Professional Documents
Culture Documents
-2-
الحقوق كافة
مـحــــفــــوظـة
لتـحــاد الـكـتـاب
-3-
سها جلل جودت
-4-
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق 2004 -
-5-
-6-
التقديم والهداء
يقول ابن القيم في التربية :فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد
أ ساء غا ية ال ساءة ،وأك ثر الولد إن ما جاء ف سادهم من الباء وإهمال هم ل هم،
فأضاعوهم صغارا ،فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارا.
معن هذا المدخعل لكلم ابعن قيعم جوزيعة أقدم روايتعي ،العمعل الول بععد
ل في المزاد) ،و قد ا ستغرقت م عي إ صدار مجموع تي الق صصية الولى ( رج ٌ
زمنا غ ير ي سير لك شف النقاب عن كوا من الط فل النف سية وال سباب المباشرة
غيعر المباشرة فعي تشرده وضياععه ،وذلك معن خلل تقديعم هذا العمعل الروائي
والذي ا ستند في مج مل أحدا ثه على الوا قع الدم يم الذي تعا ني م نه مجتمعات نا،
ك أن هذه المجتمعات السرية تخلق في نفس الطفل انعكاسا إيجابيا وأجزم بل ش ٍ
ع ند ب عض الطفال ح ين تر فض نف سية الط فل وا قع حياة الضياع فيب حث لذا ته
ععن مخرج إمعا بمتابععة التعليعم ،أو فعي اسعتقراره على تعلم حرفعة أو صعناعة
ليغدو إنسانا سويا ،على عكس ما سنجده في هذه الرواية.
***
-7-
-8-
يقول سارتر( :الكا تب يم ثل ضم ير الع صر) .والروائ ية سها جلل
جودت أحسعت بالمسعؤولية الدبيعة والثقافيعة والنسعانية تجاه مجتمعهعا،
ولذلك سعت جادة لتكون بم ستوى هذه الم سؤولية من خلل هذه الروا ية
الشائقة...
فالروا ية تمتاز بكثا فة شديدة وح ساسية مره فة أ سهمت في تشك يل
عالم يمزج الواقعع بالرمعز والحلم معن خلل عبارة رشيقعة أقرب إلى
الشاعر ية وأ سلوب ملون دا فئ و سبل تعبير ية وفكر ية تحت ضن ال صدق
والوفاء للوصول إلى آفاق مزهرة.
إن الخوف ،والتمرد ،واللم أقانيعم ثلثعة تمثعل الغتراب الداخلي
لكون ها تنغرز في ج سد الروا ية وأحداث ها بفاعل ية كبيرة ،والكات بة ت صر
عبر هذه المحاور المركزية على النتباه إلى النتائج التي ستصل بها إلى
القارئ من خلل واقع مماثل لواقعنا - ،هذا إذا لم يكن مطابقا له -ومن
خلل ما تعززه الحداث في حياتنا ووجودنا ،لن معرفة ما هو حلو إلى
جانب ما هو مرٌ فعلً يعني الكثير الكثير.
إن الروايعة تتصعدى للمشكلت الجتماعيعة معن خلل رؤيعة نقديعة
تك شف عن معاناة البناء الجتما عي وت صدعه ب سبب سلبيات تن خر في
عظامه تستحق التوقف والتدقيق ،ذلك لن من أهم جماليات الرواية هذا
ال صدام ب ين ما ي جب أن يكون ،وب ين الوا قع الغا في على الظلم المف جر
للمعاني اللأخلقية التي تعشش في مفازات الجهل والتخلف.
وإن النظعر إلى جذور الزمعة فعي الحدث يعود للواقعع التاريخعي
المتأرجعح والنتماء الطبقعي ...فالبطعل ينتمعي إلى الطبقعة التحتيعة التعي
تفرض واقعا مفسعخا ينعكعس سعلبا على فكعر وسعلوك أفراد هذه الطبقعة
فيظهر الفرد مغيب الفكر والوجدان ،حائرا في آفاق مستقبله ،ضائعا في
توجهاته وأفعاله ،فيضطر إلى التغلغل في ثنايا الشهوات والسترسال في
-9-
الندماج مع أشخاص ليسوا من سنه ول من مسلكه .إلخ .أهو نداء الفكر
أو نداء القلب أو النهيار الكلي الذي ل مناص منه.
لقعد ف قد البطعل حنان البو ين والرعا ية ،و ما يكاد يخرج من ظلم
ح تى يدخل في آ خر ،فا ستسلم للها نة ،ورضخ لشب كة الفعل اللأخلقي
مما عكس على حياته عدم الستقرار ورسخ الضياع.
إن هروب البطعل معن الرديعء إلى الردأ ،ومعن حياة الممكعن إلى
حياة المسعتحيل بسعبب ملحقعة المجتمعع والسعلطة له ،جعله يوغعل فعي
غياهب الضياع والرذيلة ،ولم تنقذه عاطفة مفاجئة أو حب متخيل.
وإن ضياع البطعل ل يعود إلى جرأتعه ورفضعه الظلم وبحثعه ععن
حريته ،وإنما يعود – في رأيي– إلى عجز وعيه وإهمال مجتمعه لواقعه
فبقيعت روحعه فعي فراغ هلمعي وغدا غيعر قادر على تحديعد التجاهات
التي تدرأ عنه الجبروت والظلم ،ولذلك حط رحاله في مناخات يستعصي
فيها المل بحياة مثالية نظيفة.
وتؤلف الشخصعيات فعي الروايعة متنافرة ومتعاضدة عملً روائيا
ناجحا؛ فالزمكانيعة واضحعة المعالم ،عميقعة الثعر؛ والسعائد الجتماععي
والطبقي فاعل ومهندس لنمو الحداث .إن رواية (السفر إلى حيث يبكي
الق مر) تر كز على أهم ية رعا ية الن سان ،و هي دعوة مه مة من أ جل
التوازن الجتماعععي ،وإصععلح البيئة ،وإلقاء الضوء على التناقضات
الجتماعية ومآسيها ومحاولة لدحض العادات والتقاليد البالية ،إذ ما الذي
نرجوه من إن سان ي جد نف سه مطعونا م نذ صغره بح به وأبو ته وأخو ته
وعلقا ته وح تى في وجوده وإن سانيته؟! ك يف سيتشكل؟ وك يف ستكون
مواقفه ورؤاه؟ وهو المغتال والمتهم والمطرود؟!
ل قد وف قت سها جلل جودت في روا ية تواجه نا برؤى معم قة عبر
بناء فني محكم ووعي نابه وموقف خلق ،وهي إذ تضع بصمة قوية في
هذا الميدان تستحق استقبالً لئقا من قبل الروائيين والنقاد والقراء ،وهذه
الرواية يمكن ضمها إلى كتب المبدعين التي تغني المكتبة العربية وتمتع
– بحق– القارئ ،وتدفع الباحث والناقد إلى العجاب.
- 10 -
هيثم يحي الخواجة
***
- 11 -
-1-
اسسمي غالب .مضعى على يوم مولدي عقدان وبضعع سعنواتٍ ومعا زلت
أعا ني من غل بة وجودي المأزوم ،دخلت ال سجن غ ير مرة ٍ ،وأ هم مرحلة في
حياتي تلك التي قضيتها في دار الحداث ،حين شاهدوني بعد الثانية عشرة ليلً
أتجول بمفردي في ساحة " سعد ال الجابري" وكان عمري حينذاك أرب عة ع شر
عاما ،قلت :كنت أتجول ،أدور قالوا :كذاب رأيناك تتسول" ،هل ُشبهت لهم؟!!".
في الدار كان يزورنا المرشد الجتماعي يعطينا دروسا في الخلق وفي
الحياة ،كنعت أبتسعم وأنعا أراه يتحدث ععن الفضيلة والشرف ،حتعى نادانعي ذات
مرة:
-تعالَ ،ما يضحكك ؟
ت من سؤاله ومل تُ برأسي ،مدّ يده نحو ذقني ورفع بأصابعه وجهيخجل ُ
نحو وجهه وحدق فيّ مليا ثم قال :
-بعد الدرس ،أريدك !
عدت إلى مكاني وأنا قلقٌ متوت ٌر " ُترى ما يريد مني ؟ وهل سيشكوني إلى
مدير الدار ؟ لكنّ المدير لن يسمعه فهو يحبني ويقول غالب حساس و"شاطر" !
بععد النتهاء معن الدرس أشار بيده فتبعتعه وأنعا مطرق الرأس وجعل
الخطوات ،في غرفة الملحظة جلست أمامه فسألني :
-ما اسمك ؟
- 12 -
-غالب.
-اسمٌ جميلٌ ،ما تهمتك ؟
-تجولْ بعد منتصف الليل !!
حدق في وجهي مستغربا ثم سألني :
-ماذا تحب في الحياة وماذا تكره ؟
أجبت :
-أحب الطبيعة والنقود كثيرا ،وأكره البخيل والجبان ،وأن ترشقني سيارة
بماء الشارع ،وأن أسمع كلمة مغضوب!!
ن ظر في عين يّ ،شعرت به يغوص في البؤ بؤ عميقا و من غ ير أن ترف
عينه قال متابعاً:
-من تحب من أهلك ،أقربائك ،أصدقائك ؟
-خالتي أم جميل وصديقي عيسى.
-وأمك وأبوك وأخوتك وباقي الناس ؟
سعاد الغر فة الصعمت ،هعو ينظعر فعي وجهعي وأنعا أتأمعل السعتائر والهواء
المتسرب من النافذة ،وبعد الدخول في دائرة السكوت ،عاد يسأل :
-إذا شاهدت عاجزا طلب مساعدتك ما تفعل؟
ي!
-حسب حاجة العاجز إل ّ
-إذا شاهدت مالً وصاحب المال أزعجك ما تفعل ؟
-أسرق المال الموجود انتقاما منه !!
وبضغطع على أعصعابه التعي صعارت قلقعة
ٍ كادت عينعا الرجعل تنفجران،
متوترة قال متابعا :
-ماذا تحب في نفسك ،وماذا تكره ؟
- 13 -
-أحب قلبي الطيب ولساني ،وأكره أن أكون جبانا !!
-ماذا تحب في أبيك ،وماذا تكره ؟ وماذا تحب في أمك وماذا تكره ؟
-أ حب ف يه شطار ته في ال سيطرة على "الزبو نة" وأكره اتهاما ته الباطلة
وأحب في أمي صمتها ،وأكره تعظيمها للمور!
-إذا تزوجت كم ولدا تفكر أن تنجب؟
-حوالي العشرين !
بدهشة ٍ واضحة النبرة سألني :
-لمَ؟
-كي أكون صاحب عشيرة !
-ل َم ؟
-ليدافعوا عني في ص ّد المشاكل !!
-أتحب المشاكل ؟
......... ..........-
-إذا تمرد أحد أولدك عليك ،ما تفعل ؟
-أطرده !!
-هل تحب أخوتك ؟
-فقط أختي فريدة !!
-لماذا؟
..... ..........-
-هل تخاف من العمل ؟
-ل!
-هل حلمت برئاسة مركز ما ؟
- 14 -
-نعم
-مثل ماذا ؟
-رئيس عصابة لسرقة الكروم ،كما حلمت بشراء مسدس!!
شعرت معن تحديقعه فعي وجهعي كأنعه أراد صعفعي على وقاحتعي فعي هذه
الجرأة المبالغ بها ،لكنها حقيقة مشاعري وطموحاتي ،هو يسأل وأنا أجيب من
خلل معمل أفكاري الملتهب ،ولنه وجدني كنزا ثميناً تابع السئلة :
-هل تحب العلم ؟ ولمَ لمْ تتابع تعليمك ؟
-أ حب العلم وك نت أر غب في أن أكون ضابطا بالج يش يؤدي الع سكري
التحيعة لي باحترام ٍ ،ووالدي حرمنعي معن المدرسعة لنعي رسعبت فعي الول
العدادي !!
-هل تشعر بالنقص من شيء ما ؟
-أشعر بعدم وجود الرعاية والحنان في حياتي منذُ خلقت!!
-ل َم ؟
-ل أعرف !!
-أمنياتك ؟
-أن أكون أقوى مخلوق ٍ على وجه الرض !!
-على من تحقد ؟
-على نفسي !!
-لماذا؟
-لنني منحوس !!
-أي الزهور تحب ؟
-الياسمين !
- 15 -
-أي اللوان تحب ؟
-الحمر !
-لماذا ؟
-لن أصدقائي يحبون اللون الحمر وينتسبون إلى نادي التحاد !
-هل تفكر في أن تكون لعباً مشهورا ؟
-ل ،ل أفكر !!
-هل تقبل النصيحة وتعمل بها ؟
-ل !!!
وجعلتعه يطوي الدفتعر ويهعز رأسعه مثعل مصعاب بداء الرّعاش لعود إلى
حيث كانوا يجلسون أمام الشيخ الذي حضر ليعلمنا كيف نتلو القرآن.
*************
الن أنا في السجن المركزي ،جاءنا صوت المنادي:
إ سماعيل ،عدنان ،غالب ،م صطفى ،وضعوا ال صفاد المعدن ية في أيدي نا،
صعدنا إلى دا خل سيارة شاح نة مغل قة ،د خل مع نا أرب عة رجال من الشر طة،
وأُغلق الباب علينا ،لم أفكر بالهرب كما يحصل في الفلم العربية والجنبية،
شعرت بالغثيان معن رعدة الخوف ،انتابعت مشاعري الواهنعة كآبعة لصعيقة ل
ف الدعوى تعرف البت سام ،وك يف تعر فه والقا ضي لن ي سمعني،ل نه سيقرأ مل ّ
أولً ،ولنه ل يحكم على الناس من خلل مشاعره.
م ساء البار حة ك نت قويا ،ا ستحضرت في ذاكر تي دفا عي عن نف سي أمام
سيادته والحاضرين في قاعة المحكمة:
" -نعم يا سيدي ،أنا المتهم .ولكني لست زعيم عصبة كما ورد في الملف!
أنا الطريد المطرود ،أنا الذي حمل وزر أب كان صاحب عقدة!
اشتغلت معه في م حل ٍ كان يملكه م نذ الطفولة ؛ علّم ني فن المساومة مع
النساء بطريقته وحنكته لكتشف بعد فوات الوان سبب انزلقي داخل وا ٍد من
- 16 -
السقوط أملس.
وادٍ لم أسعتطع الخروج منعه ول التحرر معن سعياج أشواكعه التعي أدمعت
مراحل حياتي كلها.
كان فيه نوع من الدمان ،ونوع من اللعنة ،ونوع آخر من ضعف لإرادي
فقد قدرته على التفكير لنه وقع تحت سيطرة ضعفٍ من نوع ٍ مهيمن ٍ !
كنتع أنصعرف معن مدرسعتي و"صعدريتي" على جسعدي ومحفظتعي فوق
ُ
ظهري أمسك بها من خلل حزامين يدخلن تحت إبطي.
كان الم حل صغيرا غرب جا مع شبارق في حي الميدان وكان ي جب عل يّ
فور ان صرافي من المدر سة أن أ سرع ن حو الم حل كي أغ سل أر ضه ،وأم سح
الغبار عن الرفوف ،وأبيع الزبائن ،أفرد وأطوي الملبس القطنية ذات المقاسات
المختلفة ،وأعيد ترتيبها من جديد مثل رجل حاذق ماهر!!
حيعن صعمتت دواليعب السعيارة عرفعت أنّا قعد وصعلنا ،طالبونعا بالنزول
والطواق الحديدية تطوق معاصم الروح.
ش ترا قص أمام نظرا تي التائ هة ،أغم ضت عين يّ فتحته ما ،زحام هائل
غب ٌ
يمل الردهات صخبا وضجيجا ،ألف قلبي الذليل وأدخل القفص حين دخلنا قاعة
المحكمة.
بعد ساعة من النتظار اللزج صرخ الحاجب :
-الدعوى ر قم ( ) 15؛ ودون أن ين ظر القا ضي في وجوه نا و من دون
أن يقول شيئا ليرحم ذلنا ،وبعد أن قلب الوراق قال :
-تؤجل الدعوى مدة شهرين اعتبارا من تاريخه.
حينئذٍ أحسست أني أغوص داخل خندق ضعفي وانهزامي ،خافض الرأس
كسير النفس مناديا آهات الوجع المتغلغلة في أعماق الروح أن تلزم الصمت !.
حين عدت إلى الزنزانة ،وجدت أن حياتي في داخلها ل تختلف عن حياتي
في منزلنا .فأنا لم أعش طفولة حقيقية ،رأيت نفسي مع أم ٍ ممسوسةٍ بالتنظيف،
غارقة في شؤونها ل تهتم بأطفالها ؛ ووالد منهمك في حساباته بين الدخالت
- 17 -
والخراجات ،ما ينفك يوهمنا أن خسائره متزامنة بسببنا.
انبثقعت آلمعي تحكعي ععن قصعة حياتعي المحددة بالعذاب المؤلم الجارح،
العذاب الذي جعلنعي أتوجعس معن الخوف ،والخوف كان السعبب الرئيسعي فعي
ممارستي للكذب وال غش والخداع ،تمركزت عتمة ُظل مه من صفعة أولى لكذ بة
أولى وق عت في ها م ثل طع نة غادرة ،ما غادرت عقلي لن ها بق يت محفورة على
أفنان الروح المتكسرة تؤلمني بمرار إفرازات عصارات العلقم ،والتي لم أستطع
دفنها وما استطعت !!.
كان داه ية ،متمنطقا بو سامة ل تقدر على كشف خفاياه ،أوقع ني في صيده
ل:وهو يبتسم قائ ً
-سأشتري بضاعة بالجملة.
ولني تواق إلى إرضاء أبي ،فقد غردت روحي التي فرحت مثل تغريد
البل بل في ف سحة من طبي عة غنّاء " سيرضى أ بي ع ني و سيفرح جي به " .و من
شفتيع كمعا سعطوع
ّ أجعل كسعب هذه المودة ،قلت بل ترددٍ والبراءة تسعطع معن
الشمس في فصل الربيع :
-تحت أمرك أستاذ.
اعترت ني الغب طة وأ نا أطوي له البضا عة بشكل أن يق ٍ ومرت بٍ رغم صغر
سني ،ول ني صغير ال سن ،ف قد أو صد أبواب عقلي الط فل عن التفك ير بعوا قب
المور ،ح ين أقنع ني بهدوئه الل مشكوك به أن أراف قه إلى ح يث ي سكن فالب يت
قريب من المحل وفي نهاية الشارع !.
ما فعل ته كان بالن سبة لي حدثا رائعا ،فر صة الع مر الذهب ية ف قد أردت من
خلل ما فعلت أن أثبت لبي أني رجل وسيد المحل في غيبته ،وأستطيع تحمل
المسؤولية ،وملمح الرجل وأناقته تنفي الشكوك فابتسامته دائمة الوسامة ،لهذا
لم أرهبه وأنا أمشي إلى جانبه !.
أمام باب العمارة وقفعت طويلً ،تحولت الدقائق إلى سعاعات معن النتظار
الصعب ،وحين فقدت قدرتي على الصبر في انتظاره خاوي اليدين سارعت في
الصعود إلى حيث أشار مؤكدا لي أنه لن يتأخر.
- 18 -
ل من ح مم بركان ية انهار فوق رأ سي وطفرت الدموع من عين يّ رغما جب ٌ
ع ني من صهيل دقات قل بي البا كي بغزارةٍ ،أ ين هو؟ ك يف اخت فى ؟ أ ية طا مة
آثمة وقعت في جريرتها ؟.
على منظري الحزيعن أبدى أصعحاب الدكاكيعن المجاورة لمدخعل العمارة
أسفهم ،فاقترب أحدهم مني وسألني :
-ما بك يا عم ؟ لمَ البكاء ؟
أجب ته ونار الخي بة من خ سارة لم ت كن في ميزان الح ساب تز يد من فت يل
اشتغال الدموع في عينيّ وأنا أشهق :
-سرق البضاعة!
-من هو ؟
-ل أعرف! !.
الخوف يجعل ني أروي للغر يب صاحب الدكان ما ح صل م عي ول أح كي
لبي ،أخبرته بالقصة من دخول الرجل إلى المحل حتى وقوفي عند مدخل باب
العمارة ،حينذاك أم سك الر جل بيدي و صعد م عي إلى الطا بق الرا بع ،دق الباب
بتكور أصعابعه ،كرر الطرقات بقوة ،فتحعت المرأة التعي وبختنعي قبعل قليعل ٍ،
وبانزعاج ٍ وا ضح ال نبرة ،قذ فت بب ضع كلمات ساخطة كأن ها تقذف بعظام ٍ من
ف مذبوح ٍ إلى كلبٍ جريح:
خرو ٍ
-هذا الب يت أ صحابه في أمري كا م نذ ع شر سنوات ،ألن ننت هي من هذا
السؤال ؟ ! .وأغلقت الباب بعنف ٍ.
تفحص الرجل الدرج ،نظر نحو السطح ،فهم ما حصل ودون أن أسمع ما
قاله ب عد أن نزل نا ،غادرت الحارة ،وأ نا أم سح ب كم قمي صي مخاط أن في ،وث مة
خوفٌ فظيعٌ ارتسم في عقلي المرتبك وأنا أتخيله يعاقبني!!.
ك نت محقا في خو في ف هو لن ي سمعني ،و كي أتخلص م ما وق عت ف يه ف قد
قبلت أن أقايض عقلي المرتبك على الخداع قبل وصوله على حين غرة والفزع
يعتصر خلصة قلبي.
- 19 -
" -ماذا لو ح ضر فجأة وشاهد ني وأ نا أ ضع علب الكرتون الفار غة م حل
البضاعة المسروقة ،ما سيفعل بي ؟ أي عقاب ينتظرني؟ ".
كان لتأخره رح مة تنزلت من ال سماء كي تنقذ ني ووج هي البائس المع فر
بصعفرة الفزع الكامنعة داخعل أوتار روحعي الممزقعة كانعت تتمنعى الموت كلمعا
تذكرت ما حصل معي وما سيفعل بي !.
ح ين د خل الم حل ،ارت جت الرض ت حت قدم يّ ال صغيرتين وح ين رآ ني
على هذا الش كل ا ستفسر عن أ سباب شحو بي فأجب ته مرتعشا وأ نا أج تر الكلم
بتوعك الخوف:
-بطني تؤلمني ،لم أبعْ شيئا ،أيمكنني الذهاب ؟
وكأني سمعته وأنا أحمل محفظتي و"صدريتي" مثل الحمامة في وقت دنو
أجلها يقول :
-اذهعب معن وجهعي سعأغلق المحعل ،سعأعمل بسعطة لبيعع "الخيار" افتحعا
مشفى ،هي الخرى متعللة ،ال يلعن الساعة التي جمعتني وإياكم!
ركضعت مذعورا وكلماتعه تطاردنعي ،تلسععني ،تخزنعي مثعل شوك "افتحعا
مشفى ،ال يلعن ال !"
دخلت المنزل لهثا ،وجدت الضباب معششا فععي أرجاء المنزل فعربععد
الظلم في داخلي ،أ مي وجد تي تتشاجران وقشعريرة باردة ت سري في عرو قي
فأرغب بالتقيؤ!
تحرد جدتي وكعادة أمي في وساوسها من النظافة تندب حظها من نكد ما
تفعله جدتي ،لتعود من جديد تمارس جنونها في مسك الليفة والصابون من دون
أن تلتفت نحوي أو تسألني :
-ما بك؟ ل َم أنت أصفر كالزعفران ؟.
فعي ذلك اليوم تكورت على الريكعة مرتجفا معن شدة الخوف ،وأنعا أسعأل
نفسي " :ماذا لو اكتشف أن العلب فارغة ؟".
فأتخيله قادما نحوي والخرطوم في يده ،ويد العم أبي حسن تربت كتفي :
- 20 -
-هيا ،انهض ،وقت الطعام !.
- 21 -
-2 -
كان السجين أبو حسن يدعوني إلى الطعام ،وكنت أناديه بعمي تلك الكلمة
ال تي حُر مت من ها وعذبت ني كثيرا وأ نا أف تش عن أ سباب ضياع ها في أ سرتنا،
واليوم الرجعل السعجين يطلب منعي أن أشاركعه الطعام الذي أحضرتعه زوجتعه،
فأذ كر أ ني في منزل نا ك نت أت سلل إلى المط بخ لتناول م ما يروق لي أكله و هو
داخل الثلجة،لننا كنا نسمع على مصاريف الطبيخ في بيتنا الشتيمة تلو الشتيمة
من وجه طافح بالعبوس ،وجدتي بعد أن تمل معدتها ،تسترخي على "الديوانة "،
تم ّد رجليها وتتابع تحريضها من ناموس المحبة قائلة :
آهٍ يا جدة ،أقولها بألم ٍ ،ما أنا الرب كي أحاسبك ،ول أنا القاضي المسؤول
عن جنايتك في التفريق بين والد يّ كي أحكم عليك أو على أمي التي لم تتحمل
- 22 -
غرورك وسيطرتك.
كنت تخترعين الحكايات التي تسلب عقول الصغار ،وتشتت أفكار الكبار،
وكنت تسهبين في السرد لدرجة تفوق أمهر " الحكواتية " ،كانت هوايتك ،وسر
نجاح ثرثرتك التي ل ترحم! كنت تشمين رائحة الشجار فتنتعشين وتنتظرين أن
يصرخ والدي خلف أمي الراحلة إلى بيت أهلها:
ما كنت تنسجينه ل يشبه خيوط العنكبوت حتى! أرسمك في كل يوم ٍ ،بل
في كل لحظةٍ بملي ين ال صور ،أمزق ها ،أع يد ر سمك من جديدٍ فل تخرج غ ير
صعورة واحدة ؛ امرأة معن نوع ٍ ل تسعتحق أن نحترمهعا أو نطلب لشيخوختهعا
الرحمة!!.
أنعا نزقعٌ ،أعصعابي متوترة ،لنعي أصعبحت أتحدث عنعك بهذه الصعورة
القبي حة ،لكن ها الحقي قة ،وال سر المدفون في صدر المغلوب على دنياه ي جب أن
ل الذين يؤمنون بعالم الطفولة كي يحاسبوك أما قيل :
يقرأ عالمه ك ّ
قتلت الفرح والأمان فعي طفولتعي ،والشريعك والدي ،وهعل يمكنعه أل يكون
مواليا ل صلفك و سيطرتك عل يه ،و قد ترك ته ب ين يد يك وحيدا ،بعيدا عن إخو ته
وأخواته ،بعيدا عن جده وجدته ،بعيدا عنهم جميعا ،تتشاجرين وتخرجين! ،وهو
داخل أحشائك لم يول ْد بعد! وكنتِ ل تعرفين إن كان المولود ذكرا أو أنثى !!
- 23 -
ت تحرقين قلوبنا وأنتِ تسردين القصة ،قصة طلقك من زوجك ،كنت ِ كن ِ
تقولين أنك من اليام الولى ،بل من السابيع الولى اكتشفت بخله وشح نفسه
والتي كانت السبب الرئيس في انهزامك إلى بيت أخيك تطالبين بالطلق؟!.
ما أسهل هذه الكلمة على نفسك وما أقوى جبروت المرأة التي اغتالت فرح
نف سها أولاً ،و من ثم ألحق ته بنك ِد الع يش مع زو جة ابن ها ب عد أن أرضع ته من
وخيم وهمها بالسيطرة عليه من دون الناس جميعا ما أرضعته!.
أبي ضحية الرحم "المعفرت" وأنا ضحية وجودي وسط شرخهم ،وإخوتي،
وأطفال كثيرون تدفعون بنعا نحعو ريعح الوقيععة الظالمعة ،لنعيعش فعي حضيعض
الشوارع والطرقات بل أخلق وبل رادع يمنعع عنعا اليدي غيعر المينعة التعي
ل كنا في دار الحداث؟ من سأل تصيدنا بشباكها لتمضي بنا على هواها ،كم طف ً
عنه أهله؟ من خرج بعدي من الدار ولم يعد إليها؟؟!.
كان صحن " الك بة الن ية " مر صوفا ر صفا دقيقا بطري قة فن ية تث ير شه ية
المعدة نحو الطعام ،وحين أمسكت بواحدةٍ تساءلت:
-هل وضعت لها في قطعة "الكبة النية" تعويذة على الموافقة والقبول؟
لم ت كن أ مي تدرك مدى قدر تي على التخز ين ،فذاكر تي شديدة الح ساسية
ولقطة من نوع ماهر ،كانت تحكي لجارتنا أم عبد ال عن قصة زواجها بأبي
كلما أحست بالضيق منه وبالعجز على مواجهته،وأنا بدوري وبحكم وجودي في
المنزل كنت أجلس إلى جوارهما ألتقط كلّ حرف من حروف القصة!!
حين التقت جدتي بأمي في حمام السوق ،وحين أعجبتها ،تفحصت جسمها
البلوري بقوام ها الرش يق ،وعيني ها الخضراو ين ،وح ين أبدت إعجابا في إطراء
سحر جدتي لمي قامت بدورها على أكمل وجهٍ بعد أن هيأت الجو المناسب في
مكاشفة جدي عن موضوع الخطبة والزواج.
- 24 -
أسعئلتي الحيرى وجدت عنهعا كلّ الجوبعة يوم كعبرت ووقفعت عنعد دقائق
الشياء ...أخزن ...أحلل ...أركعب ...لسعانها الذي يقطعر مثعل شهعد العسعل
وحنكتهعا المتميزة فعي إقناع الحاضريعن أعطيانعي الجواب الول ،أمعا الجواب
الثاني وهو الهم فهو أنهم كانوا أمام قدراتها الشخصية مسلوبين !.
جدي عنيف وقاس ،كلمته نافذة ،وعلى الخص عندما يطرق الباب خاطب
له صفات أبي الفريدة !.
كان يعتقعد أن زواج البنات يعجعل بسعترهن ليخلي نفسعه معن المسعؤولية،
والمصيبة أنهم حين تعرفوا على أبي أجمع الكل في مقولة تعزز وضعه أكثر :
-شاب وحيد لمه" ،ل وراءه ول قدامه" لو كانت أمه نار ما حرقت وهو
رجل يحب العمل ،وهذا طلبنا !.
الراوي أمي والمستمع الحقيقي أنا ،والحديث كان لم عبد ال وليس معي،
حينذاك كان عمري خمسعة أعوام ،خمعس سعنوات كان عمري ،والكلم الذي
حفظته يفوق سنين عمري بربع قرن على القل!!
في ظل هذا الجو المتلبد المشحون بالمشاكل والذي كهربته آدمية ل صلة
قرابة تربطنا بها سوى هذه الصحبة مع جدتي كنت أرضع من ثدي أمي التوتر
والقلق وربما الحقد كما رضع أبي من ثدي أمه !!
وكان عليها بعد هذه المشكلة أن تنهض من فراش النفاس مرغمة مكرهة
- 25 -
إلى بيعت جدتعي تطلب منهعا السعماح والغفران بععد أن تقدم ولء الطاععة
والحترام!!.
الدار القابععة فعي زقاق الطويعل ،كانعت واسععة ،فيهعا ثلث غرف ذات
"حوش" كبيرة تح يط ب ها من كلّ الطراف" تنكات الزري عة" ال تي أكل ها ال صدأ،
وصعديقات جدتعي كعن ل يغادرن بيتهعا إل وقعت إغلق مواخيعر الليعل ،وإن
اضطرت إحدا هن إلى النوم فل ما نع يم نع ،ول عائق يع يق بقاء ها ،لن ها على
شاكلة جدتعي إمعا مطلقعة أو أرملة! وعلى والدي أن يدفعع المصعاريف اللزمعة
وغيعر اللزمعة ،إضافعة إلى فواتيعر الماء والكهرباء معن دون سعؤال! وإذا معا
حصعل نوع معن التلميعح إلى ضرورة القتصعاد معا تنفعك تثور فيسعكت على
مضض ٍ !!.
مع ن مو هذه الحداث ابتدأت أن مو ،لدرك ب عض الشياء المثيرة الها مة،
والتي ما زالت عالقة في الذاكرة !.
ف على الباب،
ك نت يوم ها أل عب بك يس النايلون ح ين سمعنا الطرق بعن ٍ
وبقسوة حادة كادت الجدران تساقط !.
في مكاني تسمرت وحين نهضت أمي سارعتُ إلى طرف ثوبها وأمسكت
ب ووجل ٍ بعد أن حملت أختي الرضيعة وسألت :
به ،بينما تقدمت هي بارتيا ٍ
فت حت أ مي الباب ،عقدت ل ساني الده شة ح ين رأيت ها تقذف بنف سها على
الرض مثعل نعجعة أصعيبت حنجرتهعا وهعي تشعد شععر رأسعها بععد أن رمعت
بالحجاب على الرض وراحت تضرب وجهها براحتي كفيها كأن كارثة عظيمة
حلت!
هذا القتحام المر عب أج فل أ مي ك ما أخاف ني ،و في هذه اللح ظة المرع بة
ومن تلك الصدمة المفاجئة هربت الدماء البيضاء من صدرها مما اضطر والدي
إلى إ صابته بلع نة تنضاف إلى لعنا ته في الم صروف الجد يد من شراء حل يب "
نيدو".
- 26 -
هذه الحادثة تركت الثر المحزن الفظيع في مشاعر أمي نحو جدتي حين
عرفت من توفى! أيعقل ما ذكرته أمي لجارتها ؟! أل تذهبين لوداع أمك وهي
فعي كفنهعا ؟! أي حقعد ذاك الذي يسعتعر أوّاره فعي قلبعك لتزاولينعه فعي أحلك
الظروف قتامة؟.
ل أعتقعد بعل أجزم بععد هذا الحدث أن الكره قعد تفاقعم وأن البغضاء قعد
ازدادت ،لينشق الطرفان على بعضهما من حالة اللمبالة التي كانت تقابل بها
أمعي جدتعي لتتسعع مسعاحة الهوة بكعل ّ مفاصعلها السعلبية نحعو التأفعف والمقعت
وزفرات الشكوى!!.
سؤال يسقط في روحي مثل بركان تفجره هزة من ذكرى متشحة بالسواد،
وبوجوم الشارد ل أجيبه ،فتداعيات الماضي بكل حرائقها تثير في نفسي تقززا
ساخطا ،فأؤ ثر ال صمت على الكلم ،وأن سحب إلى سريري ،وذاك اليوم العالق
في ذاكرة الطفولة ينبش الماضي ،يعيد الصورة الدامعة ،يفتح سطور الحكاية !.
كنت المسؤول عن شراء الخبز قبل الذهاب إلى المدرسة ،وفي ذلك اليوم
المشؤوم كان الخ بز ساخنا ،فمدد ته على الر صيف ،وح تى ل أتأ خر عن دوام
المدرسة ،جمعت الرغفة على عجل ٍ وأسرعت إلى البيت ،أسرعت إلى البيت
لجد أني ارتكبت جريمة بشعة ،وال العظيم نسيت ،خانتني ذاكرتي ،نعم نسيت
بقيعة "الفراطعة" على طرف الرصعيف ،فماذا كان عقابعي ؟ كان تأنيبا مقذعا
وضربا مبرحا ،وصدى كلماته الجارحة التي حفرت أخاديد سكنها في أذني ل
يغادر سمعي:
- 27 -
وفعلً خبأت رأسي من بين صفعات يديه مثل يتيم جرده عدو مستهتر !.
وقعد أوصعى ال باليتيعم ،أمعا كان رسعول البشريعة يتيما فرعاه جده عبعد
المطلب ،وجدي طل يق جد تي ل وجود لحنا نه في حيات نا ،وجد تي ل تط يق أ مي
تنفر منها وتتذمر وقتما تشاهدها قد أبدت ارتياحا ،فأين اليتم في كل هذا !!.
أمْ هو في أبي صريع أرباحه التي يوهمنا أنها خسائر بسببنا ؟!
أ ْم هو في هذه المشاحنات المتمو سقة على قرع طبول تقد يم الضح ية إلى
وحش الغابة في رقصة من موت المل فقصة الحرد عادة يجب أن نتلءم مع
طقوسها الدميمة حين تحمل واحدة من الثنتين "بقجة " حاجاتها وتمضي!!؟.
-ما بك؟.
ابتلعت غصة الدمعة التي حاولت حجزها في عيني وبانكسار ذليل قلت:
انهمرت دموععي أمامعه رغما ععن إرادتعي فأخرج معن جيعب الصعدرية
منديله الورقعي "المجعلك" والذي بدا لي أنعه غيعر نظيعف وقدمعه لي كعي أمسعح
ف مجروح ٍ حدث ته عن ق صة الخ بز
ت ضعي ٍ دمو عي ال تي خا نت قو تي وب صو ٍ
والمبلغ الذي نسيته على الرصيف وما سبب لي هذا السهو !
ولن أمي حاولت أن تدافع عني لترد يده القاسية ضربها و طردها !!.
- 28 -
و صلنا الجا مع ،كان الو قت ظهرا وكان با به مفتوحا والم صلون يدخلون
فرادى ،وقفنا هنيهة نتأمل دخول المصلين كأننا ُنقر في ذاكرتنا شيئا نعرفه ول
نمارسه !.
عند مفرق "الجابرية" وقفنا ننتظر الشارة الضوئية ،وقبل أن تفتح للمشاة
الضوء الحمر سارعنا في قطع الشارع جريا إلى باب حديقة "ميسلون".
-أنا معي!.
- 29 -
كا نت المدا خن على ال سطوح المجاورة والمقابلة ل سطح بيت نا مع هوائيات
التلفزة ترمقنعي ،أحسعست بهعا بشرا تخاطبنعي ترثعي حالتعي النكراء والدخان
المتصاعد من فوهات المداخن يتراقص أمام عيني مثل أشباح أطيافها ل تخيفني
ل نه سرعان ما كان يتبدد في جوف الظلم والغر يب في هذه الليلة ما تراءى
لي أن الدخان يتحول إلى دموع ٍ مسافرة إلى حيث يبكي القمر فمأساة الطفل قد
بدأت!
دخلت إلى الصعالون الصعغير وأنعا أرتجعف معن شدة البرد والخوف كان
نائما ،سمعت صوت شخيره ،كثيرا ما كان شخيره يعلو ،وكثيرا ما أبدت أ مي
انزعاج ها من صوت شخيره وترك ته بمفرده واند ست بين نا في الفراش ،ول كن
ماذا أصعابني بععد أن دخلت الغرفعة ؟ ،أنعا أسععل وأعطعس وهذا السععال معع
العطاس أقعد ني في الفراش بض عة أيام ب عد أن ارتف عت حرار تي وأثرت على
ل معا أتناوله معن طعام أو ماء ،حينئذٍ أخعبرته جدتعي
معدتعي التعي بدأت تلفعظ ك ّ
ب سوء صحتي فأخذ ني إلى ال طبيب معن دون أن يقول شيئا ،أي ش يء يجعلنعي
س أ نه أ بي ،هو لم ي سأل والذي سأل ع ني رفي قي صبحي ،و ما إن فت حت أح ّ
الباب جد تي ورأ ته في وجه ها ح تى صاحت به م ثل عفر يت خرج من شق
حائط:
رغم عدم تماثلي للشفاء سمعت وقع أقدامه تقعقع على السللم مثل مجنون
؛ وما إن تماثلت إلى الشفاء ،وعدت إلى المدرسة ودخلت الصف ،حتى انتعشت
روحي من كلمات المعلمة:
- 30 -
حيوية وحنانا ،أذكر أن صوتها كان ينثال في قلبي الصغير مثل لحن ٍ شجي ٍ،
وحين تمسك بأصابعها " الطبشورة " لتكتب على السبورة تغمض عيون ذاكرتي
عن مشا كل الب يت وق صة الحرد وحكايات الثرثرة ال تي ل تنت هي ،وتفتح ها على
تلقي المعلومات ،ولول خوفي من تجريم تلميذ ل يقصد إساءة لقذفت بنفسي بين
أحضانها باكيا ألتمس بعض حنان افتقده وافتقدته!.
ما أجمل هذه الذكرى ،وما أجمل أن تبرع في كتابة موضوع تعبير وتجده
معلقا في مجلة الحائط بعد أن أثنت الدارة على جهدك في التفوق!
نعم كنت من أفضل التلميذ الذين يتقنون فن التعبير وكانت علمتي دائما
العلمة المثلى ،وفي البيت والمحل ل أسمع غير " ولك تعال ،ولك حيوان ابن
الكلب " وثرثرة "الحكواتية" عن طلقها وكرهها لمي حتى طوى العام الدراسي
ت على وثيقة النجاح للمرحلة البتدائية بتقديرٍ ممتازٍ.
حقيبة السفر؛ وحصل ُ
كمعا توقععت لم يفرح والدي بحصعولي على درجةٍ فعي تفوق ٍ ،ولم يكعن
راغبا في تسجيلي بالعدادية ،كان كلّ همه أن أتعلم مصلحة ،لكنه أمام إصرار
أمي التي أعادتها إلينا عمتها وإلحاحي على متابعة التعليم فلقد وافق كارها.
اختار مو قع مدر سة ت قع في منت صف الطر يق ،وا حد يؤدي إلى منزل نا
والخر إلى محلنا؛ وحين رجوته :
-من أجل "الفلت" يا ولد ،هنا أفضل ،أنا أعرف مصلحتك أكثر منك !
واف قت مكرها ،وك ما يفرح الطفال بمل بس الع يد فر حت باللباس الجد يد،
بذلة فتوة بلون ها الع سكري الجم يل ،وكط ير تلو نت أجنح ته ك نت أق طع الشارع
ب سرعة ،رب ما ل ني بدوت أنيقا ،ورب ما ل ني أح سست بدخول مرحلة جديدة في
عمري.
- 31 -
ن من حوّل ي أن أتأقلم مع هذا الوضع ،وفعلً حاولت التأقلم ولك ْ
وكان عل ّ
ب يميل إلى الفوضى والندماج مع الذ ين غالب التلم يذ الخجول إلى تلمي ٍذ مشاغ ٍ
يخلقون البلبلة وقت تبادل المدرسين!
المرحلة كانت جديدة عل يّ وصعبة ،وأكثر الوجوه كانت غريبة عني ،ما
بدأت أمارسه وما كنا نفعله يغزو ذاكرتي ،يفتح الصور العتيقة التي لم يطمسها
بعدُ زمنعي السعير ،بشعرهعا الناععس الدامعس والذي كان ينوس على المنكعبين
كانت تدخل علينا وهي تبتسم تلك البتسامة التي كانت تثير شهوة الطفولة إلى
تقليدها حين تنطق :
.oh---pleas---puplis
كنعا ل نصعغي إلى الدرس بقدر معا كنعا نتأمعل قوامهعا الممشوق وأناقتهعا
الجميلة التعي ُتفرح القلب لتبدأ شقاوة المراهقعة ونحعن نتأمعل فعي أصعابع يدهعا
اليمنعى وكيعف كانعت تنفعخ الدخان ،الذي ابتدأنعا ننفعخ دخانعه فعي مراحيعض
المدرسة!.
كنا بحذر نراقب الساحة من عيون لجنة النضباط المدرسية وخاصة في
دورة المياه ،حتى فضحنا ما أسميناه نمّام بدل تمام.
يومها ساقونا مثل البهائم إلى غرفة المدير ،الموجه ولجنة النضباط ،ومع
إصرار المدير على العقوبة بالفصل ،كان لب ّد من إحضار أولياء المور.
الذي آلم ني وجعل ني أن ضم إلى زمرة المنتقم ين هذه النظرة الشزراء ال تي
رسمها في ذاكرتي لحظة رمقني بها ذلك الخبيث نمام.
كنت قد انضممت إلى الشلة ،شكلنا حوله دائرة وبدأنا نضربه حتى تدخل
ب عض من المارة ففرقو نا عن بعض نا و هم يلعنون سوء الترب ية و ما آلت إل يه
شوارعنا ،فابتعدنا كلّ واحدٍ منا يجر أذيال خيبته من الخوف الذي خامره !
- 32 -
في بيت جدي رجوتها بثغا ٍء من دموع ذرفتها عيناي أل تدعني بين يديه
ت يدي ها ورجلي ها وأ نا أب كي ،ر فَ قلب ها وه مت عينا ها
أضرب ،وب عد أن قبل ُ
بالدموع فقرصت أذنيّ ومسحت دموعي براحة كفها قائلة:
فعي هذه اللحظعة معن هذا اليوم المشؤوم تسعربل فعي عميعق روحعي حقعد
غر يب كح قد البركان على الرض ،رفض خالي تد خل أمي ،ووقف جدي م ثل
حائط مهترئ يخشعى على نفسعه معن النهيار يؤازر خالي ،وهذا معا أشعرنعي
نحوه ما بنفورٍ تام ٍ ،ل كن أ مي ر غم ضعف ها وانك سارها وق فت ب عد أن تحز مت
بإزار القوة ،قوة الم التي تر ّد عن ولدها ك يد الحقاد في ك سر شوكة الخؤولة،
وقفت لتقول وبجرأ ٍة غير معهودةٍ:
في المدر سة تعهدت أ مي أ ني لن أكرر هذا ،ول سوف تشكو ني إلى والدي
المسافر الن إلى (الشام) تقصد دمشق من أجل شراء بضاعة جديدة للعيد.
الم سكينة كذ بت علي هم ،أوه مت المد ير والمو جه أن والدي م سافر فاكتفى
المد ير بتعل يق توب يخ ٍ في لو حة العلنات ب عد أن اعتذر تُ متأ سفا ح ين ق بل
المدير بكلم أمي التي أكدت له أنها ستهتم بوضعي وتراقبني.
بعد يومين تدخلت عمة أمي في عودتها إلينا؛ وبين ظلل اليام والسابيع
الراكدة ز عق في وج هي كمعن م سّه كهرباء و هو يقرأ علما تي المتدن ية عن
الفصل الول.
أرتبكع معن معرفتعه ،ولم أحترْ معن أيعن عرف ،لن موجعه المدرسعة
ْ لم
والذي أصعبح زائرا للمحعل بيعن آونعة وأخرى ،لم تكعن زيارتعه ععن طريعق
الم صادفة ف هو وإن تو سط لي ع ند المد ير في قبول اعتذاري وتع هد أ مي فذلك
لغا ية في نف سه نب تت فجأة ح ين سمع بملك ية والدي لم حل يبيع ف يه الحاجات
الولدية وبعض الحاجات النسائية ،لنه من يومها ابتدأ يتردد على المحل ،يأخذ
- 33 -
ما يلزمه من احتياجات أولده وزوجته تاركا الدفع لول الشهر.
مستغربا ومستهجنا تساءلت سرا عن سبب سكوت أبي على تستر أمي،
لماذا لم تق مْ قيامته التي تعودنا على قيامتها في ثور ٍة من وعيدٍ ؟! هل هناك ما
يخفيه ؟ أ ْم أن أمي أخبرته في غيابي عنهما ونالها من تجريح ٍ تعودت عليه ما
ل يث ير ض جة حول الموضوع كي أن سى موضوع ال سكائر ول نال ها ورج ته أ ّ
أعود إليه!.
- 34 -
-3 -
فسي هذه الحياة التعيسعة كان ل ب ّد لي معن إيجاد صعديق يؤنعس وحشعة
الفراغ ،فالمحل كان يحتاج إلى شخص ٍ أكثر وعيا وأكثر إدراكا لما يحصل من
ردود أفعال معع بععض الزبائن الذيعن يسعتاؤون معن غلء السععار بععد بعثرة
ل شيء العديد من الملبس الولدية ،وكان يترتب عل يّ بعد خروجهم أن أعيد ك ّ
إلى مكانه!.
وبحثا عن صديق ل يشي مثل نمّام فقد كنت أنتظر قطة أمام باب المحل
تنادي ني بموائ ها العذب الرق يق ،ق طة ول يس قطا فال قط يأ كل أولده والق طة تفرّ
بنف سها بعيدا لت ضع صغارها وترعا هم ح تى ي كبروا ،حينذاك تعود إلى قط ها،
ولن ها تعودت أن ترا ني وحيدا كا نت تجلس على قوائم ها بشموخ ٍ و هي تن ظر
في وجهي بعينين تلمعان كأنها تخاطبني !.
كنعت ُأغبطهعا على حريتهعا وممارسعتها طقوس التجول بيعن حواري
ط مثلها
وشوارع الجامع الفرعية ،وكنت أتمنى بغفلة عن العالم أن أتحول إلى ق ٍ
ب وبل منكدٍ ،وبل سوط جلدٍ! أجري من مكان لخرٍ ،بل رقي ٍ
وأ نا في بحبوح ٍة من سديم الخيال جاء ني والعقدة تزور حا جبيه وكعاد ته
سأل:
-هل بعت شيئا؟.
ولنه كان على يقين ٍ أن حركة ركود السواق ليست شخصية ول محلية
فقعد اشترى جهاز " فيديعو " واسعتأجر عددا معن الشرطعة لفلم بوليسعية
- 35 -
واجتماعيعة وكمعا كان مكتوبا على واح ٍد منهعم " -كومندوس " للكبار -بععد أن
أغلق الم حل وذهب نا إلى الب يت يح مل الجهاز على صدره بكل تا يد يه وأ نا أح مل
كيس الشرطة !.
على ح ّد زعمعه هذه الفلم توقعظ الخيال ،وتهدئ النفعس ،وتغذي الفكعر
إضافة إلى القضاء على الملل ،هكذا قال لجدتي.
فرحنعا بدخول السعينما إلى بيتنعا وجلسعنا صعامتين نتفرج نتابعع المشاهعد
بعيون ٍ واجفةٍ ترف أهداب ها مرتع شة كل ما شاهد نا قتيلً يتضرج بد مه ،فالحرب
النازيعة تث ير الخوف والتقزز ،والنازيعة كل مة واحدة في عد ٍد كبير ٍ معن أبواب
التعدي والتحدي والتردي.
بعد الفيلم الحربي ،وضع فيلما سياسيا ،إذا لم تخن الذاكرة قلمي كان اسمه
/المحترف ،/ولم يكن أقل شأنا من الفيلم الول.
صراع ال ساسة على ال سياسة أمرٌ مخي فٌ ،والمر الك ثر إخافة وإجهاضا
لعصاب الطفولة هذه الهياكل التي كانت تخرج من القبور وهي تقهقه مزمجرة
و سط الظلم بأ صوات ضا جة صاخبة واللون الزرق الغا مق كان يتماوج مع
الحركة الدامية!
كنا مثل تماثيل جامدة يُمسك الخوف بخناقنا أيمّا إمساك حتى بالت أختي
فريدة على البساط ولم تنهض إلى الحمام إل وأمي تسحبها من يدها وهي تلعن
بخفوتٍ مكبوتٍ هذه الجلسة حتى صرخ فينا :
-هيا إلى النوم!.
ب عد هذه المشاهدات المثيرة للع صاب تلب سني الرق وتفت حت في داخلي
مشاععر مبكرة فعي أن أكون صعاحب سعلطة أحكعم ،ل أحاكعم أعجبتنعي مواقعف
انتصار البطل !.
وحتعى أكون بطلً حقيقيا ل بطلاً أسعطوريا فقعد أكدّ والدي فعي طلبعه هذه
المرة على ترك المدرسة بعد أن كان ما ينفك يردد:
-ماذا ستصبح ،مهندسا ،طبيبا ،معلم مدرسة مثل موجهك؟ وإن أصبحت
طبيبا من أين لك أن تشتري عيادة ؟
- 36 -
استغل الزمن ،تعلم صنعة ،زميلك صلح كسب الوقت وعما قريب يصبح
معلما تبحث عنه أكبر "ورشات" المدينة!.
هذا التحط يم جعل ني أب حث عن تعو يض ٍ آ خر أث بت من خلله قدرا تي،
وقدراتي آنذاك كانت قد بدأت تتجه نحو عواطفي التي تبرعمت قبل الوان على
نظرات بنت الجيران وهذه اللهفة الملحوظة حين تراني.
ولكي أكون جديرا بهذه النظرات ،امتدت يدي إلى درج الغلة !.
أجعل امتدت يدي إلى درج الغلة ،لم تكعن المرة الولى ،لكنهعا معن أجعل
شراء كتاب رسعائل العشاق كانعت الولى! اخترت رسعالة راقعت لي كلماتهعا،
نقلت ها بأما نة ،ور سمت أ سفل ال صفحة قلبا زين ته بزهور من ر سم يدي ،لونت ها
بالحمر والصفر ،وطلبت من أختي فريدة أن تسلمها سرا إلى بنت جارتنا أم
نوري!
من هنا ابتدأت أحاسيس عواطفي ومشاعري تقودني إلى الدمان على مدّ
يدي إلى درج الغلة والنداء الخ في يب تر كلّ تأن يب " مع هذا ال صنف من الباء
ش كما تريد أنت ،ل ،كما يريد هو!". ل ينفع التعفف ،خذ ْ ،ع ْ
هذا النداء معن هذا الطغيان أصعبح قريعب الشبعه معن عواء الذئاب وقتمعا
تجوع ،الحرمان يتمرد على الخوف ،مصاهرة الفلم تنفي وجود دارس ٍ يسعى
نحو مستقبله ،فأنعطف نحو الكسل!.
و من ال طبيعي أن يج عل المو جه من ك سلي نافذة تجعله يعرض على أ بي
أن يعطيني دروسا خصوصية !
تخيلت وجهه وقد فرت الدماء منه بعد أن باءت أحلمه بالفشل! البائس لم
ي كن يدري أن والدي أك ثر حن كة وفرا سة م نه للتملص من م سؤولية م صاريف
مدرستي ،والهم من هذا كله أنه غير مهتم بتعليمي كان يأمل أن أترك المدرسة
وأن أنصرف إلى تعلم صنعة كي أعينه على مصاريف البيت التي أنهكته كما
كان يردد على مسامعنا ،والغريب الذي حدث أن والدي قد تذكر أخيراًَ أن تستر
أمي على قصة التدخين في المدرسة حطم وعيه لهذا حين عاد وقت راحته في
فترة الغداء صرخ في وجهها :
-كله م نك ،ينق صني وا حد حتى تك مل خسارتي ،آخر يوم سأغلق المحل
- 37 -
وأجلس مثل"الحريم" في زاوية البيت ،وموتوا من الجوع !.
أمام ذلك التجريعح تنسعفح دماء أمعي وتنزوي فعي مطبخهعا وهعي تمضعغ
بلوى أحزانها المنطمرة في صدرها كأنها تقول:
-منك ،أمْ من أمك ،أمْ من الولد؟.
ولن جد تي كا نت موجودة ،ولن ها كا نت تب حث عن ضالت ها في إشعال
ل من أن ترطب الجو في و ّد من ت سامح ووئام ،ترمي ب سهام كلمات ها فتنةٍ ،وبد ً
لينفجر صوت أمي مخترقا حالة السكون الملتهبة:
-أنا صابرة من أجل الولد!
" -دخيلك"على"إيش" صابرة؟ تردد جدتي.
كيع التسعلط الجوف
ولن أمعي تعودت على الحرد ومعا عادت تحتمعل ّ
ت عال ٍ :
فطوق الصبر انفرطت حباته تصرخ بصو ٍ
-أتريدين أن أترك لك الجمل بما حمل؟!
-ل وال أنا من سأترك لك الدار ومن فيها!
يا فريد تنادي ابنها :
-وال لو كان بيتك كعبة مشرفة ما عدت داخلة عليه "وجوه كالحة ومياه
مالحة " ...يا ال " ...يا بيتي يا بويتاتي ...يا مسترلي عيوباتي!".
وتخرج مثل قنفذٍ تحجرت أشواكه!.
- 38 -
-4-
معاملته السيئة وأدت قناعتي في بعض ليرات كنت أدسها خلسة في جيب
بنطالي ،ولن الحسعاس بالقهعر وبالظلم قعد دفعنعي إلى مدّ يدي حيعن أشععر
بالحاجة الشخصية ،فقد بدأت أفكر بما هو أكبر من ذلك بكثير!.
ورغعم شكوكعه التعي سعاورته غيعر مرةٍ ،كا نت أكاذيعبي المفتعلة تجعلنعي
أخرج من خرم البرة حتى وقعت في شرك غلطة العمر!.
بع تُ سيدة أنيقة وجميلة بعض أشياء من بينها قلم أحمر الشفاه وقلم أسود
لك حل الع ين ،لم ي كن يخ طر في بالي أن المرأة ستعود تر يد ا ستبدالهما ب عد أن
أخفيت الثمن في جيبي ،وحين عادت تريد أن تستبدلهما ،كان حاضرا فانكشفت
سوءة ما فعلت!.
وجدت نف سي ،ب عد خروج ها ،ب ين يد يه م ثل حيوان يتلقف ني حائط الم حل،
وغصص من دموع متحجرة ازدحمت في حلقي ،لتسقط المفاجأة التي أنقذتني،
ح تُ أحدق تبددت ملمح الرجل الساخط بغضبه المريع إلى بشاش ٍة أذهلتني ،فرْ ْ
في وجهه أكثر من كل مرة" ،من هذا الرجل ؟ " إنه يقول وبهدوءٍ - :بابا ،إذا
ممكن تشتري " كازوز".
غرقت في محيط من القهر ،كنت غريقا وأنا على سطح الرض أتنفس،
وقيعتي بين يديه انحفرت في تلفيف الذاكرة مثل شامة مرضية ل تعني الصحة
أبدا.
- 39 -
إذن تدعنعي وشأنعي حيعن تدخعل صعاحبتك المحعل ،هذه الفتاة الشقراء
استحوذت على كلّ ما فيك ،أتحسبني غبيا ل أفهم في هذه المور ؟.
عه
عه ،شيطان القبور يشبععك شيطان النتقام ،ملمحع عن تخرج يلبسع وحيع
ملمحعك الن ،أسعمع صعوت قهقهاتعه ،اللون الزرق يتحول إلى سعوا ٍد مشوبٍع
بالزرقعة ،ماذا تقول ؟ سعأعمل أجيرا عنعد الكهربائي أبعي بكري وتلك الشقراء
ستحل مكاني " يا لرحمة الشقاء !".
بضع دقائق مرت كأننا غرباء ل نعرف بعضنا حتى انسلت خطواتي بعد
أن غادرت الم حل في أ صيل حي الميدان وئيدة ،وئيدة أ صبحت ألف وأدور في
الشارع ذاته من غير أن أعرف ما أريد وعما أبحث حتى تعبت!.
في البيت كان إخوتي ينامون على الرض بل غطا ٍء وبل فراش ٍ وأختي
فريدة متكورة مثل حمامة ورقاء حزينة! راعني المشهد ،كادت دموعي تتساقط،
كان قلبي ينبض بارتعاش ٍ بار ٍد !!
-فريدة ...انهضي.
- 40 -
-صباح الخير.
-صباح النور.
أورثني استيقاظهم متوعكين من الكآبة والحزن على ترك أمي البيت بعد
شجارها مع أبي حين خرجت جدتي شعورا بالكره نحوها هذه التي تتركنا ول
تجعل نا نش عر بمع نى الحنان والهدوء والمان ،واحدة مثل ها ل ت ستحق أن تكون
أما!!
وفي غوص معاناتي داخل جدران أحزاني التي تؤويني وإخوتي جعلتني
أش عر أ ني أ كبر من عمري ب سنواتٍ ،وجعلت ني أ حس أن ها أ كبر من عمر ها
ت !.
بسنوا ٍ
كانت نظرات عينيها تثيران في نفسي عالما بدأت أحلم به وأفكر في كيفية
الدخول إل يه ،ك نت أ حس بهذه المشا عر تر يد أن تف يض على العالم بالج نى وأ نا
أر مق صدرها النا هض بإعجا بٍ فأقرأ النشراح على وجه ها لح ظة أحدق في
تكور نهديها الصغيرين الذين بدأا ينموان من تحت "البلوزة" الضيقة!
فعي ذلك الصعباح عملت جارتنعا أم نوري على تنظيعف الوانعي وكنعس
ت كيس الرض ومسحها تساعدها أختي فريدة ،وبنا ًء على ما طلبته جارتنا أنزل ُ
الزبالة ،رمي ته قرب الحاو ية ،ولم أد فع به إلى جوف ها ،فاشتم مت رائ حة ع فن
عطن قريبة الشبه من رائ حة نفسي وأفكاري ،تابع تُ طريقي نحو محلنا بتلكؤ
مقصود ،فهو ليلة البارحة لم ين ْم معنا ،ترى أين نام !.
وبدأت أخمعن ،ربمعا كان عنعد أمعه ،وربمعا كان عنعد واحدة معن فتياتعه
الشقراوات ،أو سععاهرا عنععد واح ٍد مععن أصععحابه يلعبون الورق ،فجأة هذه
- 41 -
التخمينات توقفت !.
حيعن شاهدنعي انطلق معن داخعل المحعل بسعرعة والعقدة المرسعومة على
حاجبيه ل تفارقه ،والتي اقترنت بلهجته القاسية:
أغلق باب المحعل وقفله بالمفتاح ،فتبعتعه مثعل جروٍ جريعح ٍ سعاكتٍ ععن
النباح ،ووقفت أتزود بالصور الجديدة.
تصعافحا ،تحاورا ببضعع كلمات ععن أحوال السعوق ،ثعم دعاه الرجعل إلى
فنجان قهوة فجلس ،شرب القهوة ،وضعع الفنجان على الرض ،والتفعت ناحيتعي
وبنبرته المتسلطة:
ترك ني ظللً متك سرة وم ضى ،ترك ني ظللً تئن لي كبر م قت وح قد من
جعلني مسورا بعفونة النجاب وألف غمامة من الغ مّ والسى تلّف روحي ،ومن
الطعبيعي أن يجعلنعي هذا الموقعف رافضا كلّ الرفعض أن أكون أجيرا للجيعر،
فمنذ اللحظة الولى حاول استفزازي بفرض أوامره عليّ:
كان أبو بكري خارج الدكان يدخن سيكارته وهو يتراهن مع جاره السمان
عن سحب اليانصيب ،وحين سمع صوت صرخة في أنة صادحة سارع نحونا!.
رميت بالمفك نحو وجهه فأصابه جرح بسيط في خده دمى بعض الشيء،
فصرخ أبو بكري في وجهي:
- 42 -
وابتلع ما كان سيقوله ،وأنبأني أنه سيشكوني إلى والدي!.
الشقياء ل يُِكذبون أخبار بعضهعم ،فسعرعان معا جاء المسعيطر على حياة
ولي العهد ،جاء ساخطا ،غاضبا ،وفوق كلّ هذا وذاك لعنا يوم ولدتي ،يسبني
مقتع معن بغضاء ويشعد أذنعي فعي تقزز ،كأنعي لسعت ولده ،فأقرأ تباشيعر
ٍ فعي
ابتسامة شامتة مازلت أذكر وهج انتصارها في أجواء روحي المعذبة!.
ومعن بادلتنعي مقام الرئاسعة فعي المحعل ترفعض وجودي فعي فترة الغداء
ووالدي يخ تم على رأي ها بالش مع الح مر ،ف كل ش يء من ح قه ،الم حل ،الب يت،
الولد ،النساء ،وزهرة الربيع المقطوفة الكرة في يدها !.
في نهاية السبوع جئته فارغ اليدين لم أقبض أجرا ،اكفهر وجهه وبلهجة
سافرة عن كوامنه المادية الرديئة قال:
" ألم تت خذ قرارك بتع سفٍ من ج شع الذئب وطم عه الرا قص في داخلك أن
أترك المدرسة ،ما قالته معلمتي ،أني ربما أكون في يوم من اليام ذا شأن في
مجال الدب إن تاب عت تح صيلي الدرا سي و ُق يض لي الظرف المنا سب ،أ نت لم
تسأل لتعرف أني كنت الول في المدرسة والمتميز الوح يد في كتا بة مواضيع
التعبير.
قتلت الم ستقبل ،قتلت فر حة الغب طة من النجاح الذي حقق ته يوم أحضرت
تقدير نجاحي بترتي بٍ ممتازٍ ،وبوحي ٍ من أناك المسيطرة تركتني أهدر الوقت
أمام أفلم "الفيدو" من دون أن تسألني:
والكثر أهمية من كل هذا أن أكون بين يديك مثل عامل تنظيفات مطيع،
- 43 -
ومطيعع جدا لسعادته فعي قطاع النظافعة ،واليوم آتيعك حاملً فعي يدي نتيجعة
الر سوب ،وحيدا أح مل نتي جة الر سوب ،وحيدا أب كي ،ما عاد في مدر سة ،من
البداية عارف ما مصيرك ،تمديد الكهرباء تُد ّر ذهبا ،تعلمها !.
ونحن نصعد الدرج فوجئنا بجارتنا أم نوري ،كانت واقفة تنتظرنا وبهدوءٍ
قالت المرأة الغريبة :
-أبا غالب ،ال يرضى عليك ،أم غالب فوق أحضرتها أنا ،حرام الولد
مالهم ذنب وأنت ابن ناس وبتفهم بالصول.
-كله خير.
- 44 -
-5-
قبل صلة الجمعة صبيحة اليوم التالي قال لختي فريدة كأنه يريد أن يؤكد
على سيطرته:
-قولي لها أن تطبخ " عدس بحامض ".
و من كا نت مم سوسة "باللي فة" وال صابون ،و من كا نت ت جر ظلل قهر ها
وخي بة أمل ها في أن تكون سيدة منزل مرغوب ب ها ،انهم كت في تنظ يف الب يت
والغسيل المتراكم فتأخرت عن الطبخ.
كا نت فر صة موات ية جاء ته على قدمي ها ليثور في وجه ها م ثل ف يل طاش
عن قطي عه ،ل ستشعر من ذلك الزجاج المتنا ثر الذي تلقف ته الرض في زوا يا
المطبخ حزنا آسرا يتردد في أعماقي كلما هاجت في نفسي هذه الذكرى.
-معا الذي حصعل؟ وأي ذنعب ٍ عظيعم ٍ اقترفتعه لينصعب حقده على هذا
الشكل وعلى مرأى من صغاره؟.
-أيعقل أن يكون ذلك السبب سببا قاطعا لثورة ٍ ل تشبه إل نفسها؟.
بين هول هذه اللحظات القاسيات كان أخي الصغير مازن يشهق في بكاءٍ
ف من شدة الرعب. راج ٍ
حاولت إسعكاته وإيقاف رقعص الذئب فعي دقات قلبعي الذي صعار مثعل
الرعد ،ضغطت على أعصابي ،أسأل نفسي:
-لماذا لم أضربه دفاعا عن أمي ؟!.
- 45 -
أجل لماذا لم أضربه دفاعا ًعن أمي ،تلك التي زرعت في نفسي أنا الخر
انطواءً منعزلً لمشاعري نحو ها لك ني إزاء ما سمعته ح نّ قل بي ،سمعتها تب كي
بصوتٍ مسموع ٍ ،كانت هذه هي المرة الولى التي نسمعها تبكي ،خرج صوت
بكائهعا حزينا مشوبا برائحعة اللم كانعت تريدنعا أن نقعف فعي وجهعه ،أن نلتعف
حولها ونصرخ في وجهه ونطرده كما يطردها ،لكننا لم نفعل !.
داخعل هذا العراء معن أم ٍ هاجرة ٍ لكوامعن صعغارها وأب ل مهابعة فعي
شخصعه ،لن الرهبعة معن أفعاله وأقواله كانعت هعي السعاكنة فعي ذاكرة الخليعا
ل في زاوية عدا مازن الذي جلس والحاسيس والتي جعلتنا نقف كالمتفرجين ك ّ
قرب أمه يواصل بكاءه ،كنا نعيش حياتنا!.
في تلك اللحظات الكئي بة هاجمت ني أفكار ش تى ،و في لحظات متقدة ك نت
في الشارع أضع نتف الزجاج المتكسر داخل الحاوية كأني أضع ميتا مؤذيا!.
ل وجهها من فتحة الباب واقتربت مني قائلة ً:
وأنا أصعد سللم الدرج أط ّ
-أهلا غالب ،ما بك؟
-أهلا نوال ما في شيء.
(بصعوبة أزحت سكين الجرح العالقة في الحلق وأجبتها ).
-كأنما سمعنا صوت تكسير ،ماذا حصل؟.
-لشيء ،ل تشغلي بالك!.
فعي هذا الظرف القاسعي تقدمعت نحوي بجرأة ،امتدت يدهعا إلى جعبيني،
ت في حالةٍ ل تسمح لي بالتكلم معها،
أحست ببرودته ؛ أرادت أن تتكلم معي،كن ُ
فأبعدت يدها ،وقلت :
-أرجوك اتركيني يا نوال.
------------ -
-مع من تتكلمين؟ ،ادخلي.
جاء صعوت أمهعا معن الداخعل ذابلً ،فخمنعت أن تكون هعي الخرى فعي
وقيعة مع زوجها تشبه وقيعة أمي!.
- 46 -
تركت ها تد خل وانتظرت ح تى أغل قت الباب ،ثم تاب عت ال صعود ضغ طت
على جرس الباب ،ظهر في وجهي مثل مارد أوداجه المنفوخة تنمّ عن غض بِ
حاقدٍ لئ يم ٍ؛ رشق ني بنظرة قاد حة كأن ها شرر حارق وتا بع هبو طه إلى ح يث ل
أدري!.
في الهز يع الخ ير من الل يل ،وك ما تعود نا في الو نة الخيرة أن يطول
سهره خارج البيت ،فتحت عينيّ ،رأيت شبحا ل أعرفه ،وكيف أعرفه وقد دخل
متطوحا يتقاذ فه فراغ الغر فة وقمي صه على يده ول ش يء ي ستر صدره! ،أنال
أصعدق الذي رأيتعه ،ول أصعدق أيضا أن الذي حصعل كان بسعبب "العدس
بحامض"!.
أهعو الكره؟ أ مْ ب سبب فقدان ال حب ؟ أم ْع ب سبب جدتعي التعي تكره أ مي ؟
وجدتي ووالدي يكرهان بيت جدي من أهل أمي!!
أتنفسع الهواء
َ أردتع أن
ُ ت على مهلٍ إلى الشرفعة، تركتع الفراش وتسعلل ُ
ُ
ل الل يل والنجوم ،أن أخاط بَ المدا خن شهودي الوائل على ألم ٍ
بع مق ٍ ،أن أتأم َ
نظرتع إلى هوائيات التلفزة وأسعلكها
ُ مازال مغروسعا فعي الجسعد والذاكرة،
اللقطة،تساءلت:
" تُراهعا تملك القدرة على مخاطبتعي أو تصعوير أحزانعي لعرضهعا فعي
مسلسل عالمي ،أ مْ تراها ل تأبه بشخصي فأنا مجرد هامش ٍ في صفح ٍة مملوءةٍ
بالكثير مما يشبه أحداث أحزاني" ؟!.
فت شت عن الق مر ،كان غائبا ،في طر فه ال خر من الكرة الرض ية في
عن ،وأحلم الطفالعه أحلم العاشقيععن أشعتع عق على لجيع المكان الذي تتموسع
المترف ين الذ ين ل ينتمون إلى عالم طفول تي ،فأ نا نق طة من مداد و جد تخ فض
جناح الذل من الرحمة!.
مُلت برأسي نحو السفل ،كانت المسافة طويلة ،كأني أول مرة أشاهد هذا
الرتفاع ،وهذه الحارة الهادئة تشاركنعي تأملتعي فعي انخفاضهعا والتوائهعا عنعد
مفرق الشارع ،ولن المعر كذلك فقعد داهمنعي شعور غريعب ،لماذا ل أرمعي
بنف سي من هذا العلو؟ لعلّ النيام الهانئ ين بنوم هم ي ستيقظون ب من في هم والدا يّ
- 47 -
البارّان بأولده ما ،ليشاهدا د مي البارد و قد ر سم على الرض أ سئلة في نها ية
كلّ واح ٍد عل مة من علمات التنق يط ،التع جب ،وال ستفهام والفا صلة والنق طة
غير موجودة فالمصير مازال مبهما مجهولً!.
فجأة تنبهعت إلى سعخرية الشيطان فصعرخت معن أعماق الصعمت ل ،لن
أجعلكمعا تفرحان بموتعي ،ربمعا تبكيان بضععة أيام وربمعا لوجود للدموع فعي
حياتكما على ولدكما! لن أدعكما تنعمان بالهدوء ،سأكون مثل حجارة من صوان
تعيق هدوء فرحكما المتآكل من ثرثرة الحيزبون!.
أدرتُع ظهري نحعو الداخعل ،رمقتُع الجميعع ،طار نومعي فعي خضعم هذه
المضطربات وعيناي ترمقان أ مي بنظرات ذات مع نى عم يق وعم يق جدا ،من
دون أن أش عر نحو ها بالع طف علي ها ر غم صفرة وجه ها البا هت ،والذي كان
يثير الشفقة في نفس أي شخص ٍ كان حين يشاهد وجه هذه المرأة!.
تكور تُ على الري كة الخشب ية والحزن يأ كل ما ب قي من اخضرار القلب
وأنا متوتر العصاب ،غاضبٌ!.
ت ضفائر الشمعس مخترقعة زجاج النوافعذ انشقتع خيوط الفجعر وانسعل ْ
ْ
والشرفات لتقدم عزاءهعا إلى هذا البيعت ،كان الكعل معا يزال يغعط فعي نومعه،
تسعللت بهدو ٍء على رؤوس أصعابعي إلى مكان نومعه ،امتدت يدي إلى جيعب
ع إلى
بنطاله ،أمسعكت بقطعةٍ ورقي ٍة فئة المئة ليرة ،وعلى مهلٍ أطلقعت رجلي ّ
الشارع مثل سحلية ل تصدر صوتا!.
كانعت شوارع المدينعة ومنعطفات حديقعة ميسعلون ملذي الوحيعد ،كنعت
أمع لعبعد
أمع لفريعد ْ
أغنعي ،لمعن أغنعي ل أعرف ،هعل كنعت أغنعي لعبعد الحليعم ْ
ع أغنعي لرمعم شقوق الذات الوهاب؟ اختلطعت الكلمات باللحان المهعم كنت ُ
المقهورة ،ومن طبيعة التسكع أن تكون قد تعرفت على شل ٍة من فريق ٍ هوايتهم
ت على واحدٍ الع بث والتحرش بالن ساء ،كن تُ أعرف أ ين يوجدون ،وح ين عثر ُ
ل للوقت الذيمنهم سررتُ برؤيته ،لن أكون وحيدا في ممارسة "الزعرنة" ،وقت ً
ما عاد تافها فقد سألته أن نذهب إلى السينما!.
سألني بدهشة مقترنة بالرضا:
- 48 -
-سينما؟.
-ل َم ل ،ألسنا مولعين بالحرية؟ أم أنك ترفض دعوتي ؟!.
بذل ع مر كلّ جهده ح تى ل يبدو ضعيفا أمام قدر تي على الد فع وجعل ني
في الدخول أتقدمه ،فانتابني إحساس بالقوة والزهو مما أفعل!.
بععد الفيلم شعرت بالجوع فاشتريعت "سعندويش فلفعل" واتفقنعا أن نقضعي
ب عض الو قت في الحدي قة العا مة ،اختر نا مكانا ق صيا ،كا نت رائ حة ن هر قو يق
الكريهة تسبب الزكام للعابرين القلئل على عكس ما كنا نحس به ،مياه ضحلة
ش به راكدة ل تجدد في حيات ها تحتوي على عرق المدي نة وغبار ها ،رائح ته ل
يحتمل النف رداءتها ومع هذا كنا نشعر باللذة ونحن نغني مزيجا من اللحان
والكلمات التي باتت تخصنا وحدنا!!
ح ين سادنا الملل قرر نا أن نتزحلق زاحف ين إلى شارع "العزيز ية فالتلل"،
فهناك وعلى الرصفة المكتظة بالناس بين رواح ومجيء تبدأ الحياة التي نبحث
عنها ول تبحث عنا ،نخترق صفوف النساء كي نلمس يد تلك أو خصر هذه،أو،
لم تكن تهمنا الشتائم واللعنات التي كانت النسوة ترد فيها على تحرشاتنا ،فسمعنا
غير مرهف!!.
ت إلى الب يت ب عد أن اتف قت مع
حوالي التا سعة من م ساء ذلك اليوم عد ُ
عمر على يوم ٍ جديد ٍفي موعد ٍقريب ٍ ،وعندما دخلت البيت أبديت عدم اكتراثٍ
ول مبال ٍة من أسئلتها التي بدت لي غير مستحبة.
صعقتها ل مبالتي ،وأوقدت في حنجرتها سياطامن الغ ضب ،المرأة الم
تغضعب وتثور ،الليلة بدأت تسعأل! قبعل هذه الليالي لم تكعن تسعأل ،قال كانعت
تحسبني في المحل !.
سخرت من قوت ها المفاجئة ومحا سبتها ال تي بدت لي صارمة على غ ير
عهدي بهعا ،فأدرت ظهري متجاهلاً نهرهعا وجموح ثورتهعا ،أمسعكت بعي معن
كتفعي وشدتنعي بعنفعٍ ،كان الغضعب مشتعلً فعي عينيهعا الم المشغولة بتلميعع
"الطناجر" والصحون تغضب وتثور وتسأل ،ربما فقدت عقلها من تأثير الصدمة
السابقة ،أعادها غضبها إلى شدي بقوةٍ:
-أبوك ،سألني عنك مرتين ،أين كنت؟.
- 49 -
ل مباليا سعحبت يدي معن يدهعا ،وأدرت ظهري ثانيعة وقبعل أن أرد على
سؤالها دار المفتاح بقفل الباب وانفتح عن وجه كأنه مارد قذفه إلينا بساط الريح
ل قع ب ين لكما ته والضرب بقدم يه م ثل كرة يل عب ب ها هداف وا ثق من نف سه،
وقبل أن تهدأ غللة قباحة عقابه النافر التفت نحوها وقال:
-مسرورة أنت الن؟ ابنك في الشوارع؟ حياة " مقرفة".
في هذه الليلة لم أشعر باللم من صفعاته ولكما ته ،ولم أشعر بالرا حة إل
حيعن سعمعته يرمعي بسعوء تربيتعي على كاهلهعا وكعم تمنيعت أن تكون جدتعي
موجودة تشارك أبي اتهامه لمي في عدم وجود السؤال عن ولدها!.
ابتدأت أنمعو في وحشةٍ من انطوا ٍء على التمردِ الحاقدِ الذي را حت تنمعو
مععه ملمعح الذكورة التعي جعلتنعي أحعس بالنشوة يوم شعرت بأنعي قعد دخلت
مرحلة المراهقة!
تصاهرت أحلم بدايات مراهقتي مع صراعات أبي بأمي والنغام الجديدة
ترسم كلماتها في ذاكرتي التي ما غادرت عقلي :
-أمعك جعلتنعي أكره اسعمك واسعم أخوتعك ،دائما تذمعر ،وآهات وشكاوى
كيف سأدبر أمري؟ ل أعرف؟
فأهمس سرا بشماتةٍ " معك حق ،أمي دائما تنقُ مثل ضفدعة مجروحة!".
- 50 -
-6-
لم أظل ْم أمي ،فنق الجريح من وجود اللم يحتاج إلى طبيبٍ ودواء أمي أن
تشكوني إلى أبي ،وفي هذا لبدّ من أن يضربني وهو يسبني قائلً:
ن شكوى أ مي هذه المرة لم ت كن ب سبب مشكلة بي ني وبين ها ،بل كا نت لك ّ
بسبب ما قالته الجارة أم نوري :
-صوني ابنتك!
وفي هذا زاد الكلم ولم ينقص وكادتا تتصايحان وتتشابكان وتنتفان شعرا
رأسعيهما ،لول تدخعل الحاجعة "أم رضعا" ،وكنعت داخعل البيعت أسعمع صعياح
المرأت ين ،ورب ما كا نت هذه هي المرة الولى ال تي جعلت ني أخاف من أ مي ب عد
- 51 -
هذا الشجار!!.
كان خير مكان ٍ اختبأ فيه هو الحمّام ،ورغم اختبائي وخوفي فلقد ابتسمت
بخب ثٍ وقلت في نفسي " :مسكينة أمي وجارتنا تفضحان بعضهما من دون أن
ت عالٍ !.
تقدرا على منعنا " ،وأكاد أضحك بصو ٍ
تفاصعيل أخرى وغيعر إضافيعة حدثعت معا عدت قادراعلى ذكرهعا لنهعا
لتهمنعي ،والذي يهمنعي أن أذكره ذلك الحدث الهام فعي حياتعي عندمعا حصعلت
على وظيفة مراسل حركي عليه أن يقف عند باب المحل مثل عمود الكهرباء!.
ب وضعت العلب على الطاولة وخرجت إلى الرصيف كانت بنزق ٍ غاض ٍ
قط تي بانتظاري ولح ظة رأت ني رك ضت نحوي و هي تموء،اقتر بت م ني ت هز
- 52 -
ذيلهعا ،فضربتهعا برجلي ففرت إلى الرصعيف المقابعل وهعي تصعرخ بصعوتها
المعروف كأنها تستهجن من فعلتي وأنا كالغريب واقفٌ أسأل :ابن من أنا؟.
"كاترين" خرجت غير آبهة بنظراتي التي كان الشرر يتطاير منها ،مرت
من أما مي نكا ية بي ،ويداي كان تا تريدان أن تقب ضا على عنق ها ،وح ين صرخ
غالب عرفت أنه سيطلب مني السكوت!.
حاول أن يكون منهمكا فعي عدّ الوراق النقديعة ،وقعد بدا لي أنعه غيعر
مضطر بٍ ،وشيعء غامعض فعي دماغعي كان يوزع شظاياه على خليعا ج سدي
لشعر في هذه اللحظة بالذات أني أريد البكاء!.
كنت متعبا وحين نظرت في وجهه أحسست كأنني أول مرة أرى وجهه،
وجه بارد كالحديد ،أمسك بذقني ،رفع وجهي نحو وجهه وبجدية قال:
-أنت كبرت ،ولب ّد أن تفهم ،سنكون أنا وأ نت بعد هذا اليوم أصدقاءً ما
رأيك؟!.
غشاوة مخاطية لزجة نزلت على عين يّ ،فوجئت بطلبه ،إنها المرة الولى
ال تي يعامل ني في ها على أ ني أ صبحت شخ صا كبيرا أف هم ،صوته غ ير الل يف
يمشعي فعي دمعي ،فتعمدت تركعه حائرا وخرجعت بععد أن ضربعت باب المحعل
بقدمي.
ل ونحيلٌ ،العيعن ترى الناس بشكعل معوج ٍ ،سعقط العالم أمامالجسعدُ ضئي ٌ
رو حي فبدأت أ سرح مع رائ حة الن هر ،وح ين رأ يت رجلً يل عب طفله سولت
نفسعي لي " سعأعترض طريعق ذلك الرجعل ،سعأعكر فرح طفله ،إنهمعا يلعبان
بالكرة ،يتسابقان ،يتضاحكان ،سأنزل من الجسر إلى النهر ،سأشرب من مائه،
هذا القلب يبحعث ععن الموت " وفجأة تذكرتهعا تذكرت معا قالت "أنعا بانتظارك"،
فقررت العودة وأنا متصدع ،مأكول ،حتى قهقهت أعماقي:
- 53 -
- 54 -
-7 -
هاأنذا الن أسترجع في ذاكرتي قصة حياته كما حكاها لي ربما كي أشفق
على أبوته التي أشعرتني آنذاك إني ل أنتمي إليها ،وربما كي أحسّ بشقائه وكدّه
وحرمانه.
كان يتسعلق حافلة النقعل الداخلي وهعي تسعير ،كعي ل يدفعع ثمعن التذكرة
معرضا نفسعه للخطعر ،وعنعد موقعف النزول كان يقذف بنفسعه على الرصعيف
ويجري بسعرعة الريعح إلى باب "جنيعن" للعمعل فعي محطعة لبيعع المحروقات،
ل جهده في أن يدخر البخشيش من أجور الضخ ،وفي هذا كان يجمع ويسعى بك ّ
القرش فوق القرش.
لسيرتك وقع في قلبي مثل غيمة ل تمطر أبداً ،الطفولة تحترق في سعيك
الدؤوب على ج مع المال بائعا للجوارب على أر صفة التلل ،ثم دَهان ع ند معلم
ب يأ كل
أرم ني ،فعا مل مو سمي في محالج الق طن ،أ ستمع إلى التفا صيل بعذا ٍ
نبض قلبي والضحكة السافرة عن مجونها في هذه القصة ،الضحكة التي يسخر
من سماعها رجال الذاكرة ال تي ل تعرف رائ حة الن هر في هذه المدي نة أن في
قصة ولدتك ما يشبه قصة ولدتي!!.
سمعت أمي تحكي لجارتها أن وحامها لم يكن على الحامض أو الحلو من
الطعام ،كانت ورغم بساطتها في الفهم قد أغرمت على متابعة مسلسل الجذور
"كون تا كون تي" الم سلسل الذي ظ هر في أوا خر ال سبعينات ،أي في عام ،1979
لهذا كانت سمرتي غامقة تميل إلى الصفرة ،وأنفي كبير يشبه إلى ح ّد ما أنف
جد تي أم أ بي ،وجد تي أم أ بي ك ما سمعتها تح كي لجارت نا أم نوري ب عد طلق
- 55 -
أ مي أن ها حاولت الجهاض غ ير مرة خش ية من أن يعيد ها زوج ها إل يه إذا كان
المولود ذكراً!.
في زاو ية ما و جد نف سه مع أ مه في مر تع من الذل لم يختره هو ،بل
اختارته هي ،يوم رفضت العودة وأصرت على الطلق!
وجد نفسه مع أمه في بي تٍ غير بيت أبيه ،وعندما صار الصبي في مثل
عمري رفضته زوجة خاله ،رفضته قائلة :
-الولد كبر ،وأنا أخاف على البنات ،تدبر أمره وأختك !!
وفي هذا تحدث أبي عن كلّ التفاصيل ،تحدث قائلً:
" لن أ مي رف ضت الخروج تقر فص خالي على الرض وراح يف عل ك ما
تفععل النائحات بإذلل ٍ ل يمطعر إل الخوف معن التمادي بالنواح حينئذٍ قررنعا
الرح يل عن هم ،فخرج نا ،ورح نا نب حث عن سكن في غ ير مكان فزوج ته وبي ته
وأولده ما عادوا يرغبون بوجودي وأمي !
خرج نا نب حث عن مأوى ب ين و حل المطار والبرك ال سنة ال تي كا نت
منتشرة فعي الحواري والزقعة ،كنعا نمشعي بهدوءٍ داخعل فراغ الهواء وصعمت
بيتع
ٍ الضباب بذل ٍ ل يشبعه سعوى صعورة الموت المخيعف ونحعن نسعأل ععن
يحتوينا والشياء التافهة التي كنا نحملها ،فلم نجد غير سكونٍ لزج ٍ ينبعث من
أزقة الحارات الضيقة ،و"بقجة" حاجات أمي وكيس الورق الكبير يخشخش مثل
أوراق ٍهشةٍ مصعفرةٍ يبسعت فعي فصعل الخريعف ،صعوتها الن ينداح فعي قلبعي
وعقلي كما النين!.
-أهلً بالست أم فريد.
م صادفة الت قت ب نا أم طو ني ،ك ما كا نت تلت قي بأ مي غ ير مرة في حمام
"ق سطل الحرامعي" ،أخذت نا مع ها إلى سعكنها فعي "براكات الر من" قرب "الخان
الحز ين" ،وكان من ال صعب علي نا أن ن جد غر فة خال ية تحتوي نا وهذه الشياء
التاف هة ،لول وجود هذه ال صديقة التعي تدبرت ال مر ب عد أن ر ثت على حالت نا
المزرية ،لنها لم تنس هجرتها وحيدة من حرب" الطوشة" بعد أن فقدت زوجها
وولديهعا والتعي معا نسعيتها أبدا وكيعف تنسعاها وقعد حفرت الحزن فعي أخاديعد
- 56 -
الذاكرة؟!.
في تلك الغرفة نظرتُ بإمعان إلى السقف الخشبي بأعمدته السوداء ،قرأتُ
من خيوط العنكبوت المعششة في الزوايا عن قصة هجرٍ وهجرة.
- 57 -
أي ها الر جل -الط فل -صاحب عقدة أل ترى م عي ل نك ع شت محروماً
ل أماني الطفولة بأحلمها
من إنسانيتك في طفولتك تنتقم مني لشعوريا قاتلً ك ّ
البكر!.
أ نا أذ كر هذا الكلم ،وأذ كر أيضا أ نك ك نت تر يد أن أقذف بنف سي للع مل
في مه نة ،حر فة ،صنعة ،كي ت ستعين بأجري على م صروف الب يت ،لم ي كن
يه مك ما سأكون ،وبماذا أحلم ،و ما هو هد في ؟؟ كان هد فك أن يشت غل غالب،
وتحققت رغبتك! فاشتغل غالب في غير مهنة أو حرفة ،أو صنعة ،اشتغل غالب
ل انظر إل يّ
في تعاطي الحشيش والنوم مع السكارى والهاربين من العدالة ،تعا َ
الن ،انظر إلى ذاكرتي ،حاول أن توقف فتيل التوقد الحمر ،حاول أن تضبط
أعصابك وأنت تسمع باسم منْ تعرفتُ عليه داخل السجن!!
فأ نا لم أ ستطع أن أخ في تأثري من التحول المحتوم الذي آلت إل يه نف سي
وأنا أراه يدخل " القاووش " ،راودني شعور غريب! ولكن لماذا ضجت أصوات
السعجناء ؟ يعا لضجيعج هذا المكان! ،مرغما أقطعع عزف القلم والروح والعقعل
وأنظعر فعي وجهعه ،أرى الملمعح المتصعاهرة ،المأخوذة معن اللحعم الحعي ،هذه
المل مح شدت ني لشعوريا إلى منا صرته بدا فع من اغتبا طٍ خ في ٍ ،ل تدري من
أين تدفأت به نفسك ؟ ول َم ؟!.
في تلك اللحظات ،لحظات الدراك الخفي لحساس ضامر بدأ يشق رحم
الرض التي هي النفس ،ساقتني خطواتي نحو الرجل الذي كنت أدعوه بعمي،
وسألته :
-تُرى ما تهمة هذا السجين الجديد؟.
وأ بو ح سن الذي كان م ستا ًء من عزل تي ع نه ،حدق في وج هي بنظرات
حيرى ،وبتهكم ٍ ردّ عليّ:
-الحمد ل ،جاء من حرّك صيام لسانك عن الكلم!.
أطر قت خجلً ،فق بل مجيئه ك نت مضطهدا من هؤلء الغربان ،فت ساءلت
داخل سكون روحي "هل سيفعل به هؤلء المسجونون مثلما فعلوا بي يوم دخلت
" القاووش " وقبل مجيء أبي حسن؟ ".
- 58 -
أ سئلة كثيرة مت سارعة متشاب كة متوج سة توافدت ثم توق فت ف صوت أ بي
حسن ينتشلني من قاعة حواراتي الصامتة قائلً:
-تعالَ ،اجلس " ،طرنيب ول تركس".
لم أ كن راغبا في الل عب ،لكن ني أمام مب سمه الودود ،جل ست و ما إن ف تح
الورق حتى تهافت نحونا من أكره مجالستهم ،وأنفر من وقاحة أحاديثهم ونكاتهم
التافهة ذات الكلمات المترجرجة البذيئة.
- 59 -
اقتربت من أبي حسن وسألته:
-هل هو الشخص نفسه الذي حاول النتحار في المطعم ؟.
بَسَمَ في وجهي بسمة خفيفة ثم أحنى رأسه من أذني وبهمس ٍ قال:
-ل تستعجل ،يا غالب ،ل تستعجل.
فقرأتع زفرات السعى فعي
ُ التقتع عيناي فعي عينيعه
ْ عدتع إلى مكانعي،
ُ
وجهه ،وحتى ل أفقد ما أحسست به من ارتياح ٍ اقتربت منه وسألته:
-كيف حالك اليوم؟
-بخير ٍ.
ض الدم
انساب صوته في قلبي مثل خرير جدول ،وداخل خليا جسدي نب َ
فعي عروقعي دافئا ،شعرت بدفئه فصعوته هادئ ،نعبرته لطيفعة إحسعاس غامعض
شدنعي إلى الجلوس قربعه أرغعب فعي محاورتعه ،مصعادقة أشجانعه ،وأنعا فعي
مضطرب سحيق المدى مع ذكرياتي!.
كان الهدوء قد ع مّ المكان بعد هذا الصخب والضجيج ورغم رداءة الزمن
وتباطؤه فعي معرفعة أسعباب البلبلة جاءنعا الخعبر البارد الحار الرجعل لم تحتمعل
أعصابه أن يستقر حكمه على المؤبد !.
وحين تمكن من الحصول على شفرة حلقة راح يضرب بها وجهه ويديه
ل من يقترب منه ،حتى فقد وعيه بعد أن في لحظة جنون وهو يصرخ مهددا ك ّ
غاص في بر كة من الدماء وح ين أغم يّ على الر جل نقلوه ب سرعة إلى المش فى
لعلجه والذي نقل الخبر قال ربما ل يعود إلى السجن بل إلى المقبرة ،فالرجل
نزف كثيرا!!.
لم تكن الدعوة باردة فالرجل بمقامه الحصيف قال وبصوت جهوري يميل
إلى البوة:
-تعالَ ،صاهرنا بالطعام.
- 60 -
انشرح صدري من دعوة أبي حسن للسجين،وانفرجت قسمات وجهي عن
ابتسامة غبطة ،سرّتني هذه اللفتة الكريمة سرورا عظيما فمسكته من يده وقلت:
-هيا ،قم ْ ،انهضْ.
كالعادة بعد الفطور جلسنا نفتش عن القمل ،اندهش الرجل مما نفعل! .ثم
كمن يبتلع مقصا أجاب عن سؤال أبي حسن ببحة من حزن في أسى:
-دهستُ طفلً!.
تركت القميص من يدي وسألته:
-كيف؟.
أجاب وهو يبلع الغصة :
-الم سكين كان يح مل كي سا من الخ بز ،الشارة الضوئ ية كا نت لل سيارات
وكنت مسرعا ولم أتمكن من ضبط "الفرامل" وقبل أن تنطفئ الشارة الخضراء
كان مثل شبح ركض حول حتفه!
- 61 -
مقاومة أحزاني قائلً:
-هيا بل كسل ،هات الغسيل ،ل أريد أن أتأخر على الحرمة.
لسعت أدري لماذا فعي اللحظعة تلك شعرت بالرعشعة تلو الرعشعة تخون
قو تي ،فتمددت على الح صير قرب ال سرير أتأ مل الضوء المن سرب من فت حة
باب " القاووش " تأملت كعل الشياء ،الوجوه تُمطعر الشقاء إل وجهعه ،أريعد أن
أبدو أمامه رجلً عاقلً ل شابا ضعيفا ،أريد أن أتغلب على الزمة الداخلية التي
انفجرت في داخلي كي تعيد ني إلى الدائرة ال سوداء ذات ها ،دائرة الخ بز وق سوة
العقوبة ،فاقتربت منه وبجرأة قلت:
ف على اسمك بعد؟.
-لم نتعر ْ
أطفأ سيكارته وبغصص من دمعٍ محتجزٍ في العينين الذابلتين قال :
-وجيه عبد الوكيل الدليل.
ل شعوريا قفزت عن مكاني ،وعقلي يردد وجيه عبد الوكيل الدليل ،كأني
سعمعت بهذا السعم معن والدي ،وجيعه عبعد الوكيعل الدليعل إذن أبعدونعي ععن
العقرب ،أبعدوني عن الحرباء ،وبانفعالٍ ل إرادي صرخت:
-أعدْ السم الذي ذكرت
- 62 -
الرجل غضب وتجهم وجهه فصرخ في وجهي:
-عن ماذا تتحدث ؟ ومن أخو ،من؟ نعم اسمي وجيه عبد الوكيل الدليل
قل ما المر؟ هل هذا وقت التنكيت ؟
حين سمع السجناء بكلم السجين الجديد وهو يصرخ قل ما المر هل هذا
هو و قت التنك يت و هو مم سك بيدي ،اندهشوا م ما يحدث ،و من غر يب صخب
انفعالي وصوتي الذي بدا مثل جأر الثور!.
الرجال معهعم حعق! معا يقال السعاعة تلك قعد يبدو قصعة خرافيعة معن أيام
الساطير في تشابه السماء ،بل في حقيقة وجود النسب ،هل أناقش هؤلء؟ أم
واحدا من أبطال "الحدو تة" الحكائ ية وال تي أذهلت ني سيرتها على ل سان شمطاء
دحرت أواصر القربى و أبعدتهم عنا في مهزلة من تهويم ٍ فج ٍ ل يغادر ذاكرة
عقلي.
دعوني أضج بضحكي المجنون ،دعوني أقرأ عليكم سيرة والدي بل سيرة
جد تي ،ل ت ستغربوا م ما ستسمعون ،أ نا عا قل ودق يق في ما سأعرضه علي كم،
حكا ية من حر ضت أ مي على الحرد الخ ير ابتدأت تفا صيلها تظ هر ،تعلن عن
حقيقعة آن الوان لظهورهعا ،نحعن معن أسعرة مولودة معن بطون العجائب
والسرار ،ابتعدوا ،ل أريد الشماتة ،أريد الصغاء ،أصيخوا السمع ،انتبهوا إلى
معا سعتسمعون ،ل أريعد تزويرا ،ول أريعد سعهوا" ،ابعت...ععد وا" ،وحاولت أن
أدور حول نفسعي حاولت أن أ قف بل خلل يض بط تواز ني ،لكننعي وقععت على
الرض فلقعد أغمعي عليعّ ،وحيعن فتحعت عينيعّ ،وجدت جسعدي الواهعن على
ال سرير يبلله العرق ،بععض الوجوه كا نت قربعي ،فنهضعت بععد أن هدأت ثورة
جموح جنوني لجد أن في وجه السجين الجديد ملمح الدهشة والذهول فالخر
صدمه واقع نا ،وا قع لقائ نا في زنزا نة ،وأن ال عم أ بو ح سن حمل ني من الرض
لحظة دخل ووجدني في حالة ل تشبه إل نفسها!.
الموجوعة أمي والتي كانت ممسوسة بالليفة والصابون كانت تريد صلح
أمره معع أهله معن أبيعه ،ليكون لولدهعا أتراب وأهعل يزوروننعا فنزورهعم،
يصاهروننا فنصاهرهم ،لكن أسوار المرأة التي حكمت ابنها ،قلب الحاقدة التي
استشرى حقدها في قلبه جعلته رافضا أن يكون بينه وبينهم أي اتصال!.
- 63 -
-انظر يا أبا غالب ،أصبحنا أنا وعمي (أخوك من أبيك) أسطورة زمن ل
يصدق فيه مثل هذا النوع من الواقع!!.
المت هم الحقي قي خارج أ سوار الغرف ذات الجدران الحديد ية ،والمضط هد
الذي أدمن على رؤية الشجار والحرد والتسكع في الشوارع والمطرود بل هوية
من أب ل يعترف بوجوده ،والذي و جد نف سه من معاشرة الكبار الهارب ين من
العدالة داخل هذه القضبان محكوم عليه مع محكومين تعددت جناياتهم!.
-أيها القاضي الجليل ،كم عاما ستحكم عليّ؟.
عدْ معي إلى منزلنا ،تذكر حاد ثة " العدس بحامض " ،ارسم بدقة تفاصيل
ذلك الرجل الذي تكرر خروجه وسهره حتى وجه الفجر ،ارسم ما اعترانا ،ل
تع جب ول تن كر الحقي قة ،الحقي قة ال تي تش به اللع نة على شارب الخ مر وبائع ها
وشاريها وناظرها ونحن كنا ننظر إلى الرقام نتابع الدواليب بدقة ،حتى صرنا
نحلم برؤية الرقام في المنام كما كان يقول هو عن أحلمه ،ونحن كنا نتراهن
لن نا ك نا نحلم بالرقام مثله،إذن ك نا نلعب القمار معه ،لم ي كن لعبا بالورق فوق
طاولة معع شلة معن المقامريعن ،كان لعبا معن نموذج ٍ خاص ٍ ،نموذج ابتكره
سمسار شركاؤه ملوك "البزنس ".
في المقهى وحيث كان يجلس زعيم ميسر السرعة ،زعيم البتكار الجديد،
والذي كان يمتاز بخصعوصية السعاسة المروجيعن ،خمعن ،أو اختعر ،أو حتعى
احلم!.
م ساء كل ثلثاء ك نا كالمأجور ين أمام الشا شة ب عد أن تقم صنا شخوص
الكهنة والعرافين ،نتصايح ،نصرخ بدعاء فيه رجاء الصغار،أو حتى الكبار إلى
ال " ،يا رب ...آ ...على هذا الر قم " والجدة ،وال تي كا نت عينا ها م ثل عي ني
ضب ٍ واق فٍ على صخرة جاثية يرتقب فريسته ،كانت تنهض من مكانها حين
تقف الدواليب الخيرة على واحدٍ من أرقام الرهان لتحدق النظر في الرقم على
الشاشة وقد أحنت ظهرها وفتحت عينيها !.
وهذه المم سوسة بالتنظ يف أ مي وال تي كا نت ل تعرف عن تفا صيل هذه
اللع بة ما قد بدأ نا نعر فه ن حن ال صغار ،فذلك لن ها كا نت على ث قة تامة من أن
آراءها معتقلة ،ولنها كانت ل تخرج من مطبخها حتى ينام الجميع ،وأنا بحكم
- 64 -
يقظتي الذهنية وبحكم فراستي النشطة كنت قد حفظتها عن ظهر قلب وحفظت
اسمها رغم صعلكة حروفها ،من حديثه مع أبي "ميشيل" عرفت طريقة الرهان،
والذي جعلني أنا الخر أفكر باللعب بها وأحلم بشراء سيارة حديثة ،وبالجلوس
في م حل أمل كه في شارع "العزيز ية" ل حي "الميدان" ،ح تى حل مت أيضا بأن
التي ستعمل عندي هي زنبقة الحي(كاترين) فقد تفيدني في كسب الزبائن ،هكذا
أصبحت أفكر وأحلم !.
ما تحصل عليه سبعة أضعاف المبلغ الذي ُتقامر عليه عن طريق سمسار
اليانصعيب ،فقعط قامعر باختيارك رقميعن تدفعع عليهمعا المبلغ الذي يبدأ بخمعس
وعشرين ليرة أ و ضعفه أو الضعف ين وهكذا ،إذن الم سألة سهلة ول تحتاج إلى
تعقي ٍد !.
وح ين ف كر أن يرا هن على عد ٍد كبير من الرقام ب عد أن و ضع في يد
السعمسار كلّ رأسعماله النقدي ،والذي ادخره لشراء بضاععة فعي موسعم العيعد،
أصابته الضربة القاضية ،الضربة التي تفحمت عليها ملمحه فانزوى كئيبا يلعن
ح ظه ،ولول الع يب لف عل مثل ما تف عل ب عض الن ساء في أحزان ها ،كا نت الضر بة
الخيرة مدمرة ،عر ته من كل ما يملك فأ صبح على الحد يد سوى من ب عض
أشياء ظلت على رفوف المحل والتي ل تعطي غير ثمن الخبز!.
في هذه الفترة من هذه المرحلة ،مرحلة الخسارة والنزواء ،جاءته تمشي
الهوي نى ،وجدت هذه الظروف فر صة موات ية ،وح ين رآ ها قاد مة ن حو الم حل
أسرع نحوها ،مسكها من يدها وسألها بلهفة:
-خير يا أمي ،ماالذي أتى بك إلى هنا ؟ لمَ ل ْم تذهبي إلى البيت؟.
أجابت مثل شرطي سجن غاضب:
- 65 -
أجابته بسرعة:
-يعني وجودها مثل عدمه ،دور على شبابك ،مصلحتك أهم ،بنت خالك
صارت أرملة ،وزوجها خلّف لها دارين وسيارة ،أنت أحق من الغريب!!.
كنت واقفا قرب الباب أسمع الحديث وأراقب ،ولن أنسى كيف برقت عينا
ت أن ل حم ج سدي قد تخ شب ،وك يف تخيل تُ نف سي مارداوالدي ،وك يف شعر ُ
استطالت أظافره وقبض على عنقها وراح ينهشه كما تفعل النسور بالطريدة!!
معا تقوليعن أيتهعا العجوز المخربعة " أنعت أحعق معن الغريعب ،بنعت خالك
أصبحت أرملة ،أنت أحق من الغريب "!.
هل اندفنت مودّة الجسد؟ وخلفت جدارا مخيفا للنفصال وبجراءة ووقاحة
حين رأيته وكاترين ،يسرني بعواطفه قائلً جملته الملعونة "أنا وأمك تآخينا "!!.
يتركني وحيدا أعيد في ذاكرتي ما سمعت ،ويمضي معها إلى بيت بنت
خاله ،وك نت ما أزال أف كر في الب حث عن عراف ليشرح لي ما مع نى كل مة
التآخعي ب ين زوجيعن منعذ أن تفوه بهذه الجملة ؟ فأ نا لم ْع أف هم شيئا! لنعي كنعت
مراهقا ،ومنغم سا في الحواري ش به الخال ية من أفواج الخلئق البشر ية ،رائ حة
النهر ل تغادر ذاكرتي فأغني ،وأمي تطلق صياحها كالدجاجة من الديك الغريب
الذي بدا لها متوحشا ،حين حلق ذقنه وسكب ماء صابون الحلقة على الرض،
ودخل يلبس ملبسه وهو يصفر ويدندن !.
الشيطان يض حك في سراديبه والر جل يغ ني ،ت صاهر وإبل يس واكتملت
نصعف الحكايعة ،والنصعف الخعر المتعلق بالمرأة ،المرأة الصعامتة الممسعوسة
بالليفعة والصعابون والتعي تحزمعت أخيرا بالجرأة بععد أن طاش صعوابها والتعي
صرخت بملء وجع ها - :ل مَ فعلت هذا؟ ،لم ي عد صبرها ك ما كان ،وبأع صاب
باردة يستدير نحوها ،وكأنه لم يفعل شيئا يحدق في وجهها مستغربا من سؤالها،
وبنظرة تعني الكثير من اللمبالة يصفر ويدندن مرة أخرى ،فتزعق:
- 66 -
أن ترجعل ععن مروءة الرجال ،وخرج إلى زمنعه الذي بدأ ،تاركا خلف ظهره
وجها ذابلً ،وأطفالً باهتين!!
أره قت عينيّع وعقلي وقلبعي وأنعا أقرأ تفاصعيل الحرد كمعا فعي كلّ مرةٍ،
صورتها وهي تطوي "بقجة" حاجاتها ،وقد بدت مرهقة وهي تحملها ،لتقول ما
لم تقله من قبل حين تطلق رصاص الحقد :
-ال ينتقم منك يا بن الحرام!.
- 67 -
-8-
أخيرا تركتِع البيعت أمعي ،وبقيعت وحدي معع أخوتعي ،هعل كان قدرنعا أن
ل يوم جمععة ؟! على كلّ حال لم أكترث لخروجهعا ولم أشععر نشاهعد الشجار ك ّ
بالحزن والسعف على رحيلهعا ،بدا إحسعاسي غريبا ،يبدو أنعي معا عدت أفكعر
سوى بنفسي!
شممت رائحة كرائحة النهر حطت على جدران بيتنا فخرجت إلى الشرفة،
وقفت بضع دقائق ثم تسلقت على السطح ،ألقيت نظرة خاطفة على كلّ المباني
وال سطوح ،ثم أ سندت بظهري على حائط مدخ نة كا نت في يوم م ضى صديقة
أنس ٍ ،وجلست مقرفصا تُمطرني أسئلة حارقة الصدى !.
في هذا الز من من ذلك اليوم شعرت بحا جة ما سة إلى البكاء رب ما على
نفسي ،الدموع المحتبسة أسبغت على حزني ضيقا وأرهقتني أهو ثمن الصمت
على الصداقة التي تعاهدنا عليها ؟.
أ مْ هو من ذلك العتراف المائع الذي سقط في نف سي راكدا "أ نا وأ مك
تآخينا ،ما عادت تنفعني"!.
حيعن تذكرت هذه الجملة قرععت فعي داخلي طبول الذععر معن المجهول
القادم ،أنا أحقد على أمي ل أحبها ،لنها خلقت في نفسي نحوها صمت الظلم
من اليوم الذي أف شت ف يه ب سر علق تي مع نوال وت سببت بأذ ية مشا عر جارت نا
يوم طردتها!.
أغمضعت عينيعّ ،ل أريعد الضوء ،العالم صعغير وجاف وممتقعع اللوان،
- 68 -
الكرة الرض ية تط بق على نف سها ،تم سح سمات الب شر ،أق فز عن مكا ني فزعا
مثل فزاعة خوفتها الريح فسقطت ،لحظة ألقت جرادة كبيرة بنفسها على جيب
قميصي فوق صدري ،في اللحظة تلك شعرت بالخوف فقلت :
-يا إلهي ماذا أفعل؟!.
تمال كت أع صابي وتمل كت ربا طة جأ شي وبحرك ٍة ما من ع صا صغيرة
كانت بقربي حملتها ،أزحتها بها ،فتنحت عن الجيب ،و طارت تاركة خلفها قلبا
يخفق بشدةٍ.
ت حر ية من خروج أ مي أ صبح ت من صمت الظلم ،ا ستشعر ُ فجأة تحلل ُ
الجو ملكي ،جو اللقاءات السرية ،سأفعل ما أريد مع نوال سأغفو وأستيقظ على
لذيذ حبي ،سأدفن شقاء نفسي على صدرها ،لن أخاف من شكاوي أمي إلى أبي
وتشويش ها على جارت نا ،ولن تكون هناك سطوة من أ بي على سلوكي مع من
أحب وأمني النفس بلقائها أصبحنا أنا وهو أحرارا ،ونحن أصدقاء ،ألم نتفق ؟!،
يا سلم ما أجمل أن تكون حرا ،لست أدري لماذا راودني هذا الشعور ؟!.
ت وحين رأيت انبثقت حين نزلت أزعجني أن أرى دموع أخوتي تنسل بصم ٍ
من قل بي عاط فة حنان ،حملت مازن ال صغير ،قبل ته أجل سته في حض ني ،راود ني
شعور غر يب في أ ني سأفتقده ،بل سنفتقده جميعا فأح سست برعدة الخوف عل يه
وكانت نابعة من حبي له" ،تُرى ما مصير ذلك العصفور المكسور الجناح؟!"
في هذا اليوم المقيت لم أفكر بالخروج ،ولم أفكر بعمل أي شيء حتى هو
لم يفكعر فعي دعوتعي إلى اللحاق بعه ،فقررت أن أعيعش فترة اسعتراحة خاصعة،
سأحاول النوم ولن يكون هناك ما يع كر صفو الن فس ال تي بدأت تش عر بالحر ية
من عدم وجود الن كد وال صياح والشجار وكل مة ل تدوس ه نا ،ال بس ال صندل،
اغ سل يد يك ورجل يك ،ن شف يد يك بهذه ورجل يك بتلك،الخوة هادئون ،وفريدة
كالملك ل تحدث ضجيجا،إذن أصبحت سيد هذا المكان والزمان لهذا قلت :
-أنا سأنام ل أريد أصواتا ،أفهمتم؟!.
فوق الصمت لذ الجميع بالصمت ،وما إن وضعت رأسي على "المخدة "
حتى رحت في سابع نومة كما يقولون!
بعد الظهر ر نّ الجرس ،كن تُ قد استيقظت ،فتح الباب أخي ناجي ،كانت
- 69 -
هي ،عجوز المقت تزحلقت نحونا فقلت في نفسي من دون أن أنظر في وجهها،
هذه المسيطرة ستجد مال كانت تحلم به!
ا ستقر في ح سي أ ني سأداعبها كثيرا كي تجترع اللم الذي ت ستحق "أ نت
أحق من الغريب".
المتشد قة بألقاب "ال ستات" " ،ستات" ال سهر والثرثرة وض عت حاجات ها في
خزانة أمي وراحت تتزين بالمرود قائلة:
-الكحل العربي مع الليمون يفيد جفون العيون.
ل عن
قالت هذا ،واستقر وضعها على البقاء معنا ترعى شؤون البيت كبدي ٍ
أمي ،ولن العيون الدامعة أصابها الحمرار من شدة البكاء فقد خيّم على أخوتي
تردد العويل في أعماقهم داخل هاوية النحيب المغلق!.
وبدأت عذابات ال صغار ت كبر ومعانات هم تظ هر ،فأ خي مازن الذي صار
عمره ثلث سنوات تعلق بجدتي ،بعد أن نسي ترديده كلمة "بدي ماما" ،وأختي
فريدة أ صبحت تقوم بأعمال أ مي ،ما عدا ط بخ الطعام ف قد تول ته جد تي بمعو نة
جارت نا أم نوري ،وأخواي رضوان ونا جي أ صبحا مهمل ين لدر جة تج عل جد تي
تترك البيت وتنزل إلى الجيران كي تفضفض عن وحدتها وهموم مسئوليتها إلى
الجارة أم نوري ،أو الجارة أم فت حي المقابلة لب يت أم نوري ،وكثيرا ما سمعتها
تبدي ا ستيا ًء من مقابلة أم فت حي ل ها بجفا ٍء ذلك أن المرأة ته تم بتعل يم أولد ها،
وتتابع تفوقهم الدراسي بفخر أمام جاراتها ،وفتحي وهو كبير أولدها ،كان قد
صار في ال صف التا سع العدادي ،وأ نا قد أ صبحت أملك شهادة احتراف في
معرفتي لشوارع حلب العريضة وحاراتها الضيقة !
حيعن أذكعر ذلك اليوم المشؤوم ،أذكعر كعم كرهعت والدي وجدتعي ،وكعم
حقدت على أمعي !! نععم حقدت على أمعي حقدا عظيما ،أنعا أختصعر الزمعن،
أختصر التفاصيل ،فالتفاصيل بالنسبة لي قشور لحظة ،حجة واهية لتبرير الكثير
من الشياء وأ نا ل أر يد ال تبرير ،أر يد ت سليط الضوء على جو هر الشياء وإن
كا نت مظل مة ،فالضوء كان مجرد كذ بة خد عة من أ صحاب ال صناعات ،الم هم
اقتربعت معن وجهعه ،تفحصعته شعور طاغ أقحمنعي فعي بكاء كمعا النسعوة معن
الجيران ،وح ين و صله ال خبر ،خبر موت مازن ،د خل يل هث ،وح ين ن ظر في
ت عالٍ وضرب بكعف يده وجهعه وشاهعد الجسعد الصعغير المسعجى بكعى بصعو ٍ
- 70 -
ل الملمة ،استشعرترأسه ،ثم راح يصرخ في وجه أمه ،يلقي بالملمة عليها ك ّ
في هذه اللحظة كراهية و أحسست بالغربة " هذا ما كنت تريده أنت وأمك "؟.
يحق لي الن أن أتفلسف ،ولني أريد الفلسفة اسمحوا لي أن أقول لكم أن
من صنائع ال ستبداد أن يموت الطفال! وهذا آ خر العنقود ي سقط صريع فراق
زوجين لم يجمع بينهما الو ّد والتسامح والصبر على بعضهما !!.
كان الباب مفتوحا وحين أراد ذلك الطير الصغير أن يلحق بجدته إلى بيت
أم نوري تع ثر على الدرج ف سقط على رأ سه لي صيبه ك سر في الجمج مة جعله
يموت في الحال.
كنتع عنعد السعمان أشتري دخانا ،لم يخط ْر فعي بالي أنعي
ُ حيعن وقعع الحادث
سأركض مثل المجنون لجد أصغر إخوتي ابن الثلث سنوات مصبوغا برائحة الدم!.
فعي الطريعق إلى المقعبرة وبععد أن غسعلوه وكفنوه انهمرت معن ثقوب قلبعي
ع غزيرٌة وأنا أذكر ملمحه البريئة وصوته الحزين "بدي ماما " أو لنعترف أنه
دمو ٌ
في الفترة الخيرة صار يقول " نانا تش" معبرا عن رغبته في الخروج معها!!
ت من الخوف والنقباض وأنا أقف مرتعشا، أعارني الدفن أن أعيش لحظا ٍ
موتع وكفعن ٍ؟ أم خوفا معن ذلك
ٍ هعل كان خوفا معن القبور؟ أم خوفا معن كلمعة
الشعور الذي راودني من تلك اليد الغائبة الن ،والتي خاطت الكفن لعمتها قبل
ت ما سمعهاطلقها بشهرين! ،كنت معها وكانت وهي تخيط الكفن تدمدم بكلما ٍ
أحدٌ ول سمعتها أنا!.
قرب قبره ناديتها قائلً :
ت لّف أخعي
غليظع القسعما ِ
ُ -انظري هاهعم يضعونعه تحعت التراب ،رجلٌ
بالكفعن ،وضعوا القطعن على عينيعه وأذنيعه،أل تريديعن رؤيعة ولدك المقتول
والمدفون الن! مازن رحل،غادرنا بل رجعة ودون حضورك!
سأشتري الض حك عل يك ب ما تب قى من عمري لراك ف قط وأ نت تشهق ين،
تشدين شعرك ،تقعين ،تحاولين الخروج والجري نحو المقبرة وقد أصاب عقلك
س من الجنون وأنت تنبشين القبر لضمه إلى صدرك كما فعلت جدتي قبل لفهم ٌ
بالكفن!!
- 71 -
أسبوع مضى على موت أخي مازن وأخوتي مأزومون تفرج عن كربتهم
هذه الحولّء البدينة التي ما عادت تفارقنا فقد وجدت من توافق مع طباعها في
التزاور والثرثرة التافهة في سرد ما لم تنفرد به نفسها.
وأ نا بح كم علق تي مع نوال وال تي لم تنق طع كان من ال طبيعي أن أنت هز
فرصة هذه الموّدة بين جارتنا وجدتي كي أحقق منالي من لقاءات الحب والتلذذ.
س أن
ولكن ماذا ح صل مع أ بي في م سألة ب نت خاله الرملة ؟ فأ نا لم أن َ
أتلصص ليلً وأفتح أذن يّ جيدا للتقط ما يهمني أن ألتقطه ففي ذات ليلة ماطرة
ي ما أراح ذاكرتي التي أجهدها التفكير في هذا الموضوع : التقطت أذن ّ
-بنت خالك رافضة الزواج ،قال نذرت نفسها للولد.
حينذاك ابتسعمتُ خلسعة وأنعا أراه ينسعحب إلى فراشعه مقطعب الحاجعبين
عابس الوجه لغرق في نوم ٍ مريح ٍ ومريح جدا.
فريدة يا أخي تي لن تفلح زفرا تك الحزي نة في إقنا عه على زيارة ما ما من
أجل عودتها ،أل تشاهدين حبكة ما تصنعه جدتك؟ ،قلت هذا في سري وغادرت
البيت صباح اليوم التالي!
في قنو طٍ حاول نا التأقلم مع هذا الوا قع المفروض علي نا وكا نت الوشي جة
التي تشدني إلى السكوت على ما حصل بينه وبين أمي أنه تركني أعيش حرا
بل رقي بٍ ،وبل محاسبة أقضي له بعض أشياء للمحل ،ثم أعكف على الدروب
المتعر جة مع رفا قي نزور الحدائق ،كلّ الحدائق أ صبحت تعرف ني ،وأ صبحت
أعرفهعا ،ولكعن إلى أي حدّ تبلغ بعي السععادة فرحهعا الذي ضيععت معن أجله
مستقبلي؟.
ارتجيت من اليام أن تمضي على هذا النمط من الحياة لك نّ رنين جرس
الباب الذي أفزع الجم يع ،والذي كان م ثل نع يق بو مة ب صقت بح تف الفرح ثم
توارت ،كان نذير شؤم!
فتعح الباب أخعي رضوان ،ودخلت جارتنعا أم نوري ،دخلت على غيعر
ي أنا بالذات وأنا أرى وجهها كأني أرى وجها لممثلة في فيلم
ل إل ّ
عهدنا بها ،خي ّ
رعب أخافني شكله ،كانت مصفرة الوجه معقودة اللسان ،منكوشة الشعر ،وأول
من استقبل وجلها واضطرابها الذي أذعر الجميع والدي فسألها:
- 72 -
-خير يا جارة ،خير ما المر؟
بلعت ريقها ثم قالت:
-تعيش أنت!.
قذ فت بالكل مة بتحشرج جعلت قلوب نا تد مع ق بل أعين نا ،بدا ية ال مر ح سبنا
أن من توفي زوجها ،وحين استردت أنفاسها بعد أن جلست على الريكة عرفنا
أن المتوفى جارنا في الطابق الثالث!!
وكأني مازلت صغيرا في عمر رضوان ابن العشر سنوات اقتربت منها
وسألتها:
-كيف مات؟
تنهدت ووجه ها الممت قع أثار خو في أك ثر من أي و قت م ضى ،وب عد أن
بلعت ريقها مرة أخرى قالت:
-جلطة على القلب!.
قالتها ومسحت دمعة انسلت من عينها ،فلم أتردد في أن أسأل ثانية:
-هل سيضعونه داخل التراب مثل أخي مازن؟.
أجابتني وغصص من الدموع تكاثفت في عينيها ثم هطلت:
-كلنا لها ،آه ال يرحمك يا أبو محمد !.
ح ين تذ كر والدي و جه الر جل ،جلس أمام ها ي سأل كم عمره ،و هل عنده
أولد ،و هل كان منزعجا ح تى أ صابته الجل طة ؟ ثم وبهدو ٍء ا ستدار نحوي ب عد
ت وقال : أن عرف بعض التفاصيل التي شغلت ذهنه بعض وق ٍ
" -الجار له على الجار حتى ولو جار" ،اذهب إلى المحل ول تخرج حتى
أحضر!
لن أنكرَ أن حالة ً ما قد غزت حا ستي ،أث قل قوله هذا كاهلي لماذا ل ست
غامضع سعاق
ٌ أدري ؟! المهعم أنعي خرجعت ،لم أقصعدْ طريعق المحعل ،شعو ٌر
خطواتي نحو مكان آخر فقصدتُ طريق المقبرة ،مقبرة "ميسلون" ،زرت قبره،
- 73 -
ألق يت بقائ مة أحزا ني ع ند شاهدة رأ سه من دون أن أب كي ،وعدت إلى وظيف تي
التعي أعمعل فيهعا بل أجعر ،لنعي آنذاك قعد اعتدت أن أمدّ يدي وقتمعا يحلو لي،
منتظرا مجيئه.
كل ما شم مت رائ حة الن هر تجري في ذاكر تي ت ساورني نف سي في أن أمدَ
يدي إلى درج الغلة ،آخذ ما يفي بحاجتي ثم أغادر حين يحضر!.
بعد خمسة أيام ٍ من وفاة جارنا الذي ل أعرفه لني لم ألتق به ،كبر تعبير
الحتقار مقتا في دوائر رو حي وعقلي وأدر كت حينئ ٍذ أ ني لو أ ستطيع ق تل أحدٍ
أو سعرقته لمعا وجدت غيعر أبعي وجدتعي ،حاولت فعي تسعكعي أن أنسعى بععض
الو قت أجاج الغليان الم ستشيط لع نة ورج مة في تلف يف ذاكر تي فجد تي مح طة
الوصعاف السعحرية جعلت الصعنّارة تغمعز ،ففعي المسعاء كانعت تجلس قربعه
وتسعهب فعي وصعف الرملة معن ناحيعة شكلهعا وحسعن خلقهعا وصعبرها على
محنت ها ،و ما ا ستلفت انتبا هي ب عد عدّة الرملة و هي أرب عة شهور وعشرة أيام
هذا التزاور وتلك السهرات التي كانت تطول إلى ما بعد منتصف الليل ،فالرجل
طلب يد الرملة وأصبحت خطيبته من دون علمنا.
حين علمت من نوال بسر هذه السهرات لم أن ْم في تلك الليلة أصابني ما
يصيب أهل الغابة من خسوف القمر ،فجلست أنتظر عودتهم وأنا أدخن ،كنت
أدخعن السعكائر بنهعم غيعر طعبيعي ،فالجراح المتغلغلة فعي صعدر المغلوب على
أمره كانعت تجعلنعي أنزف بسعكون داخلي ،وحيعن تأخعر الوقعت ولم يحضروا،
خرجعت معن المنزل ورحعت أمشعي فعي الشوارع المسعتقيمة والمنكسعرة ،حتعى
وصلت ساحة "سعد ال الجابري".
عيف تارة وتارة
عة بدأت ألف وأدور ،أجلس على الرصععي تلك المنطقع
فع
أخرى أتجول حتى وجدت نفسي داخل سيارة جيب سارت بي مع خمسة أولد،
ثلثة منهم في مثل عمري والرابع أكبر ،والخامس أصغر.
في القسم سألني الضابط المناوب :
-اسمك؟
-غالب عبد الوكيل الدليل.
-أين تسكن ؟
- 74 -
-في حي الميدان
-أين؟
-قرب دار العجزة
-هل تعمل ؟
-نعم ،أعمل مع والدي.
-ما عمل والدك ؟
-صاحب محل.
أصلحت من جلوسي وملت برأسي نحو السفل وسألت نفسي " :هل كان من
ي أن أكذب عليه ،كي ل أتورط بإضافة دائن جديد على دفتر أبي؟ ".
المفروض عل ّ
حين استدّل رجال الشرطة على مكان المحل وأخبروا والدي بوجودي في
ق سم باب الفرج ر فض التعرف عل يّ وأ خبرهم أ ني لص أ سرق الغلة وأت سبب
بفضائح مع بنت الجيران ،وهؤلء الذين عادوا وفي أيديهم هدايا للبيت وللولد
كتبوا فعي المحضعر أن الوالد يتهعم ولده بالسعرقة لجعد نفسعي مسعاء ذلك اليوم
الماطر سوادا في دار الحداث !!!.
ثل ثة شهور قضيت ها في الدار ،تعل مت في ها الشياء الكثيرة وشاهدت في ها
الشياء الكثيرة ،وحف ظت في ها الوجوه البائ سة واليائ سة من الدن يا وح ين زار نا
المر شد الجتما عي ل فت انتبا هه بر يق عين يّ ،وح ين أزعج ته ضحك تي النافرة
طلب ني إلى غر فة الملح ظة ،وح ين سألني ال سئلة ال تي ذكرت ،وح ين ات صل
بوالدي وأقنععه بضرورة التخلي ععن شكواه واتهامعه خشيعة معن تأزم الموقعف
أكثر ،وحين تنازل الوالد عن حقه جاء لزيارتي وهنأني على خروجي وطالبني
ل لي: في البحث عن عمل ٍ حسب ميولي قائ ً
-أ نت ولد حاذق ،نظ يف الع قل وتحتاج إلى ش غل نف سك ب ما يتنا سب مع
امتيازاتك ،مدير الدار يشكر فيك نباهتك في تعلم صنعة النجارة بزمن ٍ أدهش
معلم الحرفة الذي يعمل لصالح الدار ،وهذا كله دليل شطارتك وعليك أل تفوت
الفرصة ولسوف أزور أبيك كي أسأل عنك لطمئن أن وساطتي ونظرتي كانت
في محلها.
- 75 -
الرجل قبلني من رأسي وهو يودعني ،ووالدي لم يقبلني وأنا أخرج معه
من الدار بعد غياب ثلثة أشهر وخمسة أيام ٍ.
ح ين خر جت من الدار وذه بت م عه إلى المنزل ال تف أخو تي من حولي
فرحين بعودتي ،ما عدا جدتي التي تجهم وجهها وبدت لي في ذلك اليوم كأنها
خائفة من شيءٍ ما !؟.
المرأة مع ها حق في أن تخاف وتضطرب فولد ها قد تزوج من الرملة،
في غيابي الرجل تزوج ،وهي زغردت ،وفي غيابي بكى أخوتي كثيرا ،والن
أل يحق لي أن أبدأ المعركة ،معركة الخذ بالثأر حين سمعت بالخبر الذي ثقب
أذني ساخنا شعرت بنفسي أتحول وبالمدينة نائمة وبفحيح النتقام يحتجز أرقي
وجفوة نومي من دبيب الصور في تلفيف ذاكرتي!!.
وح ين تحر كت الديوك بال صياح ،خر جت من المنزل وزح فت ن حو سوق
ظ بالناس
الجم عة ،كا نت هذه هي المرة الولى ال تي أم شي في ها في سوق مكت ٍ
على هذا الش كل ،هاب ني زحام البائع ين بتل صقهم الحز ين في أ صوات متداخلة
مضطربة مضطرمة.
على طر في الطر يق كا نت البا عة ت صرخ ،تنادي ،تلت قط الزبون ،وك نت
أفتش عن بائع يبيع السكاكين الحادة ،فجأة برق في ذهني العدول عما جئت من
أجله ،فرجعت إلى المنزل حوالي العاشرة!
ي وأنا أدخل عليهم وربما كانت
فرح أخوتي حين شاهدوا ما أحمله في يد ّ
المرة الوحيدة في حياتهم ال تي جعلت هم في ها يب سمون على هذا الشكل ب عد طلق
أمي وموت مازن وزواج أبي!.
ورغم الحزن في نظرات الطفولة فقد اقترب ناجي من الحمامة البيضاء،
مدّ يده كي يم سها ،ارت عش ،ثم ابت عد با سما فض حك الجم يع ما عدا جد تي ال تي
ظلت واجمة يكسو الضطراب ملمح وجهها.
ولني عدلت عن شراء سكين للذبح واشتريت حمامتين فقد ألقيت خطبة
داخل سكون قلق روحي المظلمة قائلً من دون أن أحرك شفتيّ :
" أخو تي سامحوني ،ل تراقبو ني ،ل تنظروا ،فشيطان النتقام يزم جر في
داخلي بزمجرة تسدّ نوافذ إنسانيتي كلّها سأكون الن أحد أبطال فيلم حقيقي ،ينفذ
- 76 -
مشهدا حيا" ،وبقبضةٍ جنونيةٍ حاقدةٍ شديدة اللؤم أمسعكت بعنعق الحمامعة البيضاء
ولويته بعد أن صرخت:
-هكذا تكون الحياة!.
عل صراخهم فجأة من الر عب الذي انداح في قلوب هم فبدؤوا ي صرخون
بلوثٍ مثل المجانين ،وأنا مغتبط النفس على صياحهم وارتجاف أيديهم ،يفترسني
ذلك الفرح الذي أثار ذععر جدتعي عندمعا ألحقعت بالحمامعة البيضاء السعوداء
أيضا!!
الب يض وال سود ما تا ،أيه ما أ بي؟ وأيه ما زو جة المرحوم جار نا؟ أيه ما
جدتي ؟ وأيهما أمي ؟.
اثنان لربعة وأربعة في اثنين ،عملية حسابية غير معقدة ل تحتاج إلى حل
حسابي !.
تركتهم في ذهولهم ضاجين بالبكاء ،وخرجت بعد أن صفقت الباب بعن فٍ
ومضيت نحو الحديقة العامة.
كن تُ غاضبا لم أر تو م ما فعلت ،وكن تُ بحاجةٍ ما س ٍة إلى ش خص ٍ يش به
إلى ح ّد ما المر شد الجتما عي ل قص عل يه فعل تي ال تي لم ترو ظ مأ الح قد الذي
كان يغلي فعي داخلي ،لم أكعن بحاج ٍة إلى واح ٍد معن الشلة لكننعي وجدت أحدهعم
يت سكع كعاد ته ،فنادي ته ،ا ستدار ن حو صوتي واقترب م ني ،ت صافحنا ك ما يف عل
الرجال ثم سألني:
-ما بك؟ تبدو متوترا أصفر الوجه!.
حكيعت له معا فعلت ،علنعي أزيعح كابوس الحقعد ،أصعابه الذععر معن قوة
أع صابي و من فعل تي الدمي مة! ،فأ كبرت ف يه أن يعترف أ ني شد يد البأس قا سي
القلب!.
كالعادة بدأ نا ندور في الحدي قة ،نجلس تارة ،ونم شي أخرى ح تى و صلنا
إليع نفسعي بسعرقة امرأة
ناحيعة الباب الذي يطعل على شركعة الكهرباء فسعولت ّ
كانعت تععبر الرصعيف لتدخعل معن باب الحديقعة ،فغمزت صعديقي ،فهعم عليعّ،
بسعرعة خطفعت محفظتهعا وجريعت ،تسعلق صعراخها أوجاععي ،زاد معن تدفعق
- 77 -
ذنبع اقترفتعه هذه المطمئنعة فعي سعيرها
ٍ أحزانعي وأحقادي ،فأسعأل نفسعي أي
لخ طف محفظت ها وأجري يلزم ني في الر كض رفي قي علي ،ب عد أن ابتعد نا
عنها المسافة التي ما عاد صياحها يصلنا!!
بعد النزول من منعطف شارع المحطة ،مشينا بهدو ٍء باتجاه الحديقة الصغيرة
خلف مباني منطقة محطة بغداد ،فتحنا المحفظة ،لم نجد فيها سوى مئة ليرة وبعض
أشياء تافهعة فرميعت بالمحفظعة على الرض ،تابعنعا المشعي على رصعيف جامعع
التوحيعد ونحعن صعامتان ،كان بائع الجوارب يم ّد بسعطته وبائع الكتعب يجاوره،
أعطيت عليا المئة ليرة وتركته ،ومضيت وحدي نحو حديقة ميسلون.
قبل منتصف الليل عدت إلى المنزل معكر المزاج ورائحة النهر ل تغادر
ذاكرتعي ،وكيعف تغادرهعا وغيظعي معن جدتعي وفعلة أبعي بزواجعه يُدوي فعي
صدري مثل قنابل في صحراء خاوية!.
تلبسني الرق ،تركت الفراش وصعدت إلى السطح ،المداخن تحت ضوء
القمر عرائس ترقص أمامي ،تتعرى ،استللت سيكارة من علبة التبغ ،أشعلتها،
ورحت أنفث الدخان ،أمتص دخان السيكارة ،أنفثه ،يحلق في ضوء القمر مثل
جنية ،أضغط بشفاهي على السيكارة ،أضغط عليها بأسناني ،أقضمها كأنها شفاه
نوال ،الكون من حولي كله يجتمع في السيكارة،أرى فيها نوال ،ألمس صدرها،
أعتصره ،وأنا أمتصها ،أرفعها إلى أعلى ،تنتصب بين أناملي ،النار في رأسها
تتقد حمراء لهبة ،نارها تسري في عروقي ،تشتعل أعضائي ،تلتهب ،أطفئها،
أدوسها بقدمي ،أسحقها.
أرجع إلى الفراش أنام ،أحس أني فعلت شيئا ما.
صبيحة اليوم التالي ا ستيقظت عند الضحى يأ كل الرهاق روحي ،وح ين
رأ يت وجه ها ا ستعذت بال من هذه النظرة المري ضة فتجاهلت ها وأ نا أك تم في
داخلي حقدا لبدّ وأن تتجرع منه اللم الذي تستحق!!
نه ضت أج تر قو تي ب صعوبةٍ ،اقتر بت من آلة الت سجيل ،ضغ طت على
مفتاح الصوت ،دورته حتى النهاية ،فرقع الصوت بأنغام "الديسكو" التي يروق
لي أن أ ستمع إلي ها ،كا نت المو سيقا صادحة ؛ هذا ما أريده ،ه يا يا أولد ،ه يا
سنحتفل اليوم ،سنبارك زواج البابا ،كنت غائبا يوم تزوج ،ولن أنسى أن أبارك
له ،هيا سنرقص معا !!.
- 78 -
أرعدت الموسيقا في حيطان البيت ،نظروا نحوي ،بدأت أرقص ،تكهربت
أعصاب جدتي ،زجرتني ،وبختني ،توبيخها أزعجني ،لكني لم أكترث ،لن أبالي
بتهديدها:
-سأشكوك ،ولن أسكت على أفعالك!.
استلقيت على الرض وبدأت أهز جسمي ،أحرك عضلتي ،يد يّ رجل يّ،
يا للفرح! ،ان ضم أخو تي إل يّ يشاركو ني الر قص ووجه ها الممت قع يزداد صفرة
عند ما أج عل رجل يّ توا جه مكان وقوف ها متخش بة كأن صاعقة م ستها ،بودي أن
أؤذي كبرياءها كما آذت مشاعرنا!.
الرقعص لذي ٌذ وممتععٌ ،معا ألذ متعتعه فعي منزل مسعكون بالقهعر والهجعر
والضياع! ،ما أجمل أن تكون ملك الضجيج! تتوافق مزاجية حركاتك مع أوتار
اللت الموسعيقية ،وقائد الفرقعة بإشارة معن عصعاه يعطعي التعليمات ( اقتعل
عيع ضربا ،ل ،حنوا ،أخيتع عوداء ،احرق البيضاء ،بقوةٍ اضرب عْ ،اعزف ْ السع
ارقصي ،هزي الخصر بلين ٍ تعلمي فن الرقص لتكوني بارعة تفوق في رقصها
أبهى راقصات العالم!.
في السلم الموسيقي علمات هامة تشكل"نوتة" يعتمدها العازف في إيقاعه،
وح ين تتدحرج النغام في خلياه و قد اندا حت م ثل بل سم ،يه يم في عز فه و هو
ط انخراط الخل يا في الج سد ،يت صبب عرقا ،ل ي صحو من انغماره في منخر ٌ
ملكوت جوانيته حتى يتوقف عن العزف!.
في هذه الدقائق ال صارخة د خل علينا فجأة ،لم ن سمع صوت المفتاح و هو
يدور في القفل ،وبغضبٍ من تسلط النقمة والسخط صرخ فينا:
-ما هذه الضجة؟ قلة أدب ،هذا الذي كان ناقصا !.
نظرتُ في وجهه بالقسوة ذاتها ،هاربا من نظراتي قال:
-مساءً سأمر وآخذ المسجلة.
قالت أختي:
-ونحن بماذا نتسلى؟.
- 79 -
اجترعت كأس القهر من ردة قولته:
-بل قلة أدب!.
الن واليوم بالذات وبععد هذا الحدث الشيعق أعتقعد أن عدة الصعداقة قعد
انت هت مدت ها ،انكش فت براع ته في ك سب مودّ تي ب عض الو قت ،ها هو يجر ني
وراءه مثل أضحية العيد ،يتركني داخل المحل ،وبادعاءٍ فيه كذب ما عاد خافيا
على ذاكرتي يقول:
-لن أتأخر سأقابل التاجر وأعود على الفور!.
ح ين ترك ني وم ضى ،ض جت في داخلي سخرية حادة ،مؤ كد أ نه اشتاق
إلى رائ حة ج سدها ،الر جل ما صدق! رائحت ها م سكونة في عين يه ك ما ت سكن
رائحة النهر في ذاكرتي !.
صدق حدسّي ،الرجل تأخر ،ولني أردته أن يعيش لحظات غيظٍ مزعج ٍ،
فقد استشعرت فرحا خفيا وأنا أراه يصرخ فور دخوله المحل:
-ما هذه الرائحة؟ ...أفْ ...هل تبرزت هنا؟ ابن "الشرمو" وابتلعها!!
حدجتعه بنظرات تقتعص منعه وشائج اللذة التعي سعكنت فعي داخله وبهدوءٍ
بارد ٍ قلت:
ع شديدٌ ،لم أحتملْ ضبعط نفسعي ،والجامعع كان مغلقا
-أصعابني مغص ٌ
فاضطررت إلى أن! ...
-ال يأخذك ،ولد وقح ،هيا،انصرف من وجهي " اتفوووو" !.
هززت رأسعي ولويعت رقبتعي وأنعا أخرج ،فاحتضنعت نظراتعي القطعة
والر صيف ،وخوف غا مض تلع بت به أوتار قل بي وعقلي في ذاكرة سكنتها
رائحة النهر وأنا أسمعه يقول:
-تدبرت لك عملً ،غدا ستعمل في ورشة خياطة بالسيد علي.
المركب المثقوب ابتعد عن الشاطئ ،تأرجحت من تسرب المياه هيبته ،ما
ل ش يء ف يه مال ن حو التل شي وك يف ل يتل شى
عاد يعني ني وجوده ،ا سمه ،ك ّ
ل مساءٍ يمر مرور الكلب ،يعوي ببضع كلما تٍ ،ويقذف في حضن أمه وهو ك ّ
- 80 -
فتاتا من الغلة المعدنية ،ويسارع إلى غرفة الهناءة في حضانة متعة الجسد الذي
ُحرّم منه طوال أربعة عشر عاما في معاشرته لمي أما قال لي:
-أنا وأمك تآخينا!.
ت أنا إلى ذئبٍ صغي ٍر شرير ٍ!
ولنه تآخى مع أنانيته ،تحول ُ
بل مراوغة وبل نفاق ل تأخذ من المتع المباحة أي شيءٍ ،لهذا كان عل يّ
أن أ ستمر في تمث يل دور الم حب الوله لح قق مبت غى رو حي في لقاءا تٍ من
التلذذ ضمن فراغ الدرج و سط الظلم! وأمها هذه المعتوهة والتي كا نت رهي نة
سهرات جدتي ،خاصة عندما يكون عمل زوجها مسائيا ل تسأل عما إذا كانت
بنتها داخل البيت أمْ خارجه! لهذا كانت تمارس مع من أحبت طقوس الحب !.
نفذ قوله بالكراه بعد أن تدبر لي العمل في ورشة خياطة كما قال ،حينئ ٍذ
كان لب ّد من الل عب على طريق تي ،ح تى د خل علي نا ك من كان في عرا كٍ مع
البالسعة ،نظعر فعي وجوهنعا تفحصعها ،أشععل سعيكارة حمراء طويلة ،سعارعت
أختي ووضعت المنضدة الصغيرة أمامه.
ت أن في المر شيئا خطيراجلست جدتي أمامه تكاد أن تلتصق به ،أدرك ْ
يخ صني ،وب عد هد نة من ال صمت والفح يح انطلق صوته ك ما الترياق من فم
أفعى:
-ول ...ك ...ا بن الكلب ...أ ين ك نت يوم ال حد ال ساعة العاشرة م ساءً
في حي الشيخ مقصود؟.
شعرت بأرض الغر فة تدور ،هوت بي أفكاري إلى بئ ٍر مهجورٍ ت عج ف يه
وطاويط الليل " من أين عرف أني كنت هناك؟ من أخبره؟ "
ومن دون أن ترف عينه ،كرر السؤال بصيغة أشد قسوة!.
حل فت كذبا وا ستنكرت ما ذكره ،وح تى ل يف قد تواز نه في لح ظة غض ٍ
ب
ونفورٍ ،وحتى ل يبدو أكثر تفاهة مما مضى ،نهض من مكانه شدني نحوه وهو
يسألني بلهجة المحقق الغاضب:
-قلْ الحقيقة ،لن أضربك ،فقط احكِ الصدق؟.
- 81 -
ل كهذا كان يحتاج إلى خلوةٍ انفراديةٍ بيعن أب وولده،
الجواب ععن سعؤا ٍ
أمع أنعه يحاول الشهار بعي كعي تسعقط أيعقعل أن يكون غعبيا إلى هذه الدرجعة؟ ْ
مسؤولية جنحتي الشائنة عن هويته؟!.
ف كهذا ،وكدت أ صرخ وأ نا ب ين
وقتئ ٍذ ض حك القلب ساخرا من غرا بة موق ٍ
ساعديه ،أحاول الفلت لر قص ،لخ طب ب ين الناس ،من سيسأل من؟ هل أ نت
أ بٌ؟؟ أتخاف على اسمك من عورة أفعالي ؟ يا رجل ل تقلها كي ل يضحك الناس
عل يك! القلب الم سفوك د مه يض حك ب صمتٍ ،من المتخلي؟ من طلق المرأة ال تي
ف مخج ٍل ل يليق بإنسان يدعي البوة؟!.
تآخى جسده مع جسدها كما قال بتعس ٍ
الحقيقعة الظاهرة بعري قهرهعا المتعري علنيعة تقول غيعر هذا وتجعلنعي
أشعر أن الصدأ النتن قد خيم على ذاكرتي ،ول ب ّد من وجود فرصة للمواجهة
معن أجعل القصعاص ،وقبعل أن أفكعر بطريقعة تتناسعب والقصعاص ،وبالجملة
المباغ تة ال تي تخترق صدر البوة النائم على النأي والهجران ،جاءت ني صفعة
جعلتنعي أدور ،كادت الرؤيعة تتلشعى ودون أن التقعط أنفاسعي توالت لكماتعه
وصرخاته ولعناته ،فأح سست بال صوت يئز في رأسي مثل رصاص ٍاندفع من
قلب رشاش ٍ ،وجدتي الصاغرة كلّ الذي فعلته أن قالت:
-ياعيب " الشوم "!
وأخوتععي المتكورون كانوا مثععل أوراق ٍخريفيةٍ ذابلةٍ يذرفون الدموع
بسكون ٍتحترق من أجله القلوب!.
ل عن ا سمه في وجوده ووجوده في ر غم الها نة من ت صلف هار بٍ متخ ٍ
اسمه ،ورغم الضرب المهين تحركت رائحة النهر في أنفي ،فأيقظت ذاكرتي،
فا ستغربت م ستهجنا صمت جد تي تلك ال تي كا نت تتحدث بل نها ية في ز من
أ مي! ،ورب ما كا نت هذه هي المرة الولى ال تي آثرت في ها عدم التد خل كي ل
تصاب بالجنون مما أفعل بها بعد مغادرة أبي!.
أبعو سعليم شاهدنعي وأنعا أخرج معن البيعت الذي كان يقصعده هعو الخعر!
الرجل كان يخون زوجته وفي هذا ل يحق له أن يعتدي على حقوق غيره ،لهذا
ت أن أرد على وشايته إلى أبي بإفشاء
أضرمت في صدري الحقد عليه ،وأقسم ُ
سره إلى زوجته ولكن في الوقت المناسب!.
- 82 -
ب عد خرو جه ،أ سلمت ج سدي المن هك إلى الفراش ،فأح سستُ باللم تنغلُ
نمتع دخلت فعي عالم الحلم،عالم لُ فعي جسعدي ،جاهدا حاولت النوم ،وحيعن
تقدر أن تتحكم بقدراته ،ول حتى يمكنك أن تخطط لصورته في شيءٍ تشتهيه،
فالذي يح صل وتراه ُيك تب روا ية و هو في الحقي قة وم ضة من ع قل الحر كة،
العقعل الذي ينقلك إلى عالم ٍ خاص ٍ ترتبعط رؤاه الناطقعة بأحاسعيسك الباطنيعة
لتشارك شخو صا ل تعرف هم أو قد تعرف هم ،هذا الكلم قرأ ته في مجلة عرب ية
ت من البحر ؟!.ت قد اشتريتها من بائع "كشك" يوم عد ُ
كن ُ
فعي تلك الليلة الماطرة بالوجعع المتمترس فعي الذاكرة شاهدت نفسعي فعي
صحراء خاو ية ،تلل رمال ها ال صفراء أثارت الذ عر في قل بي كا نت صفرتها
ف أن ي جد الن سان نفسهفاق عة ،ول يو جد أحد غيري من بني الب شر ،أمرٌ مخي ٌ
قدميع
ّ فعي مكان ٍ يشبعه ذلك المكان وحيدا ،فجأة انكمشعت الرض معن تحعت
هبوبع الرياح العاتيعة ،فتكورت على
ِ واربدت السعماء ،صعفر الهواء معلنا ععن
ط من الرمال ،تكومت سحبٌ رمادية ٌ تميل إلى الدكنة ،ثم تساقط من السماء بسا ٍ
معا يشبعه حبات البرد الكعبيرة كمعا الحجارة يوم حادثعة الفيعل ،كانعت تجرحنعي
وتسعبب لي النزف ،اصعطبغ جسعدي بلون الدم ،فأحسعست حينذاك بأنعي أفقعد
قو تي ،وح ين حاولت التحرك انش قت الرض ،خرج من ها ر جل ق سماته مخي فة،
كانت رائحته تشبه رائحة النهر ،انقض مثل فيل على ظهري ،وأمسك بأظافره
الطويلة وال تي شعرت ب ها و سخة بت علبيب من كبيّ وراح يشد ني ن حو حفر ته
وهعو يضحعك بصعوت كأنعه جأر ثور ،حاولت الصعراخ وأنعا أقاوم معن أجعل
خلصي من بين يديه ،لم أجد عونا ل من حنجرتي ول حتى من قدرتي على
المقاو مة ،ح تى الن ين غاب صوته ،فتراءى لي و جه أ مي و هي ت صلي ،وح ين
تذكرتها وصلتني أصداء بسملة هل كانت تصلي من أجلي ؟ اقترب الصوت من
أذنعي ،ورويدا رويدا تراجعع ذلك الرجعل المخيعف ،دفعنعي بقو ٍة على الرض
وغاب عن ناظر يّ فوق عت فوق كومةٍ من حبات البرد الباردة الجار حة ،وح ين
فتحت عينيّ وجدتُ نفسي على الرض أرتعش !
عدت إلى فراشعي وانطو يت تحعت اللحاف ل أريعد رؤيعة الوجعه الممتقعع
دائما ،ول كن ما هذا ال صباح المق يت ؟ ماذا تقول هذه الشوهاء البدي نة؟ من الذي
أخبرهعا أن أمعي ،أم غالب تزوجعت معن زوج أختهعا المتوفاة ،وبععد أسعبوعين
ستسافر معه إلى روسيا!.
- 83 -
لن أضحك ،ولن أرقص ،جدي حريص على سمعة بنته ،ولم يكن حريصا
على إيوائ نا ت حت جناح أ مي ،ح ين تدخلت الجارة أم نوري ر فض جدي عودة
ل:
أمي ،وأص ّر على طلقها قائ ً
-التفاهم صار صعب ،والفضل أن يذهب كل واحد في سبيله !
اليوم بالذات وبععد سعماع معا أكره ،أصعبح فعي داخلي انتماء إلى شخعص
سكن ذا تي ،فشعرت حينئذٍ بأ ني أتح صن بالقوة الباردة ،لن هض متململاً ،و من
دون أن أغسل وجهي أو أفكر حتى بتغيير ملبسي ،أفتح الباب وأصفقه خلفي
بعنفٍ وأخرج!.
كا نت شوارع منط قة "مي سلون" ت عج بالناس،خاط بت نف سي " من أ نا و سط
هذه الجموع ؟ ،وإلى أيعة فئة معن البشعر أنتمعي؟" وحتعى أعرف وأحدد جاءنعي
صوت من خلفي:
-هيه ،إلى أين؟
-أهلا ،إبراهيم!
-كيف حالك ؟
-بخير.
وبفطنة الحاذق سألني :
-سمعت أن أباك تزوج؟!.
أزعج ني أن يعرف من أغار م نه ،أ جل أ نا أغار من إبراه يم الش خص
الوحيعد الذي أشععر أمامعه بالنقعص هعو إبراهيعم ،معا معن مرة التقيعت بعه إل
وأحسست به يترصد وقائع حياتي ليشمت بي ،ولن موقفي ضعيف ،فقد هززت
رأسي والسى المبتئس يزين ملمح وجهي وقسماته،وهربا من نظراته وأسئلته
المجهضة ،ومن دون تفكير مسبق ٍ قلت :
-ما رأيك برحلة؟
-إلى أين؟.
-إلى البحر!.
- 84 -
لحظات مرت قرأت فيهعا التردد والتمل مل ،ثم وا ستعدادا باسعتقبال الفكرة
التي جعلته ينشط في الحديث قال:
-أجادٌ أنت فيما تقول؟!.
-بكل الجدية التي عرفتني بها!.
-طول بالك ،دعني أفكر.
-ل وقت عندي ،أريد قرارك الن.
-لمَ؟
-خصوصيات يا أخي.
-موافق ولكن تريث حتى أقبض أجرتي.
--------------- -
--------------- -
-الساعة السابعة في محطة القطار ،ل تتأخرْ ،سأكون في انتظارك.
- 85 -
-9-
التسسكع جعلنعي فعي ذلك اليوم أبدو كأنعي ولدت معن جديعد ،لم أع ْد معتعل
المزاج ،اكتشفعت شخصعا آخعر ،نفسعه تشبعه نفسعي وبسعخطٍ فرح ٍ قلت لنفسعي
"اضرب ضربتك القاضية ،واترك الطوفان يهدم من وخزك!".
رائحة النهر أقنعتني أنه من المفروض عليّ بعد هذا اليوم أن أخون الرجل
الذي أكره ،لفسد عليه نظام حياته الجديد ،بعدما أفسد علينا رباطنا القدسي.
ت الحارة ،كن تُ محتفظا بنسخةٍ من
ت أن أفسد عليه حياته ،راقب ُ
حين قرر ُ
المفات يح ،لم أ كن م ثل لص و ضح النهار والذي ترك ني أ صدقه وأنتظره ،والذي
أوهمنعي أن زوجتعه موجودة فعي الطابعق الرابعع ول تسعتطيع التحرك بسعبب
الحمل!.
الرغ بة في النتقام تزداد إ صرارا في نف سي ،ور غم أن ها رغ بة منح طة
وقذرة لكنها الحقيقة ،الحقيقة التي امتدت جذور رداءتها في نفسي وروحي فقد
تأصلت في داخلي بعطش ٍلبد من إشباعه.
فكرة ال سفر إلى الب حر فكرة جذا بة ومريحة ولكن مع أهلك ،فمن غير هم
الحياة جا فة ومدق عة ،وعلى الر غم من اعترا في بأن الحياة بل أ هل ي سامرونك
وتسامرهم ل معنى لها ،فقد تمردت على العتراف بوجودهم لخذ رأيهم لنهم
موجودون وغ ير موجود ين! وأ نا ل أعرف الب حر ،ولم ي سبق لي زيار ته ،و قد
تأتت معرفتي له من دروس الجغرافيا في المدرسة ،لذلك فكرت بزيارته!
في ظل هذه التخاطرات المقلقلة والمؤن بة في ب عض الأحيان ،تحولت إلى
- 86 -
عدو ٍ كاسر ٍ يريد أن يسلب الطمأنينة من عين والده!.
ب إلى البيت ،بقيتُ واقفا أراقب الحارة مثل
لم أنمْ في هذا المساء ،ولم أذه ْ
نمس ٍ ،حتى تأكدت أنها دخلت في سباتٍ هادئ ٍ وعميق ٍ وبإلحاح ٍ من رائحة
ت في وجيف القلب ،ثم اقتربت من قفل "الدرابية" وبصعوبة حركت النهر تحكم ُ
القفل وفتحته ،وابتدأت في رفع "الدرابية " بهدوءٍ ،حتى كادت تدمى يديّ ،ألهبت
ت علىج سدي بالعزم على الز حف م ثل أف عى! دف عت باب اللمنيوم ،ل ني كن ُ
ل !.
يقين ٍ بأن قفله ما يزال عاط ً
في الدا خل لم أتأخرْ ،و في الخارج الختفاء في الجا مع دا خل دورة المياه
بحثتع ععن مكان ٍقصعي ٍأرتاح فيعه معن الوقوف ،فأعصعابي بدتُ يرقع لي،
ْ لم
مجهدة ومضطر بة .فخطرت لي فكرة ،حملت قط عة كرتون كا نت مرم ية على
الرض واعتليت فوق ظهر سيارة"سوزوكي" ،غطيتُ جسمي بها ورحت أنتظر
بزوغ الضوء.
وق بل أن تتحرك الطيور من أعشاش ها تحر كت أ نا وابتدأت الم شي ببطءٍ
باتجاه المحطة !.
دا خل القطار شعرت بالنقباض ،ث مة إح ساسٌ بالغب طة راود ني ،داهمت ني
مشاعر النشوة وأنا أتصوره كمن لدغه عقرب يصرخ:
" -الحقوني" ،خرب بيتي ،الغلة مسروقة ،والسندات طارت ،السندات التي
تؤكد على إني أدفع!.
من رافق ني لم ي ستطع ال صمت ،أخرج ني صوته من غرق الشرود ل نه
طلب مني وبوج ٍه ضارع ٍ أن أتحدث إليه!
ب بأ ني
اع تبر شرودي جفاءً م ني وإها نة لشخ صه ،فتملك ني شعورٌ غري ٌ
ل شيءٍ ،ل أختلف عن لص و ضح النهار ومراو غة أ بي أ صبحت محترفا في ك ّ
لزبائنه !!
في تلك اللحظات من القلق والضطراب ارت سمت دا خل رو حي صورة
الذي خدعني وجعلني أنتظره ،ولكن بوجهٍ جديدٍ!
عليع كان
ّ هذه المرة لم يكعن وجهعه يملك هذه الوسعامة التعي دخعل بهعا
- 87 -
مصبوغا بزرق ٍة تميل إلى الصفرة ،أوداجه متورمة ،ومنكباه كمنكبي من أثقلته
السنون بالبؤس والقنوط.
ل السرقات للمحلت
حين انكشف أمره بعد إلقاء القبض عليه ،اعترف بك ّ
التجارية الصغيرة والكبيرة وبالطريقة ذاتها!!.
وحين دخلوا علينا لم يكن والدي قد اكتشف بعدُ أن البضاعة ناقصة ،لنه
كان غارقا معع كاتريعن التعي أصعبحت سعيدة المحعل ،الفتاة سعلبته عقله وكلّ
حساباته ،و لحظة دخولهم في توجيه السؤال:
-أنت صاحب المحل؟
أجاب:
-نعم أنا.
ل معن أن يصعغي إلى وحيعن عرف ،ثارت ثورتعه عارمعة جارفعة ،وبد ً
حدي ثي فعي خو في ،وخو في في حدي ثي راح يضرب ني ،ويسعبني كعاد ته ،ب عد
عودت نا من ق سم الغريز ية ،ح تى أد مى وج هي ،وأ سكر ذاكر تي في اختزان ها
لرائحة النهر.
فعي هذه اللحظات معن الذكريات المريرة ضبطعت نفسعي حتعى ل أثيعر
ت متملقا جلو سنا هكذا أخر سين وأ نا
شكوك إبراه يم في صمتي العم يق فضحك ُ
أتكلف في البتسام فمسكته من يده بعد أن وقفت وهيأت نفسي لفعل شيءٍ ما!!
ت أسم ُع صوت سرعة العجلت الحديدية تدك السكة دكا سريعا لكأنها كن ُ
تسبق الزمن الذي بدا لي أنه مرهق وثقيل وطويل.
داخل العربات تفحصت الوجوه ،فما وجدت من أعرفه ل من زبائن أبي،
ول حتى من أهل حارتنا ،أو حتى من أصحاب الدكاكين المجاورة لمحل أبي،
فشعرت بالطمأنينة.
مع بدا ية الق ساطل دخل نا في ن فق ٍ جبلي ٍ ،شعر تُ ب سرعة القطار تزداد
قوة ،وبالعت مة تمزق أنفاق قل بي المضطرب ،لح سّ بالض يق يك تم على أنفا سي
- 88 -
حتى تنفرج الظلمة!!
وكأنه كان يريد أن يكون أفضل مني في معرفة بعض المور الحضارية،
التفت نحوي وبلهجة ل تشبه إل نفسها قال :
-حيعن نمعر فوق الجسعر المحمول على أعمدة ضخمعة سعأحدد لك العمود
الذي وقع فيه ثلثة خبراء من روسيا ،وما خرجوا!.
ل مهما كي ل
حدقت في وجهه دهشا واستعرت من ذاكرتي اللزجة سؤا ً
أبدو أمامه جاهلً فأمقت نفسي:
-وروسيا ماذا فعلت؟.
-لم تفعلْ شيئا ،فالمر كان قضاءً وقدرا.
وكأ نه كان يؤ من بالفل سفة الوجدان ية أك ثر من إيما نه بال سخرية ال سخيفة
ل وهو يحرك سلسلة مفاتيحه: الساذجة تابع كلمه قائ ً
ل ألسنا مخطئين ول نعرف عمق الخطر من الحماقة التي
-أنا وأنت مث ً
نمضي إليها!.
رمق ته بنظرة فاح صة جا فة تش به لزو جة الط قس ولزو جة ذاكر تي الشاب
يتفلسف ،من أغار منه بدأ في فلسفة ما ل أعرف ،ولن فلسفتي محلية فقد قلت
له:
-ل ،لسنا مخطئين ول تستخف بقدراتنا ،فنحن ضحية أسر ل تفاهم فيما
بين ها لهذا تجد نا على هذا الش كل ،دع نا ن عش ب عض الو قت بعيدا عن القوان ين
التعي تشوش علينعا امتلكنعا للغبطعة التعي نسععى نحوهعا ،ولو لمرةٍ واحدةٍ فعي
العمر!.
وتملصا من فلسفته تركته واقفا أمام النافذة ورغبت في النوم!
كا نت فكر تي في ال سفر إلى الب حر جريئة وغ ير متوق عة ،وح ين و صلنا
هزني من كتفي ،ففت حت عين يّ .ك نت ما أزال واهنا ،وبحا جة إلى النوم ،نزلت
ت م سموع ٍ ،وأ نا
من القطار ،تنف ست ال صعدّاء وأطل قت الشه يق والزف ير ب صو ٍ
- 89 -
أفتح ذراعيّ كي أض َم إلى ذاكرتي صورة أفق البحر وهدير موجه الذي اشتريته
بسرقة أبي .ثم كمن كان مستعدا أن يبدو أمامي أرفع شأنا مما أتصور ،قال :
-خ ْذ سيارة إلى البراج.
-أتعرف المكان؟.
-نعم فقد زرته مع أخي غسان.
خلل ب ضع دقائق ك نا هناك ،اختر نا مكانا ي طل على الب حر ،كان المن ظر
ساحرا وجميلً ،وقد تربعت على عرشه البواخر والسفن.
** ** ** **
-عفوا ،ما تطلبان ؟ (.سأل النادل).
-إبراهيم ما تطلب ؟.
-صحن " لبنة " وكأس شاي.
بتعبير ٍ أخلقي ٍ رسم على شفتيه ابتسامة ،ومضى لحضار الطلب.
ب عد الفطور أشعل نا ال سكائر بطري قة حاول نا في ها أن نقلدَ ما يمار سه أولد
الثرياء في تدخين هم لل سكائر الجنب ية المهر بة ،وب ين سحب الدخان حد قت في
وجهه ،شعرت به قانطا متوترا "ربما عجزه عن الدفع" خمنت في سري ،وربما
ما لم أكتشفه بعد!.
كن تُ على يق ين ٍ أن كلي نا يخدع ال خر ،وب ما أن ني كن تُ بحاج ٍة ما س ٍة إلى
رفيق ٍ يشاركني خوفي واضطرابي في منزلق حياتي ،كنت سعيدا برفقته لثبت
له أني سيد الدفع!
وبما أني صاحب ذاكرةٍ تخيلية بارعة قلت له:
-أتعرف لو أن هذا البحععر كان موجودا فععي حلب لزادت عراقتهععا
وأهميت ها ،وأ صبحت أج مل مدي نة في العالم ،ت صور القل عة و سط بح ٍر يغ طي
امتداده كلّ الجهات المحيطة بها ،قال نهر قويق ،أف أح سُ برائحته تزكم أنفي
الن!.
- 90 -
ا ستنكر أن أكون الن قد شم مت رائ حة الن هر! وبحرص ٍ على مجارا تي
في الحديث قال:
-مععك حعق ،رائحعة النهعر تشكعل معضلة بالنسعبة للمبانعي والشوارع
المجاورة له ،ثم ومع آخر رشفة لفنجان القهوة بعد كأس الشاي قال:
-هيا بنا ،لن نقضي الوقت كله هنا.
نزلنا بواسطة المصعد ،خرجنا إلى الشارع سألنا عن سيارة أجرة تأخذنا
إلى رأس الب سيط ،فا ستغرب من سؤالنا ب عض ال سائقين الذ ين سألناهم لن نا ك نا
فعي فصعل الشتاء ول أحعد معن الناس يفكعر بالذهاب إلى رأس البسعيط سعوى
أصحاب "الشاليهات" وذلك من أجل تفقد الشياء الموجودة فيها ،هذا ما قاله لي
إبراهيم ،وحين طال زمن السؤال ،قررنا أن ننام في الفندق ،أية حجة يمكنها أن
تؤوينا في فندق ،لهذا طلب مني إبراهيم أن نذهب إلى الشاطئ الزرق ،نجلس
في الصالة الشتوية لنشاهد البحر عن قربٍ ،ونتغذى سمك مشوي ثم نختار فندقا
أجره بسيط ،رأيه أقنعني لنه لم يسبق لي أن غادرت حلب أبدا !
مع حلول المساء جلسنا نحدق في السقف والجدران وهذه النافذة الوحيدة،
لشعر بأننا لشيء ،مجرد أحمقين متهورين تخاصما مع الحياة والناس وخاصة
الهل ،فتمردا عليهما بالنعزال ليعيشا كما يرغبان.
سرقت أ بي ،وجئت إلى ه نا كي أبت عد عن التشويش والت سفيه والتجر يح.
ل ما حل مت به كان مجرد و هم ٍ؛ وأن حلم الحساس بالرا حة يتحول لجد أن ك ّ
إلى جم ٍر يغلي في ذاكرتي وأوردة جسدي!.
نام الرف يق وبق يت وحيدا تفتر سني المخاوف ،اقتر بت من النافذة فتحت ها،
بدا لي المن ظر مرعبا .سواد الل يل يغ طي المكان ،و صوت سيول المطار ال تي
نزلت في هذه الليلة بدت كأن ها في حالة جنون .فتخيلت ها نبالً تخترق الرض،
وحف يف أوراق الش جر غاب ب ين مو سيقا إيقاع الم طر ،وجنون قل قي .فأوهم ني
ذلك المشهد أن جذوع الشجار .التي كانت تحيط بالفندق ستنفصل عن جذورها
كي تنقض عل يّ وتخنقني تماما كما حصل في أحد الفلم التي سكنت ذاكرتي.
ت على السرير مرتعشا ً.
أغلقتُ النافذة ،وتكور ُ
في تلك اللحظة اكتشفت أن المتعة الحقيقية كانت كامنة فيما كنت أعيشه.
- 91 -
خصومات بل وفاق ،مشاتمات بل مشاعر ،لقاءات سرية بل رقيب " ،ما تفعلين
الن؟ اشت قت إلى قبل تك الدافئة ،و صدرك النا هض .أح سُ بالشوق يدفع ني إلى
محار بة الم طر والر يح والبرد بقدرة عا شق ٍ يقوى على كلّ المعيقات الموجودة
على سطح الرض لكون قربك وفي ذلك التوقيت بالذات!.
لم يطلْ إحسعاسي بالشوق نحعو معن ُأغرمعت بملمسعة أنفاسعها وشفتيهعا.
ط ما كان يدمدم به، ب مذعورٍ ،لم ألتق ْ
صوته جعلني أقفز عن السرير مثل أرن ٍ
كان جسده ينتفض ،وشفتاه ترتجفان ،فهززته من كتفه وأنا أقول:
-إبراهيم ،انهض ،ما بك ،اصحَ.
فتح عينيه بصعوبة وملمح الخوف تزيدني توترا وبلبلة ً ،وأيا كان خوفي
مما أرى فهذا ما أريده! يا لروعة الوجه المبتئس ،لن أضيع الفرصة سألته:
-إبراهيم ما بك ؟ لقد أرعبتني!
-كا ..بو ..س ...كابوس فظيع!.
في أسى فرك عينيه ،ثم نهض ،نظر في وجهي ،نظرات قرأت فيها اللوم
والعتاب والشعور بالذنب .وبقوة ٍ حاول أل تضيع منه قال:
-غدا ،نعود إلى حلب ،أو أعود وحدي!.
كن تُ مثله مضعضعا ،اختر نا طر يق العزلة عن المجت مع المح يط ،لنكون
ب أعمى!.
ب مشلولٍ وثعل ٍ
مثل ذئ ٍ
حينئذٍ جلست قربه ،وبدأنا نحكي عن همومنا ،وعن ظلم الهل لنا .وبحكم
فراستي ،لم يطل زمن توقي لمعرف ِة ما ذكره عن كابوسه ،نبش الحقيقة ما بقي
خافيا عل يّ ،هو ال خر مطرودٌ من ب يت أب يه ،طرده أبوه وحلف يم ين الطلق
على أمه أنه لن يدخل البيت ثانية!.
أخفيت معالم النشوة التي خفق لها قلبي ،وأنا أتلقف حديثه الشائق الجميل،
الذي جعلني أحس أني لست الوحيد المغبون حقه في هذه الحياة!.
ح ين قرر نا العودة لم نع ْد في القطار ،م ساء اليوم التالي ركب نا في واحدة
من باصات "الهوب ،الهوب" ،وحين أصبحنا في كراج حلب ودع كل واحدٍ منا
- 92 -
ال خر ،وح ين ابت عد ع ني ترجلت خطوا تي م ثل ح صان جامح ٍ أ صابه مكروهّ،
ت وحيدا ل شر يك م عي ،أح سست بضوء م صابيح فشعرت بالض يق ل ني عد ُ
السيارات أعينا نارية ً تريد أن تغتالني!.
أين سأذهب ؟ أعرف مصيري في بيت أبي !! فخطر في بالي أن أذهب
إلى بيت جدي على القل أستعيد بعض قوتي.
ع ند الباب تردد تُ ،ثم ضر بت الباب " بال سقاطة" المعل قة في و سطه من
العلى ،بعد هنيهةٍ لح جسد من طحنته السنون ،وقف يُحملق في وجهي بشيءٍ
من الذهول!
جدي الذي أنكر ني قال و هو يش حذ الكلم من ب ين "د كة" أ سنانه ب صوتٍ
تآكلت منه الحروف:
-نعم ...خير إن شاء ال ما تريد؟!.
-أريد أن أرى أمي؟.
-أم ...ك ،الن تسأل عن أمك!
دفعع الباب فعي وجهعي يصعدني معن الدخول وهعو يلععن البذرة الفاسعدة
والساعة التي جمعتنا وإياهم وختمها:
-ال يرحمنا ،أمك صارت في روسيا !.
انخ سفت بي الرض ،ونتأت خلياي الراجفة برع شة باردة انع قد ل ساني،
إذن ما قالته أم نوري صحيحٌ! ولكن إلى هذه الدرجة من الكراهية بدوت أمامه
نكرة ل يقبل أن يعترف بوجودها؟!.
اشتعل رأسي بالنار ،وتكاثف الدخان من حولي،وتهالكت قواي أيقنت أني
ف وح شي ُيغلق
ي أن أجا به م صيري بالطري قة ال تي تنا سبني .وبعن ٍ
منبوذ ،وعل ّ
الباب فعي وجهعي ،وبعيون خضلتهعا الدموع أسعتعرض سعمفونية ضياععي بل
توقفٍ!.
عن على
عير ،فقررت أن أكون الغالب ل المغلوب ولكع عة مصع الحياة لعبع
طريقتي ،سأجعلهم يندمون ،سأنتقم منهم جميعا!.
- 93 -
طاش واح ٌد من القطيع الذي بددته حيزبون المآتم السرية ،ولكن إلى أين
أذ هب؟ وأ ين أنام؟ وك يف أد خل الب يت؟ ماذا لو كا نت الشر طة في انتظاري ؟
وعلى الرغم من تمردي وحقدي شعرت بالخوف ،فقلت في سري":يا رب تدبر
أمري"!
خائفا قررت مواجهة مصيري ،مرتجف الخطوات صعدت ُ الدرج ،وحين
و صلت التق طت أنفا سي ،نقرت الباب بأ صابعي ففت حت أخ تي فريدة ،من ح سن
حظي أنها لم تكن نائمة ومن خلل نبرتها المرتعشة انتبهت إلى ملمحها وسط
ب صيص ضوء الغر فة الذي ان سل جزء م نه إلى ح يث أ قف و سط ظلم الدرج،
تصورت فيها ملمح أمي الذابلة! وبرفق ٍحزين ٍ قالت:
-ادخل وبدون صوت ،جدتك نائمة.
ت خفيض ٍ أن والدي متشبث برأيه في تسليمي في الشرفة أخبرتني بصو ٍ
إلى الشر طة ،فأ سلمت ج سدي إلى أرض ال سطح ب عد أن زودت ني أخ تي بحرام ٍ
عتيق ٍ ومهمل ٍ كي ل تثير شكوك جدتي ،وبدأت أفكر!؟
لم يكعن مسعاءً عاديا ،كانعت ليلة مشحونعة بالرق وبالتسعاؤلت المرعبعة،
ودموع أختعي المخضلة بالخوف أيقظعت فعي نفسعي مشاععر معن نوع ٍ خاص ٍ،
ط آ خر ،إلى تحدٍ جديدٍ ،ل سأل نف سي" -لماذا لم أتك يف
فتحول تفكيري إلى نم ٍ
مع الواقع الذي فرضه عل يّ القدر عندما انفصل الزوجان عن بعضهما تاركين
ربيعا معن الطفولة يذبعل قبعل أوانعه .أختعي تريدنعي أن أكون رجعل البيعت ،هذا
الت صور أعاد لي جزءا من آدمي تي ،فأح سست أ ني سأنزل م سرعا إلي ها كي
ل لها ولخويّ ناجي ورضوان : أقبلها ،وأضمها إلى صدري قائ ً
-سأكون رجل البيت شريطة أن تسمعوا كلمي!.
أمام هذه الصورة من الجمال البريء عاهدت نفسي أني سأكون لها ولهما
مشبعع بالرقعة والسعكينة على الرغعم معن وجود
ٌ ل أهلهعم وناسعهم ،فأنعا الن
كّ
المخاوف المعششة في العماق.
صعبيحة اليوم التالي أعطتنعي أختعي إشارة الدخول ،فالمحروس حضعر
يسأل ومضى يفتش!.
- 94 -
وحين دخلت الغرفة ،واجهني ذلك الوجه الموبوء بالسأم الممل ،المشحون
بثرثرة الحقاد والترهات ،قائلة وهي تخبط بيدها على صدرها:
-من أين جئت ؟ بسم ال الرحمن الرحيم ،أبوك خرب الدنيا! هي "عملة
بتعمل ها" ،وال ب سْ ير جع ليك سر رجلك ويق طع يدك " يي" ،يا لط يف * إن من
أموالكم وأولدكم أعداء لكم فا حذروهم *.
كأ ني لم أ سمعها تتكلم ،ف صوتها الجليدي أكره سماعه و من غ ير أن أر مم
وجعها وأعطيها الجواب الذي يشفي من توترها قلت لها :
" -أنت مادخلك ،وسدّي بوزك" !.
حركت يدها كأنها تشكوني قائلة:
-طيب ،سنرى حتى يحضر ،يا لطيف ولد مغضوب ،ال ينجينا !.
ط من سرقةٍ ،وسرقة
وهربا من مواجهة الحقيقة ،الحقيقة الذبيحة على بسا ٍ
من؟ سرقة أبيك! فتحت الباب وعيناي تحدقان في عالم مجهول.
قض يت النهار في حدي قة "مي سلون" ،وتقريبا ال ساعة ال سابعة بدأت رحلة
الطواف في شوارع المدي نة ،ح تى أنهك ني الت عب ،فعك فت إلى الش يخ مق صود
ل ك نت أن قر الباب ثلث
ح يث شاهد ني أ بو سليم و في حوالي الثان ية ع شر لي ً
نقراتٍ.
حاولت النوم فأنا مجهدٌ ،لكن الخوف الذي لزمني طي َر النوم من أجفاني،
فتخيلت هوائيات التلفزة ومداخن المدافىء ،قد تحولت إلى أشباح ٍ تريد القتراب
مني كي تهلكني!.
كالقرد الهارب من قفصه نزلت ،وأنا أتسحب على رؤوس أصابعي ،حتى
اندسست في الفراش قرب أخوتي.
كان شخيرها مثل شخير محتضرٍ ،وعيناها شبه مغمضتين وفمها نصف
مفتوح ٍ ،وشعر ها الق صير الب يض منكو شٌ م ثل صوف النعجةِ ،ولشدة خو في
وفزعي مما رأيت أغمضت عينيّ ،وأعتقد أني نمت.
في صبيحة اليوم التالي انتفضت مذعورا" ،يا لهذا الصباح الغائم"! رأيت
- 95 -
وجها أثار الهلع في داخلي ،كأ ني أول مرة أشاهده ،كان محتقنا ،ين مّ عن الح قد
والغضب.
ت كالمطعون في ظهره سائل ًالملئ كة أن تتنزل بالرح مة .دقائق
قرف ص ُ
فيع مثعل ضفدعةٍ هرمةٍ ،وبععد أن تلمظعت وابتلععت ريقهعا
مرت وهعي تحملق ّ
قالت:
-حرام عليك ،تريد تموته.
-ماذا قلت؟.
-يا حرام سرقت الغلة والسندات ،كأنك ما فعلت أي شيء !.
-أنا؟!.
-آ ،أنت! وماعندك خبر ،مسكين يا حرام مظلوم !.
-روحي على شغلك!.
بدت ملتاثة ،أصبحت تدور في أرض الغرفة وهي تدمدم:
-آخ يا رأسي ،ال يساعدنا ،ولد مغضوب!.
نكا ية ب ها رم يت بالمنف ضة وبالكأس ال تي كا نت على المنضدة ال صغيرة،
فتطايرت نتعف الزجاج وأعقاب السعجائر على الرض فصعرختْ بصعوت ٍ
مرعوب ٍ :
-ال يأخذك ،ويقصف عمرك يا مغضوب!
وانقضت عل يّ مثل ساحرة ،وأخذتني بين يديها بعد أن غاصت أصابعها
المعروقة داخل شعري ،فضربتها فصرخت متوجعة:
-ال يغضب عليك ويأخذك حتى نرتاح ،وال ،وال.....
ولم تكمل جملتها ،لن صوت المفتاح أعلن عن حضور ولي المر!!.
بقسماته الغاضبة انتصب في أرض الغرفة ،وما إن رآني حتى هجم عليّ
وراح يضربني بل وعي ،فكاد يغمى عليّ!
- 96 -
في تلك اللح ظة تمن يت الموت ،وكا نت فكرة الموت على يد يه تروق لي
كثيرا .فقلت في نفسي :اضربْ ،اضربْ بشد ٍة ما عدت أحسُ باللم ،لن أموت،
سأعيش حتى أراك حاملً صندوق فقرك وعجزك ،بعد ذلك يا مرحبا بالموت!.
لن أكون الولد الرضي ،كنت البادئ ،والبادئ أظلم! أنت من علّمني غش
الزبائن ،أنسيت كيف كنت ُتبدل تسعيرة القطعة وأنت تقول " :الزبونة" ل تفهم
بالمقاسات ،قياس نمرة ثلث سعره أغلى! ضعها على قياس نمرة واحد !!.
والتعي تنازلت لك ععن حقهعا الشرععي ،تنكره عليهعا وتقدمعه إلى زوجعة
جديدة .اضر بْ بقسوة أكثر ،لن أعترف بما فعلت! ولن أخبرك أين ذهب تُ ،وكم
صرفتُ؟ وكم بقي معي ،وأين أخفيته؟!.
-ما فائدة ضر بك الن؟ تحجرت أوجاععي ،ما عد تُ أح سُ باللم ،لن
تسمع صوت أنيني أو بكائي! ،أصبحتُ مثل حجر ،أصم ثقيل ،ل يتحرك"!!!.
رضوان وناجي وفريدة وقفوا يصرخون ببكاءٍ مطير وهم يشاهدون الدماء
تنفعر معن أنفعي وشفتعي ،وأم نوري التعي صععدت إلينعا على صعوت الضجيعج
والصراخ دخلت تسأل ما الخبر؟ كانت هي الخرى واهنة ،راجفة اليدين .وبدلً
من أن ت صدّه جد تي ،وق فت المرأة الغري بة حائلً بي ني وبي نه ،تم نع يده القا سية
ع ني ،ف قد أد مى وج هي! وبل مراعاةٍ للخوا طر خوا طر الذ ين كانوا يبكون على
أخيهم ،خرج وهو ُيهد ّد بإخبار الشرطة!!.
ب مع الهنود الحمر،عاد وغض به النافر
بعد ساعة عاد كمن كان في حر ٍ
واضح الملمح وبلهج ٍة متوعدةٍ قال:
-إذا اعترفت لن أخبر الشرطة ،سأعطيك فرصة ،معك نصف ساعة قل
ماذا فعلت بال سندات ومبلغ الخم سة آلف ليرة؟ ف قط اح كِ الحقي قة! لن أضر بك،
سأنسى ،ويا دار ما دخلك شر!!.
اقترب ناجي يتوسله في أن يعفو عني .انضمت إليه فريدة ،و ظل معانداً،
لن يغفر لي فعلتي ،وإذا اقتضت الضرورة فهناك شرط واحد ،شرط واحد فقط
ول تراجع عنه ،أن أخرج من البيت ومن دون رجعة إليه!.
ركعت أختي تحت قدميه ترجوه وتتوسل إليه أن يعفو عني ،قبلت ساقه،
- 97 -
فأبعد رأسها بيده وقال :
-مب سوط يا ا بن ال ،خذ حوائ جك وا مض ِ ،ه يا لن أق بل بوجودك ،من
يعرف كيعف يسعرق ؟ يعرف كيعف يعيعش وحده ،هيعا اخرج ،اذهعب معن دون
رجعة ،يا ال "لبره اتفوووو".
ل في صدري حين طردني خرجت مهيض الجناحين ،متورم الوجه حام ً
الجرح واللم ،ولني ل أعرف مكانا غير حديقة "ميسلون" فقد بحثت عن مكان ٍ
ل يراني فيه أح ٌد من المارة ،وخواطر سوداء راحت تدور في عقلي ونفسي .لن
أسكت على إهانته لي بهذا الشكل أمام جارتنا وأخوتي ،سأردّ المبلغ إلى العقاب
ال كبير ،سأجعله بل أجن حة ،و سأجعله يندم على طرده لي أمام الجارة ،سأكون
أنا الرجل الذي يعاقب ،وسيكون هو الطفل النادم ،لن أدعه يرتاح ،سأهدم حياته
كما هدم حياتي.
في دوامة الصراع بين احتمال اللم والطرد ،شاهدني عليّ فجفت دموع
قلبي.
ابتسامته جعلتني أشعر بالكراهية نحوه أكثر من كل مرةٍ لكنه فيما عرضه
عليّ طيبَ خاطري ،وألزمني بمرافقته!.
فعي المقعبرة أسعندت ظهري إلى واحدة معن الشواهعد! عبارتعه أرجععت
ذاكرتي ،ورسمت صورته ،وأعادت صوته "بدي ماما"" ،أين قبرك أيها الطفل
ل لضمك إلى صدري مثلما فعلت يوم غادرت البيت أمي! الصغير؟! تعا َ
ل أري ُد " ل فة الز يت والزع تر"! في هذه
اخرج من قبرك ،دع ني أقبلك ،ق ْ
اللحظعة القاسعية ورغما عنعي انهمرت دموععي التعي كانعت متحجرة ،فأخفيعت
وج هي براحتي ّ ،وكأ نه عرف بإدرا كه ما أحتا جه في هذه اللح ظة فأخرج من
جيب قميصه حبة وقدمها قائلً:
-خذْ ،ابتلعها ،تنسى وتصبح ملكا!.
حبة واحدة صغيرة ،جعلتني أشعر بالخدر يسري في عروقي وأنسى ،حبة
واحدة أرقدت ضجيعج الحقعد والغضعب فعي ثقوب ذاكرتعي فتهاديعت مثعل قشةٍ
وضعتها الريح .حبة واحدة جعلتني أتعلق بعلي وأنفذ له كلّ طلباته ،لجعل من
- 98 -
لغة القصاص في داخلي وأنا أحاور من ل وجود لشخصه أمامي بل في ذاكرتي
نافذة فعي الدخول إلى العالم الذي بدأ " لخوفعك معن كلم الناس باتهامهعم لك
بالف شل وبالع جز من تربي تي تطرد ني ،تتك تم على سرقتي لمحلك ضاغطا على
أع صابك ب جبروت القا تل ،تطرد ني ل نك أ صبحت تخاف م ني ،وهذه الخيرة
أضا فت إلى أفعالي شيئا قويا ،شيئا ل يمكنك أن تقدر ثم نه ،جعلتني أش عر بأني
قد انتصرت عليك !.
تبا لك يعا أبعا لهبعٍ ،تبعا ً لك يعا أبعا غالبعٍ ،كلّ الذي اسعتطعت أن تفعله،
وفعلته أنك طردت ولدك من البيت ،فهنيئا لبوتك بما فعلت"
وحين لكزني عليٌ بطرف حذائه ،انتفضت من مكاني وسألته :
-ما الم ْر ؟
أجاب بصوتٍ خفيض ٍ:
ل قادمون ،ازحف ورائي نحو الشجرة!.
-هسْ ،يوجد رجا ٌ
ما أرهب هذه اللحظات؟! وما أسوأ برودة أعصابه؟!.
زحفت معه نحو الوراء كما تزحف السحالي ،وعند جذع الشجرة تمددنا،
وانتظرنا هبوط الظلم ،فنظرت من حولي كانت القبور راقدة في جوف صمتها
كما القوقعة ،والظلم يتسربل عميقا في قلب الصمت!
ما أقسى النوم بين ظلل القبور والشواهد! وما أحوجني في تلك الساعة
إلى أريك ٍة من قش ٍ أو إسفنج ٍ أو قطن ٍ أو حتى خرق ٍ باليةٍ ،المهم أن أجد ما
أضع عليه رأسي "انقلع لبره ،يلعنك ابن حرام!".
هذه الجملة ثقبت أذني وسكنت فيها ،فأشعر في تلك اللحظات أني أكرهه
بجنون ،بعد أن تراءى لي أن الحياة متآمرة معه ضد جميع حقوقي النسانية!
حين خرجت من البيت مجلجلً باليأس ومكبلً بفجيعة الطرد أحسست أني
ابتلع جبلً وعرا ،كان الطريعق مشغولً بضجيعج السعيارات وبأصعوات الباععة
وبحركعة بععض المارة وكنعت مشغولً بضجيعج ٍ معن نوع ٍخاص ٍ ،معن نوع ٍل
يظهر!.
- 99 -
في هذا المكان تجاهلت أ ني ك نت أراق به ،وح ين أخرج من ج يب بنطاله
مفكا صغيرا وراح يحفر عند الجذع سألته:
-ماذا تفعل؟.
-هسْ ،ل ترفع صوتك!.
جعل ني أجلس مذهولً أراق به ،ما الذي أخر جه من ت حت التراب؟ ما هذه
العصاب القوية ؟ إني أراه يجلس مثل نمس ٍ متمرن ٍ يلف سيكارة ،وكان لبدّ
من سؤاله:
-ما هذا؟.
" -كيف "
-ما معنى "كيف"؟.
-حشيش!.
حين سمعت بكلمة حشيش توارت قوتي ،كما توارت داخل القبور الكفان
والج ساد والعظام .ك نت في تلك اللح ظة متأرجحا ب ين الخوف وب ين الهروب.
بين ماأحس به من ضحكٍ ،فأطلق أصداءه المتعفنة داخل أفنان روحي المتكسرة
ب المقهور الضحك على كلمه لمي: لوقظ كلّ الموات علهم يشاركون غال ٍ
-آ ...حاجة بقى ما في واحد مات ورجع على الدنيا ،وحكى للناس عن
عذاب القبر!.
فأصيخ السمع علني أسمع ما ينافي ما كان يقوله لمي:
" -آ ...ست مفتي "خانم" ...بيعينا سكوتك!".
كنتع سعاكتا أعيعد ترتيعب الكلمات لماض ٍ ل يزال مغروسعا فعي
ُ ولنعي
الذاكرة وقد بدأت أدخن سيكارة الحشيش ،التفت إليّ يسألني:
-هل ارتحت؟.
-بل "انصطلت" !.
فجأة سمعنا صوت قعق عة ع صا ،تنب هت حوا سي ن حو م صدر ال صوت،
حين دخلت المغارة مَثُلَ في خاطري أنه يعرف عني بأكثر مما أعرف أنا
ت باهتمام ٍ بالغ ٍ إلى معا فعلتعه ،وهعو غارق فعي شرو ٍد معن
ععن نفسعي ،تنصع َ
أطيافِ حنان ٍ لمحتها تبرق في عينيه ،فقد اغرورقتا بالدمع!.
فجأة تحول الرجل الشهم إلى رجل ٍآخر ،رجل ٍشديد الغضب والزجر!.
شعرتع بالغضعب يكاد أن ينفجعر معن داخعل عينيعه الشهلويعن فنظراتعه
ُ
القا سية أرعبت ني ،وجو فت قدر تي على ال تبرير ،فكرت بأ سباب غض به فوجد ته
محقا ،ك يف لم يخط ْر في بالي أن أتك تم على مكان إيوائي ،لماذا فاض تْ نف سي
بالتحدث عن الشيخ محمد إلى أختي؟ في تلك اللحظة تمنيت أن أتحول إلى طائر
ٍ من ب شر ٍ ين قر على الباب كي تف تح له مس في أذن ها أن ي ظل مكان تواجدي
سرا ل يعرفه حتى الجن أنفسهم.
وكأنه كان مدركا لعفوية ما فعلت ،وكأنه كان ل يريد أن يؤذي مشاعري
فقد حصل الذي حصل ولن يتكرر أبدا فقد سألني :
-ألمْ تشاهد عليّ ؟.
فعي هذا السعؤال رقعد الجواب ،لم أكعن قادرا على تفسعير أسعباب اهتمام
الشيخ محمد بعلي ،ولم أكن قادرا على زجر الحمار الذي ينهق حين يسمع باسم
عليّ ،أو بصوته لحظة يدخل.
و في هذه المرة أضاف إلى نهي قه أ نه ع طس ون فض رأ سه وحرك أذن يه،
بعدها حاول أن يجد فسح ًة للتجول ِ.
ولكن لماذا يكره ني ذلك الر جل؟ قرأت الكراه ية في عين يه و في ملم حه
التي بدت منفرة فقلت لنفسي "تعوّد على الصبر يا غالب " !.
لك نه تحرش بي ،وبعنجهيةٍ اقترب من سريري ،و سيكارته في ف مه ،ن فخ
الدخان فعي وجهعي فسععلت! ،فتأفعف مشمئزا معن صعوت سععالي ثعم أردف
وبسخرية:
" -دخيل النبي الحقوا الصبي ،اختنق" !.
لم أحتملْ وقاحته ،فنهضت بعصبية ورددت عليه بما يتناسب وكلمه:
-ما أحد صبي غيرك!.
فر ّد عليّ بفظاظة:
-و ..ل ..ك أنا صبي؟!.
انتابني الفزع وأنا أراه بكلتا يديه يطوق عنقي يريد خنقي! تحولت قوتي
إلى شظايا ضعيفة من وطأة الغتيال المباغت،لجد نفسي بين ضغط قوته بأني
قد تحولت إلى صورة قبيحة من الضعف المهين!!.
بسرعة نهض الرجال يتقدمهم أبو حسن وعمي وجيه فانتزعوه عني كما ُ
تنتزع الرصاصة من الجسد!.
وفعي خضعم معرفعة معا هعو مجهول معن معارف التواطعؤ والتجسعس
والنحراف عل يك أن تكون دقيقا في تعاملك مع الخر ين من أ صحاب ال سوابق
أو الجنايات الشائنة ،وقد بدأت تظهر أمامي حقائق عن الحيزبون التي ل تختلف
عن سوالفها من الحموات الحاقدات اللواتي يرفضن وجود الكنة فيُحرم الرضيع
من ثدي أمه لهفوة من كنة ،أو لعنة من حماة أو بمعاكس ٍ من ثرثرة الغراب
في بث الضغينة بغية التفريق ،فتتلون أشكال الحرد والطلق والهجران!.
ثمة سؤالٌ يؤرقني ،أريد جوابا يطفئ ظمئي :
-هل التضحية جملة انعزالت؟ وهل في عزل الرجل عن أولده من قبل
زوجته الثانية تضحية؟ أمْ ضحايا؟
-مطلوب للزيارة؟
-أنا؟
-نعم أنت!.
بل شعور بالفرح قفزت من مكاني مثل أرن بٍ ،لم أغسلْ وجهي ولم أبد ْ
ل
نزلتع بضعع
ُ ملبسعي،أصعبحتُ وراء الشرطعي أمشعي مثعل متجولٍ معع دليعل ٍ
درجاتٍ بعد أن تجاوزتُ العديد من الممرات والبواب الحديدية الموصدة ،وقفتُ
مذهولً ،الن ساء ،الطفال ،العجائز من الرجال والن ساء ،أ صواتٌ يبعثر ها القلق
والضجيج ،دموعٌ هنا ،ووجومٌ مبتئسٌ في كلّ زاويةٍ من زوايا المسرح!
ال صداء ضا جة بأنفاس الكلم أك ثر من ضج يج شوق ها ،سجناء يبيعون
الهدايا" ،هدايا للحباب ،هدايا للعياد ،قهوة مرة" ،كلّ هذه الشياء مصدر رزق
لسجين يملك وساطة!
ومصور يدور بين الكراسي الحجرية يبحث له عن زبون يلقط له صورة
للذكرى ،صعورة باللوان مختلفعة ععن صعور ذكريات الفراح والعياد ،وأمام
ت فمي ،لتخمدّ الحقا ُد في عناق ٍ طويل ٍ طويل ٍ.
من رأيت يقف لستقبالي ،فغر ُ
جاءتني ترفل بحجاب أحزانها البكر والذي لم تدنسه يد شاب قميء حين
تبرعم نهداها،ولم تسلك نموذج نوال في اللقاءات السرية على سللم الدرج رغم
مجاورتنا لهم ومصاحبة جدتي لمها!،ضممتها إلى صدري فاحتواها قلبي!
كان وجههعا مثعل باقعة ذابلة فعي عينيعن متلونتيعن مخضلتيعن بالدمعع الذي
2004 / 2 / 6
***
***