You are on page 1of 8

‫التنازع والتعاون ‪ -‬علي الوردي‬

‫ان طبيعة التنازع والتحاسد والتنافس صفة لزمة في النسان ل خلص منها‪ ،‬ل فرق في ذلك بين العالم والجاهل‬
‫منهم‪ ،‬أو بين الفاضل والسافل‪ .‬ول ننكر أن يكون هناك فرق ظاهري بين العالم والجاهل في هذا المر‪ .‬فالجاهل‬
‫يتنازع ويتكالب ولكنه ل يستر عمله هذا بستار من التأويل والتسويغ‪ .‬يده على خنجره فل يكاد يرى فرصة مؤاتية‬
‫حتى يدس خنجره في بطن خصمه‪.‬‬

‫اما العالم فهو يسمو عن ذلك في الظاهر‪ .‬انه يبغض منافسه ويحقد عليه ويود القضاء عليه ولكنه ل يعلن هذا‬
‫البغض اعلنا مباشرا‪ ،‬بل هو يخفيه تحت ستار من الحاديث واليات‪ ،‬أو برقع من حب الوطن ومصلحة المة‪.‬‬

‫حيث يعتقد ان المجتمع العالي الذي يتخيله الفلسفة أمر يستحيل تحقيقه على هذه الرض‪ ،‬اذ هو يحتاج في تحقيقه‬
‫الى بشر من نوع غير هذا النوع الذي نعيش بين ظهرانيه‪.‬‬

‫ل مراء ان ابن خلدون كان مخطئا ‪ H‬في كثير من آرائه‪ .‬ولكنه رغم ذلك كان مصيبا ‪ H‬كل الصابة في أساس نظريته‬
‫حيث نظر الى الواقع الجتماعي باعتبار انه واقع محتوم ل مفر منه‪.‬‬

‫يقول ابن خلدون‪ :‬ان التنازع عنصر اساسي من عناصر الطبيعة البشرية‪ .‬فكل انسان يحب الرئاسة وهو ل يتردد‬
‫عن التنازع والتنافس في سبيلها اذا وجد في نفسه القدرة على ذلك‪.‬‬

‫أما صموئيل بتلر فيصف الحياة الجتماعية بانها عبارة عن خيط وسكين‪ .‬فالخيط يربط الناس بعضهم ببعض‬
‫والسكين تقطع الربط بينهم‪.‬‬

‫ومعنى هذا ان المجتمع البشري ل يمكن ان يخلو من تنازع ما ل يمكن أن يخلو من تعاون‪ .‬كل المرين متلزمان‬
‫في حياة الناس‪ .‬ول يمكن ان يظهر أحدهما ال ويظهر الخر معه ليحد منه ويتمم وجوده‪.‬‬

‫ان التنازع والتعاون هما دعامتا الجتماع البشري‪ .‬وقد اتضح لدى علماء النفس بان الحب والبغض متلزمان في‬
‫النفس كتلزم التعاون والتنازع في المجتمع‪.‬‬
‫ول يمكن ان تقوم جماعة بشرية ال ويكون حافز التنازع كامنا فيها‪ .‬فالعائلة التي تعد نموذجا للتآخي بين الفراد‬
‫نراها ل تخلو من تنازع رغم ذلك‪ .‬ول تكاد تمر فترة من الزمن على عائلة من العائلت حتى تسمع صراخ‬
‫الخصام قد ارتفع من بين جدران بيتها‪ .‬وكثيرا‪ H‬ما يكون القارب كالعقارب _كما يقول المثل الدارج‪.‬‬

‫ولو راقبنا الطفل البشري في نموه لوجدنا يميل الى التنازع والتعاون معا‪ .‬فهو اذا شاهد قرينا له من الطفال مال‬
‫اليه وأنس بصحبته‪ ،‬ولكنه ل يلبث أن يصطدم به ويتشابك وإياه باليدي ويتبادل الصفعات واللكمات معه‪.‬‬

‫ولكن الطفل ل يكاد يتنازع مع أحد أقرانه حتى يحس بالحاجة الى التعاون مع غيره‪ .‬انه عند المنافسة يصيح ويبكي‬
‫ويختلق الحجج‪ .‬وهو يروم بذلك ان يلفت انتباه أمه أو أخيه أو أحد اصحابه القدامى اليه لكي يعاونوه على غريمه‬
‫الجديد‪.‬‬

‫ظن القدماء‪ :‬ان التنازع شر محض ل ينتج عنه أي خير مطلقا‪ .‬وهم في هذا مخطأون‪ .‬وخطأهم ناشىء من كونهم لم‬
‫يعرفوا مجتمعا خاليا ‪ H‬من تنازع‪ .‬ولو فرضنا ان ا استجاب دعاءهم فخلق لهم مجتمعا تعاونيا ل تنازع فيه لمل‪S‬وا منه‬
‫ولهربوا منه كما يفر السليم من الجرب‪.‬‬

‫ل شك ان التنازع مضر بالنسان ولكنه نافع له أيضا ‪ .H‬فهو الذي يحفز النسان نحو العمل المثمر والبداع‪ .‬وبه‬
‫يشعر النسان بانه حي ينمو‪ .‬فلو كان الناس متآخين اخاءا‪ H‬تاما‪ ،H‬يبتسم بعضهم لبعض ويعانق بعضهم بعضا ثم‬
‫يذهب كل منهم في طريقه من غير منافسة أو تكالب وتحاقد لشعروا بأن الموت خير لهم من هذه الحياة الرتيبة‪.‬‬

‫حاول بعض الطوبائيين في أمريكا ان يؤلفوا من أنفسهم مجتمعا هادئا ‪ H‬بعيدا عن تكالب الحياة‪ .‬وقد نجحوا في ذلك‬
‫أول المر ولكنهم سئموا منه أخيرا وهربوا منه‪ .‬يقول وليم جيمس بعدما عاش بينهم بضعة أيام‪ :‬أصبحت أشتهى ان‬
‫اسمع طلقة مسدس أو ألمح لمعان خنجر أو أنظر الى وجه شيطان‪ .‬وعندما خرج وليم جيمس من هذا المجتمع‬
‫الطوبائي قال‪ :‬انا سعيد حين أخرج الى عالم فيه شيء من الشر‪.‬‬

‫أشار بعض المفكرين الى ان الجنة التي وعد بها المتقون لبد أن تكون أشقى مكان في الكون‪ ،‬اذ ليس فيها الخوان‬
‫على سرر متقابلين‪ ،‬يأكلون ويشربون ويتناكحون ول يفعلون سوى ذلك شيئا‪.‬‬

‫انهم سوف يسأمون من هذه الحياة الرتيبة اذا مضت عليهم سنة واحدة فكيف بهم اذا استمروا فيها الى البد خالدين؟‬
‫يحاول بعض رجال الدين الجواب على هذا بقولهم‪ :‬ان أهل الجنة يتطلعون دائما ‪ H‬الى أهل النار ويشاهدون الهوال‬
‫التي تنتابهم فيها‪ .‬وهم يقارنون نعيمهم في الجنة بعذاب أهل النار فيشعرون بالسعادة من جراء ذلك‪.‬‬

‫وهناك جواب آخر يمكن ان يكون اصح من هذا الجواب‪ .‬وهو ان الطبيعة البشرية تتبدل بعد الموت فل تبقى على‬
‫ما هي عليه في الحياة الدنيا‪ .‬اما اذا بقيت محافظة على جبلتها المعهودة فلسوف ل تنفع فيها جنة ول تضر بها نار‪.‬‬

‫ان الطبيعة البشرية كما نعهدها في حياتنا الدنيا ل تستسيغ "السرر المتقابلة" والسعادة الرتيبة‪ .‬فهي تشتهي التنازع‬
‫والتكالب أحيانا لكي تلتهي بهما عن سأم الحياة وتفاهة غاياتها‪.‬‬

‫واني ل اقصد من هذا الكلم الدعوة الى التنازع وترك التعاون والخاء‪ .‬الواقع ان لكل شيء حدا يقف عنده وقد قيل‬
‫قديما‪ :‬كل ما زاد عن حده انقلب الى ضده‪.‬‬

‫ان التنازع والتعاون صنوان ل يفترقان‪ .‬ووظيفة كل منهما ان يخفف من حدة الخر وان يؤدي عمله ضمن نطاقه‬
‫المحدود له‪ .‬والمجتمع المتوازن هو الذي تتكافأ فيه قوى هذين العاملين فل يطغى أحدهما على الخر‪.‬‬

‫وهذا هو ما تنشده الديمقراطية الحديثة _في بلدها ل في بلدنا طبعا‪.‬‬

‫أن المجتمع البشري يحتاج الى قدمين ليمشي عليهما‪ .‬وهاتان القدمان هما عبارة عن جبهتين متضادتين‪ .‬ومن‬
‫الصعب على المجتمع ان يتحرك بقدم واحدة‪.‬‬

‫ولو درسنا أي مجتمع متحرك لوجدنا فيه جماعتين تتنازعان على السيطرة فيه‪ .‬فهناك جماعة المحافظين الذين‬
‫يريدون ابقاء كل قديم على قدمه وهم يؤمنون أن ليس في المكان أبدع مما كان‪ .‬ونجد ازاء هذه الجماعة أخرى‬
‫معاكسة لها هي تلك التي تدعو الى التغيير والتجديد وتؤمن انها تستطيع ان تأتي بما لم يأت به الوائل‪.‬‬

‫من الضروري وجود هاتين الجماعتين في كل مجتمع‪ .‬فالمجددون يسبقون الزمن ويهيئون المجتمع له‪ .‬وخلو‬
‫المجتمع منهم قد يؤدي الى انهياره تحت وطأة الظروف المستجدة‪ .‬أما المحافظون فدأبهم تجميد المجتمع‪ ،‬وهم بذلك‬
‫يؤدون للمجتمع خدمة كبرى من حيث ل يشعرون‪ .‬انهم حماة المن والنظام العام‪ ،‬ولول هم لنهار المجتمع تحت‬
‫وطأة الضربات التي يكيلها له المجددون الثائرون‪.‬‬

‫قدم تثبت المجتمع وأخرى تدفعه‪ .‬والسير ل يتم ال اذا تفاعلت فيه قوى السكون والحركة معا ‪.H‬‬

‫والمجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفن كالماء الراكد‪ .‬اما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين فيتمرد‬
‫كالطوفان حيث يجتاز الحدود والسدود ويهلك الحرث والنسل‪.‬‬

‫والمجتمع الصالح هو ذلك الذي يتحرك بهدوء فل يتعفن ول يطغى‪ ،‬إذ تتوازن فيه قوى المحافظة والتجديد فل‬
‫تطغى احداهما على الخرى‪.‬‬

‫ان المحافظين يدعون دوما الى صيانة التماسك الجتماعي‪ .‬وهم يقدسون وحدة الجماعة ويكفرون من يشق عصا‬
‫الطاعة عليها‪ .‬أما المجددون يدعون من جانبهم الى التطور أو الثورة ول يبالون بوحدة الجماعة بمقدار ما يبالون‬
‫بالتكيف أو التقدم‪.‬‬

‫هما رأيان متناقضان‪ .‬والحق في جانب كل منهما في آن واحد‪ .‬انهما يمثلن الوجهين المتلزمين للحقيقة‬
‫الجتماعية‪ ،‬أو بعبارة أخرى‪ :‬انهما يمثلن القدمين اللتين يسير بهما المجتمع الى المام جيل بعد جيل‪.‬‬

‫ان الحديث النبوي في السلم يحتوي على كل هذين الرأيين المتناقضين معا‪ ،H‬مما يدل على أن النبي أدرك بثاقب‬
‫بصره طبيعة المجتمع البشري‪.‬‬

‫فمن جهة‪ ،‬نرى النبي يقول‪" :‬الجماعة رحمة والفرقة عذاب"‪ ،‬ويقول "ل تختلفوا فان من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"‪.‬‬

‫ونراه من الجهة الخرى يقول‪" :‬ل تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ل يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر‬
‫ا"‪ .‬ويقول‪" :‬اختلف أمتي رحمة"‪.‬‬

‫ان هذا التناقض في الحديث النبوي مرده‪ ،‬في ارجح الظن‪ ،‬الى ان النبي كان ينصح اتباعه في كل حالة بما يلئمها‬
‫من نصيحة‪ .‬فمثله في هذا كمثل الطبيب الذي ينصح النحيل المصاب بفقر الدم بأن يأكل كثيرا‪ ،H‬بينما ينصح البدين‬
‫المصاب بضغط الدم بان يأكل قليل‪ .‬وقد يبدو هذا الطبيب في عين الناظر الساذج انه يناقض نفسه بنفسه‪ .‬والواقع‬
‫انه في نصائحه يراعي الظروف الخاصة بمن ينصحه‪.‬‬

‫ومن المؤسف ان نرى رجال الدين ل يفهمون الحديث النبوي على هذا المنوال‪ .‬فهم يعتبرون أقوال النبي أحكاما‬
‫مطلقة تصلح لكل زمان ومكان‪ .‬بينما هي قد قيلت لمعالجة المشكلت النية التي كان يعانيها اتباعه بين حين وآخر‪.‬‬

‫كان النبي يأمر أتباعه بان ل يتفرقوا أو يختلفوا فيما بينهم‪ .‬وهذا أمر يأمر به كل زعيم مصلح حين يرى اتباعه‬
‫يختلفون فيما ل يجوز الختلف فيه فيضعفون أنفسهم ازاء العدو‪ .‬ولكن النبي أمر اتباعه أيضا ‪ H‬بان يثابروا على‬
‫اتباع الحق ولو أدى ذلك بهم الى مخالفة الجماعة‪ .‬فطاعة المخلوق في رأيه ل تصح عند مخالفتها طاعة الخالق‪.‬‬

‫ان الثورة الفرنسية قد وصلت الى أهدافها وانها أنهت عملها في داخل البلد‪ .‬وادعى الجيرونديون بان واجب الثورة‬
‫صار منحصرا في أمر الحرب خارج البلد لكي تنشر الثورة به مبادءها في انحاء العالم‪.‬‬

‫ووقف روبسبير موقفا شديدا ازاء هذا الرأي وقال‪ :‬ان العدو الذي يعترض الثورة هو داخل فرنسا ل خارجها‪ .‬وان‬
‫الثورة يجب أن تكون حربا أهلية بدل من أن تكون حربا قومية‪ .‬واضاف روبسبير الى ذلك قائل‪ :‬ان مبادىء‬
‫الحرية والعدل ل يمكن ان تفرض بالسيف على بلد خارجية‪ .‬فالناس ل يحبون المبشرين المسلحين‪.‬‬

‫وطاب روبسبير ثوار فرنسا ان يولوا وجوههم شطر بلدهم فيحققوا فيها مبادىء الثورة قبل ان يتطلعوا الى نشرها‬
‫في بلد الخرين‪.‬‬

‫ان هذا الذي حدث في فرنسا يحدث في كل بلد تنشأ فيه حركة اجتماعية جديدة‪ .‬فالمحافظون من المترفين وأصحاب‬
‫المصالح المركزة يقاومون الحركة في أول أمرها‪ .‬واذا نجحت الثورة رغم آنافهم حاولوا ان يجمدوها وان يوقفوها‬
‫عند حدها الذي وصلت اليه‪ .‬وعندئذ يأخذون بالدعوة الى صيانة النظام العام ووحدة الجماعة أو تقويتها ازاء‬
‫اعدائها في الخارج‪.‬‬

‫اما المجددون المتمردون فهم ل يهتمون بقوة الجماعة أو وحدتها بمقدار اهتمامهم بالعمل على تحقيق مبادىء‬
‫العدالة والمساواة جيل بعد جيل‪ .‬وهم يرون بان الحروب الخارجية تلهى الناس عن الهتمام بمبادىء الثورة الولى‬
‫وقد تشغلهم بحماسة قومية ل صلة لها بتلك المبادىء‪.‬‬
‫يقول ابن العربي عن الحسين‪" :‬انه قتل بسيف جده" ويعني بذلك ان الحسين قتل بسيف السلم لنه في نظر ابن‬
‫العربي خرج على دين السلم حين خرج على امام زمانه يزيد ابن معاوية‪.‬‬

‫هذا ولكننا حين نستمع الى رأي الحسين نفسه نجده من نوع آخر‪ .‬فالحسين قال اثناء ثورته على المويين‪" :‬أل وان‬
‫وعطلوا الحدود‪ ،‬واستأثروا بالفىء واحلوا‬
‫‪S‬‬ ‫هؤلء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن‪ ،‬وأظهروا الفساد‪،‬‬
‫حرام ا وحرموا حلله"‪.‬‬

‫ونحن نلحظ مثل هذه المشادة في الرأي عندما اجتمع معاوية بأولئك الذين نقموا على قريش استئثارها بالفىء‬
‫واحتكارها مناصب الدولة‪.‬‬

‫كان الناقمون يطالبون قريشا بمبادىء العدل والمساواة‪ ،‬وكان معاوية يذكرهم بامامة قريش وانها حامية السلم‬
‫وانهم اذا تفرقوا عنها أضعفوا المة فضاع من يدها الملك والنصر تجاه المم الخرى‪.‬‬

‫ونلحظ مثل ذلك عندما دعى محمد قريشا المترفة الى دين السلم في أول المر‪.‬‬

‫يقول عبد ا بن عمرو‪" :‬حضرتهم وقد اجتمع اشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول ا فقالوا‪ :‬ما رأينا مثل ما‬
‫صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط س ‪S‬فه احلمنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وف ‪S‬رق جماعتنا وسب آلهتنا‪ .‬لقد صبرنا منه‬
‫على أمر عظيم‪."..‬‬

‫وشوهد عمر ابن الخطاب قبيل اسلمه يبحث عن محمد فسئل عن سبب ذلك فقال‪" :‬أريد محمدا هذا الصابىء الذي‬
‫فرق أمر قريش وس ‪S‬فه أحلمها وعاب دينها وسب آلهتها‪ .‬فأقتله"‪.‬‬

‫وهنا يتضح بجلء طبيعة المشادة في الرأي بين الجبهتين المتضادتين في المجتمع‪ .‬فالجبهة المحافظة تريد وحدة‬
‫الجماعة وصيانة قوتها‪ ،‬بينما الجبهة المجددة تريد الصلح الجتماعي بغض النظر عما في ذلك من ضعف أو‬
‫تفرق‪.‬‬

‫يقول مانهايم‪ :‬ان الفكار البشرية على نوعين متضادين‪:‬‬


‫‪ _1‬الفكار المحافظة التي تؤيد النظام القائم وهو يسميها ‪ Ideologies‬و ‪ _2‬الفكار المعارضة التي تدعو الى‬
‫نظام مثالي وهو يطلق عليها ‪.Utopias‬‬

‫ويذهب مانهايم الى أن أصحاب المصالح القائمة هم عادة من أولى الفكار المحافظة‪ .‬فهم يدعون الى تدعيم الواقع‬
‫الراهن‪ ،‬فليس في المكان أبدع مما كان‪ .‬وكل اصلح يعد في رأيهم مربكا للمجتمع ومقلق لنظامه القائم‪.‬‬

‫وهذا الراي الذي جاء به مانهايم يوافقه عليه اليوم كثير من علماء الجتماع‪.‬‬

‫فيقول فبلن عن الطبقة المترفة‪ ،‬وهو يسميها الطبقة الفراغية‪ ،‬انها ميالة الى التزام الجبهة المحافظة‪ .‬وأبناء هذه‬
‫الطبقة يخافون من كل تغير اجتماعي أو تجديد لن ذلك قد يضيع عليهم الوضع المريح الذي هم فيه‪ .‬فمصالحهم‬
‫المادية تجعلهم حريصين على ابقاء كل قديم على قدمه‪.‬‬

‫اما سمنر فهو يفرق بين "المثل العليا" والقيم الجتماعية‪ .‬وهو بهذا يشبه مانهايم في تفريقه بين آراء المحافظين‬
‫وآراء المعارضين‪ .‬فالمثل العليا في رأي سمنر هي سلح المتذمرين‪ .‬اما القيم الجتماعية فهي التي يستخدمها أولو‬
‫النفوذ في المجتمع لكي يدعموا بها نظامهم القائم ولو كان ظالما‪.‬‬

‫يدعونا النصاف هنا ان نذكر بان هذه النظرية التي جاء بها اليوم علماء الجتماع‪ ،‬قد جاء بها القرآن منذ زمان‬
‫قديم‪.‬‬

‫يقول القرآن في احدى آياته‪" :‬وما أرسلنا في قرية من نذير أل قال مترفوها ا ‪S‬نا بما أرسلتم به كافرون"‪.‬‬

‫وقال في آية أخرى‪ :‬سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الرض بغير الحق‪ ،‬وان يروا كل آية ل يؤمنون بها‪،‬‬
‫وان يروا سبيل الرشد ل يتخذوه سبيل‪ ،‬وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيل"‪.‬‬

‫وفي القرآن عدة آيات أخرى تؤدي الى ما يشبه هذا المعنى‪ ،‬اذ هي تشير الى ان المترفين يقاومون الدعوات الجديدة‬
‫دائما ‪ H‬وهم ميالون للمحافظة على ما وجدوا آباءهم عليه من قيم وعادات وآراء‪.‬‬

‫وهناك آية ذات مغزى اجتماعي هام من هذه الناحية‪ .‬ففيها يقول القرآن‪" :‬واذا أردنا ان نهلك قرية أمرنا مترفيها‬
‫ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا"‪.‬‬

‫والواقع ان هذه الية واضحة في دللتها الجتماعية‪ ،‬فالناس اذا سكتوا عن جرائم المترفين وخضعوا لمرهم‬
‫واتحدوا على طاعتهم أصبحوا مستحقين للعقاب مثلهم‪.‬‬

‫وهنا نجد القرآن يخالف وعاظ السلطين فيما ذهبوا اليه من وجوب الطاعة للسلطان ولو كان ظالما‪ .‬فطاعة الظالم‬
‫هي بذاتها ظلم وهي تستحق العقاب مثله وقد قال النبي محمد‪" :‬اذا رأيت أمتي تهاب الظالم ان تقول له انك ظالم فقد‬
‫تودع منها"‪.‬‬

‫خلصة المر‪ :‬ان من خصائص كل دعوة اصلحية جديدة انها تفرق الجماعة‪ .‬ذلك لن المترفين يقفون لها‬
‫بالمرصاد ويقاومونها ما استطاعوا الى ذلك سبيل‪.‬‬

You might also like