‫إن الخوف‪ ،‬والتمرد‪ ،‬واللم أقانيعم ثلثعة تمثعل الغتراب الداخلي‬
‫لكون ها تنغرز في ج سد الروا ية وأحداث ها بفاعل ية كبيرة‪ ،‬والكات بة ت صر‬
‫عبر هذه المحاور المركزية على النتباه إلى النتائج التي ستصل بها إلى‬
‫القارئ من خلل واقع مماثل لواقعنا‪ - ،‬هذا إذا لم يكن مطابقا له‪ -‬ومن‬
‫خلل ما تعززه الحداث في حياتنا ووجودنا‪ ،‬لن معرفة ما هو حلو إلى‬
‫جانب ما هو مرٌ فعلً يعني الكثير الكثير‪.‬‬
‫إن الروايعة تتصعدى للمشكلت الجتماعيعة معن خلل رؤيعة نقديعة‬
‫تك شف عن معاناة البناء الجتما عي وت صدعه ب سبب سلبيات تن خر في‬
‫عظامه تستحق التوقف والتدقيق‪ ،‬ذلك لن من أهم جماليات الرواية هذا‬
‫ال صدام ب ين ما ي جب أن يكون‪ ،‬وب ين الوا قع الغا في على الظلم المف جر‬
‫للمعاني اللأخلقية التي تعشش في مفازات الجهل والتخلف‪.‬‬
‫وإن النظعر إلى جذور الزمعة فعي الحدث يعود للواقعع التاريخعي‬
‫المتأرجعح والنتماء الطبقعي‪ ...‬فالبطعل ينتمعي إلى الطبقعة التحتيعة التعي‬
‫تفرض واقعا مفسعخا ينعكعس سعلبا على فكعر وسعلوك أفراد هذه الطبقعة‬
‫فيظهر الفرد مغيب الفكر والوجدان‪ ،‬حائرا في آفاق مستقبله‪ ،‬ضائعا في‬
‫توجهاته وأفعاله‪ ،‬فيضطر إلى التغلغل في ثنايا الشهوات والسترسال في‬

‫‪-9-‬‬
‫الندماج مع أشخاص ليسوا من سنه ول من مسلكه‪ .‬إلخ‪ .‬أهو نداء الفكر‬
‫أو نداء القلب أو النهيار الكلي الذي ل مناص منه‪.‬‬
‫لقعد ف قد البطعل حنان البو ين والرعا ية‪ ،‬و ما يكاد يخرج من ظلم‬
‫ح تى يدخل في آ خر‪ ،‬فا ستسلم للها نة‪ ،‬ورضخ لشب كة الفعل اللأخلقي‬
‫مما عكس على حياته عدم الستقرار ورسخ الضياع‪.‬‬
‫إن هروب البطعل معن الرديعء إلى الردأ‪ ،‬ومعن حياة الممكعن إلى‬
‫حياة المسعتحيل بسعبب ملحقعة المجتمعع والسعلطة له‪ ،‬جعله يوغعل فعي‬
‫غياهب الضياع والرذيلة‪ ،‬ولم تنقذه عاطفة مفاجئة أو حب متخيل‪.‬‬
‫وإن ضياع البطعل ل يعود إلى جرأتعه ورفضعه الظلم وبحثعه ععن‬
‫حريته‪ ،‬وإنما يعود – في رأيي– إلى عجز وعيه وإهمال مجتمعه لواقعه‬
‫فبقيعت روحعه فعي فراغ هلمعي وغدا غيعر قادر على تحديعد التجاهات‬
‫التي تدرأ عنه الجبروت والظلم‪ ،‬ولذلك حط رحاله في مناخات يستعصي‬
‫فيها المل بحياة مثالية نظيفة‪.‬‬
‫وتؤلف الشخصعيات فعي الروايعة متنافرة ومتعاضدة عملً روائيا‬
‫ناجحا؛ فالزمكانيعة واضحعة المعالم‪ ،‬عميقعة الثعر؛ والسعائد الجتماععي‬
‫والطبقي فاعل ومهندس لنمو الحداث‪ .‬إن رواية (السفر إلى حيث يبكي‬
‫الق مر) تر كز على أهم ية رعا ية الن سان‪ ،‬و هي دعوة مه مة من أ جل‬
‫التوازن الجتماعععي‪ ،‬وإصععلح البيئة‪ ،‬وإلقاء الضوء على التناقضات‬
‫الجتماعية ومآسيها ومحاولة لدحض العادات والتقاليد البالية‪ ،‬إذ ما الذي‬
‫نرجوه من إن سان ي جد نف سه مطعونا م نذ صغره بح به وأبو ته وأخو ته‬
‫وعلقا ته وح تى في وجوده وإن سانيته؟! ك يف سيتشكل؟ وك يف ستكون‬
‫مواقفه ورؤاه؟ وهو المغتال والمتهم والمطرود؟!‬
‫ل قد وف قت سها جلل جودت في روا ية تواجه نا برؤى معم قة عبر‬
‫بناء فني محكم ووعي نابه وموقف خلق‪ ،‬وهي إذ تضع بصمة قوية في‬
‫هذا الميدان تستحق استقبالً لئقا من قبل الروائيين والنقاد والقراء‪ ،‬وهذه‬
‫الرواية يمكن ضمها إلى كتب المبدعين التي تغني المكتبة العربية وتمتع‬
‫– بحق– القارئ‪ ،‬وتدفع الباحث والناقد إلى العجاب‪.‬‬

‫‪- 10 -‬‬
‫هيثم يحي الخواجة‬

‫***‬

‫‪- 11 -‬‬
‫‪-1-‬‬

‫اسسمي غالب‪ .‬مضعى على يوم مولدي عقدان وبضعع سعنواتٍ ومعا زلت‬
‫أعا ني من غل بة وجودي المأزوم‪ ،‬دخلت ال سجن غ ير مرة ٍ‪ ،‬وأ هم مرحلة في‬
‫حياتي تلك التي قضيتها في دار الحداث‪ ،‬حين شاهدوني بعد الثانية عشرة ليلً‬
‫أتجول بمفردي في ساحة " سعد ال الجابري" وكان عمري حينذاك أرب عة ع شر‬
‫عاما‪ ،‬قلت‪ :‬كنت أتجول‪ ،‬أدور قالوا‪ :‬كذاب رأيناك تتسول‪" ،‬هل ُشبهت لهم؟!!"‪.‬‬
‫في الدار كان يزورنا المرشد الجتماعي يعطينا دروسا في الخلق وفي‬
‫الحياة‪ ،‬كنعت أبتسعم وأنعا أراه يتحدث ععن الفضيلة والشرف‪ ،‬حتعى نادانعي ذات‬
‫مرة‪:‬‬
‫‪ -‬تعالَ‪ ،‬ما يضحكك ؟‬
‫ت من سؤاله ومل تُ برأسي‪ ،‬مدّ يده نحو ذقني ورفع بأصابعه وجهي‬‫خجل ُ‬
‫نحو وجهه وحدق فيّ مليا ثم قال ‪:‬‬
‫‪ -‬بعد الدرس‪ ،‬أريدك !‬
‫عدت إلى مكاني وأنا قلقٌ متوت ٌر " ُترى ما يريد مني ؟ وهل سيشكوني إلى‬
‫مدير الدار ؟ لكنّ المدير لن يسمعه فهو يحبني ويقول غالب حساس و"شاطر" !‬
‫بععد النتهاء معن الدرس أشار بيده فتبعتعه وأنعا مطرق الرأس وجعل‬
‫الخطوات‪ ،‬في غرفة الملحظة جلست أمامه فسألني ‪:‬‬
‫‪ -‬ما اسمك ؟‬

‫‪- 12 -‬‬
‫‪ -‬غالب‪.‬‬
‫‪ -‬اسمٌ جميلٌ‪ ،‬ما تهمتك ؟‬
‫‪ -‬تجولْ بعد منتصف الليل !!‬
‫حدق في وجهي مستغربا ثم سألني ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تحب في الحياة وماذا تكره ؟‬
‫أجبت ‪:‬‬
‫‪ -‬أحب الطبيعة والنقود كثيرا‪ ،‬وأكره البخيل والجبان‪ ،‬وأن ترشقني سيارة‬
‫بماء الشارع‪ ،‬وأن أسمع كلمة مغضوب!!‬
‫ن ظر في عين يّ‪ ،‬شعرت به يغوص في البؤ بؤ عميقا و من غ ير أن ترف‬
‫عينه قال متابعاً‪:‬‬
‫‪ -‬من تحب من أهلك‪ ،‬أقربائك‪ ،‬أصدقائك ؟‬
‫‪ -‬خالتي أم جميل وصديقي عيسى‪.‬‬
‫‪ -‬وأمك وأبوك وأخوتك وباقي الناس ؟‬
‫سعاد الغر فة الصعمت‪ ،‬هعو ينظعر فعي وجهعي وأنعا أتأمعل السعتائر والهواء‬
‫المتسرب من النافذة‪ ،‬وبعد الدخول في دائرة السكوت‪ ،‬عاد يسأل ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا شاهدت عاجزا طلب مساعدتك ما تفعل؟‬
‫ي!‬
‫‪ -‬حسب حاجة العاجز إل ّ‬
‫‪ -‬إذا شاهدت مالً وصاحب المال أزعجك ما تفعل ؟‬
‫‪ -‬أسرق المال الموجود انتقاما منه !!‬
‫وبضغطع على أعصعابه التعي صعارت قلقعة‬
‫ٍ‬ ‫كادت عينعا الرجعل تنفجران‪،‬‬
‫متوترة قال متابعا ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تحب في نفسك‪ ،‬وماذا تكره ؟‬

‫‪- 13 -‬‬
‫‪ -‬أحب قلبي الطيب ولساني‪ ،‬وأكره أن أكون جبانا !!‬
‫‪ -‬ماذا تحب في أبيك‪ ،‬وماذا تكره ؟ وماذا تحب في أمك وماذا تكره ؟‬
‫‪ -‬أ حب ف يه شطار ته في ال سيطرة على "الزبو نة" وأكره اتهاما ته الباطلة‬
‫وأحب في أمي صمتها‪ ،‬وأكره تعظيمها للمور!‬
‫‪ -‬إذا تزوجت كم ولدا تفكر أن تنجب؟‬
‫‪ -‬حوالي العشرين !‬
‫بدهشة ٍ واضحة النبرة سألني ‪:‬‬
‫‪ -‬لمَ؟‬
‫‪ -‬كي أكون صاحب عشيرة !‬
‫‪ -‬ل َم ؟‬
‫‪ -‬ليدافعوا عني في ص ّد المشاكل !!‬
‫‪ -‬أتحب المشاكل ؟‬
‫‪......... ..........-‬‬
‫‪ -‬إذا تمرد أحد أولدك عليك‪ ،‬ما تفعل ؟‬
‫‪ -‬أطرده !!‬
‫‪ -‬هل تحب أخوتك ؟‬
‫‪ -‬فقط أختي فريدة !!‬
‫‪ -‬لماذا؟‬
‫‪..... ..........-‬‬
‫‪ -‬هل تخاف من العمل ؟‬
‫‪-‬ل!‬
‫‪ -‬هل حلمت برئاسة مركز ما ؟‬

‫‪- 14 -‬‬
‫‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬مثل ماذا ؟‬
‫‪ -‬رئيس عصابة لسرقة الكروم‪ ،‬كما حلمت بشراء مسدس!!‬
‫شعرت معن تحديقعه فعي وجهعي كأنعه أراد صعفعي على وقاحتعي فعي هذه‬
‫الجرأة المبالغ بها‪ ،‬لكنها حقيقة مشاعري وطموحاتي‪ ،‬هو يسأل وأنا أجيب من‬
‫خلل معمل أفكاري الملتهب‪ ،‬ولنه وجدني كنزا ثميناً تابع السئلة ‪:‬‬
‫‪ -‬هل تحب العلم ؟ ولمَ لمْ تتابع تعليمك ؟‬
‫‪ -‬أ حب العلم وك نت أر غب في أن أكون ضابطا بالج يش يؤدي الع سكري‬
‫التحيعة لي باحترام ٍ‪ ،‬ووالدي حرمنعي معن المدرسعة لنعي رسعبت فعي الول‬
‫العدادي !!‬
‫‪ -‬هل تشعر بالنقص من شيء ما ؟‬
‫‪ -‬أشعر بعدم وجود الرعاية والحنان في حياتي منذُ خلقت!!‬
‫‪ -‬ل َم ؟‬
‫‪ -‬ل أعرف !!‬
‫‪ -‬أمنياتك ؟‬
‫‪ -‬أن أكون أقوى مخلوق ٍ على وجه الرض !!‬
‫‪ -‬على من تحقد ؟‬
‫‪ -‬على نفسي !!‬
‫‪ -‬لماذا؟‬
‫‪ -‬لنني منحوس !!‬
‫‪ -‬أي الزهور تحب ؟‬
‫‪ -‬الياسمين !‬

‫‪- 15 -‬‬
‫‪ -‬أي اللوان تحب ؟‬
‫‪ -‬الحمر !‬
‫‪ -‬لماذا ؟‬
‫‪ -‬لن أصدقائي يحبون اللون الحمر وينتسبون إلى نادي التحاد !‬
‫‪ -‬هل تفكر في أن تكون لعباً مشهورا ؟‬
‫‪ -‬ل‪ ،‬ل أفكر !!‬
‫‪ -‬هل تقبل النصيحة وتعمل بها ؟‬
‫‪ -‬ل !!!‬
‫وجعلتعه يطوي الدفتعر ويهعز رأسعه مثعل مصعاب بداء الرّعاش لعود إلى‬
‫حيث كانوا يجلسون أمام الشيخ الذي حضر ليعلمنا كيف نتلو القرآن‪.‬‬
‫*************‬
‫الن أنا في السجن المركزي‪ ،‬جاءنا صوت المنادي‪:‬‬
‫إ سماعيل‪ ،‬عدنان‪ ،‬غالب‪ ،‬م صطفى‪ ،‬وضعوا ال صفاد المعدن ية في أيدي نا‪،‬‬
‫صعدنا إلى دا خل سيارة شاح نة مغل قة‪ ،‬د خل مع نا أرب عة رجال من الشر طة‪،‬‬
‫وأُغلق الباب علينا‪ ،‬لم أفكر بالهرب كما يحصل في الفلم العربية والجنبية‪،‬‬
‫شعرت بالغثيان معن رعدة الخوف‪ ،‬انتابعت مشاعري الواهنعة كآبعة لصعيقة ل‬
‫ف الدعوى‬ ‫تعرف البت سام‪ ،‬وك يف تعر فه والقا ضي لن ي سمعني‪،‬ل نه سيقرأ مل ّ‬
‫أولً‪ ،‬ولنه ل يحكم على الناس من خلل مشاعره‪.‬‬
‫م ساء البار حة ك نت قويا‪ ،‬ا ستحضرت في ذاكر تي دفا عي عن نف سي أمام‬
‫سيادته والحاضرين في قاعة المحكمة‪:‬‬
‫"‪ -‬نعم يا سيدي‪ ،‬أنا المتهم‪ .‬ولكني لست زعيم عصبة كما ورد في الملف!‬
‫أنا الطريد المطرود‪ ،‬أنا الذي حمل وزر أب كان صاحب عقدة!‬
‫اشتغلت معه في م حل ٍ كان يملكه م نذ الطفولة ؛ علّم ني فن المساومة مع‬
‫النساء بطريقته وحنكته لكتشف بعد فوات الوان سبب انزلقي داخل وا ٍد من‬

‫‪- 16 -‬‬
‫السقوط أملس‪.‬‬
‫وادٍ لم أسعتطع الخروج منعه ول التحرر معن سعياج أشواكعه التعي أدمعت‬
‫مراحل حياتي كلها‪.‬‬
‫كان فيه نوع من الدمان‪ ،‬ونوع من اللعنة‪ ،‬ونوع آخر من ضعف لإرادي‬
‫فقد قدرته على التفكير لنه وقع تحت سيطرة ضعفٍ من نوع ٍ مهيمن ٍ !‬
‫كنتع أنصعرف معن مدرسعتي و"صعدريتي" على جسعدي ومحفظتعي فوق‬
‫ُ‬
‫ظهري أمسك بها من خلل حزامين يدخلن تحت إبطي‪.‬‬
‫كان الم حل صغيرا غرب جا مع شبارق في حي الميدان وكان ي جب عل يّ‬
‫فور ان صرافي من المدر سة أن أ سرع ن حو الم حل كي أغ سل أر ضه ‪ ،‬وأم سح‬
‫الغبار عن الرفوف‪ ،‬وأبيع الزبائن‪ ،‬أفرد وأطوي الملبس القطنية ذات المقاسات‬
‫المختلفة‪ ،‬وأعيد ترتيبها من جديد مثل رجل حاذق ماهر!!‬
‫حيعن صعمتت دواليعب السعيارة عرفعت أنّا قعد وصعلنا‪ ،‬طالبونعا بالنزول‬
‫والطواق الحديدية تطوق معاصم الروح‪.‬‬
‫ش ترا قص أمام نظرا تي التائ هة‪ ،‬أغم ضت عين يّ فتحته ما‪ ،‬زحام هائل‬
‫غب ٌ‬
‫يمل الردهات صخبا وضجيجا‪ ،‬ألف قلبي الذليل وأدخل القفص حين دخلنا قاعة‬
‫المحكمة‪.‬‬
‫بعد ساعة من النتظار اللزج صرخ الحاجب ‪:‬‬
‫‪ -‬الدعوى ر قم ( ‪ ) 15‬؛ ودون أن ين ظر القا ضي في وجوه نا و من دون‬
‫أن يقول شيئا ليرحم ذلنا‪ ،‬وبعد أن قلب الوراق قال ‪:‬‬
‫‪ -‬تؤجل الدعوى مدة شهرين اعتبارا من تاريخه‪.‬‬
‫حينئذٍ أحسست أني أغوص داخل خندق ضعفي وانهزامي‪ ،‬خافض الرأس‬
‫كسير النفس مناديا آهات الوجع المتغلغلة في أعماق الروح أن تلزم الصمت !‪.‬‬
‫حين عدت إلى الزنزانة‪ ،‬وجدت أن حياتي في داخلها ل تختلف عن حياتي‬
‫في منزلنا‪ .‬فأنا لم أعش طفولة حقيقية‪ ،‬رأيت نفسي مع أم ٍ ممسوسةٍ بالتنظيف‪،‬‬
‫غارقة في شؤونها ل تهتم بأطفالها ؛ ووالد منهمك في حساباته بين الدخالت‬

‫‪- 17 -‬‬
‫والخراجات‪ ،‬ما ينفك يوهمنا أن خسائره متزامنة بسببنا‪.‬‬
‫انبثقعت آلمعي تحكعي ععن قصعة حياتعي المحددة بالعذاب المؤلم الجارح‪،‬‬
‫العذاب الذي جعلنعي أتوجعس معن الخوف‪ ،‬والخوف كان السعبب الرئيسعي فعي‬
‫ممارستي للكذب وال غش والخداع‪ ،‬تمركزت عتمة ُظل مه من صفعة أولى لكذ بة‬
‫أولى وق عت في ها م ثل طع نة غادرة‪ ،‬ما غادرت عقلي لن ها بق يت محفورة على‬
‫أفنان الروح المتكسرة تؤلمني بمرار إفرازات عصارات العلقم‪ ،‬والتي لم أستطع‬
‫دفنها وما استطعت !!‪.‬‬
‫كان داه ية‪ ،‬متمنطقا بو سامة ل تقدر على كشف خفاياه‪ ،‬أوقع ني في صيده‬
‫ل‪:‬‬‫وهو يبتسم قائ ً‬
‫‪ -‬سأشتري بضاعة بالجملة‪.‬‬
‫ولني تواق إلى إرضاء أبي‪ ،‬فقد غردت روحي التي فرحت مثل تغريد‬
‫البل بل في ف سحة من طبي عة غنّاء " سيرضى أ بي ع ني و سيفرح جي به "‪ .‬و من‬
‫شفتيع كمعا سعطوع‬
‫ّ‬ ‫أجعل كسعب هذه المودة‪ ،‬قلت بل ترددٍ والبراءة تسعطع معن‬
‫الشمس في فصل الربيع ‪:‬‬
‫‪ -‬تحت أمرك أستاذ‪.‬‬
‫اعترت ني الغب طة وأ نا أطوي له البضا عة بشكل أن يق ٍ ومرت بٍ رغم صغر‬
‫سني‪ ،‬ول ني صغير ال سن‪ ،‬ف قد أو صد أبواب عقلي الط فل عن التفك ير بعوا قب‬
‫المور‪ ،‬ح ين أقنع ني بهدوئه الل مشكوك به أن أراف قه إلى ح يث ي سكن فالب يت‬
‫قريب من المحل وفي نهاية الشارع !‪.‬‬
‫ما فعل ته كان بالن سبة لي حدثا رائعا‪ ،‬فر صة الع مر الذهب ية ف قد أردت من‬
‫خلل ما فعلت أن أثبت لبي أني رجل وسيد المحل في غيبته‪ ،‬وأستطيع تحمل‬
‫المسؤولية‪ ،‬وملمح الرجل وأناقته تنفي الشكوك فابتسامته دائمة الوسامة‪ ،‬لهذا‬
‫لم أرهبه وأنا أمشي إلى جانبه !‪.‬‬
‫أمام باب العمارة وقفعت طويلً‪ ،‬تحولت الدقائق إلى سعاعات معن النتظار‬
‫الصعب‪ ،‬وحين فقدت قدرتي على الصبر في انتظاره خاوي اليدين سارعت في‬
‫الصعود إلى حيث أشار مؤكدا لي أنه لن يتأخر‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫ل من ح مم بركان ية انهار فوق رأ سي وطفرت الدموع من عين يّ رغما‬ ‫جب ٌ‬
‫ع ني من صهيل دقات قل بي البا كي بغزارةٍ‪ ،‬أ ين هو؟ ك يف اخت فى ؟ أ ية طا مة‬
‫آثمة وقعت في جريرتها ؟‪.‬‬
‫على منظري الحزيعن أبدى أصعحاب الدكاكيعن المجاورة لمدخعل العمارة‬
‫أسفهم‪ ،‬فاقترب أحدهم مني وسألني ‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك يا عم ؟ لمَ البكاء ؟‬
‫أجب ته ونار الخي بة من خ سارة لم ت كن في ميزان الح ساب تز يد من فت يل‬
‫اشتغال الدموع في عينيّ وأنا أشهق ‪:‬‬
‫‪ -‬سرق البضاعة!‬
‫‪ -‬من هو ؟‬
‫‪ -‬ل أعرف! !‪.‬‬
‫الخوف يجعل ني أروي للغر يب صاحب الدكان ما ح صل م عي ول أح كي‬
‫لبي‪ ،‬أخبرته بالقصة من دخول الرجل إلى المحل حتى وقوفي عند مدخل باب‬
‫العمارة‪ ،‬حينذاك أم سك الر جل بيدي و صعد م عي إلى الطا بق الرا بع‪ ،‬دق الباب‬
‫بتكور أصعابعه‪ ،‬كرر الطرقات بقوة‪ ،‬فتحعت المرأة التعي وبختنعي قبعل قليعل ٍ‪،‬‬
‫وبانزعاج ٍ وا ضح ال نبرة‪ ،‬قذ فت بب ضع كلمات ساخطة كأن ها تقذف بعظام ٍ من‬
‫ف مذبوح ٍ إلى كلبٍ جريح‪:‬‬
‫خرو ٍ‬
‫‪ -‬هذا الب يت أ صحابه في أمري كا م نذ ع شر سنوات‪ ،‬ألن ننت هي من هذا‬
‫السؤال ؟ !‪ .‬وأغلقت الباب بعنف ٍ‪.‬‬
‫تفحص الرجل الدرج‪ ،‬نظر نحو السطح‪ ،‬فهم ما حصل ودون أن أسمع ما‬
‫قاله ب عد أن نزل نا‪ ،‬غادرت الحارة‪ ،‬وأ نا أم سح ب كم قمي صي مخاط أن في‪ ،‬وث مة‬
‫خوفٌ فظيعٌ ارتسم في عقلي المرتبك وأنا أتخيله يعاقبني!!‪.‬‬
‫ك نت محقا في خو في ف هو لن ي سمعني‪ ،‬و كي أتخلص م ما وق عت ف يه ف قد‬
‫قبلت أن أقايض عقلي المرتبك على الخداع قبل وصوله على حين غرة والفزع‬
‫يعتصر خلصة قلبي‪.‬‬

‫‪- 19 -‬‬
‫" ‪ -‬ماذا لو ح ضر فجأة وشاهد ني وأ نا أ ضع علب الكرتون الفار غة م حل‬
‫البضاعة المسروقة‪ ،‬ما سيفعل بي ؟ أي عقاب ينتظرني؟ "‪.‬‬
‫كان لتأخره رح مة تنزلت من ال سماء كي تنقذ ني ووج هي البائس المع فر‬
‫بصعفرة الفزع الكامنعة داخعل أوتار روحعي الممزقعة كانعت تتمنعى الموت كلمعا‬
‫تذكرت ما حصل معي وما سيفعل بي !‪.‬‬
‫ح ين د خل الم حل‪ ،‬ارت جت الرض ت حت قدم يّ ال صغيرتين وح ين رآ ني‬
‫على هذا الش كل ا ستفسر عن أ سباب شحو بي فأجب ته مرتعشا وأ نا أج تر الكلم‬
‫بتوعك الخوف‪:‬‬
‫‪ -‬بطني تؤلمني‪ ،‬لم أبعْ شيئا‪ ،‬أيمكنني الذهاب ؟‬
‫وكأني سمعته وأنا أحمل محفظتي و"صدريتي" مثل الحمامة في وقت دنو‬
‫أجلها يقول ‪:‬‬
‫‪ -‬اذهعب معن وجهعي سعأغلق المحعل‪ ،‬سعأعمل بسعطة لبيعع "الخيار" افتحعا‬
‫مشفى‪ ،‬هي الخرى متعللة‪ ،‬ال يلعن الساعة التي جمعتني وإياكم!‬
‫ركضعت مذعورا وكلماتعه تطاردنعي‪ ،‬تلسععني‪ ،‬تخزنعي مثعل شوك "افتحعا‬
‫مشفى‪ ،‬ال يلعن ال !"‬
‫دخلت المنزل لهثا‪ ،‬وجدت الضباب معششا فععي أرجاء المنزل فعربععد‬
‫الظلم في داخلي‪ ،‬أ مي وجد تي تتشاجران وقشعريرة باردة ت سري في عرو قي‬
‫فأرغب بالتقيؤ!‬
‫تحرد جدتي وكعادة أمي في وساوسها من النظافة تندب حظها من نكد ما‬
‫تفعله جدتي‪ ،‬لتعود من جديد تمارس جنونها في مسك الليفة والصابون من دون‬
‫أن تلتفت نحوي أو تسألني ‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك؟ ل َم أنت أصفر كالزعفران ؟‪.‬‬
‫فعي ذلك اليوم تكورت على الريكعة مرتجفا معن شدة الخوف‪ ،‬وأنعا أسعأل‬
‫نفسي‪ " :‬ماذا لو اكتشف أن العلب فارغة ؟"‪.‬‬
‫فأتخيله قادما نحوي والخرطوم في يده‪ ،‬ويد العم أبي حسن تربت كتفي ‪:‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫‪ -‬هيا‪ ،‬انهض‪ ،‬وقت الطعام !‪.‬‬

‫‪- 21 -‬‬
‫‪-2 -‬‬

‫كان السجين أبو حسن يدعوني إلى الطعام‪ ،‬وكنت أناديه بعمي تلك الكلمة‬
‫ال تي حُر مت من ها وعذبت ني كثيرا وأ نا أف تش عن أ سباب ضياع ها في أ سرتنا‪،‬‬
‫واليوم الرجعل السعجين يطلب منعي أن أشاركعه الطعام الذي أحضرتعه زوجتعه‪،‬‬
‫فأذ كر أ ني في منزل نا ك نت أت سلل إلى المط بخ لتناول م ما يروق لي أكله و هو‬
‫داخل الثلجة‪،‬لننا كنا نسمع على مصاريف الطبيخ في بيتنا الشتيمة تلو الشتيمة‬
‫من وجه طافح بالعبوس‪ ،‬وجدتي بعد أن تمل معدتها‪ ،‬تسترخي على "الديوانة "‪،‬‬
‫تم ّد رجليها وتتابع تحريضها من ناموس المحبة قائلة ‪:‬‬

‫‪ -‬ارحموه‪ ،‬ال يدبره‪.‬‬

‫كانت تشبه الحيزبون الساحرة‪ ،‬وكانت ل تتوانى عن التدخل في كلّ كبيرة‬


‫و صغيرة كأن ها سيدة سيدات ع صرها‪ ،‬وح ين تواتي ها اللح ظة المشتهاة‪ ،‬اللح ظة‬
‫الملئ مة‪ ،‬والتي تفك إزار التلحم الوجداني بين شريكين يفصل ما بينهما التودد‬
‫والتصال الروحي تندد بتشدق‪:‬‬

‫‪ -‬طلقها‪ ،‬يكفيك القهر والمقت‪ ،‬وأنا أزوجك ست "الستات"! ما الذي يجعلك‬


‫تصعبر على شوك الصعبّار‪ ،‬الولد لن يصعيبهم مكروه‪ ،‬فكعر فعي نفسعك وفعي‬
‫شبابك الضائع !‪.‬‬

‫آهٍ يا جدة‪ ،‬أقولها بألم ٍ‪ ،‬ما أنا الرب كي أحاسبك‪ ،‬ول أنا القاضي المسؤول‬
‫عن جنايتك في التفريق بين والد يّ كي أحكم عليك أو على أمي التي لم تتحمل‬

‫‪- 22 -‬‬
‫غرورك وسيطرتك‪.‬‬

‫ابتعد تْ ع نك صامتة ليرت فع الشرخ بينك ما‪ ،‬وح ين تر كك تم سكين بمقود‬


‫الطوفان غمرنا الحزن‪ ،‬وأن تِ تثرثرين بصوتك المتلون بما يفرغ شحنات حقدك‬
‫ت تكرهين أمي ؟ لماذا ؟ !‪.‬‬‫وكراهيتك‪ ،‬لماذا كن ِ‬

‫كنت تخترعين الحكايات التي تسلب عقول الصغار‪ ،‬وتشتت أفكار الكبار‪،‬‬
‫وكنت تسهبين في السرد لدرجة تفوق أمهر " الحكواتية "‪ ،‬كانت هوايتك‪ ،‬وسر‬
‫نجاح ثرثرتك التي ل ترحم! كنت تشمين رائحة الشجار فتنتعشين وتنتظرين أن‬
‫يصرخ والدي خلف أمي الراحلة إلى بيت أهلها‪:‬‬

‫‪ " -‬درب الصد ما رد" !‬

‫ما كنت تنسجينه ل يشبه خيوط العنكبوت حتى! أرسمك في كل يوم ٍ‪ ،‬بل‬
‫في كل لحظةٍ بملي ين ال صور‪ ،‬أمزق ها‪ ،‬أع يد ر سمك من جديدٍ فل تخرج غ ير‬
‫صعورة واحدة ؛ امرأة معن نوع ٍ ل تسعتحق أن نحترمهعا أو نطلب لشيخوختهعا‬
‫الرحمة!!‪.‬‬

‫أنعا نزقعٌ‪ ،‬أعصعابي متوترة‪ ،‬لنعي أصعبحت أتحدث عنعك بهذه الصعورة‬
‫القبي حة‪ ،‬لكن ها الحقي قة‪ ،‬وال سر المدفون في صدر المغلوب على دنياه ي جب أن‬
‫ل الذين يؤمنون بعالم الطفولة كي يحاسبوك أما قيل ‪:‬‬
‫يقرأ عالمه ك ّ‬

‫‪ -‬ما أغلى من الولد إل ولد الولد‪.‬‬

‫قتلت الفرح والأمان فعي طفولتعي‪ ،‬والشريعك والدي‪ ،‬وهعل يمكنعه أل يكون‬
‫مواليا ل صلفك و سيطرتك عل يه‪ ،‬و قد ترك ته ب ين يد يك وحيدا‪ ،‬بعيدا عن إخو ته‬
‫وأخواته‪ ،‬بعيدا عن جده وجدته‪ ،‬بعيدا عنهم جميعا‪ ،‬تتشاجرين وتخرجين!‪ ،‬وهو‬
‫داخل أحشائك لم يول ْد بعد! وكنتِ ل تعرفين إن كان المولود ذكرا أو أنثى !!‬

‫أيعقل أن يكون الذي حصل معك من سطوة الجهل؟ أم من انشطار طبيعتك‬


‫على الرضوخ أمام الرجل‪ ،‬أو أي كائن كان ؟ أم من تلك التي انتقلت إلينا كداء‬
‫وراثي ل يمكن علجه‪ ،‬عداوة "الكنة والحماة"؟‪.‬‬

‫‪- 23 -‬‬
‫ت تحرقين قلوبنا وأنتِ تسردين القصة‪ ،‬قصة طلقك من زوجك‪ ،‬كنت ِ‬ ‫كن ِ‬
‫تقولين أنك من اليام الولى‪ ،‬بل من السابيع الولى اكتشفت بخله وشح نفسه‬
‫والتي كانت السبب الرئيس في انهزامك إلى بيت أخيك تطالبين بالطلق؟!‪.‬‬

‫ما أسهل هذه الكلمة على نفسك وما أقوى جبروت المرأة التي اغتالت فرح‬
‫نف سها أولاً‪ ،‬و من ثم ألحق ته بنك ِد الع يش مع زو جة ابن ها ب عد أن أرضع ته من‬
‫وخيم وهمها بالسيطرة عليه من دون الناس جميعا ما أرضعته!‪.‬‬

‫أبي ضحية الرحم "المعفرت" وأنا ضحية وجودي وسط شرخهم‪ ،‬وإخوتي‪،‬‬
‫وأطفال كثيرون تدفعون بنعا نحعو ريعح الوقيععة الظالمعة‪ ،‬لنعيعش فعي حضيعض‬
‫الشوارع والطرقات بل أخلق وبل رادع يمنعع عنعا اليدي غيعر المينعة التعي‬
‫ل كنا في دار الحداث؟ من سأل‬ ‫تصيدنا بشباكها لتمضي بنا على هواها‪ ،‬كم طف ً‬
‫عنه أهله؟ من خرج بعدي من الدار ولم يعد إليها؟؟!‪.‬‬

‫صعوت الصعديق والشفيعع لي عنعد زمرة الغاضعبين الحاقديعن يُوقظنعي‬


‫ويُنبهني من شرودي قائلً‪:‬‬

‫‪ -‬ألن ننتهي من قصة الشرود؟ هيا‪ ،‬بسمل وم ّد يدك!‪.‬‬

‫كان صحن " الك بة الن ية " مر صوفا ر صفا دقيقا بطري قة فن ية تث ير شه ية‬
‫المعدة نحو الطعام‪ ،‬وحين أمسكت بواحدةٍ تساءلت‪:‬‬

‫‪ -‬هل وضعت لها في قطعة "الكبة النية" تعويذة على الموافقة والقبول؟‬

‫لم ت كن أ مي تدرك مدى قدر تي على التخز ين‪ ،‬فذاكر تي شديدة الح ساسية‬
‫ولقطة من نوع ماهر‪ ،‬كانت تحكي لجارتنا أم عبد ال عن قصة زواجها بأبي‬
‫كلما أحست بالضيق منه وبالعجز على مواجهته‪،‬وأنا بدوري وبحكم وجودي في‬
‫المنزل كنت أجلس إلى جوارهما ألتقط كلّ حرف من حروف القصة!!‬

‫حين التقت جدتي بأمي في حمام السوق‪ ،‬وحين أعجبتها‪ ،‬تفحصت جسمها‬
‫البلوري بقوام ها الرش يق‪ ،‬وعيني ها الخضراو ين‪ ،‬وح ين أبدت إعجابا في إطراء‬
‫سحر جدتي لمي قامت بدورها على أكمل وجهٍ بعد أن هيأت الجو المناسب في‬
‫مكاشفة جدي عن موضوع الخطبة والزواج‪.‬‬

‫‪- 24 -‬‬
‫أسعئلتي الحيرى وجدت عنهعا كلّ الجوبعة يوم كعبرت ووقفعت عنعد دقائق‬
‫الشياء‪ ...‬أخزن‪ ...‬أحلل‪ ...‬أركعب‪ ...‬لسعانها الذي يقطعر مثعل شهعد العسعل‬
‫وحنكتهعا المتميزة فعي إقناع الحاضريعن أعطيانعي الجواب الول‪ ،‬أمعا الجواب‬
‫الثاني وهو الهم فهو أنهم كانوا أمام قدراتها الشخصية مسلوبين !‪.‬‬

‫جدي عنيف وقاس‪ ،‬كلمته نافذة‪ ،‬وعلى الخص عندما يطرق الباب خاطب‬
‫له صفات أبي الفريدة !‪.‬‬

‫كان يعتقعد أن زواج البنات يعجعل بسعترهن ليخلي نفسعه معن المسعؤولية‪،‬‬
‫والمصيبة أنهم حين تعرفوا على أبي أجمع الكل في مقولة تعزز وضعه أكثر ‪:‬‬

‫‪ -‬شاب وحيد لمه‪" ،‬ل وراءه ول قدامه" لو كانت أمه نار ما حرقت وهو‬
‫رجل يحب العمل‪ ،‬وهذا طلبنا !‪.‬‬

‫في هذه الحالت من الضطرابات الجتماع ية علق أ بي في ر حم جد تي‪،‬‬


‫وعلقت أنا في رحم أمي!‪.‬‬

‫ل من أن ُتز هر الزغار يد بأ صدائها الرنا نة ال صادحة يوم ولد تي ب عد‬


‫وبد ً‬
‫غريبع ومدهعش ٍ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وفاة ذكريعن وأنثعى‪ ،‬تحولت الغرفعة إلى "تابوت" معن نوع ٍ‬
‫فالضي فة زهر ية " خا نم " صديقة جد تي ت صرفت بل مشورة من صاحبة الب يت‬
‫أمي وقتما نهضت وغيرت من مكان نومي ونهرت خالتي أم جميل التي كانت‬
‫ع يجعلنعي متماسعكا‪ ،‬ليبدأ شجار أم ٍ نسعيت آلم‬ ‫تحاول أن تلف جسعدي بقماط ٍ‬
‫المخاض ولم تنس ما فعلته صديقة جدتي‪.‬‬

‫الراوي أمي والمستمع الحقيقي أنا‪ ،‬والحديث كان لم عبد ال وليس معي‪،‬‬
‫حينذاك كان عمري خمسعة أعوام‪ ،‬خمعس سعنوات كان عمري‪ ،‬والكلم الذي‬
‫حفظته يفوق سنين عمري بربع قرن على القل!!‬

‫في ظل هذا الجو المتلبد المشحون بالمشاكل والذي كهربته آدمية ل صلة‬
‫قرابة تربطنا بها سوى هذه الصحبة مع جدتي كنت أرضع من ثدي أمي التوتر‬
‫والقلق وربما الحقد كما رضع أبي من ثدي أمه !!‬

‫وكان عليها بعد هذه المشكلة أن تنهض من فراش النفاس مرغمة مكرهة‬

‫‪- 25 -‬‬
‫إلى بيعت جدتعي تطلب منهعا السعماح والغفران بععد أن تقدم ولء الطاععة‬
‫والحترام!!‪.‬‬

‫الدار القابععة فعي زقاق الطويعل‪ ،‬كانعت واسععة‪ ،‬فيهعا ثلث غرف ذات‬
‫"حوش" كبيرة تح يط ب ها من كلّ الطراف" تنكات الزري عة" ال تي أكل ها ال صدأ‪،‬‬
‫وصعديقات جدتعي كعن ل يغادرن بيتهعا إل وقعت إغلق مواخيعر الليعل‪ ،‬وإن‬
‫اضطرت إحدا هن إلى النوم فل ما نع يم نع‪ ،‬ول عائق يع يق بقاء ها‪ ،‬لن ها على‬
‫شاكلة جدتعي إمعا مطلقعة أو أرملة! وعلى والدي أن يدفعع المصعاريف اللزمعة‬
‫وغيعر اللزمعة‪ ،‬إضافعة إلى فواتيعر الماء والكهرباء معن دون سعؤال! وإذا معا‬
‫حصعل نوع معن التلميعح إلى ضرورة القتصعاد معا تنفعك تثور فيسعكت على‬
‫مضض ٍ !!‪.‬‬

‫مع ن مو هذه الحداث ابتدأت أن مو‪ ،‬لدرك ب عض الشياء المثيرة الها مة‪،‬‬
‫والتي ما زالت عالقة في الذاكرة !‪.‬‬

‫ف على الباب‪،‬‬
‫ك نت يوم ها أل عب بك يس النايلون ح ين سمعنا الطرق بعن ٍ‬
‫وبقسوة حادة كادت الجدران تساقط !‪.‬‬

‫في مكاني تسمرت وحين نهضت أمي سارعتُ إلى طرف ثوبها وأمسكت‬
‫ب ووجل ٍ بعد أن حملت أختي الرضيعة وسألت ‪:‬‬
‫به‪ ،‬بينما تقدمت هي بارتيا ٍ‬

‫‪ -‬منْ‪ ...‬منْ يطرق الباب ؟‬

‫فت حت أ مي الباب‪ ،‬عقدت ل ساني الده شة ح ين رأيت ها تقذف بنف سها على‬
‫الرض مثعل نعجعة أصعيبت حنجرتهعا وهعي تشعد شععر رأسعها بععد أن رمعت‬
‫بالحجاب على الرض وراحت تضرب وجهها براحتي كفيها كأن كارثة عظيمة‬
‫حلت!‬

‫هذا القتحام المر عب أج فل أ مي ك ما أخاف ني‪ ،‬و في هذه اللح ظة المرع بة‬
‫ومن تلك الصدمة المفاجئة هربت الدماء البيضاء من صدرها مما اضطر والدي‬
‫إلى إ صابته بلع نة تنضاف إلى لعنا ته في الم صروف الجد يد من شراء حل يب "‬
‫نيدو"‪.‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫هذه الحادثة تركت الثر المحزن الفظيع في مشاعر أمي نحو جدتي حين‬
‫عرفت من توفى! أيعقل ما ذكرته أمي لجارتها ؟! أل تذهبين لوداع أمك وهي‬
‫فعي كفنهعا ؟! أي حقعد ذاك الذي يسعتعر أوّاره فعي قلبعك لتزاولينعه فعي أحلك‬
‫الظروف قتامة؟‪.‬‬

‫ما تت أ مك ‪ -‬جدة أ بي ‪ -‬و في قلب ها ح سرة ألي مة من تمردك وجبرو تك‬


‫ولؤمك‪.‬‬

‫ل أعتقعد بعل أجزم بععد هذا الحدث أن الكره قعد تفاقعم وأن البغضاء قعد‬
‫ازدادت‪ ،‬لينشق الطرفان على بعضهما من حالة اللمبالة التي كانت تقابل بها‬
‫أمعي جدتعي لتتسعع مسعاحة الهوة بكعل ّ مفاصعلها السعلبية نحعو التأفعف والمقعت‬
‫وزفرات الشكوى!!‪.‬‬

‫داخعل هذه الجدران ووراء القضبان الحديديعة تسعتيقظ آلمعي الشاعرة‬


‫بأحزاني حين يسأل أبو حسن ‪:‬‬

‫‪ -‬لماذا ل تأكل الخبز؟‪.‬‬

‫سؤال يسقط في روحي مثل بركان تفجره هزة من ذكرى متشحة بالسواد‪،‬‬
‫وبوجوم الشارد ل أجيبه‪ ،‬فتداعيات الماضي بكل حرائقها تثير في نفسي تقززا‬
‫ساخطا‪ ،‬فأؤ ثر ال صمت على الكلم‪ ،‬وأن سحب إلى سريري‪ ،‬وذاك اليوم العالق‬
‫في ذاكرة الطفولة ينبش الماضي‪ ،‬يعيد الصورة الدامعة‪ ،‬يفتح سطور الحكاية !‪.‬‬

‫كنت المسؤول عن شراء الخبز قبل الذهاب إلى المدرسة‪ ،‬وفي ذلك اليوم‬
‫المشؤوم كان الخ بز ساخنا‪ ،‬فمدد ته على الر صيف‪ ،‬وح تى ل أتأ خر عن دوام‬
‫المدرسة‪ ،‬جمعت الرغفة على عجل ٍ وأسرعت إلى البيت‪ ،‬أسرعت إلى البيت‬
‫لجد أني ارتكبت جريمة بشعة‪ ،‬وال العظيم نسيت‪ ،‬خانتني ذاكرتي‪ ،‬نعم نسيت‬
‫بقيعة "الفراطعة" على طرف الرصعيف‪ ،‬فماذا كان عقابعي ؟ كان تأنيبا مقذعا‬
‫وضربا مبرحا‪ ،‬وصدى كلماته الجارحة التي حفرت أخاديد سكنها في أذني ل‬
‫يغادر سمعي‪:‬‬

‫‪ -‬ول‪ ...‬ك‪ ...‬حيوان‪ ...‬ابن الكلب‪ ...‬أين البقية؟ هل خبأتها؟‪.‬‬

‫‪- 27 -‬‬
‫وفعلً خبأت رأسي من بين صفعات يديه مثل يتيم جرده عدو مستهتر !‪.‬‬

‫وقعد أوصعى ال باليتيعم‪ ،‬أمعا كان رسعول البشريعة يتيما فرعاه جده عبعد‬
‫المطلب‪ ،‬وجدي طل يق جد تي ل وجود لحنا نه في حيات نا‪ ،‬وجد تي ل تط يق أ مي‬
‫تنفر منها وتتذمر وقتما تشاهدها قد أبدت ارتياحا‪ ،‬فأين اليتم في كل هذا !!‪.‬‬

‫أهو في أمي الغارقة في مطبخها تولي الطناجر والصحون من اهتمامها‬


‫أكثر مما يجب أن تهتم بأولدها؟‪.‬‬

‫أمْ هو في أبي صريع أرباحه التي يوهمنا أنها خسائر بسببنا ؟!‬

‫أ ْم هو في هذه المشاحنات المتمو سقة على قرع طبول تقد يم الضح ية إلى‬
‫وحش الغابة في رقصة من موت المل فقصة الحرد عادة يجب أن نتلءم مع‬
‫طقوسها الدميمة حين تحمل واحدة من الثنتين "بقجة " حاجاتها وتمضي!!؟‪.‬‬

‫في ذلك اليوم الملعون سألني رفيقي صبحي‪:‬‬

‫‪ -‬ما بك؟‪.‬‬

‫ابتلعت غصة الدمعة التي حاولت حجزها في عيني وبانكسار ذليل قلت‪:‬‬

‫‪ -‬بابا طرد أمي!!؟‬

‫انهمرت دموععي أمامعه رغما ععن إرادتعي فأخرج معن جيعب الصعدرية‬
‫منديله الورقعي "المجعلك" والذي بدا لي أنعه غيعر نظيعف وقدمعه لي كعي أمسعح‬
‫ف مجروح ٍ حدث ته عن ق صة الخ بز‬
‫ت ضعي ٍ‬ ‫دمو عي ال تي خا نت قو تي وب صو ٍ‬
‫والمبلغ الذي نسيته على الرصيف وما سبب لي هذا السهو !‬

‫ولن أمي حاولت أن تدافع عني لترد يده القاسية ضربها و طردها !!‪.‬‬

‫ت عمي قٌ‪ ،‬وبعد الصمت تأبط‬


‫اختنق الجواب في حلق الصبي فسادنا صم ٌ‬
‫بعضنا ذراع بعض‪ ،‬وبدأنا نمشي ببطءٍ كأننا نمشي في جنازة‪.‬‬

‫‪- 28 -‬‬
‫و صلنا الجا مع‪ ،‬كان الو قت ظهرا وكان با به مفتوحا والم صلون يدخلون‬
‫فرادى‪ ،‬وقفنا هنيهة نتأمل دخول المصلين كأننا ُنقر في ذاكرتنا شيئا نعرفه ول‬
‫نمارسه !‪.‬‬

‫عند مفرق "الجابرية" وقفنا ننتظر الشارة الضوئية‪ ،‬وقبل أن تفتح للمشاة‬
‫الضوء الحمر سارعنا في قطع الشارع جريا إلى باب حديقة "ميسلون"‪.‬‬

‫كانت الليرات الخمس ما تزال في جيبي‪ ،‬وحين تلمستها لمعت في ذهني‬


‫فكرة!‪.‬‬

‫‪ -‬تعالَ‪ ...‬نشتري "صياح" ونلعب!‪.‬‬

‫‪ -‬أنا ل أملك نقودا‪.‬‬

‫‪ -‬أنا معي!‪.‬‬

‫‪ -‬ولكنك قلت أنه ثمن الخبز ليوم غد!‬

‫‪ -‬فلقة وما كانت!‬

‫في م ساء ذلك اليوم خم نت أن تكون عقوب تي فل قة كتلك ال تي جعلت أ مي‬


‫تحرد!؛ لم أكعن صعاحب خيال جامعح لتصعور نمطا مخالفا للنمعط الذي تعودت‬
‫عليه!‪.‬‬

‫من كر هت أمي وجعلت ني أكره ا سمها‪ ،‬جل ست تندب حظ ها و حظ ولد ها‪،‬‬


‫م ما أثار ضغين ته نحوي‪ ،‬رب ما كان يحاول ض بط أع صابه أك ثر ل يس من أجلي‬
‫بل من أجل نفسه‪ ،‬وعكته الصحية بدت واضحة الملمح‪...‬كح‪ ...‬كح "آتشوم"‪.‬‬

‫ور غم عطا سه المتوا تر وكح ته الحادة‪ ،‬ف قد أح ضر كر سيا ووض عه في‬


‫الشرفة ثم أمسك بيدي وطالبني بالجلوس عليه‪ ،‬ثم ربطني بواسطة حبل غسيل‬
‫وتركنعي فعي دكنعة الليعل أعارك البرد وصعفير الريعح حتعى أقرسعت البرودة‬
‫أصابعي فبدوت مثل أسير حكم عليه سيد من أسياد الجاهلية لنه ارت ّد عن عبادة‬
‫الصنام!‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫كا نت المدا خن على ال سطوح المجاورة والمقابلة ل سطح بيت نا مع هوائيات‬
‫التلفزة ترمقنعي‪ ،‬أحسعست بهعا بشرا تخاطبنعي ترثعي حالتعي النكراء والدخان‬
‫المتصاعد من فوهات المداخن يتراقص أمام عيني مثل أشباح أطيافها ل تخيفني‬
‫ل نه سرعان ما كان يتبدد في جوف الظلم والغر يب في هذه الليلة ما تراءى‬
‫لي أن الدخان يتحول إلى دموع ٍ مسافرة إلى حيث يبكي القمر فمأساة الطفل قد‬
‫بدأت!‬

‫ت كي تفك وثاقي وهي‬


‫بعد منتصف الليل فتح تْ باب الشرفة جدتي وأقبل ْ‬
‫تدمدم‪:‬‬

‫‪ -‬ال يصلح المر‪ ،‬ما كان لزم تكرر الغلط!‪.‬‬

‫دخلت إلى الصعالون الصعغير وأنعا أرتجعف معن شدة البرد والخوف كان‬
‫نائما‪ ،‬سمعت صوت شخيره‪ ،‬كثيرا ما كان شخيره يعلو‪ ،‬وكثيرا ما أبدت أ مي‬
‫انزعاج ها من صوت شخيره وترك ته بمفرده واند ست بين نا في الفراش‪ ،‬ول كن‬
‫ماذا أصعابني بععد أن دخلت الغرفعة ؟‪ ،‬أنعا أسععل وأعطعس وهذا السععال معع‬
‫العطاس أقعد ني في الفراش بض عة أيام ب عد أن ارتف عت حرار تي وأثرت على‬
‫ل معا أتناوله معن طعام أو ماء‪ ،‬حينئذٍ أخعبرته جدتعي‬
‫معدتعي التعي بدأت تلفعظ ك ّ‬
‫ب سوء صحتي فأخذ ني إلى ال طبيب معن دون أن يقول شيئا‪ ،‬أي ش يء يجعلنعي‬
‫س أ نه أ بي‪ ،‬هو لم ي سأل والذي سأل ع ني رفي قي صبحي‪ ،‬و ما إن فت حت‬ ‫أح ّ‬
‫الباب جد تي ورأ ته في وجه ها ح تى صاحت به م ثل عفر يت خرج من شق‬
‫حائط‪:‬‬

‫‪ -‬اذهب من هنا يا وجه البلء والنحس‪.‬‬

‫رغم عدم تماثلي للشفاء سمعت وقع أقدامه تقعقع على السللم مثل مجنون‬
‫؛ وما إن تماثلت إلى الشفاء‪ ،‬وعدت إلى المدرسة ودخلت الصف‪ ،‬حتى انتعشت‬
‫روحي من كلمات المعلمة‪:‬‬

‫‪ -‬معافى يا غالب‪ ،‬مكانك في المقعد شاغر ل يشغله سواك‪.‬‬

‫ك نت أرى في وجه ها ما أب حث ع نه‪ ،‬د فء غا مر في وج هٍ با سم ٍ ي شع‬

‫‪- 30 -‬‬
‫حيوية وحنانا‪ ،‬أذكر أن صوتها كان ينثال في قلبي الصغير مثل لحن ٍ شجي ٍ‪،‬‬
‫وحين تمسك بأصابعها " الطبشورة " لتكتب على السبورة تغمض عيون ذاكرتي‬
‫عن مشا كل الب يت وق صة الحرد وحكايات الثرثرة ال تي ل تنت هي‪ ،‬وتفتح ها على‬
‫تلقي المعلومات‪ ،‬ولول خوفي من تجريم تلميذ ل يقصد إساءة لقذفت بنفسي بين‬
‫أحضانها باكيا ألتمس بعض حنان افتقده وافتقدته!‪.‬‬

‫ما أجمل هذه الذكرى‪ ،‬وما أجمل أن تبرع في كتابة موضوع تعبير وتجده‬
‫معلقا في مجلة الحائط بعد أن أثنت الدارة على جهدك في التفوق!‬

‫نعم كنت من أفضل التلميذ الذين يتقنون فن التعبير وكانت علمتي دائما‬
‫العلمة المثلى‪ ،‬وفي البيت والمحل ل أسمع غير " ولك تعال‪ ،‬ولك حيوان ابن‬
‫الكلب " وثرثرة "الحكواتية" عن طلقها وكرهها لمي حتى طوى العام الدراسي‬
‫ت على وثيقة النجاح للمرحلة البتدائية بتقديرٍ ممتازٍ‪.‬‬
‫حقيبة السفر؛ وحصل ُ‬

‫كمعا توقععت لم يفرح والدي بحصعولي على درجةٍ فعي تفوق ٍ‪ ،‬ولم يكعن‬
‫راغبا في تسجيلي بالعدادية‪ ،‬كان كلّ همه أن أتعلم مصلحة‪ ،‬لكنه أمام إصرار‬
‫أمي التي أعادتها إلينا عمتها وإلحاحي على متابعة التعليم فلقد وافق كارها‪.‬‬

‫اختار مو قع مدر سة ت قع في منت صف الطر يق‪ ،‬وا حد يؤدي إلى منزل نا‬
‫والخر إلى محلنا؛ وحين رجوته ‪:‬‬

‫‪ -‬با با‪ ،‬ال يوف قك رفا قي سجلوا في إعداد ية الحك مة وأ نا أر يد أن أكون‬


‫معهم‪.‬‬

‫أجابني بتهكم ٍ شديد اللكنة‪:‬‬

‫‪ -‬من أجل "الفلت" يا ولد‪ ،‬هنا أفضل‪ ،‬أنا أعرف مصلحتك أكثر منك !‬

‫واف قت مكرها‪ ،‬وك ما يفرح الطفال بمل بس الع يد فر حت باللباس الجد يد‪،‬‬
‫بذلة فتوة بلون ها الع سكري الجم يل‪ ،‬وكط ير تلو نت أجنح ته ك نت أق طع الشارع‬
‫ب سرعة‪ ،‬رب ما ل ني بدوت أنيقا‪ ،‬ورب ما ل ني أح سست بدخول مرحلة جديدة في‬
‫عمري‪.‬‬

‫‪- 31 -‬‬
‫ن من حوّل‬ ‫ي أن أتأقلم مع هذا الوضع‪ ،‬وفعلً حاولت التأقلم ولك ْ‬
‫وكان عل ّ‬
‫ب يميل إلى الفوضى والندماج مع الذ ين‬ ‫غالب التلم يذ الخجول إلى تلمي ٍذ مشاغ ٍ‬
‫يخلقون البلبلة وقت تبادل المدرسين!‬

‫المرحلة كانت جديدة عل يّ وصعبة‪ ،‬وأكثر الوجوه كانت غريبة عني‪ ،‬ما‬
‫بدأت أمارسه وما كنا نفعله يغزو ذاكرتي‪ ،‬يفتح الصور العتيقة التي لم يطمسها‬
‫بعدُ زمنعي السعير‪ ،‬بشعرهعا الناععس الدامعس والذي كان ينوس على المنكعبين‬
‫كانت تدخل علينا وهي تبتسم تلك البتسامة التي كانت تثير شهوة الطفولة إلى‬
‫تقليدها حين تنطق ‪:‬‬

‫‪.oh---pleas---puplis‬‬

‫كنعا ل نصعغي إلى الدرس بقدر معا كنعا نتأمعل قوامهعا الممشوق وأناقتهعا‬
‫الجميلة التعي ُتفرح القلب لتبدأ شقاوة المراهقعة ونحعن نتأمعل فعي أصعابع يدهعا‬
‫اليمنعى وكيعف كانعت تنفعخ الدخان‪ ،‬الذي ابتدأنعا ننفعخ دخانعه فعي مراحيعض‬
‫المدرسة!‪.‬‬

‫كنا بحذر نراقب الساحة من عيون لجنة النضباط المدرسية وخاصة في‬
‫دورة المياه‪ ،‬حتى فضحنا ما أسميناه نمّام بدل تمام‪.‬‬

‫يومها ساقونا مثل البهائم إلى غرفة المدير‪ ،‬الموجه ولجنة النضباط‪ ،‬ومع‬
‫إصرار المدير على العقوبة بالفصل‪ ،‬كان لب ّد من إحضار أولياء المور‪.‬‬

‫الذي آلم ني وجعل ني أن ضم إلى زمرة المنتقم ين هذه النظرة الشزراء ال تي‬
‫رسمها في ذاكرتي لحظة رمقني بها ذلك الخبيث نمام‪.‬‬

‫كنت قد انضممت إلى الشلة‪ ،‬شكلنا حوله دائرة وبدأنا نضربه حتى تدخل‬
‫ب عض من المارة ففرقو نا عن بعض نا و هم يلعنون سوء الترب ية و ما آلت إل يه‬
‫شوارعنا‪ ،‬فابتعدنا كلّ واحدٍ منا يجر أذيال خيبته من الخوف الذي خامره !‬

‫كالعادة كا نت أ مي حردا نة ك ما تعود نا! وكان عل يّ أن أذ هب إلي ها كي‬


‫أستعطف قلبها الغافي عن طفولتنا راجيا أن تتدبر المر قبل أن يعلم والدي‪.‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫في بيت جدي رجوتها بثغا ٍء من دموع ذرفتها عيناي أل تدعني بين يديه‬
‫ت يدي ها ورجلي ها وأ نا أب كي‪ ،‬ر فَ قلب ها وه مت عينا ها‬
‫أضرب‪ ،‬وب عد أن قبل ُ‬
‫بالدموع فقرصت أذنيّ ومسحت دموعي براحة كفها قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬توبة‪ ،‬قل توبة لن تكرر هذا‪.‬‬

‫‪ -‬وال العظيم توبة‪.‬‬

‫فعي هذه اللحظعة معن هذا اليوم المشؤوم تسعربل فعي عميعق روحعي حقعد‬
‫غر يب كح قد البركان على الرض‪ ،‬رفض خالي تد خل أمي‪ ،‬ووقف جدي م ثل‬
‫حائط مهترئ يخشعى على نفسعه معن النهيار يؤازر خالي‪ ،‬وهذا معا أشعرنعي‬
‫نحوه ما بنفورٍ تام ٍ‪ ،‬ل كن أ مي ر غم ضعف ها وانك سارها وق فت ب عد أن تحز مت‬
‫بإزار القوة‪ ،‬قوة الم التي تر ّد عن ولدها ك يد الحقاد في ك سر شوكة الخؤولة‪،‬‬
‫وقفت لتقول وبجرأ ٍة غير معهودةٍ‪:‬‬

‫‪ -‬ل علقة لحد بأولدي‪ ،‬وسأذهب إلى المدرسة‪.‬‬

‫في المدر سة تعهدت أ مي أ ني لن أكرر هذا‪ ،‬ول سوف تشكو ني إلى والدي‬
‫المسافر الن إلى (الشام) تقصد دمشق من أجل شراء بضاعة جديدة للعيد‪.‬‬

‫الم سكينة كذ بت علي هم‪ ،‬أوه مت المد ير والمو جه أن والدي م سافر فاكتفى‬
‫المد ير بتعل يق توب يخ ٍ في لو حة العلنات ب عد أن اعتذر تُ متأ سفا ح ين ق بل‬
‫المدير بكلم أمي التي أكدت له أنها ستهتم بوضعي وتراقبني‪.‬‬

‫بعد يومين تدخلت عمة أمي في عودتها إلينا؛ وبين ظلل اليام والسابيع‬
‫الراكدة ز عق في وج هي كمعن م سّه كهرباء و هو يقرأ علما تي المتدن ية عن‬
‫الفصل الول‪.‬‬

‫أرتبكع معن معرفتعه‪ ،‬ولم أحترْ معن أيعن عرف‪ ،‬لن موجعه المدرسعة‬
‫ْ‬ ‫لم‬
‫والذي أصعبح زائرا للمحعل بيعن آونعة وأخرى‪ ،‬لم تكعن زيارتعه ععن طريعق‬
‫الم صادفة ف هو وإن تو سط لي ع ند المد ير في قبول اعتذاري وتع هد أ مي فذلك‬
‫لغا ية في نف سه نب تت فجأة ح ين سمع بملك ية والدي لم حل يبيع ف يه الحاجات‬
‫الولدية وبعض الحاجات النسائية‪ ،‬لنه من يومها ابتدأ يتردد على المحل‪ ،‬يأخذ‬

‫‪- 33 -‬‬
‫ما يلزمه من احتياجات أولده وزوجته تاركا الدفع لول الشهر‪.‬‬

‫مستغربا ومستهجنا تساءلت سرا عن سبب سكوت أبي على تستر أمي‪،‬‬
‫لماذا لم تق مْ قيامته التي تعودنا على قيامتها في ثور ٍة من وعيدٍ ؟! هل هناك ما‬
‫يخفيه ؟ أ ْم أن أمي أخبرته في غيابي عنهما ونالها من تجريح ٍ تعودت عليه ما‬
‫ل يث ير ض جة حول الموضوع كي أن سى موضوع ال سكائر ول‬ ‫نال ها ورج ته أ ّ‬
‫أعود إليه!‪.‬‬

‫‪- 34 -‬‬
‫‪-3 -‬‬

‫فسي هذه الحياة التعيسعة كان ل ب ّد لي معن إيجاد صعديق يؤنعس وحشعة‬
‫الفراغ‪ ،‬فالمحل كان يحتاج إلى شخص ٍ أكثر وعيا وأكثر إدراكا لما يحصل من‬
‫ردود أفعال معع بععض الزبائن الذيعن يسعتاؤون معن غلء السععار بععد بعثرة‬
‫ل شيء‬ ‫العديد من الملبس الولدية‪ ،‬وكان يترتب عل يّ بعد خروجهم أن أعيد ك ّ‬
‫إلى مكانه!‪.‬‬
‫وبحثا عن صديق ل يشي مثل نمّام فقد كنت أنتظر قطة أمام باب المحل‬
‫تنادي ني بموائ ها العذب الرق يق‪ ،‬ق طة ول يس قطا فال قط يأ كل أولده والق طة تفرّ‬
‫بنف سها بعيدا لت ضع صغارها وترعا هم ح تى ي كبروا‪ ،‬حينذاك تعود إلى قط ها‪،‬‬
‫ولن ها تعودت أن ترا ني وحيدا كا نت تجلس على قوائم ها بشموخ ٍ و هي تن ظر‬
‫في وجهي بعينين تلمعان كأنها تخاطبني !‪.‬‬
‫كنعت ُأغبطهعا على حريتهعا وممارسعتها طقوس التجول بيعن حواري‬
‫ط مثلها‬
‫وشوارع الجامع الفرعية‪ ،‬وكنت أتمنى بغفلة عن العالم أن أتحول إلى ق ٍ‬
‫ب وبل منكدٍ‪ ،‬وبل سوط جلدٍ!‬ ‫أجري من مكان لخرٍ‪ ،‬بل رقي ٍ‬
‫وأ نا في بحبوح ٍة من سديم الخيال جاء ني والعقدة تزور حا جبيه وكعاد ته‬
‫سأل‪:‬‬
‫‪ -‬هل بعت شيئا؟‪.‬‬
‫ولنه كان على يقين ٍ أن حركة ركود السواق ليست شخصية ول محلية‬
‫فقعد اشترى جهاز " فيديعو " واسعتأجر عددا معن الشرطعة لفلم بوليسعية‬

‫‪- 35 -‬‬
‫واجتماعيعة وكمعا كان مكتوبا على واح ٍد منهعم ‪ " -‬كومندوس " للكبار‪ -‬بععد أن‬
‫أغلق الم حل وذهب نا إلى الب يت يح مل الجهاز على صدره بكل تا يد يه وأ نا أح مل‬
‫كيس الشرطة !‪.‬‬
‫على ح ّد زعمعه هذه الفلم توقعظ الخيال‪ ،‬وتهدئ النفعس‪ ،‬وتغذي الفكعر‬
‫إضافة إلى القضاء على الملل‪ ،‬هكذا قال لجدتي‪.‬‬
‫فرحنعا بدخول السعينما إلى بيتنعا وجلسعنا صعامتين نتفرج نتابعع المشاهعد‬
‫بعيون ٍ واجفةٍ ترف أهداب ها مرتع شة كل ما شاهد نا قتيلً يتضرج بد مه‪ ،‬فالحرب‬
‫النازيعة تث ير الخوف والتقزز‪ ،‬والنازيعة كل مة واحدة في عد ٍد كبير ٍ معن أبواب‬
‫التعدي والتحدي والتردي‪.‬‬
‫بعد الفيلم الحربي‪ ،‬وضع فيلما سياسيا‪ ،‬إذا لم تخن الذاكرة قلمي كان اسمه‬
‫‪/‬المحترف‪ ،/‬ولم يكن أقل شأنا من الفيلم الول‪.‬‬
‫صراع ال ساسة على ال سياسة أمرٌ مخي فٌ‪ ،‬والمر الك ثر إخافة وإجهاضا‬
‫لعصاب الطفولة هذه الهياكل التي كانت تخرج من القبور وهي تقهقه مزمجرة‬
‫و سط الظلم بأ صوات ضا جة صاخبة واللون الزرق الغا مق كان يتماوج مع‬
‫الحركة الدامية!‬
‫كنا مثل تماثيل جامدة يُمسك الخوف بخناقنا أيمّا إمساك حتى بالت أختي‬
‫فريدة على البساط ولم تنهض إلى الحمام إل وأمي تسحبها من يدها وهي تلعن‬
‫بخفوتٍ مكبوتٍ هذه الجلسة حتى صرخ فينا ‪:‬‬
‫‪ -‬هيا إلى النوم!‪.‬‬
‫ب عد هذه المشاهدات المثيرة للع صاب تلب سني الرق وتفت حت في داخلي‬
‫مشاععر مبكرة فعي أن أكون صعاحب سعلطة أحكعم‪ ،‬ل أحاكعم أعجبتنعي مواقعف‬
‫انتصار البطل !‪.‬‬
‫وحتعى أكون بطلً حقيقيا ل بطلاً أسعطوريا فقعد أكدّ والدي فعي طلبعه هذه‬
‫المرة على ترك المدرسة بعد أن كان ما ينفك يردد‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا ستصبح‪ ،‬مهندسا‪ ،‬طبيبا‪ ،‬معلم مدرسة مثل موجهك؟ وإن أصبحت‬
‫طبيبا من أين لك أن تشتري عيادة ؟‬

‫‪- 36 -‬‬
‫استغل الزمن‪ ،‬تعلم صنعة‪ ،‬زميلك صلح كسب الوقت وعما قريب يصبح‬
‫معلما تبحث عنه أكبر "ورشات" المدينة!‪.‬‬
‫هذا التحط يم جعل ني أب حث عن تعو يض ٍ آ خر أث بت من خلله قدرا تي‪،‬‬
‫وقدراتي آنذاك كانت قد بدأت تتجه نحو عواطفي التي تبرعمت قبل الوان على‬
‫نظرات بنت الجيران وهذه اللهفة الملحوظة حين تراني‪.‬‬
‫ولكي أكون جديرا بهذه النظرات‪ ،‬امتدت يدي إلى درج الغلة !‪.‬‬
‫أجعل امتدت يدي إلى درج الغلة‪ ،‬لم تكعن المرة الولى‪ ،‬لكنهعا معن أجعل‬
‫شراء كتاب رسعائل العشاق كانعت الولى! اخترت رسعالة راقعت لي كلماتهعا‪،‬‬
‫نقلت ها بأما نة‪ ،‬ور سمت أ سفل ال صفحة قلبا زين ته بزهور من ر سم يدي‪ ،‬لونت ها‬
‫بالحمر والصفر‪ ،‬وطلبت من أختي فريدة أن تسلمها سرا إلى بنت جارتنا أم‬
‫نوري!‬
‫من هنا ابتدأت أحاسيس عواطفي ومشاعري تقودني إلى الدمان على مدّ‬
‫يدي إلى درج الغلة والنداء الخ في يب تر كلّ تأن يب " مع هذا ال صنف من الباء‬
‫ش كما تريد أنت‪ ،‬ل‪ ،‬كما يريد هو!"‪.‬‬ ‫ل ينفع التعفف‪ ،‬خذ ْ‪ ،‬ع ْ‬
‫هذا النداء معن هذا الطغيان أصعبح قريعب الشبعه معن عواء الذئاب وقتمعا‬
‫تجوع‪ ،‬الحرمان يتمرد على الخوف‪ ،‬مصاهرة الفلم تنفي وجود دارس ٍ يسعى‬
‫نحو مستقبله‪ ،‬فأنعطف نحو الكسل!‪.‬‬
‫و من ال طبيعي أن يج عل المو جه من ك سلي نافذة تجعله يعرض على أ بي‬
‫أن يعطيني دروسا خصوصية !‬
‫تخيلت وجهه وقد فرت الدماء منه بعد أن باءت أحلمه بالفشل! البائس لم‬
‫ي كن يدري أن والدي أك ثر حن كة وفرا سة م نه للتملص من م سؤولية م صاريف‬
‫مدرستي‪ ،‬والهم من هذا كله أنه غير مهتم بتعليمي كان يأمل أن أترك المدرسة‬
‫وأن أنصرف إلى تعلم صنعة كي أعينه على مصاريف البيت التي أنهكته كما‬
‫كان يردد على مسامعنا‪ ،‬والغريب الذي حدث أن والدي قد تذكر أخيراًَ أن تستر‬
‫أمي على قصة التدخين في المدرسة حطم وعيه لهذا حين عاد وقت راحته في‬
‫فترة الغداء صرخ في وجهها ‪:‬‬
‫‪ -‬كله م نك‪ ،‬ينق صني وا حد حتى تك مل خسارتي‪ ،‬آخر يوم سأغلق المحل‬

‫‪- 37 -‬‬
‫وأجلس مثل"الحريم" في زاوية البيت‪ ،‬وموتوا من الجوع !‪.‬‬
‫أمام ذلك التجريعح تنسعفح دماء أمعي وتنزوي فعي مطبخهعا وهعي تمضعغ‬
‫بلوى أحزانها المنطمرة في صدرها كأنها تقول‪:‬‬
‫‪ -‬منك‪ ،‬أمْ من أمك‪ ،‬أمْ من الولد؟‪.‬‬
‫ولن جد تي كا نت موجودة‪ ،‬ولن ها كا نت تب حث عن ضالت ها في إشعال‬
‫ل من أن ترطب الجو في و ّد من ت سامح ووئام‪ ،‬ترمي ب سهام كلمات ها‬ ‫فتنةٍ‪ ،‬وبد ً‬
‫لينفجر صوت أمي مخترقا حالة السكون الملتهبة‪:‬‬
‫‪ -‬أنا صابرة من أجل الولد!‬
‫‪" -‬دخيلك"على"إيش" صابرة؟ تردد جدتي‪.‬‬
‫كيع التسعلط الجوف‬
‫ولن أمعي تعودت على الحرد ومعا عادت تحتمعل ّ‬
‫ت عال ٍ ‪:‬‬
‫فطوق الصبر انفرطت حباته تصرخ بصو ٍ‬
‫‪ -‬أتريدين أن أترك لك الجمل بما حمل؟!‬
‫‪ -‬ل وال أنا من سأترك لك الدار ومن فيها!‬
‫يا فريد تنادي ابنها ‪:‬‬
‫‪ -‬وال لو كان بيتك كعبة مشرفة ما عدت داخلة عليه "وجوه كالحة ومياه‬
‫مالحة "‪ ...‬يا ال‪ " ...‬يا بيتي يا بويتاتي‪ ...‬يا مسترلي عيوباتي!"‪.‬‬
‫وتخرج مثل قنفذٍ تحجرت أشواكه!‪.‬‬

‫‪- 38 -‬‬
‫‪-4-‬‬

‫معاملته السيئة وأدت قناعتي في بعض ليرات كنت أدسها خلسة في جيب‬
‫بنطالي‪ ،‬ولن الحسعاس بالقهعر وبالظلم قعد دفعنعي إلى مدّ يدي حيعن أشععر‬
‫بالحاجة الشخصية‪ ،‬فقد بدأت أفكر بما هو أكبر من ذلك بكثير!‪.‬‬

‫ورغعم شكوكعه التعي سعاورته غيعر مرةٍ‪ ،‬كا نت أكاذيعبي المفتعلة تجعلنعي‬
‫أخرج من خرم البرة حتى وقعت في شرك غلطة العمر!‪.‬‬

‫بع تُ سيدة أنيقة وجميلة بعض أشياء من بينها قلم أحمر الشفاه وقلم أسود‬
‫لك حل الع ين‪ ،‬لم ي كن يخ طر في بالي أن المرأة ستعود تر يد ا ستبدالهما ب عد أن‬
‫أخفيت الثمن في جيبي‪ ،‬وحين عادت تريد أن تستبدلهما‪ ،‬كان حاضرا فانكشفت‬
‫سوءة ما فعلت!‪.‬‬

‫وجدت نف سي‪ ،‬ب عد خروج ها‪ ،‬ب ين يد يه م ثل حيوان يتلقف ني حائط الم حل‪،‬‬
‫وغصص من دموع متحجرة ازدحمت في حلقي‪ ،‬لتسقط المفاجأة التي أنقذتني‪،‬‬
‫ح تُ أحدق‬ ‫تبددت ملمح الرجل الساخط بغضبه المريع إلى بشاش ٍة أذهلتني‪ ،‬فرْ ْ‬
‫في وجهه أكثر من كل مرة‪" ،‬من هذا الرجل ؟ " إنه يقول وبهدوءٍ‪ - :‬بابا‪ ،‬إذا‬
‫ممكن تشتري " كازوز"‪.‬‬

‫غرقت في محيط من القهر‪ ،‬كنت غريقا وأنا على سطح الرض أتنفس‪،‬‬
‫وقيعتي بين يديه انحفرت في تلفيف الذاكرة مثل شامة مرضية ل تعني الصحة‬
‫أبدا‪.‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫إذن تدعنعي وشأنعي حيعن تدخعل صعاحبتك المحعل‪ ،‬هذه الفتاة الشقراء‬
‫استحوذت على كلّ ما فيك‪ ،‬أتحسبني غبيا ل أفهم في هذه المور ؟‪.‬‬

‫عه‬
‫عه‪ ،‬شيطان القبور يشبع‬‫عك شيطان النتقام‪ ،‬ملمحع‬ ‫عن تخرج يلبسع‬ ‫وحيع‬
‫ملمحعك الن‪ ،‬أسعمع صعوت قهقهاتعه‪ ،‬اللون الزرق يتحول إلى سعوا ٍد مشوبٍع‬
‫بالزرقعة‪ ،‬ماذا تقول ؟ سعأعمل أجيرا عنعد الكهربائي أبعي بكري وتلك الشقراء‬
‫ستحل مكاني " يا لرحمة الشقاء !"‪.‬‬

‫بضع دقائق مرت كأننا غرباء ل نعرف بعضنا حتى انسلت خطواتي بعد‬
‫أن غادرت الم حل في أ صيل حي الميدان وئيدة‪ ،‬وئيدة أ صبحت ألف وأدور في‬
‫الشارع ذاته من غير أن أعرف ما أريد وعما أبحث حتى تعبت!‪.‬‬

‫في البيت كان إخوتي ينامون على الرض بل غطا ٍء وبل فراش ٍ وأختي‬
‫فريدة متكورة مثل حمامة ورقاء حزينة! راعني المشهد‪ ،‬كادت دموعي تتساقط‪،‬‬
‫كان قلبي ينبض بارتعاش ٍ بار ٍد !!‬

‫أيقظت أختي بهدو ٍء ‪:‬‬

‫‪ -‬فريدة‪ ،‬فريدة انهضي‪ ،‬وحين فتحت عينيها فركتهما ونظرت في وجهي‬


‫ثم نهضت من غير أن تقول شيئا‪.‬‬

‫سعاعدتها على م ّد الفراش ووضعع "المخدات"‪ ،‬حملتهعم واحدا واحدا إلى‬


‫الفراش‪ ،‬معا أذكره ععن الليلة تلك أنعي كنعت شبعه نائم‪ ،‬وفعي الصعباح تأملت‬
‫الوجوه‪ ،‬كانعت فريدة مثعل ملك طاهعر فردّ خصعلت الشععر على "المخدة"‬
‫فاحتوتها‪ ،‬اقتربت منها همست برفق ٍ ‪:‬‬

‫‪ -‬فريدة‪ ...‬انهضي‪.‬‬

‫ت واضح ٍ قالت ‪:‬‬


‫فتحت عينيها وبخفو ٍ‬

‫‪- 40 -‬‬
‫‪ -‬صباح الخير‪.‬‬

‫‪ -‬صباح النور‪.‬‬

‫أورثني استيقاظهم متوعكين من الكآبة والحزن على ترك أمي البيت بعد‬
‫شجارها مع أبي حين خرجت جدتي شعورا بالكره نحوها هذه التي تتركنا ول‬
‫تجعل نا نش عر بمع نى الحنان والهدوء والمان‪ ،‬واحدة مثل ها ل ت ستحق أن تكون‬
‫أما!!‬

‫ت من نا جي أن ي سأل جارت نا أم‬


‫فتش تُ عن عل بة كبريتٍ فلم أجدْ‪ ،‬طلب ُ‬
‫نوري ال تي ما إن سمعت بحاجت نا إلى عل بة ال كبريت ح تى سارعت إلي نا و هي‬
‫تدمدم ببعض كلمات خافتة عن حرد أمي !‪.‬‬

‫وفي غوص معاناتي داخل جدران أحزاني التي تؤويني وإخوتي جعلتني‬
‫أش عر أ ني أ كبر من عمري ب سنواتٍ‪ ،‬وجعلت ني أ حس أن ها أ كبر من عمر ها‬
‫ت !‪.‬‬
‫بسنوا ٍ‬

‫كانت نظرات عينيها تثيران في نفسي عالما بدأت أحلم به وأفكر في كيفية‬
‫الدخول إل يه‪ ،‬ك نت أ حس بهذه المشا عر تر يد أن تف يض على العالم بالج نى وأ نا‬
‫أر مق صدرها النا هض بإعجا بٍ فأقرأ النشراح على وجه ها لح ظة أحدق في‬
‫تكور نهديها الصغيرين الذين بدأا ينموان من تحت "البلوزة" الضيقة!‬

‫والذي كان يث ير دهش تي جرأة نوال ح ين تخت طف قبلة سريعة من خدي‬


‫بعيدا عن وجود أمها وتتوارى مثل فراشة كانت لتوها موجودة ثم اختفت!‪.‬‬

‫فعي ذلك الصعباح عملت جارتنعا أم نوري على تنظيعف الوانعي وكنعس‬
‫ت كيس‬ ‫الرض ومسحها تساعدها أختي فريدة‪ ،‬وبنا ًء على ما طلبته جارتنا أنزل ُ‬
‫الزبالة‪ ،‬رمي ته قرب الحاو ية‪ ،‬ولم أد فع به إلى جوف ها‪ ،‬فاشتم مت رائ حة ع فن‬
‫عطن قريبة الشبه من رائ حة نفسي وأفكاري‪ ،‬تابع تُ طريقي نحو محلنا بتلكؤ‬
‫مقصود‪ ،‬فهو ليلة البارحة لم ين ْم معنا‪ ،‬ترى أين نام !‪.‬‬

‫وبدأت أخمعن‪ ،‬ربمعا كان عنعد أمعه‪ ،‬وربمعا كان عنعد واحدة معن فتياتعه‬
‫الشقراوات‪ ،‬أو سععاهرا عنععد واح ٍد مععن أصععحابه يلعبون الورق‪ ،‬فجأة هذه‬

‫‪- 41 -‬‬
‫التخمينات توقفت !‪.‬‬

‫حيعن شاهدنعي انطلق معن داخعل المحعل بسعرعة والعقدة المرسعومة على‬
‫حاجبيه ل تفارقه‪ ،‬والتي اقترنت بلهجته القاسية‪:‬‬

‫ل لك ل تتأخر‪ ،‬هيا امض ِ معي !‪.‬‬


‫‪ -‬لمَ تأخرت‪ ،‬ألمْ أق ْ‬

‫أغلق باب المحعل وقفله بالمفتاح‪ ،‬فتبعتعه مثعل جروٍ جريعح ٍ سعاكتٍ ععن‬
‫النباح‪ ،‬ووقفت أتزود بالصور الجديدة‪.‬‬

‫تصعافحا‪ ،‬تحاورا ببضعع كلمات ععن أحوال السعوق‪ ،‬ثعم دعاه الرجعل إلى‬
‫فنجان قهوة فجلس‪ ،‬شرب القهوة‪ ،‬وضعع الفنجان على الرض‪ ،‬والتفعت ناحيتعي‬
‫وبنبرته المتسلطة‪:‬‬

‫‪ -‬افتح ذهنك واسمع الكلم‪ ،‬ل أريد شكاوى ول مشاكل أتفهم!!‪.‬‬

‫ترك ني ظللً متك سرة وم ضى‪ ،‬ترك ني ظللً تئن لي كبر م قت وح قد من‬
‫جعلني مسورا بعفونة النجاب وألف غمامة من الغ مّ والسى تلّف روحي‪ ،‬ومن‬
‫الطعبيعي أن يجعلنعي هذا الموقعف رافضا كلّ الرفعض أن أكون أجيرا للجيعر‪،‬‬
‫فمنذ اللحظة الولى حاول استفزازي بفرض أوامره عليّ‪:‬‬

‫‪ -‬اغسلْ فناجين القهوة وتعالَ ساعدني‪.‬‬

‫كان أبو بكري خارج الدكان يدخن سيكارته وهو يتراهن مع جاره السمان‬
‫عن سحب اليانصيب‪ ،‬وحين سمع صوت صرخة في أنة صادحة سارع نحونا!‪.‬‬

‫رميت بالمفك نحو وجهه فأصابه جرح بسيط في خده دمى بعض الشيء‪،‬‬
‫فصرخ أبو بكري في وجهي‪:‬‬

‫‪ -‬يا بن ال‪ --‬؟!‬

‫‪- 42 -‬‬
‫وابتلع ما كان سيقوله‪ ،‬وأنبأني أنه سيشكوني إلى والدي!‪.‬‬

‫الشقياء ل يُِكذبون أخبار بعضهعم‪ ،‬فسعرعان معا جاء المسعيطر على حياة‬
‫ولي العهد‪ ،‬جاء ساخطا‪ ،‬غاضبا‪ ،‬وفوق كلّ هذا وذاك لعنا يوم ولدتي‪ ،‬يسبني‬
‫مقتع معن بغضاء ويشعد أذنعي فعي تقزز‪ ،‬كأنعي لسعت ولده‪ ،‬فأقرأ تباشيعر‬
‫ٍ‬ ‫فعي‬
‫ابتسامة شامتة مازلت أذكر وهج انتصارها في أجواء روحي المعذبة!‪.‬‬

‫ومعن بادلتنعي مقام الرئاسعة فعي المحعل ترفعض وجودي فعي فترة الغداء‬
‫ووالدي يخ تم على رأي ها بالش مع الح مر‪ ،‬ف كل ش يء من ح قه‪ ،‬الم حل‪ ،‬الب يت‪،‬‬
‫الولد‪ ،‬النساء‪ ،‬وزهرة الربيع المقطوفة الكرة في يدها !‪.‬‬

‫في نهاية السبوع جئته فارغ اليدين لم أقبض أجرا‪ ،‬اكفهر وجهه وبلهجة‬
‫سافرة عن كوامنه المادية الرديئة قال‪:‬‬

‫‪ -‬تستحي عينه من عيني‪ ،‬على القل تشجيع‪ ،‬ناس ما في ذوق !‪.‬‬

‫ضح كت نف سي في داخل ها ب صمتٍ‪ ،‬كادت ضحك تي ت صدح بنذ ير شما تة‬


‫وسخرية‪:‬‬

‫" ألم تت خذ قرارك بتع سفٍ من ج شع الذئب وطم عه الرا قص في داخلك أن‬
‫أترك المدرسة‪ ،‬ما قالته معلمتي‪ ،‬أني ربما أكون في يوم من اليام ذا شأن في‬
‫مجال الدب إن تاب عت تح صيلي الدرا سي و ُق يض لي الظرف المنا سب‪ ،‬أ نت لم‬
‫تسأل لتعرف أني كنت الول في المدرسة والمتميز الوح يد في كتا بة مواضيع‬
‫التعبير‪.‬‬

‫قتلت الم ستقبل‪ ،‬قتلت فر حة الغب طة من النجاح الذي حقق ته يوم أحضرت‬
‫تقدير نجاحي بترتي بٍ ممتازٍ‪ ،‬وبوحي ٍ من أناك المسيطرة تركتني أهدر الوقت‬
‫أمام أفلم "الفيدو" من دون أن تسألني‪:‬‬

‫‪ -‬هل انتهيت من واجباتك المدرسية ؟‪.‬‬

‫والكثر أهمية من كل هذا أن أكون بين يديك مثل عامل تنظيفات مطيع‪،‬‬

‫‪- 43 -‬‬
‫ومطيعع جدا لسعادته فعي قطاع النظافعة‪ ،‬واليوم آتيعك حاملً فعي يدي نتيجعة‬
‫الر سوب‪ ،‬وحيدا أح مل نتي جة الر سوب‪ ،‬وحيدا أب كي‪ ،‬ما عاد في مدر سة‪ ،‬من‬
‫البداية عارف ما مصيرك‪ ،‬تمديد الكهرباء تُد ّر ذهبا‪ ،‬تعلمها !‪.‬‬

‫والن ت سألني ما أعطاك ؟‪ ...‬ناس ما في ذوق‪ ...‬اّ‪ ...‬ت ستحي عي نه من‬


‫عيني‪ ،‬لفقد الرهبة من أنك أبي!‪.‬‬

‫ويأتعي المسعاء محملً بالصعمت ويعود المتخاصعمان إلى بيعت الحزان‬


‫كأنهما غريبان ل يعرف أحدهما الخر!‪.‬‬

‫ونحن نصعد الدرج فوجئنا بجارتنا أم نوري‪ ،‬كانت واقفة تنتظرنا وبهدوءٍ‬
‫قالت المرأة الغريبة ‪:‬‬

‫‪ -‬أبا غالب‪ ،‬ال يرضى عليك‪ ،‬أم غالب فوق أحضرتها أنا‪ ،‬حرام الولد‬
‫مالهم ذنب وأنت ابن ناس وبتفهم بالصول‪.‬‬

‫ه َز رأسه وابتسم في وجهها بمك ٍر كي ينفي الشكوك عن نفسه قائلً‪:‬‬

‫‪ -‬كله خير‪.‬‬

‫ودا خل الب يت لم ي كن للخ ير الذي نر جو أي وجود‪ ،‬ح ين د خل لم ي سألها‬


‫ععن أي شيعء‪ ،‬ولم تتحرك هعي معن مكانهعا‪ ،‬كلّ الذي فعله أن نام كلّ واحدٍ‬
‫ل عن الخر ووجهه عابسٌ!‪.‬‬ ‫منهما منعز ً‬

‫‪- 44 -‬‬
‫‪-5-‬‬

‫قبل صلة الجمعة صبيحة اليوم التالي قال لختي فريدة كأنه يريد أن يؤكد‬
‫على سيطرته‪:‬‬
‫‪ -‬قولي لها أن تطبخ " عدس بحامض "‪.‬‬
‫و من كا نت مم سوسة "باللي فة" وال صابون‪ ،‬و من كا نت ت جر ظلل قهر ها‬
‫وخي بة أمل ها في أن تكون سيدة منزل مرغوب ب ها‪ ،‬انهم كت في تنظ يف الب يت‬
‫والغسيل المتراكم فتأخرت عن الطبخ‪.‬‬
‫كا نت فر صة موات ية جاء ته على قدمي ها ليثور في وجه ها م ثل ف يل طاش‬
‫عن قطي عه‪ ،‬ل ستشعر من ذلك الزجاج المتنا ثر الذي تلقف ته الرض في زوا يا‬
‫المطبخ حزنا آسرا يتردد في أعماقي كلما هاجت في نفسي هذه الذكرى‪.‬‬
‫‪ -‬معا الذي حصعل؟ وأي ذنعب ٍ عظيعم ٍ اقترفتعه لينصعب حقده على هذا‬
‫الشكل وعلى مرأى من صغاره؟‪.‬‬
‫‪ -‬أيعقل أن يكون ذلك السبب سببا قاطعا لثورة ٍ ل تشبه إل نفسها؟‪.‬‬
‫بين هول هذه اللحظات القاسيات كان أخي الصغير مازن يشهق في بكاءٍ‬
‫ف من شدة الرعب‪.‬‬ ‫راج ٍ‬
‫حاولت إسعكاته وإيقاف رقعص الذئب فعي دقات قلبعي الذي صعار مثعل‬
‫الرعد‪ ،‬ضغطت على أعصابي‪ ،‬أسأل نفسي‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا لم أضربه دفاعا عن أمي ؟!‪.‬‬

‫‪- 45 -‬‬
‫أجل لماذا لم أضربه دفاعا ًعن أمي‪ ،‬تلك التي زرعت في نفسي أنا الخر‬
‫انطواءً منعزلً لمشاعري نحو ها لك ني إزاء ما سمعته ح نّ قل بي‪ ،‬سمعتها تب كي‬
‫بصوتٍ مسموع ٍ‪ ،‬كانت هذه هي المرة الولى التي نسمعها تبكي‪ ،‬خرج صوت‬
‫بكائهعا حزينا مشوبا برائحعة اللم كانعت تريدنعا أن نقعف فعي وجهعه‪ ،‬أن نلتعف‬
‫حولها ونصرخ في وجهه ونطرده كما يطردها‪ ،‬لكننا لم نفعل !‪.‬‬
‫داخعل هذا العراء معن أم ٍ هاجرة ٍ لكوامعن صعغارها وأب ل مهابعة فعي‬
‫شخصعه‪ ،‬لن الرهبعة معن أفعاله وأقواله كانعت هعي السعاكنة فعي ذاكرة الخليعا‬
‫ل في زاوية عدا مازن الذي جلس‬ ‫والحاسيس والتي جعلتنا نقف كالمتفرجين ك ّ‬
‫قرب أمه يواصل بكاءه‪ ،‬كنا نعيش حياتنا!‪.‬‬
‫في تلك اللحظات الكئي بة هاجمت ني أفكار ش تى‪ ،‬و في لحظات متقدة ك نت‬
‫في الشارع أضع نتف الزجاج المتكسر داخل الحاوية كأني أضع ميتا مؤذيا!‪.‬‬
‫ل وجهها من فتحة الباب واقتربت مني قائلة ً‪:‬‬
‫وأنا أصعد سللم الدرج أط ّ‬
‫‪ -‬أهلا غالب‪ ،‬ما بك؟‬
‫‪ -‬أهلا نوال ما في شيء‪.‬‬
‫(بصعوبة أزحت سكين الجرح العالقة في الحلق وأجبتها )‪.‬‬
‫‪ -‬كأنما سمعنا صوت تكسير‪ ،‬ماذا حصل؟‪.‬‬
‫‪ -‬لشيء‪ ،‬ل تشغلي بالك!‪.‬‬
‫فعي هذا الظرف القاسعي تقدمعت نحوي بجرأة‪ ،‬امتدت يدهعا إلى جعبيني‪،‬‬
‫ت في حالةٍ ل تسمح لي بالتكلم معها‪،‬‬
‫أحست ببرودته ؛ أرادت أن تتكلم معي‪،‬كن ُ‬
‫فأبعدت يدها‪ ،‬وقلت ‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك اتركيني يا نوال‪.‬‬
‫‪------------ -‬‬
‫‪ -‬مع من تتكلمين؟‪ ،‬ادخلي‪.‬‬
‫جاء صعوت أمهعا معن الداخعل ذابلً‪ ،‬فخمنعت أن تكون هعي الخرى فعي‬
‫وقيعة مع زوجها تشبه وقيعة أمي!‪.‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫تركت ها تد خل وانتظرت ح تى أغل قت الباب‪ ،‬ثم تاب عت ال صعود ضغ طت‬
‫على جرس الباب‪ ،‬ظهر في وجهي مثل مارد أوداجه المنفوخة تنمّ عن غض بِ‬
‫حاقدٍ لئ يم ٍ؛ رشق ني بنظرة قاد حة كأن ها شرر حارق وتا بع هبو طه إلى ح يث ل‬
‫أدري!‪.‬‬

‫في الهز يع الخ ير من الل يل‪ ،‬وك ما تعود نا في الو نة الخيرة أن يطول‬
‫سهره خارج البيت‪ ،‬فتحت عينيّ‪ ،‬رأيت شبحا ل أعرفه‪ ،‬وكيف أعرفه وقد دخل‬
‫متطوحا يتقاذ فه فراغ الغر فة وقمي صه على يده ول ش يء ي ستر صدره!‪ ،‬أنال‬
‫أصعدق الذي رأيتعه‪ ،‬ول أصعدق أيضا أن الذي حصعل كان بسعبب "العدس‬
‫بحامض"!‪.‬‬
‫أهعو الكره؟ أ مْ ب سبب فقدان ال حب ؟ أم ْع ب سبب جدتعي التعي تكره أ مي ؟‬
‫وجدتي ووالدي يكرهان بيت جدي من أهل أمي!!‬
‫أتنفسع الهواء‬
‫َ‬ ‫أردتع أن‬
‫ُ‬ ‫ت على مهلٍ إلى الشرفعة‪،‬‬ ‫تركتع الفراش وتسعلل ُ‬
‫ُ‬
‫ل الل يل والنجوم‪ ،‬أن أخاط بَ المدا خن شهودي الوائل على ألم ٍ‬
‫بع مق ٍ‪ ،‬أن أتأم َ‬
‫نظرتع إلى هوائيات التلفزة وأسعلكها‬
‫ُ‬ ‫مازال مغروسعا فعي الجسعد والذاكرة‪،‬‬
‫اللقطة‪،‬تساءلت‪:‬‬
‫" تُراهعا تملك القدرة على مخاطبتعي أو تصعوير أحزانعي لعرضهعا فعي‬
‫مسلسل عالمي‪ ،‬أ مْ تراها ل تأبه بشخصي فأنا مجرد هامش ٍ في صفح ٍة مملوءةٍ‬
‫بالكثير مما يشبه أحداث أحزاني" ؟!‪.‬‬
‫فت شت عن الق مر‪ ،‬كان غائبا‪ ،‬في طر فه ال خر من الكرة الرض ية في‬
‫عن‪ ،‬وأحلم الطفال‬‫عه أحلم العاشقيع‬‫عن أشعتع‬ ‫عق على لجيع‬ ‫المكان الذي تتموسع‬
‫المترف ين الذ ين ل ينتمون إلى عالم طفول تي‪ ،‬فأ نا نق طة من مداد و جد تخ فض‬
‫جناح الذل من الرحمة!‪.‬‬
‫مُلت برأسي نحو السفل‪ ،‬كانت المسافة طويلة‪ ،‬كأني أول مرة أشاهد هذا‬
‫الرتفاع‪ ،‬وهذه الحارة الهادئة تشاركنعي تأملتعي فعي انخفاضهعا والتوائهعا عنعد‬
‫مفرق الشارع‪ ،‬ولن المعر كذلك فقعد داهمنعي شعور غريعب‪ ،‬لماذا ل أرمعي‬
‫بنف سي من هذا العلو؟ لعلّ النيام الهانئ ين بنوم هم ي ستيقظون ب من في هم والدا يّ‬

‫‪- 47 -‬‬
‫البارّان بأولده ما‪ ،‬ليشاهدا د مي البارد و قد ر سم على الرض أ سئلة في نها ية‬
‫كلّ واح ٍد عل مة من علمات التنق يط‪ ،‬التع جب‪ ،‬وال ستفهام والفا صلة والنق طة‬
‫غير موجودة فالمصير مازال مبهما مجهولً!‪.‬‬
‫فجأة تنبهعت إلى سعخرية الشيطان فصعرخت معن أعماق الصعمت ل‪ ،‬لن‬
‫أجعلكمعا تفرحان بموتعي‪ ،‬ربمعا تبكيان بضععة أيام وربمعا لوجود للدموع فعي‬
‫حياتكما على ولدكما! لن أدعكما تنعمان بالهدوء‪ ،‬سأكون مثل حجارة من صوان‬
‫تعيق هدوء فرحكما المتآكل من ثرثرة الحيزبون!‪.‬‬

‫أدرتُع ظهري نحعو الداخعل‪ ،‬رمقتُع الجميعع‪ ،‬طار نومعي فعي خضعم هذه‬
‫المضطربات وعيناي ترمقان أ مي بنظرات ذات مع نى عم يق وعم يق جدا‪ ،‬من‬
‫دون أن أش عر نحو ها بالع طف علي ها ر غم صفرة وجه ها البا هت‪ ،‬والذي كان‬
‫يثير الشفقة في نفس أي شخص ٍ كان حين يشاهد وجه هذه المرأة!‪.‬‬
‫تكور تُ على الري كة الخشب ية والحزن يأ كل ما ب قي من اخضرار القلب‬
‫وأنا متوتر العصاب‪ ،‬غاضبٌ!‪.‬‬
‫ت ضفائر الشمعس مخترقعة زجاج النوافعذ‬ ‫انشقتع خيوط الفجعر وانسعل ْ‬
‫ْ‬
‫والشرفات لتقدم عزاءهعا إلى هذا البيعت‪ ،‬كان الكعل معا يزال يغعط فعي نومعه‪،‬‬
‫تسعللت بهدو ٍء على رؤوس أصعابعي إلى مكان نومعه‪ ،‬امتدت يدي إلى جيعب‬
‫ع إلى‬
‫بنطاله‪ ،‬أمسعكت بقطعةٍ ورقي ٍة فئة المئة ليرة‪ ،‬وعلى مهلٍ أطلقعت رجلي ّ‬
‫الشارع مثل سحلية ل تصدر صوتا!‪.‬‬
‫كانعت شوارع المدينعة ومنعطفات حديقعة ميسعلون ملذي الوحيعد‪ ،‬كنعت‬
‫أمع لعبعد‬
‫أمع لفريعد ْ‬
‫أغنعي‪ ،‬لمعن أغنعي ل أعرف‪ ،‬هعل كنعت أغنعي لعبعد الحليعم ْ‬
‫ع أغنعي لرمعم شقوق الذات‬ ‫الوهاب؟ اختلطعت الكلمات باللحان المهعم كنت ُ‬
‫المقهورة‪ ،‬ومن طبيعة التسكع أن تكون قد تعرفت على شل ٍة من فريق ٍ هوايتهم‬
‫ت على واحدٍ‬ ‫الع بث والتحرش بالن ساء‪ ،‬كن تُ أعرف أ ين يوجدون‪ ،‬وح ين عثر ُ‬
‫ل للوقت الذي‬‫منهم سررتُ برؤيته‪ ،‬لن أكون وحيدا في ممارسة "الزعرنة"‪ ،‬وقت ً‬
‫ما عاد تافها فقد سألته أن نذهب إلى السينما!‪.‬‬
‫سألني بدهشة مقترنة بالرضا‪:‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫‪ -‬سينما؟‪.‬‬
‫‪ -‬ل َم ل‪ ،‬ألسنا مولعين بالحرية؟ أم أنك ترفض دعوتي ؟!‪.‬‬
‫بذل ع مر كلّ جهده ح تى ل يبدو ضعيفا أمام قدر تي على الد فع وجعل ني‬
‫في الدخول أتقدمه‪ ،‬فانتابني إحساس بالقوة والزهو مما أفعل!‪.‬‬
‫بععد الفيلم شعرت بالجوع فاشتريعت "سعندويش فلفعل" واتفقنعا أن نقضعي‬
‫ب عض الو قت في الحدي قة العا مة‪ ،‬اختر نا مكانا ق صيا‪ ،‬كا نت رائ حة ن هر قو يق‬
‫الكريهة تسبب الزكام للعابرين القلئل على عكس ما كنا نحس به‪ ،‬مياه ضحلة‬
‫ش به راكدة ل تجدد في حيات ها تحتوي على عرق المدي نة وغبار ها‪ ،‬رائح ته ل‬
‫يحتمل النف رداءتها ومع هذا كنا نشعر باللذة ونحن نغني مزيجا من اللحان‬
‫والكلمات التي باتت تخصنا وحدنا!!‬
‫ح ين سادنا الملل قرر نا أن نتزحلق زاحف ين إلى شارع "العزيز ية فالتلل"‪،‬‬
‫فهناك وعلى الرصفة المكتظة بالناس بين رواح ومجيء تبدأ الحياة التي نبحث‬
‫عنها ول تبحث عنا‪ ،‬نخترق صفوف النساء كي نلمس يد تلك أو خصر هذه‪،‬أو‪،‬‬
‫لم تكن تهمنا الشتائم واللعنات التي كانت النسوة ترد فيها على تحرشاتنا‪ ،‬فسمعنا‬
‫غير مرهف!!‪.‬‬
‫ت إلى الب يت ب عد أن اتف قت مع‬
‫حوالي التا سعة من م ساء ذلك اليوم عد ُ‬
‫عمر على يوم ٍ جديد ٍفي موعد ٍقريب ٍ‪ ،‬وعندما دخلت البيت أبديت عدم اكتراثٍ‬
‫ول مبال ٍة من أسئلتها التي بدت لي غير مستحبة‪.‬‬
‫صعقتها ل مبالتي‪ ،‬وأوقدت في حنجرتها سياطامن الغ ضب‪ ،‬المرأة الم‬
‫تغضعب وتثور‪ ،‬الليلة بدأت تسعأل! قبعل هذه الليالي لم تكعن تسعأل‪ ،‬قال كانعت‬
‫تحسبني في المحل !‪.‬‬
‫سخرت من قوت ها المفاجئة ومحا سبتها ال تي بدت لي صارمة على غ ير‬
‫عهدي بهعا‪ ،‬فأدرت ظهري متجاهلاً نهرهعا وجموح ثورتهعا‪ ،‬أمسعكت بعي معن‬
‫كتفعي وشدتنعي بعنفعٍ‪ ،‬كان الغضعب مشتعلً فعي عينيهعا الم المشغولة بتلميعع‬
‫"الطناجر" والصحون تغضب وتثور وتسأل‪ ،‬ربما فقدت عقلها من تأثير الصدمة‬
‫السابقة‪ ،‬أعادها غضبها إلى شدي بقوةٍ‪:‬‬
‫‪ -‬أبوك‪ ،‬سألني عنك مرتين‪ ،‬أين كنت؟‪.‬‬

‫‪- 49 -‬‬
‫ل مباليا سعحبت يدي معن يدهعا‪ ،‬وأدرت ظهري ثانيعة وقبعل أن أرد على‬
‫سؤالها دار المفتاح بقفل الباب وانفتح عن وجه كأنه مارد قذفه إلينا بساط الريح‬
‫ل قع ب ين لكما ته والضرب بقدم يه م ثل كرة يل عب ب ها هداف وا ثق من نف سه‪،‬‬
‫وقبل أن تهدأ غللة قباحة عقابه النافر التفت نحوها وقال‪:‬‬
‫‪ -‬مسرورة أنت الن؟ ابنك في الشوارع؟ حياة " مقرفة"‪.‬‬
‫في هذه الليلة لم أشعر باللم من صفعاته ولكما ته‪ ،‬ولم أشعر بالرا حة إل‬
‫حيعن سعمعته يرمعي بسعوء تربيتعي على كاهلهعا وكعم تمنيعت أن تكون جدتعي‬
‫موجودة تشارك أبي اتهامه لمي في عدم وجود السؤال عن ولدها!‪.‬‬
‫ابتدأت أنمعو في وحشةٍ من انطوا ٍء على التمردِ الحاقدِ الذي را حت تنمعو‬
‫مععه ملمعح الذكورة التعي جعلتنعي أحعس بالنشوة يوم شعرت بأنعي قعد دخلت‬
‫مرحلة المراهقة!‬
‫تصاهرت أحلم بدايات مراهقتي مع صراعات أبي بأمي والنغام الجديدة‬
‫ترسم كلماتها في ذاكرتي التي ما غادرت عقلي ‪:‬‬
‫‪ -‬أمعك جعلتنعي أكره اسعمك واسعم أخوتعك‪ ،‬دائما تذمعر‪ ،‬وآهات وشكاوى‬
‫كيف سأدبر أمري؟ ل أعرف؟‬
‫فأهمس سرا بشماتةٍ " معك حق‪ ،‬أمي دائما تنقُ مثل ضفدعة مجروحة!"‪.‬‬

‫‪- 50 -‬‬
‫‪-6-‬‬

‫لم أظل ْم أمي‪ ،‬فنق الجريح من وجود اللم يحتاج إلى طبيبٍ ودواء أمي أن‬
‫تشكوني إلى أبي‪ ،‬وفي هذا لبدّ من أن يضربني وهو يسبني قائلً‪:‬‬

‫‪ -‬ول‪ ...‬ك‪ ،‬ابن الحرام ألن تعقل ؟‬

‫فأنكمش شاعرا بالذل أمام أخوتي كما في كل مرةٍ!‪.‬‬

‫ن شكوى أ مي هذه المرة لم ت كن ب سبب مشكلة بي ني وبين ها‪ ،‬بل كا نت‬ ‫لك ّ‬
‫بسبب ما قالته الجارة أم نوري ‪:‬‬

‫‪ -‬وال يا أم غالب‪ ،‬هذا الكلم من ورائه خراب بيوت ودم!‪.‬‬

‫وكان على أمي أن تردّ عليها قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬صوني ابنتك!‬

‫‪ -‬ابنتي مصونة‪ ،‬الغلط من ابنك ومن قلة تربيته!‬

‫‪ -‬الولد مثل السيف‪ ...‬لكن البنت‪.!! ...‬‬

‫وفي هذا زاد الكلم ولم ينقص وكادتا تتصايحان وتتشابكان وتنتفان شعرا‬
‫رأسعيهما‪ ،‬لول تدخعل الحاجعة "أم رضعا"‪ ،‬وكنعت داخعل البيعت أسعمع صعياح‬
‫المرأت ين‪ ،‬ورب ما كا نت هذه هي المرة الولى ال تي جعلت ني أخاف من أ مي ب عد‬

‫‪- 51 -‬‬
‫هذا الشجار!!‪.‬‬

‫كان خير مكان ٍ اختبأ فيه هو الحمّام‪ ،‬ورغم اختبائي وخوفي فلقد ابتسمت‬
‫بخب ثٍ وقلت في نفسي ‪ " :‬مسكينة أمي وجارتنا تفضحان بعضهما من دون أن‬
‫ت عالٍ !‪.‬‬
‫تقدرا على منعنا "‪ ،‬وأكاد أضحك بصو ٍ‬

‫تفاصعيل أخرى وغيعر إضافيعة حدثعت معا عدت قادراعلى ذكرهعا لنهعا‬
‫لتهمنعي‪ ،‬والذي يهمنعي أن أذكره ذلك الحدث الهام فعي حياتعي عندمعا حصعلت‬
‫على وظيفة مراسل حركي عليه أن يقف عند باب المحل مثل عمود الكهرباء!‪.‬‬

‫وح تى ل يب قى الم ستور م ستورا على واح ٍد في م ثل عمري ف قد أر سلني‬


‫لتبد يل الجوارب الن سائية‪ ،‬فالن سوة كا نت تش كو من ق صر ال ساق ولن التا جر‬
‫الذي أرسلني إليه كان مسافرا‪ ،‬وبما أني كنت أحمل علب الكرتون ول أستطيع‬
‫التل كؤ‪ ،‬ف قد عدت إلى الم حل ب سرعةٍ و من دون تأ خر‪ ،‬ح تى وق عت في رجفةٍ‬
‫أوهنعت مفاصعلي‪ ،‬وأذعرت دقات قلبعي وعقدت طلقعة لسعاني فعي صعرخات‬
‫مكتومة وبعينين براقتين التقطت أبرع الصور لردد في داخلي‪:‬‬

‫‪ -‬يعيش بابا‪ ،‬رجل ول كل الرجال‪.‬‬

‫شعر تُ بمرارة التقيؤ في أعماقي‪ ،‬تمنيت في اللحظة تلك أن يشاهد الناس‬


‫ما شاهدته‪ ،‬كانت زهرة الربيع المقطوفة تجلس في حضنه يقبلن بعضهما‪ ،‬فبعد‬
‫الظهر تضعف حركة الناس‪ ،‬بل تكاد تعدم وخاصة يوم الحد‪ ،‬وحين عدت بهذه‬
‫ال سرعة ودخلت فجأة وجد ني واقفا أحدق م ثل صقر ٍ‪ ،‬فانت فض فزعا بين ما هي‬
‫انخلع قلبها من رهبة نظراتي المحدجة عميقا عميقا‪ ،‬وكم تمنيت أن أفعل شيئا‪،‬‬
‫لكنني لم أفعل!‪.‬‬

‫الر جل م سح شارب يه و هي أدارت بظهر ها إل يّ‪ ،‬ولم ي قل شيئا سوى ذلك‬


‫السؤال‪ ،‬وكأن الذي حصل كان عبارة عن سحابة هامشية‪:‬‬

‫‪ -‬هل بدلت الجوارب؟‪.‬‬

‫ب وضعت العلب على الطاولة وخرجت إلى الرصيف كانت‬ ‫بنزق ٍ غاض ٍ‬
‫قط تي بانتظاري ولح ظة رأت ني رك ضت نحوي و هي تموء‪،‬اقتر بت م ني ت هز‬

‫‪- 52 -‬‬
‫ذيلهعا‪ ،‬فضربتهعا برجلي ففرت إلى الرصعيف المقابعل وهعي تصعرخ بصعوتها‬
‫المعروف كأنها تستهجن من فعلتي وأنا كالغريب واقفٌ أسأل‪ :‬ابن من أنا؟‪.‬‬

‫"كاترين" خرجت غير آبهة بنظراتي التي كان الشرر يتطاير منها‪ ،‬مرت‬
‫من أما مي نكا ية بي‪ ،‬ويداي كان تا تريدان أن تقب ضا على عنق ها‪ ،‬وح ين صرخ‬
‫غالب عرفت أنه سيطلب مني السكوت!‪.‬‬

‫حاول أن يكون منهمكا فعي عدّ الوراق النقديعة‪ ،‬وقعد بدا لي أنعه غيعر‬
‫مضطر بٍ‪ ،‬وشيعء غامعض فعي دماغعي كان يوزع شظاياه على خليعا ج سدي‬
‫لشعر في هذه اللحظة بالذات أني أريد البكاء!‪.‬‬

‫كنت متعبا وحين نظرت في وجهه أحسست كأنني أول مرة أرى وجهه‪،‬‬
‫وجه بارد كالحديد‪ ،‬أمسك بذقني‪ ،‬رفع وجهي نحو وجهه وبجدية قال‪:‬‬

‫‪ -‬أنت كبرت‪ ،‬ولب ّد أن تفهم‪ ،‬سنكون أنا وأ نت بعد هذا اليوم أصدقاءً ما‬
‫رأيك؟!‪.‬‬

‫غشاوة مخاطية لزجة نزلت على عين يّ‪ ،‬فوجئت بطلبه‪ ،‬إنها المرة الولى‬
‫ال تي يعامل ني في ها على أ ني أ صبحت شخ صا كبيرا أف هم‪ ،‬صوته غ ير الل يف‬
‫يمشعي فعي دمعي‪ ،‬فتعمدت تركعه حائرا وخرجعت بععد أن ضربعت باب المحعل‬
‫بقدمي‪.‬‬

‫ل ونحيلٌ‪ ،‬العيعن ترى الناس بشكعل معوج ٍ‪ ،‬سعقط العالم أمام‬‫الجسعدُ ضئي ٌ‬
‫رو حي فبدأت أ سرح مع رائ حة الن هر‪ ،‬وح ين رأ يت رجلً يل عب طفله سولت‬
‫نفسعي لي " سعأعترض طريعق ذلك الرجعل‪ ،‬سعأعكر فرح طفله‪ ،‬إنهمعا يلعبان‬
‫بالكرة‪ ،‬يتسابقان‪ ،‬يتضاحكان‪ ،‬سأنزل من الجسر إلى النهر‪ ،‬سأشرب من مائه‪،‬‬
‫هذا القلب يبحعث ععن الموت " وفجأة تذكرتهعا تذكرت معا قالت "أنعا بانتظارك"‪،‬‬
‫فقررت العودة وأنا متصدع‪ ،‬مأكول‪ ،‬حتى قهقهت أعماقي‪:‬‬

‫‪ -‬سأفعل مع نوال شيئا مهما!‪.‬‬

‫‪- 53 -‬‬
- 54 -
‫‪-7 -‬‬

‫هاأنذا الن أسترجع في ذاكرتي قصة حياته كما حكاها لي ربما كي أشفق‬
‫على أبوته التي أشعرتني آنذاك إني ل أنتمي إليها‪ ،‬وربما كي أحسّ بشقائه وكدّه‬
‫وحرمانه‪.‬‬
‫كان يتسعلق حافلة النقعل الداخلي وهعي تسعير‪ ،‬كعي ل يدفعع ثمعن التذكرة‬
‫معرضا نفسعه للخطعر‪ ،‬وعنعد موقعف النزول كان يقذف بنفسعه على الرصعيف‬
‫ويجري بسعرعة الريعح إلى باب "جنيعن" للعمعل فعي محطعة لبيعع المحروقات‪،‬‬
‫ل جهده في أن يدخر البخشيش من أجور الضخ‪ ،‬وفي هذا كان يجمع‬ ‫ويسعى بك ّ‬
‫القرش فوق القرش‪.‬‬
‫لسيرتك وقع في قلبي مثل غيمة ل تمطر أبداً‪ ،‬الطفولة تحترق في سعيك‬
‫الدؤوب على ج مع المال بائعا للجوارب على أر صفة التلل‪ ،‬ثم دَهان ع ند معلم‬
‫ب يأ كل‬
‫أرم ني‪ ،‬فعا مل مو سمي في محالج الق طن‪ ،‬أ ستمع إلى التفا صيل بعذا ٍ‬
‫نبض قلبي والضحكة السافرة عن مجونها في هذه القصة‪ ،‬الضحكة التي يسخر‬
‫من سماعها رجال الذاكرة ال تي ل تعرف رائ حة الن هر في هذه المدي نة أن في‬
‫قصة ولدتك ما يشبه قصة ولدتي!!‪.‬‬
‫سمعت أمي تحكي لجارتها أن وحامها لم يكن على الحامض أو الحلو من‬
‫الطعام‪ ،‬كانت ورغم بساطتها في الفهم قد أغرمت على متابعة مسلسل الجذور‬
‫"كون تا كون تي" الم سلسل الذي ظ هر في أوا خر ال سبعينات‪ ،‬أي في عام ‪،1979‬‬
‫لهذا كانت سمرتي غامقة تميل إلى الصفرة‪ ،‬وأنفي كبير يشبه إلى ح ّد ما أنف‬
‫جد تي أم أ بي‪ ،‬وجد تي أم أ بي ك ما سمعتها تح كي لجارت نا أم نوري ب عد طلق‬

‫‪- 55 -‬‬
‫أ مي أن ها حاولت الجهاض غ ير مرة خش ية من أن يعيد ها زوج ها إل يه إذا كان‬
‫المولود ذكراً!‪.‬‬
‫في زاو ية ما و جد نف سه مع أ مه في مر تع من الذل لم يختره هو‪ ،‬بل‬
‫اختارته هي‪ ،‬يوم رفضت العودة وأصرت على الطلق!‬
‫وجد نفسه مع أمه في بي تٍ غير بيت أبيه‪ ،‬وعندما صار الصبي في مثل‬
‫عمري رفضته زوجة خاله‪ ،‬رفضته قائلة ‪:‬‬
‫‪ -‬الولد كبر‪ ،‬وأنا أخاف على البنات‪ ،‬تدبر أمره وأختك !!‬
‫وفي هذا تحدث أبي عن كلّ التفاصيل‪ ،‬تحدث قائلً‪:‬‬
‫" لن أ مي رف ضت الخروج تقر فص خالي على الرض وراح يف عل ك ما‬
‫تفععل النائحات بإذلل ٍ ل يمطعر إل الخوف معن التمادي بالنواح حينئذٍ قررنعا‬
‫الرح يل عن هم‪ ،‬فخرج نا‪ ،‬ورح نا نب حث عن سكن في غ ير مكان فزوج ته وبي ته‬
‫وأولده ما عادوا يرغبون بوجودي وأمي !‬
‫خرج نا نب حث عن مأوى ب ين و حل المطار والبرك ال سنة ال تي كا نت‬
‫منتشرة فعي الحواري والزقعة‪ ،‬كنعا نمشعي بهدوءٍ داخعل فراغ الهواء وصعمت‬
‫بيتع‬
‫ٍ‬ ‫الضباب بذل ٍ ل يشبعه سعوى صعورة الموت المخيعف ونحعن نسعأل ععن‬
‫يحتوينا والشياء التافهة التي كنا نحملها‪ ،‬فلم نجد غير سكونٍ لزج ٍ ينبعث من‬
‫أزقة الحارات الضيقة‪ ،‬و"بقجة" حاجات أمي وكيس الورق الكبير يخشخش مثل‬
‫أوراق ٍهشةٍ مصعفرةٍ يبسعت فعي فصعل الخريعف‪ ،‬صعوتها الن ينداح فعي قلبعي‬
‫وعقلي كما النين!‪.‬‬
‫‪ -‬أهلً بالست أم فريد‪.‬‬
‫م صادفة الت قت ب نا أم طو ني‪ ،‬ك ما كا نت تلت قي بأ مي غ ير مرة في حمام‬
‫"ق سطل الحرامعي"‪ ،‬أخذت نا مع ها إلى سعكنها فعي "براكات الر من" قرب "الخان‬
‫الحز ين"‪ ،‬وكان من ال صعب علي نا أن ن جد غر فة خال ية تحتوي نا وهذه الشياء‬
‫التاف هة‪ ،‬لول وجود هذه ال صديقة التعي تدبرت ال مر ب عد أن ر ثت على حالت نا‬
‫المزرية‪ ،‬لنها لم تنس هجرتها وحيدة من حرب" الطوشة" بعد أن فقدت زوجها‬
‫وولديهعا والتعي معا نسعيتها أبدا وكيعف تنسعاها وقعد حفرت الحزن فعي أخاديعد‬

‫‪- 56 -‬‬
‫الذاكرة؟!‪.‬‬
‫في تلك الغرفة نظرتُ بإمعان إلى السقف الخشبي بأعمدته السوداء‪ ،‬قرأتُ‬
‫من خيوط العنكبوت المعششة في الزوايا عن قصة هجرٍ وهجرة‪.‬‬

‫ح ين دخلتُع مع أ مي إلى غر فة المرأة‪ ،‬المرأة التعي لم ت صرعها حرب "‬


‫ل ش يء في ها ين ُم عن فن امرأة‬
‫ت أم عن الن ظر بالغر فة‪ ،‬كان ك ّ‬
‫الطو شة "‪ ،‬شرع ُ‬
‫تج يد الش غل بال سنارة وبالمخرز‪ ،‬و صورة العذراء وال سيد الم سيح على الرف ُ‬
‫ت على ثلث شمعداناتٍ برونزية‪ ،‬حينذاك استقر بنا الحال في‬ ‫تزينها ثلث شمعا ٍ‬
‫ل عنعد معلم دهان وقالت لي‬ ‫هذا المكان‪ ،‬بععد يوميعن تدبرت لي أم طونعي عم ً‬
‫وقتئذٍ‪:‬‬
‫‪ -‬صنعة باليد أمان من الفقر‪.‬‬
‫حينئذٍ بدأت ال صراع مع نف سي و مع الز من في إجهاد نف سي بالع مل و في‬
‫داخلي صعقي ٌع معن الذل يجثمُع على روحعي‪،‬أحاول كلمعا تقدمعت خطوة أن أتدثعر‬
‫بالدفعء الذي ُحرمعت منعه‪ ،‬أريعد أن أغطيعه لتغلب على كلّ صعنوف القهعر‬
‫والحرمان الذي ذقته في بيت خالي!"‪.‬‬
‫معن هذه القصعة‪ ،‬قصعة الطرد قبعل منتصعف الليعل‪ ،‬اسعتشرى الحقعد فعي‬
‫داخلك‪ ،‬كان ينمو في قلبك ويكبر‪ ،‬ومع تطامن هذه الجراح التي ما عرفت كيف‬
‫ل ومعن جعلتعك تنشعأ على أحقاد عالمهعا ل تفارقهعا‪ ،‬ول‬ ‫تندمعل‪ ،‬وكيعف تندم ُ‬
‫تفارقك‪ ،‬أودعت عواطف روحك في صندوق ٍمن التحجر تجاه والدك‪ ،‬فتنكرت‬
‫من ا سمه و من وجود ا سمك ح تى في دف تر العائلة‪ ،‬أل مْ تزرع في نف سك الغلّ‬
‫نحوه عند ما كا نت تقول لك ول من كان يجال سها أ نه ر فض أن يد فع لك نف قة‪ ،‬أو‬
‫أية مصاريف تتعلق برضاعتك أو بحضانة طفولتك!‪.‬‬
‫تكفل تْ هي بكل مصاريفك من شغلها على ماكينة الخياطة حتى أصبحت‬
‫قادرا على العمل‪ ،‬انتبه‪ ،‬في السن ذاتها تطالبني أن أتعلم حرفة أو صنعة‪ ،‬أنت‬
‫من أجل لقمة العيش تركت المدرسة ورحت تعمل أجيرا عند الناس‪ ،‬وأنا لجل‬
‫نقمتعك على معن لم يحتويعك وأمعك‪ ،‬ولقمعة ولدك معن صعلبك‪ ،‬كنعت تقول أنعك‬
‫تخسر!‬

‫‪- 57 -‬‬
‫أي ها الر جل‪ -‬الط فل‪ -‬صاحب عقدة أل ترى م عي ل نك ع شت محروماً‬
‫ل أماني الطفولة بأحلمها‬
‫من إنسانيتك في طفولتك تنتقم مني لشعوريا قاتلً ك ّ‬
‫البكر!‪.‬‬
‫أ نا أذ كر هذا الكلم‪ ،‬وأذ كر أيضا أ نك ك نت تر يد أن أقذف بنف سي للع مل‬
‫في مه نة‪ ،‬حر فة‪ ،‬صنعة‪ ،‬كي ت ستعين بأجري على م صروف الب يت‪ ،‬لم ي كن‬
‫يه مك ما سأكون‪ ،‬وبماذا أحلم‪ ،‬و ما هو هد في ؟؟ كان هد فك أن يشت غل غالب‪،‬‬
‫وتحققت رغبتك! فاشتغل غالب في غير مهنة أو حرفة‪ ،‬أو صنعة‪ ،‬اشتغل غالب‬
‫ل انظر إل يّ‬
‫في تعاطي الحشيش والنوم مع السكارى والهاربين من العدالة‪ ،‬تعا َ‬
‫الن‪ ،‬انظر إلى ذاكرتي‪ ،‬حاول أن توقف فتيل التوقد الحمر‪ ،‬حاول أن تضبط‬
‫أعصابك وأنت تسمع باسم منْ تعرفتُ عليه داخل السجن!!‬
‫فأ نا لم أ ستطع أن أخ في تأثري من التحول المحتوم الذي آلت إل يه نف سي‬
‫وأنا أراه يدخل " القاووش "‪ ،‬راودني شعور غريب! ولكن لماذا ضجت أصوات‬
‫السعجناء ؟ يعا لضجيعج هذا المكان!‪ ،‬مرغما أقطعع عزف القلم والروح والعقعل‬
‫وأنظعر فعي وجهعه‪ ،‬أرى الملمعح المتصعاهرة‪ ،‬المأخوذة معن اللحعم الحعي‪ ،‬هذه‬
‫المل مح شدت ني لشعوريا إلى منا صرته بدا فع من اغتبا طٍ خ في ٍ‪ ،‬ل تدري من‬
‫أين تدفأت به نفسك ؟ ول َم ؟!‪.‬‬
‫في تلك اللحظات‪ ،‬لحظات الدراك الخفي لحساس ضامر بدأ يشق رحم‬
‫الرض التي هي النفس‪ ،‬ساقتني خطواتي نحو الرجل الذي كنت أدعوه بعمي‪،‬‬
‫وسألته ‪:‬‬
‫‪ -‬تُرى ما تهمة هذا السجين الجديد؟‪.‬‬
‫وأ بو ح سن الذي كان م ستا ًء من عزل تي ع نه‪ ،‬حدق في وج هي بنظرات‬
‫حيرى‪ ،‬وبتهكم ٍ ردّ عليّ‪:‬‬
‫‪ -‬الحمد ل‪ ،‬جاء من حرّك صيام لسانك عن الكلم!‪.‬‬
‫أطر قت خجلً‪ ،‬فق بل مجيئه ك نت مضطهدا من هؤلء الغربان‪ ،‬فت ساءلت‬
‫داخل سكون روحي "هل سيفعل به هؤلء المسجونون مثلما فعلوا بي يوم دخلت‬
‫" القاووش " وقبل مجيء أبي حسن؟ "‪.‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫أ سئلة كثيرة مت سارعة متشاب كة متوج سة توافدت ثم توق فت ف صوت أ بي‬
‫حسن ينتشلني من قاعة حواراتي الصامتة قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬تعالَ‪ ،‬اجلس‪ " ،‬طرنيب ول تركس"‪.‬‬
‫لم أ كن راغبا في الل عب‪ ،‬لكن ني أمام مب سمه الودود‪ ،‬جل ست و ما إن ف تح‬
‫الورق حتى تهافت نحونا من أكره مجالستهم‪ ،‬وأنفر من وقاحة أحاديثهم ونكاتهم‬
‫التافهة ذات الكلمات المترجرجة البذيئة‪.‬‬

‫من بدا ية الل عب تذ مر أ بو ح سن وبدت غضب ته واض حة وعقدة حا جبيه‬


‫متمترسة‪ ،‬فوجدت أنه من الجدى لي أن أنسحب إلى سريري وأنا غير را ضٍ‬
‫عن خسارتنا وأصواتهم تنم ّعن كوامنهم‪.‬‬
‫من مكا ني حاولت أن اختلس الن ظر إلى و جه الزائر الجد يد و هو م ستلق‬
‫على سريره بشرو ٍد حزين ٍ!‪.‬‬
‫دققت النظر فيه وبسهوه‪ ،‬أريد أن أسأله بعض أسئلة ربما ل تشبه السئلة‬
‫ت في‬‫ال تي واجه ني ب ها هؤلء ال سجناء يوم دخلت "القاووش " ول ح تى يوم كن ُ‬
‫دار الحداث‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا تملكت ني الرغ بة في البكاء ؟‪ ،‬ولماذا تملكت ني الرغ بة في الر قص؟‬
‫ولماذا تملكت ني الرغ بة في ال صياح؟ ولماذا تملكت ني الرغ بة في نوم ٍ مضطر بٍ‬
‫قلق ٍبعد أن تركت اللعب وتمددت على سريري ؟! فهذا لنني لم أجد الجواب!!‪.‬‬
‫في ال صباح ا ستيقظنا على أ صوات جل بة غ ير عاد ية ت ساءلت والنعاس‬
‫يط بق على أجفا ني ماذا يجري؟ الشر طة في حالة ا ستنفار الكتائب في تحرك‪،‬‬
‫صعفارات النذار تصعدح‪ ،‬كعل الزنزانات يطوقهعا الضباط والحرس‪ ،‬الزمان‬
‫يتو قف‪ ،‬يته يأ الجم يع إلى معر فة الحدث الجد يد الهام‪ ،‬الحدث الذي بل بل أرجاء‬
‫السجن كافة!‬
‫تجمعنعا حول قضبان النافذة الوحيدة‪ ،‬وبيعن تجمعع الرجال وجدت نفسعي‬
‫ضئيلً ل يحت مل رائ حة عرق هم ال تي تش به رائ حة الن هر وال تي مازالت مختز نة‬
‫في ذاكرة ال نف‪ ،‬وح ين سمعتهم يقولون يبدو أن أ حد ال سجناء حاول النتحار‪،‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫اقتربت من أبي حسن وسألته‪:‬‬
‫‪ -‬هل هو الشخص نفسه الذي حاول النتحار في المطعم ؟‪.‬‬
‫بَسَمَ في وجهي بسمة خفيفة ثم أحنى رأسه من أذني وبهمس ٍ قال‪:‬‬
‫‪ -‬ل تستعجل‪ ،‬يا غالب‪ ،‬ل تستعجل‪.‬‬
‫فقرأتع زفرات السعى فعي‬
‫ُ‬ ‫التقتع عيناي فعي عينيعه‬
‫ْ‬ ‫عدتع إلى مكانعي‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجهه‪ ،‬وحتى ل أفقد ما أحسست به من ارتياح ٍ اقتربت منه وسألته‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حالك اليوم؟‬
‫‪ -‬بخير ٍ‪.‬‬

‫ض الدم‬
‫انساب صوته في قلبي مثل خرير جدول‪ ،‬وداخل خليا جسدي نب َ‬
‫فعي عروقعي دافئا‪ ،‬شعرت بدفئه فصعوته هادئ‪ ،‬نعبرته لطيفعة إحسعاس غامعض‬
‫شدنعي إلى الجلوس قربعه أرغعب فعي محاورتعه‪ ،‬مصعادقة أشجانعه‪ ،‬وأنعا فعي‬
‫مضطرب سحيق المدى مع ذكرياتي!‪.‬‬
‫كان الهدوء قد ع مّ المكان بعد هذا الصخب والضجيج ورغم رداءة الزمن‬
‫وتباطؤه فعي معرفعة أسعباب البلبلة جاءنعا الخعبر البارد الحار الرجعل لم تحتمعل‬
‫أعصابه أن يستقر حكمه على المؤبد !‪.‬‬
‫وحين تمكن من الحصول على شفرة حلقة راح يضرب بها وجهه ويديه‬
‫ل من يقترب منه‪ ،‬حتى فقد وعيه بعد أن‬ ‫في لحظة جنون وهو يصرخ مهددا ك ّ‬
‫غاص في بر كة من الدماء وح ين أغم يّ على الر جل نقلوه ب سرعة إلى المش فى‬
‫لعلجه والذي نقل الخبر قال ربما ل يعود إلى السجن بل إلى المقبرة‪ ،‬فالرجل‬
‫نزف كثيرا!!‪.‬‬
‫لم تكن الدعوة باردة فالرجل بمقامه الحصيف قال وبصوت جهوري يميل‬
‫إلى البوة‪:‬‬
‫‪ -‬تعالَ‪ ،‬صاهرنا بالطعام‪.‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫انشرح صدري من دعوة أبي حسن للسجين‪،‬وانفرجت قسمات وجهي عن‬
‫ابتسامة غبطة‪ ،‬سرّتني هذه اللفتة الكريمة سرورا عظيما فمسكته من يده وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬هيا‪ ،‬قم ْ‪ ،‬انهضْ‪.‬‬
‫كالعادة بعد الفطور جلسنا نفتش عن القمل‪ ،‬اندهش الرجل مما نفعل!‪ .‬ثم‬
‫كمن يبتلع مقصا أجاب عن سؤال أبي حسن ببحة من حزن في أسى‪:‬‬
‫‪ -‬دهستُ طفلً!‪.‬‬
‫تركت القميص من يدي وسألته‪:‬‬
‫‪ -‬كيف؟‪.‬‬
‫أجاب وهو يبلع الغصة ‪:‬‬
‫‪ -‬الم سكين كان يح مل كي سا من الخ بز‪ ،‬الشارة الضوئ ية كا نت لل سيارات‬
‫وكنت مسرعا ولم أتمكن من ضبط "الفرامل" وقبل أن تنطفئ الشارة الخضراء‬
‫كان مثل شبح ركض حول حتفه!‬

‫‪ -‬ل حول ول قوة إل بال‪ .‬قال‪ :‬أبو حسن‪.‬‬


‫حينئذ ٍ مفاتيعح النوار المشتعلة انطفأت‪ ،‬فقدت حالة التوازن التعي اتكأت‬
‫على ب عض ٍ من ا ستقرارها في نف سي فأتم نى وبل ج هر بال سباب أن أكون أ نا‬
‫ذلك الطفل المأسوف على حياته اللحظة تلك‪ ،‬وفي قهر من صمت موجع " بال‬
‫عليك أع ْد ما قلت‪ ،‬تابع رصد دقائق اللحظة الواصفة لدقائق لحظاتي السابقة يوم‬
‫نسيت "الفراطة" على رصيف الشارع‪.‬‬
‫غني على أحزاني أغنية الخبز والدم‪ ،‬ودعني أرقص على ألحانها رقصة‬
‫الموت‪ ،‬أخاف من هذه الذكرى‪ ،‬قسوتها ما تزال عالقة في شجر الروح‪ ،‬أشعر‬
‫بالنك سار‪ ،‬بالفجوة تضع ني في قلب المأ ساة‪ ،‬باللم ين ضح بالو جع‪ ،‬أ حس حالة‬
‫من الصراخ تعتريني‪ ،‬سأصرخ الن سأبكي‪ ،‬سأفعل فعلة المحكوم بالعدام "‪.‬‬
‫وأ نا في صراع على قسوة ما كان وما سيكون‪ ،‬أ سمع صوت "الباحاتي"‬
‫يشق صمت زنزانةٍ مظلمةٍ ل ش مس فيها‪ ،‬ور جل الشها مة يُغلق برتاج المروءة‬

‫‪- 61 -‬‬
‫مقاومة أحزاني قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬هيا بل كسل‪ ،‬هات الغسيل‪ ،‬ل أريد أن أتأخر على الحرمة‪.‬‬
‫لسعت أدري لماذا فعي اللحظعة تلك شعرت بالرعشعة تلو الرعشعة تخون‬
‫قو تي‪ ،‬فتمددت على الح صير قرب ال سرير أتأ مل الضوء المن سرب من فت حة‬
‫باب " القاووش " تأملت كعل الشياء‪ ،‬الوجوه تُمطعر الشقاء إل وجهعه‪ ،‬أريعد أن‬
‫أبدو أمامه رجلً عاقلً ل شابا ضعيفا‪ ،‬أريد أن أتغلب على الزمة الداخلية التي‬
‫انفجرت في داخلي كي تعيد ني إلى الدائرة ال سوداء ذات ها‪ ،‬دائرة الخ بز وق سوة‬
‫العقوبة‪ ،‬فاقتربت منه وبجرأة قلت‪:‬‬
‫ف على اسمك بعد؟‪.‬‬
‫‪ -‬لم نتعر ْ‬
‫أطفأ سيكارته وبغصص من دمعٍ محتجزٍ في العينين الذابلتين قال ‪:‬‬
‫‪ -‬وجيه عبد الوكيل الدليل‪.‬‬
‫ل شعوريا قفزت عن مكاني‪ ،‬وعقلي يردد وجيه عبد الوكيل الدليل‪ ،‬كأني‬
‫سعمعت بهذا السعم معن والدي‪ ،‬وجيعه عبعد الوكيعل الدليعل إذن أبعدونعي ععن‬
‫العقرب‪ ،‬أبعدوني عن الحرباء‪ ،‬وبانفعالٍ ل إرادي صرخت‪:‬‬
‫‪ -‬أعدْ السم الذي ذكرت‬

‫‪ -‬وجيه عبد الوكيل الدليل‪ ،‬هل في السم خطأ ما ؟‬


‫ت مثل سكران أفقدته الضربة القاضية حالة‬
‫لم أسمع ما قاله السجين‪ ،‬دخ ُ‬
‫التوازن‪ ،‬غ بت دا خل آبار من خ مر مع تق وقد يم‪ ،‬رك ضت ال سماء من حولي‪،‬‬
‫نسب أبي‪ ،‬أخوة أبي‪ ،‬أصبحت أترنح كمن بدأ يفقد وعيه فشعر بتهالكي‪ ،‬مسك‬
‫يدي وهزني ربما كي أصحو وكرر ‪:‬‬
‫‪ -‬هل هناك خطأ ما ؟ أفزعتني‪ ،‬ما بك؟‪.‬‬
‫انفجرتُ ضاحكا‪ ،‬ضحكتي تفرقع بشيء من الهستيريا وأنا أصرخ‪:‬‬
‫‪ -‬وجيه عبد الوكيل الدليل‪ ،‬وجيه‪ ،‬أخو أبي‪ ،‬أو تشابه أسماء !!‬

‫‪- 62 -‬‬
‫الرجل غضب وتجهم وجهه فصرخ في وجهي‪:‬‬
‫‪ -‬عن ماذا تتحدث ؟ ومن أخو‪ ،‬من؟ نعم اسمي وجيه عبد الوكيل الدليل‬
‫قل ما المر؟ هل هذا وقت التنكيت ؟‬
‫حين سمع السجناء بكلم السجين الجديد وهو يصرخ قل ما المر هل هذا‬
‫هو و قت التنك يت و هو مم سك بيدي‪ ،‬اندهشوا م ما يحدث‪ ،‬و من غر يب صخب‬
‫انفعالي وصوتي الذي بدا مثل جأر الثور!‪.‬‬
‫الرجال معهعم حعق! معا يقال السعاعة تلك قعد يبدو قصعة خرافيعة معن أيام‬
‫الساطير في تشابه السماء‪ ،‬بل في حقيقة وجود النسب‪ ،‬هل أناقش هؤلء؟ أم‬
‫واحدا من أبطال "الحدو تة" الحكائ ية وال تي أذهلت ني سيرتها على ل سان شمطاء‬
‫دحرت أواصر القربى و أبعدتهم عنا في مهزلة من تهويم ٍ فج ٍ ل يغادر ذاكرة‬
‫عقلي‪.‬‬
‫دعوني أضج بضحكي المجنون‪ ،‬دعوني أقرأ عليكم سيرة والدي بل سيرة‬
‫جد تي‪ ،‬ل ت ستغربوا م ما ستسمعون‪ ،‬أ نا عا قل ودق يق في ما سأعرضه علي كم‪،‬‬
‫حكا ية من حر ضت أ مي على الحرد الخ ير ابتدأت تفا صيلها تظ هر‪ ،‬تعلن عن‬
‫حقيقعة آن الوان لظهورهعا‪ ،‬نحعن معن أسعرة مولودة معن بطون العجائب‬
‫والسرار‪ ،‬ابتعدوا‪ ،‬ل أريد الشماتة‪ ،‬أريد الصغاء‪ ،‬أصيخوا السمع‪ ،‬انتبهوا إلى‬
‫معا سعتسمعون‪ ،‬ل أريعد تزويرا‪ ،‬ول أريعد سعهوا‪" ،‬ابعت‪...‬ععد وا"‪ ،‬وحاولت أن‬
‫أدور حول نفسعي حاولت أن أ قف بل خلل يض بط تواز ني‪ ،‬لكننعي وقععت على‬
‫الرض فلقعد أغمعي عليعّ‪ ،‬وحيعن فتحعت عينيعّ‪ ،‬وجدت جسعدي الواهعن على‬
‫ال سرير يبلله العرق‪ ،‬بععض الوجوه كا نت قربعي‪ ،‬فنهضعت بععد أن هدأت ثورة‬
‫جموح جنوني لجد أن في وجه السجين الجديد ملمح الدهشة والذهول فالخر‬
‫صدمه واقع نا‪ ،‬وا قع لقائ نا في زنزا نة‪ ،‬وأن ال عم أ بو ح سن حمل ني من الرض‬
‫لحظة دخل ووجدني في حالة ل تشبه إل نفسها!‪.‬‬
‫الموجوعة أمي والتي كانت ممسوسة بالليفة والصابون كانت تريد صلح‬
‫أمره معع أهله معن أبيعه‪ ،‬ليكون لولدهعا أتراب وأهعل يزوروننعا فنزورهعم‪،‬‬
‫يصاهروننا فنصاهرهم‪ ،‬لكن أسوار المرأة التي حكمت ابنها ‪ ،‬قلب الحاقدة التي‬
‫استشرى حقدها في قلبه جعلته رافضا أن يكون بينه وبينهم أي اتصال!‪.‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫‪ -‬انظر يا أبا غالب‪ ،‬أصبحنا أنا وعمي (أخوك من أبيك) أسطورة زمن ل‬
‫يصدق فيه مثل هذا النوع من الواقع!!‪.‬‬
‫المت هم الحقي قي خارج أ سوار الغرف ذات الجدران الحديد ية‪ ،‬والمضط هد‬
‫الذي أدمن على رؤية الشجار والحرد والتسكع في الشوارع والمطرود بل هوية‬
‫من أب ل يعترف بوجوده‪ ،‬والذي و جد نف سه من معاشرة الكبار الهارب ين من‬
‫العدالة داخل هذه القضبان محكوم عليه مع محكومين تعددت جناياتهم!‪.‬‬
‫‪ -‬أيها القاضي الجليل‪ ،‬كم عاما ستحكم عليّ؟‪.‬‬
‫عدْ معي إلى منزلنا‪ ،‬تذكر حاد ثة " العدس بحامض "‪ ،‬ارسم بدقة تفاصيل‬
‫ذلك الرجل الذي تكرر خروجه وسهره حتى وجه الفجر‪ ،‬ارسم ما اعترانا‪ ،‬ل‬
‫تع جب ول تن كر الحقي قة‪ ،‬الحقي قة ال تي تش به اللع نة على شارب الخ مر وبائع ها‬
‫وشاريها وناظرها ونحن كنا ننظر إلى الرقام نتابع الدواليب بدقة‪ ،‬حتى صرنا‬
‫نحلم برؤية الرقام في المنام كما كان يقول هو عن أحلمه‪ ،‬ونحن كنا نتراهن‬
‫لن نا ك نا نحلم بالرقام مثله‪،‬إذن ك نا نلعب القمار معه‪ ،‬لم ي كن لعبا بالورق فوق‬
‫طاولة معع شلة معن المقامريعن‪ ،‬كان لعبا معن نموذج ٍ خاص ٍ‪ ،‬نموذج ابتكره‬
‫سمسار شركاؤه ملوك "البزنس "‪.‬‬
‫في المقهى وحيث كان يجلس زعيم ميسر السرعة‪ ،‬زعيم البتكار الجديد‪،‬‬
‫والذي كان يمتاز بخصعوصية السعاسة المروجيعن‪ ،‬خمعن‪ ،‬أو اختعر‪ ،‬أو حتعى‬
‫احلم!‪.‬‬
‫م ساء كل ثلثاء ك نا كالمأجور ين أمام الشا شة ب عد أن تقم صنا شخوص‬
‫الكهنة والعرافين‪ ،‬نتصايح‪ ،‬نصرخ بدعاء فيه رجاء الصغار‪،‬أو حتى الكبار إلى‬
‫ال‪ " ،‬يا رب‪ ...‬آ‪ ...‬على هذا الر قم " والجدة‪ ،‬وال تي كا نت عينا ها م ثل عي ني‬
‫ضب ٍ واق فٍ على صخرة جاثية يرتقب فريسته‪ ،‬كانت تنهض من مكانها حين‬
‫تقف الدواليب الخيرة على واحدٍ من أرقام الرهان لتحدق النظر في الرقم على‬
‫الشاشة وقد أحنت ظهرها وفتحت عينيها !‪.‬‬
‫وهذه المم سوسة بالتنظ يف أ مي وال تي كا نت ل تعرف عن تفا صيل هذه‬
‫اللع بة ما قد بدأ نا نعر فه ن حن ال صغار‪ ،‬فذلك لن ها كا نت على ث قة تامة من أن‬
‫آراءها معتقلة‪ ،‬ولنها كانت ل تخرج من مطبخها حتى ينام الجميع‪ ،‬وأنا بحكم‬

‫‪- 64 -‬‬
‫يقظتي الذهنية وبحكم فراستي النشطة كنت قد حفظتها عن ظهر قلب وحفظت‬
‫اسمها رغم صعلكة حروفها‪ ،‬من حديثه مع أبي "ميشيل" عرفت طريقة الرهان‪،‬‬
‫والذي جعلني أنا الخر أفكر باللعب بها وأحلم بشراء سيارة حديثة‪ ،‬وبالجلوس‬
‫في م حل أمل كه في شارع "العزيز ية" ل حي "الميدان"‪ ،‬ح تى حل مت أيضا بأن‬
‫التي ستعمل عندي هي زنبقة الحي(كاترين) فقد تفيدني في كسب الزبائن‪ ،‬هكذا‬
‫أصبحت أفكر وأحلم !‪.‬‬
‫ما تحصل عليه سبعة أضعاف المبلغ الذي ُتقامر عليه عن طريق سمسار‬
‫اليانصعيب‪ ،‬فقعط قامعر باختيارك رقميعن تدفعع عليهمعا المبلغ الذي يبدأ بخمعس‬
‫وعشرين ليرة أ و ضعفه أو الضعف ين وهكذا‪ ،‬إذن الم سألة سهلة ول تحتاج إلى‬
‫تعقي ٍد !‪.‬‬
‫وح ين ف كر أن يرا هن على عد ٍد كبير من الرقام ب عد أن و ضع في يد‬
‫السعمسار كلّ رأسعماله النقدي‪ ،‬والذي ادخره لشراء بضاععة فعي موسعم العيعد‪،‬‬
‫أصابته الضربة القاضية‪ ،‬الضربة التي تفحمت عليها ملمحه فانزوى كئيبا يلعن‬
‫ح ظه‪ ،‬ولول الع يب لف عل مثل ما تف عل ب عض الن ساء في أحزان ها‪ ،‬كا نت الضر بة‬
‫الخيرة مدمرة‪ ،‬عر ته من كل ما يملك فأ صبح على الحد يد سوى من ب عض‬
‫أشياء ظلت على رفوف المحل والتي ل تعطي غير ثمن الخبز!‪.‬‬
‫في هذه الفترة من هذه المرحلة‪ ،‬مرحلة الخسارة والنزواء‪ ،‬جاءته تمشي‬
‫الهوي نى‪ ،‬وجدت هذه الظروف فر صة موات ية‪ ،‬وح ين رآ ها قاد مة ن حو الم حل‬
‫أسرع نحوها‪ ،‬مسكها من يدها وسألها بلهفة‪:‬‬
‫‪ -‬خير يا أمي‪ ،‬ماالذي أتى بك إلى هنا ؟ لمَ ل ْم تذهبي إلى البيت؟‪.‬‬
‫أجابت مثل شرطي سجن غاضب‪:‬‬

‫‪ -‬ل وألف نبي‪ ،‬يكفينا ما حصل‪ ،‬صرنا حكاية في لسان الناس!‪.‬‬


‫وكأنه كان يفكر كثيرا في مصيرنا قال ‪:‬‬
‫‪ -‬وال ما كاسر ظهري غير الولد‪.‬‬

‫‪- 65 -‬‬
‫أجابته بسرعة‪:‬‬
‫‪ -‬يعني وجودها مثل عدمه‪ ،‬دور على شبابك‪ ،‬مصلحتك أهم‪ ،‬بنت خالك‬
‫صارت أرملة‪ ،‬وزوجها خلّف لها دارين وسيارة‪ ،‬أنت أحق من الغريب!!‪.‬‬
‫كنت واقفا قرب الباب أسمع الحديث وأراقب‪ ،‬ولن أنسى كيف برقت عينا‬
‫ت أن ل حم ج سدي قد تخ شب‪ ،‬وك يف تخيل تُ نف سي ماردا‬‫والدي‪ ،‬وك يف شعر ُ‬
‫استطالت أظافره وقبض على عنقها وراح ينهشه كما تفعل النسور بالطريدة!!‬
‫معا تقوليعن أيتهعا العجوز المخربعة " أنعت أحعق معن الغريعب‪ ،‬بنعت خالك‬
‫أصبحت أرملة‪ ،‬أنت أحق من الغريب "!‪.‬‬
‫هل اندفنت مودّة الجسد؟ وخلفت جدارا مخيفا للنفصال وبجراءة ووقاحة‬
‫حين رأيته وكاترين‪ ،‬يسرني بعواطفه قائلً جملته الملعونة "أنا وأمك تآخينا "!!‪.‬‬
‫يتركني وحيدا أعيد في ذاكرتي ما سمعت‪ ،‬ويمضي معها إلى بيت بنت‬
‫خاله‪ ،‬وك نت ما أزال أف كر في الب حث عن عراف ليشرح لي ما مع نى كل مة‬
‫التآخعي ب ين زوجيعن منعذ أن تفوه بهذه الجملة ؟ فأ نا لم ْع أف هم شيئا! لنعي كنعت‬
‫مراهقا‪ ،‬ومنغم سا في الحواري ش به الخال ية من أفواج الخلئق البشر ية‪ ،‬رائ حة‬
‫النهر ل تغادر ذاكرتي فأغني‪ ،‬وأمي تطلق صياحها كالدجاجة من الديك الغريب‬
‫الذي بدا لها متوحشا‪ ،‬حين حلق ذقنه وسكب ماء صابون الحلقة على الرض‪،‬‬
‫ودخل يلبس ملبسه وهو يصفر ويدندن !‪.‬‬
‫الشيطان يض حك في سراديبه والر جل يغ ني‪ ،‬ت صاهر وإبل يس واكتملت‬
‫نصعف الحكايعة‪ ،‬والنصعف الخعر المتعلق بالمرأة‪ ،‬المرأة الصعامتة الممسعوسة‬
‫بالليفعة والصعابون والتعي تحزمعت أخيرا بالجرأة بععد أن طاش صعوابها والتعي‬
‫صرخت بملء وجع ها‪ - :‬ل مَ فعلت هذا؟‪ ،‬لم ي عد صبرها ك ما كان‪ ،‬وبأع صاب‬
‫باردة يستدير نحوها‪ ،‬وكأنه لم يفعل شيئا يحدق في وجهها مستغربا من سؤالها‪،‬‬
‫وبنظرة تعني الكثير من اللمبالة يصفر ويدندن مرة أخرى‪ ،‬فتزعق‪:‬‬

‫‪ -‬طلقني‪ ،‬ما عدت أحتملك!‪.‬‬


‫الر جل الذي يخ شى ال‪ ،‬بَ سَ َم على دحر جة مشاعر ها الم سحوقة بَ سَمَ ب عد‬

‫‪- 66 -‬‬
‫أن ترجعل ععن مروءة الرجال‪ ،‬وخرج إلى زمنعه الذي بدأ‪ ،‬تاركا خلف ظهره‬
‫وجها ذابلً‪ ،‬وأطفالً باهتين!!‬
‫أره قت عينيّع وعقلي وقلبعي وأنعا أقرأ تفاصعيل الحرد كمعا فعي كلّ مرةٍ‪،‬‬
‫صورتها وهي تطوي "بقجة" حاجاتها‪ ،‬وقد بدت مرهقة وهي تحملها‪ ،‬لتقول ما‬
‫لم تقله من قبل حين تطلق رصاص الحقد ‪:‬‬
‫‪ -‬ال ينتقم منك يا بن الحرام!‪.‬‬

‫‪- 67 -‬‬
‫‪-8-‬‬

‫أخيرا تركتِع البيعت أمعي‪ ،‬وبقيعت وحدي معع أخوتعي‪ ،‬هعل كان قدرنعا أن‬
‫ل يوم جمععة ؟! على كلّ حال لم أكترث لخروجهعا ولم أشععر‬ ‫نشاهعد الشجار ك ّ‬
‫بالحزن والسعف على رحيلهعا‪ ،‬بدا إحسعاسي غريبا‪ ،‬يبدو أنعي معا عدت أفكعر‬
‫سوى بنفسي!‬
‫شممت رائحة كرائحة النهر حطت على جدران بيتنا فخرجت إلى الشرفة‪،‬‬
‫وقفت بضع دقائق ثم تسلقت على السطح‪ ،‬ألقيت نظرة خاطفة على كلّ المباني‬
‫وال سطوح‪ ،‬ثم أ سندت بظهري على حائط مدخ نة كا نت في يوم م ضى صديقة‬
‫أنس ٍ‪ ،‬وجلست مقرفصا تُمطرني أسئلة حارقة الصدى !‪.‬‬
‫في هذا الز من من ذلك اليوم شعرت بحا جة ما سة إلى البكاء رب ما على‬
‫نفسي‪ ،‬الدموع المحتبسة أسبغت على حزني ضيقا وأرهقتني أهو ثمن الصمت‬
‫على الصداقة التي تعاهدنا عليها ؟‪.‬‬
‫أ مْ هو من ذلك العتراف المائع الذي سقط في نف سي راكدا "أ نا وأ مك‬
‫تآخينا‪ ،‬ما عادت تنفعني"!‪.‬‬
‫حيعن تذكرت هذه الجملة قرععت فعي داخلي طبول الذععر معن المجهول‬
‫القادم‪ ،‬أنا أحقد على أمي ل أحبها‪ ،‬لنها خلقت في نفسي نحوها صمت الظلم‬
‫من اليوم الذي أف شت ف يه ب سر علق تي مع نوال وت سببت بأذ ية مشا عر جارت نا‬
‫يوم طردتها!‪.‬‬
‫أغمضعت عينيعّ‪ ،‬ل أريعد الضوء‪ ،‬العالم صعغير وجاف وممتقعع اللوان‪،‬‬

‫‪- 68 -‬‬
‫الكرة الرض ية تط بق على نف سها‪ ،‬تم سح سمات الب شر‪ ،‬أق فز عن مكا ني فزعا‬
‫مثل فزاعة خوفتها الريح فسقطت‪ ،‬لحظة ألقت جرادة كبيرة بنفسها على جيب‬
‫قميصي فوق صدري‪ ،‬في اللحظة تلك شعرت بالخوف فقلت ‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي ماذا أفعل؟!‪.‬‬
‫تمال كت أع صابي وتمل كت ربا طة جأ شي وبحرك ٍة ما من ع صا صغيرة‬
‫كانت بقربي حملتها‪ ،‬أزحتها بها‪ ،‬فتنحت عن الجيب‪ ،‬و طارت تاركة خلفها قلبا‬
‫يخفق بشدةٍ‪.‬‬
‫ت حر ية من خروج أ مي أ صبح‬ ‫ت من صمت الظلم‪ ،‬ا ستشعر ُ‬ ‫فجأة تحلل ُ‬
‫الجو ملكي‪ ،‬جو اللقاءات السرية‪ ،‬سأفعل ما أريد مع نوال سأغفو وأستيقظ على‬
‫لذيذ حبي‪ ،‬سأدفن شقاء نفسي على صدرها‪ ،‬لن أخاف من شكاوي أمي إلى أبي‬
‫وتشويش ها على جارت نا‪ ،‬ولن تكون هناك سطوة من أ بي على سلوكي مع من‬
‫أحب وأمني النفس بلقائها أصبحنا أنا وهو أحرارا‪ ،‬ونحن أصدقاء‪ ،‬ألم نتفق ؟!‪،‬‬
‫يا سلم ما أجمل أن تكون حرا‪ ،‬لست أدري لماذا راودني هذا الشعور ؟!‪.‬‬
‫ت وحين رأيت انبثقت‬ ‫حين نزلت أزعجني أن أرى دموع أخوتي تنسل بصم ٍ‬
‫من قل بي عاط فة حنان‪ ،‬حملت مازن ال صغير‪ ،‬قبل ته أجل سته في حض ني‪ ،‬راود ني‬
‫شعور غر يب في أ ني سأفتقده‪ ،‬بل سنفتقده جميعا فأح سست برعدة الخوف عل يه‬
‫وكانت نابعة من حبي له‪" ،‬تُرى ما مصير ذلك العصفور المكسور الجناح؟!"‬
‫في هذا اليوم المقيت لم أفكر بالخروج‪ ،‬ولم أفكر بعمل أي شيء حتى هو‬
‫لم يفكعر فعي دعوتعي إلى اللحاق بعه‪ ،‬فقررت أن أعيعش فترة اسعتراحة خاصعة‪،‬‬
‫سأحاول النوم ولن يكون هناك ما يع كر صفو الن فس ال تي بدأت تش عر بالحر ية‬
‫من عدم وجود الن كد وال صياح والشجار وكل مة ل تدوس ه نا‪ ،‬ال بس ال صندل‪،‬‬
‫اغ سل يد يك ورجل يك‪ ،‬ن شف يد يك بهذه ورجل يك بتلك‪،‬الخوة هادئون‪ ،‬وفريدة‬
‫كالملك ل تحدث ضجيجا‪،‬إذن أصبحت سيد هذا المكان والزمان لهذا قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا سأنام ل أريد أصواتا‪ ،‬أفهمتم؟!‪.‬‬
‫فوق الصمت لذ الجميع بالصمت‪ ،‬وما إن وضعت رأسي على "المخدة "‬
‫حتى رحت في سابع نومة كما يقولون!‬
‫بعد الظهر ر نّ الجرس‪ ،‬كن تُ قد استيقظت‪ ،‬فتح الباب أخي ناجي‪ ،‬كانت‬

‫‪- 69 -‬‬
‫هي‪ ،‬عجوز المقت تزحلقت نحونا فقلت في نفسي من دون أن أنظر في وجهها‪،‬‬
‫هذه المسيطرة ستجد مال كانت تحلم به!‬
‫ا ستقر في ح سي أ ني سأداعبها كثيرا كي تجترع اللم الذي ت ستحق "أ نت‬
‫أحق من الغريب"‪.‬‬
‫المتشد قة بألقاب "ال ستات"‪ " ،‬ستات" ال سهر والثرثرة وض عت حاجات ها في‬
‫خزانة أمي وراحت تتزين بالمرود قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬الكحل العربي مع الليمون يفيد جفون العيون‪.‬‬
‫ل عن‬
‫قالت هذا‪ ،‬واستقر وضعها على البقاء معنا ترعى شؤون البيت كبدي ٍ‬
‫أمي‪ ،‬ولن العيون الدامعة أصابها الحمرار من شدة البكاء فقد خيّم على أخوتي‬
‫تردد العويل في أعماقهم داخل هاوية النحيب المغلق!‪.‬‬
‫وبدأت عذابات ال صغار ت كبر ومعانات هم تظ هر‪ ،‬فأ خي مازن الذي صار‬
‫عمره ثلث سنوات تعلق بجدتي‪ ،‬بعد أن نسي ترديده كلمة "بدي ماما"‪ ،‬وأختي‬
‫فريدة أ صبحت تقوم بأعمال أ مي‪ ،‬ما عدا ط بخ الطعام ف قد تول ته جد تي بمعو نة‬
‫جارت نا أم نوري‪ ،‬وأخواي رضوان ونا جي أ صبحا مهمل ين لدر جة تج عل جد تي‬
‫تترك البيت وتنزل إلى الجيران كي تفضفض عن وحدتها وهموم مسئوليتها إلى‬
‫الجارة أم نوري‪ ،‬أو الجارة أم فت حي المقابلة لب يت أم نوري‪ ،‬وكثيرا ما سمعتها‬
‫تبدي ا ستيا ًء من مقابلة أم فت حي ل ها بجفا ٍء ذلك أن المرأة ته تم بتعل يم أولد ها‪،‬‬
‫وتتابع تفوقهم الدراسي بفخر أمام جاراتها‪ ،‬وفتحي وهو كبير أولدها‪ ،‬كان قد‬
‫صار في ال صف التا سع العدادي‪ ،‬وأ نا قد أ صبحت أملك شهادة احتراف في‬
‫معرفتي لشوارع حلب العريضة وحاراتها الضيقة !‬
‫حيعن أذكعر ذلك اليوم المشؤوم‪ ،‬أذكعر كعم كرهعت والدي وجدتعي‪ ،‬وكعم‬
‫حقدت على أمعي !! نععم حقدت على أمعي حقدا عظيما‪ ،‬أنعا أختصعر الزمعن‪،‬‬
‫أختصر التفاصيل‪ ،‬فالتفاصيل بالنسبة لي قشور لحظة‪ ،‬حجة واهية لتبرير الكثير‬
‫من الشياء وأ نا ل أر يد ال تبرير‪ ،‬أر يد ت سليط الضوء على جو هر الشياء وإن‬
‫كا نت مظل مة‪ ،‬فالضوء كان مجرد كذ بة خد عة من أ صحاب ال صناعات‪ ،‬الم هم‬
‫اقتربعت معن وجهعه‪ ،‬تفحصعته شعور طاغ أقحمنعي فعي بكاء كمعا النسعوة معن‬
‫الجيران‪ ،‬وح ين و صله ال خبر‪ ،‬خبر موت مازن‪ ،‬د خل يل هث‪ ،‬وح ين ن ظر في‬
‫ت عالٍ وضرب بكعف يده‬ ‫وجهعه وشاهعد الجسعد الصعغير المسعجى بكعى بصعو ٍ‬

‫‪- 70 -‬‬
‫ل الملمة‪ ،‬استشعرت‬‫رأسه‪ ،‬ثم راح يصرخ في وجه أمه‪ ،‬يلقي بالملمة عليها ك ّ‬
‫في هذه اللحظة كراهية و أحسست بالغربة " هذا ما كنت تريده أنت وأمك "؟‪.‬‬
‫يحق لي الن أن أتفلسف‪ ،‬ولني أريد الفلسفة اسمحوا لي أن أقول لكم أن‬
‫من صنائع ال ستبداد أن يموت الطفال! وهذا آ خر العنقود ي سقط صريع فراق‬
‫زوجين لم يجمع بينهما الو ّد والتسامح والصبر على بعضهما !!‪.‬‬
‫كان الباب مفتوحا وحين أراد ذلك الطير الصغير أن يلحق بجدته إلى بيت‬
‫أم نوري تع ثر على الدرج ف سقط على رأ سه لي صيبه ك سر في الجمج مة جعله‬
‫يموت في الحال‪.‬‬
‫كنتع عنعد السعمان أشتري دخانا‪ ،‬لم يخط ْر فعي بالي أنعي‬
‫ُ‬ ‫حيعن وقعع الحادث‬
‫سأركض مثل المجنون لجد أصغر إخوتي ابن الثلث سنوات مصبوغا برائحة الدم!‪.‬‬
‫فعي الطريعق إلى المقعبرة وبععد أن غسعلوه وكفنوه انهمرت معن ثقوب قلبعي‬
‫ع غزيرٌة وأنا أذكر ملمحه البريئة وصوته الحزين "بدي ماما " أو لنعترف أنه‬
‫دمو ٌ‬
‫في الفترة الخيرة صار يقول " نانا تش" معبرا عن رغبته في الخروج معها!!‬
‫ت من الخوف والنقباض وأنا أقف مرتعشا‪،‬‬ ‫أعارني الدفن أن أعيش لحظا ٍ‬
‫موتع وكفعن ٍ؟ أم خوفا معن ذلك‬
‫ٍ‬ ‫هعل كان خوفا معن القبور؟ أم خوفا معن كلمعة‬
‫الشعور الذي راودني من تلك اليد الغائبة الن‪ ،‬والتي خاطت الكفن لعمتها قبل‬
‫ت ما سمعها‬‫طلقها بشهرين!‪ ،‬كنت معها وكانت وهي تخيط الكفن تدمدم بكلما ٍ‬
‫أحدٌ ول سمعتها أنا!‪.‬‬
‫قرب قبره ناديتها قائلً ‪:‬‬
‫ت لّف أخعي‬
‫غليظع القسعما ِ‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬انظري هاهعم يضعونعه تحعت التراب‪ ،‬رجلٌ‬
‫بالكفعن‪ ،‬وضعوا القطعن على عينيعه وأذنيعه‪،‬أل تريديعن رؤيعة ولدك المقتول‬
‫والمدفون الن! مازن رحل‪،‬غادرنا بل رجعة ودون حضورك!‬
‫سأشتري الض حك عل يك ب ما تب قى من عمري لراك ف قط وأ نت تشهق ين‪،‬‬
‫تشدين شعرك‪ ،‬تقعين‪ ،‬تحاولين الخروج والجري نحو المقبرة وقد أصاب عقلك‬
‫س من الجنون وأنت تنبشين القبر لضمه إلى صدرك كما فعلت جدتي قبل لفه‬‫م ٌ‬
‫بالكفن!!‬

‫‪- 71 -‬‬
‫أسبوع مضى على موت أخي مازن وأخوتي مأزومون تفرج عن كربتهم‬
‫هذه الحولّء البدينة التي ما عادت تفارقنا فقد وجدت من توافق مع طباعها في‬
‫التزاور والثرثرة التافهة في سرد ما لم تنفرد به نفسها‪.‬‬
‫وأ نا بح كم علق تي مع نوال وال تي لم تنق طع كان من ال طبيعي أن أنت هز‬
‫فرصة هذه الموّدة بين جارتنا وجدتي كي أحقق منالي من لقاءات الحب والتلذذ‪.‬‬
‫س أن‬
‫ولكن ماذا ح صل مع أ بي في م سألة ب نت خاله الرملة ؟ فأ نا لم أن َ‬
‫أتلصص ليلً وأفتح أذن يّ جيدا للتقط ما يهمني أن ألتقطه ففي ذات ليلة ماطرة‬
‫ي ما أراح ذاكرتي التي أجهدها التفكير في هذا الموضوع ‪:‬‬ ‫التقطت أذن ّ‬
‫‪ -‬بنت خالك رافضة الزواج‪ ،‬قال نذرت نفسها للولد‪.‬‬
‫حينذاك ابتسعمتُ خلسعة وأنعا أراه ينسعحب إلى فراشعه مقطعب الحاجعبين‬
‫عابس الوجه لغرق في نوم ٍ مريح ٍ ومريح جدا‪.‬‬
‫فريدة يا أخي تي لن تفلح زفرا تك الحزي نة في إقنا عه على زيارة ما ما من‬
‫أجل عودتها‪ ،‬أل تشاهدين حبكة ما تصنعه جدتك؟‪ ،‬قلت هذا في سري وغادرت‬
‫البيت صباح اليوم التالي!‬
‫في قنو طٍ حاول نا التأقلم مع هذا الوا قع المفروض علي نا وكا نت الوشي جة‬
‫التي تشدني إلى السكوت على ما حصل بينه وبين أمي أنه تركني أعيش حرا‬
‫بل رقي بٍ‪ ،‬وبل محاسبة أقضي له بعض أشياء للمحل‪ ،‬ثم أعكف على الدروب‬
‫المتعر جة مع رفا قي نزور الحدائق‪ ،‬كلّ الحدائق أ صبحت تعرف ني‪ ،‬وأ صبحت‬
‫أعرفهعا‪ ،‬ولكعن إلى أي حدّ تبلغ بعي السععادة فرحهعا الذي ضيععت معن أجله‬
‫مستقبلي؟‪.‬‬
‫ارتجيت من اليام أن تمضي على هذا النمط من الحياة لك نّ رنين جرس‬
‫الباب الذي أفزع الجم يع‪ ،‬والذي كان م ثل نع يق بو مة ب صقت بح تف الفرح ثم‬
‫توارت‪ ،‬كان نذير شؤم!‬
‫فتعح الباب أخعي رضوان‪ ،‬ودخلت جارتنعا أم نوري‪ ،‬دخلت على غيعر‬
‫ي أنا بالذات وأنا أرى وجهها كأني أرى وجها لممثلة في فيلم‬
‫ل إل ّ‬
‫عهدنا بها‪ ،‬خي ّ‬
‫رعب أخافني شكله‪ ،‬كانت مصفرة الوجه معقودة اللسان‪ ،‬منكوشة الشعر‪ ،‬وأول‬
‫من استقبل وجلها واضطرابها الذي أذعر الجميع والدي فسألها‪:‬‬

‫‪- 72 -‬‬
‫‪ -‬خير يا جارة‪ ،‬خير ما المر؟‬
‫بلعت ريقها ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬تعيش أنت!‪.‬‬
‫قذ فت بالكل مة بتحشرج جعلت قلوب نا تد مع ق بل أعين نا‪ ،‬بدا ية ال مر ح سبنا‬
‫أن من توفي زوجها‪ ،‬وحين استردت أنفاسها بعد أن جلست على الريكة عرفنا‬
‫أن المتوفى جارنا في الطابق الثالث!!‬
‫وكأني مازلت صغيرا في عمر رضوان ابن العشر سنوات اقتربت منها‬
‫وسألتها‪:‬‬
‫‪ -‬كيف مات؟‬
‫تنهدت ووجه ها الممت قع أثار خو في أك ثر من أي و قت م ضى‪ ،‬وب عد أن‬
‫بلعت ريقها مرة أخرى قالت‪:‬‬
‫‪ -‬جلطة على القلب!‪.‬‬
‫قالتها ومسحت دمعة انسلت من عينها‪ ،‬فلم أتردد في أن أسأل ثانية‪:‬‬
‫‪ -‬هل سيضعونه داخل التراب مثل أخي مازن؟‪.‬‬
‫أجابتني وغصص من الدموع تكاثفت في عينيها ثم هطلت‪:‬‬
‫‪ -‬كلنا لها‪ ،‬آه ال يرحمك يا أبو محمد !‪.‬‬
‫ح ين تذ كر والدي و جه الر جل‪ ،‬جلس أمام ها ي سأل كم عمره‪ ،‬و هل عنده‬
‫أولد‪ ،‬و هل كان منزعجا ح تى أ صابته الجل طة ؟ ثم وبهدو ٍء ا ستدار نحوي ب عد‬
‫ت وقال ‪:‬‬ ‫أن عرف بعض التفاصيل التي شغلت ذهنه بعض وق ٍ‬
‫‪ " -‬الجار له على الجار حتى ولو جار"‪ ،‬اذهب إلى المحل ول تخرج حتى‬
‫أحضر!‬
‫لن أنكرَ أن حالة ً ما قد غزت حا ستي‪ ،‬أث قل قوله هذا كاهلي لماذا ل ست‬
‫غامضع سعاق‬
‫ٌ‬ ‫أدري ؟! المهعم أنعي خرجعت‪ ،‬لم أقصعدْ طريعق المحعل‪ ،‬شعو ٌر‬
‫خطواتي نحو مكان آخر فقصدتُ طريق المقبرة‪ ،‬مقبرة "ميسلون"‪ ،‬زرت قبره‪،‬‬

‫‪- 73 -‬‬
‫ألق يت بقائ مة أحزا ني ع ند شاهدة رأ سه من دون أن أب كي‪ ،‬وعدت إلى وظيف تي‬
‫التعي أعمعل فيهعا بل أجعر‪ ،‬لنعي آنذاك قعد اعتدت أن أمدّ يدي وقتمعا يحلو لي‪،‬‬
‫منتظرا مجيئه‪.‬‬
‫كل ما شم مت رائ حة الن هر تجري في ذاكر تي ت ساورني نف سي في أن أمدَ‬
‫يدي إلى درج الغلة‪ ،‬آخذ ما يفي بحاجتي ثم أغادر حين يحضر!‪.‬‬
‫بعد خمسة أيام ٍ من وفاة جارنا الذي ل أعرفه لني لم ألتق به‪ ،‬كبر تعبير‬
‫الحتقار مقتا في دوائر رو حي وعقلي وأدر كت حينئ ٍذ أ ني لو أ ستطيع ق تل أحدٍ‬
‫أو سعرقته لمعا وجدت غيعر أبعي وجدتعي‪ ،‬حاولت فعي تسعكعي أن أنسعى بععض‬
‫الو قت أجاج الغليان الم ستشيط لع نة ورج مة في تلف يف ذاكر تي فجد تي مح طة‬
‫الوصعاف السعحرية جعلت الصعنّارة تغمعز‪ ،‬ففعي المسعاء كانعت تجلس قربعه‬
‫وتسعهب فعي وصعف الرملة معن ناحيعة شكلهعا وحسعن خلقهعا وصعبرها على‬
‫محنت ها‪ ،‬و ما ا ستلفت انتبا هي ب عد عدّة الرملة و هي أرب عة شهور وعشرة أيام‬
‫هذا التزاور وتلك السهرات التي كانت تطول إلى ما بعد منتصف الليل‪ ،‬فالرجل‬
‫طلب يد الرملة وأصبحت خطيبته من دون علمنا‪.‬‬
‫حين علمت من نوال بسر هذه السهرات لم أن ْم في تلك الليلة أصابني ما‬
‫يصيب أهل الغابة من خسوف القمر‪ ،‬فجلست أنتظر عودتهم وأنا أدخن‪ ،‬كنت‬
‫أدخعن السعكائر بنهعم غيعر طعبيعي‪ ،‬فالجراح المتغلغلة فعي صعدر المغلوب على‬
‫أمره كانعت تجعلنعي أنزف بسعكون داخلي‪ ،‬وحيعن تأخعر الوقعت ولم يحضروا‪،‬‬
‫خرجعت معن المنزل ورحعت أمشعي فعي الشوارع المسعتقيمة والمنكسعرة‪ ،‬حتعى‬
‫وصلت ساحة "سعد ال الجابري"‪.‬‬
‫عيف تارة وتارة‬
‫عة بدأت ألف وأدور‪ ،‬أجلس على الرصع‬‫عي تلك المنطقع‬
‫فع‬
‫أخرى أتجول حتى وجدت نفسي داخل سيارة جيب سارت بي مع خمسة أولد‪،‬‬
‫ثلثة منهم في مثل عمري والرابع أكبر‪ ،‬والخامس أصغر‪.‬‬
‫في القسم سألني الضابط المناوب ‪:‬‬
‫‪ -‬اسمك؟‬
‫‪ -‬غالب عبد الوكيل الدليل‪.‬‬
‫‪ -‬أين تسكن ؟‬

‫‪- 74 -‬‬
‫‪ -‬في حي الميدان‬
‫‪ -‬أين؟‬
‫‪ -‬قرب دار العجزة‬
‫‪ -‬هل تعمل ؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أعمل مع والدي‪.‬‬
‫‪ -‬ما عمل والدك ؟‬
‫‪ -‬صاحب محل‪.‬‬
‫أصلحت من جلوسي وملت برأسي نحو السفل وسألت نفسي ‪" :‬هل كان من‬
‫ي أن أكذب عليه‪ ،‬كي ل أتورط بإضافة دائن جديد على دفتر أبي؟ "‪.‬‬
‫المفروض عل ّ‬
‫حين استدّل رجال الشرطة على مكان المحل وأخبروا والدي بوجودي في‬
‫ق سم باب الفرج ر فض التعرف عل يّ وأ خبرهم أ ني لص أ سرق الغلة وأت سبب‬
‫بفضائح مع بنت الجيران‪ ،‬وهؤلء الذين عادوا وفي أيديهم هدايا للبيت وللولد‬
‫كتبوا فعي المحضعر أن الوالد يتهعم ولده بالسعرقة لجعد نفسعي مسعاء ذلك اليوم‬
‫الماطر سوادا في دار الحداث !!!‪.‬‬
‫ثل ثة شهور قضيت ها في الدار‪ ،‬تعل مت في ها الشياء الكثيرة وشاهدت في ها‬
‫الشياء الكثيرة‪ ،‬وحف ظت في ها الوجوه البائ سة واليائ سة من الدن يا وح ين زار نا‬
‫المر شد الجتما عي ل فت انتبا هه بر يق عين يّ‪ ،‬وح ين أزعج ته ضحك تي النافرة‬
‫طلب ني إلى غر فة الملح ظة‪ ،‬وح ين سألني ال سئلة ال تي ذكرت‪ ،‬وح ين ات صل‬
‫بوالدي وأقنععه بضرورة التخلي ععن شكواه واتهامعه خشيعة معن تأزم الموقعف‬
‫أكثر‪ ،‬وحين تنازل الوالد عن حقه جاء لزيارتي وهنأني على خروجي وطالبني‬
‫ل لي‪:‬‬ ‫في البحث عن عمل ٍ حسب ميولي قائ ً‬
‫‪ -‬أ نت ولد حاذق‪ ،‬نظ يف الع قل وتحتاج إلى ش غل نف سك ب ما يتنا سب مع‬
‫امتيازاتك‪ ،‬مدير الدار يشكر فيك نباهتك في تعلم صنعة النجارة بزمن ٍ أدهش‬
‫معلم الحرفة الذي يعمل لصالح الدار‪ ،‬وهذا كله دليل شطارتك وعليك أل تفوت‬
‫الفرصة ولسوف أزور أبيك كي أسأل عنك لطمئن أن وساطتي ونظرتي كانت‬
‫في محلها‪.‬‬

‫‪- 75 -‬‬
‫الرجل قبلني من رأسي وهو يودعني‪ ،‬ووالدي لم يقبلني وأنا أخرج معه‬
‫من الدار بعد غياب ثلثة أشهر وخمسة أيام ٍ‪.‬‬
‫ح ين خر جت من الدار وذه بت م عه إلى المنزل ال تف أخو تي من حولي‬
‫فرحين بعودتي‪ ،‬ما عدا جدتي التي تجهم وجهها وبدت لي في ذلك اليوم كأنها‬
‫خائفة من شيءٍ ما !؟‪.‬‬
‫المرأة مع ها حق في أن تخاف وتضطرب فولد ها قد تزوج من الرملة‪،‬‬
‫في غيابي الرجل تزوج‪ ،‬وهي زغردت‪ ،‬وفي غيابي بكى أخوتي كثيرا‪ ،‬والن‬
‫أل يحق لي أن أبدأ المعركة‪ ،‬معركة الخذ بالثأر حين سمعت بالخبر الذي ثقب‬
‫أذني ساخنا شعرت بنفسي أتحول وبالمدينة نائمة وبفحيح النتقام يحتجز أرقي‬
‫وجفوة نومي من دبيب الصور في تلفيف ذاكرتي!!‪.‬‬
‫وح ين تحر كت الديوك بال صياح‪ ،‬خر جت من المنزل وزح فت ن حو سوق‬
‫ظ بالناس‬
‫الجم عة‪ ،‬كا نت هذه هي المرة الولى ال تي أم شي في ها في سوق مكت ٍ‬
‫على هذا الش كل‪ ،‬هاب ني زحام البائع ين بتل صقهم الحز ين في أ صوات متداخلة‬
‫مضطربة مضطرمة‪.‬‬
‫على طر في الطر يق كا نت البا عة ت صرخ‪ ،‬تنادي‪ ،‬تلت قط الزبون‪ ،‬وك نت‬
‫أفتش عن بائع يبيع السكاكين الحادة‪ ،‬فجأة برق في ذهني العدول عما جئت من‬
‫أجله‪ ،‬فرجعت إلى المنزل حوالي العاشرة!‬
‫ي وأنا أدخل عليهم وربما كانت‬
‫فرح أخوتي حين شاهدوا ما أحمله في يد ّ‬
‫المرة الوحيدة في حياتهم ال تي جعلت هم في ها يب سمون على هذا الشكل ب عد طلق‬
‫أمي وموت مازن وزواج أبي!‪.‬‬
‫ورغم الحزن في نظرات الطفولة فقد اقترب ناجي من الحمامة البيضاء‪،‬‬
‫مدّ يده كي يم سها‪ ،‬ارت عش‪ ،‬ثم ابت عد با سما فض حك الجم يع ما عدا جد تي ال تي‬
‫ظلت واجمة يكسو الضطراب ملمح وجهها‪.‬‬
‫ولني عدلت عن شراء سكين للذبح واشتريت حمامتين فقد ألقيت خطبة‬
‫داخل سكون قلق روحي المظلمة قائلً من دون أن أحرك شفتيّ ‪:‬‬
‫" أخو تي سامحوني‪ ،‬ل تراقبو ني‪ ،‬ل تنظروا‪ ،‬فشيطان النتقام يزم جر في‬
‫داخلي بزمجرة تسدّ نوافذ إنسانيتي كلّها سأكون الن أحد أبطال فيلم حقيقي‪ ،‬ينفذ‬

‫‪- 76 -‬‬
‫مشهدا حيا"‪ ،‬وبقبضةٍ جنونيةٍ حاقدةٍ شديدة اللؤم أمسعكت بعنعق الحمامعة البيضاء‬
‫ولويته بعد أن صرخت‪:‬‬
‫‪ -‬هكذا تكون الحياة!‪.‬‬
‫عل صراخهم فجأة من الر عب الذي انداح في قلوب هم فبدؤوا ي صرخون‬
‫بلوثٍ مثل المجانين‪ ،‬وأنا مغتبط النفس على صياحهم وارتجاف أيديهم‪ ،‬يفترسني‬
‫ذلك الفرح الذي أثار ذععر جدتعي عندمعا ألحقعت بالحمامعة البيضاء السعوداء‬
‫أيضا!!‬
‫الب يض وال سود ما تا‪ ،‬أيه ما أ بي؟ وأيه ما زو جة المرحوم جار نا؟ أيه ما‬
‫جدتي ؟ وأيهما أمي ؟‪.‬‬
‫اثنان لربعة وأربعة في اثنين‪ ،‬عملية حسابية غير معقدة ل تحتاج إلى حل‬
‫حسابي !‪.‬‬
‫تركتهم في ذهولهم ضاجين بالبكاء‪ ،‬وخرجت بعد أن صفقت الباب بعن فٍ‬
‫ومضيت نحو الحديقة العامة‪.‬‬
‫كن تُ غاضبا لم أر تو م ما فعلت‪ ،‬وكن تُ بحاجةٍ ما س ٍة إلى ش خص ٍ يش به‬
‫إلى ح ّد ما المر شد الجتما عي ل قص عل يه فعل تي ال تي لم ترو ظ مأ الح قد الذي‬
‫كان يغلي فعي داخلي‪ ،‬لم أكعن بحاج ٍة إلى واح ٍد معن الشلة لكننعي وجدت أحدهعم‬
‫يت سكع كعاد ته‪ ،‬فنادي ته‪ ،‬ا ستدار ن حو صوتي واقترب م ني‪ ،‬ت صافحنا ك ما يف عل‬
‫الرجال ثم سألني‪:‬‬
‫‪ -‬ما بك؟ تبدو متوترا أصفر الوجه!‪.‬‬
‫حكيعت له معا فعلت‪ ،‬علنعي أزيعح كابوس الحقعد‪ ،‬أصعابه الذععر معن قوة‬
‫أع صابي و من فعل تي الدمي مة!‪ ،‬فأ كبرت ف يه أن يعترف أ ني شد يد البأس قا سي‬
‫القلب!‪.‬‬
‫كالعادة بدأ نا ندور في الحدي قة‪ ،‬نجلس تارة‪ ،‬ونم شي أخرى ح تى و صلنا‬
‫إليع نفسعي بسعرقة امرأة‬
‫ناحيعة الباب الذي يطعل على شركعة الكهرباء فسعولت ّ‬
‫كانعت تععبر الرصعيف لتدخعل معن باب الحديقعة‪ ،‬فغمزت صعديقي‪ ،‬فهعم عليعّ‪،‬‬
‫بسعرعة خطفعت محفظتهعا وجريعت‪ ،‬تسعلق صعراخها أوجاععي‪ ،‬زاد معن تدفعق‬

‫‪- 77 -‬‬
‫ذنبع اقترفتعه هذه المطمئنعة فعي سعيرها‬
‫ٍ‬ ‫أحزانعي وأحقادي‪ ،‬فأسعأل نفسعي أي‬
‫لخ طف محفظت ها وأجري يلزم ني في الر كض رفي قي علي‪ ،‬ب عد أن ابتعد نا‬
‫عنها المسافة التي ما عاد صياحها يصلنا!!‬
‫بعد النزول من منعطف شارع المحطة‪ ،‬مشينا بهدو ٍء باتجاه الحديقة الصغيرة‬
‫خلف مباني منطقة محطة بغداد‪ ،‬فتحنا المحفظة‪ ،‬لم نجد فيها سوى مئة ليرة وبعض‬
‫أشياء تافهعة فرميعت بالمحفظعة على الرض‪ ،‬تابعنعا المشعي على رصعيف جامعع‬
‫التوحيعد ونحعن صعامتان‪ ،‬كان بائع الجوارب يم ّد بسعطته وبائع الكتعب يجاوره‪،‬‬
‫أعطيت عليا المئة ليرة وتركته‪ ،‬ومضيت وحدي نحو حديقة ميسلون‪.‬‬
‫قبل منتصف الليل عدت إلى المنزل معكر المزاج ورائحة النهر ل تغادر‬
‫ذاكرتعي‪ ،‬وكيعف تغادرهعا وغيظعي معن جدتعي وفعلة أبعي بزواجعه يُدوي فعي‬
‫صدري مثل قنابل في صحراء خاوية!‪.‬‬
‫تلبسني الرق‪ ،‬تركت الفراش وصعدت إلى السطح‪ ،‬المداخن تحت ضوء‬
‫القمر عرائس ترقص أمامي‪ ،‬تتعرى‪ ،‬استللت سيكارة من علبة التبغ‪ ،‬أشعلتها‪،‬‬
‫ورحت أنفث الدخان‪ ،‬أمتص دخان السيكارة‪ ،‬أنفثه‪ ،‬يحلق في ضوء القمر مثل‬
‫جنية‪ ،‬أضغط بشفاهي على السيكارة‪ ،‬أضغط عليها بأسناني‪ ،‬أقضمها كأنها شفاه‬
‫نوال‪ ،‬الكون من حولي كله يجتمع في السيكارة‪،‬أرى فيها نوال‪ ،‬ألمس صدرها‪،‬‬
‫أعتصره‪ ،‬وأنا أمتصها‪ ،‬أرفعها إلى أعلى‪ ،‬تنتصب بين أناملي‪ ،‬النار في رأسها‬
‫تتقد حمراء لهبة‪ ،‬نارها تسري في عروقي‪ ،‬تشتعل أعضائي‪ ،‬تلتهب‪ ،‬أطفئها‪،‬‬
‫أدوسها بقدمي‪ ،‬أسحقها‪.‬‬
‫أرجع إلى الفراش أنام‪ ،‬أحس أني فعلت شيئا ما‪.‬‬
‫صبيحة اليوم التالي ا ستيقظت عند الضحى يأ كل الرهاق روحي‪ ،‬وح ين‬
‫رأ يت وجه ها ا ستعذت بال من هذه النظرة المري ضة فتجاهلت ها وأ نا أك تم في‬
‫داخلي حقدا لبدّ وأن تتجرع منه اللم الذي تستحق!!‬
‫نه ضت أج تر قو تي ب صعوبةٍ‪ ،‬اقتر بت من آلة الت سجيل‪ ،‬ضغ طت على‬
‫مفتاح الصوت‪ ،‬دورته حتى النهاية‪ ،‬فرقع الصوت بأنغام "الديسكو" التي يروق‬
‫لي أن أ ستمع إلي ها‪ ،‬كا نت المو سيقا صادحة ؛ هذا ما أريده‪ ،‬ه يا يا أولد‪ ،‬ه يا‬
‫سنحتفل اليوم‪ ،‬سنبارك زواج البابا‪ ،‬كنت غائبا يوم تزوج‪ ،‬ولن أنسى أن أبارك‬
‫له‪ ،‬هيا سنرقص معا !!‪.‬‬

‫‪- 78 -‬‬
‫أرعدت الموسيقا في حيطان البيت‪ ،‬نظروا نحوي‪ ،‬بدأت أرقص‪ ،‬تكهربت‬
‫أعصاب جدتي‪ ،‬زجرتني‪ ،‬وبختني‪ ،‬توبيخها أزعجني‪ ،‬لكني لم أكترث‪ ،‬لن أبالي‬
‫بتهديدها‪:‬‬
‫‪ -‬سأشكوك‪ ،‬ولن أسكت على أفعالك!‪.‬‬
‫استلقيت على الرض وبدأت أهز جسمي‪ ،‬أحرك عضلتي‪ ،‬يد يّ رجل يّ‪،‬‬
‫يا للفرح!‪ ،‬ان ضم أخو تي إل يّ يشاركو ني الر قص ووجه ها الممت قع يزداد صفرة‬
‫عند ما أج عل رجل يّ توا جه مكان وقوف ها متخش بة كأن صاعقة م ستها‪ ،‬بودي أن‬
‫أؤذي كبرياءها كما آذت مشاعرنا!‪.‬‬
‫الرقعص لذي ٌذ وممتععٌ‪ ،‬معا ألذ متعتعه فعي منزل مسعكون بالقهعر والهجعر‬
‫والضياع!‪ ،‬ما أجمل أن تكون ملك الضجيج! تتوافق مزاجية حركاتك مع أوتار‬
‫اللت الموسعيقية‪ ،‬وقائد الفرقعة بإشارة معن عصعاه يعطعي التعليمات ( اقتعل‬
‫عي‬‫ع ضربا‪ ،‬ل‪ ،‬حنوا‪ ،‬أخيتع‬ ‫عوداء‪ ،‬احرق البيضاء‪ ،‬بقوةٍ اضرب عْ‪ ،‬اعزف ْ‬ ‫السع‬
‫ارقصي‪ ،‬هزي الخصر بلين ٍ تعلمي فن الرقص لتكوني بارعة تفوق في رقصها‬
‫أبهى راقصات العالم!‪.‬‬
‫في السلم الموسيقي علمات هامة تشكل"نوتة" يعتمدها العازف في إيقاعه‪،‬‬
‫وح ين تتدحرج النغام في خلياه و قد اندا حت م ثل بل سم‪ ،‬يه يم في عز فه و هو‬
‫ط انخراط الخل يا في الج سد‪ ،‬يت صبب عرقا‪ ،‬ل ي صحو من انغماره في‬ ‫منخر ٌ‬
‫ملكوت جوانيته حتى يتوقف عن العزف!‪.‬‬
‫في هذه الدقائق ال صارخة د خل علينا فجأة‪ ،‬لم ن سمع صوت المفتاح و هو‬
‫يدور في القفل‪ ،‬وبغضبٍ من تسلط النقمة والسخط صرخ فينا‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذه الضجة؟ قلة أدب‪ ،‬هذا الذي كان ناقصا !‪.‬‬
‫نظرتُ في وجهه بالقسوة ذاتها‪ ،‬هاربا من نظراتي قال‪:‬‬
‫‪ -‬مساءً سأمر وآخذ المسجلة‪.‬‬
‫قالت أختي‪:‬‬
‫‪ -‬ونحن بماذا نتسلى؟‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫اجترعت كأس القهر من ردة قولته‪:‬‬
‫‪ -‬بل قلة أدب!‪.‬‬
‫الن واليوم بالذات وبععد هذا الحدث الشيعق أعتقعد أن عدة الصعداقة قعد‬
‫انت هت مدت ها‪ ،‬انكش فت براع ته في ك سب مودّ تي ب عض الو قت‪ ،‬ها هو يجر ني‬
‫وراءه مثل أضحية العيد‪ ،‬يتركني داخل المحل‪ ،‬وبادعاءٍ فيه كذب ما عاد خافيا‬
‫على ذاكرتي يقول‪:‬‬
‫‪ -‬لن أتأخر سأقابل التاجر وأعود على الفور!‪.‬‬
‫ح ين ترك ني وم ضى‪ ،‬ض جت في داخلي سخرية حادة‪ ،‬مؤ كد أ نه اشتاق‬
‫إلى رائ حة ج سدها‪ ،‬الر جل ما صدق! رائحت ها م سكونة في عين يه ك ما ت سكن‬
‫رائحة النهر في ذاكرتي !‪.‬‬
‫صدق حدسّي‪ ،‬الرجل تأخر‪ ،‬ولني أردته أن يعيش لحظات غيظٍ مزعج ٍ‪،‬‬
‫فقد استشعرت فرحا خفيا وأنا أراه يصرخ فور دخوله المحل‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذه الرائحة؟‪ ...‬أفْ‪ ...‬هل تبرزت هنا؟ ابن "الشرمو" وابتلعها!!‬
‫حدجتعه بنظرات تقتعص منعه وشائج اللذة التعي سعكنت فعي داخله وبهدوءٍ‬
‫بارد ٍ قلت‪:‬‬
‫ع شديدٌ‪ ،‬لم أحتملْ ضبعط نفسعي‪ ،‬والجامعع كان مغلقا‬
‫‪ -‬أصعابني مغص ٌ‬
‫فاضطررت إلى أن‪! ...‬‬
‫‪ -‬ال يأخذك‪ ،‬ولد وقح‪ ،‬هيا‪،‬انصرف من وجهي " اتفوووو" !‪.‬‬
‫هززت رأسعي ولويعت رقبتعي وأنعا أخرج‪ ،‬فاحتضنعت نظراتعي القطعة‬
‫والر صيف‪ ،‬وخوف غا مض تلع بت به أوتار قل بي وعقلي في ذاكرة سكنتها‬
‫رائحة النهر وأنا أسمعه يقول‪:‬‬
‫‪ -‬تدبرت لك عملً‪ ،‬غدا ستعمل في ورشة خياطة بالسيد علي‪.‬‬
‫المركب المثقوب ابتعد عن الشاطئ‪ ،‬تأرجحت من تسرب المياه هيبته‪ ،‬ما‬
‫ل ش يء ف يه مال ن حو التل شي وك يف ل يتل شى‬
‫عاد يعني ني وجوده‪ ،‬ا سمه‪ ،‬ك ّ‬
‫ل مساءٍ يمر مرور الكلب‪ ،‬يعوي ببضع كلما تٍ‪ ،‬ويقذف في حضن أمه‬ ‫وهو ك ّ‬

‫‪- 80 -‬‬
‫فتاتا من الغلة المعدنية‪ ،‬ويسارع إلى غرفة الهناءة في حضانة متعة الجسد الذي‬
‫ُحرّم منه طوال أربعة عشر عاما في معاشرته لمي أما قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬أنا وأمك تآخينا!‪.‬‬
‫ت أنا إلى ذئبٍ صغي ٍر شرير ٍ!‬
‫ولنه تآخى مع أنانيته‪ ،‬تحول ُ‬
‫بل مراوغة وبل نفاق ل تأخذ من المتع المباحة أي شيءٍ‪ ،‬لهذا كان عل يّ‬
‫أن أ ستمر في تمث يل دور الم حب الوله لح قق مبت غى رو حي في لقاءا تٍ من‬
‫التلذذ ضمن فراغ الدرج و سط الظلم! وأمها هذه المعتوهة والتي كا نت رهي نة‬
‫سهرات جدتي‪ ،‬خاصة عندما يكون عمل زوجها مسائيا ل تسأل عما إذا كانت‬
‫بنتها داخل البيت أمْ خارجه! لهذا كانت تمارس مع من أحبت طقوس الحب !‪.‬‬
‫نفذ قوله بالكراه بعد أن تدبر لي العمل في ورشة خياطة كما قال‪ ،‬حينئ ٍذ‬
‫كان لب ّد من الل عب على طريق تي‪ ،‬ح تى د خل علي نا ك من كان في عرا كٍ مع‬
‫البالسعة‪ ،‬نظعر فعي وجوهنعا تفحصعها‪ ،‬أشععل سعيكارة حمراء طويلة‪ ،‬سعارعت‬
‫أختي ووضعت المنضدة الصغيرة أمامه‪.‬‬
‫ت أن في المر شيئا خطيرا‬‫جلست جدتي أمامه تكاد أن تلتصق به‪ ،‬أدرك ْ‬
‫يخ صني‪ ،‬وب عد هد نة من ال صمت والفح يح انطلق صوته ك ما الترياق من فم‬
‫أفعى‪:‬‬
‫‪ -‬ول‪ ...‬ك‪ ...‬ا بن الكلب‪ ...‬أ ين ك نت يوم ال حد ال ساعة العاشرة م ساءً‬
‫في حي الشيخ مقصود؟‪.‬‬
‫شعرت بأرض الغر فة تدور‪ ،‬هوت بي أفكاري إلى بئ ٍر مهجورٍ ت عج ف يه‬
‫وطاويط الليل " من أين عرف أني كنت هناك؟ من أخبره؟ "‬
‫ومن دون أن ترف عينه‪ ،‬كرر السؤال بصيغة أشد قسوة!‪.‬‬
‫حل فت كذبا وا ستنكرت ما ذكره‪ ،‬وح تى ل يف قد تواز نه في لح ظة غض ٍ‬
‫ب‬
‫ونفورٍ‪ ،‬وحتى ل يبدو أكثر تفاهة مما مضى‪ ،‬نهض من مكانه شدني نحوه وهو‬
‫يسألني بلهجة المحقق الغاضب‪:‬‬
‫‪ -‬قلْ الحقيقة‪ ،‬لن أضربك‪ ،‬فقط احكِ الصدق؟‪.‬‬

‫‪- 81 -‬‬
‫ل كهذا كان يحتاج إلى خلوةٍ انفراديةٍ بيعن أب وولده‪،‬‬
‫الجواب ععن سعؤا ٍ‬
‫أمع أنعه يحاول الشهار بعي كعي تسعقط‬ ‫أيعقعل أن يكون غعبيا إلى هذه الدرجعة؟ ْ‬
‫مسؤولية جنحتي الشائنة عن هويته؟!‪.‬‬
‫ف كهذا‪ ،‬وكدت أ صرخ وأ نا ب ين‬
‫وقتئ ٍذ ض حك القلب ساخرا من غرا بة موق ٍ‬
‫ساعديه‪ ،‬أحاول الفلت لر قص‪ ،‬لخ طب ب ين الناس‪ ،‬من سيسأل من؟ هل أ نت‬
‫أ بٌ؟؟ أتخاف على اسمك من عورة أفعالي ؟ يا رجل ل تقلها كي ل يضحك الناس‬
‫عل يك! القلب الم سفوك د مه يض حك ب صمتٍ‪ ،‬من المتخلي؟ من طلق المرأة ال تي‬
‫ف مخج ٍل ل يليق بإنسان يدعي البوة؟!‪.‬‬
‫تآخى جسده مع جسدها كما قال بتعس ٍ‬
‫الحقيقعة الظاهرة بعري قهرهعا المتعري علنيعة تقول غيعر هذا وتجعلنعي‬
‫أشعر أن الصدأ النتن قد خيم على ذاكرتي‪ ،‬ول ب ّد من وجود فرصة للمواجهة‬
‫معن أجعل القصعاص‪ ،‬وقبعل أن أفكعر بطريقعة تتناسعب والقصعاص‪ ،‬وبالجملة‬
‫المباغ تة ال تي تخترق صدر البوة النائم على النأي والهجران‪ ،‬جاءت ني صفعة‬
‫جعلتنعي أدور‪ ،‬كادت الرؤيعة تتلشعى ودون أن التقعط أنفاسعي توالت لكماتعه‬
‫وصرخاته ولعناته‪ ،‬فأح سست بال صوت يئز في رأسي مثل رصاص ٍاندفع من‬
‫قلب رشاش ٍ‪ ،‬وجدتي الصاغرة كلّ الذي فعلته أن قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ياعيب " الشوم "!‬
‫وأخوتععي المتكورون كانوا مثععل أوراق ٍخريفيةٍ ذابلةٍ يذرفون الدموع‬
‫بسكون ٍتحترق من أجله القلوب!‪.‬‬
‫ل عن ا سمه في وجوده ووجوده في‬ ‫ر غم الها نة من ت صلف هار بٍ متخ ٍ‬
‫اسمه‪ ،‬ورغم الضرب المهين تحركت رائحة النهر في أنفي‪ ،‬فأيقظت ذاكرتي‪،‬‬
‫فا ستغربت م ستهجنا صمت جد تي تلك ال تي كا نت تتحدث بل نها ية في ز من‬
‫أ مي!‪ ،‬ورب ما كا نت هذه هي المرة الولى ال تي آثرت في ها عدم التد خل كي ل‬
‫تصاب بالجنون مما أفعل بها بعد مغادرة أبي!‪.‬‬
‫أبعو سعليم شاهدنعي وأنعا أخرج معن البيعت الذي كان يقصعده هعو الخعر!‬
‫الرجل كان يخون زوجته وفي هذا ل يحق له أن يعتدي على حقوق غيره‪ ،‬لهذا‬
‫ت أن أرد على وشايته إلى أبي بإفشاء‬
‫أضرمت في صدري الحقد عليه‪ ،‬وأقسم ُ‬
‫سره إلى زوجته ولكن في الوقت المناسب!‪.‬‬

‫‪- 82 -‬‬
‫ب عد خرو جه‪ ،‬أ سلمت ج سدي المن هك إلى الفراش‪ ،‬فأح سستُ باللم تنغلُ‬
‫نمتع دخلت فعي عالم الحلم‪،‬عالم ل‬‫ُ‬ ‫فعي جسعدي‪ ،‬جاهدا حاولت النوم‪ ،‬وحيعن‬
‫تقدر أن تتحكم بقدراته‪ ،‬ول حتى يمكنك أن تخطط لصورته في شيءٍ تشتهيه‪،‬‬
‫فالذي يح صل وتراه ُيك تب روا ية و هو في الحقي قة وم ضة من ع قل الحر كة‪،‬‬
‫العقعل الذي ينقلك إلى عالم ٍ خاص ٍ ترتبعط رؤاه الناطقعة بأحاسعيسك الباطنيعة‬
‫لتشارك شخو صا ل تعرف هم أو قد تعرف هم‪ ،‬هذا الكلم قرأ ته في مجلة عرب ية‬
‫ت من البحر ؟!‪.‬‬‫ت قد اشتريتها من بائع "كشك" يوم عد ُ‬
‫كن ُ‬
‫فعي تلك الليلة الماطرة بالوجعع المتمترس فعي الذاكرة شاهدت نفسعي فعي‬
‫صحراء خاو ية‪ ،‬تلل رمال ها ال صفراء أثارت الذ عر في قل بي كا نت صفرتها‬
‫ف أن ي جد الن سان نفسه‬‫فاق عة‪ ،‬ول يو جد أحد غيري من بني الب شر‪ ،‬أمرٌ مخي ٌ‬
‫قدميع‬
‫ّ‬ ‫فعي مكان ٍ يشبعه ذلك المكان وحيدا‪ ،‬فجأة انكمشعت الرض معن تحعت‬
‫هبوبع الرياح العاتيعة‪ ،‬فتكورت على‬
‫ِ‬ ‫واربدت السعماء‪ ،‬صعفر الهواء معلنا ععن‬
‫ط من الرمال‪ ،‬تكومت سحبٌ رمادية ٌ تميل إلى الدكنة‪ ،‬ثم تساقط من السماء‬ ‫بسا ٍ‬
‫معا يشبعه حبات البرد الكعبيرة كمعا الحجارة يوم حادثعة الفيعل‪ ،‬كانعت تجرحنعي‬
‫وتسعبب لي النزف‪ ،‬اصعطبغ جسعدي بلون الدم‪ ،‬فأحسعست حينذاك بأنعي أفقعد‬
‫قو تي‪ ،‬وح ين حاولت التحرك انش قت الرض‪ ،‬خرج من ها ر جل ق سماته مخي فة‪،‬‬
‫كانت رائحته تشبه رائحة النهر‪ ،‬انقض مثل فيل على ظهري‪ ،‬وأمسك بأظافره‬
‫الطويلة وال تي شعرت ب ها و سخة بت علبيب من كبيّ وراح يشد ني ن حو حفر ته‬
‫وهعو يضحعك بصعوت كأنعه جأر ثور‪ ،‬حاولت الصعراخ وأنعا أقاوم معن أجعل‬
‫خلصي من بين يديه‪ ،‬لم أجد عونا ل من حنجرتي ول حتى من قدرتي على‬
‫المقاو مة‪ ،‬ح تى الن ين غاب صوته‪ ،‬فتراءى لي و جه أ مي و هي ت صلي‪ ،‬وح ين‬
‫تذكرتها وصلتني أصداء بسملة هل كانت تصلي من أجلي ؟ اقترب الصوت من‬
‫أذنعي‪ ،‬ورويدا رويدا تراجعع ذلك الرجعل المخيعف‪ ،‬دفعنعي بقو ٍة على الرض‬
‫وغاب عن ناظر يّ فوق عت فوق كومةٍ من حبات البرد الباردة الجار حة‪ ،‬وح ين‬
‫فتحت عينيّ وجدتُ نفسي على الرض أرتعش !‬
‫عدت إلى فراشعي وانطو يت تحعت اللحاف ل أريعد رؤيعة الوجعه الممتقعع‬
‫دائما‪ ،‬ول كن ما هذا ال صباح المق يت ؟ ماذا تقول هذه الشوهاء البدي نة؟ من الذي‬
‫أخبرهعا أن أمعي‪ ،‬أم غالب تزوجعت معن زوج أختهعا المتوفاة‪ ،‬وبععد أسعبوعين‬
‫ستسافر معه إلى روسيا!‪.‬‬

‫‪- 83 -‬‬
‫لن أضحك‪ ،‬ولن أرقص‪ ،‬جدي حريص على سمعة بنته‪ ،‬ولم يكن حريصا‬
‫على إيوائ نا ت حت جناح أ مي‪ ،‬ح ين تدخلت الجارة أم نوري ر فض جدي عودة‬
‫ل‪:‬‬
‫أمي‪ ،‬وأص ّر على طلقها قائ ً‬
‫‪ -‬التفاهم صار صعب‪ ،‬والفضل أن يذهب كل واحد في سبيله !‬
‫اليوم بالذات وبععد سعماع معا أكره‪ ،‬أصعبح فعي داخلي انتماء إلى شخعص‬
‫سكن ذا تي‪ ،‬فشعرت حينئذٍ بأ ني أتح صن بالقوة الباردة‪ ،‬لن هض متململاً‪ ،‬و من‬
‫دون أن أغسل وجهي أو أفكر حتى بتغيير ملبسي‪ ،‬أفتح الباب وأصفقه خلفي‬
‫بعنفٍ وأخرج!‪.‬‬
‫كا نت شوارع منط قة "مي سلون" ت عج بالناس‪،‬خاط بت نف سي " من أ نا و سط‬
‫هذه الجموع ؟‪ ،‬وإلى أيعة فئة معن البشعر أنتمعي؟" وحتعى أعرف وأحدد جاءنعي‬
‫صوت من خلفي‪:‬‬
‫‪ -‬هيه‪ ،‬إلى أين؟‬
‫‪ -‬أهلا‪ ،‬إبراهيم!‬
‫‪ -‬كيف حالك ؟‬
‫‪ -‬بخير‪.‬‬
‫وبفطنة الحاذق سألني ‪:‬‬
‫‪ -‬سمعت أن أباك تزوج؟!‪.‬‬
‫أزعج ني أن يعرف من أغار م نه‪ ،‬أ جل أ نا أغار من إبراه يم الش خص‬
‫الوحيعد الذي أشععر أمامعه بالنقعص هعو إبراهيعم‪ ،‬معا معن مرة التقيعت بعه إل‬
‫وأحسست به يترصد وقائع حياتي ليشمت بي‪ ،‬ولن موقفي ضعيف‪ ،‬فقد هززت‬
‫رأسي والسى المبتئس يزين ملمح وجهي وقسماته‪،‬وهربا من نظراته وأسئلته‬
‫المجهضة‪ ،‬ومن دون تفكير مسبق ٍ قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬ما رأيك برحلة؟‬
‫‪ -‬إلى أين؟‪.‬‬
‫‪ -‬إلى البحر!‪.‬‬

‫‪- 84 -‬‬
‫لحظات مرت قرأت فيهعا التردد والتمل مل‪ ،‬ثم وا ستعدادا باسعتقبال الفكرة‬
‫التي جعلته ينشط في الحديث قال‪:‬‬
‫‪ -‬أجادٌ أنت فيما تقول؟!‪.‬‬
‫‪ -‬بكل الجدية التي عرفتني بها!‪.‬‬
‫‪ -‬طول بالك‪ ،‬دعني أفكر‪.‬‬
‫‪ -‬ل وقت عندي‪ ،‬أريد قرارك الن‪.‬‬
‫‪ -‬لمَ؟‬
‫‪ -‬خصوصيات يا أخي‪.‬‬
‫‪ -‬موافق ولكن تريث حتى أقبض أجرتي‪.‬‬
‫‪--------------- -‬‬
‫‪--------------- -‬‬
‫‪ -‬الساعة السابعة في محطة القطار‪ ،‬ل تتأخرْ‪ ،‬سأكون في انتظارك‪.‬‬

‫‪- 85 -‬‬
‫‪-9-‬‬

‫التسسكع جعلنعي فعي ذلك اليوم أبدو كأنعي ولدت معن جديعد‪ ،‬لم أع ْد معتعل‬
‫المزاج‪ ،‬اكتشفعت شخصعا آخعر‪ ،‬نفسعه تشبعه نفسعي وبسعخطٍ فرح ٍ قلت لنفسعي‬
‫"اضرب ضربتك القاضية‪ ،‬واترك الطوفان يهدم من وخزك!"‪.‬‬
‫رائحة النهر أقنعتني أنه من المفروض عليّ بعد هذا اليوم أن أخون الرجل‬
‫الذي أكره‪ ،‬لفسد عليه نظام حياته الجديد‪ ،‬بعدما أفسد علينا رباطنا القدسي‪.‬‬
‫ت الحارة‪ ،‬كن تُ محتفظا بنسخةٍ من‬
‫ت أن أفسد عليه حياته‪ ،‬راقب ُ‬
‫حين قرر ُ‬
‫المفات يح‪ ،‬لم أ كن م ثل لص و ضح النهار والذي ترك ني أ صدقه وأنتظره‪ ،‬والذي‬
‫أوهمنعي أن زوجتعه موجودة فعي الطابعق الرابعع ول تسعتطيع التحرك بسعبب‬
‫الحمل!‪.‬‬
‫الرغ بة في النتقام تزداد إ صرارا في نف سي‪ ،‬ور غم أن ها رغ بة منح طة‬
‫وقذرة لكنها الحقيقة‪ ،‬الحقيقة التي امتدت جذور رداءتها في نفسي وروحي فقد‬
‫تأصلت في داخلي بعطش ٍلبد من إشباعه‪.‬‬
‫فكرة ال سفر إلى الب حر فكرة جذا بة ومريحة ولكن مع أهلك‪ ،‬فمن غير هم‬
‫الحياة جا فة ومدق عة‪ ،‬وعلى الر غم من اعترا في بأن الحياة بل أ هل ي سامرونك‬
‫وتسامرهم ل معنى لها‪ ،‬فقد تمردت على العتراف بوجودهم لخذ رأيهم لنهم‬
‫موجودون وغ ير موجود ين! وأ نا ل أعرف الب حر‪ ،‬ولم ي سبق لي زيار ته‪ ،‬و قد‬
‫تأتت معرفتي له من دروس الجغرافيا في المدرسة‪ ،‬لذلك فكرت بزيارته!‬
‫في ظل هذه التخاطرات المقلقلة والمؤن بة في ب عض الأحيان‪ ،‬تحولت إلى‬

‫‪- 86 -‬‬
‫عدو ٍ كاسر ٍ يريد أن يسلب الطمأنينة من عين والده!‪.‬‬
‫ب إلى البيت‪ ،‬بقيتُ واقفا أراقب الحارة مثل‬
‫لم أنمْ في هذا المساء‪ ،‬ولم أذه ْ‬
‫نمس ٍ‪ ،‬حتى تأكدت أنها دخلت في سباتٍ هادئ ٍ وعميق ٍ وبإلحاح ٍ من رائحة‬
‫ت في وجيف القلب‪ ،‬ثم اقتربت من قفل "الدرابية" وبصعوبة حركت‬ ‫النهر تحكم ُ‬
‫القفل وفتحته‪ ،‬وابتدأت في رفع "الدرابية " بهدوءٍ‪ ،‬حتى كادت تدمى يديّ‪ ،‬ألهبت‬
‫ت على‬‫ج سدي بالعزم على الز حف م ثل أف عى! دف عت باب اللمنيوم‪ ،‬ل ني كن ُ‬
‫ل !‪.‬‬
‫يقين ٍ بأن قفله ما يزال عاط ً‬
‫في الدا خل لم أتأخرْ‪ ،‬و في الخارج الختفاء في الجا مع دا خل دورة المياه‬
‫بحثتع ععن مكان ٍقصعي ٍأرتاح فيعه معن الوقوف‪ ،‬فأعصعابي بدت‬‫ُ‬ ‫يرقع لي‪،‬‬
‫ْ‬ ‫لم‬
‫مجهدة ومضطر بة‪ .‬فخطرت لي فكرة‪ ،‬حملت قط عة كرتون كا نت مرم ية على‬
‫الرض واعتليت فوق ظهر سيارة"سوزوكي"‪ ،‬غطيتُ جسمي بها ورحت أنتظر‬
‫بزوغ الضوء‪.‬‬
‫وق بل أن تتحرك الطيور من أعشاش ها تحر كت أ نا وابتدأت الم شي ببطءٍ‬
‫باتجاه المحطة !‪.‬‬
‫دا خل القطار شعرت بالنقباض‪ ،‬ث مة إح ساسٌ بالغب طة راود ني‪ ،‬داهمت ني‬
‫مشاعر النشوة وأنا أتصوره كمن لدغه عقرب يصرخ‪:‬‬
‫‪" -‬الحقوني"‪ ،‬خرب بيتي‪ ،‬الغلة مسروقة‪ ،‬والسندات طارت‪ ،‬السندات التي‬
‫تؤكد على إني أدفع!‪.‬‬
‫من رافق ني لم ي ستطع ال صمت‪ ،‬أخرج ني صوته من غرق الشرود ل نه‬
‫طلب مني وبوج ٍه ضارع ٍ أن أتحدث إليه!‬
‫ب بأ ني‬
‫اع تبر شرودي جفاءً م ني وإها نة لشخ صه‪ ،‬فتملك ني شعورٌ غري ٌ‬
‫ل شيءٍ‪ ،‬ل أختلف عن لص و ضح النهار ومراو غة أ بي‬ ‫أ صبحت محترفا في ك ّ‬
‫لزبائنه !!‬
‫في تلك اللحظات من القلق والضطراب ارت سمت دا خل رو حي صورة‬
‫الذي خدعني وجعلني أنتظره‪ ،‬ولكن بوجهٍ جديدٍ!‬
‫عليع كان‬
‫ّ‬ ‫هذه المرة لم يكعن وجهعه يملك هذه الوسعامة التعي دخعل بهعا‬

‫‪- 87 -‬‬
‫مصبوغا بزرق ٍة تميل إلى الصفرة‪ ،‬أوداجه متورمة‪ ،‬ومنكباه كمنكبي من أثقلته‬
‫السنون بالبؤس والقنوط‪.‬‬

‫ل السرقات للمحلت‬
‫حين انكشف أمره بعد إلقاء القبض عليه‪ ،‬اعترف بك ّ‬
‫التجارية الصغيرة والكبيرة وبالطريقة ذاتها!!‪.‬‬
‫وحين دخلوا علينا لم يكن والدي قد اكتشف بعدُ أن البضاعة ناقصة‪ ،‬لنه‬
‫كان غارقا معع كاتريعن التعي أصعبحت سعيدة المحعل‪ ،‬الفتاة سعلبته عقله وكلّ‬
‫حساباته‪ ،‬و لحظة دخولهم في توجيه السؤال‪:‬‬
‫‪ -‬أنت صاحب المحل؟‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪ -‬نعم أنا‪.‬‬
‫ل معن أن يصعغي إلى‬ ‫وحيعن عرف‪ ،‬ثارت ثورتعه عارمعة جارفعة‪ ،‬وبد ً‬
‫حدي ثي فعي خو في‪ ،‬وخو في في حدي ثي راح يضرب ني‪ ،‬ويسعبني كعاد ته‪ ،‬ب عد‬
‫عودت نا من ق سم الغريز ية‪ ،‬ح تى أد مى وج هي‪ ،‬وأ سكر ذاكر تي في اختزان ها‬
‫لرائحة النهر‪.‬‬
‫فعي هذه اللحظات معن الذكريات المريرة ضبطعت نفسعي حتعى ل أثيعر‬
‫ت متملقا جلو سنا هكذا أخر سين وأ نا‬
‫شكوك إبراه يم في صمتي العم يق فضحك ُ‬
‫أتكلف في البتسام فمسكته من يده بعد أن وقفت وهيأت نفسي لفعل شيءٍ ما!!‬
‫ت أسم ُع صوت سرعة العجلت الحديدية تدك السكة دكا سريعا لكأنها‬ ‫كن ُ‬
‫تسبق الزمن الذي بدا لي أنه مرهق وثقيل وطويل‪.‬‬
‫داخل العربات تفحصت الوجوه‪ ،‬فما وجدت من أعرفه ل من زبائن أبي‪،‬‬
‫ول حتى من أهل حارتنا‪ ،‬أو حتى من أصحاب الدكاكين المجاورة لمحل أبي‪،‬‬
‫فشعرت بالطمأنينة‪.‬‬
‫مع بدا ية الق ساطل دخل نا في ن فق ٍ جبلي ٍ‪ ،‬شعر تُ ب سرعة القطار تزداد‬
‫قوة‪ ،‬وبالعت مة تمزق أنفاق قل بي المضطرب‪ ،‬لح سّ بالض يق يك تم على أنفا سي‬

‫‪- 88 -‬‬
‫حتى تنفرج الظلمة!!‬
‫وكأنه كان يريد أن يكون أفضل مني في معرفة بعض المور الحضارية‪،‬‬
‫التفت نحوي وبلهجة ل تشبه إل نفسها قال ‪:‬‬
‫‪ -‬حيعن نمعر فوق الجسعر المحمول على أعمدة ضخمعة سعأحدد لك العمود‬
‫الذي وقع فيه ثلثة خبراء من روسيا‪ ،‬وما خرجوا!‪.‬‬

‫ل مهما كي ل‬
‫حدقت في وجهه دهشا واستعرت من ذاكرتي اللزجة سؤا ً‬
‫أبدو أمامه جاهلً فأمقت نفسي‪:‬‬
‫‪ -‬وروسيا ماذا فعلت؟‪.‬‬
‫‪ -‬لم تفعلْ شيئا‪ ،‬فالمر كان قضاءً وقدرا‪.‬‬
‫وكأ نه كان يؤ من بالفل سفة الوجدان ية أك ثر من إيما نه بال سخرية ال سخيفة‬
‫ل وهو يحرك سلسلة مفاتيحه‪:‬‬ ‫الساذجة تابع كلمه قائ ً‬
‫ل ألسنا مخطئين ول نعرف عمق الخطر من الحماقة التي‬
‫‪ -‬أنا وأنت مث ً‬
‫نمضي إليها!‪.‬‬
‫رمق ته بنظرة فاح صة جا فة تش به لزو جة الط قس ولزو جة ذاكر تي الشاب‬
‫يتفلسف‪ ،‬من أغار منه بدأ في فلسفة ما ل أعرف‪ ،‬ولن فلسفتي محلية فقد قلت‬
‫له‪:‬‬
‫‪ -‬ل‪ ،‬لسنا مخطئين ول تستخف بقدراتنا‪ ،‬فنحن ضحية أسر ل تفاهم فيما‬
‫بين ها لهذا تجد نا على هذا الش كل‪ ،‬دع نا ن عش ب عض الو قت بعيدا عن القوان ين‬
‫التعي تشوش علينعا امتلكنعا للغبطعة التعي نسععى نحوهعا‪ ،‬ولو لمرةٍ واحدةٍ فعي‬
‫العمر!‪.‬‬
‫وتملصا من فلسفته تركته واقفا أمام النافذة ورغبت في النوم!‬
‫كا نت فكر تي في ال سفر إلى الب حر جريئة وغ ير متوق عة‪ ،‬وح ين و صلنا‬
‫هزني من كتفي‪ ،‬ففت حت عين يّ‪ .‬ك نت ما أزال واهنا‪ ،‬وبحا جة إلى النوم‪ ،‬نزلت‬
‫ت م سموع ٍ‪ ،‬وأ نا‬
‫من القطار‪ ،‬تنف ست ال صعدّاء وأطل قت الشه يق والزف ير ب صو ٍ‬

‫‪- 89 -‬‬
‫أفتح ذراعيّ كي أض َم إلى ذاكرتي صورة أفق البحر وهدير موجه الذي اشتريته‬
‫بسرقة أبي‪ .‬ثم كمن كان مستعدا أن يبدو أمامي أرفع شأنا مما أتصور‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬خ ْذ سيارة إلى البراج‪.‬‬
‫‪ -‬أتعرف المكان؟‪.‬‬
‫‪ -‬نعم فقد زرته مع أخي غسان‪.‬‬
‫خلل ب ضع دقائق ك نا هناك‪ ،‬اختر نا مكانا ي طل على الب حر‪ ،‬كان المن ظر‬
‫ساحرا وجميلً‪ ،‬وقد تربعت على عرشه البواخر والسفن‪.‬‬
‫** ** ** **‬
‫‪ -‬عفوا‪ ،‬ما تطلبان ؟‪ (.‬سأل النادل)‪.‬‬
‫‪ -‬إبراهيم ما تطلب ؟‪.‬‬
‫‪ -‬صحن " لبنة " وكأس شاي‪.‬‬
‫بتعبير ٍ أخلقي ٍ رسم على شفتيه ابتسامة‪ ،‬ومضى لحضار الطلب‪.‬‬
‫ب عد الفطور أشعل نا ال سكائر بطري قة حاول نا في ها أن نقلدَ ما يمار سه أولد‬
‫الثرياء في تدخين هم لل سكائر الجنب ية المهر بة‪ ،‬وب ين سحب الدخان حد قت في‬
‫وجهه‪ ،‬شعرت به قانطا متوترا "ربما عجزه عن الدفع" خمنت في سري‪ ،‬وربما‬
‫ما لم أكتشفه بعد!‪.‬‬
‫كن تُ على يق ين ٍ أن كلي نا يخدع ال خر‪ ،‬وب ما أن ني كن تُ بحاج ٍة ما س ٍة إلى‬
‫رفيق ٍ يشاركني خوفي واضطرابي في منزلق حياتي‪ ،‬كنت سعيدا برفقته لثبت‬
‫له أني سيد الدفع!‬
‫وبما أني صاحب ذاكرةٍ تخيلية بارعة قلت له‪:‬‬
‫‪ -‬أتعرف لو أن هذا البحععر كان موجودا فععي حلب لزادت عراقتهععا‬
‫وأهميت ها‪ ،‬وأ صبحت أج مل مدي نة في العالم‪ ،‬ت صور القل عة و سط بح ٍر يغ طي‬
‫امتداده كلّ الجهات المحيطة بها‪ ،‬قال نهر قويق‪ ،‬أف أح سُ برائحته تزكم أنفي‬
‫الن!‪.‬‬

‫‪- 90 -‬‬
‫ا ستنكر أن أكون الن قد شم مت رائ حة الن هر! وبحرص ٍ على مجارا تي‬
‫في الحديث قال‪:‬‬
‫‪ -‬مععك حعق‪ ،‬رائحعة النهعر تشكعل معضلة بالنسعبة للمبانعي والشوارع‬
‫المجاورة له‪ ،‬ثم ومع آخر رشفة لفنجان القهوة بعد كأس الشاي قال‪:‬‬
‫‪ -‬هيا بنا‪ ،‬لن نقضي الوقت كله هنا‪.‬‬
‫نزلنا بواسطة المصعد‪ ،‬خرجنا إلى الشارع سألنا عن سيارة أجرة تأخذنا‬
‫إلى رأس الب سيط‪ ،‬فا ستغرب من سؤالنا ب عض ال سائقين الذ ين سألناهم لن نا ك نا‬
‫فعي فصعل الشتاء ول أحعد معن الناس يفكعر بالذهاب إلى رأس البسعيط سعوى‬
‫أصحاب "الشاليهات" وذلك من أجل تفقد الشياء الموجودة فيها‪ ،‬هذا ما قاله لي‬
‫إبراهيم‪ ،‬وحين طال زمن السؤال‪ ،‬قررنا أن ننام في الفندق‪ ،‬أية حجة يمكنها أن‬
‫تؤوينا في فندق‪ ،‬لهذا طلب مني إبراهيم أن نذهب إلى الشاطئ الزرق‪ ،‬نجلس‬
‫في الصالة الشتوية لنشاهد البحر عن قربٍ‪ ،‬ونتغذى سمك مشوي ثم نختار فندقا‬
‫أجره بسيط‪ ،‬رأيه أقنعني لنه لم يسبق لي أن غادرت حلب أبدا !‬
‫مع حلول المساء جلسنا نحدق في السقف والجدران وهذه النافذة الوحيدة‪،‬‬
‫لشعر بأننا لشيء‪ ،‬مجرد أحمقين متهورين تخاصما مع الحياة والناس وخاصة‬
‫الهل‪ ،‬فتمردا عليهما بالنعزال ليعيشا كما يرغبان‪.‬‬
‫سرقت أ بي‪ ،‬وجئت إلى ه نا كي أبت عد عن التشويش والت سفيه والتجر يح‪.‬‬
‫ل ما حل مت به كان مجرد و هم ٍ؛ وأن حلم الحساس بالرا حة يتحول‬ ‫لجد أن ك ّ‬
‫إلى جم ٍر يغلي في ذاكرتي وأوردة جسدي!‪.‬‬
‫نام الرف يق وبق يت وحيدا تفتر سني المخاوف‪ ،‬اقتر بت من النافذة فتحت ها‪،‬‬
‫بدا لي المن ظر مرعبا‪ .‬سواد الل يل يغ طي المكان‪ ،‬و صوت سيول المطار ال تي‬
‫نزلت في هذه الليلة بدت كأن ها في حالة جنون‪ .‬فتخيلت ها نبالً تخترق الرض‪،‬‬
‫وحف يف أوراق الش جر غاب ب ين مو سيقا إيقاع الم طر‪ ،‬وجنون قل قي‪ .‬فأوهم ني‬
‫ذلك المشهد أن جذوع الشجار‪ .‬التي كانت تحيط بالفندق ستنفصل عن جذورها‬
‫كي تنقض عل يّ وتخنقني تماما كما حصل في أحد الفلم التي سكنت ذاكرتي‪.‬‬
‫ت على السرير مرتعشا ً‪.‬‬
‫أغلقتُ النافذة‪ ،‬وتكور ُ‬
‫في تلك اللحظة اكتشفت أن المتعة الحقيقية كانت كامنة فيما كنت أعيشه‪.‬‬

‫‪- 91 -‬‬
‫خصومات بل وفاق‪ ،‬مشاتمات بل مشاعر‪ ،‬لقاءات سرية بل رقيب‪ " ،‬ما تفعلين‬
‫الن؟ اشت قت إلى قبل تك الدافئة‪ ،‬و صدرك النا هض‪ .‬أح سُ بالشوق يدفع ني إلى‬
‫محار بة الم طر والر يح والبرد بقدرة عا شق ٍ يقوى على كلّ المعيقات الموجودة‬
‫على سطح الرض لكون قربك وفي ذلك التوقيت بالذات!‪.‬‬
‫لم يطلْ إحسعاسي بالشوق نحعو معن ُأغرمعت بملمسعة أنفاسعها وشفتيهعا‪.‬‬
‫ط ما كان يدمدم به‪،‬‬ ‫ب مذعورٍ‪ ،‬لم ألتق ْ‬
‫صوته جعلني أقفز عن السرير مثل أرن ٍ‬
‫كان جسده ينتفض‪ ،‬وشفتاه ترتجفان‪ ،‬فهززته من كتفه وأنا أقول‪:‬‬
‫‪ -‬إبراهيم‪ ،‬انهض‪ ،‬ما بك‪ ،‬اصحَ‪.‬‬
‫فتح عينيه بصعوبة وملمح الخوف تزيدني توترا وبلبلة ً‪ ،‬وأيا كان خوفي‬
‫مما أرى فهذا ما أريده! يا لروعة الوجه المبتئس‪ ،‬لن أضيع الفرصة سألته‪:‬‬
‫‪ -‬إبراهيم ما بك ؟ لقد أرعبتني!‬
‫‪ -‬كا‪ ..‬بو‪ ..‬س‪ ...‬كابوس فظيع!‪.‬‬
‫في أسى فرك عينيه‪ ،‬ثم نهض‪ ،‬نظر في وجهي‪ ،‬نظرات قرأت فيها اللوم‬
‫والعتاب والشعور بالذنب‪ .‬وبقوة ٍ حاول أل تضيع منه قال‪:‬‬
‫‪ -‬غدا‪ ،‬نعود إلى حلب‪ ،‬أو أعود وحدي!‪.‬‬
‫كن تُ مثله مضعضعا‪ ،‬اختر نا طر يق العزلة عن المجت مع المح يط‪ ،‬لنكون‬
‫ب أعمى!‪.‬‬
‫ب مشلولٍ وثعل ٍ‬
‫مثل ذئ ٍ‬
‫حينئذٍ جلست قربه‪ ،‬وبدأنا نحكي عن همومنا‪ ،‬وعن ظلم الهل لنا‪ .‬وبحكم‬
‫فراستي‪ ،‬لم يطل زمن توقي لمعرف ِة ما ذكره عن كابوسه‪ ،‬نبش الحقيقة ما بقي‬
‫خافيا عل يّ‪ ،‬هو ال خر مطرودٌ من ب يت أب يه‪ ،‬طرده أبوه وحلف يم ين الطلق‬
‫على أمه أنه لن يدخل البيت ثانية!‪.‬‬
‫أخفيت معالم النشوة التي خفق لها قلبي‪ ،‬وأنا أتلقف حديثه الشائق الجميل‪،‬‬
‫الذي جعلني أحس أني لست الوحيد المغبون حقه في هذه الحياة!‪.‬‬
‫ح ين قرر نا العودة لم نع ْد في القطار‪ ،‬م ساء اليوم التالي ركب نا في واحدة‬
‫من باصات "الهوب‪ ،‬الهوب"‪ ،‬وحين أصبحنا في كراج حلب ودع كل واحدٍ منا‬

‫‪- 92 -‬‬
‫ال خر‪ ،‬وح ين ابت عد ع ني ترجلت خطوا تي م ثل ح صان جامح ٍ أ صابه مكروهّ‪،‬‬
‫ت وحيدا ل شر يك م عي‪ ،‬أح سست بضوء م صابيح‬ ‫فشعرت بالض يق ل ني عد ُ‬
‫السيارات أعينا نارية ً تريد أن تغتالني!‪.‬‬
‫أين سأذهب ؟ أعرف مصيري في بيت أبي !! فخطر في بالي أن أذهب‬
‫إلى بيت جدي على القل أستعيد بعض قوتي‪.‬‬
‫ع ند الباب تردد تُ‪ ،‬ثم ضر بت الباب " بال سقاطة" المعل قة في و سطه من‬
‫العلى‪ ،‬بعد هنيهةٍ لح جسد من طحنته السنون‪ ،‬وقف يُحملق في وجهي بشيءٍ‬
‫من الذهول!‬
‫جدي الذي أنكر ني قال و هو يش حذ الكلم من ب ين "د كة" أ سنانه ب صوتٍ‬
‫تآكلت منه الحروف‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ...‬خير إن شاء ال ما تريد؟!‪.‬‬
‫‪ -‬أريد أن أرى أمي؟‪.‬‬
‫‪ -‬أم‪ ...‬ك‪ ،‬الن تسأل عن أمك!‬
‫دفعع الباب فعي وجهعي يصعدني معن الدخول وهعو يلععن البذرة الفاسعدة‬
‫والساعة التي جمعتنا وإياهم وختمها‪:‬‬
‫‪ -‬ال يرحمنا‪ ،‬أمك صارت في روسيا !‪.‬‬
‫انخ سفت بي الرض‪ ،‬ونتأت خلياي الراجفة برع شة باردة انع قد ل ساني‪،‬‬
‫إذن ما قالته أم نوري صحيحٌ! ولكن إلى هذه الدرجة من الكراهية بدوت أمامه‬
‫نكرة ل يقبل أن يعترف بوجودها؟!‪.‬‬
‫اشتعل رأسي بالنار‪ ،‬وتكاثف الدخان من حولي‪،‬وتهالكت قواي أيقنت أني‬
‫ف وح شي ُيغلق‬
‫ي أن أجا به م صيري بالطري قة ال تي تنا سبني‪ .‬وبعن ٍ‬
‫منبوذ‪ ،‬وعل ّ‬
‫الباب فعي وجهعي‪ ،‬وبعيون خضلتهعا الدموع أسعتعرض سعمفونية ضياععي بل‬
‫توقفٍ!‪.‬‬
‫عن على‬
‫عير‪ ،‬فقررت أن أكون الغالب ل المغلوب ولكع‬ ‫عة مصع‬ ‫الحياة لعبع‬
‫طريقتي‪ ،‬سأجعلهم يندمون‪ ،‬سأنتقم منهم جميعا!‪.‬‬

‫‪- 93 -‬‬
‫طاش واح ٌد من القطيع الذي بددته حيزبون المآتم السرية‪ ،‬ولكن إلى أين‬
‫أذ هب؟ وأ ين أنام؟ وك يف أد خل الب يت؟ ماذا لو كا نت الشر طة في انتظاري ؟‬
‫وعلى الرغم من تمردي وحقدي شعرت بالخوف‪ ،‬فقلت في سري‪":‬يا رب تدبر‬
‫أمري"!‬
‫خائفا قررت مواجهة مصيري‪ ،‬مرتجف الخطوات صعدت ُ الدرج‪ ،‬وحين‬
‫و صلت التق طت أنفا سي‪ ،‬نقرت الباب بأ صابعي ففت حت أخ تي فريدة‪ ،‬من ح سن‬
‫حظي أنها لم تكن نائمة ومن خلل نبرتها المرتعشة انتبهت إلى ملمحها وسط‬
‫ب صيص ضوء الغر فة الذي ان سل جزء م نه إلى ح يث أ قف و سط ظلم الدرج‪،‬‬
‫تصورت فيها ملمح أمي الذابلة! وبرفق ٍحزين ٍ قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ادخل وبدون صوت‪ ،‬جدتك نائمة‪.‬‬
‫ت خفيض ٍ أن والدي متشبث برأيه في تسليمي‬ ‫في الشرفة أخبرتني بصو ٍ‬
‫إلى الشر طة‪ ،‬فأ سلمت ج سدي إلى أرض ال سطح ب عد أن زودت ني أخ تي بحرام ٍ‬
‫عتيق ٍ ومهمل ٍ كي ل تثير شكوك جدتي‪ ،‬وبدأت أفكر!؟‬
‫لم يكعن مسعاءً عاديا‪ ،‬كانعت ليلة مشحونعة بالرق وبالتسعاؤلت المرعبعة‪،‬‬
‫ودموع أختعي المخضلة بالخوف أيقظعت فعي نفسعي مشاععر معن نوع ٍ خاص ٍ‪،‬‬
‫ط آ خر‪ ،‬إلى تحدٍ جديدٍ‪ ،‬ل سأل نف سي" ‪ -‬لماذا لم أتك يف‬
‫فتحول تفكيري إلى نم ٍ‬
‫مع الواقع الذي فرضه عل يّ القدر عندما انفصل الزوجان عن بعضهما تاركين‬
‫ربيعا معن الطفولة يذبعل قبعل أوانعه‪ .‬أختعي تريدنعي أن أكون رجعل البيعت‪ ،‬هذا‬
‫الت صور أعاد لي جزءا من آدمي تي‪ ،‬فأح سست أ ني سأنزل م سرعا إلي ها كي‬
‫ل لها ولخويّ ناجي ورضوان ‪:‬‬ ‫أقبلها‪ ،‬وأضمها إلى صدري قائ ً‬
‫‪ -‬سأكون رجل البيت شريطة أن تسمعوا كلمي!‪.‬‬
‫أمام هذه الصورة من الجمال البريء عاهدت نفسي أني سأكون لها ولهما‬
‫مشبعع بالرقعة والسعكينة على الرغعم معن وجود‬
‫ٌ‬ ‫ل أهلهعم وناسعهم‪ ،‬فأنعا الن‬
‫كّ‬
‫المخاوف المعششة في العماق‪.‬‬
‫صعبيحة اليوم التالي أعطتنعي أختعي إشارة الدخول‪ ،‬فالمحروس حضعر‬
‫يسأل ومضى يفتش!‪.‬‬

‫‪- 94 -‬‬
‫وحين دخلت الغرفة‪ ،‬واجهني ذلك الوجه الموبوء بالسأم الممل‪ ،‬المشحون‬
‫بثرثرة الحقاد والترهات‪ ،‬قائلة وهي تخبط بيدها على صدرها‪:‬‬
‫‪ -‬من أين جئت ؟ بسم ال الرحمن الرحيم‪ ،‬أبوك خرب الدنيا! هي "عملة‬
‫بتعمل ها"‪ ،‬وال ب سْ ير جع ليك سر رجلك ويق طع يدك " يي"‪ ،‬يا لط يف * إن من‬
‫أموالكم وأولدكم أعداء لكم فا حذروهم *‪.‬‬
‫كأ ني لم أ سمعها تتكلم‪ ،‬ف صوتها الجليدي أكره سماعه و من غ ير أن أر مم‬
‫وجعها وأعطيها الجواب الذي يشفي من توترها قلت لها ‪:‬‬
‫‪" -‬أنت مادخلك‪ ،‬وسدّي بوزك" !‪.‬‬
‫حركت يدها كأنها تشكوني قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬طيب‪ ،‬سنرى حتى يحضر‪ ،‬يا لطيف ولد مغضوب‪ ،‬ال ينجينا !‪.‬‬
‫ط من سرقةٍ‪ ،‬وسرقة‬
‫وهربا من مواجهة الحقيقة‪ ،‬الحقيقة الذبيحة على بسا ٍ‬
‫من؟ سرقة أبيك! فتحت الباب وعيناي تحدقان في عالم مجهول‪.‬‬
‫قض يت النهار في حدي قة "مي سلون"‪ ،‬وتقريبا ال ساعة ال سابعة بدأت رحلة‬
‫الطواف في شوارع المدي نة‪ ،‬ح تى أنهك ني الت عب‪ ،‬فعك فت إلى الش يخ مق صود‬
‫ل ك نت أن قر الباب ثلث‬
‫ح يث شاهد ني أ بو سليم و في حوالي الثان ية ع شر لي ً‬
‫نقراتٍ‪.‬‬
‫حاولت النوم فأنا مجهدٌ‪ ،‬لكن الخوف الذي لزمني طي َر النوم من أجفاني‪،‬‬
‫فتخيلت هوائيات التلفزة ومداخن المدافىء‪ ،‬قد تحولت إلى أشباح ٍ تريد القتراب‬
‫مني كي تهلكني!‪.‬‬
‫كالقرد الهارب من قفصه نزلت‪ ،‬وأنا أتسحب على رؤوس أصابعي‪ ،‬حتى‬
‫اندسست في الفراش قرب أخوتي‪.‬‬
‫كان شخيرها مثل شخير محتضرٍ‪ ،‬وعيناها شبه مغمضتين وفمها نصف‬
‫مفتوح ٍ‪ ،‬وشعر ها الق صير الب يض منكو شٌ م ثل صوف النعجةِ‪ ،‬ولشدة خو في‬
‫وفزعي مما رأيت أغمضت عينيّ‪ ،‬وأعتقد أني نمت‪.‬‬
‫في صبيحة اليوم التالي انتفضت مذعورا‪" ،‬يا لهذا الصباح الغائم"! رأيت‬

‫‪- 95 -‬‬
‫وجها أثار الهلع في داخلي‪ ،‬كأ ني أول مرة أشاهده‪ ،‬كان محتقنا‪ ،‬ين مّ عن الح قد‬
‫والغضب‪.‬‬
‫ت كالمطعون في ظهره سائل ًالملئ كة أن تتنزل بالرح مة‪ .‬دقائق‬
‫قرف ص ُ‬
‫فيع مثعل ضفدعةٍ هرمةٍ‪ ،‬وبععد أن تلمظعت وابتلععت ريقهعا‬
‫مرت وهعي تحملق ّ‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬حرام عليك‪ ،‬تريد تموته‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا قلت؟‪.‬‬
‫‪ -‬يا حرام سرقت الغلة والسندات‪ ،‬كأنك ما فعلت أي شيء !‪.‬‬
‫‪ -‬أنا؟!‪.‬‬
‫‪ -‬آ‪ ،‬أنت! وماعندك خبر‪ ،‬مسكين يا حرام مظلوم !‪.‬‬
‫‪ -‬روحي على شغلك!‪.‬‬
‫بدت ملتاثة‪ ،‬أصبحت تدور في أرض الغرفة وهي تدمدم‪:‬‬
‫‪ -‬آخ يا رأسي‪ ،‬ال يساعدنا‪ ،‬ولد مغضوب!‪.‬‬
‫نكا ية ب ها رم يت بالمنف ضة وبالكأس ال تي كا نت على المنضدة ال صغيرة‪،‬‬
‫فتطايرت نتعف الزجاج وأعقاب السعجائر على الرض فصعرختْ بصعوت ٍ‬
‫مرعوب ٍ ‪:‬‬
‫‪ -‬ال يأخذك‪ ،‬ويقصف عمرك يا مغضوب!‬
‫وانقضت عل يّ مثل ساحرة‪ ،‬وأخذتني بين يديها بعد أن غاصت أصابعها‬
‫المعروقة داخل شعري‪ ،‬فضربتها فصرخت متوجعة‪:‬‬
‫‪ -‬ال يغضب عليك ويأخذك حتى نرتاح‪ ،‬وال‪ ،‬وال‪.....‬‬
‫ولم تكمل جملتها‪ ،‬لن صوت المفتاح أعلن عن حضور ولي المر!!‪.‬‬
‫بقسماته الغاضبة انتصب في أرض الغرفة‪ ،‬وما إن رآني حتى هجم عليّ‬
‫وراح يضربني بل وعي‪ ،‬فكاد يغمى عليّ!‬

‫‪- 96 -‬‬
‫في تلك اللح ظة تمن يت الموت‪ ،‬وكا نت فكرة الموت على يد يه تروق لي‬
‫كثيرا‪ .‬فقلت في نفسي‪ :‬اضربْ‪ ،‬اضربْ بشد ٍة ما عدت أحسُ باللم‪ ،‬لن أموت‪،‬‬
‫سأعيش حتى أراك حاملً صندوق فقرك وعجزك‪ ،‬بعد ذلك يا مرحبا بالموت!‪.‬‬
‫لن أكون الولد الرضي‪ ،‬كنت البادئ‪ ،‬والبادئ أظلم! أنت من علّمني غش‬
‫الزبائن‪ ،‬أنسيت كيف كنت ُتبدل تسعيرة القطعة وأنت تقول‪ " :‬الزبونة" ل تفهم‬
‫بالمقاسات‪ ،‬قياس نمرة ثلث سعره أغلى! ضعها على قياس نمرة واحد !!‪.‬‬
‫والتعي تنازلت لك ععن حقهعا الشرععي‪ ،‬تنكره عليهعا وتقدمعه إلى زوجعة‬
‫جديدة‪ .‬اضر بْ بقسوة أكثر‪ ،‬لن أعترف بما فعلت! ولن أخبرك أين ذهب تُ‪ ،‬وكم‬
‫صرفتُ؟ وكم بقي معي‪ ،‬وأين أخفيته؟!‪.‬‬
‫‪ -‬ما فائدة ضر بك الن؟ تحجرت أوجاععي‪ ،‬ما عد تُ أح سُ باللم‪ ،‬لن‬
‫تسمع صوت أنيني أو بكائي!‪ ،‬أصبحتُ مثل حجر‪ ،‬أصم ثقيل‪ ،‬ل يتحرك"!!!‪.‬‬
‫رضوان وناجي وفريدة وقفوا يصرخون ببكاءٍ مطير وهم يشاهدون الدماء‬
‫تنفعر معن أنفعي وشفتعي‪ ،‬وأم نوري التعي صععدت إلينعا على صعوت الضجيعج‬
‫والصراخ دخلت تسأل ما الخبر؟ كانت هي الخرى واهنة‪ ،‬راجفة اليدين‪ .‬وبدلً‬
‫من أن ت صدّه جد تي‪ ،‬وق فت المرأة الغري بة حائلً بي ني وبي نه‪ ،‬تم نع يده القا سية‬
‫ع ني‪ ،‬ف قد أد مى وج هي! وبل مراعاةٍ للخوا طر خوا طر الذ ين كانوا يبكون على‬
‫أخيهم‪ ،‬خرج وهو ُيهد ّد بإخبار الشرطة!!‪.‬‬
‫ب مع الهنود الحمر‪،‬عاد وغض به النافر‬
‫بعد ساعة عاد كمن كان في حر ٍ‬
‫واضح الملمح وبلهج ٍة متوعدةٍ قال‪:‬‬
‫‪ -‬إذا اعترفت لن أخبر الشرطة‪ ،‬سأعطيك فرصة‪ ،‬معك نصف ساعة قل‬
‫ماذا فعلت بال سندات ومبلغ الخم سة آلف ليرة؟ ف قط اح كِ الحقي قة! لن أضر بك‪،‬‬
‫سأنسى‪ ،‬ويا دار ما دخلك شر!!‪.‬‬
‫اقترب ناجي يتوسله في أن يعفو عني‪ .‬انضمت إليه فريدة‪ ،‬و ظل معانداً‪،‬‬
‫لن يغفر لي فعلتي‪ ،‬وإذا اقتضت الضرورة فهناك شرط واحد‪ ،‬شرط واحد فقط‬
‫ول تراجع عنه‪ ،‬أن أخرج من البيت ومن دون رجعة إليه!‪.‬‬
‫ركعت أختي تحت قدميه ترجوه وتتوسل إليه أن يعفو عني‪ ،‬قبلت ساقه‪،‬‬

‫‪- 97 -‬‬
‫فأبعد رأسها بيده وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬مب سوط يا ا بن ال‪ ،‬خذ حوائ جك وا مض ِ‪ ،‬ه يا لن أق بل بوجودك‪ ،‬من‬
‫يعرف كيعف يسعرق ؟ يعرف كيعف يعيعش وحده‪ ،‬هيعا اخرج‪ ،‬اذهعب معن دون‬
‫رجعة‪ ،‬يا ال "لبره اتفوووو"‪.‬‬
‫ل في صدري‬ ‫حين طردني خرجت مهيض الجناحين‪ ،‬متورم الوجه حام ً‬
‫الجرح واللم‪ ،‬ولني ل أعرف مكانا غير حديقة "ميسلون" فقد بحثت عن مكان ٍ‬
‫ل يراني فيه أح ٌد من المارة‪ ،‬وخواطر سوداء راحت تدور في عقلي ونفسي‪ .‬لن‬
‫أسكت على إهانته لي بهذا الشكل أمام جارتنا وأخوتي‪ ،‬سأردّ المبلغ إلى العقاب‬
‫ال كبير‪ ،‬سأجعله بل أجن حة‪ ،‬و سأجعله يندم على طرده لي أمام الجارة‪ ،‬سأكون‬
‫أنا الرجل الذي يعاقب‪ ،‬وسيكون هو الطفل النادم‪ ،‬لن أدعه يرتاح‪ ،‬سأهدم حياته‬
‫كما هدم حياتي‪.‬‬
‫في دوامة الصراع بين احتمال اللم والطرد‪ ،‬شاهدني عليّ فجفت دموع‬
‫قلبي‪.‬‬
‫ابتسامته جعلتني أشعر بالكراهية نحوه أكثر من كل مرةٍ لكنه فيما عرضه‬
‫عليّ طيبَ خاطري‪ ،‬وألزمني بمرافقته!‪.‬‬
‫فعي المقعبرة أسعندت ظهري إلى واحدة معن الشواهعد! عبارتعه أرجععت‬
‫ذاكرتي‪ ،‬ورسمت صورته‪ ،‬وأعادت صوته "بدي ماما"‪" ،‬أين قبرك أيها الطفل‬
‫ل لضمك إلى صدري مثلما فعلت يوم غادرت البيت أمي!‬ ‫الصغير؟! تعا َ‬
‫ل أري ُد " ل فة الز يت والزع تر"! في هذه‬
‫اخرج من قبرك‪ ،‬دع ني أقبلك‪ ،‬ق ْ‬
‫اللحظعة القاسعية ورغما عنعي انهمرت دموععي التعي كانعت متحجرة‪ ،‬فأخفيعت‬
‫وج هي براحتي ّ‪ ،‬وكأ نه عرف بإدرا كه ما أحتا جه في هذه اللح ظة فأخرج من‬
‫جيب قميصه حبة وقدمها قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬خذْ‪ ،‬ابتلعها‪ ،‬تنسى وتصبح ملكا!‪.‬‬
‫حبة واحدة صغيرة‪ ،‬جعلتني أشعر بالخدر يسري في عروقي وأنسى‪ ،‬حبة‬
‫واحدة أرقدت ضجيعج الحقعد والغضعب فعي ثقوب ذاكرتعي فتهاديعت مثعل قشةٍ‬
‫وضعتها الريح‪ .‬حبة واحدة جعلتني أتعلق بعلي وأنفذ له كلّ طلباته‪ ،‬لجعل من‬

‫‪- 98 -‬‬
‫لغة القصاص في داخلي وأنا أحاور من ل وجود لشخصه أمامي بل في ذاكرتي‬
‫نافذة فعي الدخول إلى العالم الذي بدأ " لخوفعك معن كلم الناس باتهامهعم لك‬
‫بالف شل وبالع جز من تربي تي تطرد ني‪ ،‬تتك تم على سرقتي لمحلك ضاغطا على‬
‫أع صابك ب جبروت القا تل‪ ،‬تطرد ني ل نك أ صبحت تخاف م ني‪ ،‬وهذه الخيرة‬
‫أضا فت إلى أفعالي شيئا قويا‪ ،‬شيئا ل يمكنك أن تقدر ثم نه‪ ،‬جعلتني أش عر بأني‬
‫قد انتصرت عليك !‪.‬‬
‫تبا لك يعا أبعا لهبعٍ‪ ،‬تبعا ً لك يعا أبعا غالبعٍ‪ ،‬كلّ الذي اسعتطعت أن تفعله‪،‬‬
‫وفعلته أنك طردت ولدك من البيت‪ ،‬فهنيئا لبوتك بما فعلت"‬
‫وحين لكزني عليٌ بطرف حذائه‪ ،‬انتفضت من مكاني وسألته ‪:‬‬
‫‪ -‬ما الم ْر ؟‬
‫أجاب بصوتٍ خفيض ٍ‪:‬‬
‫ل قادمون‪ ،‬ازحف ورائي نحو الشجرة!‪.‬‬
‫‪ -‬هسْ‪ ،‬يوجد رجا ٌ‬
‫ما أرهب هذه اللحظات؟! وما أسوأ برودة أعصابه؟!‪.‬‬
‫زحفت معه نحو الوراء كما تزحف السحالي‪ ،‬وعند جذع الشجرة تمددنا‪،‬‬
‫وانتظرنا هبوط الظلم‪ ،‬فنظرت من حولي كانت القبور راقدة في جوف صمتها‬
‫كما القوقعة‪ ،‬والظلم يتسربل عميقا في قلب الصمت!‬
‫ما أقسى النوم بين ظلل القبور والشواهد! وما أحوجني في تلك الساعة‬
‫إلى أريك ٍة من قش ٍ أو إسفنج ٍ أو قطن ٍ أو حتى خرق ٍ باليةٍ‪ ،‬المهم أن أجد ما‬
‫أضع عليه رأسي "انقلع لبره‪ ،‬يلعنك ابن حرام!"‪.‬‬
‫هذه الجملة ثقبت أذني وسكنت فيها‪ ،‬فأشعر في تلك اللحظات أني أكرهه‬
‫بجنون‪ ،‬بعد أن تراءى لي أن الحياة متآمرة معه ضد جميع حقوقي النسانية!‬
‫حين خرجت من البيت مجلجلً باليأس ومكبلً بفجيعة الطرد أحسست أني‬
‫ابتلع جبلً وعرا‪ ،‬كان الطريعق مشغولً بضجيعج السعيارات وبأصعوات الباععة‬
‫وبحركعة بععض المارة وكنعت مشغولً بضجيعج ٍ معن نوع ٍخاص ٍ‪ ،‬معن نوع ٍل‬
‫يظهر!‪.‬‬

‫‪- 99 -‬‬
‫في هذا المكان تجاهلت أ ني ك نت أراق به‪ ،‬وح ين أخرج من ج يب بنطاله‬
‫مفكا صغيرا وراح يحفر عند الجذع سألته‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تفعل؟‪.‬‬
‫‪ -‬هسْ‪ ،‬ل ترفع صوتك!‪.‬‬
‫جعل ني أجلس مذهولً أراق به‪ ،‬ما الذي أخر جه من ت حت التراب؟ ما هذه‬
‫العصاب القوية ؟ إني أراه يجلس مثل نمس ٍ متمرن ٍ يلف سيكارة‪ ،‬وكان لبدّ‬
‫من سؤاله‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا؟‪.‬‬
‫‪ " -‬كيف "‬
‫‪ -‬ما معنى "كيف"؟‪.‬‬
‫‪ -‬حشيش!‪.‬‬
‫حين سمعت بكلمة حشيش توارت قوتي‪ ،‬كما توارت داخل القبور الكفان‬
‫والج ساد والعظام‪ .‬ك نت في تلك اللح ظة متأرجحا ب ين الخوف وب ين الهروب‪.‬‬
‫بين ماأحس به من ضحكٍ‪ ،‬فأطلق أصداءه المتعفنة داخل أفنان روحي المتكسرة‬
‫ب المقهور الضحك على كلمه لمي‪:‬‬ ‫لوقظ كلّ الموات علهم يشاركون غال ٍ‬
‫‪ -‬آ‪ ...‬حاجة بقى ما في واحد مات ورجع على الدنيا‪ ،‬وحكى للناس عن‬
‫عذاب القبر!‪.‬‬
‫فأصيخ السمع علني أسمع ما ينافي ما كان يقوله لمي‪:‬‬
‫‪ " -‬آ‪ ...‬ست مفتي "خانم"‪ ...‬بيعينا سكوتك!"‪.‬‬
‫كنتع سعاكتا أعيعد ترتيعب الكلمات لماض ٍ ل يزال مغروسعا فعي‬
‫ُ‬ ‫ولنعي‬
‫الذاكرة وقد بدأت أدخن سيكارة الحشيش‪ ،‬التفت إليّ يسألني‪:‬‬
‫‪ -‬هل ارتحت؟‪.‬‬
‫‪ -‬بل "انصطلت" !‪.‬‬
‫فجأة سمعنا صوت قعق عة ع صا‪ ،‬تنب هت حوا سي ن حو م صدر ال صوت‪،‬‬

‫‪- 100 -‬‬


‫فرفععت جسعدي قليلً‪ ،‬ونظرت معن خلف الشاهدة التعي كنعت أجلس بجوارهعا‪،‬‬
‫كانت الشمس تحاول اختراق الغمام‪ ،‬وثمة رجلٌ يضرب زوايا الشواهد بعصاه‪.‬‬
‫قررنا أنا وعل يّ النفصال حتى المساء‪ ،‬على أن نلتقي بعد المغرب في المكان‬
‫ذاته‪ ،‬عند الشجرة الموازية لعمود الكهرباء‪.‬‬
‫لم أنزل معن الطرف الشرقعي‪ ،‬لحقعت بالرجعل صعاحب العصعا‪ ،‬وحيعن‬
‫أصبحت قريبا منه‪ ،‬نظرت إليه‪ ،‬فرأيته مغمض العينين‪ ،‬فتشجعت في أن أمدّ له‬
‫ل‪:‬‬‫يد العون قائ ً‬
‫‪ -‬على مهلك يا عم‪ ،‬هات يدك !‬
‫خامر ني إح ساس غر يب وأ نا أم سك بيده بأ ني أعر فه م نذ زمعن بعيعد‪،‬‬
‫أحسست كأنه يعرفني منذ زمن بعيدٍ أيضا! أبدى الرجل ارتياحا من وجودي إلى‬
‫جانبه‪ ،‬وقبل أن يترك أحدنا الخر سألني‪:‬‬
‫‪ -‬أتزور أحدا؟‪.‬‬
‫ي أن أكذب ‪:‬‬
‫وكان عل ّ‬
‫‪ -‬نعم كنت أزور قبر أخي الصغير!‪.‬‬
‫‪ -‬ل حول ول قوة إل بال‪.‬‬
‫ضرب الرض بعصاه‪ ،‬وبصوتٍ جهوري راح يردد‪:‬‬
‫‪ -‬ل يا محسنين‪ ...‬ل‪! ....‬‬
‫تمنيت أن يكون ذلك الرجل والدي وتخيلته يناديني‪:‬‬
‫ل ساعدني‪ ،‬أريد دخول الحمام!‪.‬‬
‫‪ -‬غالب‪ ،‬تعا َ‬
‫بعد نزولنا من المقبرة نقدت الرجل عشر ليرات فسمعته يدعو لي بطول‬
‫العمر‪ ،‬تركته ووقفت على الرصيف أفكر إلى أين سأمضي؟!‬
‫داهمتني فكرة العودة إليهم للسؤال عنهم‪ ،‬عن أخوتي فهذا حقي!‬
‫اسعتراحت الفكرة فعي رأسعي المتععب‪ ،‬فسعابقت الريعح وحيعن وصعلت‪،‬‬
‫أ سرعت في ال صعود إلى الب يت بحذرٍ‪ .‬ف قد بدا لي أ ني سأواجه م صيرا متعبا‪،‬‬

‫‪- 101 -‬‬


‫وجهعي لم يشعف بععد! طرقعت الباب طرقا خفيفا‪ ،‬وبععد هنيهعة معن النتظار‬
‫ت مهذبٍ قالت‪:‬‬
‫المزعج‪ ،‬ف ِتحَ البابُ وبصو ٍ‬
‫‪ -‬ادخل‪ ،‬جدتك‪ ،‬عند أم نوري‪.‬‬
‫نظرت في وجهها أتأمل قسماته‪ ،‬كانت عيناها غارقتين بالدمع فسألتها عن‬
‫السبب‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫‪ -‬بابعا لن يرسعلني إلى المدرسعة‪ ،‬قال‪ :‬واجعبي أن أتعلم شؤون البيعت‬
‫والطبيخ‪ ،‬ومستقبلي في الزواج وليس في طلب العلم‪.‬‬
‫ل الكبرياء الهامد في نفسي‪:‬‬
‫ضربت رأسي بنخوة ٍأيقظت ك ّ‬
‫‪ -‬يريد أن تشتغلي خادمة‪ ،‬أما يكفيه ما فعله بي؟!‪.‬‬
‫م سحت دموع ها ال تي ان سلت من عيني ها على خدي ها من اختزان اللم ثم‬
‫رمتني بابتسامة مشحوذة‪ ،‬وكأنها تدرك أكثر مني أبعاد الوقيعة‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫‪ -‬أنسيت أني سأخدم إخوتي؟!‪.‬‬
‫أخرستني وأخرست نبض الدم في عروقي‪ ،‬أكانت تقصدني؟‬
‫أكا نت تل مح إلى عل قة أ بي بي‪ ،‬وعلق تي بأ بي!؟ شعر تُ بالتو تر يغزو‬
‫ملمحي الجافة‪ ،‬الضيق يتشعب في الصدر وبنظرة خاطفة حانية قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬بوسعي رضوان وناجعي‪ ،‬وخذي بالك منهمعا ولسعوف أسعأل عنكعم‪ ،‬لقعد‬
‫تأخرت!‪.‬‬
‫في ظهيرة ذلك اليوم شعرت بتغيرات الط قس تش به تغيرات نف سي فن حن‬
‫مع بدايات دخول فصل الصيف‪ ،‬بل عافية رحت أمشي‪ ،‬أجتر خطواتي اجترارا‬
‫دبقا وأ نا ألف وأدور في الشوارع والحواري و قد اعترا ني اليأس الذي اغت صب‬
‫فرح العقاب الصغير!‪.‬‬
‫ولح ظة قرأت العلن المعلق على واج هة الم حل الزجا جي تردد تُ في‬
‫ت في السؤال‪ ،‬تردد تُ في أن أكون أجيرا مرة أخرى فعدلت عن‬‫الدخول‪ ،‬تردد ُ‬
‫الدخول للسؤال عن عمل ٍ‪ ،‬فما زال معي من المال ما يفي حاجتي!‪.‬‬

‫‪- 102 -‬‬


‫دخلت إلى دكان الفوال أبعو عبدو طلبعت صعحن فول بالطحينعة معع فحعل‬
‫بصعل كمعا يقولون وجلسعت أفطعر‪ ،‬كانعت شهيتعي إلى الطعام قويعة‪ ،‬مسعحت‬
‫الصحن كله ورغبت في طلب المزيد لكنني خجلت!‬
‫وحين خرجت من عند دكان الفوال‪ ،‬رأيت إبراهيم وهو يخرج من محل‬
‫تصليح الساعات‪ ،‬ندهته‪ ،‬التفت نحوي قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬أهلً غالب‪ ،‬كيف حالك؟‪.‬‬
‫‪ -‬الحمد ل‪.‬‬
‫تنبهتُع إلى شي ٍء مهعم ٍ‪ ،‬شيعء كان يجعب أل يغ يب ععن ذاكرتعي فسعألت‬
‫بلهفةٍ‪:‬‬
‫‪ -‬صحيح‪ ،‬ما أخبار أمك وأبيك؟ هل طلق أبوك أمك؟!‪.‬‬
‫‪ -‬فأل ال ول فألك‪ ،‬انحلت‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؟‪.‬‬
‫‪ -‬تدخل صهري بالموضوع‪،‬ل تؤاخذني مستعجل‪ ،‬إنه ينتظرني‪.‬‬
‫‪ -‬من؟‪.‬‬
‫‪ -‬صهري‪.‬‬
‫في الحقي قة لم أ كن أر يد له هذه النها ية‪ ،‬ك نت أريده أن يكون مثلي ول نه‬
‫عليع بتفاصعيل الشياء فقعد تملص بحنكةٍ وركعض‬ ‫ّ‬ ‫كان غيعر مضطعر أن يجود‬
‫يقطع الشارع‪ ،‬وأنا أراقب ظلله التي صارت بعيدة عن عيني‪ ،‬شاهدت الرجل‬
‫العمى يحاول أن يعبر الشارع فركضت نحوه مسكته من يده وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬مرحبا يا عم‪ ،‬أتريد عونا‪.‬‬
‫‪ -‬كأني سمعت هذا الصوت!‪.‬‬
‫‪ -‬أنا غالب الذي كنت أزور قبر أخي هذا الصباح‪.‬‬
‫‪ -‬أهلً‪ ،‬بارك ال في سعيك‪.‬‬

‫‪- 103 -‬‬


‫ومشعى على الرصعيف ينادي " ل يعا محسعنين ل " بععد أن ترك يدي‪،‬‬
‫فعرفت أنه ل يريد أن يظل بقربي‪ ،‬فقررتُ مطاردته!‬
‫بدأ خط سيره من منعطف مفرق "الجابرية" إلى شارع "الحميدية فالنيال"‪،‬‬
‫ل زاويعة كان يقعف بععض الوقعت ينادي "ل يعا محسعنين" حتعى وصعلنا‬ ‫وعنعد ك ّ‬
‫الجامع الكبير!‪ ،‬وحين ابتدأت الشمس تميل نحو المغيب خرج الرجل من الباب‬
‫الرئيسي للجامع الكبير‪ ،‬ما أثقل الزمن الذي كان يمر ببط ٍء على رأسي وقدم يّ‬
‫وأنعا واقعف أتعقعب كلّ حركاتعه وردود أفعاله معع الذيعن يدفعون‪ ،‬والذيعن ل‬
‫يدفعون‪.‬‬
‫حين خرج الرجل وقفت أمامه وقلت بكل جرأة ‪:‬‬
‫‪ -‬مساء الخير يا عم‪ ،‬أتريد عونا ؟‬
‫‪ -‬أنت ثانية ؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أنا غالب وأرغب أن أساعدك في عبور الشارع!!‬
‫ق بي وهو مغمض العينين‪ ،‬إحساسٌ غريبٌ دفعني إلى‬ ‫ت بروحه ُتحد ُ‬
‫شعر ُ‬
‫التفك ير بملحق ته‪ ،‬حا جة مل حة دفعت ني وب كل جرأة في أن أقول له وأ نا أم سك‬
‫بكوع يده‪:‬‬
‫ط المغلوب‬
‫ي مشكلة ولن ي ساعدني على حلها أحدٌ غيرك‪ ،‬أرجوك أع ِ‬
‫‪ -‬لد ّ‬
‫على أمره فرصة البوح والفضفضة‪ ،‬فأنا مطرود من بيت أبي!‬
‫‪ -‬مطرود! ل حول ول قوة إل بال‪.‬‬
‫فرقع الرجل بعصاه وهو ينقر حجر الرصيف وقد اهتزت أوداجه ولحيته‬
‫الكثة‪ ،‬وتركني أمشي إلى جانبه من غير أن يقول شيئا‪ ،‬أو حتى يسحب كوعه‬
‫من بين أصابعي !‪.‬‬
‫معن الطرف الشمالي للمقعبرة مقعبرة "ميسعلون"‪ ،‬وتحعت الدرج دخلنعا إلى‬
‫مكان ٍ يشبه المغارة‪ ،‬كان يعرف الطريق جيدا وكأنه مبصر‪.‬‬
‫ثمة حمارٌ أبيض كان يقف في طرف المغارة‪ ،‬وحين شاهد صاحبه يدخل‬
‫راح ين هق‪ .‬رب ما من الفرح لأ نه لم ي عد وحيدا‪ ،‬ورب ما ل ني دخلت م عه‪ .‬كا نت‬

‫‪- 104 -‬‬


‫رائحعة الرطوبعة تضغعط على النفاس‪ ،‬وأمام الفععل الجميعل وعلى الرغعم معن‬
‫وجود كلّ النات الهاصعرة لحلمعي‪ ،‬توقعف الضجيعج المعربعد فعي رقععة هذا‬
‫المكان المخيف وسمعته يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أهلً بك في بيتي المتواضع‪.‬‬
‫‪ -‬يسلمْ البيت وأصحابه‪.‬‬
‫مع بدا ية هذه العل قة أعترف أن ز من الكتشاف العج يب لم ي كن طويلً‪،‬‬
‫فالرجل لم يكن أعمى‪ .‬كان مبصرا ولشدة دهائه جعل من نفسه أعمى كي يُلقط‬
‫رز قه ك ما كان عل يٌ يُل قط رز قه بال سرقة ليد خن‪ -‬الك يف‪ -‬وأ نا الول يد الحد يث‬
‫العهد بينهما‪ ،‬لكون فيما بعد الشريك والمشترك فيما أفعله وفيما لم أفعله‪.‬‬
‫مددت الح صير المهترىء على الرض وجلست قربه أسندت ظهري إلى‬
‫تجاويف الحائط البني الداكن‪ ،‬وببشاشة طيبة النبرة سألني‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت جائعٌ؟‪.‬‬
‫حقيقعة‪ ،‬كنعت جائعا لمعرفعة السعبب الذي جعله يمثعل دور العمعى على‬
‫الناس‪ ،‬وحين أيقنت أن الخير والشر وجهان لعمل ٍة واحدةٍ أحسست بشوق ٍ عارم‬
‫ٍلنوال‪ ،‬راودتني مشاعر الشوق في أن نلتقي معا في هذا المكان القصي‪ ،‬نختبر‬
‫فضاء روحي نا بلقاء العاشق بحبيبته داخل كه فٍ ل يهتك الستر فأذكر ما كانت‬
‫تقوله "أنت تكذب علي ل تحبني"!‬
‫فعي اللحظعة تلك يورق ذراعاي فيورق الحلم السعرمدي المخضعب بدخان‬
‫نرجيلة الشيعخ محمعد فأسعمع تردد نأمعة الخلص فعي عذوبعة ضمهعا إلى‬
‫صدري‪ -":‬أنا بحبك‪ ،‬بحبك حتى الموت"‪.‬‬
‫أتلقف رضاب كلماتها من ريق فمها وأعصر شفتيها بين شفت يّ‪ ،‬وبحركة‬
‫ما تفلت من ب ين يدي وتغ يب وراء سكون الباب وهدوء الل يل! وي ظل عطر ها‬
‫الخاذ معششا في خل يا رو حي وأنفا سي‪ ،‬ح تى أتن به من حل مي لوا جه ض من‬
‫هذه الرق عة ال صغيرة ما أفزع ني لح ظة حد قت إلى مخبئه التح تي وإلى نظرات‬
‫عينيه الشهلوين المحدقتين بي!‪.‬‬
‫‪ -‬ما تر يد أن تعر فه ع ني؟ ق صة حيا تي‪ ،‬يوم ولد تي‪ ،‬شجار أ مي مع‬

‫‪- 105 -‬‬


‫جدتي‪ ،‬وجدتي مع أمي!‬
‫أبع زرع اللؤم والحقعد والتمرد فعي الصعدر والقلب والجعبين نغمات‬
‫كره ٍ‬
‫حبٍ خفي ٍ لن يزهر أبدا! إذن اسمع تفاصيل قصتي‪ ،‬ول تفوت حرفا‪.‬‬
‫بإمعان ٍ راح ي ستمع إلى التفا صيل ب عد أن ارت سمتْ على شفت يه ابت سامة‬
‫جذابعة‪ ،‬شممعت منهعا رائحعة حنان ٍ‪ ،‬جعلتنعي أطمئن إلى مجالسعته فعي مسعكن‬
‫أحزانه!‪.‬‬
‫أغمض الحمار عينيه‪ ،‬وأغمض الشيخ محمد عينيه بعد أن استلقى بجسده‬
‫على فراش معن السعفنج مليءٍ بالبقعع والدهون تفوح منعه رائحعة العفعن‪ ،‬بينمعا‬
‫ركعب رأسعي القلق لشععر فعي هذه الليلة برغبةٍ فعي أن أنهزم إلى حيعث ينام‬
‫عليّع‪ ،‬لكعن الطمأنينعة التعي انداحعت فعي داخلي جعلتنعي أندس تحعت اللحاف‬
‫المهترىء بعد أن وضعت الرأس على أريك ٍة من قش ٍ‪.‬‬
‫نومع على الرغعم معن‬
‫وهنع شديدٌ بعث َر كلّ أفكاري وآلمعي‪ ،‬وشدنعي إلى ٍ‬
‫ٌ‬
‫جراح النفس‪.‬‬
‫صبيحة اليوم التالي ا ستيقظت مث قل الرأس‪ ،‬مو جع الظ هر وجل ست أ سأل‬
‫روحي "تُراني سأتعرف إلى أرواح جديدة ممن تحفظهم المقبرة داخل ترابها ؟!‪.‬‬
‫أم سعأتعرف إلى أشخاص أحياء ل يهجروننعي ول يوزعون الشماتعة فعي أشلء‬
‫روحعي؟! أم سعأصاب بالهول معن فظائع المور حيعن أسعمع صعوت أحدهعم‬
‫يخاطبني من غير أن أراه ؟!‪.‬‬
‫كانعت كلّ الفكار تجيعء و تتوارى بغمضعة عيعن ٍ! والشيعخ محمعد خرج‬
‫يلملم رزقه بعد أن تركني وحيدا أغط في نوم ل يشبه النوم‪.‬‬
‫تأملت المكان والحمار جيدا‪ ،‬تمنيت أن انقلب إلى حمار مثله كي أعيش بل‬
‫ألم وبل توبيعخ ضميعر‪ ،‬فتقشعف هذا المكان ارحعم بملييعن المرات معن سعرير‬
‫وفراش دافعئ نظيعف يقعض معن هدوئه ثرثرة عجوز ل ترحعم‪ ،‬لهذا قبلت بهذا‬
‫القدر الذي فرض نفسه علي‪.‬‬
‫علقة غريبة توطدت بيني وبين الشيخ محمد‪ ،‬محورها الهروب من واقع‬
‫الخطاء المفروضة علينا‪ ،‬يجمعنا الليل ويؤنس وحدتنا حمار أبيض‪ .‬هكذا وبل‬

‫‪- 106 -‬‬


‫مقدمات ماد ية ت جد نف سك في مكان غ ير مكا نك ال صلي‪ ،‬مكان فرض ته عل يك‬
‫ظروف أ سرة لم ي كن ال حب ديدن ها‪ ،‬بل الن كد والحرد والطلق والزواج‪ ،‬وح ين‬
‫ك نت سجينا في دار الحداث يدف عك إلى التو بة مد ير الدار والمر شد النف سي‪.‬‬
‫فينتهز والدك فرصة عدم وجودك ويتزوج!‪.‬‬
‫ُشفيع وجهعي معن أثعر علمات الضرب التعي أحدثهعا أبعي‪ ،‬بدأت‬
‫َ‬ ‫وحيعن‬
‫البحث عن عمل ٍ! ولن أقبل أن أكون عالة على صاحب المأوى الجديد!‪.‬‬
‫حين خرجت من المغارة رأيت الضوء الحقيقي‪ ،‬فنور مصباح زيت الكاز‬
‫كان يجعل ني أش عر بال سأم والقنوط‪ ،‬ونه يق الحمار ي سرق م ني الهدوء‪ ،‬فأش عر‬
‫بالخوف‪.‬‬
‫درتع على أصعحاب المحلت لبيعع اللبسعة الولديعة‬
‫ُ‬ ‫فعي شارع "النيال"‬
‫ت العلن المعلق على واجهة اللوح الزجاجي تردد تُ في‬ ‫والنسائية‪ ،‬وحين قرأ ُ‬
‫ترددتع فعي أن أكون أجيرا مرة أخرى‪ ،‬لكننعي‬
‫ُ‬ ‫ترددتع فعي السعؤال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الدخول‪،‬‬
‫مضطر‪ ،‬فدفعت الباب‪ ،‬ودخلت‪.‬‬
‫كان جالسعا وراء منضدة كعبيرة يشرب فنجان قهوة‪ ،‬رده البارد أزعجنعي‬
‫لكنعه عندمعا قال ‪ :‬نجرب‪ ،‬فكرت فعي القبعض على صعلعته ذات النحدارات‬
‫المتنافرة كي أقبلها‪.‬‬
‫كانت مهمتي أن أمسح الغبار عن خشب الموبيليا بقطعة قماش من القطن‬
‫الناعم‪ ،‬في هذا المكان الواسع تخيلت أبي يقف أمامي معتذرا عما بد َر منه في‬
‫ح قي وأ نا أد فع إل يه المبلغ الذي سرقته من الم حل‪ ،‬و هو نادم على قبوله شرط‬
‫الزوجة الجديدة " مالي علقة بالولد"‪.‬‬
‫بعد التاسعة أذن الرجل لي بالنصراف وقد أبدى ارتياحا من خبرتي في‬
‫التنظيف‪.‬‬
‫مض يت ناح ية دكان الفوال أ بو عبدو أر يد العشاء و ما إن دخلت وجل ست‬
‫على الكرسي‪ ،‬ثمة ي ٌد وضعت يدها على كتفي فاستدرتُ ‪:‬‬
‫‪َ -‬منْ علي ؟ يا مرحبا‪.‬‬
‫دعوتعه‪ ،‬فشاركنعي العشاء‪ ،‬وحيعن أردت الدفعع سعبقني فعي دفعع الحسعاب‬

‫‪- 107 -‬‬


‫وخرجنعا معا‪ ،‬حاولت أن أتملص منعه فلم أقدرْ‪ ،‬حاولت التهرب معن أسعئلته‬
‫ففشلت‪ ،‬ووقعت في العتراف الصعب! فأخذته معي إلى المغارة‪ ،‬لم يكن الشيخ‬
‫مح مد قد عاد بعدُ! فنفضعت الح صير‪ ،‬ثم مددتهعا‪ ،‬ووض عت المسعاند المحشوة‬
‫بالقش‪ ،‬وجل ست قربه أنت ظر عودة الشيخ مح مد لين ظر في هذه الورطة‪ .‬وحين‬
‫أخرج من ج يب قمي صه ال سيكارة شعرت نحوه بم قت يتجدد في داخلي‪ ،‬رف يق‬
‫ال سوء يشد ني معه إلى رائ حة الحش يش‪ ،‬فأد خن وأغ يب مع خيالي‪ ،‬ل سرح مع‬
‫نوال على سللم الدرج‪ ،‬في المط بخ‪ ،‬في بيت هم تعت صر شفتاي شفتي ها‪ ،‬أض غط‬
‫على صدرها ب صدري النح يل فأ حس بنشوة ٍ تعتري ني‪ ،‬ويد خل الش يخ مح مد‪،‬‬
‫يرى الدخان يمل المكان‪ ،‬يشعم الرائحعة فل يبدي انزعاجا‪ ،‬يرحعب بالضيعف‬
‫الجديد ويقول بصوت مبتهج ‪:‬‬
‫‪ -‬دخن عليها تنجلي!‬
‫اكتشاف جديعد آخعر أضاف إلى قائمعة أحزانعي الدمان على سعكائر‬
‫الحشيش‪ ،‬لكتشف فيما بعد أن المعسل من التنباك الذي كان يضعه الشيخ محمد‬
‫على النرجيلة لم يكن خاليا من ذلك الشيء الممنوع‪.‬‬
‫ُأدمنع على تعاطعي الحشيعش‪ ،‬مرة معن علي ٍ وأخرى‬
‫ُ‬ ‫رويدا‪ ،‬رويدا بدأت‬
‫من الش يخ مح مد‪ ،‬في الو قت الذي كا نت ف يه شهي تي على الطعام تث ير دهش تي‪،‬‬
‫والكثير من السئلة !‪.‬‬
‫في محل الموبيليا وحيث أتقنت العمل جيدا‪ ،‬أصبحت أتقاضى الجر الذي‬
‫يفي بحاجتي إلى س ّد مصاريف طعامي وسكائري بصنفيها الممنوع والمسموح‬
‫به‪ ،‬ولني كنت صاحب أنفة وكبرياء‪ ،‬فقد انزعجت من المعلم صاحب المحل‪،‬‬
‫حين دخلت سيدة أنيقة ذات جمال ٍ يسلب العقل‪ ،‬زاغت عيناه بساقيها المملوءتين‬
‫والمكشوفتين حتى الركبة‪.‬‬
‫وحيعن أمرنعي أمامهعا بطلب السعيد معن الجيعر‪ ،‬اسعتنفرتُ وتكهربعت‬
‫ت انظري‬ ‫أعصابي‪ ،‬وتوترت أنفاسي‪ ،‬فحدقت بالثنين‪ ،‬ثم حدقت بالمرأة "هيْ أن ِ‬
‫في وجهي‪ ،‬أنا لست أجيرا‪ ،‬أنا ابن صاحب محل أيضا احتواني هذا الصلع بعد‬
‫ل له ‪ :‬يا عم أنا أبحث عن عملٍ كي أساعد أمي على‬ ‫أن اختلقت عليه الكذب قائ ً‬
‫م صروفنا‪ ،‬تر كت المدر سة ب سبب موت والدي بمرض ال سُكر‪،‬لم يترك ل نا ما‬

‫‪- 108 -‬‬


‫يحمعي طفولتنعا معن غوائل الفقعر والحرمان‪ ،‬معن أجعل أخوتعي وأمعي ضحيعت‬
‫بمستقبل دراستي"‪.‬‬
‫في ذلك اليوم المش مس نقدت ني المرأة بخش يش الغر فة ال تي دف عت ثمن ها‬
‫نقدا‪ ،‬خمسمائة ليرة‪ ،‬وحين التقيت بعلي قلت له ‪:‬‬
‫‪ -‬تصور يا علي خمسمائة ليرة بخشيش !!‬
‫سهُمَ بنظرا ته ع ني‪ ،‬ثم انش غل بلف سيكارةٍ‪ ،‬دخ نت‬
‫بر قت عي نا علي ٍ و َ‬
‫السيجارة في المقبرة ونقدته مائة ليرة ومضيت نحو بيتنا القديم‪.‬‬
‫ومعا إن وجدتنعي أدخعل البيعت حتعى رشقتنعي بنظرة لئيمعة كتلك التعي ل‬
‫تتوانى عن اجتثاثها من أخاديد تصهر روحها‪ ،‬فسألت نفسي حينئ ٍذ " ما الحدث‬
‫الجديد الذي يجعلك تحدقين إل يّ بهذه النظرات اللئيمة التي جعلتني أكرهك أكثر‬
‫ل مرةٍ!؟ "‬
‫من ك ّ‬
‫حين دخلت البيت‪ ،‬فجعني أن أرى أخي رضوان يئن من ارتفاع الحرارة‪.‬‬
‫أزهرت المرارة في روحي البائسة بالسى والكتئاب فخرجت مسرعا‪ ،‬وعدت‬
‫م سرعا‪ ،‬نب هت أخ تي إلى ضرورة العنا ية به وبإعطائه الدواء كل ست ساعات‬
‫كما أشار الصيدلي!‪.‬‬
‫لم أفكر بمغادرتهم‪ ،‬كنت مشحونا بالشوق‪ ،‬ومشحونا بالحقد أطحن اعتلل‬
‫النفس برؤيته وقد أفجعه ال بوليده الجديد‪ ،‬فأختي أبلغتني أن زوجه حامل وفي‬
‫الشهر الرابع!‪.‬‬
‫بوجع ٍ غارق في اللم غادرت البيت‪ ،‬وقبل أن أغلق الباب ورائي قلت‪:‬‬
‫‪ -‬فريدة بأمانتك رضوان وناجي‪.‬‬

‫‪- 109 -‬‬


‫‪- 10 -‬‬

‫حين دخلت المغارة مَثُلَ في خاطري أنه يعرف عني بأكثر مما أعرف أنا‬
‫ت باهتمام ٍ بالغ ٍ إلى معا فعلتعه‪ ،‬وهعو غارق فعي شرو ٍد معن‬
‫ععن نفسعي‪ ،‬تنصع َ‬
‫أطيافِ حنان ٍ لمحتها تبرق في عينيه‪ ،‬فقد اغرورقتا بالدمع!‪.‬‬
‫فجأة تحول الرجل الشهم إلى رجل ٍآخر‪ ،‬رجل ٍشديد الغضب والزجر!‪.‬‬
‫شعرتع بالغضعب يكاد أن ينفجعر معن داخعل عينيعه الشهلويعن فنظراتعه‬
‫ُ‬
‫القا سية أرعبت ني‪ ،‬وجو فت قدر تي على ال تبرير‪ ،‬فكرت بأ سباب غض به فوجد ته‬
‫محقا‪ ،‬ك يف لم يخط ْر في بالي أن أتك تم على مكان إيوائي‪ ،‬لماذا فاض تْ نف سي‬
‫بالتحدث عن الشيخ محمد إلى أختي؟ في تلك اللحظة تمنيت أن أتحول إلى طائر‬
‫ٍ من ب شر ٍ ين قر على الباب كي تف تح له مس في أذن ها أن ي ظل مكان تواجدي‬
‫سرا ل يعرفه حتى الجن أنفسهم‪.‬‬
‫وكأنه كان مدركا لعفوية ما فعلت‪ ،‬وكأنه كان ل يريد أن يؤذي مشاعري‬
‫فقد حصل الذي حصل ولن يتكرر أبدا فقد سألني ‪:‬‬
‫‪ -‬ألمْ تشاهد عليّ ؟‪.‬‬
‫فعي هذا السعؤال رقعد الجواب‪ ،‬لم أكعن قادرا على تفسعير أسعباب اهتمام‬
‫الشيخ محمد بعلي‪ ،‬ولم أكن قادرا على زجر الحمار الذي ينهق حين يسمع باسم‬
‫عليّ‪ ،‬أو بصوته لحظة يدخل‪.‬‬
‫و في هذه المرة أضاف إلى نهي قه أ نه ع طس ون فض رأ سه وحرك أذن يه‪،‬‬
‫بعدها حاول أن يجد فسح ًة للتجول ِ‪.‬‬

‫‪- 110 -‬‬


‫بهذه الجلسعة سعبحنا تحعت دوامات معن الدخان صعارت تحوّم عنعد سعقف‬
‫المغارة‪ ،‬ا ستسلمنا إلى حالة ل تش به إل نف سها لكت شف في ما بعد أ ني قد أدم نت‬
‫على تعاطي الحشيش والحبوب المخدرة!‪.‬‬
‫حيعن جمععت بيعن علي والشيعخ محمعد‪ ،‬لم أكعن قادرا على المقارنعة بيعن‬
‫الثنيعن‪ ،‬أن تقارن بيعن رجعل تجاوز الخمسعين وشاب يطفعح فعي وجهعه حعب‬
‫الشباب أمر صعب‪ ،‬بل مستحيل لهذا آثرت اللتزام بالصمت المطبق‪.‬‬
‫فأنعا وقبعل أن تصعبح هذه المغارة البديعل ععن بيعت أبعي كنعت على درج‬
‫الب يت وبل ا ستجداءٍ أمارس مع نوال أع نف الق بل وأجملها وكل مة بح بك ت سري‬
‫في عروقي مثل جدول رقراق‪ ،‬فأشعر أني بحاجة إليها لهذا كنت أتجرأ وأذهب‬
‫إلى العمارة وألت قي مع ها في الل يل‪ ،‬وح ين وض عت في عن قي ال سلسال الذ هبي‬
‫الذي تملكه أيقنت أنها تحبني لدرجة التضحية بكل شيء‪.‬‬
‫في آخر لقاء تركتها تستسلم لرعشة قلب متمرد‪ ،‬مخاوفه ذابت مع خمرة‬
‫القبل السابحة في فضاء العتمة بين الظلم‪ ،‬هي أحبت غالب بكل جوارحها وأنا‬
‫أحببت ها ب كل شوق الف تى وقو ته‪ ،‬ول كن في هذا اللقاء لم أ كن في غيبو بة ك ما‬
‫أوهمتها‪ ،‬كنت أريد‪ ،‬لضوء المصباح أن ينير هذه الظلمة‪،‬لرى بوضوح ٍهذين‬
‫النهدين المتكورين اللذين كبرا على يدي‪ ،‬كنت متلهفا لأظل معها حتى الصباح‪،‬‬
‫ل كن أ صوات ب عض الجيران جعلت نا نق طع جل ستنا‪ ،‬وتغ يب في العت مة وتد خل‬
‫البيت‪.‬‬
‫حين جمعت بين الشيخ محمد وعلي أحسست رائحة النهر تسري من أنفي‬
‫ض هو الخر عهد‬ ‫إلى ذاكرتي‪ .‬خُيل إل يّ أنني اكتشفت عقربا لدغني بعد أن ف َ‬
‫الصعداقة‪ ،‬فانسعاقت نظراتعي فعي اضطراب ٍ ترمعق حيطان المغارة وسعقفها‪،‬‬
‫الحمار‪ ،‬جرة الماء‪ ،‬خزا نة المؤو نة ال تي كا نت ت عج بال صراصير ال كبير من ها‬
‫والصغير‪.‬‬
‫هؤلء جميعهم تمنيتهم أن يتحولوا وبغمضة عين ٍ إلى شرطةٍ تعتقلنا!‪.‬‬
‫ألهذه الدرجة بدوت أمامه تافها وحقيرا كي يتململ!‪ ،‬وعلى مضض يوافق‬
‫أن يكون البد يل هو ال سلسال‪ ،‬هذه الليلة لم أ كن شاعرا بالمحا سبة أو بالمفات شة‪،‬‬
‫ول حتى برغبة في الكلم‪ ،‬ول حتى في الغناء‪ ،‬كنت بحاجة إلى آدمي ٍ له قلب ُ‬
‫يحس ويشعر عله يخفف عني مواجيد آلمي ووخزها‪.‬‬

‫‪- 111 -‬‬


‫في زمن قصير جمعتنا ألفة محفوفة بالمخاطر‪ ،‬وفي تلذ ٍذ من اغتباطٍ فتحتُ‬
‫نوافذ الحواس المتيقظة على اللتقاط وأنا أسمع قصة الشيخ ‪:‬‬
‫‪ -‬قتلت زوج تي ال تي خا نت حُر مة الب يت‪ ،‬ك نت عائدّا على غ ير عاد تي‬
‫سمعت صوت تأوهات تفجر لها عقلي فشعرت برأسي ينشق إلى نصفين حينئذٍ‬
‫طاشت بصيرتي فهجمت عليها وتركتها تسبح في دماء عارها ولذت بالفرار‪ ،‬لم‬
‫أحمل في صدري سوى صورة منت قم أقسم أن يفقأ عيني الر جل الذي شاركها‬
‫على تدنيس شرفي‪.‬‬
‫وكأن حكايعة الشيعخ محمعد أفلتعت عقدة لسعان علي ليتحول الصعداع فعي‬
‫رأسي إلى وحش ٍكاسرٍ يلتهم أحشاء رأسي كلها‪ ،‬كنت غير مصدق حديثه عن‬
‫أبيه! أحقا هو من دربه على تعاطي سكائر الحشيش؟‬
‫بعد أن لعب الحشيش في رؤوسنا‪ ،‬ضجت المغارة بالضحك وضحكت أنا‬
‫ضح كة "تن ين" قا تل هارب‪ ،‬وحشاش و سارق ممت هن‪ ،‬يا لل سقوط في م ستنقع‬
‫الوعد يا غالب!!‪.‬‬
‫أهذا معا كنعت تريده يعا أبعا غالب‪ ،‬تتركنعي فعي مغبعة معن حق ٍد لقعع بيعن‬
‫خطاطيف جاهزة‪ ،‬عن يمين‪ ،‬وعن شمال‪ ،‬تبا أبا لهب ٍ تبا أبا غالبٍ!‪.‬‬
‫إليع وحيعن‬
‫لم يكعن فعي مقدوري أن أنسعى إخوتعي‪ ،‬كارها تركتهعا تحدق ّ‬
‫زجرتها‪ ،‬انكمشت على نفسها مثل دملة محتقنة تكاد أن تنفجر!‪.‬‬
‫أخيرا جهر تْ بالحقي قة‪ ،‬نطق تْ بل ثرثرة ٍ في فن ٍ بالكلم‪ ،‬فتلك مهنت ها‬
‫التي ل تجاريها بها أية سيدة في مثل عمرها !‪.‬‬
‫ل تدععك تقتربيعن معن طفلهعا خشيعة أن يتأذى! الن جاء‪ ،‬بعل بدأ زمعن‬
‫التح سر‪ ،‬وشكواك من أتراح زما نك تُدثري نه بز من الحزن على ز من أ مي الذي‬
‫كان يُشكل معضلة في حياتك‪،‬أبهذا الشكل تتآخى النكسارات؟!‪.‬‬
‫وسيد صاحبة النكسار الشنيع حبيس قفص شهوته‪ ،‬كل الذي فعله شعوره‬
‫بالسف الشديد نحوك!‪ ،‬وكل ما قدمه أن أغلق دونك الباب بعد أن باع الدار في‬
‫زقاق الطويل‪ ،‬وتركك ترعين له أخوتي كي تمارسي سلطانك عليهم!‪.‬‬
‫الن حان وقت الضحك عليك بلذةٍ‪ ،‬يا مسكينة! باعك كما باع أمي انقلبت‬

‫‪- 112 -‬‬


‫لعبعة القمار عليعك‪ ،‬هاهعو لينعي بنكرانعه لبيتنعا متحججا إمعا بالتوععك أو بقلة‬
‫التحصيل من أرباح المحل‪.‬‬
‫لخرج حاقدا أكثعر معن كلّ مرة ٍ‪ ،‬كان فعي داخلي شيعء يغلي يؤذي‬
‫عصبيتي‪ ،‬وكنت بحاج ٍة ماسةٍ إلى شيء تتبرد عليه أعصابي لتكون عربة "جوز‬
‫الهند " في انتظار انتقام الطريد المطرود!‬
‫ع ععن كاهلي أثقال التوتعر والنزعاج‪ ،‬واشتريعت واحدة‬‫بجنون ٍ نفضت ُ‬
‫ومضيتُ نحو حديقة "ميسلون"!‪.‬‬
‫اخترت مقعدا خاليا يقع في منتصف الحديقة‪ ،‬جلست بهدو ٍء مسكتها بكلتا‬
‫يديّ وخاطبتها كأني أخاطب حيا‪:‬‬
‫‪ -‬سعي ٌد لوجودك بين يدي وحيدة‪ ،‬ل‪ ،‬ل تخجلي‪ ،‬ل تجعليني أمقت الحياء!‬
‫كوني هادئة‪ ،‬ل تتحركي كي ل أعذبك استرخي‪،‬هكذا‪ ،‬نعم هكذا فلن أؤلمك!‪.‬‬
‫ت ما أزال محتفظا به وبضغط ٍة‬‫غرزت رأس مفتاح الم حل في ها‪ ،‬ف قد كن ُ‬
‫قاسعيةٍ أحدثتُع ثقبا‪ ،‬لمععت عيناي بشهيةٍ وأنعا أرفعهعا نحعو شفتيّع لشرب الماء‬
‫الموجود داخلها بعطش ٍ لم أعهده في نفسي‪ ،‬ثم بصقت ما بقي في فمي!‪.‬‬
‫وقفتُع ب سرعة وقذفتُع بهعا بعيدا‪ ،‬بل مح الب صر كا نت تفر قع على أرض‬
‫الحديقة وقد تفتت وتبددت نتفا!‪.‬‬
‫معن الطعبيعي أن يسعتنكر معن فعلتعي بععض الجالسعين على المقاععد فعي‬
‫الحدي قة‪ ،‬و من كان عابر طر يق ٍ!‪ ،‬لض حك على دهشت هم‪ ،‬بل على ا ستنكارهم‬
‫بعد أن أطفأت جمرة غضبي وجنون تفكيري بالنتقام!‪.‬‬
‫خيوط العنكبوت‪ ،‬الثرثرة الدامسة‪ ،‬طلق أمي‪ ،‬زواج أبي‪ ،‬زواج أمي من‬
‫زوج أختهعا‪ ،‬موت مازن‪ ،‬حعبي العابعث‪ ،‬أنعت مطرود‪ ،‬أنعا متعبرئ منعك‪ ،‬يوم‬
‫ميلدي يعني يوم بدء سيرة حياتي!‪.‬‬

‫‪- 113 -‬‬


‫‪- 11 -‬‬

‫بوجهع مسعتطيل ٍ يضحعك ولحيتعه‬ ‫ٍ‬ ‫ت أراه‬


‫عدتع إلى المغارة أصعبح ُ‬
‫ُ‬ ‫حيسن‬
‫ته تز‪ ،‬وأرى عليا يرت فع عن صحن الرض‪ ،‬وأتخ يل "هنودة" أ بي تحولت إلى‬
‫مومياء بطول المغارة‪ ،‬وطفل ها حازم ير ضع من ثديي ها المتهدل ين اللذ ين تدل يا‬
‫حتى كادا يتصلن بالسّرة!‪.‬‬
‫ل المدارك توقفعت‪ ،‬كلّ الخفايعا العدوانيعة ظهرت‪،‬لغيعب فعي لج ٍة معن‬
‫كّ‬
‫ك مجنون ٍ‪ ،‬وفي مجون ٍ سري ٍ للغاية أخاطبه ‪:‬‬ ‫ضح ٍ‬
‫ت من جلدة الفروج وعظام‬
‫‪ -‬ترسل زوجتك سطل ‪ -‬فريكة‪ -‬مغطى بفتا ٍ‬
‫الفخذ!‬
‫‪ -‬لماذا حُكم عليّ بالطرد؟!‪.‬‬
‫ل الفئران تأكل‪ ،‬كلّ هوّام الرض تشبع‪ ،‬ومن غير أن أدري دفع تُ عليا‬
‫كّ‬
‫بقب ضة يدي وتجاوزت الم سافات‪ ،‬تجاوزت الز من‪،‬ع ند قبره جل ست أب كي و قد‬
‫أخفيت وجهي براحتيّ كفيّ!‬
‫انظر يا مازن إلى وجهي‪ ،‬هيا اخرج من قبرك‪ ،‬قلْ "بدي ماما" فل أسمع‬
‫غير صوت صفير الهواء يوسوس‪ ،‬فيتراءى لي أني سأخوض معركة دامية مع‬
‫الموات الذين أزعجتهم!‬
‫أجلس القرفصعاء متقوس الظهعر‪ ،‬يخامرنعي إحسعاس بأن القبور تتحرك‪،‬‬
‫وبأن الكفان ستخرج وتط ير نحوي‪ ،‬وبالخفاف يش ال تي بدأت تحوم فوق رأ سي‬

‫‪- 114 -‬‬


‫أن ها تق صدني‪ ،‬تقترب مني‪ ،‬تتأهّب كي تنقض عل يّ فأرتجف وأتكور ورعشات‬
‫ل وضعفا والتصاقا بشاهدة قبره‪.‬‬
‫الخوف تزيدني وج ً‬
‫وحين شعرت بالراحة عدت إلى المغارة والضيق يفتك بأعصابي أرجوكم‬
‫دعوني أنام بل تشويش ٍ‪ ،‬اتركوني وشأني‪ ،‬خرج الشيخ محمد على غير عادته‪،‬‬
‫لن أبوح بما يحصل في غيبته‪ ،‬أنا الن أعيش مع مجموعة من الأرذال الوقحين‬
‫دخلوا إلى المغارة بدعوة معن علي‪ ،‬هذا الفتعى سعريع الصعحبة وسعريع التأثيعر‪،‬‬
‫أق نع الش يخ مح مد با ستضافة أ صحاب ال سوابق والهارب ين من أحكام المحا كم‪،‬‬
‫مقابل التكفل بمصاريف الطعام!!‬
‫كان الز من هو العلج الوح يد الذي جعل ني أن سى هو ية والدي و ما فعله‬
‫بي‪ ،‬وحين جاء بعد مضي عامين على خروجي من بيته كي يعيدني طردته كما‬
‫طردني‪ ،‬ولنه قرأ تهديدا سافرًا في نبرتي بعد أن كست ملمح وجهي صفات‬
‫الزعران‪ ،‬خاف على نف سه من ط يش مشردٍ أ صبح متهورا‪ ،‬رب ما يدف عه طي شه‬
‫وحقده وتشرده إلى أن يخسعر حياتعه وحياة "حزومتعه"‪ .‬لهذا خرج معن المغارة‬
‫خوفع وإنكارٍ‪ ،‬ليبقعى مصعرا على‬
‫ٍ‬ ‫مائل الظهعر يجعر أذيال فشله فعي خيب ٍة معن‬
‫نكراني وهو يلعن الساعة التي أعطى فيها وعدا لختي في أن يعيدني إليهم‪.‬‬
‫كيف أعود‪ ،‬وقد أصبحت خاتما في يد علي وأصحابه‪ ،‬ولن أخون الشيخ‬
‫محمد في تركه مع هؤلء الذئاب الذين أصبحوا من سكان هذا المكان الضيق‪،‬‬
‫وقد أعطيته وعدا في عونه على الخذ بثأره ممن انتهك عرضه‪.‬‬
‫الشيعخ محمعد أخعبرني سعرا‪ ،‬بععد أن احتوى فعي مغارتعه على جمعع معن‬
‫هؤلء الفاععي الذيعن يأكلون الحرام بالصعابع العشرة‪ ،‬أنعه يريعد أن يكسعب‬
‫مودّتهم وعطفهم بغية استخدامهم في معركة الثأر‪ .‬لن الرجل ما يزال إقطاعيا‬
‫وعنده حراس وكل بٌ بولي سية و قد احتاط لنف سه في ر فع سور المزر عة على‬
‫ضفاف العاصي !‪.‬‬
‫حين نظرتُ في وجهه‪ ،‬تذكرتُ تلك البتسامة الخبيثة تذكرتُ ذلك الهدوء‪،‬‬
‫تذكر تُ أناقته‪ ،‬والزمن يرجع نحو الخلف "دقائق ولن أتأخر عليك‪ ،‬أصحاب هذا‬
‫الب يت في أمري كا م نذ ع شر سنوات"‪ .‬لذ كر ضرب والدي ب عد العودة من ق سم‬
‫"العزيزية"‪ ،‬فأنقض عليه أريد خنقه‪ ،‬فيعلو صياح الرجال‪ ،‬ويهب الشيخ عفريتة‬

‫‪- 115 -‬‬


‫م ثل مارد ويشد ني بق سوة‪ ،‬ثم يقذف ني على الرض فأهوي م ثل غ صن شجرةٍ‬
‫يابس ٍ‪.‬‬
‫حين سألوني عن السبب ذبت في دائرةٍ من صمتٍ مكفهر القسمات‪ ،‬وجل‬
‫النظرات‪.‬‬
‫من أ جل خا طر الش يخ عفري تة لز مت هدوء ال صمت‪ ،‬ل أر يد أن أخرب‬
‫عليعه خطتعه‪ ،‬وعدتعه فعي أن أكون يمناه ويسعراه‪ ،‬أبوعبدو وصعفه بالعفريعت‪،‬‬
‫توجوه باللقب‪ ،‬رغما عنه صار اسمه الشيخ عفريتة!‪.‬‬
‫وأبو عبدو سألني بعد أن جلست هادئا‪:‬‬
‫‪ -‬من أي صنفٍ أنت؟‪.‬‬
‫زم هر السؤال في نفسي‪،‬أ نا لست لصا‪ ،‬كل ما آخذه من أجرٍ وبخشيش ٍ‬
‫أضعه في يد الشيخ محمد‪ ،‬بل في يد الشيخ عفريتة اسمه الجديد!‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا تريدون اتهامي بما لم أقترفه !؟‪.‬‬
‫‪ -‬من هم المتهمون؟ ومن هم البرياء؟ من هم أصحاب الخطيئة؟‬
‫ومن هم المنزهون عن الخطيئة؟‪.‬‬
‫أحاول ربط الزمان بالمكان‪ ،‬الماضي بالحاضر‪ ،‬جمع أنقاض ماض ٍ جثا‬
‫فوق عمري كرما ٍد متلبدٍ لزج ٍل يمكنني عزله‪.‬‬
‫أدو سُ حافي القدمين‪ ،‬البرودة الرطبة ُتنعشني‪ ،‬تنعش ذاكرتي أعتقد الن‬
‫أنها المقولة الوحيدة التي كانت فكرتها صائبة من قبل والدي معك قرش بتساوي‬
‫قرش‪ ،‬وإذا كنععت ل تملك القرش فحاذر أن ترفععع وجهععك أمام الذي يملك‬
‫القروش‪ ،‬إنه زمن القروش‪.‬‬
‫مالك القروش‪ ،‬يجدد أشكال ال سيطرة الم ستبدة‪ .‬يريدو نك أن تكون عاجزا‬
‫ل تقوى على مواجهتهم‪ ،‬وكل ثرائهم هو من جهد المتعبين‪ .‬أبو أسعد صاحب‬
‫الصالة – ملك الموبيليا‪ -‬هكذا كان بفخر ُيردد‪ ،‬يمكنه أن يشتري بقروشه أجمل‬
‫وأصعغر البنات ثعم يبصعق بهعن إلى الفسعاد والبغعي بععد أن يشتري بماله فعض‬
‫بكارتهن‪.‬‬

‫‪- 116 -‬‬


‫ل هذه الحقائق الشائبة‪ ،‬ا ستطعت أن احترز بها ضد زماني الحالي وأنا‬
‫كّ‬
‫أكتعب قصعة حياتعي‪ ،‬بععد أن اكتشعف المصعلح الجتماععي موهبتعي الفذة فعي‬
‫الكتابة‪،‬حين أخضعني إلى امتحان ٍ صعبٍ‪.‬‬
‫في البداية طرح عل يّ أسئلة شفهية‪ ،‬ثم تركني في غرفة الملحظة أجيب‬
‫عليها بحرية تامة‪.‬‬
‫مع هذه البداية بداية اكتشاف أصحاب الفهم لكوامن النفس الداخلية‪ ،‬تبين‬
‫له أنعي أملك القدرة على التععبير والوصعف‪ ،‬فأخعبر مديعر السعجن بأن يمنحنعي‬
‫فر صة ل سرد سيرتي و ما واجه ته من مشكلت و ما تعر ضت له من أحدا ثٍ‬
‫ل لي أمامه ‪:‬‬‫لضمها إلى أرشيف من يكتبون داخل السجن قائ ً‬
‫‪ -‬ربما تتخرج من هنا كاتبا لك خصوصية‪.‬‬
‫ان ظر يا ع مي وج يه إلى ا بن أخ يك من أب يك ك يف أ نه قد بدأ يبرع في‬
‫كتا بة ما يح صل دا خل ال سجن! ل قد لفقوا ته مة للمهندس فائز‪ ،‬يريدو نه مشلولً‪،‬‬
‫د سوا ت حت "مخد ته" حبوب ممنو عة‪ ،‬ك يف دخلت ونا مت ت حت "مخد ته" ل أ حد‬
‫يعرف؟!‪ ،‬أل ترى الحبكة كيف سددت هدفها؟‪.‬‬
‫الورقة الصل اختفت‪ ،‬فأصبح هو الجاني وصاروا هم الطلقاء!!‪.‬‬
‫معا حكاه يدععو إلى الجنون‪ ،‬عمارة كاملة تتهدم‪ ،‬أبرياء يسعقطون موتعى‪،‬‬
‫و هم في الخارج يمرحون بعد أن وقفوا يتفرجون و سبوا وشتموا صاحب الف عل‬
‫الرديء!‪.‬‬
‫امتهان غريب لليقاع بالبرياء‪ ،‬مسكين فائز هدّه أن ينجو أصحاب الفعل‬
‫الخبيث ويقع هو‪.‬‬
‫لح ظة م ضت‪ ،‬بل لحظات انق ضت‪ ،‬اعتقدت في ها أن القدر نا صرني ح ين‬
‫تعرفت على أبي حسن‪ .‬كانت تهمته مشاجرة تسببت بعاهة مستديمة‪ ،‬ليجد أنه‬
‫من الجدى له أن يدخل السجن حتى تهدأ النفوس‪ .‬وحين تدخل الوجهاء ومختار‬
‫ل م صاريف‬ ‫ال حي‪ ،‬أ سقط صاحب الدعوى ح قه مقا بل أن يد فع له أ بو ح سن ك ّ‬
‫العلج وفوقه مبلغ خمسين ألف‪ ،‬الرجل وافق لنه ميسور‪.‬‬
‫كا نت أضواء الحجرة ال كبيرة ل تعرف النطفاء إل إذا صرخ من مكا نه‬

‫‪- 117 -‬‬


‫من يحسبون لوجوده ألف حساب‪:‬‬
‫‪ -‬أطفئوا الضوء نريد النوم يا رجال‪.‬‬
‫في شخصه ما يرغمك على الصغاء له‪ ،‬تنفيذ طلباته‪ .‬ربما كان ال سبب‬
‫كر مه الحات مي على ال سجناء في ذلك "القاووش "‪ ،‬ورب ما ل نه على صل ٍة مع‬
‫أكثر حراس السجن‪ ،‬وضباطه‪.‬‬
‫حظو تي ع ند أ بي ح سن جعلت ني أ ستشعر الكراه ية في عيون هم‪ ،‬وأيضا‬
‫ح صولي من الضا بط على ب عض ال صحف العرب ية والمحل ية لطالع صفحات‬
‫الثقافة‪ ،‬وخاصة ما يكتب عن الطفل‪.‬‬

‫ولكن لماذا يكره ني ذلك الر جل؟ قرأت الكراه ية في عين يه و في ملم حه‬
‫التي بدت منفرة فقلت لنفسي "تعوّد على الصبر يا غالب " !‪.‬‬
‫لك نه تحرش بي‪ ،‬وبعنجهيةٍ اقترب من سريري‪ ،‬و سيكارته في ف مه‪ ،‬ن فخ‬
‫الدخان فعي وجهعي فسععلت!‪ ،‬فتأفعف مشمئزا معن صعوت سععالي ثعم أردف‬
‫وبسخرية‪:‬‬
‫‪" -‬دخيل النبي الحقوا الصبي‪ ،‬اختنق" !‪.‬‬
‫لم أحتملْ وقاحته‪ ،‬فنهضت بعصبية ورددت عليه بما يتناسب وكلمه‪:‬‬
‫‪ -‬ما أحد صبي غيرك!‪.‬‬
‫فر ّد عليّ بفظاظة‪:‬‬
‫‪ -‬و‪ ..‬ل‪ ..‬ك أنا صبي؟!‪.‬‬
‫انتابني الفزع وأنا أراه بكلتا يديه يطوق عنقي يريد خنقي! تحولت قوتي‬
‫إلى شظايا ضعيفة من وطأة الغتيال المباغت‪،‬لجد نفسي بين ضغط قوته بأني‬
‫قد تحولت إلى صورة قبيحة من الضعف المهين!!‪.‬‬
‫بسرعة نهض الرجال يتقدمهم أبو حسن وعمي وجيه فانتزعوه عني كما ُ‬
‫تنتزع الرصاصة من الجسد!‪.‬‬

‫‪- 118 -‬‬


‫دق معول الح قد في صدري وعقلي وفكري‪ ،‬و في كل جزء من ج سدي‪،‬‬
‫ت إلى شيءٍ آخرَ‪ .‬من جديد تخلقت في نفسي سوداوية ُتزود روحي بوقودٍ‬ ‫فتحول ُ‬
‫من الح قد ال سرطاني الذي كان ذات يوم ٍ م ستشريا في الع قل والروح والف عل‪،‬‬
‫الذي ارتب طت إراد ته برائ حة الن هر في أبعاد نف سية سحيقة ما عدت قادرا على‬
‫عج البغال‪ ،‬الخواء الفكري العائد إلى‬
‫عا‪ ،‬عاد العواء‪ ،‬عواء الذئاب‪ ،‬شحيع‬ ‫ضبطهع‬
‫ارتكازه القديم‪ -‬النقمة والنتقام‪.‬‬
‫صورته وأ نا أم سح به أرض "القاووش" و قد تحول إلى جيفةٍ من رمادٍ‪،‬‬
‫أسعفت ضعفي الذي كاد يجعلني ملتاثا‪ ،‬فاقدا حتى ذلك الغضب‪.‬‬
‫أ صبح عال مي عالما مليئا بال سماء‪ ،‬ال تي جعلت من حقدي مر سما عامرا‬
‫ي من دون هم فأ نا ل عل قة لي ب سرقة‬‫بالوجوه المقن عة‪ .‬أي ها القا ضي اح كم عل ّ‬
‫"الفيلل"‪ ،‬لماذا تربعط مصعيري بمصعيرهم‪ ،‬لو أن الشيعخ محمعد على قيعد الحياة‬
‫لطلعك على الحقيقة‪.‬‬
‫فعي طريعق العودة‪ ،‬محرك السعيارة يُدوي فعي أفنان روحعي المتيبسعة‪،‬‬
‫القاضي مساف ٌر إلى الحج‪ ،‬فتأجلت الدعوى ثلثين يوما بدءا من تاريخه‪.‬‬
‫عندمعا عدت إلى "القاووش"‪ ،‬انزويعت على السعرير كعادتعي‪ .‬فبععد حادثعة‬
‫ب زمك نة عمري‬ ‫التحق ير ال تي ح صلت كتم تُ رغب تي في النتقام م نه‪ ،‬وأ نا أند ُ‬
‫الفائت والحاضر!‪.‬‬
‫لكنه حين دخلت الحمام لحق بي‪ ،‬انتهز فرصة غياب الرجل الذي يحمي‬
‫وجودي بينهعم وعمعي‪ .‬وقبعل أن يتمكعن معن التحرش بعي‪ ،‬صعوبت نحوه فردة‬
‫الصندل التي جاءت على عينه فصرخ بألم ٍ‪.‬‬
‫ج صياح الرجال على صوت الصراخ بانفعال غاضبٍ‪،‬لم أكترث‬ ‫حينئذٍ ض َ‬
‫لغضب هم ول لكلم هم‪ .‬كان ه مي أن أردَ له ال صاع صاعين كي ل يتن كر من‬
‫ل في نظره‪ ،‬فأنا بنظر نفسي مازلت غالبا الذي‬
‫وجودي بينهم‪ ،‬فمهما كنت ضئي ً‬
‫يغلب ول يُغلب‪.‬‬
‫في المساء جلسنا ُنحدق في التلفاز‪ ،‬أبو حسن دفع‪ ،‬والذي يدفع يستطيع أن‬
‫يؤمن على نفسه داخل السجن !‪.‬‬

‫‪- 119 -‬‬


‫تعجبت كثيرا من ميل الرجال إلى الصمت أمام الشاشة الصغيرة‪ ،‬فالنظر‬
‫إليها يُتعب العيون ومع هذا كانوا يحدقون!‪.‬‬
‫تركتهم في ذهولهم يستمعون إلى شرح مفصل عن الكسوف وما قد ينجم‬
‫ت على سريري فارغ الرأس حتى من رائحة النهر‪ .‬ما فعلته جعلني‬ ‫عنه‪ ،‬تكور ُ‬
‫أشعر بالراحة‪ ،‬لكنه صباح اليوم التالي عاود الكرّة‪.‬‬
‫‪ -‬ا ستيقظ يا وج يه‪ ،‬ان هض‪ ،‬ا بن أخ يك شج رأس مز هر بالملع قة!‪ .‬قال‬
‫واحد من الرجال‪.‬‬
‫عينيع ععن‬
‫ّ‬ ‫لم أجرؤ على النظعر فعي وجعه الضابعط مروان‪ ،‬ولم أرفعع‬
‫الرض‪ .‬كنعت مدركا أنعي سعأعاقب‪ ،‬وبل تلكعؤ أو حتعى خضوع إلى محاكمعة‬
‫وضعوني في الزنزانة النفرادية‪.‬‬
‫كا نت الروائح الكري هة تنب عث من تلك الرق عة الضي قة بش كل ٍ مقزز‪ ،‬فل‬
‫تقدر على سحب الهواء الذي تحتا جه رئتاك فجل ست م ثل غوريلل فقدت الحياة‬
‫في الغابات‪ .‬القوياء ل يندبون حظهم‪ ،‬هكذا أفهمني الشيخ محمد وحكاية الشيخ‬
‫محمد تصحو في ذاكرتي التي عادت نظيفة لم يرهقها هؤلء السجناء‪ ،‬ول حتى‬
‫لقائي بعمي بعد هذه الغربة من الزمن‪.‬‬
‫غادر المدي نة‪ ،‬و في نف سه تلك الرغ بة على الن يل م من انت هك عر ضه في‬
‫غيبتعه‪ ،‬كانعت بغيتعه أن يفقعأ له العينيعن معا لكعن السعكين التعي اهتزت فعي يده‬
‫خذل ته‪ ،‬فآ ثر أن يق بل بواحدة‪ .‬لن صراخه الذي دوى م ثل قنبلة مباغ تة حرك‬
‫حراس بسعتانه‪ ،‬فقتعل اثنيعن ولذ بالفرار معن دون أن ينْسعى قسعمه على الخعذ‬
‫بالثأر كاملً!‪.‬‬
‫صوته الن ي هز أوتار قل بي‪ ،‬ل تنت حب‪ ،‬من كان مثلك يا ش يخ مح مد ل‬
‫يعرف البكاء‪.‬‬
‫ع بد الفتاح هو ال سبب‪ ،‬لوله ل ما وقع نا‪ .‬الحق ير أخ فى في خرج الحمار‬
‫المصاغ‪ ،‬ولنه من أصحاب السوابق وملحق راقبوه وراقبونا معه من غير أن‬
‫ندري! وك يف ندري و يا سين أقنع نا أ نه هارب من يد العدالة في قض ية تزو ير‬
‫عملة‪ ،‬لنكتشف بعد فوات الوان أنه كان شريكا له في عملية السرقة‪.‬‬

‫‪- 120 -‬‬


‫دخلوا علينا مدججين بالسلح بعد أن طوقوا المكان‪ ،‬في اللحظة تلك خفق‬
‫قلب الشيعخ محمعد بشدةٍ‪ ،‬وانشعق صعوته المدوي فعي صعدى صعيحة مجلجلة‬
‫تقط عت‪ ،‬ثم تحشر جت لي قع على الرض وعيناه مفتوحتان تحدقان في ثأ ٍر بات‬
‫مستحيلً‪.‬‬
‫حين انتهت مدة انفراديتي‪ ،‬عشرة أيام قضيتها وحيدا داخل العتمة خرجت‬
‫ضعيفا واهنا‪ ،‬خرجت من الضيق إلى الضيق المسكون بالشماتة والزدراء‪.‬‬
‫اضحك وأنت مطعون‪ ،‬ابتسم في وجه من تحقد عليه وتكره وجوده‪ ،‬كن‬
‫راضخا غير متذم ٍر أو معترض ٍ‪ ،‬ل تصارع غير الضعيف فيهابك الضعفاء!!‪.‬‬
‫حملتُ حقيبة انكساري وذلي‪ ،‬وجلستُ على سريري كي أستردَ بعض قوة‬
‫كادت أن تضمر‪ .‬عمي في المحكمة‪ ،‬والشخص الشهم مع زواره من أهل بيته‪،‬‬
‫وق بل أن أعرف مدى ع مق المفاجأة‪ ،‬المفاجأة ال تي صدعت ل ها أحزا ني‪ ،‬بدأت‬
‫ألحعق نقعل الخعبر متلهفا‪ ،‬نشوة معن الخمعر أسعكرتني بل خمرٍ‪ ،‬صعوت تكعبير‬
‫الجميع يعلو كأنهم في صلة العيد‪ ،‬وكنت معهم ُأرددّ غير مصدق النبأ‪.‬‬
‫مر سوم جمهوري من ال سيد الرئ يس ي صدر للع فو عن الم ساجين لم أنت به‬
‫إلى التاريعخ المذكور‪ ،‬تزحلقعت ععن السعرير و"هوب" تحولت إلى راقعص ٍ خلع‬
‫ثوب الحقد في موسم القطاف‪.‬‬
‫مسكني من يدي أبو حسن الذي عاد من الزيارة‪ ،‬قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬بس‪ ،‬بس بقى‪ ،‬اهدأ هل جننت؟‪.‬‬
‫سحبت يدي بنزق ٍم ثل زن جي مخمور ب ين قرع الطبول في غا بة كثي فة‬
‫ع لعدم احترام الرتعب وقعف‬‫الظلل‪ .‬لكعن الضابعط مروان وبتحديعق ٍغاضب ٍ‬
‫يحدجني بعينيه اللتين بدتا واسعتين رغم صغرهما!‬
‫طالعني وجهه السمر‪ ،‬تراءى لي أني أقف أمام جبروت الشيخ عفريتة‪،‬‬
‫زيتع على رغيعف خبعز‪ ،‬وقبعل أن يغادر‬
‫ٍ‬ ‫كان العرق يسعح معن جعبيني مثعل‬
‫"القاووش"‪ ،‬أودعني بنظراته وصية أن أكون هادئا ً غير مشاغبٍ‪.‬‬
‫كنا بين مصدقين وبين مكذبين‪ ،‬وبل مللٍ جلسنا نفكر بطريقة تصلنا مع‬
‫العالم الخارجي بل إحراج ٍفي تجريح ٍ وتجريح في إحراج ٍ!‪.‬‬

‫‪- 121 -‬‬


‫كنعت واحداً معن بيعن المئات الذيعن نبتعت فعي داخلهعم رغبعة تتوق فعي‬
‫الح صول على الحر ية‪ ،‬ول كي تض حك آلم التعا سة والشقاء على قارورة الو جد‬
‫معن سعمفونية الرغبعة أيقنعت أن العفعو لن يشملنعي وصعحبة السعقوط فعي مغارة‬
‫الشيخ عفريتة‪.‬‬
‫ل كلّ الجنايات من قتلٍ وآداب واتجارٍ بالمخدرات‪ ،‬ك نا‬ ‫الع فو لم ي كن شام ً‬
‫نعلم أن الفراج ع نا يع ني الخروج إلى بدا ية الو جع ل نهاي ته‪ ،‬إلى ح يث يش ير‬
‫ل تنزف معن جراح شخصعك المهان معا يجعلك‬ ‫الناس عليعك فتنطوي خانعا ذلي ً‬
‫تشعر بأنك منبوذ من قبل الناس كافة!‬
‫مرا قب كيف ما تحر كت‪ ،‬أحل مك ل وجود ل ها‪ ،‬في دوائر الدولة لن ت جد‬
‫عملً‪ ،‬وعند أصحاب المال لن يأتمنك السيد على ماله أو بضاعته‪ ،‬فلماذا تحزن‬
‫يا غالب؟!‪.‬‬
‫الذلء يتوافدون‪ ،‬والتاريعخ كتعب فعي السعجلت بيعن الدفاتعر والوراق‬
‫بأختام الدولة‪ -‬محكوم عليعه‪ -‬وأنعا واح ٌد معن هؤلء الذيعن وقعوا بيعن خيوط‬
‫ل حقوقه من حق طفل آخر‪ ،‬طفل أنجبته زوجة أبي‬ ‫العنكبوت البرية‪ ،‬لتصبح ك ّ‬
‫ليحتل مكان الخوة جميعهم!‬
‫ه نا في هذا المب نى الذي تع تبره الدولة إ صلحيا‪ ،‬يو جد الكث ير م ما تجهله‬
‫عيون الرقابة وبأكثر مما يحصل في الخارج!‪.‬‬

‫وفعي خضعم معرفعة معا هعو مجهول معن معارف التواطعؤ والتجسعس‬
‫والنحراف عل يك أن تكون دقيقا في تعاملك مع الخر ين من أ صحاب ال سوابق‬
‫أو الجنايات الشائنة‪ ،‬وقد بدأت تظهر أمامي حقائق عن الحيزبون التي ل تختلف‬
‫عن سوالفها من الحموات الحاقدات اللواتي يرفضن وجود الكنة فيُحرم الرضيع‬
‫من ثدي أمه لهفوة من كنة‪ ،‬أو لعنة من حماة أو بمعاكس ٍ من ثرثرة الغراب‬
‫في بث الضغينة بغية التفريق‪ ،‬فتتلون أشكال الحرد والطلق والهجران!‪.‬‬
‫ثمة سؤالٌ يؤرقني‪ ،‬أريد جوابا يطفئ ظمئي ‪:‬‬
‫‪ -‬هل التضحية جملة انعزالت؟ وهل في عزل الرجل عن أولده من قبل‬
‫زوجته الثانية تضحية؟ أمْ ضحايا؟‬

‫‪- 122 -‬‬


‫فعي عزلتعي معع أفكاري التعي تقاسعمني همومعي‪ ،‬ومعع أنفاس هؤلء‬
‫المساجين المطحونين بالوجع أشعر بمزيد من السى بعد أن استفاقت في داخلي‬
‫هذه اليقظة الفكرية الجتماعية والتي كانت كامنة خلف أبواق الروح المجروحة‪،‬‬
‫والتي فجرها المصلح الجتماعي‪ ،‬والوجه الذي ألفته فألفني !‪.‬‬
‫فبعد مضي بضعة شهور على وجودي في السجن نظرت إلى وجهي في‬
‫المرآة‪ ،‬فرأيت ندبة شوْهاء كأني أول مرة أنظر إلى وجهي لعرف أنه يحتوي‬
‫ب أ نا أم مغلو بٌ؟ أمحظوظ ٌ أ نا أم منحو سٌ؟‬
‫على ما ي سمى‪ -‬ح بة حلب‪ -‬أغال ٌ‬
‫ولني وأنا أهرس القمل بأظافري أحس باستخفافٍ غير رحيم وأنا أضغطها بين‬
‫أصعابعي فأسعأل نفسعي لماذا كلّ مخلوقات الذيعة يجعب أن تقتعل!؟ وجابر وهعو‬
‫يمّسد شاربيه يتدخل معترضا وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬حرام عليك دعها تنعم بالدّسم‪ ،‬ما شاء ال كل يوم "فراريج وكبب"!‪.‬‬
‫محدقا في سواد عينيه أر ّد عليه‪:‬‬
‫ل ضيق عين؟‪.‬‬
‫‪ -‬حسد و ّ‬
‫فيردّ على سععؤالي الذي ينكره ويكره أن أعاديععه بهذه الطريقععة مععن‬
‫الستخفاف قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬حشرية!‪.‬‬
‫ولن الرجال قعد وصعفوه بالحشري فقعد راقعت له هذه التسعمية ومعا عاد‬
‫ينزعج‪ ،‬فهو وكما وصفه عمي وأبو حسن عديم الحساس‪.‬‬
‫ولن الرجل قد تلهى عني‪ ،‬نهضت بخفة الريش ناحية عمي وجيه الذي‬
‫كان غارقا في قراءة رواية الغريب لكاتبها‪ -‬البير كامو‪ -‬فحدثت نفسي وأنا أراه‬
‫ذائبا ح تى الخدر "على ر سلك يا عم ل ت كن غوا صا مثلي‪ ،‬حينذاك لن تعج بك‬
‫الحياة على اليابسعة‪ ،‬عالم الماء أمده قصعير لنعك لن تكون عروس بحعر‪ ،‬ولن‬
‫تتمكن من المكوث طويلً تحت الماء‪ ،‬سيأتيك زمن تجدُ فيه من ي ُنغص عل يك‬
‫ل أحلمك وحتى كلّ أوقاتك! "‪.‬‬‫كّ‬
‫انتبه إلى وقوفي في صمتٍ‪ ،‬أصلح من شأن استلقائه على السرير‪ ،‬وأزاح‬
‫لي مكانا قربه‪.‬‬

‫‪- 123 -‬‬


‫مرت لحظات كأنها أعوام كتلك التي لم تغادر ذاكرتي! ما أسمعه الساعة‬
‫تلك يد عو إلى ال صغاء!‪ ،‬حاولت أن أج تر ضح كي الممزق المتق طع ب صعوبةٍ‪،‬‬
‫الفععى السعرطانية أوهمتنعا فعي حديثهعا عنهعم أنهعا قُهرت‪،‬ظُلمعت‪،‬ذاقعت الذل‪،‬‬
‫جاعت لهذا قالت من أوله أحسنه!‪.‬‬
‫على رف السعلطنة‪ ،‬سعلطنة المرأة التعي رفضعت الحياة معع الزوج الذي‬
‫ي صغي إلى مشورة أ مه‪ ،‬ولدّ ذلك الر جل(الط فل) الذي كان والدي لولد أ نا‪ ،‬يا‬
‫أبا حسن اسمع بالذي سمعت ول تستغرب!‪ ،‬في منغلق هذا المكان أتعرف على‬
‫أ سماء أعما مي وعما تي وأولد هم‪ ،‬أل يع تبر هذا التعارف من أر فع العلقات‬
‫الجتماعية رفعة وشأنا؟!‪.‬‬
‫ل ما تسمع لتحكي بعد خروجك عن قصة ل تشبه‬ ‫اكتب في ذاكرتك عن ك ّ‬
‫إل نفسها‪ ،‬وأنت يا وجيه‪ ،‬أنت أيها العم العزيز سجل على دفتر قلبك قصة لقائنا‬
‫في تعارف نا الذل يل‪ ،‬ا بن أخ ٍ ل يعرف من هو ع مه؟ و عم ٌ ل يعرف ش كل ا بن‬
‫أخيه حتى اجتمعا في مكان ٍ محتجز ٍ بين السوار !‪.‬‬
‫للمرة الثان ية ب عد دخولي ال سجن ي ضج ال سجناء بأ صواتهم فتتجلل حر كة‬
‫الضباط والحرس‪ ،‬حريعق يفزع كعل الوجوه وصعياح ضاج يصعطبغ بزرقعة‬
‫المل مح ال تي ا ستوحشت فتوح شت‪ ،‬يجل جل بأ صدائه كل المك نة‪ ،‬فتش عر أ نك‬
‫بحاجعة إلى سعدادة كاتمعة تمنعع ععن أذنيعك معا يجعلك تشععر بالصعمم‪ ،‬تفكيرك‬
‫بالهروب محصور بالموت إما رميا بالرصاص أو حرقا بين القضبان!‪.‬‬
‫ل الزنزانات والردهات‬
‫الرتباك والقلق والفزع يغطعععي كلّ الوجوه‪ ،‬ك ّ‬
‫والممرات ترتعج معن سعرعة الحركعة والضجيعج‪ ،‬كلّ الطوابعق تسعتنفر‪ ،‬هذا‬
‫ال ستعصاء في حرق المط عم أدى إلى بلبل ٍة مزع جة ا ستطاع أن يخمد ها ضباط‬
‫الشرطة وحرس السجن بالتعاون مع رجال الطفاء‪.‬‬
‫بعد القضاء على الحريق الذي وصل خبره إلى شوارع المدينة ورجالت‬
‫أمنها‪ ،‬أحالوا مدير السجن إلى التحقيق مع الضباط المناوبين ومن ثم نقلوهم إلى‬
‫مكان ٍآ خر‪ ،‬وح ين و صلني ال خبر عر فت أ ني سأكون الخا سر الوح يد في هذا‬
‫السعجن!‪ ،‬فبععد هذه الحادثعة ل مطالععة ول صعحف ول أقلم‪ ،‬حينئذٍ تمنيعت أن‬
‫أكون ذلك الطفل الذي مات تحت عجلت "سوزوكي " عمي!‪ ،‬ليكون قاتل ولده‬

‫‪- 124 -‬‬


‫واحد من أخوته الذين باعدت بين قلوبهم حيزبون كانت قادرة على إشعال الفتنة‬
‫دون المحبة!‪.‬‬
‫وح ين سمعت بال خبر الذي ك نت أحرص على سماعه‪ ،‬ت سقط من علياء‬
‫العظمة‪ ،‬يرفضك النهر‪ ،‬تحصد حصيلة امتهانك للبخل والتقتير‪،‬الخيبة والمرارة‪،‬‬
‫أشعر بالحزن عليك ول أشمت!‪.‬‬
‫أحقا معا قاله عمعي‪ ،‬أخيرا تعترف بأنعك قعد بدأت تحنّ إلى صعمت أمعي‬
‫وصبرها على أنانيتك‪ ،‬أحقا بدأت تنفر ممن ألزمتك بقيودٍ من مصاريف لم تعد‬
‫قادرا على تحملها!؟‪.‬‬
‫ما أرفضه الن أنك تقول بأن كرامتك ل تسمح لك بزيارتي لنك تخشى‬
‫من مواجهتي‪ ،‬فتلك الحقيقة ل يعرفها غيرنا‪.‬‬
‫و ما أحزن لجله أ نك أخف يت الحقائق ال تي تك شف الم ستور‪،‬الحقي قة ال تي‬
‫زيلت ها بشوائب من زي فك الخاص بلغ تك كي تن جو من تجر يم الناس لك بعدم‬
‫ل له كيف كنا نشحذ المصروف منك؟ ولماذا‬ ‫التزامك بالبوة الحامية لماذا لم تق ْ‬
‫لم تُ صرحْ له بالحقي قة‪ ،‬الحقي قة ال تي تقول‪ :‬إن من ف تح آفاق شهو تي الطفول ية‬
‫على حب النساء‪ ،‬والتحديق في نهودهن وسيقانهن وخصورهن هو أنت! أتذكر‬
‫يوم طردت أمي أم نوري؟ هل نسيت ما قلت "حاذر وأنت تقابلها كن حريصا‪،‬‬
‫ل نريد مشاكل" !‪.‬‬
‫أرفض أن تعود إلى ذكر اسمي‪ ،‬أرفض أن أعترف باسمك وبأنك أبي‪ .‬يا‬
‫أبا حازم ان سَ أنك كنت في يوم أبا غالب‪ ،‬لحدد الفاصل الخير بين المرغوب‬
‫به وغير المرغوب‪.‬‬
‫معا يجعلنعي أبتئس أن موععد الدعوى قعد تأجعل والسعبب عطلة قضائيعة‪،‬‬
‫وسؤال ملحاح يضج في نبض القلب وأوتاره كم عاما ستحكم عل يّ أيها القاضي‬
‫الجليل؟‪.‬‬
‫أنا متهم بترويج الحشيش وتعاطيه‪،‬هذه الخيرة نعم‪ ،‬أما الولى فل علقة‬
‫لي بها‪ ،‬وجود صاحب سوابق كشف سرنا في مأوانا الهزيل ليفقد الشيخ عفريتة‬
‫حياتعه بععد أن عرف أن حكايتعه لن تكون خافيعة على أمعن الدولة(تزويعر‬
‫شخصية‪،‬انتحال اسم‪ ،‬قتل‪ ،‬هروب وإيواء سكارى وحشاشين ومطلوبين للعدالة‪،‬‬

‫‪- 125 -‬‬


‫و‪ ،‬و)!‪.‬‬
‫ذاكر تي ال تي فقدت رائ حة الن هر ما تزال متوقدة تتقاذف ها يق ظة ال سياط‪،‬‬
‫طلق أمي طلقا تعسفيا‪ ،‬بل مقدم‪ ،‬وبل مؤجل وحتى بل نفقة لعدة الطلق‪.‬‬
‫وأ نا المغضوب م نه والمغضوب عل يه‪ ،‬أتوه في شوارع المدي نة بحثا عن‬
‫مأوى و عن مغ سلٍ و عن مط عم ٍ الطر يق الول الم قبرة الطر يق الثا ني مغارة‬
‫الشيعخ عفريتعة‪ ،‬الطريعق الثالث السعجن المركزي والمدة مازالت بيعن يدي‬
‫القاضي!‪.‬‬

‫‪- 126 -‬‬


‫‪-12 -‬‬

‫‪ -‬مطلوب للزيارة؟‬
‫‪ -‬أنا؟‬
‫‪ -‬نعم أنت!‪.‬‬
‫بل شعور بالفرح قفزت من مكاني مثل أرن بٍ‪ ،‬لم أغسلْ وجهي ولم أبد ْ‬
‫ل‬
‫نزلتع بضعع‬
‫ُ‬ ‫ملبسعي‪،‬أصعبحتُ وراء الشرطعي أمشعي مثعل متجولٍ معع دليعل ٍ‬
‫درجاتٍ بعد أن تجاوزتُ العديد من الممرات والبواب الحديدية الموصدة‪ ،‬وقفتُ‬
‫مذهولً‪ ،‬الن ساء‪ ،‬الطفال‪ ،‬العجائز من الرجال والن ساء‪ ،‬أ صواتٌ يبعثر ها القلق‬
‫والضجيج‪ ،‬دموعٌ هنا‪ ،‬ووجومٌ مبتئسٌ في كلّ زاويةٍ من زوايا المسرح!‬
‫ال صداء ضا جة بأنفاس الكلم أك ثر من ضج يج شوق ها‪ ،‬سجناء يبيعون‬
‫الهدايا‪" ،‬هدايا للحباب‪ ،‬هدايا للعياد‪ ،‬قهوة مرة"‪ ،‬كلّ هذه الشياء مصدر رزق‬
‫لسجين يملك وساطة!‬
‫ومصور يدور بين الكراسي الحجرية يبحث له عن زبون يلقط له صورة‬
‫للذكرى‪ ،‬صعورة باللوان مختلفعة ععن صعور ذكريات الفراح والعياد‪ ،‬وأمام‬
‫ت فمي‪ ،‬لتخمدّ الحقا ُد في عناق ٍ طويل ٍ طويل ٍ‪.‬‬
‫من رأيت يقف لستقبالي‪ ،‬فغر ُ‬
‫جاءتني ترفل بحجاب أحزانها البكر والذي لم تدنسه يد شاب قميء حين‬
‫تبرعم نهداها‪،‬ولم تسلك نموذج نوال في اللقاءات السرية على سللم الدرج رغم‬
‫مجاورتنا لهم ومصاحبة جدتي لمها!‪،‬ضممتها إلى صدري فاحتواها قلبي!‬
‫كان وجههعا مثعل باقعة ذابلة فعي عينيعن متلونتيعن مخضلتيعن بالدمعع الذي‬

‫‪- 127 -‬‬


‫حبسته عيناها لحظة جلسنا‪.‬‬
‫ما تقول ين؟ الن ت سأل؟!! أ مي ت سأل الن ع ني!!ل لن أغ فر ل ها‪ ،‬ول أر يد‬
‫سؤالها ع ني‪ ،‬هي الخرى شري كة أ بي أدارت له ظهر ها فأدار ل ها عمر ها وع مر‬
‫ت لختي ‪:‬‬‫أطفالها‪ ،‬فقدنا مازن وفقدت وجودي‪ ،‬ما فائد ُة ما ترس ْل ؟ وبنبر ٍة حاد ٍة قل ُ‬
‫ت في داخل هم الرغ بة في الحياة‬
‫‪ -‬وزع يه على اليتا مى‪ ،‬على الذ ين لم تم ْ‬
‫وقولي لها ولبيك اتركوا غالبا وشأنه‪ ،‬ل تفتحوا على نفسيكما براكين الحقد !!‬
‫أسمع صوت الشهقة تلك التي لم تنسها ذاكرتي‪ ،‬أسمعها تندب حظها مع أبي‪،‬‬
‫وحظها مع زوج أختها المرحومة هل تغير؟ هل عاشت معه أفضل من عيشها مع‬
‫ك ما شاء لك البكاء‪ ،‬ف في البكاء حكا ية‬
‫أ بي؟ أخ تي قالت إ نك تبك ين من أجلي‪ ،‬اب ِ‬
‫عنوانها الراحة وعقدتها الشعور بالذنب‪ ،‬والخاتمة فيها على من نبكي؟ ومضمونها‬
‫سيظل عالقا في الحاسيس التي ل تعرف إل الشعور بالحزن‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا رج عت ؟ كي تطاردي عزائي ح تى في أن أكون سجينا؟ حاولت‬
‫أن أنعزل عن ا سميكما‪،‬أن أتن كر من وجودك ما لكون غالبا‪ ،‬ل مغلوبا‪ .‬أفرض‬
‫قانونا من قوانين الذات البشرية للمضطهدين في أن يختاروا أبيهم قبل أمهم‪ ،‬أو‬
‫أمهم قبل أبيهم‪ ،‬حتى إذا ولدتهم البطون عاشوا من دون أن يدخلوا السجون!!‪.‬‬
‫حيعن وصعف لي عمعي أختعي فريدة يوم زارهعم‪ ،‬بدعوة معن أبعي تخيلتعه‬
‫يصف غصنا بل وريقات‪ ،‬صامتة ذلك الصمت الذي ورثته عن أمها‪ ،‬كعادتها‬
‫تجلس على الحصير تخربش رسوما لبياض الثلج وزوجة أبيها والقزام السبعة‬
‫ل من أربعة!‪.‬‬
‫الذين أصبحوا اثنين بد ً‬
‫قدمت لي أختي المرأة والشاب حين قالت وقد طفح وجهها بحمرة الخجل‬
‫الوردي‪:‬‬
‫‪ -‬خالة أم حسن‪ ،‬وحسن !‬
‫الر جل الذي احتوا ني في الدا خل أراد أن يحتوي أخ تي في الخارج ي صاهر‬
‫والدي من دون أخذ مشورتي‪ ،‬يا للغبطة الرنانة !‪ ،‬وفراغ الروح يشدني إلى عبارة‪:‬‬
‫‪ -‬ما رأيك بابني حسن‪ ،‬هل أعجبتك المفاجأة؟‪.‬‬
‫سبق أن ذكرت ل كم أن الر جل كان من الرجال القادر ين على د فع المال‬

‫‪- 128 -‬‬


‫في إعادة الحسابات من جديد‪ ،‬لتجد نفسك مع طبيعة الخير البشرية تعيش بعض‬
‫وقت تحسبه سيكون طويل المد!‪.‬‬
‫من أ جل احتواء الحقي قة عر شت في ذاكر تي حكا ية ع مي مع والدي‪ ،‬تلك‬
‫الحكا ية ال تي ستسقط من ح ساب الحا جي ب كل تلوين ها الممتو حة من أ ساطير‬
‫الولين!‪.‬‬
‫من ضرب أ خي رضوان ع مي‪ ،‬ضرب المعلم تلميذه ل نه أه مل واج به في‬
‫كتابعة الوظيفعة‪ ،‬ولن الضرب ممنوع فقعد جاء ليطوي همتعه على العطاء زاجرا‬
‫عمله التربوي‪ ،‬ألم تُعرك الكنية في دفتر التفقد أي اهتمام ٍ لتسأ ْل أيها المعلم العم؟!!‪.‬‬
‫ت ا سمه على دف تر التف قد‪ ،‬لم تنظرْ إلى إخراج الق يد نظرت في‬ ‫ح ين كتب َ‬
‫قائ مة ال سماء ال تي ترك ها المعلم ال سابق‪ ،‬ولن المعلم اخت صر من ا سم الشهرة‬
‫اسم عبد الوكيل وال التعريف في كلمة الدليل‪ ،‬صار السم "ناجي دليل"‪ ،‬ولن‬
‫والدي كان قد الت قى بك غ ير مرة ع ند صاحب المع مل الذي كان يشتري من‬
‫عنده بعض المل بس الولد ية ف قد توا صلت بينك ما صلة الر حم‪ ،‬ول كن من بع يد‬
‫ب عد أن تعرف أحدك ما على ال خر!! على الحقي قة القا سية‪ ،‬الحقي قة الغائ بة عن‬
‫ضمائر الذين عزلتهم ظروف فشل العلقة الزوجية !‬
‫حين دخلت المدرسة تريد اتهام المعلم بالخروج على القانون وجدت أخاك‬
‫معن أبيعك المعلم الذي ضرب ولدك فعقدت الدهشعة لسعانك ولم تعقعد لسعان أبعي‬
‫الذي كان يح كم على أ مي بال صمت الجر يح ح ين كا نت تطال به بزيارة أهله من‬
‫أبيه لنتعرف إليهم‪ ،‬ويتعرفوا إلينا قائلً جملته المعروفة‪:‬‬
‫ك علقة !‪.‬‬
‫‪ -‬مال ْ‬
‫بععد تقويعض قدرات النملة الحزينعة على عدم فتعح ثقوب الصعلح تقعف‬
‫وأخ يك في م مر المدر سة‪ ،‬لتخرج الحقي قة من مخاض التفر يق والمد ير بعين يه‬
‫الشاخصتين المبهورتين ل يصدق ما يسمع!‪ ،‬دنيا الفوازير تنبش تابوت الماضي‬
‫عن قصة مائعة عليك أن تصدقها بعد كشف كلّ الحقائق!‪.‬‬
‫بعد غ ٍد سأمثل أمام القاضي‪ ،‬سأرجو عطفه‪ ،‬أر يد الخروج لحدث الناس‬
‫ب في جا مع ٍ‪ ،‬أر يد أن يعرف الناس أن اللأخلق ض عف خ في م سيطر‬ ‫كخطي ٍ‬
‫ينبعث من النانية الحمقاء نحو الشهوة والمال‪.‬‬

‫‪- 129 -‬‬


‫وجدي الذي ل أعرفه لماذا لم يسأل عن عمي وجيه؟! تمثلته في خاطري ل‬
‫يشبه أبي‪ ،‬ولكني اكتشفت من طباع البشر ما لم يكتشفه أي شخص من الحكماء‪.‬‬
‫الليلة بالذات تمنيعت أن أرى القمعر يعزف سعمفونية غزليعة ل يسعمعها‬
‫غيري لزف له بشرى خطو بة أخ تي على واحدٍ في م ثل عمري وا حد احتواه‬
‫أهله ولم يطرده أبوه‪ ،‬لنه لم يتزوج على أمه‪.‬‬
‫ب عد مرور ذلك اليوم الذي ذ قت ف يه ط عم ال سعادة‪ ،‬ال سعادة ال تي حدث ني‬
‫عنهعا الشيعخ عفريتعة أنهعا مجرد لحظعة! والتعي أحسعست بمعناهعا عندمعا قرأت‬
‫الفرح والسرور على وجه أختي تلك التي غرست في نفسي نحوها مشاعر ودّ‬
‫ووئام جعلتني ل أنساها أبدا‪.‬‬
‫تمكنع معن‬
‫َ‬ ‫أخطبوطع‬
‫ٍ‬ ‫ولكعن النفور ل يطوي الحقعد‪ ،‬والحقعد يتأزم مثعل‬
‫فري سته‪ ،‬أمام ناظري أد غل بع مي م ثل داع ٍر موغلٍ في المشاجرات ال تي ت فك‬
‫إزار التلحعم النسعاني‪ ،‬ومعن فمعه الكريعه خرج سعباب بذيعء فتراءى لي أنعي‬
‫ذئبع أصعابته رصعاصة فعي حشاشعة صعدره‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وبغمضعة عيعن قعد تحولت إلى‬
‫ل ومع صيحة‬ ‫ب ُيعارك قردا نحي ً‬
‫فأقفزعن مكاني بل وعي ٍ‪ ،‬لتمثل صورة ذئ ٍ‬
‫العم أبي حسن تدخل الرجال وصاحوا صيحة زأر لها "القاووش"!!‬
‫تركته والشرر يتطاير من عينيه‪ ،‬أهي الغيرة اللئيمة من حظوتنا عند أبي‬
‫ح سن؟ أم هي الطبي عة الكار هة ل كل علئق الوجدان في منغلق مكان ٍ ل سلطة‬
‫للخر على آخر إل بالقوة!؟‪.‬‬
‫أعترف الن أن مفاتيح الرذائل من هذه الفجوات المبهظة ل تقوم إل على‬
‫ل أقنوم من أقان يم الفضيلة في اقتناء الحك مة‪ ،‬هذه الكل مة ال تي‬
‫القوة الها صرة لك ّ‬
‫فسرها لي المصلح على أنها مَلكُ الحياة ومن غيرها ل قوة لك!‪.‬‬
‫أمام الوجوه المنخورة كان القاضعي يتأنعى!‪ ،‬يطالع الضبارة معن دون أن‬
‫يرف له ر مش في عين يه‪ ،‬في اللحظات تلك را حت تشد ني دوامات عني فة إلى قاع‬
‫الغرق‪ ،‬واللزو جة الرط بة تع يق حر كة ذاكر تي أكاد أخت نق‪ ،‬أ قع‪ ،‬كل المنعطفات‬
‫تدور الفأس الحادة تهوي على رأ سي تعيد ني إلى أنات ال سجين! الجدران المقض بة‬
‫ت !‪.‬‬
‫هي مكاني‪ ،‬ل حياة خارج هذا المكان قبل انقضاء سبع سنوا ٍ‬
‫وأمعي معن فتات سعفرها النائي تمدّ يعد العون لولدهعا الذي شعرت حيعن‬

‫‪- 130 -‬‬


‫سمعت بخبر زجه داخل السجن أنه يدفع ضريبة قاسية من انقسام الخلية‪،‬التي‬
‫أسفرت عن انحرافه وغرقه‪.‬‬
‫تريععد أن تطوي الخريطععة‪ ،‬والخريطععة تواجععه غول السععتباحات‬
‫المهولة‪،‬وكي تنجو من شظايا المعيقات في عتمة الدخائل‪ ،‬ترسلُ عونها أتعرفين‬
‫ما قاله المحامي‪:‬‬
‫‪ -‬سنطعن بالحكم ونطلب الستئناف‪.‬‬
‫أختي أخبرتني حين زارتني هذه الزيارة والتي ظلت وحيدة أن أمي طلبت‬
‫معن خالتعي أم جميعل أن توكعل محاميا للدفاع عنعي‪ ،‬معن هناك اتصعلت بخالتعي‬
‫وطالبت ها بالوقوف إلى جا نبي‪ ،‬وا بن خال تي جم يل و سعيا من أبو يه ن حو تحق يق‬
‫مستقبله دخل كلية الطب‪ ،‬ونسمة دخلت كلية الحقوق‪ ،‬وأختي وبعد خروج أبي‬
‫ح سن ستدخل كل ية الزواج‪ ،‬وأ نا ب عد انقضاء مدة الح كم سيكون ا سمي "خر يج‬
‫سجون"‪ ،‬وأخواي رضوان وناجي يبيعان الجوارب ليلً على أرصفة التلل وهما‬
‫يتابعان دراستهما في النهار‪ ،‬ونوال تزوجت! من قالت إنها تحبني حتى الموت‬
‫تزوجت من ابن عمها‪ ،‬أرغمها أبوها على الزواج‪ ،‬والشمس غاربة عن حياتي‬
‫فأحدق في الحيطان المتلونة‪ ،‬يجعلني النظر فيها أعيد ترتيب الزمن لكل الوقائع‪،‬‬
‫والسماء‪ ،‬والتواريخ في اليوم والشهر والسنة‪.‬‬
‫المنك سرون‪ ،‬الظالمون‪ ،‬المظلومون‪ ،‬أحاول أن أقتلع من ذاكر تي ما أكره‬
‫رائحته!‪ ،‬الفجوة الكسيحة والتي سفحت دماء غربتي وذنوبي التي وطنت عليها‬
‫عربدتي على نهايةٍ‪ ،‬صهي ُل دمعها ما انفك يغادر!‪.‬‬
‫سيخرج أ بو ح سن‪ ،‬الو سطاء تدخلوا‪ ،‬جعلوا الر جل وأهله يتنازلون عن‬
‫حقهعم‪ ،‬أيام ويودعنعا‪ ،‬سعينسى غالبا‪ ،‬سعيكون أبعو غالب البديعل‪ ،‬يتجالسعان‪،‬‬
‫يتضاحكان‪ ،‬ألمْ يصبحا "نسايب" ؟!‪.‬‬
‫الليلة بالذات تركت أفكاري متأرجحة داخل عتمة المساءات الفارغة ونهضت‬
‫فزعا‪ ،‬اقتربت من سريره‪ ،‬أنينه يفصل القلب عن الوريد‪ ،‬عمي ما بك؟ سألته‪ ،‬ثم‬
‫صرخت أريد السعاف‪ ،‬هاتوا السعاف‪ ،‬الرجل حرارته مرتفعة إنه يختلج‪.‬‬
‫بتملق ٍ أرعن ٍ صاح الداعر‪:‬‬
‫‪ -‬آ‪" ...‬خيو بدنا ننام "!‪.‬‬

‫‪- 131 -‬‬


‫أسرعت نحو باب الزنزانة وبدأت أصرخ وأنا أضرب الباب بيدي ‪:‬‬
‫‪ -‬هاتوا السعاف‪ ،‬عمي مريض حرارته مرتفعة!‪.‬‬
‫بتململٍ نهض بعض الرجال‪ ،‬نهض أبو حسن واقترب وئيد الخطوات من‬
‫سريره لمس جبينه ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬نزلة برد‪ " ،‬طول بالك الناس "بدها" تنام "‪.‬‬
‫نتأ عظم صدغي‪ ،‬فوجئت بالحرس يدخلون‪ ،‬آ هٍ من برودة العصاب‪ ،‬آه ٍ‬
‫من كلّ هؤلء ومنك‪ ،‬أنينك وقع في قلبي يا عمي نقف وجها لوجه بكل تفاصيلنا‬
‫أمام لحظة انكسار ومن دون وجود عاطفة‪ ،‬ما هذه القلوب ؟!‪.‬‬
‫حملوه على النقالة‪ ،‬حملوه وتركو ني أحمل في صدري وذاكرتي م صرع‬
‫مازن‪ ،‬موت الشيخ عفريتة‪ ،‬المقبرة‪،‬الزنزانة التي تشبه المقبرة خشوعك وأنت‬
‫ترى الكفن وهو يلّف الجسد البارد!‪.‬‬
‫تحولت هائلة حدثت‪ ،‬الرجل الكريم تبدل وجهه‪ ،‬بل ضوء رأيت ملمحه‬
‫جيدا‪ ،‬حاولت أن أقنع نفسي بأن ما أراه غير الذي عرفت!‪.‬‬
‫ت وج هه‬ ‫رغب تُ في التق يؤ لب صق من داخلي يد الخطبوط الر عن‪ ،‬رأي ُ‬
‫غليظا‪ ،‬ابت سامته تق طر خبثا وضيعا‪ ،‬شعر تُ بحا جة ما سة إلى الض حك‪ ،‬تمني تُ‬
‫ل ما يمل كرشه المنتفخ‪.‬‬
‫في اللحظة تلك أن أفتح صدره لخرج ك ّ‬
‫جلست على سرير عمي مثل كومة قش ٍرطب ٍة استشرى في داخلها عفن‬
‫الحقد وما من سبيلٍ غير النتقام‪.‬‬
‫حيعن عاد الحارس ظهيرة اليوم التالي أخبرنعا أن عمعي وجيعه قعد أسعلم‬
‫الروح‪.‬‬
‫وقعت الرصاصة في قلبي‪ ،‬عاودتني الرجفة‪ ،‬هل تسلم الرجل الذي لّطع‬
‫الشيب رأسه جثمان ولده!؟‪.‬‬
‫أدركعت تفاهعة النسعان فعي مغبعة معن ظلم الحياة‪ ،‬تلك التعي تتواطعؤ معع‬
‫أقدارنعا على سعحق أفراحنعا‪ ،‬أيا كانعت قيمتهعا ومهمعا تضاءل حجمهعا‪ ،‬الثنان‬
‫ف من عطاءا ته راح في‬ ‫غادرا المكان‪ ،‬وا حد ترك ز من الحقائق وآ خر في زي ٍ‬

‫‪- 132 -‬‬


‫ف يرقص‪ ،‬فالفتاة مهرها رخيص‪ ،‬ولن ترفض الحياة مع عم ٍ وحماة ٍ وأولدٍ‬
‫تر ٍ‬
‫مازالوا قاصرين!‪.‬‬
‫أبيضع ‪-‬‬
‫َ‬ ‫والذي ترك زمعن الوقائع برمتهعا‪ ،‬لّفوا جسعده بقماش ٍمعن كتان‬
‫درجة ثالثة‪ -‬وهل يهم الميت نوع الدرجات وفي انتظاره دود الرض!؟‪.‬‬
‫لم يأبه أح ٌد من السجناء لحالي‪ ،‬فتحوا التلفزيون الذي تركه أبو حسن عربون‬
‫محبة في وفاء‪ ،‬وفي محاول ٍة لتخبئة حالة النزعاج التي رافقت قتامة نفسي وصمتها‬
‫اند سست ت حت اللحاف الذي تر كه لي الش خص ذا ته!‪ ،‬وأ نا ألوك أوجاع الزمهر ير‬
‫الذي توغل في داخلي بشكل ما عدت قادرا على الخلص منه‪.‬‬
‫تسعلقت عرائش حقدي ومق تي وظلم الحياة لعمري صعهوة معن فرح خفعي‬
‫بدا خفيفا وخفيا‪" ،‬هنودة" أ بي لم ت ستقبلها‪ ،‬قال تخاف من رؤ ية الم يت‪ ،‬وتخ شى‬
‫أن تموت عندهعا‪ ،‬معن أشرف على رعايعة أيامهعا الخيرة الجيران‪،‬كأن السعماء‬
‫تستوفي منها بعض ديونها حتى عطف ملك الموت على أخاديدها الجوفاء وما‬
‫خرج في جنازت ها سوى والدي وأخواي وجارت نا أم نوري وبض عة رجال من‬
‫أصحاب الدكاكين في الحارة!‪.‬‬

‫‪- 133 -‬‬


‫‪-13 -‬‬

‫ا ستفزازُ ال خر امتها نٌ سيئٌ‪ ،‬لذلك بدوت متعبا من عو يل الروح وم ما‬


‫ع وحيدا نظراتهعم تأكعل انهياراتعي‬ ‫تبقعى معن نبعض القلب المجروح‪،‬عدت ُ‬
‫القا سية‪،‬والذي ك نت أخشاه أن تتحول هذه النظرات إلى خنا جر تكت سح ما ب قي‬
‫من نبض القلب في خيره‪ ،‬عمي ل تحزن‪ ،‬سأجعلك في تربتك تنام هانئ البال‪،‬‬
‫سأر ّد لك على ذلك الر عن الو سخ‪ ،‬شعر تُ بذعرك من اقتحا مه خلو تك وأ نت‬
‫داخل الحمام‪ ،‬وقف الرجال معه شمم تُ رائحة الخطر بغريزة حيوانية‪ ،‬صدقني‬
‫لن أنام قر ير الع ين ح تى أ سرق النوم من عيون هم‪ ،‬أ نا ل ست جبانا ك ما يعتقدون‬
‫هناك فرق بين الغدر‪ ،‬والنتقام!‪.‬‬
‫كنعت مقلوبا رأسعا على عقعب‪ ،‬الضباب الدخانعي يتناثعر فعي أرجاء‬
‫"القاووش" فخطرت في ذهني فكرة‪ ،‬الرجل الذي تعودنا على مجالسته غاب عن‬
‫المكان والزمان‪ ،‬لم أ صدق أن هم ا ستجابوا‪ ،‬أ نا الن سيد المو قف‪ ،‬بهذه الطري قة‬
‫ك سرت شوكت هم يا غالب كن رجلً ب ين هؤلء الرجال‪ ،‬كا نت أ صابعهم كبيرة‬
‫مخيفة‪ ،‬وكنت في قمة نشوتي! بنت الكبة معي دائما‪ ،‬إذن أنا الرابح دائما‪ ،‬في‬
‫الل عب أر بح‪ ،‬و في الحياة أخ سر‪ ،‬خ سرت نوال‪ ،‬خ سرت من عر فت قي مة حب ها‬
‫الن‪ ،‬غ ير مرة ضرب ها أبو ها ب سبب رفض ها الزواج من ا بن عم ها‪ ،‬الم سكينة‬
‫كانعت تنتظرنعي‪ ،‬تنتظعر أن أعود إليهعا حاملً المهعر والجهاز‪ ،‬لكنعي لم أفعلْ‬
‫فأذعنت لرغبة أبيها وعينيها تبحثان عني!‪.‬‬
‫ل مرةٍ‪ ،‬النوم على‬
‫نمتع بعمعق ٍأكثعر معن ك ّ‬
‫ُ‬ ‫حيعن أطلقوا سعراحي للنوم‪،‬‬
‫سرير عمي أعجبني‪ ،‬رائحته مازالت تستوطن "المخدة" والفراش لن تصدقوا إذا‬

‫‪- 134 -‬‬


‫قلت ل كم أ نه كان سعيدا‪ ،‬رأ يت ق سماته‪ ،‬ق سمات رائ عة يظلل ها نور ب هي‪ ،‬ل ست‬
‫أدري هل رأيته حقيقة؟ أم أني كنت حتى في منامي أتخيله؟‪.‬‬
‫ح ين ا ستيقظت نزلت عن ال سرير‪ ،‬شعرت بنف سي رجلً غادر ته سنون‬
‫الشباب‪ ،‬بعضهعم كان فعي المطععم‪ ،‬وبعضهعم الخعر كان فعي زيارة خاصعةٍ‪،‬‬
‫وبعضهم شمر عن ساعديه‪ ،‬وبدأ عملية غسيل حاجاته والمهندس يوسف والذي‬
‫اتهموه بته مة وجود عل قة جن سية دا خل مكت به مع ال سكرتيرة‪ ،‬كان سجين ذا ته‬
‫المنكسعرة‪ ،‬خربوا بيتعه وأرسعلوه معع جوقعة معن الزغاريعد يطوقهعا طابور معن‬
‫عسكر أمن الدولة‪.‬‬
‫نهض من مكانه‪ ،‬نهض من وراء صمته المنكسر‪ ،‬وقبل أن يُنهي جملته‬
‫الخيرة‪ ،‬اكتب عني يا غالب! عاودني الضحك بل ابتذال ٍ يا رجل اسكتْ‪ ،‬إنه‬
‫ابتكار جديد لحد أشكال الفرعنة‪ ،‬يريدونك مشلولً يستبدلون أمام عينيك الطيب‬
‫بالكر يه‪ ،‬والج يد بالرد يء‪ ،‬وعل يك أن تو قع حاذر أن تقول ل! أو ما هذا؟ فتلك‬
‫خيانة!!‪.‬‬
‫مشعى أمامعي وبقيعت جالسعا‪،‬لم يلتفعت خلفعه‪ ،‬ظلله المكسعورة هعي التعي‬
‫أزعجت ني‪،‬أغم ضت عين يّ‪ ،‬ب كى قل بي‪ ،‬ب كى على م ستقبلي الضائع على أنقاض‬
‫العمر الذي بدأ يغطي فتات بياض القادم التي!‪.‬‬
‫الجعو باردٌ‪ ،‬برودتعه تنععش ذاكرتعي‪ ،‬غدا يمضعي على وفاة عمعي سعتين‬
‫يوما‪ ،‬والر جل الذي صاهر أ بي ن سيني‪ ،‬اختلق لن سياني ح جة انشغاله بترت يب‬
‫أمور الجهاز والعرس‪ ،‬أدور في المكان نفسه‪ ،‬أرسم صورة المرأة التي ترجلت‬
‫ععن ظهعر فرسعها‪ ،‬الفارس الذي طاش بيعن أثداء المعجبات‪ ،‬أغربعل معن هنعا‪،‬‬
‫وأغربعل معن هناك لجعد أن غربلتعي للشياء لم تنتعه بععد‪ ،‬تلسععني ذكرياتهعا‬
‫المريرة بجلدات ل تطاق! تمس أحاسيسي في أدق تفاصيل عقلي‪.‬‬
‫القنفذ الرديء يناديني‪:‬‬
‫‪" -‬هه " كاتب "أفندي "‪ ...‬ر ْد "خيو"!‪.‬‬
‫ل أر ّد عليه‪ ،‬أبقى في عزلتي على سرير عمي‪،‬ل أريد الصدام معه وفي‬
‫غياب الرجال‪،‬أريد هم شهودا‪ ،‬ل مشاهد ين لك نه اقترب م ني فنزلت من ال سرير‬
‫وصرخت في وجهه ‪:‬‬

‫‪- 135 -‬‬


‫‪ -‬ال يلعنك قملة "معفوسة وبدك عفس "!‪.‬‬
‫ت وبصوتٍ‬
‫سبقني إلى ياقة القميص‪ ،‬شدني من طرفه‪ ،‬فضحك تُ‪ ،‬ضحك ُ‬
‫عالٍ‪ ،‬ارتجفت يده‪ ،‬احترقت قوته مثل قش ٍة بين نارٍ مفاجئةٍ!‪.‬‬
‫الشياء الصعدئة بدأت تزاول سعقوطها فعي نفسعي‪ ،‬أريعد بديلاً ععن الذئب‬
‫الذي راح يعوي في أذ ني‪ ،‬أ بو عي سى وأ بو رائد وأ بو ح سام بدؤوا ي صرخون‬
‫ضجرين‪:‬‬
‫‪ -‬ل نريد مشاكل أخرى‪ ،‬ياغالب أفندي‪ ،‬يكفينا ما رأينا‪ ،‬اترك الغرور‪.‬‬
‫الن تظ هر خفايا كم الباط نة‪ ،‬الن تقفون مع المعتدي ضد المعتدى عل يه‪،‬‬
‫هكذا إذن تقفون جميعكعم ضدي !‪،‬تريدون أل أتنفعس‪ ،‬أن أغيعب فعي لج ٍة معن‬
‫عويلٍ يجعلني قزما تافها!‪.‬‬
‫الوجوه صارت كلها خفافيش مذنبة يئز صوتها في تلفيف عقلي المنهار‪،‬‬
‫والفعل المنتقم يزحف بهدو ٍء إلى داخلي!‬
‫الن تفسعخت نقمعة الطريعد المطرود ععن شعر بات أمرا مقضيا أريدهعم‬
‫مذعور ين ل يعرفون ك يف يطفئون نيران انتقا مي‪ ،‬إ ني أشي عه بآ خر النظرات‬
‫المنتشية‪ ،‬وأنا أراه مثل فزاعة يسقط عن سريره‪ ،‬وقد انفقأت عيناه!‪.‬‬
‫" الطبجي" يجب أن يموت‪ ،‬عينا "الطبجي" يجب أن تقلعا سأطحن عضوه‬
‫تحت رحى انتقامي‪ ،‬سأضع في دبره "خازوقا" من حدي ٍد ساخن‪ ،‬سأحقق بعضا‬
‫من عدالةٍ ل يعرفها القاضي‪ ،‬بل كلّ الذين يتفوهون عن حقوق الطفل‪ ،‬صديقي‬
‫القمر سيمسح دموعي وسينشر أوراق حكايتي من يوم ميلدي حتى آخر رمق‬
‫في حياتي!!‪.‬‬
‫سيضمني مع كواكبه والنجوم الساجيات‪ ،‬سأرحل عنهم إليه نظيفا‪.‬‬
‫في مغارة الشيخ عفريتة كان علي يمارس اللواطة مع بعض من الرجال‬
‫الذين مسخ ال في وجوههم البشاشة‪ ،‬وحين أخبرت الشيخ محمد قال‪:‬‬
‫‪ -‬ل علقة لنا بخصوصيات الخرين‪.‬‬
‫ال خر كان يشتري ب صمته على المن كر الب شع البغ يض وجود هم للمعو نة‬

‫‪- 136 -‬‬


‫في أخذ ثأره‪.‬‬
‫هيمنعة القوى الشريرة دونيعة رخيصعة‪ ،‬مليئة بالقذارة الموحلة التعي تعدم‬
‫الحياء في ن فس ب ني آدم‪ ،‬لتفجر ها فاجرة كعاهرة ل ت ستحي من خلع ملب سها‬
‫أمام جمهو ٍر معن الرجال ِ وأنعت يعا حشري ألن تبتععد عنعي؟ عدْ إلى أحبارك‬
‫وإبرك‪ ،‬اوشعم أكتاف الرجال والشباب‪ ،‬ارسعمْ بالوشعم‪ ،‬القلب والنعامعة والصعقر‬
‫ورأس التن ين زين ها بأحبارك ورماد سكائرك‪ ،‬أل يكف يك جر مك؟!العتداء على‬
‫ب نت الجيران! ما تقب ضه من هؤلء سيجعلك تف كر بالعودة سريعا‪ ،‬صدقني ل‬
‫حاجة لك بي‪ ،‬دعني وشأني فأدعك وشأنك !‪.‬‬
‫كا نت فكر تي جهنم ية‪ ،‬وكا نت رغب تي في النتقام تزداد يوما إ ثر يوم ٍ‪،‬‬
‫رائ حة النار‪ ،‬رائ حة الن هر‪ ،‬الج سام المتخش بة‪ ،‬رائ حة الج سد‪ ،‬العيون المفقوءة‪،‬‬
‫الضباب الدخاني وتفحم الرعن سبيلي!‪.‬‬
‫بدأت أجمعع المزيعد معن الوراق والكياس التعي كان السعجناء يرمونهعا‪،‬‬
‫ترددت كثيرا في تمزيق الرواية ال تي تركها عمي ت حت "مخد ته"! لكن حاجتي‬
‫إلي ها جعلت ني أمزق أوراق ها لضمها إلى ما ادخر ته من أشياء تحترق‪ ،‬وبشه ية‬
‫على الحتراق!‪.‬‬
‫عود الثقاب يشتععل‪ ،‬الضحعك يتدحرج على دحرجعة فزعهعم معن هول‬
‫المفاجأة‪ ،‬صفارات النذار تعلو‪ ،‬النيران تلتقطه تحاول ابتلعه ضحكي يتماوج‪،‬‬
‫يتخا فت‪ ،‬ما عدت قادرا على تمي يز الوجوه ال صوات تتخ بط‪ ،‬كلّ ي سعى ن حو‬
‫تنمع ععن حقدٍ تجذرت‬
‫خلص نفسعه‪ ،‬باب "القاووش" موصعدٌ‪ ،‬رائحعة النتقام ّ‬
‫انكساراته‪.‬‬
‫رجله مربوطتان‪ ،‬صعراخه يدوي‪ ،‬عيناه تفحمتعا شعره ذاب معع دهعن‬
‫رأسه!‪.‬‬
‫عقط وهذا‬
‫عي أسع‬‫عد جعلنع‬ ‫كلّ الشياء انطفأت‪ ،‬كلّ اللوان زالت‪ ،‬هذا الحقع‬
‫السعقوط جعلنعي زاهدا‪ ،‬أتطلع نحعو الموت بتوسعل ٍ‪ ،‬فالقانيعم التعي هجرت‪،‬‬
‫والقانيم التي كرهت‪ ،‬كلها صارت مثلي في فم النيران‪.‬‬
‫روحعي تنازع الحياة‪ ،‬تضغعط على خلياي العتيقعة يذكره عقلي أراه فعي‬
‫المسافات البعيدة المنقبضة على آخر ما تبقى لنا من تراحم إنساني أغلقه برتاج‬

‫‪- 137 -‬‬


‫النانية والعقد التي في داخله من شح الجيب وسواد القلب وشهوة الجسد والذي‬
‫ما زال مؤطرا بكلمة ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا متبرئ منك‪ ،‬اخرج من هنا "اتفووو"‪ ،‬أنت ولد مغضوب‪.‬‬
‫ل الكفان بيضاء كلّ الجساد فانية‪ ،‬أمي‬
‫في القبور كلّ الجماجم تتشابه‪ ،‬ك ّ‬
‫تعالي كي تخي طي الك فن‪ ،‬أ بي اطلب ر صاصة الرح مة‪" ،‬الطب جي" مات‪ ،‬ذاكرة‬
‫الروح مازالت تنت فض‪ ،‬ع مي‪ ،‬الق مر أخ تي‪ ،‬هب ني يا ملك الموت و سادة للموت‬
‫الرحيم‪ ...‬أيتها‪ ...‬ال‪ ...‬أ‪ ...‬و‪ ...‬را‪ ...‬ق‪ ...‬ل‪ ...‬ت ح‪ ...‬ترقي!!‪.‬‬
‫‪1999 / 5 / 6‬‬

‫‪2004 / 2 / 6‬‬

‫***‬

‫‪- 138 -‬‬


‫بطاقة تعريف ‪:‬‬

‫سها محمد جلل جودت‬


‫من مواليد حلب ‪1954‬‬
‫العمل مديرة ابتدائية‪ ،‬تحمل شهادة أهلية التعليم‬
‫عضو نادي التمثيل العربي للداب والفنون‬
‫عضو جمعية العاديات‬
‫عضو النادي الثقافي النسائي‬
‫عضو مكتب الثقافة الفرعي ‪ /‬نقابة المعلمين‬
‫عضو في التحاد النسائي‬
‫تك تب الق صة والق صة الق صيرة جداً والروا ية‪ ،‬حازت على الجائزة الولى‬
‫لفرع اتحاد الكتاب العرب مناصعفة والجائزة الثانيعة لفرع نقابعة المعلميعن عام‬
‫‪ 1998‬منا صفة‪ ،‬ك ما حازت على الجائزة الثان ية في أدب الطفال عام ‪2003‬‬
‫مناصفة‪.‬كما نوهت مسابقة البتاني بقصة نجمة في السماء عام ‪.1998‬‬
‫تنشر في الدوريات العربية والمحلية‬
‫أ صدرت أول مجمو عة ق صصية عام‪ /2001/‬بعنوان (رجلٌ في المزاد)‪،‬‬
‫دار الثريا‪ /‬بحلب ‪.‬‬

‫***‬

‫‪- 139 -‬‬


‫صدر للمؤلفة ‪:‬‬

‫مجموعة قصصية ‪ :‬رجلٌ في المزاد – عام ‪ 2001‬دارالثريا‬


‫مخطوطات قيد الطبع‪:‬‬
‫مقالت ‪ -‬تراتيل سمفونية الوطن‬
‫رواية ‪ -‬ذاكرة القلب ذاكرة الروح‬
‫كتاب ‪ -‬الدباء يكتبون طفولتهم‬
‫قصص ‪ -‬بائعة العصافير‬
‫قصص ‪ -‬دماء الفرس‬
‫قصص قصيرة جدا – أنا‬

‫‪‬‬

‫‪- 140 -‬‬

You might also like