Professional Documents
Culture Documents
علي الوردي
رأين ا ف ي مقالة س ابقة كي ف أن البص رة كان ت أول مدين ة ف ي العالم الس لمي
تعن ي بعلم النح و وتضع أصوله .ومما يجدر ذكره هنا أن البص رة كان ت كذلك
أول مدينة يترجم فيها المنطق الرسطوطاليسي.
وهذه ظاهرة اجتماعي ة تلف ت النظ ر فما ه و الس بب فيها؟ إنن ا ق د عرفنا فيما
مض ى الس بب الذي أدى إلى ظهور علم النح و ف ي البص رة ،ونري د الن أن
نعرف الس بب الذي أدى إلى ترجم ة المنط ق ونشوء العتزال وعلم الكلم
فيها.
الجمل: معركة
وهنا لبد لهل البصرة من أن يتجادلوا ويشتدوا في الجدال .فقد كانوا حائرين
يتساءلون عن الحق في أي جانب يكون؟ أيكون الحق مع علي وبهذا تمسي
عائش ة أم المؤمني ن مبطلة ،أم يكون الح ق م ع عائش ة فيمس ي علي أمي ر
المؤمنين مبطراd؟
ومثل هذا الجدل ل يصل بالناس إلى نتيجة عقلية حاسمة .فكل فريق يملك من
البراهين ما يؤيد بها موقفه .فكان علي ينادي الناس من جهة ،وكانت عائشة
تناديه م م ن الجه ة الخرى .ووق ف كثي ر م ن الناس حائري ن ل يدرون أي ن
يذهبون.
وقد تمثلت الحيرة يومذاك في الزبير بأجلى مظاهرها .يروي الطبري عنه أنه
قال” :ما كنت في موطن ،منذ عقلت ،إل وأنا أعرف فيه أمري ،غير موطني
هذا“ .وق د أدت ب ه الحيرة إلى النس حاب م ن المعرك ة والذهاب ف ي الرض ل
يلوي على شيء.
وهذا يدل على مدى الحيرة التي أصابت عقول الناس آنذاك .فلقد التبس المر
عليه م ،وهاله م أن يجدوا عليا dومع ه خيرة الص حابة ف ي جان ب ،ث م يجدوا
عائشة ومعها طلحة والزبير في الجانب الخر .فلبد أن يكون أحد الجانبين
على حق ،وأن يكون الخر على باطل .وهذا أمر يصعب عليهم تصوره ،وقد
كان النبي يقول” :أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم أهديتم“.
الفكرية: النتائج
انتهت المعركة بانتصار علي بن أبي طالب .ورجعت عائشة إلى المدينة .ولكن
المعركة الفكرية لم تنته بالرغم من ذلك .فقد بقى الناس يتجادلون ويتلومون.
ومم ا زاد ف ي الطي ن بلة انتص ار معاوي ة بعدئذ واس تيلئه على الخلف ة .وكان
من سياسة معاوية أن ينتقص من شأن علي بن أبي طالب وأن يعلى من شأن
عائشة.
ص ارت عائش ة ف ي نظ ر معاوي ة رمزا dيمث ل المطالب ة بدم عثمان .ودم عثمان
-كما ليخفى -هو الساس الذي قامت عليه الدولة الموية.ولهذا أخذت الدولة
تقدس عائش ة وتشج ع الناس على تقديس ها ف ي ك ل س بيل .فف ي الوق ت الذي
ص ار علي ب ن أب ي طالب يشت م على المنابر ،أص بحت عائش ة س يدة نس اء
العالم ،وتهافت الناس عليها ليسمعوا من فمها حديث زوجها رسول ا …
البصرة: أهل
وإذ نرجع إلى أهل البصرة نجدهم منقسمين إلى فريقين :عثمانيين وعلويين،
والجدل بينه م قائم على قدم وس اق .والظاه ر أن البص رة فاق ت بانقس امها هذا
أي قط ر آخ ر .ففيه ا وقع ت معرك ة الجم ل ،ولب د أن يكون فيه ا أناس يذهبون
مذه ب عائش ة ف ي الحزن على عثمان ،وآخرون يذهبون مذه ب علي ب ن أب ي
طالب في الثورة على عثمان وعلى قومه من بني أمية.
أم ا المص ار الس لمية الخرى فق د اتخذت ف ي الم ر طريقا dواضحا ،dإلى هذا
الجان ب أو ذاك ،وقلم ا نج د فيه ا م ا وجدن ا ف ي البص رة م ن انقس ام مذه بي
عنيف .وهذا النقسام لبد أن يؤدي إلى الجدال في مفهوم الحق والباطل وفي
المقاييس المنطقية التي تفرق بينهما.
ول عج ب بع د أن يظه ر مذه ب العتزال وعلم الكلم ،ث م يترج م المنط ق .ف ي
البصرة قبل غيرها من المصار السلمية.
والمنطق: النحو
في مثل هذا الجو المشحون بالجدل المنطقي نشأ النحو العربي .ومن الطبيعي
اذن أن يتأث ر النح و بالمنط ق على وج ه م ن الوجوه .ومم ا تجدر الشارة إلي ه
في هذا الصدد ان ابن المقفع الذي ترجم المنطق كان صديقا uللخليل بن أحمد
الفراهيدي .وكانت بينهما مودة وإعجاب متبادل .ولعل هذا من أسباب مارأينا
في الخيل من ميل شديد للقياس حيث استخدمه في النحو استخداما dواسعا.
ومهم ا يك ن الحال فق د اشته ر نحاة البص رة بأنه م قياس ون ،إذ جعلوا للقياس
المنطقي شأنا dكبيرا dفي وضع قواعدهم ،حتى أطلق عليهم لقب أهل المنطق.
والمعروف عنه م انه م كانوا يضعون القواع د أول ،dثم يختارون من الشواه د
واللهجات ما يلئم تلك القواعد .فإذا اس معوا اعرابيا vَdينطق بخلف اقيستهم
أهملوا كلم ه وعدوه ملحونا .أم ا إذا وجدوا الخلف ف ي القرآن أو ف ي شاه د
ليمكن تخطئته لجأوا إلى التأويل والتعليل.
يقول الس تاذ أحم د أمي ن ع ن نحاة البص رة” :فه م ق د فضلوا القياس وأمنوا
بس لطانه وجروا علي ه وأهدروا ماعداه ،وإذا رأوا لغتي ن :لغ ة تس ير م ع
القياس ،ولغ ة لتس ير علي ه ،فضلوا الت ي تس ير علي ه ،وأضعفوا م ن قيم ة
غيرها .فهم في الواقع أرادوا أن ينظموا اللغة ولو بإهدار بعضها .وأرادوا أن
يكون ماس مع م ن العرب مخالفا dلهذا التنظي م مس ائل شخص ية جزئي ة
يتسامحون فيها نفسها ول يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى ل تكثر
فتفس د القواع د والتنظيم ،هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويل dيتفق
وقواعدهم ولو بنوع تكلف.
يقول أه ل الكوف ة إن القضاي ا النحوي ة س بيلها الس ماع والس تقراء ل المعان
المنطق ي ف ي القياس .فه م يريدون أن يخضعوا ف ي أحكام النح و للذوق
الط بيعي ،ويطرحون م ا يحول دون إحس اسهم بالطبيع ة اللغوي ة م ن أحكام
عقلية وأقيسة منطقية.
إذا س مع الكوفيون م ن أح د العراب مثال dشاذا vأخذوا ب ه ،إذ ه و يمث ل ف ي
نظرهم لهجة بعينها وينبغي أن يحسب حسابها .فإهدار هذا المثال الشاذ إنما
هو إهدار لجانب لغوي ل تتم الدراسة إل به.
ان مدرسة الكوفة كانت تجري في تطوير النحو على أساس الحترام المتبادل
التام لكل ما يصدر من بادية العرب ،كأنها تحسب أهل البادية معصومين من
الخطأ .أما مدرسة البصرة فكانت تنظر إلى أهل البادية نظرة التقاط واختيار،
وه ي ل تنزهه م م ن الخط أ واللح ن .وكان ت تس تخرج القواع د بالقياس على
العم الغلب من لغة العراب .فإذا وجدت فيه شذوذا dأهدرته ولم تقس عليه.
النزاع: نتيجة
أخذ النزاع بين أهل البصرة والكوفة يخمد تدريجيا dبمرور اليام .والظاهر ان
المدرس تين تداخلت إحداهم ا بالخرى وامتزجت ا ،فأص بحتا مدرس ة واحدة.
وكان هذا من سوء حظ النحو العربي.
لق د كان الجدي ر بالنحاة المتأخري ن أن يتبعوا إحدى المدرس تين ويهملوا
الخرى .ولكنن ا رأيناه م يأخذون بآرائهم ا معا dويعدون أس اتذتهما أئم ة ف ي
النح و بل تفري ق .فضيعوا على النح و بذلك فرص ة ك بيرة كان المفروض فيه ا
أن تنقذ النحو من الورطة التي وقع فيها أخيرا.
لم يخل تاريخ النحو ،على كل حال ،من انتفاضات صغيرة تنهج نهج الكوفة
في العتراض على استعمال القياس المنطقي في النحو.
وف ي المغرب ،ف ي عه د الموحدي ن ،ظه ر أعظ م ثائر على النح و العرب ي ،ه و
اب ن مضاء القرط بي .وق د كت ب هذا الرج ل ثلث ة كت ب ه ي (1) :المشرق ف ي
النح و (2) ،تنزي ه القرآن عم ا ل يلي ق بالبيان (3) ،الرد على النحاة .وق د حاول
بهذه الكتب أن يهدم نحو سيبويه وأقيسته.
والظنون أن هناك شبها dكبيرا dبين رأي مضاء ورأي الستاذ ابراهيم مصطفى
الذي أشرن ا إلي ه ف ي مقالة ماضي ة .ولك ن رأي اب ن مضاء لم يقدر له النجاح.
فق د كان الناس مشغوفي ن بنح و س يبويه ،فلم يس تطع اب ن مضاء أو غيره أن
يثنيهم عنه.
مالك: ابن
وف ي القرن الس ابع ظه ر اب ن مالك .وق د اشته ر هذا الرج ل ف ي النح و شهرة
سيبويه ،وإليه يرجع الفضل في تجميد النحو وصبه في قالبه الخير .فقد نظم
ابن مالك نحو سيبويه ووضحه وفصله وقربه إلى أذهان الناس.
النهائية: الصيغة
لح ظ الباحثون المحدثون ان الص يغة النهائي ة الت ي جم د فيه ا النح و العرب ي
متأثرة بالمنط ق الرس طوطاليسي تأثرا dك بيرا .يقول الدكتور ابراهي م بيوم ي
مدكور ان النح و العرب ي تأث ر ،ع ن قرب أو بع د ،بم ا ورد على لس ان أرس طو
ف ي كتب ه المنطقي ة من قواع د نحوي ة ،وأن المنط ق الرس طوطاليسي أث ر ف ي
النحو من جانبين :أحدهما موضوعي والخر منهجي .وأريد بالقياس النحوي
أن يحدد ويوضع على نحو ماحدده القياس المنطقي.
ومما يلفت النظر في كتب النحاة المتأخرين انهم يسلكون في بحوثهم مسلك
المناطقة .وكثيرا dمانجد القوانين المنطقية التي جاء بها أرسطو مسيطرة على
عقوله م ،كأنه م يتص ورون القواع د النحوي ة تجري على نف س النم ط الذي
تجري عليه ظواهر الكون.
ونظرية العامل هذه تدور حول السبب الذي يجعل الكلمة مرفوعة أو منصوبة
أو مجرورة .فالنحاة يرون الحركات العرابي ة تتبدل ف ي الكلم ة مرة بع د مرة
على نظام مطرد .فقالوا أن هذا التبدل عرض حادث وه و لب د له م ن محدث
كما يقول المناطقة .فما هو هذا المحدث؟ وفي البحث وراء هذا المحدث صار
النحاة يخلطون ويخبطون خبط عشواء.
ث م ذهبوا إلى القول بأن اجتماع عاملي ن على معمول واح د غي ر ممك ن .وه م
يستندون في ذلك على قانون عدم التناقض الذي جاء في المنطق القديم .فهم
يقولون :إذا اتفق العاملن في العمل لزم تحصيل الحاصل وهو محال ،أما إذا
اختلف ا فالنقيضان يجتمعان ف ي المعمول ،حي ث يكون مثل dمنص وبا dومرفوعا
في آن واحد ،وهذا محال أيضا.
العامل: طبيعة
لو أنهم جعلوا العامل معنويا dلهان المر وصار لبحثهم قيمة .ولكنهم استهانوا
بالعامل المعنوي وآثروا عليه العامل اللفظي .فهم يعزون رفع الفاعل مثل uإلى
الفع ل الذي يس بقه .وكان الولى به م أن يعزوه إلى الفاعلي ة أو الس ناد ،كم ا
يصنع النحاة في اللغات الحديثة.
مرفوعي ن. نش ب جدل بينه م ذات مرة حول العام ل الذي جع ل المبتدأ والخ بر
قال الكوفيون :ان عامل رفع المبتدأ هو الخبر ،وعامل رفع الخبر هو المبتدأ.
فاحت ج عليه م البص ريون قائلي ن :ان الكلمتي ن ل تتبادلن العم ل إذ يكون ك ل
منهما عامل dومعمول dفي آن واحد .وحجة البصريين في هذا الشيء ل يمكن
أن يكون سببا dونتيجة في الوقت ذاته .وقد أخذوا ذلك من المناطقة طبعا .d
ومن المبادئ التي نادى بها ابن مضاء القرطبي في إصلح النحو هو إلغاء
نظري ة العام ل م ن أس اسها .ولك ن ص يحته لم تلق أذنا dص اغية ،فمات ت ف ي
مهدها مع السف.
العامل: تقدير
كان م ن الص عب على النحاة أن يجدوا لك ل حرك ة إعرابي ة عامل dلفظيا dيأت ي
قبله ا .ولهذا لجأوا إلى التقدي ر ،ووص ل به م الم ر ف ي هذا المجال إلى درج ة
من السخف ل تطاق.
فإذا جئت له م على س بيل المثال بجملة “ زيدا dرأيت ه“ وس ألتهم ع ن العام ل
الذي نص ب ”زيدا “dأجابوك ان ه فع ل مس تتر تقديره ”رأي ت“ز وبهذا تص بح
الجملة عندهم” :رأيت زيدا dرأيته“.
النحاة: دكتاتورية
ر.يحك ى أن الكس ائي كان ف ي مجلس الرشي د ذات يوم فقرأ أبياتا dم ن الشع
وكان الص معي حاضرا dفأراد أن يناف س الكس ائي ف ي علم ه بالنح و فاعترض
على كلم ة جاء به ا الكس ائي مرفوع ة .فانتهره الكس ائي وقال له” :اس كت،
ماأنت وهذا “..ثم أخذ يتباهى على الصمعي ويأتي بالكلمة مرفوعة ومنصوبة
ومجرورة .وكان قادرا dأن يخترع ف ي س بيل ذلك ماشاء م ن العوام ل .فس كت
الصمعي ،وهبطت مكانته في عين أمير المؤمنين.