You are on page 1of 99

‫التوازن التربوي‬

‫وأهميته لكل مسلم‬

‫تأليف‬
‫مجدي الهللي‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫الطبعة الولى‬
‫‪1 4 3 0‬هـ ‪2 0 0 9 -‬م‬
‫بطاقة الفهرسة‬
‫فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة‬
‫لدار الكتب والوثائق القومية‬
‫إدارة الشئون الفنية‬

‫اللل‪ ،‬مدي‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهيته لكل مسلم‬
‫‪ /‬تأليف مدي اللل‪-.‬ط ‪ -.1‬القاهرة‬
‫مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجة‪104( 2009 ،‬ص)‪ 24 ،‬سم‬
‫تدمك‪977 - 441 - 612 -0 :‬‬
‫‪ -1‬التربية السلمية‬
‫‪212‬‬ ‫أ‪ .‬العنو ان‬

‫رقم اليداع‪25123/2008 :‬‬

‫مركز السلم‬
‫للتجهيز الفني‬
‫عبد الحميد عمر‬

‫دار السراج‬
‫‪010696264‬‬
‫‪7‬‬

‫توزيع‬
‫مؤسسـة اقـــــرأ‬
‫للنشر والتوزيع والترجمة‬
‫‪ 10‬ش أحمد عمارة ‪ -‬بجوار حديقة الفسطاط‬
‫محمول‪-0102327302:‬‬ ‫القاهرة ت‪25326610 :‬‬
‫‪0126344043‬‬
‫‪3‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫‪Email:iqraakotob@yahoo.com‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪4‬‬
‫لكل مسلم‬

‫المقدمة‬

‫رب يسر وأعن يا كريم‬


‫الحمــد لله رب الســماوات ورب الرض رب‬
‫العالميـن‪ ،‬والصـلة والسـلم على رسـولنا محمـد‬
‫وعلى آله وصحبه أجمعين‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فالتربيـة مصـطلح شائع ومتداول بيـن الناس‬
‫على اختلف ثقافاتهـم ومشاربهـم‪ ،‬وهـو يحمـل‬
‫فـي طياتـه معنـى التغييـر ‪-‬سـواء كان سـلبيًا أم‬
‫إيجابي ً ـا‪ -‬فالذي يريــد مــن نفســه أو ممــن حوله‬
‫سـلوكًا دائ ًـ‬
‫ما فـي اتجاه (مـا)‪ ،‬لبـد مـن أن يتربـى‬
‫أو يربيهم عليه‪ ،‬فمن أراد ‪ -‬مثل‪ -‬اكتساب مهارة‬
‫قيادة الســيارات ل يكفيــه التعرف على قواعــد‬
‫وأسـاليب القيادة مـن الناحيـة النظريـة‪ ،‬بـل لبـد‬
‫له مـن الممارسـة العمليـة للقيادة لمدة معتـبرة‪،‬‬
‫ما مفتولً‪ ،‬فمـن‬ ‫والذي يريـد عضلت قويـة وجسـ ً‬
‫الضروري أن يمارس الرياضـــــة المؤهلة لذلك‬
‫وباستمرار حتى يصل إلى هدفه‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫والتربيـة ثابـت مـن الثوابـت ينبغـي أن يتبناه كـل‬
‫من يريد تغييًرا إيجابي ًا في شخصيته أو شخصية كل‬
‫من يتولى أمرهم ويرجو صلحهم‪.‬‬
‫فما هي التربية؟‬
‫وما هو هدفها؟‬
‫ما مجالتها؟‬
‫وماذا يعني التكامل التربوي والرؤية التربوية؟‬
‫هل تتوقف التربية عند حد ما؟‬
‫وما هي السباب التي تؤخر ظهور ثمرة التربية؟‬
‫‪5‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫للجابـة عـن هذه السـئلة وغيرهـا كانـت تلك الصـفحات‪،‬‬


‫والتـي نسـأل الله عـز وجـل أن تصـحبنا فيهـا معيتـه وتوفيقـه‪،‬‬
‫َ‬
‫قي إِل ّ بِالل ِ‬
‫ه‬ ‫في ِ‬
‫و ِ‬
‫ما ت َ ْ‬
‫و َ‬
‫والقادر عليه " َ‬
‫ُ‬
‫فهو وحده ولي ذلك‬
‫علَيه ت َ‬
‫ب" [هود‪.]88 :‬‬ ‫وإِلَي ْ ِ‬
‫ه أنِي ُ‬ ‫وك ّل ْ ُ‬
‫ت َ‬ ‫َ ْ ِ َ َ‬
‫***‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪6‬‬
‫لكل مسلم‬

‫معنى التربية‬

‫يقول عبــد الرحمــن النحلوي فــي حديثــه عــن مفهوم‬


‫التربية‪:‬‬
‫إذا رجعنـــا إلى معاجـــم اللغـــة العربيـــة وجدنـــا لكلمـــة‬
‫«التربية» أصول لغوية ثلثة‪:‬‬
‫الصــل الول‪ :‬ربــا يربــو بمعنــى زاد ونمــا‪ ،‬وفــي هذا‬
‫في‬ ‫رب ًا ل ِّيَْرب ُ َ‬
‫و ِ‬ ‫من ّ ِ‬
‫ما آتَيْت ُم ِّ‬
‫و َ‬‫َالمعنـى نزل قوله تعالى‪َ " :‬‬
‫ه" [الروم‪.]39 :‬‬‫عنْدَ الل ِ‬‫فل َ يَْربُو ِ‬
‫س َ‬ ‫َ‬
‫ل الن ّا ِ‬
‫وا ِ‬
‫م َ‬
‫أ ْ‬
‫ى يربى ومعناها‪ :‬نشأ وترعرع‪.‬‬ ‫الصل الثاني‪َ :‬رب ِ َ‬
‫ب بمعنـى أصـلحه‪ ،‬وتولى أمره‪،‬‬ ‫ب يَُر ُّـ‬
‫الصـل الثالث‪ :‬ر َّـ‬
‫وساسه‪ ،‬وقام عليه ورعاه‪.‬‬
‫وقد اشتق بعض العلماء من هذه الصول اللغوية تعريفا‬
‫للتربيــة‪ .‬قال المام البيضاوي فــي تفســيره (أنوار التنزيــل‬
‫وأسرار التأويل)‪:‬‬
‫«الرب في الصل بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء إلى‬
‫كماله شيئًا فشيئًا»‪.‬‬
‫وفـــي كتاب مفردات الراغـــب الصـــفهاني‪ :‬الرب فـــي‬
‫الصـــل التربيـــة‪ ،‬وهـــو إنشاء الشيـــء حال ً فحال ً إلى حـــد‬
‫التمام(‪.)1‬‬
‫ويقول د‪ .‬ماجـد عرسـان الكيلنـي‪ :‬يعرف علماء التربيـة‬
‫الحديثة «التربية» بأنها تغيير في السلوك‪ .‬وهذا تعريف فيه‬
‫قدر كــبير مــن الدقــة والصــوابية شريطــة أن يفهــم مــن‬
‫السلوك حلقاته الثلث‪ :‬حلقة الرادة‪ ،‬وحلقة الفكرة‪ ،‬وحلقة‬
‫الممارسة(‪.)2‬‬

‫‪1‬‬
‫() أصــول التربيــة الســلمية وأســاليبها لعبــد الرحمــن النحلوي ص ‪13 ،12‬‬
‫باختصار وتصرف يسير – دار الفكر‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() مناهــج التربيــة الســلمية د‪ .‬ماجــد عرســان الكيلنــي ص ‪– 77‬مؤســسة‬
‫الريان‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫التغيير والثر الدائم‪:‬‬


‫مــن خلل مــا تدل عليــه التعريفات الســابقة مــن معان‬
‫يمكننـا أن نصـوغ تعريفـا إضافي ًـا للتربيـة بأنهـا‪« :‬إحداث تغييـر‬
‫أو أثر دائم في الشيء»‪.‬‬
‫فحدوث أثر لحظي ل يندرج تحت مسمى التربية‪ ،‬فالذي‬
‫ينفق مرة أو مرتين نتيجة تأثره اللحظي بموقف تعرض له‪،‬‬
‫أو سـماعه لموعظـة عـن النفاق ل يمكـن أن نصـفه بأنـه قـد‬
‫صار (منفقا) إل إذا صار النفاق سمة من سماته‪.‬‬
‫والذي اســتطاع أن ينام عددًا قليل ً مــن الســاعات فــي ليلة‬
‫من الليالي‪ ،‬واستفاد بوقته في إنجاز العديد من العمال‪ ،‬فإنه‬
‫ل يصـبح بهذه الليلة قـد اكتسـب أو تربـى على قلة النوم إل إذا‬
‫صار ذلك سمتا عاًما له‪.‬‬
‫فالتربيـة هـي‪ :‬إحداث أثـر دائم فـي الشيـء‪ ...‬مـع العلم‬
‫بأن هذا الثـر قـد يكون إيجابي ًـا أو سـلبيًا‪ ،‬كمـن يتربـى على‬
‫شح فيصــير‬ ‫الكذب فيصــير كذَّاب ًــا‪ ،‬أو مــن يتربــى على ال ّــُ‬
‫ما جوادًا‪.‬‬ ‫حا‪ ،‬أو من يتربى على النفاق فيكون كري ً‬ ‫شحي ً‬
‫وعمليـة التربيـة تحتاج إلى ممارسـة دائمـة ومتكررة حتـى‬
‫تظهر ثمارها‪ ..‬قال ‪« e‬الخير عادة‪.)3(»..‬‬
‫الفارق بين التعليم والتربية‪:‬‬
‫هناك فارق كبير بين التعليم والتربية‪ ،‬فهدف التعليم هو‬
‫إيصــال المعلومــة إلى المتعلم واســتيعابه وفهمــه لهــا دون‬
‫النظر إلى تطبيقه أو عدم تطبيقه لمقتضاها‪.‬‬
‫أمـا هدف التربيـة فهـي إيصـال المعلومـة مـع الممارسـة‬
‫المستمرة لمقتضاها وما تدل عليه في الواقع العملي حتى‬
‫ما ينتــج عنــه تغي ّــُر فــي‬
‫تنشــئ فــي ذات المتلقــي أثًرا دائ ًــ‬
‫سلوكه‪.‬‬
‫فل تكفــي المعرفــة النظريــة بالقيــم والخلق لكــي ت ُ ـصبح‬
‫سا فـي حياة الفرد‪ ،‬بـل لبـد مـن أن يتربـى عليهـا‪،‬‬ ‫واقعًـا ملمو ًـ‬
‫ويمارسها مرات ومرات‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() حسن‪ ،‬رواه ابن ماجه وحسنه اللباني في صحيح الجامع الصغير (‪.)3348‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪8‬‬
‫لكل مسلم‬

‫مـن هنـا ندرك أهميـة التربيـة الصـحيحة التـي تهدف إلى‬


‫لذلك كان مـن أهـم‬ ‫تكويـن الفرد المسـلم الصـالح المصـلح؛ َّ‬
‫في‬ ‫ث ِِ‬ ‫ع َِ‬ ‫َ َ‬ ‫ب‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫و ال‬‫ه َ‬
‫مهمات الرســل‪ :‬التربيــة والتزكيــة " ُ‬
‫م‬
‫ه ِْ‬ ‫ّ‬
‫ويَُزكِي َ ِ‬‫ه َ‬ ‫م آيَات ِِ ِ‬ ‫ه ِْ‬ ‫م يَتْلُو َ َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫ه ِْ‬ ‫سول ً ِّ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ن َر ُِ‬ ‫مي ِّي َِ‬ ‫ال ُ ِّ‬
‫في‬ ‫لل ِ‬ ‫قب ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫وإِن كَانُوا ِ‬ ‫ة َ‬
‫م َ‬‫حك ْ َ‬‫وال ْ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫م الْكِتَا َ‬‫ه ُ‬ ‫عل ِّ ُ‬
‫م ُ‬ ‫وي ُ َ‬‫َ‬
‫ن" [الجمعة‪.]2 :‬‬ ‫ي‬ ‫ُ‬
‫مب‬
‫ٍ ّ ِ ٍ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ضل‬ ‫َ‬
‫***‬
‫‪9‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫حاجة النسان إلى التربية‬

‫خلق الله عـز وجـل النسـان وجعـل تكوينـه يشمـل أربعـة‬


‫مكونات رئيسية هي‪ :‬العقل والقلب والنفس والجسد‪.‬‬
‫والنسـان يبدأ رحلتـه على الرض ‪-‬منـذ خروجـه مـن رحـم‬
‫أمــه‪ -‬بهذه المكونات الربــع وهــي غيــر مكتملة النمــو‪ ،‬بــل‬
‫جعلهـا الله ســبحانه تبدأ صــغيرة‪ ،‬محدودة المكانات‪ ،‬لتنمـو‬
‫بعد ذلك بما أودع فيها من خاصية النماء‪.‬‬
‫ونماء هذه المكونات يسـتلزم دوام إمدادهـا بالغذاء الذي‬
‫يناسبها‪.‬‬
‫فالجسـد يخلق صـغيًرا ضعيفًـا‪ ،‬ولكـي ينمـو لبـد له مـن‬
‫غذاء متنوع يلبــي احتياجاتــه ويترك فيــه أثره الدائم‪ ،‬وينتــج‬
‫ما طاقة تدفع صاحبه للنشاط والحركة‪.‬‬ ‫عنه دو ً‬
‫ومـع ضرورة إمداد الجسـد بالغذاء المناسـب لبـد كذلك‬
‫من دوام توجيه نشاطه وحركته بالطريقة التي تساهم في‬
‫نجاح المرء في أداء وظيفته على الرض‪.‬‬
‫ومــا ينطبــق على الجســد ينطبــق على العقــل والقلب‬
‫والنفس‪ ،‬فلبد لهذه المكونات الثلثة من تربية وإنماء حتى‬
‫تكتمـل وتصـلح ويسـاهم كـل منهـا بأثره فـي تنشئة المسـلم‬
‫الصــالح المصــلح الذي يقوم بوظيفتــه الســاسية؛ أل وهــي‬
‫معرفة ربه وعبادته وخشيته بالغيب‪ ،‬وإقامة دينه في نفسه‪،‬‬
‫ثــم فــي نفوس المســلمين‪ ،‬وأن يجتهــد فــي تبليغــه للبشــر‬
‫جميعًا‪.‬‬
‫وكمـا أنـه مـن الضروري اسـتمرار تعاهـد البدن وإمداده‬
‫بما يصلحه حتى يستمر في النمو والتمتع بالصحة والحيوية؛‬
‫كذلك لبـد مـن تعاهـد العقـل والقلب‪ ،‬والنفـس بالمداد بمـا‬
‫يصلحهم‪ ،‬ودفع ما يضرهم حتى يستمر نموهم المعنوي في‬
‫التجاه الصـحيح‪ ،‬وبخاصـة أن كل ً منهـم يبدأ الحياة كمـا يبدأ‬
‫الجسـد‪ ..‬محدود المكانات والقدرات‪ ،‬و لديـه قابليـة للنماء‪،‬‬
‫فالعقـــل يبدأ الحياة وهـــو فارغ مـــن أي مخزون معرفـــي‬
‫ن‬
‫مو َ ِ‬‫عل َ ُ‬ ‫هاتِك ُِِ ْ‬
‫م ل َ تَ ْ‬ ‫ن أ ُ َّ‬
‫م َ‬ ‫من بُطُو ِ ِ‬
‫جك ُِِم ّ ِِ‬ ‫ه أَ ْ‬
‫خَر َ‬ ‫والل ُِِ‬
‫" َ‬
‫شيْئًا" [النحل‪.]78 :‬‬ ‫َ‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪10‬‬
‫لكل مسلم‬

‫والقلب يولد على الفطرة كما قال ‪ « :e‬ما من مولود‬


‫إل يولد على الفطرة»(‪.)4‬‬
‫والنفـس تبدأ رحلتهـا فـي الحياة ولديهـا القابليـة للفجور‬
‫س‬
‫ف ٍِِ‬ ‫ون َ ْ‬
‫والنفلت‪ ،‬وكذلك َالقابليــة للســتكانة والتطويــع " َ‬
‫ها"‬‫وا َ‬ ‫وت َ ْ‬
‫ق َ‬ ‫ها َ‬
‫جوَر َ‬
‫ف ُ‬‫ها ُ‬
‫م َ‬ ‫فأل ْ َ‬
‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫ها‬ ‫س َّ‬
‫وا َ‬ ‫ما َ‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫[الشمس‪.]8 ،7 :‬‬
‫ولئن كان أمـر تعاهـد البدن وتربيتـه ل يحتاج إلى توجيـه دائم‬
‫‪-‬فيما يخص الغذاء‪ -‬باعتبار أنه أمر محسوس وظاهر؛ إل أننا ل‬
‫نتعامل مع عقولنا وقلوبنا وأنفسنا بنفس الدرجة من الهتمام‬
‫لننا ‪-‬من ناحية‪ -‬ل نراهم بأعيننا‪ ،‬ول نكاد نستشعر احتياجاتهم‪.‬‬
‫ومـن ناحيـة أخرى فإن هذه المكونات الثلثـة يحدث لهـا‬
‫نمـو ولكنـه ‪-‬فـي الغالب‪ -‬ليـس بالشكـل المطلوب‪ ،‬أو فـي‬
‫التجاه الصحيح‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪:‬‬
‫العقل ‪-‬بعد الولدة‪ -‬يبدأ في استقبال المعلومات من كل‬
‫التجاهات دون تمييـز بيـن صـحيحها وسـقيمها‪ ،‬ثـم تبدأ هذه‬
‫المعلومات شيئًا فشيئًا في تشكيل يقينه ومعتقداته ونظرته‬
‫للحياة ومفرداتها‪.‬‬
‫ضرورة التربية الصحيحة‪:‬‬
‫مــن هنــا تــبرز أهميــة التربيــة الصــحيحة‪ ،‬فالمســلم لن‬
‫ينصــلح حاله‪ ،‬ولن يكتمــل نموه‪ ،‬ولن يرى الثمار الصــحيحة‬
‫لعبوديتـه لربـه عـز وجـل إل إذا اهتـم بالجوانـب الربعـة التـي‬
‫تشكل كينونته‪.‬‬
‫فعندمـــا يُترك العقـــل دون تربيـــة وإنماء فـــي التجاه‬
‫الصـحيح‪ ،‬فمـن المتوقـع أن يفشـو الجهـل‪ ،‬وتتغيـر الولويات‪،‬‬
‫وتضطرب المفاهيم‪ ،‬وتكثر الشبهات‪ ،‬وتظهر البدع والعقائد‬
‫الفاسدة‪.‬‬
‫وعندمــا يُترك القلب بدون تعاهــد وإمداد إيمانــي فإنــه‬
‫سـيصبح أسـيًرا للهوى تابعًـا له‪ ..‬كلمـا اشتهـى فعـل‪ ،‬وكلمـا‬
‫رغـــــب اندفـــــع‪ ..‬ل يبالي بحلل أو حرام‪ ..‬تتبلد مشاعره‬
‫وتقسو‪ ،‬فل يكاد يتأثر بموعظة‪.‬‬
‫وعندمـــا تترك النفـــس بدون تزكيـــة‪ ،‬فســتجد أمامهــا‬

‫‪4‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫حا للفجور والطغيان وســوق صــاحبها لفعــل‬ ‫المجال مفتو ًــ‬


‫الفواحش والموبقات‪.‬‬
‫وعندمــا تُترك حركــة المرء وجهده البدنــي بدون توجيــه‬
‫فمن المتوقع أن يستهلكها في تحقيق شهواته ورغائبه دون‬
‫ضوابط‪.‬‬
‫‪ ..‬كــل هذا ســيؤدي إلى التخبــط والضياع فــي الدنيــا‪،‬‬
‫والبتعاد عـن الطريـق المسـتقيم‪ ..‬طريـق العبوديـة لله عـز‬
‫م يكون الخســــــــــران‬ ‫وجــــــــــل ومــــــــــن ث ّــــــــــَ‬
‫‪-‬والعياذ بالله‪ -‬في الخرة‪ .‬تأمل قوله ‪-‬جل ثناؤه‪ -‬وهو يصف‬
‫حال أناس تركوا التزكيــــة والتربيــــة الصــــحيحة‪ ،‬فتعطلت‬
‫عقولهــم‪ ،‬ومرضــت نفوســهم وقلوبهــم‪ ،‬واتجهــت حركاتهــم‬
‫ونشاطهم ْنحو الرض والطين لتحصيل واستيفاء الشهوات‪:‬‬
‫م‬‫ه ِْ‬ ‫س لَ ُ‬ ‫والِن ِْ ِ‬ ‫نَ َ‬ ‫ج ِِ ّ‬ ‫ن َ ال ْ ِ‬
‫م َِ‬ ‫م كَثِيًرا ِّ‬ ‫هن َِّ َ‬ ‫ج َ‬‫قدْ ذَ َ َرأن َِا ل ِ َ‬ ‫ول َ َ‬ ‫" َ‬
‫ها‬ ‫ن ب ِِ َ‬ ‫صُرو َ‬ ‫ّ‬
‫ن ل يُب ِْ ِ‬ ‫عي ُِ ٌ‬ ‫مُ أ ْ‬ ‫ه ِْ‬ ‫ول ُ‬‫َ‬ ‫ها َ‬ ‫ن ب ِِ َ‬ ‫هو َِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ب ل ي َفق َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫قلو ٌِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ه ِْ‬ ‫ل ُ‬ ‫عامِ ب َ ْ‬‫ك كَالن ْ َ ِ‬ ‫ها أولئ ِِ َ‬ ‫ن ب ِِ َ‬ ‫عو َ‬ ‫م ُ‬‫س َ‬ ‫ن ل ّ ي َِ ْ‬ ‫م ُآذَا ٌِ‬ ‫ه ُ ِْ‬ ‫ول ُ‬ ‫َ‬
‫ن"‬ ‫فلو َ‬ ‫ُ‬ ‫غا ِ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫ل أولئ ِك ُ‬ ‫َ‬ ‫ض ّ‬ ‫أَ َ‬
‫[العراف‪.]179 :‬‬
‫مـن أجله‬ ‫َّ‬ ‫فالذي ل يسـتخدم هذه المكونات فيمـا خلقـت‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫عل ُ‬ ‫ويَت َ َ‬‫‪-‬بل ويمدها بما يضرها‪ -‬كمن يتعلم ما يضره ‪َ +‬‬
‫م" [البقرة‪ ،]102 :‬ومــن ثــم فإن‬ ‫ه ِِْ‬ ‫ع ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫ول َ يَن َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِِْ‬ ‫ضُّر ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫َِِ‬
‫مرتبتــه تنحــط لتصــبح دون النعام‪ ،‬وكيــف ل‪ ،‬والنعام لم‬
‫تكلف ب ما كلفنا به‪ ،‬ولم تعـط من المكانات مثـل مـا أعطينا‬
‫َ‬ ‫ن أَكْثََر َ ُ‬ ‫ب أ َ َّ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫قلُو َ‬ ‫ع ِ‬‫و يَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫م ُ‬‫س َ‬ ‫م ُي َ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬‫م تَ ْ‬ ‫"أ َ ْ‬
‫سبِيلً " [الفرقان‪.]44 :‬‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫مأ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫عام ِ ب َ ْ‬ ‫إِل ّ كَالن ْ َ‬
‫لذلك فإن مــن يهمــل التربيــة الصــحيحة فإنــه ينحدر إلى‬
‫أسـفل‪ ،‬ويزداد هذا النحدار كلمـا كانـت تغذيتـه لعقله وقلبـه‬
‫ونفســه تغذيــة عكســية‪ ..‬وهكذا حتــى يصــل إلى أســفل‬
‫الهتمامات‪ ،‬ودونهـا فـي‬
‫َ‬ ‫السـافلين‪ ،‬ويصـبح مثـل النعام فـي‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫فُروا َ‬
‫ف ُ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ه ال ِ‬‫عنْدَ الل ِ‬
‫ب ِ‬
‫وا ِّ‬‫شَّر الدَّ َ‬ ‫المرتبة "إ ِ َّ‬
‫ن َ‬
‫ن" [النفال‪.]55 :‬‬ ‫منُو َ‬ ‫ل َ يُ ْ‬
‫ؤ ِ‬
‫الحياة السعيدة‪:‬‬
‫مـن هنـا نقول بأن إنماء العقـل والقلب والنفـس وتوجيـه‬
‫حا أمـر بالغ الهميـة‪ ،‬والتكامـل‬
‫حركـة النسـان توجيهًـا صـحي ً‬
‫بينهــا ضروري لتكون الثمرة نضيجـة‪ ،‬ومــن ثـم يتمتــع المرء‬
‫بالعافية في الدنيا‪ ،‬ويحيا حياة سعيدة حيث السلم الداخلي‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪12‬‬
‫لكل مسلم‬

‫والطمأنينـة والسـكينة‪ ،‬ثـم يسـتكمل هذه السـعادة فـي قـبره‬


‫فيكون «روضة من رياض الجنة»‪.‬‬
‫و َ‬
‫ل‬ ‫م َ‬ ‫م الْي َ ْ‬
‫و َِ‬ ‫علَيْك ُِ ُ‬
‫ف َ‬‫و ٌِ‬ ‫عبَاِد ل َ َ‬
‫خ ْ‬ ‫َ ويوم القيامــة "ي َِا ِ‬
‫ن" [الزخرف‪ ... ،]68 :‬وفـي الجنـة حيـث النعيـم‬ ‫حَزنُو َِ‬‫م تَ ْ‬‫أنْت ُِ ْ‬
‫المقيـم‪ ،‬والسـعادة التـي ل تسـتطيع جميـع مفردات اللغـة أن‬
‫تصـــفها‪ ،‬وكيـــف تصـــف مـــا لم تره؟! بـــل هـــي قياســـات‬
‫م‬‫ت ث َ َّ‬ ‫َ‬
‫وإِذَا َرأي ْ َ‬‫وتشـبيهات‪ ،‬أمـا الحقيقـة فل يعلمهـا إل الله " َ‬ ‫َ‬
‫ملْكًا كَبِيًرا" [النسان‪..]20 :‬‬‫و ُ‬‫ما َ‬
‫عي ً‬‫ت نَ ِ‬‫َرأي ْ َ‬
‫***‬
‫‪13‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫حاجة المة الماسة إلى التربية‬

‫أكرم الله عز وجل أمتنا واختصها برسالة السلم‪ ،‬وهذا‬


‫فضـل عظيـم منـه سـبحانه على كـل مسـلم فـي هذه المـة‬
‫"الْيو م أَك ْمل ِْت لَك ُِم دينَك ُِم َ‬
‫مت ِِي‬
‫ع َ‬ ‫علَيْك ُِ ْ‬
‫م نِ ْ‬ ‫ت َ‬
‫م ُِ‬‫م ْ‬
‫وأت ْ َ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َِ‬
‫م ِدينًا" [المائدة‪.]3 :‬‬‫سل َ َ‬
‫م ال ِ ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ضي‬‫وَر ِ‬
‫َ‬
‫‪ ..‬هذه النعمـة العظيمـة تسـتوجب مـن أبناء المـة أمريـن‬
‫عظيمين‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن يقوموا بأداء تكاليف الرسالة في ذواتهم‪.‬‬
‫والثانـي‪ :‬أن يعملوا على توصـيل هذه الرسـالة‪ ،‬وتبليغهـا‬
‫للبشــر فــي شتــى أنحاء الرض‪ ،‬وأن يبذلوا فــي ذلك غايــة‬
‫جهدهـم‪ ،‬وأن يسـعوا سـعيا حثيثـا ليصـالها إلى مـن يمكنهـم‬
‫الوصـول إليـه مـن الناس فـي مشارق الرض ومغاربهـا حتـى‬
‫ينقذوا ‪-‬بإذن الله‪ -‬كـل مـن بداخله خيـر وشوق إلى الهدايـة‪،‬‬
‫وحتــى ل يكون لحــد حجــة أو ذريعــة يتذرع بهــا لكفره أو‬
‫شركه بربه‪ ...‬فإذا ما كان يوم القيامة قام أبناء أمة السلم‬
‫‪-‬فــي كــل عصــر‪ -‬بالشهادة أمام الله عــز وجــل على أبناء‬
‫عصــرهم بمدى قبولهــم أو رفضهــم اليمان بمــا تضمنتــه‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫الخير المخبوء‪:‬‬
‫إن أغلب البشـر فيهـم خيـر مخبوء فـي كينونتهـم لكنهـم‬
‫يحتاجون ‪-‬فقـــط‪ -‬إلى مـــن يحســـن مخاطبـــة هذا الخيـــر‪،‬‬
‫واســـتخراجه وإظهاره ‪-‬بإذن الله‪ ،-‬والقليـــل منهـــم هـــم‬
‫المجرمون الذين يبغونها عوجا؛ تكبرا في أنفسهم‪ ،‬وحرصا‬
‫ما‬ ‫وأ َ َّ‬
‫التي يضمنها لهم بقاؤهم على الكفر " َ‬ ‫على امتيازاتهم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َِِِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫عليْك ُِِِ ْ‬ ‫ن آيَات ِِِِي تُتْلى َ‬ ‫م تَك ُِِِ ْ‬‫ْ‬ ‫فل‬‫فُروا أ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َِِِ‬‫ال ّ ِ‬
‫ن" [الجاثية‪.]31 :‬‬
‫مي َ‬
‫ر ِ‬
‫ج ِ‬ ‫ما ُّ‬
‫م ْ‬ ‫و ً‬ ‫م َ‬
‫ق ْ‬ ‫وكُنْت ُ ْ‬
‫م َ‬‫ستَكْبَْرت ُ ْ‬
‫فا ْ‬ ‫َ‬
‫ولعل في قصة موسى ما يؤكد ذلك‪ ،‬فكل من فرعون‬
‫والسـحرة قـد شاهدوا العصـا تتحول إلى حيـة عظيمـة‪ ،‬فآمـن‬
‫السحرة ولم يؤمن فرعون‪ ،‬ليظهر الفارق في سبب الكفر‬
‫واضحا‪ ،‬فالسحرة قد منعهم الجهل من اليمان بالله؛ لذلك‬
‫قالُوا‬ ‫عندمــا شاهدوا اليــة العظيمــة أذعنوا واســتسلموا " َ‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪14‬‬
‫لكل مسلم‬

‫[الشعراء‪:‬‬ ‫ن"‬
‫هاُرو َِ‬
‫و َ‬
‫سى َ‬
‫مو َِ‬
‫ب ُ‬
‫َر ّ ِِ‬ ‫ن‬
‫مي َِ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫من َِّا بَِر ّ ِِ‬ ‫آ َ‬
‫‪.]48 ،47‬‬
‫أمـــا فرعون فكان ســـبب كفره هـــو إجرام َـــه وكـــبره‬
‫وحرصـه على مصـالحه "ول َ َ َ‬
‫ب‬ ‫فكَذ َِّ َ‬ ‫ها َ‬ ‫قدْ أَريْنَاه ُِ آيَاتِن َِا كُل ِّ َ‬ ‫َ‬
‫وأَبَى" [طه‪.]56 :‬‬ ‫َ‬
‫وعندما آمنت بلقيس ‪-‬ملكة سبأ‪ -‬بعد دعوة سليمان لها‪،‬‬
‫ورؤيتها اليات الباهرات‪ ،‬وكانت من قبل ‪-‬هي وقومها‪ -‬يعبدون‬
‫الشمس؛ نجد أن القرآن يبين سبب كفرها أنها نشأت بين قوم‬
‫كافريـن‪ ،‬أي كانـت جاهلة بالحقيقـة لذلك عندمـا بلغتهـا الدعوة‬
‫ن‬‫من دُو ِِ‬ ‫عبُدُ ِِ‬ ‫ما كَان َِت ت َّ ْ‬ ‫ها َِ‬ ‫صدَّ َ‬ ‫و َِ‬ ‫ورأت اليات آمنــت‪َ " :‬‬
‫ن" [النمل‪.]43 :‬‬ ‫ِ َ‬ ‫ري‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫وم‬
‫ْ ٍ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫من‬ ‫ت ِ‬ ‫ها كَان َ ْ‬ ‫ه إِن َّ َ‬ ‫الل ِ‬
‫أهمية الجهاد‪:‬‬
‫‪ ...‬إذا كان الكثيـر مـن الناس ليسـوا مجرميـن‪ ،‬بل وفيهـم‬
‫خير مخبوء لكنهم ضلوا الطريق الصحيح؛ فإن على أصحاب‬
‫الرســالة أن يبذلوا غايــة جهدهــم فــي توصــليها إليهــم وإلى‬
‫غيرهم فيكونوا سببا في إنقاذهم من النار‪.‬‬
‫وليس معني هذا أنه ليس على هؤلء الجاهلين مسئولية‬
‫فــي البحــث عــن الطريــق الصــحيح‪ ،‬فالمســئولية مشتركــة‬
‫بينهـم وبيـن أصـحاب الرسـالة‪ ...‬عليهـم أن يبحثوا عـن الحـق‪،‬‬
‫وعلى أصــحاب الرســالة أن يجتهدوا فــي توصـــيل الحــق‬
‫إليهم‪ ..‬من هنا ندرك قيمة الجهاد في السلم والحكمة من‬
‫كثرة الحـث عليـه فـي الكتاب والسـنة‪ ،‬وتفضيله على كثيـر‬
‫مـن العمال‪ ..‬فجوهـر الجهاد هـو بذل الوسـع والطاقـة فـي‬
‫سـبيل الله‪ ،‬وإقامـة دينـه‪ ،‬وتبليـغ دعوة السـلم ‪-‬دون إكراه‪-‬‬
‫هدُوا‬ ‫جا ِ‬ ‫و َ‬ ‫فيكون وسيلة لنقاذ البشرية وإسعادها بالسلم " َ‬
‫م‬ ‫ُِ‬
‫عليْك ْ‬ ‫َ‬ ‫ل َ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬ ‫ما َ‬ ‫و َِ‬ ‫م َ‬‫جتَبَاك ُِ ْ‬ ‫و َا ْ‬ ‫ه َ‬ ‫هاِد ِهِ َ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫قِّ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫في الل ِهِ َ‬ ‫ِِ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ َ ّ‬‫س‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫هي‬ ‫ِ‬ ‫را‬ ‫ْ‬ ‫ب‬
‫ْ ِ َ‬‫إ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫يك‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫أ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫مل‬ ‫ِ‬ ‫َ ٍ ّ‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫سو ُ‬
‫ل‬ ‫ن ال ّر ُِِ‬ ‫َ‬ ‫هذَا لِيَكو َِِ‬ ‫في َ‬ ‫و ِِِ‬ ‫ل َ‬ ‫من قب ْ ُ‬‫َ‬ ‫ن ِِِ‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ِِْ‬ ‫ال ُ‬
‫س" [الحج‪.]78 :‬‬ ‫ا‬ ‫علَى الن َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫ا‬ ‫د‬
‫َ َ‬ ‫ه‬ ‫ش‬ ‫ُ‬ ‫وا‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫و‬
‫ْ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫عل‬ ‫َ‬ ‫ا‬ ‫ش ِ ً‬
‫د‬ ‫هي‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫إن الجهاد هـو الوسـيلة العظيمـة لتبليـغ الدعوة وتوصـيلها إلى‬
‫الناس جميعـا‪ ،‬ومـن خلل قيام المسـلمين بـه يتـم إنقاذ الكثيريـن‬
‫ه َدُوا‬ ‫جا ِ‬ ‫و َ‬ ‫قال ً َ‬ ‫وث ِ َ‬ ‫فا َ‬ ‫فا ًِِِِِ‬ ‫خ َ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫مـ َـــــن الضللة َ والنار "ان ْ ِ‬
‫م‬ ‫ُِ‬ ‫ّ‬
‫خيٌْر لك ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُِ‬
‫ل الل ِهِ ذَلِك ْ‬ ‫سبِي ِ‬ ‫في َِ‬ ‫م ِِ‬ ‫سِك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫وأن ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫والِك ُِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫بِأ ْ‬
‫ن" [التوبة‪.]41 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫عل ُ‬ ‫َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫إِن كنْت ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫‪15‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫سئل رسـول الله ‪ :e‬مـا يعدل الجهاد فـي سـبيل‬


‫وعندمـا ُـ‬
‫الله؟‬
‫قال‪« :‬ل تسِتطيعونه»‪ ،‬فأعادوا عليــه مرتيــن أو ثلثــا‬
‫كل ذلك يقول‪« :‬ل تستطيعونه»‪.‬‬
‫ثــم قال‪« :‬مثِِل المجاهِِد فِِي سِِبيل الله كمثِِل‬
‫الصائم القائم القانت بآيات الله ل يفتر من صيام‬
‫ول صلة حتى يرجع المجاهد»(‪.)5‬‬
‫وغنـي عـن البيان أن للجهاد صـوًرا كثيرة يجمعهـا معنـى‬
‫«الجهاد» وهــو‪ :‬بذل الجهــد فــي ســبيل الله‪ ،‬تأمــل قوله‬
‫في سبيل الل َ‬
‫فَرةٌ‬
‫غ ِ‬
‫م ْ‬ ‫مت ُّ ْ‬
‫م لَ َ‬ ‫و ُ‬
‫هأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫قتِلْت ُ ْ‬‫ن ُ‬‫ولَئ ِ ْ‬‫تعالى‪َ " :‬‬
‫ن" [آل عمران‪،]157 :‬‬ ‫عو َ ِ‬‫م ُ‬
‫ج َ‬ ‫م ّ َِ‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫خيٌْر ِّ‬
‫ة َ‬ ‫م ٌ‬
‫ح َ‬‫وَر ْ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ِ ِ‬
‫م َِ‬
‫ِّ‬
‫فلقـد جمـع الله عـز وجـل فـي هذا اليـة بيـن مـن يقتـل فـي‬
‫سـبيل الله وبيـن مـن يموت دون قتال وهـو فـي سـبيل الله‪،‬‬
‫وجعلهما مشتركين في الجر‪.‬‬
‫إن توصـيل رسـالة الله عـز وجـل للبشـر يحتاج إلى بذل‬
‫حقيقــي للجهــد وتضحيــة عظيمــة بالغالي والنفيــس‪ ،‬وصــبر‬
‫وثبات على المحــن والعقبات التــي تعترض طريــق توصــيل‬
‫الرسالة‪ ،‬فل راحة للمسلمين حتى يكون الدين كله لله‪.‬‬
‫يقول المام حســـن البنـــا‪ :‬فرض الله الجهاد على كـــل‬
‫مسـلم فريضـة لزمـة حازمـة لمناص منهـا ول مفـر معهـا‪،‬‬
‫ورغـــب فيـــه أعظـــم الترغيـــب‪ ،‬وأجزل ثواب المجاهديـــن‬
‫والشهداء‪ ،‬فلم يلحقهــم فــي مثوبتهــم إل مــن عمــل بمثــل‬
‫عملهــم‪ ،‬ومــن اقتدى بهــم فــي جهادهــم‪ ،‬ومنحهــم مــن‬
‫المتيازات الروحيـة والعمليـة فـي الدنيـا والخرة مـا لم يمنـح‬
‫ســـواهم وتوعـــد المخلفيـــن القاعديـــن بأفظـــع العقوبات‪،‬‬
‫ورماهــم بأبشــع النعوت والصــفات ووبخهــم على الجبــن‬
‫والقعود‪ ،‬ونعى عليهم الضعف والتخلف‪ ،‬وأعد لهم في الدنيا‬
‫خزيًا ل يرفع إل أن جاهدوا‪ ،‬وفي الخرة عذابا ل يفلتون منه‬
‫ولو كان لهم مثل أحد ذهبا(‪.)6‬‬
‫ماذا لو فرطنا؟!‬
‫‪5‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫() رسـالة الجهاد مـن مجموع رسـائل المام حسـن البنـا ص ‪ -421‬دار التوزيـع‬
‫والنشر السلمية‪ -‬مصر‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪16‬‬
‫لكل مسلم‬

‫إن اتفقــت معــي ‪-‬أخــي القارئ‪ -‬على ذلك‪ ،‬وقرأت آيات‬


‫وأحاديـث الجهاد مـن هذا المنظور‪ ،‬فسـتدرك ‪-‬كمـا أدركـت‪-‬‬
‫مدى التقصــير والتفريــط الذي وقعــت فيــه المــة فــي حــق‬
‫البشريــة بتخليهــا عــن هذا المــر اللهــي‪ ،‬وخيانتهــا لواجــب‬
‫البلغ‪ ،‬وســـتدرك كذلك مدى خطورة تفريـــط المـــة فـــي‬
‫التطـبيق الصـحيح للرسـالة فـي ذاتهـا لن التطـبيق الصـحيح‬
‫للســلم يســعد أبناءه ويدفعهــم لبذل غايــة الجهــد لنقاذ‬
‫غيرهم‪.‬‬
‫فإن كان المر كذلك؛ فإن تفريط المة في القيام بهذين‬
‫المريـن‪( :‬أن تتمثـل فـي ذاتهـا الرسـالة‪ ،‬وأن تقوم بتبليغهـا)‬
‫يضعهــا فــي دائرة العتاب والغضــب اللهــي‪ ،‬وكيــف ل وهــي‬
‫بذلك قـد قصـرت فـي أداء المانـة التـي ائتمنهـا الله عليهـا‪،‬‬
‫وتخلت عن موقعها الريادي للبشرية‪ ،‬وما ينتج عن ذلك من‬
‫ضياع الكثيريـن والكثيريـن حيـن يموتون على الكفـر رغـم مـا‬
‫فيهم من خير مخبوء وشوق إلى الهداية‪.‬‬
‫إن الخسارة التي تخسرها‬
‫البشرية بتخلي أمة السلم عن‬
‫وظيفتها خسارة فادحة‪ ،‬فاللف‬
‫‪-‬كل يوم‪ -‬يموتون على الضللة‬
‫والكفر‪ ،‬ولو أن الرسالة قد بلغتهم‬
‫بطريقة صحيحة لمن الكثير منهم‪.‬‬
‫لماذا نعاقب؟!‬
‫لعـل مـا قيـل فـي السـطر السـابقة يجيـب عـن السـئلة‬
‫التــي تتردد على ألســنة المســلمين كلمــا ازداد حال المــة‬
‫ســوءًا‪ ،‬وكلمــا تعالت هجمات أعدائهــا عليهــا‪ ...‬فمــن هذه‬
‫الســئلة‪ :‬لماذا نعاقــب بهذه العقوبات المتوليــة؟! إلى متــي‬
‫الذل والهوان الذي تعيشـه أمتنـا منـذ أمـد بعيـد؟لماذا يتركنـا‬
‫الله هكذا نســام ســوء العذاب مــن اليهود وغيرهــم وهــو‬
‫سبحانه قادر بأن يكف بأسهم عنا وينصرنا عليهم؟‬
‫إن الرؤيـة اليمانيـة لهذه العقوبات لبـد وأن تنطلق مـن‬
‫عدة أمور‪.‬‬
‫أولهــا‪ :‬أن هذا العقوبات تأتــي بعلم الله وإذنــه ومشيئتــه‬
‫َِ‬
‫ن‬ ‫ن َ‬
‫فبِإِذْ ِ ِ‬ ‫عا ِ ِ‬
‫م َ‬ ‫قى ال ْ َ‬
‫ج ْ‬ ‫م الْت َ ِ َ‬
‫و َِ‬ ‫صابَك ُ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ما أ َ‬
‫و َِ‬
‫" َ‬
‫ه" [آل عمران‪.]166 :‬‬ ‫الل ِ‬
‫‪17‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫ه" [النعام‪.]112 :‬‬ ‫علُو ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ما َ‬ ‫ك َ‬ ‫شاءَ َرب ُّ َ‬ ‫و َ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫" َ‬


‫وثانيهـا‪ :‬أن هذا العقوبات صـورة مـن صـور العتاب اللهي‬
‫للمــة لنهــا تخلت عــن رســالتها‪ ،‬ولم تعمــل بمــا‬
‫تضمنتـه‪ ،‬وتركـت مهمـة توصـيلها وإبلغهـا للبشـر‬
‫جميعًا‪.‬‬
‫ة َ َ‬ ‫ما أ َ‬ ‫"أ َ‬
‫م‬‫قلْت ُ ْ‬
‫ها ُ‬‫مثْلَي ْ َ‬
‫صبْتُم ِّ‬ ‫قدْ أ َ‬ ‫صيب َ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫م‬‫صابَتْكُم ُّ‬ ‫َ‬ ‫و ل َ َّ‬ ‫َ‬
‫م" [آل عمران‪.]165 :‬‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫د أَن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫عن ْ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫هذَا ُ‬ ‫أَنَّى َ‬
‫وثالثها‪ :‬أن هذه العقوبات تعد بمثابة وسيلة قوية ليقاظ‬
‫وإعادتهـا إلى رشدهـا‬ ‫مـن َغفلتهـا‪َّ َ ،‬‬ ‫المـة وإفاقتهـا‬
‫ن"‬ ‫عو‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫م‬
‫ِِِِ َ ُ ِِِْ َ ْ ِ ُ َِِِ‬ ‫ه‬ ‫عل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬
‫هم ِ َ‬
‫ال‬ ‫ب‬ ‫خذْنَا ُ ِِ‬ ‫وأ َ َ‬ ‫" َ‬
‫[الزخرف‪.. ،]48 :‬قال ‪« :e‬إذا تبايعتِِِم بالعينِِِة‪،‬‬
‫وأخذتِِِم أذناب البقِِِر‪ ،‬ورضيتِِِم بالزرع‪،‬‬
‫وتركتِِم الجهاد‪ :‬سِِلط الله عليكِِم ذل ل‬
‫ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(‪.)7‬‬
‫إصلح الداخل أولً‪:‬‬
‫ل يمكن للمة أن تؤدي أمانة البلغ‪ ،‬ومن ثم الشهادة على‬
‫الناس إل إذا تمثلت في أبنائها معاني الرسالة؛ فيستمدون‬
‫منها ‪-‬بعون الله‪ -‬القوى الروحية الدافعة للعمل والجهاد‪،‬‬
‫ويستشعرون من خلل تطبيقها الصحيح معنى العزة بالله‪،‬‬
‫فتفيض عليهم السعادة في كيانهم‪ ،‬فينطلقون راشدين لتحقيق‬
‫مراد ربهم بأن يكون الدين كله لله‪.‬‬
‫وحيــن يهملون تطــبيق الرســالة‪ :‬تنحــط اهتماماتهــم‪،‬‬
‫ج َّ‬
‫ل تفكيرهــم فــي كيفيــة‬ ‫وينكفئون على ذواتهــم‪ ،‬ويصــبح ُ‬
‫تحصيل متطلبات الطين‪ ،‬وشهوات النفس‪.‬‬
‫من هنا نقول بأن نقطة البداية الصحيحة لرفع العقوبات‬
‫عن المة‪ ،‬وتغيير ما حاق بها ونزل بساحتها؛ هو إصلحها‬
‫ما‬ ‫حتَّى ي ُ َ‬
‫غيُِّروا َ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬
‫غيُِّر َ‬ ‫من الدخل "إ ِ َّ‬
‫ن الل َ‬
‫م" [الرعد‪.]11 :‬‬ ‫ه ْ‬
‫س ِ‬ ‫بِأَن ْ ُ‬
‫ف ِ‬
‫فإن لم يحدث ذلك؛ فستظل العقوبات والمحن تتوالى‬
‫عليها‪ ،‬ولن يرفعها مجرد الدعاء أو المساعدات للمنكوبين‬
‫‪-‬على أهميتها‪ -‬بل لبد من دفع ضريبة التغيير الحقيقي‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه أبو داود‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع الصغير (‪.)423‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪18‬‬
‫لكل مسلم‬

‫وحتـى لو هدمـت المسـاجد‪ ،‬وقُـتل النسـاء والطفال هنـا‬


‫ن‬
‫وإ ِ ْ‬
‫وهناك فلن يُرفع البلء إل إذا سرنا في طريق التغيير " َ‬
‫عدْنَا" [السراء‪.]8 :‬‬ ‫عدت ُّ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫والتغيير المنشود يشمل كيان النسان بمحاوره الربعة‪:‬‬
‫أول‪ :‬تغييــر وإصــلح المفاهيــم والتصــورات فــي العقول‪،‬‬
‫وإعادة بناء اليقين الصحيح فيها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إصلح اليمان في القلوب وتقوية الرادة‪.‬‬
‫ثالثـــا‪ :‬ترويـــض النفـــس وجهادهـــا على لزوم الصـــدق‬
‫والخلص لله عـز وجـل‪ ،‬مـع نكران الذات والتواضـع‬
‫غير المصطنع‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬التعود على بذل الجهد في سبيل الله‪.‬‬
‫وسـيأتي ‪-‬بإذن الله‪ -‬بيان ذلك كله بشيـء مـن التفصـيل‬
‫في الصفحات القادمة‪.‬‬
‫‪ ..‬عندما تكتمل هذا الحلقات الربع‪ ،‬سيحدث ‪-‬بإذن الله‪-‬‬
‫التغيير الحقيقي للفرد‪ ،‬ومن ثم المة‪.‬‬
‫والتغييــر المطلوب ليــس تغييًرا لحظيــا بــل تغييًرا يحدث‬
‫ما‪ ،‬وهذا يســتلزم التربيــة الصــحيحة لفراد‬ ‫أثًرا إيجابي ًــا دائ ًــ‬
‫حا حقيقيًا‪.‬‬
‫المة؛ هذا إن أردنا إصل ً‬
‫ولنعلم جميعــا بأنــه مهمــا ألقيــت الدروس والمواعــظ‪،‬‬
‫ومهمـا نشرت المقالت‪ ،‬إل أنهـا ‪-‬مـع أهميتهـا‪ -‬لن يكون لهـا‬
‫نفـع حقيقـي ودائم إل إذ مورسـت مـن خلل منظومـة تربويـة‬
‫تُعنــي بإحداث أثــر إيجابــي دائم ‪-‬وليــس لحظيــا‪ -‬ينتــج عنــه‬
‫ظهور المؤمن الصالح المصلح‪.‬‬
‫ل بديل عن التربية‪:‬‬
‫إن التغييــر المنشود للمــة يســتلزم تربيــة أفرادهــا تربيــة‬
‫صـــحيحة متكاملة‪ ،‬والتربيـــة تحتاج إلى اســـتمرارية ممارســـة‬
‫معاني السلم من خلل جو تربوي تتم فيه المعايشة والتعاهد‬
‫وبـث الروح وضبـط الفهـم وتوجيـه الجهـد واسـتنهاض الهمـم‪..‬‬
‫الجديدة‪ ...‬تأمــل قوله‬ ‫َّ‬ ‫هكذا فعــل محمــد ‪ e‬وهــو يبنــي المــة‬
‫ن‬‫عو َِ‬ ‫ن يَدْ ُ‬
‫ذي َِ‬ ‫م َعِ ال ِ‬‫ك َ‬ ‫س َ‬‫ف َِ‬ ‫صبِْر ن َ ْ‬ ‫وا ِْ‬‫تعالى وهـو يخاطبـه‪َ " :‬‬
‫عدُ‬ ‫َ‬
‫ول ت َ ْ‬ ‫ه َ‬‫ه ُ ِِ‬
‫ج َ‬ ‫و ْ‬
‫ن َ‬
‫ريدُو َِِِ‬ ‫ي يُ ِ‬ ‫ش ِ ِِ ّ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ع ِ‬ ‫ة َ‬ ‫هم بِال ْ َ‬
‫غدَا ِ‬ ‫َرب َِِِّ ُ‬
‫‪19‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫ن‬‫م ِْ‬ ‫ول َ تُطِِ ْ‬


‫عَ َ‬ ‫ة الدُّنْي َِا َ‬
‫حيَا ِ‬ ‫ة ال ْ َ‬
‫زين َ َ‬‫ِ‬ ‫ريدُ‬
‫ِ‬ ‫م تُ‬
‫ه ِْ‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫عيْنَا َِ‬
‫ك َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫مُرهُِ‬
‫نأ ْ‬ ‫َ‬
‫وكا َِ‬ ‫واهُِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ع َ‬ ‫َ‬
‫وات ّب َِ َ‬‫رن َِا َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫عن ِذك ِ‬ ‫ه َِ‬ ‫أغفلن َِا قلب َِ ُ‬
‫فُرطًا"[الكهف‪.]28 :‬‬ ‫ُ‬
‫لقــد كان محمــد ‪ e‬يقوم على تربيــة أصــحابه وتعاهدهــم‬
‫ودوام توجيههــم وذلك فــي المرحلتيــن المكيــة والمدينــة‪...‬‬
‫ففــي مكــة كان يمارس ذلك مــن خلل تواجده المســتمر‬
‫بينهم‪ ،‬ولقائه الدائم بهم في دار الرقم بين أبي الرقم عند‬
‫الصـفا‪ ،‬وفـي المدينـة اسـتمر فـي التربيـة والتعليـم مـن خلل‬
‫ــتمر بيـــن أصـــحابه‬ ‫المســـجد‪ ،‬ومـــن خلل التواجـــد المسـ َّ‬
‫في‬ ‫ث ِ ِِ‬ ‫ع َِِِ‬ ‫ذي ب َ َ‬ ‫و ال ِ‬ ‫ه َ‬‫ومعايشتهـــم ومتابعـــة أحوالهـــم " ُ‬
‫م‬‫ه ِْ‬ ‫ّ‬
‫ويَُزكِي َ ِ‬‫ه َ‬ ‫م آيَات ِِ ِ‬ ‫ه ِْ‬ ‫م يَتْلُو َ َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫ه ِْ‬ ‫سول ً ِّ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ن َر ُِ‬ ‫ميِّي َِ‬ ‫ال ُ ِّ‬
‫في‬ ‫لل ِ‬ ‫قب ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫وإِن كَانُوا ِ‬ ‫ة َ‬
‫م َ‬‫حك ْ َ‬‫وال ْ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫م الْكِتَا َ‬‫ه ُ‬ ‫عل ِّ ُ‬
‫م ُ‬ ‫وي ُ َ‬‫َ‬
‫ن"‬ ‫ي‬ ‫ُ‬
‫مب‬
‫ٍ ّ ِ ٍ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ضل‬ ‫َ‬
‫[الجمعة‪.]2 :‬‬
‫‪ ...‬لبــد إذن مــن أن يقوم الدعاة بالتواجــد بيــن الناس‬
‫وممارسـة معانـي السـلم معهـم حتـى يتـم التغييـر المنشود‪،‬‬
‫ولقـد كان هذا هـو دأب الرسـل ‪-‬عليهـم الصـلة والسـلم‪.. -‬‬
‫جيْنَا‬‫مُرنَا ن َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ول َ َّ‬
‫جاءَ أ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫تأمل قوله َ تعالى في قصة هود ‪َ " :‬‬
‫ه" [هود‪.]58 :‬‬ ‫ع ُ‬‫م َ‬
‫منُوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫هودًا َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ستَكْبَُروا‬ ‫ن ا ِْ‬ ‫ذي َِ‬ ‫مل ُ َال ّ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫قا َ‬ ‫وفـي قصـة شعيـب ‪َ " :‬‬
‫ك‬‫ع َِ‬‫م َ‬ ‫منُوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َِ‬ ‫ّ‬
‫وال ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ع َي ِْ ُ‬ ‫ش َ‬‫ك ي َِا ُ‬ ‫جن َِّ َ‬‫ر َ‬ ‫ِ‬ ‫خ‬‫م ِهِ لَن ُ ْ‬ ‫و ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫من َ‬ ‫ِِ‬
‫ملتِنَا" [العراف‪.]88 :‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫في ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫عودُ ّ‬ ‫و لت َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ق‬ ‫من‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ذي َِِ‬ ‫قتُلُوا أبْنَاءَ ال ّ ِ‬ ‫قالُوا ا ْ‬ ‫وفـــي قصـــة موســـى ‪َ " :‬‬
‫ه" [غافر‪.]25 :‬‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫منُوا َ‬‫آ َ‬
‫فالملحــظ فــي هذه اليات قوله تعالى عــن أتباع كــل‬ ‫َ‬
‫ع ُهِ)‪ ،‬ولم يقـل‪« :‬آمنوا بِه»‪ ،‬فــ‬ ‫م َ‬‫منُوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َِ‬ ‫رسـول ‪( :‬ال ّ ِ‬
‫(مع) تعطي دللة على المعية والصحبة والمعايشة‪ ،‬و(به) ل‬
‫تعطـي ذلك‪ ،‬وهذا يحمـل فـي طياتـه بعـض الدللت على أن‬
‫كـل رسـول لله كان يقوم على تربيـة مـن يؤمـن بالدعوة ول‬
‫يكتفي بتعليمهم فقط‪.‬‬
‫هل من الضروري تربية المة كلها؟!‬
‫ل بديل ‪-‬إذن‪ -‬عن التربية إن أردنا تغييًرا حقيقا‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن على جميـع الدعاة والعامليـن للسـلم أن يكون هذا هـو‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪20‬‬
‫لكل مسلم‬

‫هدفهـــم الســاس حيـــن يتعاملون مـــع الناس‪ ،‬وأن يوحدوا‬


‫جهودهـم ول يبعثروهـا فـي غيـر هذا المجال حتـى تبدأ المـة‬
‫في اليقظة الحقيقية‪..‬‬
‫لبـد وأن يكون عمـل كـل مـن يريـد خدمـة السـلم مـن‬
‫خلل التواجـد بيـن الناس‪ ...‬يأكـل ممـا يأكلون منـه‪ ،‬ويشرب‬
‫ممـا يشربون‪ ،‬وليـس ذلك فحسـب بـل عليـه أن يكون هدفـه‬
‫مـن تواجده بينهـم هـو التربيـة وإحداث أثـر إيجابـي دائم فـي‬
‫ذواتهم من خلل المحاور الربعة للتربية‪.‬‬
‫إن المطلوب مـن خلل التواجـد بيـن الناس ليـس فقـط‬
‫مساعدة الفقراء‪ ،‬أو البحث عن عمل للعاطلين أو مواساة‬
‫المبتليــن‪ ،‬أو الصــلح بيــن المتخاصــمين‪ ،‬أو افتتاح مراكــز‬
‫لتحفيـــظ القرآن‪ ،‬أو عقـــد الندوات‪ ،‬أو‪ ،....‬فكـــل هذا مـــع‬
‫أهميتـه إل أنـه ل بـد أن يوضـع فـي سـياق المنظومـة التربويـة‬
‫التـــي تهدف إلى التغييـــر الشامـــل والدائم فـــي شخصـــية‬
‫جُزر‬‫المسـلم كمـا أسـلفنا‪ ،‬وأل يتـم التعامـل معهـا على أنهـا ُ‬
‫منعزلة ووسائل منفصلة عن بعضها البعض‪.‬‬
‫مـــن هنـــا نقول بيقيـــن‪ :‬إن معركـــة الصـــلح والتغييـــر‬
‫الحقيقـي للمـة روحهـا التربيـة‪ ،‬ولبـد أن يتـم تطويـع جميـع‬
‫الوسائل لخدمة هذا المر‪ ،‬فإن تركنا هذه المعركة فسنظل‬
‫فـي أماكننـا نراوح بيـن أقدامنـا‪ ،‬ونشتكـي مـن كثرة المحـن‬
‫والبتلءات التي تمر بالمة‪ ،‬وسيعلو صراخنا ونحيبنا‪ ،‬وترتفع‬
‫أيدينا بالدعاء والتضرع إلى الله كلما أصاب المسلمين جرح‬
‫جديـد‪ ،‬وسـيعلو صـوت الدعاة فـي الفضائيات وعلى المنابر‬
‫بأهمية العودة إلى الله‪ ،‬وتغيير ما بالنفس‪ ،‬ثم تهدأ العاصفة‬
‫ويسـتقر الجرح فـي جسـد المـة ويتعود على وجوده الجميـع‪،‬‬
‫ثم يتكرر المر بعد ذلك مع جرح جديد وهكذا‪...‬‬
‫فإن قلت‪ :‬ولكن هل من الضروري تربية المة جميعا؟!‬
‫ليس المطلوب أن يكون جميع الفراد على مستوى‬
‫عال ورفيع من الصلح‪ ،‬فسيظل هناك السابق بالخيرات‪،‬‬
‫والمقتصد‪ ،‬والظالم لنفسه‪ ،‬ولكن يبقى من الضروري توافر‬
‫الحد الدنى للصلح في المة‪.‬‬
‫فالمطلوب هو إصلح المجتمع بأن تشيع فيه روح‬
‫السلم ومعانيه‪ ،‬وأن تغلب عليه مظاهر العفة‪ ،‬والتراحم‪،‬‬
‫والتعاون على البر والتقوى‪ ،‬ونكران الذات‪ ،‬والمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬واستشعار المسؤولية تجاه‬
‫‪21‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫المة والبشرية‪ ،‬وفي المقابل تختفي منه مظاهر السلبية‬


‫والنانية والعجاب بالنفس والتفسخ الخلقي‪ ،‬والباحية‪، ...‬‬
‫وهذا لن يتم إل بجهد تربوي متقصد يبذله الدعاة والعاملون‬
‫للسلم مع الناس‪ ...‬ك ٌ‬
‫ل يعمل في محيطه‪.‬‬
‫الجمرة المشتعلة‪:‬‬
‫لكــي ينجــح الدعاة والعاملون للســلم وكــل مــن يتوق‬
‫لخدمة السلم‪ ..‬لكي ينجحوا جميع ًا في تغيير وإصلح المة‬
‫لبـد مـن أن يبدأوا مـع أنفسـهم فتتمثـل فيهـم معانـي السـلم‬
‫التي يريدون أن يربوا الناس عليها‪.‬‬
‫إن الخطأ الشائع الذي يقع فيه‬
‫بعض الدعاة هو مطالبة الناس‬
‫بشيء ل يفعلونه هم مع أنفسهم‪،‬‬
‫فتفقد كلماتهم الروح والحرارة‬
‫والتأثير في الخرين‪.‬‬
‫لذلك فإن نقطــة البدايــة الصــحيحة لتربيــة المــة تنطلق‬
‫مـن وجود الفرد المسـلم المتوهـج الذي تتمثـل فيـه معانـي‬
‫السـلم والحرقـة على الديـن‪ ،‬وبدون هذه البدايـة ل يمكـن‬
‫للعملية التربوية أن تنجح‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪ :‬لو أردنا إشعال مجموعة من الفحم‬
‫فإننــا ‪-‬فــي الغالب‪ -‬نقوم بإحضار فحمــه مشتعلة ومتوهجــة‬
‫ونضعهــا وســط مجموعــة الفحــم‪ ،‬ثــم نقوم بتحريــك الهواء‬
‫عليهم جميعا فينتقل الشعاع والتوهج من الفحمة المتوهجة‬
‫إلى بقيــة الفحــم‪ ...‬فإن كان توهــج الفحمــة ‪-‬الســاسية‪-‬‬
‫متوسـطا كان الثـر على بقيـة الفحـم محدودًا وضعيفـا‪ ،‬وإن‬
‫كان التوهــج ضعيفــا فمــن المتوقــع أل نري أثًرا لتوهــج فــي‬
‫عموم الفحـم‪ ،‬وقـد تنطفــئ الفحمــة ذات التوهـج الضعيـف‬
‫بمرور الوقــت‪ ،‬فعلي قدر توهــج الفحمــة «الســاس» يكون‬
‫الثر على من حولها‪.‬‬
‫‪ ...‬من هنا يتضح لنا بأنه وإن كان تغيير المة تغييًرا‬
‫إيجابيًا كما يحب ربنا ويرضي يستلزم تربية أفرادها على‬
‫معاني السلم؛ فإن نجاح هذه التربية مرهون بوجود أفراد‬
‫متوهجين بدأوا بأنفسهم وساروا بها في طريق التغيير‪،‬‬
‫وقطعوا فيه شوطا معتبرا حتى يستطيعوا ‪-‬بعون الله‪ -‬أن‬
‫يأخذوا بأيدي الناس ويسيرون بهم في الطريق الذي‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪22‬‬
‫لكل مسلم‬

‫سبقوهم بالسير فيه‪.‬‬


‫تبقى نقطة أخيرة في هذه المسألة وهي أن البعض قد‬
‫يفهـم مـن هذا الكلم أن تربيـة الناس على معانـي السـلم‬
‫مـــن خلل المحاور الربعـــة الســـابق ذكرهـــا (المعرفيـــة‬
‫‪-‬واليمانيـة‪ -‬والنفسـية‪ -‬والحركيـة) يسـتلزم تحققهـا بشكـل‬
‫كامل فيمن يريد ممارستها‪.‬‬
‫‪ ...‬ل شك أن الفضل هو ذلك‪ ،‬ولكن لصعوبة تحققه فينا‬
‫يبقــي الحــد الدنــى لممارســة التربيــة مــع الخريــن هــو أن‬
‫نربيهـم على مـا تحقـق فينـا بصـورة مرضيـة‪ ،‬وكلمـا اسـتكملنا‬
‫جديدًا في أنفسنا قمنا بتربيتهم عليه‪ ،‬وبذلك يمكن أن يقوم‬
‫بأمـر تربيـة المـة عدد كـبير مـن الدعاة والعامليـن للسـلم‪،‬‬
‫وكــل مــن يتوق إلى خدمــة الديــن‪ ..‬فالفتــى عليــه أن يقوم‬
‫بتربيــة الطفال على مــا تحقــق فيــه‪ ،‬والشاب يقوم بتربيــة‬
‫الفتيان على مـا تمثـل فيـه‪ ،‬والرجـل يقوم بذلك مـع الشباب‪،‬‬
‫والنسـاء مـع الفتيات والطفال وذلك فـي كـل مكان يتيسـر‬
‫فيه المعايشة والتعاهد‪ ،‬ويأتي على رأس ذلك‪ :‬المسجد فهو‬
‫المحضـن التربوي الول الذي ينبغـي أن يسـتفيد منـه الجميـع‬
‫في إنجاح العملية التربوية بإذن الله‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬أريد تفصيل أكثر للمحاور الربعة التي سأقوم‬
‫بتربية نفسي ومن حولي عليها‪ ..‬كان الجواب‪ :‬هذا مما‬
‫ستتضمنه الصفحات القادمة بمشيئة الله‪.‬‬
‫***‬
‫‪23‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫المحور الول‬
‫العقل والتربية (المعرفية)‬

‫خلق الله عــز وجــل النســان وأســكنه الرض‪ ،‬وأتاح له‬


‫ت ال ْ ِ‬
‫ج َِّ‬
‫ن‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق ُِ‬ ‫ما َ‬
‫و َِ‬
‫الختيار‪ ،‬وطالبـه بعبادتـه بالغيـب " َ‬
‫َ‬
‫حريـة‬
‫ن" [الذاريات‪.]56 :‬‬
‫عبُدُو ِ‬ ‫ّ‬ ‫والِن ْ َ‬
‫س إِل لِي َ ْ‬ ‫َ‬
‫وجوهـر العبادة هـو اسـتسلم العبـد لله سـبحانه‪ ،‬وطاعـة‬
‫أوامره‪ ،‬ودوام السـتعانة بـه والتوكـل عليـه فـي المور كلهـا‪،‬‬
‫مع حبه وإجلله وتعظيمه وهيبته وخشيته‪.‬‬
‫ولكـن كيـف يمارس النسـان هذه الصـورة مـن العبوديـة‬
‫لله عز وجل وهو ل يراه؟‬
‫‪ ..‬كيف يعظم أو يهاب أو يخشى أو يحب أو يطيع من ل‬
‫يراه؟!‬
‫الجابـة عـن هذه السـئلة تنطلق مـن حقيقـة مفادهـا أن‬
‫الله عـز وجـل ل يطالب أحدًا بشيـء فوق وسـعه "ل َ يُكَل ِِّ ُ‬
‫ف‬
‫َ‬
‫ها" [البقرة‪ ،]286 :‬لذلك فقـــد هيـــأ‬
‫ع َ‬
‫س َ‬ ‫سا إِل ّ ُ‬
‫و ِِْ‬ ‫ه نَ ْ‬
‫ف ًِِ‬ ‫الل ُِِ‬
‫للنسان من السباب والمكانات ما يعينه على أداء وظيفته‬
‫كعبد له سبحانه‪ ،‬وذلك من خلل أمرين عظيمين‪.‬‬
‫المــر الول‪ :‬أن الله عــز وجــل قــد أودع فــي الكون‬
‫المحيط بالنسان ‪-‬بل وفي النسان ذاته‪ -‬الكثير والكثير من‬
‫المعلومات التي تدل عليه‪.‬‬
‫المر الثاني‪ :‬أنه ‪-‬جل ثناؤه‪ -‬قد أعطى للنسان الوسيلة‬
‫التــي مــن خللهــا يســتطيع جمــع تلك المعلومات عــن ربــه‪،‬‬
‫ليتسنى له معرفته‪ ،‬ومن ثم عبادته‪.‬‬
‫الكل يعمل من أجلك‬
‫خلِق مــن أجلك أيهــا‬
‫فكــل مــا تراه عيناك قــد ُ‬
‫َ‬ ‫‪ ..‬نعــم‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُِ‬ ‫َ‬ ‫َِ‬ ‫ّ‬
‫عا"‬‫مي ًِ‬
‫ج ِ‬
‫في الْر ضِِ َ‬ ‫ق لك م َِّ‬
‫ما ِِ‬ ‫خل َ‬ ‫ذي َ‬
‫و ال ِ‬‫ه َ‬
‫النسـان " ُ‬
‫[البقرة‪.]29 :‬‬
‫هذه الجبال الشاهقة‪ ..‬هذه البحار العظيمة‪ ..‬هذه‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪24‬‬
‫لكل مسلم‬

‫النهار‪ ..‬الشجار‪ ..‬الدواب‪ ..‬الحشرات‪ ..‬الطيور‪..‬‬


‫السماك‪ ..‬الجمادات‪ ..‬الشمس‪ ..‬القمر‪ ..‬النجوم‪ ..‬السماء‪..‬‬
‫ها لِلنَامِ "‬ ‫َ‬
‫ع َ‬‫ض َ‬
‫و َ‬ ‫والْر َ‬
‫ض َ‬ ‫الرض‪ ...‬كل هذا مخلوق لك " َ‬
‫[الرحمن‪.]10 :‬‬
‫خر لك ومخلوق من أجلك لكي تنجح في مهمة‬ ‫مس َّ‬ ‫الكل ُ‬
‫ما‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫وا‬
‫ّ َ َ ِ َ َ‬ ‫ما‬ ‫َ‬
‫س‬ ‫ال‬ ‫في‬‫ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ر‬‫خ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫س‬ ‫و‬‫"‬ ‫بالغيب‬ ‫ربك‬ ‫عبادة‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ه" [الجاثية‪.]13 :‬‬ ‫من ْ ُ‬
‫عا ِّ‬‫مي ً‬
‫ج ِ‬
‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ِ‬
‫خلقت من أجلك‪..‬‬ ‫فالرض وما عليها‪ ،‬والسماء وما تحتها ُ‬
‫من أجل تعريفك بربك؛ وتيسير حياتك الدنيوية‪.‬‬
‫كل مخلوق في هذه الحياة قد أودع الله فيه بعض‬
‫المعلومات عنه‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬فهذا يحمل معلومات عن الله العظيم‪ ،‬القوي‪،‬‬
‫الجبار (كالجبال والبحار)‪.‬‬
‫وهذا يحمـل معلومات عـن الله الرحيـم‪ ،‬الكريـم (كالماء‬
‫والنبات)‪.‬‬
‫وآخــر يدل على أن الله عــز وجــل هـــو النافــع الضار‪،‬‬
‫الخافـــض الرافـــع‪ ،‬القابـــض الباســـط (كالرياح والمطـــر‬
‫والمرض‪.)...‬‬
‫وهكذا تتنوع المعلومات بتنوع المخلوقات‪:‬‬
‫فهذه النواع الكثيرة من المخلوقات التي تراها أو تسمع‬
‫َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ما‬
‫و َِ‬
‫ضِ َ‬‫والْر َ‬ ‫ت َ‬‫وا ِ‬ ‫ما َ‬‫س َ‬ ‫ال َِّ‬
‫َ‬
‫قن َِا‬ ‫ما َ‬‫و َِ‬‫عنهـا لم تخلق عبث ًـا " َ‬
‫ق‪[" ..‬الدخان‪.]39 ،38 :‬‬
‫ح ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ما إِل بِال َ‬ ‫ه َ‬‫قنَا ُ‬ ‫َ‬
‫خل ْ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ما ل َ ِ‬
‫عبِي َ‬ ‫بَيْن َ ُ‬
‫ه َ‬
‫فكل مخلوق له مهمة‪ ،‬وكل مخلوق يحمل رسالة تعريف‬
‫بالله عز وجل‪..‬‬
‫من المل العلى إليك‬ ‫تأمل سطور الكائنات‬
‫رسائل‬ ‫فإنها‬
‫أل كل شيء خل الله‬ ‫وقد خط فيها لو تأملت‬
‫باطل‬ ‫خطها‬
‫فصامتها يهدي ومن هو‬ ‫تشير بإثبات الصفات‬
‫قائل‬ ‫لربها‬
‫‪ ..‬ولكــن كيــف يمكــن للنســان أن يحصــل على هذه‬
‫المعلومات؟!‬
‫من هنا ندرك أهم حكمة لخلق «العقل»‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫الوسيلة المتفردة‬
‫كلما ازدادت معرفة النسان بالشيء تغيرت معاملته له‪،‬‬
‫«فالمعاملة على قدر المعرفة»‪.‬‬
‫ولن واجبات العبودية من حب وخشية وطاعة وتوكل‪...‬‬
‫ما هي إل معاملت ينبغي أن يعامل بها العبد ربه؛ لذلك فإن‬
‫نقطـة البدايـة الصـحيحة لتحقيـق العبوديـة والتجلبـب بهـا هـي‬
‫«معرفـة الله» عـز وجـل‪ ،‬وكلمـا تعرف المرء على ربـه أكثـر‬
‫كلمــا عامله بصــورة أفضــل‪ ،‬وكلمــا جهــل المرء ربــه كلمــا‬
‫قدَُروا‬ ‫ما َ‬ ‫و َِ‬‫ابتعدت معاملتــه له عــن الصــورة المطلوبــة " َ‬
‫ه" [الزمر‪.]67 :‬‬ ‫ر ِ‬ ‫ق َ‬
‫قدْ ِ‬ ‫ح َّ‬
‫ه َ‬ ‫الل َ‬
‫أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال‪ :‬بلغني أن‬
‫َ‬
‫ك‬ ‫غَّر َِ‬
‫ك بَِرب ّ ِِ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َِ‬
‫سا ُ‬ ‫ها الِن ِْ‪َ 8‬‬ ‫النـبي ‪ e‬تل هذه اليـة "ي َِا أي ُِّ َ‬
‫ريمِ " [النفطار ‪ .]6‬ثم قال‪ :‬جهله( )‪.‬‬ ‫الْك َ ِ‬
‫فكلمـــا ازدادت معرفـــة النســـان بربـــه ازداد حبـــه له‪،‬‬
‫وافتقاره الدائم إليــه‪ ،‬واعتماده عليــه‪ ،‬واســتسلمه المطلق‬
‫له‪.‬‬
‫ولكي يعرف النسان ربه لبد وأن يجمع المعلومات عنه‬
‫‪-‬سـبحانه‪ -‬والتـي تحملهـا الكائنات التـي تحيـط بـه فـي كـل‬
‫مكان وزمان‪ ،‬وتحملها كذلك أحداث الحياة التي تمر به‪ ،‬بل‬
‫إن النسـان نفسـه يحتوي على معلومات عـن الله عـز وجـل‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫ض آيَا ٌِ‬ ‫في الْر ِِ‬ ‫و ِِ‬ ‫آخـر " َ‬ ‫َ‬
‫ل توجـد مجتمعـة فـي مخلوق‬
‫ن"‬ ‫صُرو َ‬ ‫َ‬
‫فل تُب ْ ِ‬ ‫مأ َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫في أَن ْ ُ‬‫و ِ‬‫َ‬ ‫ن‬
‫قنِي َ‬‫مو ِ‬ ‫ل ِّل ْ ُ‬
‫[الذاريات‪.]21 ،20 :‬‬
‫وكما قال الشاعر‪:‬‬
‫وفيك انطوى العالم‬ ‫جْرم صغير‬
‫وتزعم أنك ِ‬
‫الكبر‬
‫ولقد منح الله عز وجل النسان الوسيلة التي من خللها‬
‫يســتطيع أن يجمــع المعلومات عنــه ســبحانه مــن جميــع‬
‫مخلوقاته‪ ،‬هذه الوسيلة هي العقل‪.‬‬
‫يقول الحسـن البصـري‪« :‬لمـا خلق الله عـز وجـل العقـل‬
‫قال له‪ :‬أقبــل‪ ،‬فأقبــل‪ ،‬ثــم قال له‪ :‬أدبر‪ ،‬فأدبر‪ ،‬وقال‪ :‬مــا‬
‫يّـ منـك‪ ،‬إنـي بـك أُعبد‪ ،‬وبك أُعرف‪،‬‬
‫خلقت خلقًـا هـو أحـب إل َ‬

‫‪8‬‬
‫() أورده السيوطي في الدر المنثور ‪ -534 /6‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪26‬‬
‫لكل مسلم‬

‫وبك آخذ‪ ،‬وبك أعطي»(‪.)9‬‬


‫فالعقــل مــن أعظــم مخلوقات الله عــز وجــل‪ ،‬وبــه مــن‬
‫المكانات والملكات مـا ل يمكـن وصـفه أو الحاطـة بـه‪ ،‬وإذا‬
‫أردت أن تتأكـد مـن ذلك فانظـر إلى هذا الكون ومـا فيـه مـن‬
‫بلييــن المخلوقات الكــبيرة والصــغيرة‪ ،‬وتذكــر أنهــا جميعً ـا‬
‫مخلوقة من أجلك‪ ،‬وتذ كر كذلك أن الذي خلقها‪ ،‬قد طالبك‬
‫بالنظــر إليهــا‪ ،‬والتفكــر فيهــا‪ ،‬والسـتدلل مـن خللهــا عليـه‬
‫َ‬
‫ت‬‫وا ِ‬ ‫ما َ‬
‫س َ‬ ‫ملَكُو ِِِ‬
‫ت ال َِِّ‬ ‫في َ‬ ‫م يَنْظُُروا ِِِ‬ ‫و ل َِِ ْ‬‫ــبحانه "أ َ‬‫سـ‬
‫ء" [العراف‪ ]185 :‬فكيف‬ ‫ي ٍ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫من‬ ‫ه‬
‫ُ ِ‬ ‫الل‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫خل‬
‫َ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫وال‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ َ َ‬ ‫َ‬
‫لك أن تفعـــل ذلك إل إذا كان الله عـــز وجـــل قـــد منحـــك‬
‫الوسيلة التي تمكنك من النجاح في هذا المر؟!‬
‫العرض المتحرك‪:‬‬
‫‪ ..‬أنــت ‪-‬أيهــا النســان‪ -‬محور هذا الكون‪ ..‬الكــل يدور‬
‫حولك‪ ،‬ويعمل من أجلك وينتظر إشارتك‪..‬‬
‫‪ ..‬إن هذا الكون يعــــد بمثابــــة شاشــــة عرض كــــبيرة‬
‫ومتحركـة‪ ،‬تعرض عروضهـا أمامـك كـل يوم وكـل ليلة‪ ،‬وفـي‬
‫كل عرض تظهر لك مشاهد جديدة‪ ،‬وعوالم جديدة‪ ،‬وأبطال‬
‫جدد‪.‬‬
‫فالشمـس والقمـر يتحركان‪ ،‬والليـل والنهار يتقلبان‪ ..‬كـل‬
‫ذلك يحدث أمامــك أيهــا النســان‪ ،‬وكأنــه مســرح مكشوف‬
‫أمام الجميـــع لينظروا إلى المخلوقات المختلفـــة الشكال‪،‬‬
‫واللوان‪ ،‬والحركات‪ ،‬والصــوات‪ ..‬كلهــا تهتــف باســم الله‪،‬‬
‫وكأنها تقول بلسان حالها‪:‬‬
‫خلِقنــا مــن أجلك أيهــا النســان‪ ،‬فل تتركنــا دون أن‬ ‫لقــد ُ‬
‫تنتفع بنا‪ ،‬وتتعرف على ربك من خللنا‪ ،‬وإن غفلت عنا اليوم‬
‫فسنمر عليك غدًا‪ ،‬وبعد الغد‪ ،‬وكل يوم حتى تنتبه وتنتفع بنا‪،‬‬
‫ولكــن احذر أن تغفــل عنــا طويل‪ ،‬فالعرض الذي نقدمــه لك‬
‫لحظة‪ ،‬فبادر‬ ‫كل يوم وليلة قد ينتهي بمجرد موتك وفي أي َّ‬
‫ع َ‬
‫ل‬ ‫و ال َ ِ َ َ َ َ‬
‫ج‬ ‫ذي‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬
‫ربــك‪َ َ " :‬‬ ‫واغتنــم الفرصــة‪ ..‬ألم يقــل لك‬
‫و أَرادَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن أَرادَ أن ي ّذّك َّر أ ْ‬ ‫ة ل ِّ َ‬
‫م ِِِِِِِِِْ‬ ‫خل ْ َ‬
‫ف ً‬ ‫والن َّ َ‬
‫هاَر ِ‬ ‫ل َ‬‫اللَّي ْ َ‬
‫شكُوًرا"‬ ‫ُ‬
‫[الفرقان‪.]62 :‬‬
‫‪9‬‬
‫() شعب اليمان للبيهقي برقم (‪ – )4632‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫هيا أبصر واعتبر‪:‬‬


‫ربك يحرك الكون كله من أجلك‪ ..‬تتغير المشاهد‪ ،‬ويتغير‬
‫البطال لكـي ل َتمـل‪ ،‬ولكـي تسـتمر فـي البصـار والعتبار‬
‫عبَْرةً لُولِي‬ ‫ك لَ ِ‬
‫في ذَل ِ َ‬‫ن ِ‬ ‫هاَر إ ِ َّ‬‫والن َّ َ‬ ‫ه الل ّي ْ َ‬
‫ل َ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫قل ِّ ُ‬‫"ي ُ َ‬
‫ر" [النور‪ ،]44 :‬فأطلق بصـرك إلى المام وانظـر فـي‬ ‫َ‬
‫صا ِ‬‫الب ِْ َ‬
‫ملكوت السماوات والرض‪ ،‬وكفى نظًرا إلى أسفل قدميك‪،‬‬
‫خل ِــقت لمــر عظيــم آخره الخلود‬ ‫فلم تُخلق للطيــن‪ ،‬بــل ُ‬
‫َِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫والنعيـم "أ َ َ‬
‫من‬ ‫َ‬ ‫هدَى أ ّ‬ ‫ه ِهِ أ ْ‬ ‫ج ِ‬
‫و ْ‬‫على َ‬ ‫مكِب ِّا َ‬ ‫شي ُ‬ ‫م ِِ‬‫من ي َّ ْ‬‫ف َِ‬
‫قيم " [الملك‪.]22 :‬‬ ‫ست َ ِ ٍ‬‫م ْ‬ ‫ط ُّ‬‫صَرا ٍ‬ ‫علَى ِ‬ ‫ويًّا َ‬‫س ِ‬‫شي َ‬ ‫م ِ‬ ‫ي َّ ْ‬
‫إنــك ‪-‬كمــا يقول محمــد إقبال‪ -‬غايــة وجود هذا الكون‪،‬‬
‫ولجلك خلق الله هذا العالم‪ ،‬وأبرزه إلى الوجود(‪.)10‬‬
‫إن هذا الكون‪ ،‬الذي يتركـــب مـــن لون وصـــوت‪ ،‬والذي‬
‫تسرح فيه العين‪ ،‬وتتمتع فيه الذن‪ ...‬إنه ليس وكرك الذي‬
‫تستريح فيه‪ ،‬والغاية التي تنتهي إليها‪.‬‬
‫إن هنالك عوالم وأكوان ًا لم تقع عليها عين بعد‪ ..‬إن هذه‬
‫العوالم متشوقــة لهجومــك‪ ،‬وغارتــك‪ ،‬وزحفــك‪ ..‬متشوقــة‬
‫لبكار أفكار‪ ،‬وبدائع أعمالك‪ ..‬إن هذا العالم يدور دورتـــــــه‬
‫لتنكشف عليك نفسك وحقيقتك(‪.)11‬‬
‫‪ ..‬ل تسـفه نفسـك فأنـت (فاتـح هذا العالم‪ ،‬ويعجـز البيان‬
‫عن وصفك‪ ،‬وتعجز الملئكة عن مرافقتك‪ ،‬وعن غايتك)(‪.)12‬‬
‫واعلم أنـه (ل حياة لك ول قوام‪ ،‬ول شرف ول كرامـة إل‬
‫بهذه المعرفـــة‪ ،‬فإذا ملكتهـــا ملكـــت العالم‪ ،‬وإذا فقدتهـــا‬
‫أصبحت من سقط المتاع)(‪.)13‬‬
‫إن كــل مــا فــي العالم مــن الظواهــر الكونيــة‪ ،‬أو الجرام‬
‫الفلكيـة‪ ،‬راحـل زائل‪ ،‬وغائب آفـل‪ ..‬أنـت ‪-‬أيهـا النسـان المسـلم‪-‬‬
‫بطـل المعركـة‪ ،‬وقائد الجيـش‪ ،‬وكـل مـا حولك مـن سـافل وعال‪،‬‬

‫‪10‬‬
‫() روائع إقبال ص ‪ – 122‬لبي الحسن الندوي‪ -‬دار القلم‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫() المصدر السابق ص ‪.139‬‬
‫‪12‬‬
‫() المصدر السابق‪ :‬ص ‪.140‬‬
‫‪13‬‬
‫() المصدر السابق‪ :‬ص ‪.92‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪28‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ورخيص وغال‪ ،‬من جنودك وأتباعك(‪.)14‬‬


‫الذنب الكبر‪:‬‬
‫إذن فالحكمـة العظمـى مـن خلق العقـل هـو اسـتخدامه‬
‫فــي التعرف على الله عــز وجــل مــن خلل التفكــر فــي‬
‫مخلوقاتـــه والتعرف على مـــا تحمله مـــن معلومات عنـــه‬
‫ف‬ ‫ختِل َ ِ‬ ‫وا ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫والَْر‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال َّ‬
‫خلِ ِ َّ‬
‫في َ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫‪ -‬سبحانه‪" -‬إ ِ َّ‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫ر بِ ِ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫في الب َ ْ‬ ‫ري ِ ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ك الت ِ ِي ت َ ْ‬ ‫فل َ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫وال ُ‬ ‫ر َ‬ ‫ها ِ‬ ‫والن َّ َ‬ ‫ل َ‬ ‫الل ّي ْ ِ‬
‫ء‬‫ما ٍ‬ ‫من َّ‬ ‫ء ِِ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬‫ن ال َِّ‬ ‫م َِ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل الل ُِ‬ ‫ما أنَْز َ‬ ‫و َِ‬ ‫س َ‬ ‫ع النَّا َ َِ‬ ‫ف ُِ‬ ‫يَن َ‬
‫َ َ‬
‫ة‬ ‫ل دَاب َّ ٍ‬ ‫من ك ُ ِّ‬ ‫ها ِِ‬ ‫في َِ‬ ‫ث ِ‬ ‫َ‬ ‫وب َِ ّ‬ ‫ها‬ ‫وت ِِ َ‬ ‫م‬
‫عدَ َ‬ ‫ضِ ب َ ْ‬ ‫ه الْر َ‬ ‫حي َِا ب ِِ ِ‬ ‫فأ ْ‬
‫س َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ء‬
‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال َِّ‬ ‫ر بَي ِْ َ‬ ‫خ ِ‬ ‫م َِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫س َ‬ ‫وال َِّ‬ ‫ح َ‬ ‫ريَا ّ ِِ‬ ‫ف َال ّ ِ‬ ‫ري ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫وت َِ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن" [البقرة‪.]164 :‬‬ ‫قلو َ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫وم ٍ ي َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ت‬
‫ٍ‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫وال‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬
‫وكثيًرا ما يذكِّر القرآن بأهمية استخدام العقل في التفكر‬
‫م‬ ‫خَر لَك ُِ ُ‬ ‫س َّ‬‫و َِ‬ ‫والعتبار لفهـم آيات َالله المبثوثـة فـي كونـه‪َ " :‬‬
‫ت‬ ‫خَرا ٌ‬ ‫َ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ُ‬ ‫جو ُ‬ ‫والن ُّ ُ‬ ‫مَر َ‬ ‫ق َ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫س َ‬ ‫مَ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫وال ّ‬ ‫هاَر َ‬ ‫والن َّ َ‬ ‫ل َ‬ ‫اللَّي ْ َ‬
‫َ‬
‫ن" [النحل‪.]12 :‬‬ ‫قلُو َ‬ ‫ع ِ‬ ‫وم ٍ ي َ ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫ت ل ِّ َ‬ ‫ك ليَا ٍ‬ ‫في ذَل ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ه إ ِ َّ‬ ‫ر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫بِأ ْ‬
‫وحيـن يُعطـل المرء عقله‪ ،‬ول يسـتخدمه فيمـا خلق مـن‬
‫ما لنـه بذلك قـد‬ ‫ما عظي ًـ‬ ‫أجله فقـد سـفِه نفسـه‪ ،‬وظلمهـا ظل ًـ‬
‫ســـار بهـــا إلى الهاويـــة‪ ..‬تأمـــل معـــي حال أهـــل النار‬
‫‪-‬والعياذ بالله‪ -‬وهـــم يتذكرون أســـباب هلكهـــم وضياعهـــم‬
‫ب‬ ‫َِ‬ ‫ما كُن َِّا ِِ‬ ‫ق ُ‬ ‫قالُوا ل َو كُن َِّا ن َِسم َ‬ ‫و َ‬
‫حا ِ‬‫ص َ‬‫في أ ْ‬ ‫ل َِ‬ ‫ع ِ‬
‫و نَ ْ‬
‫عأ ْ‬‫ْ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫" َ‬
‫ر" [الملك‪ ..]10 :‬والملحـظ أنهـم لم يذكروا كفرهـم أو‬ ‫ِ‬ ‫عي‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫ال ِّ‬
‫شركهـم أو معاصـيهم وهـم يؤنبون أنفسـهم على مـا وصـلوا‬
‫إليه‪ ،‬بل ذكروا تعطيلهم لعقولهم عن الستخدام الصحيح‪.‬‬
‫‪ ..‬نعــم‪ ،‬لو اســتخدموا عقولهــم وتفكروا فــي آيات الله‬
‫المرئيــة فــي كونــه‪ ،‬والمقروءة فــي رســالته‪ ،‬لتعرفوا على‬
‫م لطاعوه وعبدوه ولمـا كفروا ولمـا أشركوا‪،‬‬ ‫ربهـم‪ ،‬ومـن ث َّـ‬
‫ومــن ثــم لمــا دخلوا النار‪ ،‬لذلك كان التعقيــب اللهــي على‬
‫قا‬‫ح ً‬
‫س ْ‬ ‫م َ‬
‫ف ُِِِ‬ ‫ه ِِِْ‬ ‫عتََر ُ‬
‫فوا بِذَنب ِ ِ‬ ‫اعترافهـــم بالحقيقـــة ‪َ +‬‬
‫فا ْ‬
‫ر" [الملك‪.]11 :‬‬ ‫ب ال َّ‬ ‫َ‬
‫عي ِ‬
‫س ِ‬ ‫حا ِ‬
‫ص َ‬
‫ل ْ‬
‫‪ ..‬بالفعـل‪ :‬إن ذنبهـم الكـبر هـو هذا الذنـب‪ ،‬ومـا الكفـر‪،‬‬
‫ومــا الشرك‪ ،‬ومــا الكــبر‪ ،‬إل توابــع لتعطيــل العقــل‪ ،‬فالذي‬

‫‪14‬‬
‫() المصدر السابق‪ :‬ص ‪.93‬‬
‫‪29‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫يعطــل هذه النعمــة العظيمــة فإنمــا يحرم نفســه مــن خيــر‬


‫عظيـم كان فـي متناول يده‪ ،‬ومـن ثـم تنحـط مرتبتـه‪ ،‬ويهبـط‬
‫ن" [التين‪.]5 :‬‬ ‫ف َ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫فلِي َ‬‫سا ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ويهبط حتى يصبح "أ ْ‬
‫َ‬ ‫ن أَكْثََر ُ‬ ‫ب أ َ َّ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫قلُو َ‬
‫ن إِ ْ‬ ‫ع ِ‬
‫و يَ ْ‬
‫نأ ْ‬‫عو َ‬ ‫م ُ‬‫س َ‬‫م يَُ ْ‬‫هَ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫م َ تَ ْ‬
‫"أ ْ‬
‫سبِيلً " [الفرقان‪.]44 :‬‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬‫مأ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل ُ‬‫عام ِ ب َ ْ‬ ‫م إِل ّ كَالن ْ َ‬ ‫ه ْ‬
‫ُ‬
‫وصـــدق عباس العقاد حيـــن قال‪« :‬التفكيـــر فريضـــة‬
‫إسلمية»‪.‬‬
‫العلم الحقيقي‪:‬‬
‫إن كان العقــل هــو محــل العلم والمعرفــة‪ ،‬فإن العلم‬
‫الحقيقـي الذي ينبغـي أن ينشغـل العبـد بتحصـيله هـو العلم‬
‫بالله عـز وجـل‪ ،‬وكيـف ل ومـن خلله تتحقـق العبوديـة الحقـة‬
‫له ســبحانه‪ ،‬لذلك قال بعــض المفســرين فــي قوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫ن" [الذاريات‪]56 :‬‬ ‫س إِل ّ لِي َ ْ‬
‫عبُدُو ِِ‬ ‫والِن ِْ َ‬
‫ن َ‬ ‫ت ال ْ ِ‬
‫ج َِّ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق ُِ‬ ‫ما َ‬
‫و َِ‬
‫" َ‬
‫أي‪ :‬إل ليعرفون‪.‬‬
‫لماذا؟!‬
‫لنهـــــم إذا عرفوه‪ :‬أحبوه‪ ،‬وعظموه‪ ،‬وهابوه‪ ،‬وأطاعوه‪،‬‬
‫وتوكلوا عليه‪...‬‬
‫سـأل ربـه فقال‪ :‬يـا رب‪ ،‬أي‬ ‫جاء فـي الثـر أن موسـى‬
‫عبادك أخشى لك؟‬
‫قال‪ :‬أعلمهم بي(‪.)15‬‬
‫‪ ..‬إذن فتحصـيل العلم بالله هـو أهـم غايـة لخلق العقـل‪،‬‬
‫وأي علم آخــر فينبغــي أن يكون تابعًـا له‪ ،‬وفرع ًــا منــه‪ ..‬ألم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه" [محمد‪.]19 :‬‬ ‫ه إِل ّ الل ُ‬ ‫م أن َّ ُ‬
‫ه ل َ إِل َ َ‬ ‫عل َ ْ‬ ‫يقل سبحانه " َ‬
‫فا ْ‬
‫فلكي يدرك المرء حقيقة التوحيد‪ ،‬ويوقن بها فإنه يحتاج‬
‫م‬‫ه ْ‬‫ري ِ‬ ‫سن ُ ِ‬
‫خلل آياته الدالة عليه " َ‬ ‫إلى التعرف على ربه من‬
‫م‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ت‬‫ي‬ ‫ى‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫ن‬‫في أ َ‬‫و ِِ‬ ‫في ال َ َ‬
‫َ َ ِّ َ ُ ِْ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ َْ َ‬ ‫ِ‬‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ق َ‬ ‫ِِ‬ ‫فا‬
‫َ‬ ‫آ َيَاتِن َِا ِِ‬
‫ء‬
‫ي ٍ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫على ك ِّ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف بَِرب ِّ ِِك أن ِِّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِِْ‬ ‫م يَك‬ ‫َِِ‬
‫ول ْ‬ ‫قأ َ‬‫ُ‬ ‫ح ِِّ‬ ‫أن َِِّ ُ‬
‫ه ال ْ َ‬
‫هيدٌ" [فصلت‪.]53 :‬‬ ‫ش ِ‬ ‫َ‬

‫‪15‬‬
‫() أخرجه الدارمي (‪.)366‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪30‬‬
‫لكل مسلم‬

‫لذلك نجد جواب موسى عندما سأله فرعون عن الله‪،‬‬


‫ضا مـن المعلومات عنـه ‪-‬سـبحانه‪ -‬مـن خلل آثار‬ ‫أنـه ذكـر بع ًـ‬
‫ما‬ ‫ُ‬
‫ّ ّ َ‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫"‬ ‫مخلوقاته‬ ‫في‬ ‫المتجلية‬ ‫وصفاته‬ ‫أسمائه‬
‫خل َ‬ ‫ْ‬ ‫ل َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫عط ى ك ّ‬ ‫َِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬
‫ق ُهِ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ُ‬
‫ذي أ ْ‬ ‫ل َرب ّن َِا ال ِ‬ ‫سى‬ ‫مو َِ‬ ‫ي َِا ُ‬
‫قالَ‬ ‫َ‬ ‫ن الولى‬‫َ‬ ‫ما بَال َالقُروُ ِِِِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫هدَى قال ف َِِِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫ث ُِِِ ّ‬
‫سى‬ ‫ول َ يَن َ‬ ‫ل َربِّي َ‬ ‫ض ّ‬ ‫ب ل ّ يَ ِ‬ ‫في كِتَا ٍ‬ ‫َ‬
‫عنْدَ َربِّي ِ‬ ‫ها ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫سبُلً‬ ‫ها ُ‬ ‫في َ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫سلك َلك ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬ ‫هدًا َ‬ ‫م َْ‬ ‫ض َ‬ ‫م الْر َ‬ ‫ل لك ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال َ ِ‬ ‫ّ‬
‫ت‬ ‫ّ َ ٍ‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫من‬ ‫جا‬
‫ْ َ ْ َ ِ ِ ْ َ ً ِّ‬ ‫وا‬ ‫ز‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫فأ‬ ‫َ‬ ‫ء‬
‫َ ً‬ ‫ما‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ما‬ ‫ّ َ‬‫س‬‫َ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ِ َ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ز‬ ‫وأ ْ َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫في ذَل ِِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك ليَا ٍِ‬ ‫ن ِِ‬ ‫م إ ِِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫م‬
‫َ َ‬ ‫عا‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫وا‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫وا‬ ‫وا‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ى‬ ‫ِّ‬ ‫ت‬ ‫ش‬
‫ُ‬
‫هى" [طـه‪ ]54 -49 :‬وفـي هذا المعنـى يقول الحافـظ‬ ‫لولِي الن ُِّ َ‬
‫ابن رجب‪:‬‬
‫أخبر سبحانه أنه ما خلق السماوات والرض ونزل المر‬
‫دليل ً على معرفتـــه‬ ‫إل لنعلم بذلك قدرتـــه وعلمـــه‪ ،‬فيكون َّ‬
‫ع‬ ‫ب‬
‫َ َِ ْ َ‬ ‫س‬ ‫ق‬ ‫َِ‬ ‫خل‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ومعرفـة صـفاته‪ ،‬كمـا قال تعالى‪" :‬الل ُهِ ال‬
‫نَ‬ ‫ه ِّ‬ ‫مُر بَيْن َ ُ‬ ‫ل الَِ ْ‬ ‫ن يَتَنََّز ُ‬ ‫ه َِّ‬ ‫مثْل َ ُ‬ ‫ض ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ن الَْر‬ ‫م َِ‬ ‫و ِ‬ ‫تَِ َ‬ ‫وا ٍ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫َِ‬
‫د‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ه‬
‫َِ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ِ ٌ َ ّ‬ ‫وأ‬ ‫ر‬ ‫دي‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ى‬ ‫َ‬ ‫عل‬
‫َِ َ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫موا‬ ‫َ‬
‫ل َِت َ ْ ُ‬ ‫عل‬
‫ما" [الطلق‪.]12 :‬‬ ‫عل ً‬ ‫ْ‬ ‫ء ِ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫حاط بِك ُ ِّ‬ ‫َ‬ ‫أ َ‬
‫وأخـبر أنـه إنمـا يخشاه مـن عباده العلماء‪ ،‬وهـم العلماء‬
‫«به»‪.‬‬
‫ن‬ ‫م ِْ‬ ‫ه ِ‬ ‫شى الل َ ِ‬ ‫خ َِ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫قال ابــن عباس فــي قوله‪" :‬إِن ّ َِ َ‬
‫ماءُ" [فاطر‪.]28 :‬‬ ‫عل َ َ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫عبَاِد ِ‬ ‫ِ‬
‫قال‪ :‬أي إنمـــا يخافنـــي مـــن عبادي مـــن عرف جللي‬
‫وكبريائي وعظمتي‪.‬‬
‫فأفضـل العلم العلم بالله‪ ،‬وهـو العلم بأسـمائه وصـفاته‪،‬‬
‫وأفعاله التـي توجـب لصـاحبها معرفـة الله وخشيتـه ومحبتـه‬
‫وهيبته وإجلله وعظمته‪ ،‬والتبتل إليه‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والرضا‬
‫عنه‪ ،‬والشتغال به دون خلقه‪.‬‬
‫ويتبــع ذلك العلم بملئكتــه وكتبــه ورســله واليوم الخــر‬
‫وتفاصــــيل ذلك‪ ،‬والعلم بأوامــــر الله ونواهيــــه وشرائعــــه‬
‫وأحكامـــه‪ ،‬ومـــا يحبـــه مـــن عباده مـــن القوال‪ ،‬والعمال‬
‫الظاهرة والباطنـــة‪ ،‬ومـــا يكرهـــه مـــن عباده مـــن القوال‬
‫‪31‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫والعمال الظاهرة والباطنة(‪. )16‬‬


‫العلم النافع‪:‬‬
‫مـن هنـا يتأكـد لدينـا أن العلم النافـع هـو الذي يؤدي إلى‬
‫تحقيـق التوحيـد قول وعمل‪ ،‬أو بمعنـى آخـر‪ :‬هـو الذي يؤدي‬
‫إلى تحســين المعاملة مــع الله عــز وجــل فيزداد المرء له‬
‫خشيــة وطاعــة ومحبــة وإنابــة واســتقامة على صــراطه‬
‫المســـتقيم‪ ،‬فإن لم يُؤدِّ العلم الذي يتعلمـــه المرء إلى ذلك‬
‫صار علما غير نافع‪.‬‬
‫وفـي صـحيح مسـلم عـن النـبي ‪ e‬أنـه كان يقول‪« :‬أعوذ‬
‫بالله مِن علم ل ينفِع‪ ،‬ومِن قلب ل يخشِع»‪ ،‬وفـي‬
‫عا‪ ،‬وتعوذوا‬ ‫ما ناف ًِِ‬
‫الله عل ًِِ‬ ‫حديــث آخــر قال‪« :‬سِِلوا‬
‫(‪)17‬‬
‫بالله مِِن علم ل ينفِِع» ‪ ،‬وهذا يدل ‪-‬كمــا يقول ابــن‬
‫رجــب‪ -‬على أن العلم الذي ل يوجــب الخشوع فــي القلب‬
‫فهو علم غير نافع(‪.)18‬‬
‫ضل العلم لنـه يُت َّـقى الله‬ ‫ويقول سـفيان الثوري‪ :‬إنمـا فُـ ِّ‬
‫به‪ ،‬وإل كان كسائر الشياء‪.‬‬
‫وكان المام أحمــد يقول‪ :‬أصــل العلم خشيــة الله‪ ،‬وقال‬
‫كثيــر مــن الســلف‪ :‬ليــس العلم كثرة الروايــة وإنمــا العلم‬
‫الخشية(‪.)19‬‬
‫وفـي حكـم ابـن عطاء‪« :‬العلم إن قَاَرن ْـته الخشيـة فلك‪،‬‬
‫وإل فعليك»‪.‬‬
‫وعندمـا سـئل المام أحمـد عـن معروف الكرخـي‪ ،‬وقيـل‬
‫له‪ :‬هـل كان معـه علم؟ فقال‪ :‬كان معـه أصـل العلم‪ ،‬خشيـة‬
‫الله عز وجل(‪.)20‬‬

‫‪16‬‬
‫() مجموع رسـائل ابـن رجـب ‪ – 41 ،40 /1‬الفاروق الحديثـة للطباعـة والنشـر‬
‫– القاهرة‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)3635‬‬
‫‪18‬‬
‫ما) لبـن رحـب‬
‫() شرح حديـث أبـي الدرداء (مـن سـلك طريقًـا يلتمـس فيـه عل ًـ‬
‫الحنبلي‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫() المصدر السابق‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪32‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ومـن الملحـظ أن كلمـة العلم فـي القرآن كثيًرا مـا تدور‬


‫ن‬
‫م ِْ‬ ‫ه ِ‬ ‫شى الل َِ‬ ‫خ َِ‬‫ما ي َ ْ‬ ‫حول هذا المعنــى كقوله تعالى‪" :‬إِن َِّ َ‬
‫ماءُ" [فاطر‪.]28 :‬‬ ‫عل َ َ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫عبَاِد ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وقوله‪" :‬أ َ َّ‬
‫ما‬‫قائ ِِ ً‬‫و َ‬‫جدًا َ‬‫سا ِ‬
‫ل َِ‬ ‫ت آنَاءَ الل ّي ْ ِ‬ ‫قان ِِ ٌ‬‫و َ‬‫ه َ‬ ‫ن ُ‬
‫م ِْ‬
‫وي‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ه ْ‬
‫ل ي َِِِ ْ‬ ‫ل َ‬‫ق ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ة َرب ِِِِّ ِ‬ ‫م َ‬
‫ح َ‬ ‫جو َر ْ‬ ‫ويَْر َ ُ ِِ‬‫خَرةَ َ‬ ‫حذَُر ال َ ِ‬ ‫يَ َ ْ‬
‫ن" [الزمر‪.]9 :‬‬ ‫مو‬
‫َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫عل‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ال ّ ِ َ َ ْ ُ َ َ ِ َ‬
‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫وال‬ ‫ن‬ ‫مو‬ ‫َ‬ ‫عل‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫غاية العلم‪:‬‬
‫لكـي ندرك أكثـر وأكثـر غايـة العلم علينـا أن نتذكـر غايـة‬
‫وجود النسان على الرض والتي تتمثل في تحقيق العبودية‬
‫الحقة لله عز وجل وما تشمله من معان مختلفة يقف على‬
‫رأســها‪ :‬طاعتــه ســبحانه‪ ،‬وخشيتــه‪ ،‬ومحبتــه‪ ،‬والشوق إلى‬
‫لقائه‪ ،‬والنـــس بـــه‪ ،‬ودوام النابـــة إليـــه‪ ،‬والســـتسلم له‪،‬‬
‫والستعانة به‪ ،‬والتضحية من أجله‪ ،‬وإقرار شرعه‪.‬‬
‫ولن هذه المعانـي ل يمكـن تحقيقهـا إل مـن خلل المرور‬
‫من باب «المعرفة» بالله عز وجل ‪-‬كما أسلفنا‪ -‬كانت غاية‬
‫العلم هي‪« :‬التعرف على الحقائق التي تصل بالمرء‬
‫إلى تحقيِِِق العبوديِِِة لله عِِِز وجِِِل بمعانيهِِِا‬
‫المختلفة»‪.‬‬
‫بهذا ندرك مفهوم العلم النافــع ومدى ارتباطــه بتحســين‬
‫ضا‪ -‬يمكننــا‬
‫المعاملة مــع الله عــز وجــل‪ ،‬وبهذا المفهوم ‪-‬أي ً ـ‬
‫التعرف على مدى قُرب أو بعـد العلوم المختلفـة مـن العلم‬
‫النافـع‪ ،‬مـع الخـذ فـي العتبار أن معرفـة الحكام الشرعيـة‪،‬‬
‫ومـا يرضـي الله عـز وجـل ومـا يبغضـه مـن الهميـة بمكان‪،‬‬
‫وهــي تحتــل المرتبــة التاليــة للعلم بالله عــز وجــل وآياتــه‬
‫وأفعاله فــي خلقــه‪ ،‬وذلك لضرورتهــا فــي تحقيــق العبوديــة‬
‫الحقــة له ســبحانه‪ ،‬فالذي امتل قلبــه خشيــة لله عــز وجــل‬
‫يحتاج أن يعرف مـــا الذي يُرضـــي ربـــه فيفعله‪ ،‬ومـــا الذي‬
‫يبغضه فيتجنبه‪.‬‬
‫لذلك فإن مــــن جمــــع العِلميــــن (العلم بالله‪ ،‬والعلم‬
‫بأحكامـه) فقـد حاز قصـب السـبق فـي ركـب العلماء‪ ،‬ويلي‬
‫ذلك العلم بالله دون العلم بجميـــع أحكامـــه‪ ،‬أمـــا الصـــنف‬
‫الثالث والذي يتمثــل فيمــن يعلم الحكام وليــس لديــه علم‬
‫حقيقـي بالله‪ ،‬فهذا الصـنف مذموم لنـه قـد يُطَوِّع هذا العلم‬
‫‪20‬‬
‫() مجموع رسائل ابن رجب ‪.787 /2‬‬
‫‪33‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫فــي اتجاه هواه وكــل مــا يجعله محــل رضــى الناس فيكون‬
‫ذلك سببًا في هلكه والعياذ بالله‪.‬‬
‫قال ســــفيان الثوري‪« :‬كان يقال‪ :‬العلماء ثلثــــة‪ :‬عالم‬
‫بالله يخشــى الله وليــس بعالم بأمــر الله‪ ،‬وعالم بالله عالم‬
‫بأمـر الله يخشـى الله فذلك العالم الكامـل‪ ،‬وعالم بأمـر الله‬
‫ليس بعالم بالله ل يخشى الله فذلك العالم الفاجر»(‪.)21‬‬
‫الباب العظم‪:‬‬
‫مـن هنـا نقول أن العلم الحقيقـي الذي ينبغـي أن ينشغـل بـه‬
‫العقـل ‪-‬أول مـا ينشغـل‪ -‬هـو العلم بالله عـز وجـل‪ ،‬وأن أي علم‬
‫آخر ينبغي أن يكون تاليا له‪ ،‬منطلقًا منه‪.‬‬
‫إن علم التوحيد الحقيقي هو «الباب العظم»‬
‫الذي ينبغي أن ندخل منه جميعًا‪ ،‬وبعد ذلك ندخل‬
‫إلى العلوم المختلفة حتى نتمكن من الستفادة‬
‫الحقيقية منها في تحقيق العبودية لله عز وجل‪،‬‬
‫فإن لم يحدث هذا‪ ،‬وبدأ المرء في تعلم العلوم‬
‫المختلفة متجاوًزا العلم بالله عز وجل فإن‬
‫مقصود هذه العلوم لن يتحقق بالصورة‬
‫المطلوبة‪.‬‬
‫فعلى ســبيل المثال‪ :‬عندمــا يتعلم المرء العلوم الكونيــة‬
‫قبـل تعلمـه العلم بالله عـز وجـل فإنـه لن يسـتطيع ‪-‬بتلقائيـة‪-‬‬
‫أن يربطهــا بالله عــز وجــل‪ ،‬ومــن ثــم لن تزيده معرفــة بــه‬
‫سبحانه‪ ،‬وإن تكلف ذلك‪.‬‬
‫أمــا إذا تعلمهــا بعــد دخوله مــن «الباب العظــم» للعلم‬
‫فإنه سيستفيد بها استفادة عظيمة في الستدلل على الله‬
‫عز وجل وأسمائه وصفاته‪ ،‬وأفعاله الدالة عليه‪ ،‬فيزداد بهذه‬
‫العلوم معرفــة بربــه ومــن ثــم خشيتــه وهذا مــا يؤكده قوله‬
‫ماءً‬‫ء َ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬ ‫ن ال َِِِّ‬ ‫م َِِِ‬ ‫ل ِ‬ ‫ه أَنَْز َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ن الل‬ ‫م تََر أ َِِِ َّ‬ ‫ْ‬ ‫تعالى‪" :‬أَل َِِِ‬
‫ختَل ِِ ً َ‬ ‫فأ َ ْ‬
‫ل‬‫جبَا ِ‬‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َِ‬ ‫و ِ‬ ‫ها َ‬ ‫وان ُِ َ‬ ‫فا أل ْ َ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬‫ت ُّ‬ ‫مَرا ٍِ‬ ‫ه ثَ َ‬‫جن َِا ب ِِ ِ‬ ‫خَر ْ‬ ‫َ‬
‫سودٌ‬ ‫ب ُِ‬ ‫و َ‬
‫غَراب ِ َي ُِ‬ ‫ها َ‬ ‫وان ُِ َ‬ ‫ْ‬
‫ف أل َ‬ ‫ختَل ِِ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫مٌر ُّ‬ ‫ح ْ‬‫و ُ‬‫ض َ‬ ‫جدَدٌ بِي ٌِ‬ ‫ُ‬
‫ه كَذَل ِكَ‬ ‫وان ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫ف أل َ‬ ‫ختَل ِ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫عام ِ ُ‬ ‫والن ْ َ‬ ‫ب َ‬ ‫وا ِّ‬ ‫َ‬
‫والدّ َ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن الن ّا ِ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ء" [فاطر‪.]28 ،27 :‬‬ ‫ما‬
‫ُ َ ُ‬ ‫عل‬ ‫ال‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ع‬
‫َ ِ ْ ِ َ ِ ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫شى‬ ‫َ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫إِ ّ َ َ‬
‫ي‬ ‫ما‬ ‫ن‬

‫‪21‬‬
‫() أخرجه الدارمي (‪ )367‬المقدمة‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪34‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ومــا ينطبــق على العلوم الكونيــة ينطبــق على العلوم‬


‫الخرى‪ ،‬فالعلم بالتاريخ علم مهم ولكن ينبغي أن يكون تاليًا‬
‫ومنطلقًـا مـن العلم بالله عـز وجـل‪ ،‬فنرى مـن خلله أفعاله‬
‫سـبحانه‪ ،‬وسـنته فـي خلقـه عـبر الحقـب والزمنـة السـابقة‬
‫فيزداد تعُّرفنا عليه‪ ،‬وخشيتنا له‪ ،‬وتعلقنا به‪.‬‬
‫َ‬
‫معط ّل‪:‬‬
‫العقل ال ُ‬
‫خلصــنا ممــا ســبق إلى أن وظيفــة العقــل الولى هــي‬
‫التعرف على الله عــــز وجــــل‪ ،‬لذلك فإن المطلوب مــــن‬
‫ما أن يقوم بتنميـة عقله‪ ،‬وتوسـيع مداركـه‪ ،‬وفتـح‬
‫المسـلم دو ًـ‬
‫نوافذه لتحصيل هذه المعرفة‪.‬‬
‫إن العقل البشري به كم هائل من النوافذ والخليا التي‬
‫تقوم باستقبال وتخزين المعلومات‪ ،‬ويكفي أن تعرف أن‬
‫بعض البحاث العلمية أثبتت أن عدد خليا المخ يصل إلى ما‬
‫يقارب ‪ 200‬بليون خلية‪ ..‬هذه الخليا لديها من الكفاءة ما‬
‫يمكنها ‪ -‬بإذن الله‪ -‬من تخزين حوالي ‪ 100‬بليون معلومة‪،‬‬
‫وأن أقصى ما يستخدمه النسان من هذه الكفاءة لم‬
‫يتجاوز العشرة بالمائة (‪ ..)%10‬والسبب الرئيس في ذلك‬
‫هو ابتعاده عن أداء الوظيفة التي خلق من أجلها‪ ،‬والتي‬
‫تستلزم منه التفكر فيما يراه من أحداث‪ ،‬وما يتجدد من‬
‫مشاهد لمخلوقات متنوعة‪ ،‬وأحداث متقلبة‪ ،‬والستدلل من‬
‫خلل هذا التفكر على صفات خالقه‪.‬‬
‫ومهمـا نجـح النسـان فـي اكتشاف الجديـد‪ ،‬ومهمـا اسـتخدم‬
‫عقله فـــي الختراعات المبهرة النافعـــة إل أن هذا كله ‪ -‬مـــع‬
‫أهميتـه وضرورتـه‪ -‬ل يسـتهلك سـوى قدر محدود مـن إمكانات‬
‫العقل‪ ،‬في حين تظل أغلب نوافذ هذا العقل مغلقة‪ ،‬لنه ‪ -‬في‬
‫خلق لوظيفـة عظيمـة تسـتلزم منـه أن ي ُـطل على‬ ‫السـاس‪ -‬قـد ُ‬
‫العوالم المختلفــة المحيطــة بــه‪ ،‬وعلى ذاتــه التــي تحتوي على‬
‫صورة مصغرة من كتاب الكون‪ ،‬فيتعرف من خللها على ربه‪.‬‬
‫مــــن هذا التصــــور لوظيفــــة العقــــل الولى نُدرك أن‬
‫الهتمامات العلمية في العصور الخيرة للبشرية ‪ -‬مع أهمية‬
‫الكثيـر منهـا فـي نفـع حياة النسـان «الطينيـة»‪ -‬تنحصـر فـي‬
‫قشرة صــغيرة‪ ،‬وســطور قليلة مــن كتاب الكون العظيــم‪،‬‬
‫ة الدُّنْي َِا‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫حي َ َا ِ‬ ‫م َِ‬ ‫را ِّ‬‫َ‬ ‫ن ظَا ِ‬
‫ه ً‬ ‫مو َِ‬ ‫عل َ ُ‬
‫وصـدق الله العظيـم "ي َ ْ‬
‫في‬ ‫فك ُّروا ِِ‬ ‫م يَت َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َِ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬
‫َِ‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫فل‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫غا‬ ‫م‬
‫ه ِْ‬ ‫ة ُ‬ ‫ن ال َ ِ‬
‫خَر ِ‬ ‫ع ِِ‬
‫م َ‬
‫ه ِْ‬
‫و ُ‬
‫َ‬
‫‪35‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫ما‬
‫و َِ‬
‫ض َ‬
‫َ‬
‫والْر َ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬
‫ما َ‬ ‫س َ‬‫ه ال ّ َِ‬ ‫الل ُ ِ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫خل َ ِ‬‫ما َ‬ ‫هم ّ َِ‬ ‫ِ‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَن ْ ُ‬
‫ف‬
‫وإ ِِِ َّ‬ ‫بين َه ما إل َّ بال ْح ق َ‬
‫ن‬
‫م َِِ‬‫ن كَثِيًرا ِّ‬ ‫مى َ‬ ‫س ًّ‬‫م َِِ‬ ‫ل ُّ‬
‫ج ٍ‬ ‫وأ َ‬
‫َ ْ ُ َِِ ِ ِ َ ِِِ ّ َ‬
‫ن" [الروم‪.]8 ،7 :‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫م لَكَا ِ‬‫ه ْ‬ ‫س بِل ِ َ‬ ‫َ‬
‫ء َرب ِّ ِ‬‫قا ِ‬ ‫الن ّا ِ‬
‫فلننتبه قبل فوات الوان‪:‬‬
‫فإن كان المـر كذلك‪ ،‬وإن اسـتمرت غفلتنـا عـن حقيقـة‬
‫وجودنـا‪ ،‬وعـن أهميـة اسـتخدام العقـل فـي التجاه الصـحيح‪،‬‬
‫فمــن المتوقــع أن مشاعــر الحســرة والندم ســتتملكنا عنــد‬
‫الموت‪ ،‬وبعـد انكشاف الغطاء الذي يفصـل بيـن عالم الغيـب‬
‫وعالم الشهادة‪ ..‬ســـيشتد الندم على تضييـــع العمـــر وعدم‬
‫قدْ‬‫النتفاع بالعقل في الوصول إلى معرفة الله عز وجل "ل َ َ‬
‫ك‬‫غطَاءَِِ َ‬ ‫عن َِِ‬
‫ك ِ‬ ‫فن َِِا َ‬ ‫فك َ َ‬
‫ش ْ‬ ‫هذَا َ‬‫ن َ‬‫م ِِْ‬
‫ة ِّ‬ ‫فل َ ٍ‬
‫غ ْ‬ ‫في َ‬ ‫كُن َِِ‬
‫ت ِِِ‬
‫ديدٌ" [ق‪.]22 :‬‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صُرك الي َ ْ‬ ‫َ‬
‫فب َ َ‬
‫اليات‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ويكفيــك تأكيدًا لهذا المعنــى قوله ‪ e‬بعــد نزول‬
‫ختِل َِ ِ‬ ‫َ‬ ‫خل ِْ‬ ‫"إ ِِ َّ‬
‫ل‬
‫ْ ِ‬ ‫ي‬ ‫الل‬ ‫ف‬ ‫وا ْ‬
‫ض َ‬
‫والْر ِِ‬ ‫ت َ‬‫وا ِ‬‫ما َ‬ ‫ق الُ َِّ‬
‫س َ‬ ‫ِ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِِ‬
‫ب" [آل عمران‪« :]190 :‬ويِِل‬ ‫ت لولِي اللْبَا ِ ِ‬ ‫ر لَيَا ٍ ِ‬
‫ِ‬ ‫والن َّ َ‬
‫ها‬ ‫َ‬
‫‪22‬‬
‫لمن قرأ هذه اليات ثم لم يتفكر بها»( ) ‪.‬‬
‫ولعل المثال التالي يقرب لنا المعنى أكثر وأكثر‪:‬‬
‫لو أن رجل ً ســافر إلى مكان مــا للنزهــة والســتجمام‪،‬‬
‫وأقام فــــي حجرة بأجمــــل فندق فــــي هذا المكان‪ ..‬هذه‬
‫الحجرة تطـل على مناظـر سـاحرة خلبـة مـا بيـن نهـر جار‪،‬‬
‫وحدائق غناء‪ ،‬ومناظـر مبهرة تخطـف بالبصـار‪ ،..‬وكـل جهـة‬
‫مـن جهاتهـا بهـا عدد كــبير مـن النوافـذ المغلقـة والمغُطاة‬
‫ستُر‪ ،‬فمـا كان مـن هذا الرجـل إل أن سـأل عـن النافذة‬ ‫بال ُـ‬
‫التي تطل على مدخل الفندق‪ ،‬والساحة المحيطة به حيث‬
‫تقبــع ســيارته‪ ،‬وظــل طيلة وجوده ينظــر مــن هذه النافذة‬
‫فقـط ويراقـب حركـة القادميـن والمغادريـن‪ ،‬ويطمئن على‬
‫سيارته‪ ،‬وبعد انتهاء مدة إقامته‪ ،‬وبينما هو يغادر الفندق إذا‬
‫به يلتقي بصديق له كان يقيم في نفس المكان‪ ،‬وإذا بحالة‬
‫مـن النبهار تسـيطر على هذا الصـديق والتـي ترجمتهـا كثرة‬
‫حديثــه لصــاحبنا عــن المناظــر الخلبــة التــي رآهــا‪ ،‬وأشعــة‬
‫الشمس وهي تتعانق مع صفحة الماء‪ ،‬وألوان الزهار التي‬
‫تسـر الناظريـن و‪ ،..‬ويسـتمر حديـث الصـديق وصـاحبنا يقـف‬
‫‪22‬‬
‫() رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحهما‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪36‬‬
‫لكل مسلم‬

‫مذهولً‪ ،‬فهــو لم يَر أي شيــء مــن هذا لنــه لم يحاول فتــح‬


‫النوافذ التي تمتلئ بها حجرته‪ ،‬واكتفى بفتح واحدة منها لم‬
‫تنقل له عُشر معشار ما رآه صديقه!!‬
‫‪ ..‬بل شك ستتملك صاحبنا مشاعر الحسرة والندم على‬
‫ما فاته من متعة‪ ،‬وسيظل يقول في نفسه‪ :‬يا ليتني حاولت‬
‫فتح النوافذ الخرى‪ ،‬يا حسرتي على الجازة التي لم أستفد‬
‫بها إل يسيًرا‪.‬‬
‫‪ ..‬هذا الحسرة ل ترقى بأي حال من الحوال إلى جانب‬
‫حســرة مــن ينشغــل طيلة حياتــه بطيــن الرض‪ ،‬ويســتخدم‬
‫جزءًا يسـيًرا مـن عقله للحفاظ على حياتـه الطينيـة دون أن‬
‫يحاول فتح نوافذه ليطل من خللها على العالم الكبير الذي‬
‫خلق لجله‪.‬‬‫ُ‬
‫فضيلة التفكر‪:‬‬
‫مـن هنـا ندرك أهميـة التفكـر‪ ،‬وكيـف أنـه عبادة عظيمـة‬
‫ينبغـي علينـا أن نمارسـها باسـتمرار لنفتـح مـن خللهـا نوافـذ‬
‫العقل‪ ،‬فتزداد مساحة الرؤية‪ ،‬وتتسع تبعًا لها درجة المعرفة‬
‫بالله عــز وجــل‪ ..‬قال ‪« :e‬تفكروا فِِي خلق الله‪ ،‬ول‬
‫تفكروا في الله»(‪.)23‬‬
‫وقال الحسن البصري‪ :‬تفكر ساعة خير من قيام ليلة‪.‬‬
‫وكان سفيان بن عيينة كثيًرا ما يتمثل بقول القائل‪:‬‬
‫ففـي كل شـيء له عبرة‬ ‫إذ المرء كانت له‬
‫فكـــــــرة‬
‫فبالتفكر ل يترك المسلم (مسارح النظر ترقد ول تكرى إل‬
‫وهــو يقظان الفكــر‪ ..‬نهار يحول‪ ،‬وليــل يزول‪ ،‬وشمــس تجري‪،‬‬
‫وقمر يسري‪ ،‬وسحاب مكفهر‪ ،‬وبحر مستطر‪ ،‬ووالد يتلف وولد‬
‫يَخلُف‪ ،‬ما خلق الله هذا باطل‪ ،‬وإن بعد ذلك ثوابًا وعقابًا)(‪.)24‬‬
‫علم اليقين‪:‬‬
‫ليــس المقصــد مــن تحصــيل العلم بالله عــز وجــل هــو‬
‫المعرفـة العابرة التـي تختلط بالمعارف المختلفـة ول تشكـل‬
‫‪23‬‬
‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)3976‬‬
‫‪24‬‬
‫() فيض القدير للمناوي ‪ – 347 /3‬دار الكتب العلمية‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫يقين النسان‪ ،‬بل المقصد معرفة ترسخ في العقل الباطن‪،‬‬


‫وتشكـــل اليقيـــن‪ ،‬فتتداخـــل وتتشابـــك وتصـــوغ تصـــوراته‬
‫ومفاهيمه‪ ،‬فيصبح صاحبها من الراسخين في العلم بالله عز‬
‫ه ك ُ ٌّ‬
‫ل‬ ‫من َِّا ب ِِ ِ‬ ‫قولُو َِ‬
‫عل ِْم ِ ي َ ُ‬
‫في ال ْ ِ‬ ‫والَّرا ِِ‬
‫نآ َ‬ ‫ن ِِ‬‫خو َ‬
‫س ُ‬ ‫وجـل " َ‬
‫د َربِّنَا" [آل عمران‪.]7 :‬‬
‫عن ْ ِ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ِّ‬
‫ولكـــي نصـــل إلى هذه الدرجـــة لبـــد مـــن كثرة عرض‬
‫المعلومات عـن الله عـز وجـل على العقـل بأسـاليب مختلفـة‬
‫حتـى ل يألفهـا فتنتقـل تلك المعلومات مـن منطقـة الشعور‬
‫إلى منطقـة اللشعور أو (العقـل الباطـن)‪ ،‬ومـن ثـم تشكـل‬
‫بمرور الوقت جزءًا من اليقين(‪.)25‬‬
‫مستهدف التربية المعرفية‪:‬‬
‫بعـد أن تعرفنـا على الوظيفـة السـاسية للعقـل‪ ،‬والحكمـة‬
‫من خلقه يمكننا القول بأن هدف التربية المعرفية هو‪ :‬إنماء‬
‫العقل وتوسيع مداركه‪ ،‬وفتح نوافذه‪ ،‬وإكسابه التلقائية في‬
‫التفكيـر فـي كـل شيـء يحدث حوله والعتبار بـه‪ ،‬والتعرف‬
‫و‬ ‫َ‬
‫العودة إليـه "أ َ‬
‫َ‬
‫مـن خلله على الله عـز وجـل وعلى حتميـة‬
‫ما‬‫و َِ‬
‫ض َ‬‫والْر ِِ‬ ‫ت َ‬‫وا ِ‬‫ماَ َ‬
‫س َ‬ ‫ملَكُو َ ِِ‬
‫ت ال َِّ‬ ‫في َ‬ ‫م يَنْظُُروا ِِ‬ ‫ل َِ ْ‬
‫ب‬ ‫دا ْ‬
‫قتََر َ‬ ‫ن َ‬
‫ق ِ‬ ‫سى أن يَّكُو َ‬ ‫ع َ‬
‫ن َ‬‫وأ ْ‬ ‫ء َ‬‫ي ٍ‬ ‫من َ‬
‫ش ْ‬ ‫ه ِ‬‫ق الل ُ‬‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫م" [العراف‪.]185 :‬‬ ‫ه ْ‬ ‫ُ‬
‫جل ُ‬ ‫أ َ‬
‫أو بعبارة أخرى‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫() أي معلومـة يتلقاهـا النسـان مـن خلل سـمعه أو بصـره أو حواسـه‬
‫المختلفــة تذهــب إلى جزء فــي العقــل يســمى (العقــل المدرك) أو‬
‫(الشعور)‪ ،‬فإذا قبلها العقل المدرك انتقلت إلى الجزء الخر من العقل‬
‫وهو (الغير مدرك) أو (اللشعور)‪ ،‬والذي يشكل منطقة العلم الراسخ‪،‬‬
‫أو اليقين‪ ،‬أو المعتقدات‪ ،‬سواء كانت صحيحة أو فاسدة‪ ،‬ولكي يستقر‬
‫مدلول المعلومــة فــي منطقــة اللشعور لبــد مــن تكرار مرورهــا على‬
‫العقــل المدرك مرات ومرات فيمررهــا إلى (اللشعور) حتــى تســتقر‬
‫فيـه‪ ..‬مثال‪ :‬تعلم قيادة السـيارة‪ :‬فـي البدايـة يتـم تحصـيل المعلومات‬
‫بالعقــل المدرك‪ ،‬واســتخدامها بــه كذلك وهذا يظهــر مــن خلل تركيــز‬
‫السائق الشديد في القيادة وعدم التجاوب مع أي أحداث تحدث حوله‪،‬‬
‫وبعـــد تكرار وتكرار مرور معلومات القيادة إلى العقـــل غيـــر المدرك‬
‫يحدث استقرار لمدلولها فيه‪ ،‬ومن ثم يمكن للسائق أن يقود السيارة‬
‫بل تفكيـر‪ ،‬بـل إنـه يمكنـه الحديـث مـع مـن حوله وهـو يقود السـيارة‪،‬‬
‫ومثال آخـر‪ :‬تعلم أحكام التجويـد وممارسـتها‪ :‬فـي البدايـة يكون بالعقـل‬
‫المدرك وبعــد ذلك يكون بالعقــل غيــر المدرك‪ ،‬وينطــق القارئ اليات‬
‫بترتيل دون تفكير في مواضع أحكام التجويد‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪38‬‬
‫لكل مسلم‬

‫المطلوب مـــن المســـلم إنماء عقله مـــن‬


‫خلل تحصــيل العلم الراســخ النافــع بالله عــز‬
‫وجــل والذي يؤدي إلى تحســين المعاملة معــه‬
‫‪-‬ســـبحانه‪ ،-‬وأي علم آخـــر يريـــد أن يتعلمـــه‬
‫النســان ينبغــي أن يتــم الدخول إليــه مــن هذا‬
‫عل َِ َ‬
‫ه‬ ‫م أن َِّ ُ‬
‫ه ل َ إِل َِ َ‬ ‫فا ْ ْ‬‫الباب‪« ..‬باب التوحيــد» " َ‬
‫َ‬
‫إِل ّ الل ُ‬
‫ه" [محمد‪.]19 :‬‬
‫***‬
‫‪39‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫المحور الثاني‬
‫القلب والتربية اليمانية‬

‫يحكــي أحــد الصــدقاء أنــه فــي يوم مــن اليام اســتقل‬


‫سـيارة (أجرة)‪ ،‬وفـي الطريـق بدأ يتجاذب أطراف الحديـث‬
‫مع سائقها الشاب‪ ،‬وتطرق حديثه معه عن الصلة ثم سأله‪:‬‬
‫هـل تواظـب على أداء الصـلة؟! فكانـت إجابتـه بالنفـي‪ ،‬ومـا‬
‫إن بدأ صاحبنا يحدثه عن الله عز وجل وعن نعمه المتوالية‬
‫علينـــا وأن شكـــر هذه النعـــم يســـتوجب طاعتـــه و‪ ،...‬إذا‬
‫بالسـائق يقاطعـه بحديـث عظيـم عـن الله عـز وجـل ونعمـه‬
‫السابغة‪ ،‬وقيوميته‪ ،‬وحفظه‪ ،‬وأنه لول الله ما أبصر أو سمع‬
‫أو تكلم أو تحرك‪ ،..‬واســتمر الســائق فــي حديثــه عــن الله‬
‫حتــى وصــل صــاحبنا إلى المكان الذي يريده‪ ،‬وهبــط مــن‬
‫السـيارة وهـو يسـأل نفسـه‪ :‬إن كان هذا الرجـل يعرف عـن‬
‫الله عـز وجـل كـل هذه المعرفـة فلماذا لم ينعكـس أثـر هذه‬
‫المعرفـــة على ســـلوكه فيطيـــع ربـــه ويحافـــظ على أداء‬
‫الصلة؟!‬
‫الجابـة عـن هذا السـؤال تسـتدعي التعرف على الفارق‬
‫بين العقل والقلب‪..‬‬
‫مركز الرادة‪:‬‬
‫لو كان العقـل هـو الذي يحرك النسـان‪ ،‬لكانـت المعرفـة‬
‫العقليـة وحدهـا تكفـي كدافـع للسـلوك إل أن المـر ليـس‬
‫كذلك‪ ،‬فمــع أهميــة المعرفــة وضرورتهــا كبوابــة أســاسية‬
‫لتحقيق العبودية ومن ثم الستقامة؛ إل أنها ل تكفي لتغيير‬
‫السلوك‪ ..‬لماذا؟!‬
‫لن الذي يصـدر الوامـر بالحركـة الراديـة داخـل النسـان‬
‫هو القلب وليس العقل‪.‬‬
‫فالقلب يعــد بمثابــة مركــز الرادة واتخاذ القرار‪ ،‬ومنــه‬
‫تنطلق الوامر بالفعال الرادية وما على الجميع إل التنفيذ‪..‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪40‬‬
‫لكل مسلم‬

‫قال ‪« :e‬أل إن فِي الجسِد مضغِة إذا صِلحت صِلح‬


‫الجسِد كله وإذا فسِدت فسِد الجسِد كله إل وهِي‬
‫القلب»(‪. )26‬‬
‫‪ ..‬هذا القلب تتجاذبــه قوتان‪« :‬قوة الهوى» ومــا تميــل‬
‫إليــــه النفــــس وتشتهــــي‪ ،‬وقوة «اليمان» (أو التصــــديق‬
‫والطمئنان) بمــا فــي العقــل مــن أفكار وقناعات‪ ،‬والقوى‬
‫منهمــا وقــت اتخاذ القرار هــو الذي يســتولي على الرادة‪،‬‬
‫ويوجه القرار لصالحه‪.‬‬
‫فعندمـا يسـمع المسـلم أذان الفجـر ويريـد أن ينهـض مـن‬
‫نومـه للصـلة فإن صـراع ًا ينشـب داخله‪ ،‬بيـن إيمانـه بأهميـة‬
‫ضرورة القيام لصـلة الفجـر وبيـن هوى نفسـه وحبهـا للراحـة‬
‫والنوم وعدم التعرض للمشقـة‪ ،‬فإن اسـتيقظ فإنمـا أيقظـه‬
‫إيمانه الذي كان أقوى من الهوى في هذه اللحظة‪ ،‬وإن نام‬
‫فإنمـــا أنامـــه هواه الذي كان أقوى مـــن إيمانـــه فـــي هذه‬
‫اللحظة‪.‬‬
‫وعندمـا تقـع عيـن المسـلم على وجـه امرأة أجنبيـة عنـه‪،‬‬
‫فعليـه أن يغـض بصـره‪ ،‬فإن لم يفعـل‪ ،‬فذلك معناه أن هوى‬
‫نفسه في إطلق البصر والنظر إلى المرأة في هذه اللحظة‬
‫كان أقوى مــن إيمانــه بالله‪ ،‬وضرورة طاعــة أوامره بغــض‬
‫البصر‪.‬‬
‫م‬ ‫عظ ِّ ْ‬
‫من ي ُ َ‬ ‫و َ‬‫* * فاليمان هو الدافع للسلوك اليجابي " َ‬
‫ب" [الحج‪.]32 :‬‬ ‫قلُو ِ‬
‫وى ال ْ ُ‬ ‫ق َ‬‫من ت َ ْ‬ ‫ها ِ‬ ‫فإِن َّ َ‬‫ه َ‬‫عائَِر الل ِ‬ ‫ش َ‬‫َ‬
‫َ‬
‫م‬‫فإِن ل ِِّ ْ‬ ‫* * والهوى هــو الدافــع للســلوك الســلبي " َ‬
‫م" [القصص‪:‬‬ ‫ه ْ‬‫واءَ ُ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫ه َ‬ ‫عو َ‬ ‫ما يَتَّب ِ ُ‬
‫َ‬
‫م أن َّ َ‬
‫عل َ ْ‬
‫فا ْ‬‫ك َ‬ ‫جيبُوا ل َ َ‬‫ست َ ِ‬‫يَ ْ‬
‫‪.]50‬‬
‫معنــــــى ذلك أنــــــه إن لم يحدث للمعارف والقناعات‬
‫الموجودة بالعقـــل اطمئنان وتصـــديق قلبـــي بالقدر الذي‬
‫يقاوم الهوى المضاد لهذه القناعات وينتصـر عليـه؛ فإن هذه‬
‫القناعات لن تترجـم إلى سـلوك عملي‪ ،‬ومـن ثـم يصـبح كلم‬
‫المرء وقناعاته في جانب‪ ،‬وسلوكه في جانب آخر‪.‬‬
‫فل يكفـي المرء اقتناعـه بالفكرة لكـي يمارس مقتضاهـا‬
‫‪26‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫‪41‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫فــي واقعــه العملي‪ ،‬بــل لبــد مــن تحويــل هذه الفكرة إلى‬
‫إيمان عميق في القلب ينتصر على الهوى‪.‬‬
‫ول يكفــي كذلك وجود إيمان بالفكرة فــي القلب لكــي‬
‫يثمر السلوك المتر ِجم لها‪ ،‬بل لبد وأن يكون اليمان أقوى‬
‫من الهوى المضاد لهذه الفكرة حتى يستطيع النتصار عليه‬
‫وقت اتخاذ القرار‪.‬‬
‫فعلى سـبيل المثال‪ :‬لكـي يصـبح النفاق فـي سـبيل الله‬
‫ســلوكًا دائ ًــ‬
‫ما للعبــد؛ لبــد مــن تمكــن اليمان والتصــديق‬
‫والطمئنان القلبــي بأهميتــه‪ ،‬وفضله حتــى يســتطيع المرء‬
‫‪-‬بإذن الله‪ -‬مواجهـــــــة قوة هواه الشديدة لحـــــــب المال‬
‫والحرص عليه والشح به‪.‬‬
‫مــع الخــذ فــي العتبار ضرورة التغذيــة الدائمــة لهذا‬
‫اليمان حتى يتمكن المسلم من المقاومة المستمرة لهوى‬
‫نفسه وشحها‪.‬‬
‫المعرفة وحدها ل تكفي‪:‬‬
‫المعرفـــة العقليـــة ‪-‬إذن‪ -‬ل تكفـــي لحدوث الســـتقامة‬
‫والقيام بواجبات العبوديـة لله عـز وجـل‪ ،‬بـل لبـد وأن تتحول‬
‫هذه المعرفــة إلى إيمان عميــق يرســخ مدلوله فــي القلب‬
‫وينتصر على الهوى لينعكس أثره على السلوك‪.‬‬
‫اليمان بإذن‬
‫َّ‬ ‫‪ ..‬لبــد مــن تعانــق الفكــر بالعاطفــة لينشــأ‬
‫ن‬
‫ذي َِ‬ ‫م ال ِ‬ ‫َِ‬
‫عل َ‬ ‫ولِي َ ْ‬
‫هذا المــر فــي قوله تعالى‪َ " :‬‬ ‫الله‪ ،‬ويتجلى‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫عل ِْم أ َ‬ ‫ُ‬
‫ت‬
‫ِِ َ‬ ‫خب‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬
‫ِِ ِ‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ؤ‬‫ْ‬
‫ُ ِ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ب‬
‫ّ ّ ِِ‬‫ر‬‫َ‬ ‫من‬ ‫ُ‬
‫ق‬
‫َ ِّ ِِ‬‫ح‬ ‫ال‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ن‬ ‫أوتُوا ال ْ ِ َ‬
‫م" [الحج‪.]54 :‬‬ ‫ه ْ‬ ‫قلُوب ُ ُ‬ ‫لَ ُ‬
‫ه ُ‬
‫ولبد كذلك من استمرار هذا التعانق حتى يرسخ اليمان‬
‫في القلب ومن ثم يتمكن من النتصار على الهوى‪ ،‬ويظهر‬
‫أثره على السلوك‪ ،‬وهذا يستلزم تغذية دائمة لهذا اليمان‪.‬‬
‫قال ‪« :e‬إن اليمان ليخلق(‪ )27‬فِِي جوف أحدكِِم‬
‫كمِِِا يخلق الثوب‪ ،‬فاسِِِألوا الله أن يجدد اليمان‬

‫‪27‬‬
‫() يخلق‪ :‬أي يبلى‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪42‬‬
‫لكل مسلم‬

‫في قلوبكم»(‪. )28‬‬


‫أفل تتقون؟‬
‫ولقـد أخبرنـا القرآن عـن أناس يقرون بربوبيتـه ‪-‬سـبحانه‪-‬‬
‫على جميـع خلقـه‪ ،‬وبقيامـه على شئونهـم‪ ،‬ومـع هذا القرار‬
‫ف هم ل يخشونه‪ ،‬ول يسـتسلمون له‪ ،‬وهذا يؤكد أن إقرارهـم‬
‫ضا ولم ينشأ به إيمان في القلب‪ ،‬ومن‬ ‫كان إقراًرا عقليًا مح ً‬
‫ض‬ ‫ر‬‫قل ل ِّم ن ال َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫"‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫بذلك‬ ‫اليات التـي تخبرنـا‬
‫ْ ُِ‬ ‫ُ َ ِِ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫ق ْ‬ ‫ن لل ِهِ ُ‬ ‫قولو َ‬ ‫سي َ ُ‬ ‫َِ‬ ‫ن‬
‫مو َِ‬ ‫عل ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ُ‬
‫ها إِن كنْت ُِ ْ‬ ‫في َِ‬ ‫من ِ‬ ‫و َِ‬ ‫ََ‬
‫بُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وَر ّ‬ ‫ِ َ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫َ‬
‫ت‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫فل‬ ‫أ‬
‫ن"‬ ‫َِ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬
‫َ ّ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫فل‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ه‬
‫ِِ‬ ‫لل‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫قول‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫س‬
‫َِ َ‬ ‫يمِ‬ ‫ظ‬
‫َ ِ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫ش‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ال‬
‫ِ‬ ‫َ ْ ِِ‬
‫[المؤمنون‪.]87 -84 :‬‬
‫َ‬
‫ض‬‫والْر ِ ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ َِ‬ ‫م َِ‬ ‫قك ُ ِم ِّ‬ ‫من يَْرُز ُ‬ ‫ل َِ‬ ‫ق ْ‬ ‫وقوله‪ُ " :‬‬
‫ن‬
‫م َِ‬ ‫ي ِ‬‫ح َِّ‬ ‫ج ال َ‬ ‫ْ‬ ‫ر ُِ‬ ‫خ ِ‬ ‫ُ‬
‫من ي ّ ْ‬ ‫و َِ‬ ‫صاَر َ‬ ‫والب ِْ َ‬
‫َ‬
‫ع َ‬ ‫م َ‬ ‫س ْ‬ ‫ك ال َِّ‬ ‫مل ِِ ُ‬ ‫من ي َ ْ‬ ‫أ َِ َّ‬
‫مَر‬ ‫من يُّدَب ُِّر ال ْ‬ ‫و َِ‬ ‫ي َ‬ ‫ح ِِ ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َِ‬ ‫تَ ِ‬ ‫مي ِِّ َ‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫ر ُِ‬ ‫ِ‬ ‫خ‬‫وي ُ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫مي ِِّ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن" [يونس‪.]31 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫فل َ تَت َّ ُ‬ ‫لأ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫قولُو َ‬ ‫سي َ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫بــل إن القرآن الكريــم يقــص علينــا حال أناس يقرون‬
‫بأنفسـهم ‪ -‬بوضوح شديـد‪ -‬أن السـلم هـو الهُدى‪ ،‬لكنهـم ل‬
‫قالُوا‬‫و َ‬
‫يسـتطيعون اتباعـه خوفًـا على َ حياتهـم َومصـالحهم " َ‬
‫ضنَا" [القصص‪.]57 :‬‬‫ن أْر ِ‬
‫م ْ‬ ‫خط ّ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫ع َ‬
‫ك نُت َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ع ال ْ ُ‬
‫هدَى َ‬ ‫َ َ‬
‫إِن ن ّت ّب ِ ِ‬
‫‪ ..‬مــن هنــا تظهــر أهميــة التربيــة اليمانيــة؛ فلئن كانــت‬
‫التربيـــة المعرفيـــة تهدف إلى إنماء العقـــل بالعلم النافـــع‬
‫الراســخ أل وهــو العلم بالله عــز وجــل‪ ،‬فإن تربيــة القلب‬
‫الصـــــحيحة تهدف إلى‪ :‬تمكيـــــن اليمان بهذه المعرفـــــة‬
‫وترسيخها فيه حتى تهيمن عليه‪ ،‬وتقهر الهوى‪ ،‬فيسهل على‬
‫المرء القيام بأعمال العبودية بصورها المختلفة‪.‬‬
‫‪ ..‬معنى ذلك أن تغيير السلوك تغييًرا حقيقي ًا إيجابي ًا لبد‬
‫أن ينطلق مـن إصـلح القلب باليمان‪ ،‬وعندمـا نشاهـد تغييًرا‬
‫سلبيًا في السلوك فإن ذلك يعكس تمكن الهوى من القلب‬
‫وضعف اليمان فيه‪.‬‬
‫عندما يضعف اليمان‪:‬‬
‫‪28‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه الطبراني والحاكم وصححه اللباني في صحيح الجامع الصغير‬
‫(‪.)1090‬‬
‫‪43‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫لعل هذا الحديث عن اليمان وعلقته بالسلوك يفسر لنا‬


‫ظاهرة ابتعاد الفعل عن القول‪ ،‬والعمل عن العلم‪.‬‬
‫فكلمــا ضعــف اليمان تمكــن الهوى؛ لن مســاحة القلب‬
‫واحدة؛ ليترتــب على ذلك آثار ســلبية خطيرة تزيــد وتنقــص‬
‫بحسب درجة ضعف اليمان‪.‬‬
‫‪ ..‬فمـن آثار ضعـف اليمان‪ :‬أنـك قـد تجـد شخصـا كثيـر‬
‫الحديــث عــن القيــم‪ ،‬والمثــل‪ ،‬والخلق‪،‬‬
‫لكنه يمارس عكس ما يتحدث عنه‪ ،‬وفي‬
‫بعــض الحيان تجده وقــد اعتراه الضيــق‬
‫مـن حاله وواقعـه لكنـه ل يسـتطيع تغييره‬
‫لن هواه قد سيطر على إرادته واستولى‬
‫عليها‪.‬‬
‫ضا‪ :‬الترخـص فيمـا ل ينبغـي‬ ‫ومـن آثار ضعـف اليمان أي ًـ‬
‫الترخـص فيـه‪ ،‬والتسـاهل والتباطـؤ فـي تنفيـذ أوامـر الشرع‪،‬‬
‫والبحــث عــن الرخــص والعذار‪ ،‬وتبنــي الراء المرجوحــة‬
‫والمســوغ للتفلت مــن التطــبيق‬
‫ِّ‬ ‫والضعيفــة ليجاد المــبرر‬
‫الصحيح للدين‪.‬‬
‫ومــــــن آثاره‪ :‬شدة الهتمام بالدنيــــــا‪ ،‬والحرص على‬
‫تحصـــيلها‪ ،‬وارتفاع ســـقف الطموحات فيهـــا‪،‬‬
‫وانشغال الفكــر بهــا‪ ،‬مــع كثرة أحلم اليقظــة‬
‫بالثراء والرفاهية‪.‬‬
‫ومــــــــن تلك الثار‪ :‬شدة الحرص على المال والحزن‬
‫الشديــد على نقصــانه‪ ،‬ودوام إحصــائه‪ ،‬وكثرة‬
‫التفكيـر فـي سـبل إنمائه‪ ،‬واسـتيفاء المرء لحقـه‬
‫المالي التام مــن الخريــن‪ ،‬وفــي المقابــل قــد‬
‫نجده يحاول التملص من أداء واجباته والتزاماته‬
‫المالية كاملة تجاههم‪.‬‬
‫ومنهـا‪ :‬شدة تركيـز المرء فـي أمور الدنيـا‪ ،‬فتجده متابعًـا‬
‫جيدًا لســعار العملت‪ ،‬والراضــي‪ ،‬والعقارات‪،‬‬
‫والسيارات‪...‬‬
‫ومنهـــا‪ :‬ضعـــف الورع‪ ،‬والوقوع فـــي دائرة الشبهات‪،‬‬
‫والقتراب مــــن دائرة المحرمات كاســــتسهال‬
‫الكذب وعدم قول الحقيقـة كاملة‪ ،‬وعدم الوفاء‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪44‬‬
‫لكل مسلم‬

‫بالعهود والمواعيد‪.‬‬
‫ومنهـا‪ :‬الحسـد‪ ،‬حيـث تتجـه نظرة المرء إلى دنيـا غيره ‪-‬‬
‫وبخاصـة أقرانـه ‪ -‬أكثـر مـن اتجاههـا إلى دينهـم‪،‬‬
‫وتترجــم هذه النظرة شعوره الداخلي بالضيــق‬
‫علوا جديدًا في الدنيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫عندما يرى عليهم‬
‫ومنهـا‪ :‬ضعــف الشعور بالمســئولية تجاه الديــن وقضايــا‬
‫المــــة‪ ،‬وينعكــــس ذلك على أداء الفرد فــــي‬
‫الدعوة‪ ،‬فتجده متراخي ًــا فــي القيام بالواجبات‪،‬‬
‫يتحيـن أي فرصـة للهروب مـن التكاليـف‪ ..‬كثيـر‬
‫العذار‪ ،‬كثير النقد لغيره‪.‬‬
‫ومنهــا كذلك‪ :‬ضعــف الخوة فــي الله‪ ،‬فالخوة قرينــة‬
‫اليمان تزيــد بزيادتــه‪ ،‬وتنقــص بنقصــانه "إِن َِّ َ‬
‫ما‬
‫وةٌ" [الحجرات‪.]10 :‬‬
‫خ َ‬
‫ن إِ ْ‬
‫منُو َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ومــن مظاهــر ضعــف اليمان‪ :‬عدم الكتراث بتضييــع‬
‫الوقـت فـي توافـه المور‪ ،‬والمجالس الفارغـة‪،‬‬
‫ومشاهدة الفضائيات‪.‬‬
‫ومنهــا‪ :‬عدم النضباط بضوابــط الشرع فــي المعاملت‬
‫الماديـــة بيـــن الفراد‪ ،‬وبخاصـــة بيـــن الشركاء‬
‫م‬
‫ه ِْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫ء لَيَب ِْ ِ‬
‫غي ب َ ْ‬ ‫خلَطَا ِ‬‫ن ال ْ َ ُ‬
‫َ‬ ‫م َِ‬‫ن كَثِيًرا ِّ‬ ‫وإ ِِ َّ‬ ‫" َ‬
‫ُ‬
‫ملوا‬ ‫ع ِ‬‫و َ‬‫منُوا َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َِِِِِ‬ ‫ّ‬
‫ض إِل ال ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ع ٍِِِِِ‬ ‫على ب َ ْ‬ ‫َ‬
‫ت" [ص‪.]24 :‬‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ال ّ‬
‫ومنهــــا كذلك‪ :‬عدم الحزن على فوات الطاعـــــة‪ ،‬أو‬
‫الوقوع في المعصية‪..‬‬
‫يقول عبـد الله بـن مسـعود‪ :‬إن المؤمـن يرى ذنوبـه كأنـه‬
‫قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه‪ ،‬وإن الفاجر يرى ذنوبه‬
‫كذباب مــر على أنفــه فقال بــه هكذا(‪( )29‬أي‪ :‬نحاه بيده أو‬
‫دفعه) ‪.‬‬
‫اليمان يصنع المعجزات‪:‬‬
‫وفي المقابل‪ ..‬كلما قوى اليمان تحسن السلوك بشكل‬

‫‪29‬‬
‫() رواه البخاري (‪.)6308‬‬
‫‪45‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫تلقائي‪ ،‬واقتربــت المســافة بيــن القول والفعــل‪ ،‬وكيــف ل‬


‫ما طاقـة‪ ،‬وقوة دافعـة للقيام بأعمال‬‫واليمان الحـي يولد دو ًـ‬
‫البر المختلفة حسبما يقتضيه الوقت والظروف‪.‬‬
‫ما‪ -‬ثماًرا‬ ‫اليمان هـو الشجرة المباركـة التـي تثمـر ‪-‬دو ًـ‬ ‫‪..‬‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫ة طيِّب َ ً‬ ‫م ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َِِ‬ ‫َ‬
‫مثل كل ِ َ‬ ‫ه َ‬‫ب الل ُِِ‬ ‫ضَر َِِ‬ ‫ف َ‬ ‫م تََر َِكي ِِْ َ‬ ‫طيبـــة "أل ْ‬
‫ء‬
‫ما ِ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫ِّ َ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ها‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ر‬‫ف‬‫َ‬
‫ِِ ٌ َ ْ َِ ِِ‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫اب‬‫َ‬ ‫ث‬ ‫ها‬ ‫ُ‬
‫ْ َ‬‫صل‬ ‫أ‬ ‫ة طَي ِّ َ ٍ‬
‫ة‬ ‫ب‬ ‫جَر ُ ٍ‬
‫ش َ‬‫كَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ها ك ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫تُ ْ‬
‫ها" [إبراهيم‪.]25 ،24 :‬‬ ‫ن بِإِذْ ِ‬
‫ن َرب ِّ َ‬ ‫حي ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫ؤتِي أكل َ‬
‫‪ ..‬اليمان يدفــع المرء لبذل أقصــى مــا يمكــن بذله فــي‬
‫صا على دعوة الناس‪ ،‬آمًرا‬ ‫ســبيل رضــى ربــه‪ ،‬فتراه حري ًــ‬
‫بالمعروف‪ ،‬ناهيًا عن المنكر‪.‬‬
‫شعلة من النشاط‪،‬‬ ‫صاحب اليمان الحي شخص إيجابي‪ُ ،‬‬
‫ل يهدأ‪ ،‬ول يكـل‪ ،‬ول يمـل مـن تبليـغ دعوة ربـه ودللة خلقـه‬
‫ما مســـارع ًا لفعـــل الخيرات فـــي كـــل‬ ‫عليـــه‪ ..‬نجده دو ًـــ‬
‫التجاهات‪ ..‬ينتظر أي باب يفتح أمامه للتقرب إلى الله ليلج‬
‫فيه‪.‬‬
‫‪ ..‬روى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال‪ :‬كنا نغدو‬
‫إلى المسجد على عهد ر سول الله ‪ e‬فنصلى‪ ،‬فمررنا يوما‬
‫ورسـول الله ‪ e‬قاعـد على المنـبر‪ ،‬فقلت‪ :‬لقـد حدث أمـر‪،‬‬
‫َ ُ‬
‫ه َِ‬
‫ك‬ ‫ج ِ‬‫و ْ‬‫ب َ‬ ‫قل ِِّ َ‬‫قدْ نََرى ت َ‬‫فقرأ رســول الله ‪ e‬هذه اليــة " َ‬
‫ه َِ‬
‫ك‬ ‫ج َ‬‫و ْ‬‫ل َ‬‫و ِّ‬‫ف َ‬ ‫ها َ‬ ‫ضا َِ‬
‫ة تَْر َ‬‫قبْل َ ً‬ ‫ول ِّيَن َِّ َ‬
‫ك ِ‬ ‫فلَن ُ َ‬ ‫ء َ‬‫ما ِ‬ ‫في ال َِّ‬
‫س َ‬ ‫ِِ‬
‫رام " [البقرة‪.]144 :‬‬ ‫ح‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ج‬ ‫س‬
‫َ ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫شط‬‫َ‬
‫َ ِ‬ ‫َ‬
‫حتـى فرغ مـن اليـة‪ ،‬فقلت لصـاحبي‪ :‬تعال نركـع ركعتيـن‬
‫قبــل أن ينزل رســول الله ‪ ،e‬فنكون أول مــن صــلى (فــي‬
‫اتجاه الكعبـة)‪ ،‬فتوارينـا فصـليناها‪ ،‬ثـم نزل النـبي ‪ ،e‬وصـلى‬
‫بالناس الظهر يومئذ(‪.)30‬‬
‫‪ ..‬كلمــا ازداد اليمان ودخــل نوره القلب‪ ،‬انفتــح القلب‬
‫وانشرح ودبـــت الحياة فيـــه‪ ،‬وشعـــر صـــاحبه بالســـكينة‬
‫والطمأنينة‪ ،‬وزاد انتباهه ويقظته‪ ،‬وكلما استيقظ القلب من‬
‫غفلته زاد تشميره للسعي نحو الخرة‪ ،‬وقل اهتمامه بالدنيا‬
‫ورغبتـه فيهـا‪ ،‬واشتدت رغبتـه فيمـا عنـد الله‪ ،‬وانعكـس ذلك‬
‫في تعامله مع المال‪ ،‬فيزداد إنفاقه له‪..‬‬
‫‪30‬‬
‫() تفسير القرآن العظيم لبن كثير ‪ - 168 /1‬مكتبة العبيكان‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪46‬‬
‫لكل مسلم‬

‫يجلس‬ ‫‪ ..‬فـي يوم مـن اليام‪ ،‬وبينمـا كان رسـول الله ‪َّ e‬‬
‫ذي‬ ‫من ذَا ال ِ‬ ‫بيـــن أصـــحابه إذ تل عليهـــم قوله تعالى‪ِِ َ " :‬‬
‫ه" [الحديـد‪،]11 :‬‬‫ف ُهِ ل َِ ُ‬
‫ع َ‬
‫ضا ِ‬ ‫سنًا َ‬
‫في ُ َ‬ ‫ح َِ‬
‫ضا َ‬ ‫ض الل َهِ َ‬
‫قْر ًِ‬ ‫ر ُِ‬ ‫يُ ْ‬
‫ق ِ‬
‫فإذا بأحد الحاضرين وهو «أبو الدحداح» يقول لرسول الله‬
‫‪ :e‬أيستقرضنا الله؟‬
‫فيجيبه ‪« :e‬نعم»‪.‬‬
‫فيقول له‪ :‬لقد أقرضت ربي حائطي (بستاني)‪..‬‬
‫هذا البستان كان به من النخل ما يقارب الستمائة نخلة‪.‬‬
‫وانطلق الرجـل إلى البسـتان‪ ،‬ومـا إن وصـل إليـه حتـى‬
‫نادى على زوجتـه‪ :‬يـا أم الدحداح هيـا بنـا نخرج مـن البسـتان‬
‫فقد أقرضته ربي‪.‬‬
‫فقالت المرأة الصـالحة لزوجهـا‪ :‬ربـح البيـع أبـا الدحداح‪ ..‬ربـح‬
‫البيع أبا الدحداح(‪.)31‬‬
‫الحارس المين‪:‬‬
‫اليمان الحــــــي يقوي الوازع الداخلي ليكون بمثابــــــة‬
‫الحارس اليقــظ الذي يراقــب صــاحبه فيدفعــه إلى عمــل‬
‫الصـــالحات‪ ،‬ويبعده عـــن المعاصـــي والشبهات‪ ..‬ل يدعـــه‬
‫يشارك فـي غيبـة أو نميمـة‪ ..‬يدفعـه لتحري الصـدق والتحلي‬
‫به‪ ،‬وإلى الوفاء بالوعد‪ ،‬ورد المانة‪.‬‬
‫عــن عائشــة ‪-‬رضــي الله عنهــا‪ -‬قالت‪ :‬كان لبــي بكــر‬
‫غلم يُخرج له الخراج‪ ،‬وكان أبو بكر يأكل من خراجه‪ ،‬فجاء‬
‫ما بشيء‪ ،‬ووافق من أبي بكر جوع ًا فأكل منه لقمة قبل‬ ‫يو ً‬
‫أن يسأل عنه‪ ،‬فقال له الغلم‪ :‬تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر‪:‬‬
‫وما هو؟ قال‪ :‬كنت تكهنت لنسان في الجاهلية‪ ،‬وما أحسن‬
‫الكهانـة‪ ،‬ولكنـي خدعتـه‪ ،‬فلقينـي فأعطانـي بذلك‪ ،‬فهذا الذي‬
‫أكلت منـه‪ ،‬فأدخـل أبـو بكـر إصـبعه فـي فيـه‪ ،‬فقاء كـل شيـء‬
‫في بطنه(‪.)32‬‬
‫اليمان وحل المشكلت‪:‬‬

‫‪31‬‬
‫() رواه الطبراني‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫كلمـا قوى اليمان فـي القلوب نقصـت وقلت المشكلت‬


‫بيـــن الناس‪ ،‬لن كـــل مشكلت النســـان ‪-‬كمـــا يقول أبـــو‬
‫الحسـن الندوي‪ -‬نبعـت مـن عبادة النفـس والشهوات‪ ،‬نبعـت‬
‫مـن النانيـة‪ ..‬نبعـت مـن النظـر القاصـر المحدود‪ ..‬نبعـت مـن‬
‫حــب الرئاســة‪ ..‬واليمان يســتطيع أن يتغلب على كــل هذا‪،‬‬
‫ويصنع من المة أمة جديدة(‪.)33‬‬
‫ويكفيك لتأكيد هذا المعنى أن تعلم أن أبا بكر الصديق‬
‫عندمـا تولى الخلفـة قام بتعييـن عمـر بـن الخطاب قاضي ًـا‬
‫على المدينــة‪ ،‬فمكــث عمــر ســنة لم يفتتــح جلســة‪ ،‬ولم‬
‫يختصـم إليـه اثنان‪ ،‬فطلب مـن أبـي بكـر إعفاءه مـن القضاء‪،‬‬
‫ن مشقــة القضاء تطلب العفاء يــا‬ ‫َ‬
‫م ْــ‬
‫فقال له أبــو بكــر‪ :‬أ ِ‬
‫عمر؟!‬
‫فقال‪ :‬ل يـا خليفـة رسـول الله‪ ،‬ولكـن ل حاجـة بـي عنـد‬
‫قوم مؤمنيــن‪ ،‬عرف كــل منهــم مــا له مــن حــق فلم يطلب‬
‫أكثـر منـه‪ ،‬ومـا عليـه مـن واجـب فلم يقصـر فـي أدائه‪ ..‬أحـب‬
‫كـل منهـم لخيـه مـا يحبـه لنفسـه‪ ..‬إذا غاب أحدهـم تفقدوه‪،‬‬
‫وإذا مرض أحدهــــم عادوه‪ ،‬وإذا افتقــــر أعانوه‪ ،‬وإذا احتاج‬
‫ســاعدوه‪ ،‬وإذا أصــيب واســوه‪ ..‬دينهــم النصــيحة‪ ،‬وخلقهــم‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ففيم يختصمون؟ ففيم‬
‫يختصمون؟!‬
‫اليقظة الدائمة‪:‬‬
‫كلمـا قوي اليمان وتمكـن نوره مـن القلب ازدادت حالة‬
‫اليقظـــة والنتباه لدينـــا‪ ..‬هذه الحالة هـــي التـــي ســـتجعل‬
‫معاملتنـا مـع الله ل مـع غيره‪ ،‬فحيـن نُعطـي الصـدقة للفقيـر‬
‫ن الل َهِ‬ ‫موا أ َِ َّ‬‫عل َ ُ‬
‫َ‬
‫نسـتشعر أن الله هـو الذي يأخذهـا ْ"أل َِ ْ‬
‫م يَ ْ‬
‫ت" [التوبـة‪:‬‬ ‫صدَ َ‬
‫قا ِ‬ ‫خذُ ال َِّ‬ ‫ويَأ ُ‬
‫عبَاِد ِهِ َ‬
‫ن ِ‬
‫ع ِْ‬
‫ة َ‬ ‫ل الت َّ ْ‬
‫وب َ َ‬ ‫و يَ ْ‬
‫قب َ ُ‬ ‫ه َ‬
‫ُ‬
‫‪.]104‬‬
‫حالة النتباه هــي التــي ســتجعلنا نزن كـل شيـء بميزان‬
‫الشرع‪ ،‬فيزداد الورع والخوف مــــــن الوقوع فــــــي دائرة‬
‫الشبهات‪.‬‬
‫ما للسـتيقاظ قبـل‬ ‫‪ ..‬حالة النتباه هـي التـي سـتدفعنا دو ًـ‬
‫الفجــر لمناجاة الله‪ ،‬وبــث شكوانــا إليــه والتعــبير عــن حبنــا‬
‫‪33‬‬
‫() نفحات اليمان لبي الحسن الندوي ص ‪.23‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪48‬‬
‫لكل مسلم‬

‫وشوقنا له‪.‬‬
‫‪ ..‬حالة النتباه هي التي ستجعلنا دوما نحافظ على صلة‬
‫الفجـر فـي المسـجد‪ ،‬وهـي التـي سـتبعدنا عـن إهدار الوقات‬
‫فيما ل نفع فيه‪ ،‬وتصرفنا عن كثرة مشاهدة الفضائيات‪.‬‬
‫‪ ..‬ســتدفعنا هذه الحالة إلى القيام بواجبات الدعوة خيــر‬
‫صغِّر مـن حجـم الدنيـا فـي أعيننـا‪ ،‬وسـتقلل طمعنـا‬ ‫قيام‪ ،‬وسـت ُ َ‬
‫فيما في أيدي الناس‪.‬‬
‫‪ ..‬ومـع احتماليـة وقوعنـا فـي زلت وغفلت نتيجـة ضعفنـا‬
‫البشري‪ ،‬فإن هذه الحال سـتدفعنا ‪-‬بعون الله‪ -‬للنهوض مـن‬
‫عبْدُ‬‫م ال ْ َ‬
‫ع َِ‬
‫الكبوة وسـرعة التوبـة وتجديـد العهـد مـع الله "ن ِ ْ‬
‫ب" [ص‪.]30 :‬‬ ‫ه أ َ َّ‬
‫وا ٌ‬ ‫إِن َّ ُ‬
‫هكذا كان حال الصحابة‪:‬‬
‫الملحظ أن السمة العامة للصحابة ‪-‬رضوان الله عليهم‪-‬‬
‫أنهم كانوا في حالة انتباه ويقظة‪ ،‬وليس أدل على ذلك من‬
‫سـرعة إذعانهـم واسـتجابتهم لربهـم ولرسـوله‪ ،‬فهذا حنظلة‬
‫يسمع منادي الجهاد وقد كان في هذا الوقت في فراشه مع‬
‫زوجته‪ ،‬فماذا فعل؟!‬
‫ســارع يلبــي النداء دون أن يفكــر فــي أي شيــء آخــر‪...‬‬
‫حد‬ ‫ُ‬
‫حتى الغسل لم يفكر فيه‪ ...‬والتحق مع المسلمين في أ ُ‬
‫شهِد‪ ،‬وعندما أراد الصحابة دفنه وجدوا بدنه يقطر ماء‬ ‫واست ُ‬
‫فأخــبرهم رســول الله ‪ e‬بأن الملئكــة قــد غســلته‪ ،‬بعــد أن‬
‫عرف من زوجته الحالة التي خرج بها‪.‬‬
‫ترى ما الذي دفع حنظلة لفعل ذلك؟!‬
‫ألم يكـن مـن الولى أن يجهـز نفسـه أول ً و‪ ....‬ثـم يخرج‬
‫بعـد ذلك؟! لكنـه سـارع بالخروج انطلقًـا مـن حالة اليقظـة‬
‫القلبيـة التـي كان يعيشهـا حتـى وإن كان فـي أشـد لحظات‬
‫الستمتاع بالدنيا‪.‬‬
‫وفي يوم من اليام كان أنس بن مالك يسقي أبا طلحة‬
‫وغيره خمًرا إذ جاء رجـل فقال‪ :‬وهـل بلغكـم الخـبر؟ فقالوا‪:‬‬
‫حرمـت الخمـر‪ .‬قالوا‪ :‬أهرق هذه القلل يـا‬‫ومـا ذاك؟ فقال‪ُ :‬‬
‫أنس‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫قال أنــس‪ :‬فمــا ســألوا عنهــا ول راجعوهــا بعــد خــبر‬


‫الرجل(‪.)34‬‬
‫ألم يكن من الطبيعي أن يستوثقوا من الخبر بأن يذهبوا‬
‫لرسـول الله ‪ e‬فيعرفوا طبيعـة المـر وحقيقـة التحريـم قبـل‬
‫أن يتخذوا أي إجراء؟!‬
‫لم يفعلوا ذلك‪ ،‬بـــل دفعتهـــم شدة حســـاسيتهم اليمانيـــة‪،‬‬
‫وورعهم ويقظتهم إلى ما فعلوه‪.‬‬
‫‪ ...‬وعـــن البراء أن رســـول الله ‪ e‬صـــلى إلى بيـــت‬
‫المقدس ســـتة عشـــر شهًرا أو ســـبعة عشـــر شهًرا‪ ،‬وكان‬
‫يعجبـه أن تكون قبلتـه قِبــل البيـت‪ ،‬وأنـه صـلى صـلة العصـر‬
‫وصـلى معـه قوم‪ ،‬فخرج رجـل ممـن صـلى معـه فمـر على‬
‫أهل مسجد وهم راكعون‪ ،‬فقال‪ :‬أشهد بالله لقد صليت مع‬
‫النبي ‪ e‬قِـبَل مكة‪ ،‬فداروا كما هم قِبَل البيت‪.‬‬
‫ويقول عمارة بـن أوس ‪ :‬بينمـا نحـن فـي الصـلة نحـو‬
‫بيــت المقدس ونحــن ركوع إذا نادى مناد بالباب‪ :‬إن القبلة‬
‫قـد حوِّلت إلى الكعبـة؛ قال‪ :‬فأشهـد على إمامنـا أنـه انحرف‬
‫فتحول هو والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة(‪.)35‬‬
‫أرأيـت ‪-‬أخـي‪ -‬كيـف اسـتجاب هؤلء الخيار بهذه السـرعة‬
‫لكلمـة سـمعوها وهـم راكعون؟! مـع العلم بأنهـم لو كانوا قـد‬
‫أكملوا صلتهم على وضعهم الول لما لمهم أحد؟‬
‫***‬

‫‪34‬‬
‫() صحيح البخاري (‪.)4251‬‬
‫‪35‬‬
‫() تفسير القرآن العظيم ‪.168 /1‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪50‬‬
‫لكل مسلم‬

‫مستهدف التربية اليمانية‬


‫الهدف القريـب الذي ينبغـي أن تحققـه التربيـة اليمانيـة‬
‫هــــو زيادة اليمان فــــي القلب حتــــى يعلو على الهوى‪ ،‬أو‬
‫بمعنـى آخـر‪ :‬زيادة اليمان فـي القلب بالدرجـة التـي توقظـه‬
‫مـن غفلتـه وتجعله فـي حالة مـن اليقظـة والنتباه‪ ،‬ومظاهـر‬
‫هذه الحال قـد ذكرهـا رسـول الله ‪ e‬عندمـا سـأله الصـحابة‬
‫عــن علمات دخول النور القلب فقال‪« :‬النابِِة إلى دار‬
‫الخلود‪ ،‬والتجافِِِي عِِِن دار الغرور‪ ،‬والسِِِتعداد‬
‫للموت قبل نزوله»(‪.)36‬‬

‫‪ ..‬هذا هـو الهدف القريـب الذي إن تحقـق فعلينـا أل نقـف‬


‫عنده ونكتفي به‪ ،‬بل علينا أن نسعى لتحقيق الهدف البعيد‬
‫وهـو تمكيـن وهيمنـة اليمان على القلب حتـى تتحرر إرادتـه‬
‫ما يستقبل الحداث ويتعامل مع مستجدات‬ ‫ويصبح قلب ًا سلي ً‬
‫ه‬
‫والل ُ‬‫ه َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫د قلب َ ُ‬‫ه ِ‬
‫ه يَ ْ‬
‫ن بِالل ِ‬
‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫من ي ُؤ ِ‬
‫و َ‬
‫الحياة بدوافع إيمانية " َ‬
‫م" [التغابن‪ ،]11 :‬فكل ما يصيبه حينئذ يجد‬ ‫علِي ٌ‬‫ء َ‬
‫ي ٍ‬‫ش ْ‬‫ل َ‬‫بِك ُ ِّ‬
‫له تفســيًرا «ومعاملة إيمانيــة» كمــا قال ‪« :e‬عجب ًِا لمِر‬
‫المؤمِِِِن‪ ،‬إن أمره كله له خيِِِِر‪ ،‬وليِِِِس ذلك إل‬
‫للمؤمن‪ ،‬إن أصابته سراء شكر وكان خيًرا له‪ ،‬وإن‬
‫أصابته ضراء صبر فكان خيًرا له»(‪.)37‬‬
‫‪ ..‬التربية اليمانية الصحيحة‬
‫أن تصل بالمرء إلى تنوير قلبه‪،‬‬
‫حتى يصبح قلبًا أبيض‪ ،‬فتستنير‬
‫بصيرته‪ ،‬وتعلو حساسيته تجاه‬
‫كل ما يرضى الله عز وجل‬
‫فيتسابق إلى فعله‪ ،‬وإلى كل ما‬
‫يبغضه فيسارع إلى تركه‪.‬‬
‫خضـع مشاعـر النسـان لله‬
‫‪ ..‬التربيـة اليمانيـة عليهـا أن ت ُ ِ‬
‫عــز وجــل كمــا قال ‪« :e‬مِِن أحِِب لله‪ ،‬وأبغِِض لله‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫() رواه الحاكم والبيهقي في الزهد‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫وأعطى لله‪ ،‬ومنع لله‪ ،‬فقد استكمل اليمان»(‪.)38‬‬

‫غايــة التربيــة اليمانيــة الوصــول لمرحلة الحســان التــي‬


‫ذكرت فـي حديـث جبريـل المشهور‪« :‬أن تعبِد الله كأنِك‬
‫تراه»(‪.)39‬‬
‫***‬

‫‪38‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه أبو داود وصححه اللباني في صحيح الجامع (‪.)5965‬‬
‫‪39‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪52‬‬
‫لكل مسلم‬

‫المحور الثالث‬
‫النفس وضرورة تزكيتها‬
‫كان «زيــد» وصــديقه يعملن ســويا فــي شركــة مــن‬
‫الشركات‪ ،‬وكانـــا ممـــن يُحســـبون على أصـــحاب التوجـــه‬
‫السلمي من حيث المحافظة على أداء الصلوات‪ ،‬واللتزام‬
‫إلى حد ما بضوابط السلم وهديه‪.‬‬
‫وفــي يوم مــن اليام‪ ،‬وبينمــا كانــا يقومان بأداء عمــل‬
‫مشترك إذ حدث خطأ ما‪ ،‬كان زيد هو المتسبب فيه‪ ،‬فلمه‬
‫صـديقه على خطئه وخاصـة أن وضعـه فـي الشركـة قـد يتأثـر‬
‫بسـبب هذا الخطـأ‪ ،‬إل أن زيدًا لم يعترف بخطئه‪ ،‬بـل واعتـبر‬
‫أن صديقه هو المخطئ‪ ،‬وأراد أن يؤكد ذلك له فاقترح عليه‬
‫أن يقوم (فلن) صـديقهما بالتحكيـم بينهمـا وتحديـد المخطـئ‪،‬‬
‫فذهبـا إليـه وقصـا عليـه مـا حدث‪ ،‬فكان قراره بأن زيدًا هـو‬
‫المخطئ‪..‬‬
‫اســتشاط زيــد غضب ًــا واعتــبر ذلك التحكيــم «محاباة»‬
‫لصـديقه فطلب أن يحتكمـا إلى آخـر‪ ،‬وتـم له مـا أراد ليكون‬
‫قرار الحكــم الثانــي بأنــه هــو المخطــئ‪ ..‬ازداد غضــب زيــد‬
‫ضا بالمجاملة‬‫وطلب حكما ثالث ًا بعد أن اتهم الحكم الثاني أي ً‬
‫والمحاباة لنه تربطه بصديقه صلة قديمة و‪ ،...‬فذهبا للثالث‬
‫ويستمع إليهما بإمعان ثم يكون حكمه مثل سابقيه بأن زيدًا‬
‫هـو المخطـئ وعليـه العتذار لصـديقه‪ ...‬فهـل رضـخ زيـد لهذا‬
‫المر؟!‬
‫للســف لم يحدث هذا بــل ازداد غضبــه واتهامــه للجميــع‬
‫بمجاملة صــاحبه ومحاباتــه‪ ،‬وأن هناك مصــالح بينهــم وبينــه‬
‫تدفعهم للنحياز له‪.‬‬
‫‪ ..‬هذه قصـة حقيقيـة‪ ،‬وليسـت مـن نسـج الخيال‪ ،‬ليبقـى‬
‫الســؤال‪ :‬مــا الذي يدفــع زيدًا للتشبــث بموقفــه الرافــض‬
‫للعتراف بخطئه ‪-‬الظاهـــر البيـــن‪ -‬الذي لم يختلف عليـــه‬
‫اثنان‪ ،‬وخاصـة أن اعترافـه بخطئه لن يترتـب عليـه عقوبات‬
‫تصيبه؟‬
‫هل لنه ل يريد أن يظهر بمظهر المخطئ؟!‬
‫‪53‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫هل لن نفسه تأبى عليه العتراف بذلك؟!‬


‫هل لنه يعتبر هذا العتراف منقصة في حقه‪ ،‬وحط ًا من‬
‫قدره؟!‬
‫بل شك هناك سبب داخلي في ذات زيد دفعه لتخاذ هذا‬
‫الموقـف الذي تكرر منـه فـي مواقـف كثيرة سـابقة‪ ،‬فتشبثـه‬
‫برأيـه‪ ،‬وعدم اعترافـه بخطئه بهذه الطريقـة يعكـس خلل ً في‬
‫تعامله مـع نفسـه‪ ،‬فبدل ً مـن أن يقودهـا إلى التواضـع وخفـض‬
‫الجناح للخريــــن والعتراف بالخطــــأ عنــــد الوقوع فيــــه‪،‬‬
‫والعتذار عنـــه‪ ....‬بدل ً مـــن أن يقوم بذلك‪ ،‬حدث العكـــس‬
‫فقادتـــه نفســـه إلى الشعور بالعزة الزائفـــة والتميـــز على‬
‫الخرين‪ ،‬فكان منه ما كان في الموقف السابق وغيره من‬
‫المواقف المشابهة‪.‬‬
‫‪ ..‬هذه للسـف ليسـت مشكلة زيـد فقـط‪ ،‬ولكنهـا مشكلة‬
‫متكررة‪ ،‬قــد نراهــا فــي أماكــن كثيرة‪ ،‬ونشاهــد معهــا آثاًرا‬
‫سلبية خطيرة‪.‬‬
‫مــن هنــا تظهــر قيمــة وأهميــة التعرف على النفــس‪،‬‬
‫وضرورة جهادها وتزكيتها‪.‬‬
‫ما هي النفس؟!‬
‫مع الشهوات داخل النسان‪،‬‬ ‫ج َ‬
‫م ْ‬
‫من تعريفات النفس أنها َ‬
‫ما لتحقيــق مــا تهوى‬ ‫لذلك فمــن طبيعتهــا أنهــا تطمــح دو ًــ‬
‫وترغب‪ ،‬وتريد أن يكون لها حظ ونصيب في كل عمل يقوم‬
‫بــه النســان دون النظــر إلى عواقــب ذلك‪ ،‬كالطفــل الذي‬
‫يقوم بالضغـط واللحاح على أبويـه للحصـول على شيـء قـد‬
‫س‬
‫ف َ‬ ‫ن الن َّ ْ‬
‫يكون فيه ضرره‪ ،‬فالنفس كما وصفها القرآن "إ ِ َّ‬
‫ء" [يوسف‪.]53 :‬‬ ‫ماَرةٌ بِال ُّ‬
‫سو ِ‬ ‫ل َّ‬
‫وهـي ل تأمـر بالسـوء لحـب السـوء فـي ذاتـه‪ ،‬ولكـن ظن ًـا‬
‫منها بإمكانية تحصيل الشهوة منه‪.‬‬
‫‪ ..‬ومـن صـفاتها أنهـا شحيحـة تحـب السـتئثار بكـل شيـء‬
‫س‬ ‫ت الن ْ ُ‬ ‫فيـه نفـع لهـا ولو كان نفع ا محدودا " ُ‬
‫ف ُِ‬ ‫ضَر ِِ‬
‫ح ِ‬
‫وأ ْ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ًـ‬
‫ال ُّ‬
‫ش َّ‬
‫ح" [النساء‪.]128 :‬‬
‫‪ ..‬لديهــا القابليــة للفجور والطغيان إذا تركهــا صــاحبها‬
‫بدون ترويـــض وتربيـــة ومتابعـــة‪ ..‬ولديهـــا كذلك القابليـــة‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪54‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ما‬
‫و َِ‬‫س َ‬‫ف ٍِ‬‫ون َ ْ‬
‫والتطويـع إذا مـا ُروضـت وزكيـت " َ‬ ‫للسـتكانة‬
‫ها" [الشمس‪.]8 ،7 :‬‬ ‫وا َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س َّ‬
‫وت َق َ‬
‫ها َ‬
‫جوَر َ‬
‫ها ف ُ‬
‫م َ‬ ‫ها فأل َ‬
‫ه َ‬ ‫وا َ‬ ‫َ‬
‫‪ ..‬أشـد مـا يسـعدها شعورهـا بالتميـز عـن الخريـن‪ ،‬وأشـد‬
‫ما يشقيها ويحزنها شعورها بالنقص عنهم‪.‬‬
‫وهــي ميدان التكليــف‪ ..‬مــن يزكيهــا يفلح ويفوز‪ ،‬ومــن‬
‫َ‬ ‫قدْ أ َ ْ‬
‫ها‬‫من َزك ّا َ‬ ‫فل َ َ‬
‫ح َ‬ ‫يتركها دون ترويض يخيب ويخسر " َ‬
‫ها" [الشمس‪.]10 ،9 :‬‬ ‫من دَ َّ‬
‫سا َ‬ ‫ب َ‬
‫خا َ‬ ‫و َ‬
‫قدْ َ‬ ‫َ‬
‫ويكفـي فـي بيان قوة طغيانهـا عندمـا تُترك بدون تزكيـة‬
‫وتربيـة مـا فعلتـه مـع قوم ثمود عندمـا أبـت عليهـم نفوسـهم‬
‫اليمان بالية العظيمة (الناقة)‪ ،‬بل ودفعتهم إلى قتلها ليحق‬
‫ث‬ ‫ع َ‬ ‫ها إِِذ انب َ َ‬ ‫وا َ‬‫غ َ‬‫مودُ بِطَ ْ‬ ‫َعليهم العذاب الوبيل "كَذَّب َ ْ‬
‫ت ثَ ُ‬
‫ه‬
‫ة الل ِِِِ‬ ‫ق َ‬‫ه نَا َ‬ ‫ل الل ِِِِ‬ ‫سو ُ‬ ‫م َر ُِِِ‬ ‫ه ِِِْ‬‫ل لَ ُ‬
‫قا َ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬ ‫ها‬ ‫قا َِِِ‬ ‫ش َ‬ ‫أ ْ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫عل‬ ‫م‬ ‫مد‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ها‬ ‫رو‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ها‬ ‫و ُ َ َ‬
‫ا‬ ‫ي‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫س‬
‫َ ْ َ َ ْ ِ ْ َ ّ ُ ْ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ها" [الشمس‪.]14 -11 :‬‬ ‫وا َ‬ ‫س َّ‬‫َ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫م‬‫بِ ِ ِ ْ‬
‫ه‬ ‫نب‬ ‫َ‬ ‫ذ‬
‫ه‬
‫س ُ‬ ‫ف ُِِ‬ ‫ه نَ ْ‬‫ت ل َِِ ُ‬ ‫ع ِِْ‬‫و َ‬ ‫فطَ َّ‬ ‫وكذلك مــا فعلت بابــن آدم " َ‬
‫ه"‬‫قتَل َ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬‫خي ِ‬ ‫ل أَ ِ‬ ‫قت ْ َ‬ ‫َ‬
‫[المائدة‪.]30 :‬‬
‫أقسام هوى النفس‪:‬‬
‫ما إلى تحصـيل الشهوات‪ ..‬هذه‬ ‫النفـس تهوى وتميـل دو ًـ‬
‫ي‪ ،‬وقسم خف ٌّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫الشهوات تنقسم إلى قسمين‪ :‬قسم جل ٌّ‬
‫فالشهوة الجليـــة‪ :‬هــــي اللذة الناتجــــة عــــن الطعام‬
‫والشراب و‪...‬‬
‫أمــا الشهوة الخفيــة‪ :‬فهــي تلك اللذة الناتجــة عــن مدح‬
‫الناس وثنائهم‪ ،‬وكذلك الشعور بالعلو والتميز على الخرين‪،‬‬
‫وارتفاع المنزلة عندهم‪ ،‬والتقدم عليهم‪.‬‬
‫ولن النفـس محبوبـة‪ ،‬ومـا تدعـو إليـه محبوب نجـد الكثيـر‬
‫مـن الناس ل ينتبـه لخطورتهـا‪ ،‬بـل ويسـترسل مـع هواهـا فـي‬
‫تحصيل الشهوات ‪-‬وبخاصة الخفية‪ -‬دون أن يدرك أنه بذلك‬
‫يخونهـا ويظلمهـا عندمـا يتبـع هواهـا‪ ،‬ويسـاهم فـي طغيانهـا‪،‬‬
‫ويقترف مـــن أجلهـــا الذنوب والمخالفات التـــي تســـتدعي‬
‫م‬
‫ه ُ‬ ‫ما ظَل َ َ‬
‫م ُ‬ ‫و َ‬
‫وتستوجب العقاب َاللهي في الدنيا والخرة " َ‬
‫ن" [النحل‪.]33 :‬‬ ‫م يَظْل ِ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ه ْ‬
‫س ُ‬
‫ف َ‬ ‫ولَك ِ ْ‬
‫ن كَانُوا أن ْ ُ‬ ‫ه َ‬
‫الل ُ‬
‫‪55‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫‪ ..‬البعــض قــد يســتشعر أهميــة المعرفــة‪ ،‬فينمــي عقله‬


‫بالعلوم النافعة‪ ،‬وقد ينتبه لقلبه فيتعاهده بالوراد التي تزيد‬
‫اليمان‪ ،‬ولكنــه ينســى أن بداخله مــن يتربــص بكــل أعماله‬
‫ليأ خذ نصـيبه وحظـه ولذته منها‪ ،‬فيتعرض بذلك عمله لخطـر‬
‫عدم القبول‪ ..‬إنها نفسه التي بين جنبيه‪.‬‬
‫الشهوة الخفية‪:‬‬
‫‪ ..‬إذن فالنفــس هــي العقبــة الكؤود بيننــا وبيــن الله عــز‬
‫وجل‪ ،‬ولقد خلقها الله ‪-‬عز وجل‪ -‬بهذه الصفات ليختبر مدى‬
‫صـدق عبوديتنـا له‪ ،‬فلول وجودهـا لمـا وجـد العبـد أي مشقـة‬
‫في القيام بالطاعة‪ ،‬والخلص لله عز وجل‪.‬‬
‫وشهوات النفـس الجليـة قـد ضبطهـا الشرع وحددهـا مـن‬
‫حيـث الحلل والحرام والمباح والمكروه‪ ،‬لذلك فمـن السـهل‬
‫على صـــــاحب اليمان الحـــــي أن يلتزم ‪-‬بعون الله‪ -‬بهذه‬
‫الضوابط‪.‬‬
‫أمــا الشهوات الخفيــة فمــع تحذيــر الشرع الشديــد مــن‬
‫السترسال معها إل أن الكثيرين ل ينتبهون إلى هذا التحذير‬
‫ول يتعاملون معـــه مثـــل تعاملهـــم الحذر والمنضبـــط مـــع‬
‫الشهوات الجليـة‪ ،‬وذلك لن الشهوة الخفيـة ألذ وأحـب إلى‬
‫النفس من الشهوة الجلية‪.‬‬
‫ومن أهم الشهوات الخفية التي تسكر النفوس‪ ،‬وتجعلها‬
‫فـــي حالة مـــن الســـعادة والنشوة‪ :‬الشعور بالرضـــا عـــن‬
‫النفــس‪ ،‬والتميــز عــن الخريــن‪ ،‬وعلو المنزلة عندهــم‪ ،‬وإذا‬
‫أردت تخيــل هذه المشاعــر فمــا عليــك إل أن تتذكــر حالك‬
‫عندما تتعرض للمدح من غيرك‪...‬‬
‫‪ ..‬ومـــن صـــور الشهوات الخفيـــة التـــي تحرص عليهـــا‬
‫النفـس‪ :‬علو المنزلة عنـد الناس مـن خلل تحسـين وتجويـد‬
‫العمـل أمامهـم‪ ،‬وذكـر مـا خفـى مـن العمال اليجابيـة لهـم‪،‬‬
‫كل ذلك قد يفعله المرء من أجل استنطاق مدحهم وثنائهم‬
‫عليــه‪ ،‬وعلو المنزلة عندهــم‪ ،‬ومــن ثــم اســتجلب الشعور‬
‫بالرضا عن النفس‪ ...‬وما أدراك ما شعور الرضا عن النفس‬
‫وما فيه من لذة وحلوة!!‬
‫‪ ..‬وليـس حرص المرء على إظهار عمله أو التحدث عنـه‬
‫هـو وحده الذي يسـتجلب بـه مشاعـر الرضـا عـن نفسـه‪ ،‬بـل‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪56‬‬
‫لكل مسلم‬

‫هناك مـا هـو أخطـر مـن ذلك لمكانيـة ملزمتـه لكـل عمـل ‪-‬‬
‫فـي السـر والعلن‪ -‬أل وهـو إعجاب المرء بعمله أو إمكاناتـه‪،‬‬
‫واستعظامه لهما‪.‬‬
‫هذا المـر إذا مـا تجاوب معـه النسـان واسـتسلم له فإنـه‬
‫يؤدي بـه إلى الغرور‪ ،‬والنخداع بنفسـه ويؤدي بـه كذلك إلى‬
‫الكـــبر والتعالي على الخريـــن‪ ،‬ورفـــض النصـــياع للحـــق‬
‫والعتراف بالخطـأ‪ ،‬ويكفـي أن إبليـس رفـض أمـر الله عـز‬
‫ل أَن َِا‬ ‫وجـل بالسـجود لدم بسـبب تمكـن هذا المـر منـه " َ‬
‫قا َ‬
‫ه" [العراف‪.]12 :‬‬
‫من ْ ُ‬
‫خيٌْر ِّ‬
‫َ‬
‫خطورة الرضا عن النفس والعجاب بها‪:‬‬
‫الرضـا عـن النفـس والعجاب بهـا مـن أمراض القلوب‪ ،‬وهـو‬
‫يحبــط العمــل الملزم له‪ ،‬ويعرض صــاحبه لمقــت الله‪ ..‬قال ‪:e‬‬
‫«النادم ينتظر الرحمة‪ ،‬والمعجب ينتظر المقت»(‪.)40‬‬
‫َ‬
‫وقال‪« :‬مِِن تعظِِّم فِِي نفسِِه‪ ،‬واختال فِِي‬
‫مشيته‪ ،‬لقى الله وهو عليه غضبان»(‪.)41‬‬
‫وهــو مــن المهلكات التــي تهلك المرء‪ .‬قال ‪« :e‬فأمِِا‬
‫المهلكات‪ :‬فشِِِِح مطاع‪ ،‬وهوى متبِِِِع‪ ،‬وإعجاب‬
‫المرء بنفسه»(‪.)42‬‬
‫وقيل للسيدة عائشة رضي الله عنها‪ :‬متى يكون الرجل‬
‫مسيئا؟ قالت‪ :‬إذا ظن أنه محسن‪.‬‬
‫م‬‫و َِِِ‬‫وي َ ْ‬ ‫‪ ..‬والعُـــ َجب يؤدي إلى الخذلن وقلة التوفيـــق " َ‬
‫شيْئًا‬‫م َ‬ ‫عن ُ ِ‬
‫ُِِكَ ْ َّ‬ ‫ن َ‬ ‫غ ِِ‬
‫م تُ ْ‬ ‫فل َ ِ ْ‬ ‫كَثَْرتُك ُ ِ ْ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫م‬‫جبَتْك ُ ِ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫ن إِذْ أ ْ‬ ‫حنَي ْ ِ ٍ‬ ‫ُ‬
‫وليْت ُِِم‬ ‫ّ َ‬‫م‬ ‫ث‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫َِِ‬ ‫ب‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ما‬ ‫ب‬ ‫ض‬
‫ْ ُِِ ِِِ َ َ‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ُِِ‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫عل‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ِِْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ضا‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬
‫ن"‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫ُّ‬
‫[التوبة‪.]25 :‬‬
‫فـي العراق‪،‬‬ ‫وعندمـا توالت انتصـارات خالد بـن الوليـد‬
‫‪40‬‬
‫() أخرجه البيهقي في شعب اليمان (‪.)7254‬‬
‫‪41‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه المام أحمد‪ ،‬والبخاري في الدب المفرد‪ ،‬وأورده اللباني في‬
‫صحيح الجامع (‪.)6157‬‬
‫‪42‬‬
‫() حسن‪ :‬أخرجه الطيالسي عن ابن عمر‪ ،‬وأورده اللباني في صحيح الجامع‬
‫(‪.)3045‬‬
‫‪57‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫بعــث إليــه أبــو بكــر الصــديق برســالة يهنئه على النصــر‬


‫ويحذره مــن العُــجب فقال له‪ :‬فليهنئك أبــا ســليمان النيــة‬
‫والحظوة‪ ،‬فأتمـم يتمـم الله لك‪ ،‬ول يدخلنـك عجـب فتخسـر‬
‫وتخذل‪ ،‬وإياك أن تُدَّل بعمـــل فإن الله له المـــن وهـــو ولي‬
‫الجزاء(‪.)43‬‬
‫ما هو العُجب؟!‬
‫العجاب بالنفـس كمـا يُعرفـه عبـد الله بـن المبارك‪« :‬أن‬
‫ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك»(‪.)44‬‬
‫فعندمـا يرى المرء أنـه يملك أشياء ذاتيـة ل يملكهـا غيره‪،‬‬
‫ضلُهم بها فقد تلبس بالعجب‪.‬‬ ‫وأنه يفَ ُ‬
‫وعندمــا يرى المرء أنــه يملك أشياء ذاتيــة يمكنــه ‪-‬مــن‬
‫خلل الستعانة بها‪ -‬تحقيق ما يريد فقد تلبَّس بالعجب‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬ولكنـــي بالفعـــل عندي أشياء ليســـت عنـــد‬
‫غيري‪ ..‬عندي صــوت حســن‪ ،‬عندي ســرعة بديهــة‪ ،‬عندي‬
‫مقدرة على الستيعاب‪.‬‬
‫فـي الحقيقـة هذه الشياء مـا هـي إل إمكانات وهبهـا الله‬
‫ه" [البقرة‪.]156 :‬‬ ‫لك‪ ،‬فهي ملك لربك ‪+‬إِنَّا لل ِ‬
‫ت‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ك ال َِّ‬
‫س َ‬ ‫مل ِْ ُ‬ ‫وقـد أعارك إياهـا لجـل مسـمى "لل ِهِ ُ‬
‫ه َّ‬
‫ن"‬ ‫َ‬
‫في ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫و َ‬
‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫َ‬
‫[المائدة‪.]120 :‬‬
‫َ‬
‫ك‬‫مل ِْ ِ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫مال ِِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه َِّ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ق ِ‬‫وسـيستردها منـك متـى شاء " ُ‬
‫شاءُ " [آل‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َّ‬ ‫ك ِ‬ ‫مل ْ َ‬‫ع ال ْ ُ‬‫ز ُ‬ ‫وتَن ِ‬
‫شاءُ َ‬ ‫من ت َ َ‬ ‫ك َ‬ ‫مل ْ َ‬
‫ؤت ِي ال ْ ُ‬ ‫تُ ْ‬
‫َ‬
‫وإِليْن َِا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ها َ‬ ‫علي ِْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ِْ‬ ‫و َ‬‫ض َ‬ ‫ث الْر َِ‬ ‫ر ُِ‬
‫ن نَ ِ‬ ‫ح ُِ‬ ‫عمران‪"،]26 :‬إِن ِّا ن َ ْ‬
‫ن" [مريم‪.]40 :‬‬ ‫عو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫يُْر َ‬
‫‪ ..‬هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى فإن هذه المكانات ل‬
‫يمكنهـا بذاتهـا أن تُحدث وتنشـئ النتائج‪ ،‬فالله عـز وجـل هـو‬
‫الذي يبـث فيهـا الفاعليـة لحظـة بلحظـة‪ ،‬وآن ا بآ ن " َ‬
‫و‬
‫ه َ‬ ‫وأن َِّ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫ٍـ َ‬ ‫ًـ‬

‫‪43‬‬
‫() الخفياء لوليـد سـعيد باحكـم ص ‪ – 129‬دار الندلس الخضراء‪ -‬جدة – نقل‬
‫عن تاريخ الطبري ‪.385 /3‬‬
‫‪44‬‬
‫() سير أعلم النبلء للذهبي ‪- 407 /8‬مؤسسة الرسالة‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪58‬‬
‫لكل مسلم‬

‫وأَبْكَى" [القمر‪.]43 :‬‬ ‫ك َ‬‫ح َ‬ ‫أَ ْ‬


‫ض َ‬
‫َ‬
‫ر" [يونس‪.]22 :‬‬ ‫والْب َ ْ‬
‫ح ِ‬ ‫في الْب َ ّ ِ‬
‫ر َ‬ ‫م ِ‬‫سيُِّرك ُ ْ‬ ‫و ال ّ ِ‬
‫ذي ي ُ َ‬ ‫ه َ‬‫" ُ‬
‫فكيف تُعجب بشيء ليس ملكك؟ وكيف تفرح بشيء ل‬
‫يمكنك استخدامه ول تفعيله بدون مدد الله؟‬
‫‪ ..‬إذا أردت أن تعجــب وتفرح‪ ،‬فافرح بربــك الذي وهبــك‬
‫ما‬
‫ن ب ِِِ َ‬
‫حي َِِ‬
‫ر ِ‬ ‫هذه المكانات‪ ،‬ومكنــك مــن اســتخدامها " َ‬
‫ف ِ‬
‫ه" [آل عمران‪.]170 :‬‬
‫ضل ِ ِ‬ ‫من َ‬
‫ف ْ‬ ‫ه ِ‬
‫م الل ُ‬
‫ه ُ‬
‫آتَا ُ‬
‫‪ ..‬هذا بخصوص العجاب بالنفس وبإمكاناتها‪.‬‬
‫أمـــا العجاب بالعمـــل فهـــو أن ينســـب المرء أي نجاح‬
‫يحققه لنفسه‪ ،‬وينسى أن الله عز وجـل هـو المتف ضل عليه‬
‫بالعانة والتوفيق والمداد‪.‬‬
‫قال المحاسبي‪« :‬العجب هو حمد النفس على ما عملت‬
‫أو علمت‪ ،‬ونسيان أن النعم من الله عز وجل»(‪.)45‬‬
‫(والعجــب خاطــر يهيــج فــي داخلك يدعوك لســتعظام‬
‫عملك واسـتكثاره‪ ،‬فتقول فـي نفسـك‪ :‬لقـد قويـت وصـبرت‬
‫واستطعت فعل كذا‪ ..‬لقد جاهدت‪ ..‬لقد فهمت كذا‪ ..‬صمت‬
‫حا مـن نفسـك‬ ‫فـي يوم شديـد الحـر‪ ..‬لقـد أنفقـت كذا‪ ،‬فر ًـ‬
‫ما لهـا‪ ،‬مـع نسـيان نعمـة الله عليـك فـي القيام‬
‫بقوتهـا‪46،‬معظ ًـ‬
‫بذلك)( )‪.‬‬
‫لماذا يحبط العُجب العمل؟‬
‫صا لوجهه‪ ،‬واستُعين‬ ‫الله عز وجل ل يقبل إل ما كان خال ً‬
‫بـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬على أدائه‪ ،‬أما المعجب فيستعين بنفسه أكثر مما‬
‫يستعين بالله‪ ،‬لذلك قال ابن تيمية‪:‬‬
‫معجب بنفسه ل يحقق إياك نستعين‪ ،‬كما أن المرائي‬ ‫«ال ُ‬
‫ل يحقق إياك نعبد»‪.‬‬
‫فالعُـجب يحبـط العمـل الصـالح الذي لزمـه لنـه ينافـي‬
‫الخلص لله عز وجل‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫() الرعاية لحقوق الله للمحاسبي ص ‪ – 420‬دار اليقين‪ -‬المنصورة‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫() المصدر السابق ص ‪.422 ،421‬‬
‫‪59‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫‪ ..‬كان المسـيح يقول‪« :‬يـا معشـر الحوارييـن كـم مـن‬


‫ســراج قــد أطفأتــه الريــح‪ ،‬وكــم مــن عابــد قــد أفســده‬
‫العجب»(‪.)47‬‬
‫مـــــن هنـــــا ندرك خطورة تحذيره ‪« :e‬لو لم تكونوا‬
‫عجِب‪،‬‬‫تذنبون‪ ،‬لخفِت عليكِم مِا هِو أكِبر منِه‪ :‬ال ُ‬
‫عجب»(‪.)48‬‬ ‫ال ُ‬
‫ويطلق يحيـــى بـــن معاذ تحذيًرا شديدًا فيقول‪ :‬إياكـــم‬
‫والعجـــب‪ ،‬فإن العجـــب مهلكـــة لهله‪ ،‬وإن العجـــب يأكـــل‬
‫ما ويصبح‬ ‫الحسنات كما تأكل النار الحطب‪ ..‬فالذي يبيت نائ ً‬
‫ما ويصبح معجبًا‪.‬‬
‫نادما‪ ،‬خير ممن يبيت قائ ً‬
‫وقال ابـن الحاج فـي المدخـل‪ :‬مـن كان فـي نفسـه شيـء‬
‫فهو عند الله ل شيء(‪.)49‬‬
‫حا ترضاه‪:‬‬
‫وأن أعمل صال ً‬
‫الرضــا عــن النفــس والعجاب بهــا مرض خطيــر يعرف‬
‫طريقـه جيدًا إلى النفوس إن لم يتـم النتباه إليـه والتح ُّـ‬
‫صن‬
‫ضده‪ ،‬والوقوف له بالمرصاد‪.‬‬
‫ولنعلم جميعًـا أنـه ليسـت العـبرة فـي أداء المرء للعمـل‬
‫الصـالح فقـط‪ ،‬بـل فـي إحسـان هذا العمـل‪ ،‬وأل تخالطـه آفـة‬
‫تفســده‪ ،‬وأعظــم آفــة تفســد العمــل هــو إعجاب المرء بــه‪،‬‬
‫واستعظامه له‪ ،‬والدلل به‪ ،‬واستشعار صاحبه أن له منزلة‬
‫خاصــة عنــد الله‪ ،‬أو عنــد الناس بســبب قيامــه بهذا العمــل‬
‫ستَكْثُِر" [المدثر‪.]6 :‬‬‫ن تَ ْ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬
‫من ُ ْ‬ ‫" َ‬
‫‪ ..‬لبـد وأن يكون شعارنـا ونحـن نقوم بالعمـل قول العبـد‬
‫ه" [الحقاف‪.]15 :‬‬
‫ضا ُ‬
‫صالِحـا تَْر َ‬
‫ل َ‬ ‫م َ‬‫ع َ‬‫ن أَ ْ‬ ‫الصالح‪َ " :‬‬
‫وأ ْ‬‫َ‬
‫أو بعبارة أخرى‪ :‬على المرء أن يعمـل العمـل وأن يجتهـد‬
‫فـي أن يكون توجهـه وقصـده ونيتـه التـي تحركـه للقيام بهذا‬
‫العمل هو ابتغاء رضى الله‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل عليه أن‬
‫‪47‬‬
‫() الزهد للمام أحمد‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)5303‬‬
‫‪49‬‬
‫() المدخل لبن الحاج ‪ – 25 /2‬دار الكتب العلمية ‪-‬بيروت‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪60‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ل‬‫وك َّ ْ‬‫وت َ َ‬
‫عبُد ْهُ َ‬ ‫يسـتعين بـه سـبحانه على أداء هذا العمـل " َ‬
‫فا ْ‬
‫ه" [هود‪ ]123 :‬وبعـد العمـل‪ ،‬عليـه أن يفرح بربـه أن أعانـه‬ ‫علَي ِْ ِ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫مت ِِِ ِ‬
‫ح َ‬ ‫وبَِر ْ‬
‫ه َ‬‫ل الل ِِِ‬‫ض ِ‬ ‫َ‬
‫ل ب ِف ْ‬ ‫ُ‬
‫ووفقــه للقيام بهذا العمــل "ق ْ‬
‫حوا" [يونــس‪ ،]58 :‬وعليــه كذلك أن يلزمــه‬ ‫فلْي َ ْ‬
‫فَر ُ‬ ‫فبِذَل ِِِ َ‬
‫ك َ‬ ‫َ‬
‫الشعور بالتقصير في جنب الله‪ ،‬ومن ثم الستغفار لن هذا‬
‫العمـل ل يليـق بجلله‪ ،‬ول يوفـي ولو جزءًا يسـيًرا مـن حقـه‬
‫سبحانه‪ ،‬ودَين ْه المستحق عليه‪ ..‬دين النعم المتوالية بالليل‬
‫والنهار بشتى أنواعها‪.‬‬
‫ويدل على أهميـة ملزمـة هذا الشعور للعبـد بعـد نجاحـه‬
‫ث‬ ‫حي ِِْ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ِِْ‬ ‫ضوا ِ‬‫في ُ‬ ‫م أَ ِ‬ ‫فــي أداء الطاعــة قوله تعالى‪" :‬ث ُِِ َّ‬
‫ه" [البقرة‪ ]199 :‬وقوله‪:‬‬ ‫فُروا الل َ َِِ‬ ‫غ ِ‬‫ست َ ْ‬‫وا ِِْ‬ ‫س َ‬ ‫ض النَّا ُِِ‬ ‫فا َِِ‬ ‫أَ َ‬
‫ن‬‫خلُو َِ‬ ‫سِ يَدْ ُ‬‫ت النَّا َ‬ ‫وَرأي ِْ َ‬ ‫َ‬ ‫ح‬
‫فت ِْ ُ‬‫وال ْ َ‬‫صُر َالل ِهِ َ‬ ‫جاءَ ن َِ ْ‬ ‫"إِذَا َ‬
‫فْرهُ‬ ‫غ ِ‬‫ست َ ْ‬‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫د َرب ِّك َ‬
‫م ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫ح بِ َ‬ ‫سب ِّ ْ‬ ‫َ‬
‫جا ف َ‬ ‫وا ً‬‫ف َ‬‫هأ ْ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫في ِدي ِ‬ ‫ِ‬
‫وابًا" [سورة النصر]‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ن تَ ّ‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫َ‬
‫إِن ّ ُ‬
‫جاء فـي كتاب الزهـد للمام أحمـد أن نـبي الله موسـى‬
‫مـر برجـل يدعـو ويتضرع‪ ،‬فقال‪ :‬يـا رب ارحمـه‪ ،‬فأوحـى الله‬
‫إليه‪ :‬لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر‬
‫في حقي عليه(‪.)50‬‬
‫فإن لم نفعـــــل ذلك‪ ،‬وإن ســـــكن المرء إلى نفســـــه‪،‬‬
‫واســتعان بإمكاناتــه عنــد أداء العمــل‪ ،‬ولم يســتعن بربــه‬
‫اسـتعانة حقيقيـة‪ ،‬ولم ينسـب الفضـل إليـه‪ ،‬وأعجـب بنفسـه‬
‫بعد العمل‪ ،‬فقد عَّرض هذا العمل للحباط والعياذ بالله‪.‬‬
‫ماذا لو أهملت التربية النفسية؟!‬
‫عندمـا يهمـل المرء تزكيـة نفسـه فمـن المتوقـع أن تظهـر‬
‫عليـه‪ ،‬وعلى الدائرة المحيطـة بـه الكثيـر مـن الثار السـلبية‪..‬‬
‫هذه الثار سـتتفاوت مـن شخـص لخـر بحسـب درجـة إهمال‬
‫تزكية النفس‪.‬‬
‫جب بنفســه‬ ‫فمــن تلك الثار المتوقعــة‪ :‬اســتحواذ ال ُ‬
‫مع َ ـ‬
‫على الحديــث فــي أي لقاء يجمعــه مــع غيره لنــه يرى أنــه‬
‫أحسن من يتكلم‪.‬‬
‫وستُسوِّل له نفسه أنه أحسن من يفكر‪ ،‬لذلك قد تجده‬
‫‪50‬‬
‫() الزهد للمام أحمد ص ‪ – 88‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫معرضا عن الستماع‬ ‫مصًّرا على فرض رأيه على من حوله‪ُ ،‬‬


‫إلى آراء الخرين‪ ،‬بل قد يسفه آراءهم‪ ،‬ول يقيم لها اعتباًرا‪.‬‬
‫‪ ..‬ومـن تلك الثار‪ :‬إكثاره مـن نصـح الخريـن وتوجيههـم‪،‬‬
‫ونقــد آرائهــم وأفعالهــم‪ ،‬وفــي نفــس الوقــت تجده ل يقبــل‬
‫النصح من أحد وخاصة من أقرانه أو من هم أقل منه سنا‬
‫أو شأنا‪ ،‬ول يسمح لحد بنقد آرائه أو أفعاله‪.‬‬
‫‪ ..‬يصعب عليه العتراف بخطئه‪ ،‬ويجتهد في تبرئة نفسه‬
‫من أي اتهام بالتقصير ولو اضطره ذلك إلى الكذب أو اتهام‬
‫الخرين بالتجني عليه وظلمه‪.‬‬
‫‪ ..‬إذا ما تولي رئاسة عمل (ما) تراه شعلة نشاط‪ ،‬فإذا‬
‫مـا تـم تأخيره ولو لخطوة واحدة‪ ،‬وَتقدَّم غيره عليـه؛ أصـابه‬
‫الفتور‪ ،‬وأخـذ يتهرب مـن أداء التكاليـف‪ ،‬مـع تصـيده لخطاء‬
‫من أخذ مكانه‪ ،‬وكثرة نقده والتقليل من شأن أعماله‪.‬‬
‫‪ ...‬ل يحــب الناجحيــن مــن أقرانــه‪ ،‬ويتحاشــى الحديــث‬
‫عنهــم‪ ،‬فإن اضطــر لذلك تجده يجتهــد فــي إبراز ســلبياتهم‪،‬‬
‫والتقليل من حجم نجاحهم‪.‬‬
‫‪ ..‬عندمـا يتحدث فـي أي محفـل فإنـك تجده دومـا يصـبغ‬
‫كلمـه بالحديـث عـن نفسـه (أنـا‪ ..‬لي‪ ..‬عندي)‪ ،‬ول يمـل مـن‬
‫تكرار ذلك‪.‬‬
‫‪ ...‬ل يقوم بتفويـض غيره مـن أقرانـه‪ ،‬أو مـن يعمل تحت‬
‫يديـه بأداء أعماله ذات الصـبغة التوجيهيـة ولو كانـت صـغيرة‪،‬‬
‫لنه ل يري أن هناك من يمكنه أن يؤدي مثل أدائه المتفرد‪،‬‬
‫ويوجه مثل توجيهه المتوحد‪.‬‬
‫‪ ..‬كـل هذه وغيره قـد يؤدي إلى نفور الناس منـه‪ ،‬وضيقهـم‬
‫مـــن حديثـــه‪ ،‬وعدم العمـــل معـــه بتفان وحـــب‪ ،‬فكمـــا يقول‬
‫مصطفي السباعي ‪-‬رحمه الله‪« :-‬إن نصف الذكاء مع التواضع‬
‫أحــب إلى قلوب الناس وأنفــع للمجتمــع مــن ذكاء كامــل مــع‬
‫الغرور»(‪.)51‬‬
‫نماذج مضيئة‪:‬‬
‫أدركـــت الجيال الولى خطورة إهمال تزكيـــة النفـــس‪،‬‬

‫‪51‬‬
‫() هكذا علمتني الحياة لمصطفي السباعي‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪62‬‬
‫لكل مسلم‬

‫والسـكون إليهـا‪ ،‬والرضـا عنهـا وأدركوا أن أخطـر آفـة يمكـن‬


‫أن تصــيب المرء هــي أن يذوق طعــم نفســه‪ ،‬فيطوع كــل‬
‫أعماله وأقواله وحركاتـه لسـعادها‪ ،‬وسـقايتها مـا تسـتلذ بـه‬
‫فكانت أحوالهم وأقوالهم تدل على ذلك‪.‬‬
‫ولقـد كان قدوتهـم فـي هذا المـر الرسـول مح مد ‪ e‬سـيد‬
‫المتواضعيـن‪ ..‬أخرج ابـن المبارك فـي الزهـد أن النـبي ‪ e‬قـد‬
‫أ ُـتي له بطعام فقالت له عائشـة‪ :‬لو أكلت يـا نـبي الله وأنـت‬
‫متكــئ كان أهون عليــك‪ ،‬فأصــغي بجبهتــه حتــى كاد يمــس‬
‫الرض بها وقال‪« :‬بل آكل كما يأكل العبد وأنا جالس‬
‫كما يجلس العبد‪،‬فإنما أنا عبد»(‪.)52‬‬
‫ومن أقوله‪« :‬إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى‬
‫ل يفخر أحد على أحد‪ ،‬ول يبغي أحد على أحد»(‪.)53‬‬
‫ومــن صــور اســتصغاره وتواضعــه مــع نفســه قوله ‪:e‬‬
‫«رحِم الله أخِي يوسِف لو أنِا أتانِي الرسِول بعِد‬
‫ع‬ ‫‪" :)54‬اْر ِ‬
‫ج ِْ‬ ‫طول الحبِس لسِرعت الجابِة حيِن قال‬
‫فا َ‬
‫ة"» [يوسف‪. (]50 :‬‬
‫و ِ‬
‫س َ‬ ‫ما بَا ُ‬
‫ل الن ِّ ْ‬ ‫سأل ْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫إِلَى َرب ِّ َ‬
‫ك َ ْ‬
‫وعندمـا دخـل عليـه رجـل فأصـابته مـن هيبتـه رعدة‪ ،‬فقال‬
‫له‪« :‬هون عليِك‪ ،‬فإنِي لسِت بملك‪ ،‬إنمِا أنِا ابِن‬
‫امرأة من قريش تأكل القديد»(‪.)55‬‬
‫وهذا صـاحبه أبـو بكـر الصـديق ‪-‬رضـي الله عنـه‪ -‬يصـعد‬
‫على المنــبر فــي أول خطبــة يخطبهــا بعــد توليــه الخلفــة‬
‫ويقول‪« :‬لقـد وليـت عليكـم ولسـت بخيركـم»‪ ،‬مـع إنـه بنـص‬
‫الحاديــث النبويــة خيــر المــة‪ ،‬ولكنــه لم يعــش مــع هذه‬
‫الحقيقـة‪ ،‬ولم يتجاوب معهـا‪ ،‬بـل كان دائم الحذر مـن نفسـه‪،‬‬
‫قش عليه‪« :‬عبد ذليل لرب جليل»‪.‬‬ ‫وكان يلبس خاتما ن ُ ِ‬
‫وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها‪ :‬لبست مرة درعا‬
‫لي جديدة فجعلت أنظـر إليهـا‪ ،‬فأعجبـت بهـا‪ .‬فقال أبـو بكـر‪:‬‬

‫‪52‬‬
‫() الزهد لبن المبارك برقم (‪ )193‬في زيادات نعيم بن حماد ص (‪.)53‬‬
‫‪53‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫() صحيح‪ ،‬أخرجه المام أحمد‪ ،‬وصححه اللباني في صحيح الجامع (‪.)3491‬‬
‫‪55‬‬
‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)7052‬‬
‫‪63‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫مــا تنظريــن؟ إن الله ليــس بناظــر إليــك‪ ،‬قلت‪ :‬ومــم ذاك؟‬


‫قال‪ :‬أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقتـه‬
‫الله عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟‬
‫قالت‪ :‬فنزعتـه فتصـدقت بـه‪ ..‬فقال أبـو بكـر‪ :‬عسـي ذلك‬
‫أن يكفِّر عنك(‪.)56‬‬
‫وهذا أبــو عــبيدة بــن الجراح وقــد أم قومــا يومــا‪ ،‬فلمــا‬
‫انصـرف قال‪ :‬مـا زال الشيطان بـي آنفـا حتـى رأيـت أن لي‬
‫فضل على من خلفي‪ ،‬ل أؤم أبدًا(‪.)57‬‬
‫ونادى عمـر بـن الخطاب يومـا‪ :‬الصـلة جامعـة‪ ..‬وصـعد‬
‫المنـبر وقال‪ :‬أيهـا الناس‪ ،‬لقـد رأيتنـي أرعـى على خالت لي‬
‫مـن بنـي مخزوم فيقبضـن لي القبضـة مـن التمـر والزبيـب‪،‬‬
‫فأظل في يوم وأي يوم‪ ..‬ثم نزل!!‬
‫فقال عبـد الرحمـن بـن عوف‪ :‬والله يـا أميـر المؤمنيـن مـا‬
‫زادت على أن قمئت نفسك‪.‬‬
‫فقال عمــر‪ :‬ويحــك يــا ابــن عوف‪ ،‬إنــي خلوت فحدثتنــي‬
‫نفسـي فقالت‪ :‬أنـت أميـر المؤمنيـن فمـن ذا أفضـل منـك؟‬
‫فأردت أن أعرفها نفسها‪.‬‬
‫وقال عروة‪ :‬رأيــت عمــر بــن الخطاب وعلى عاتقــه‬
‫قربـة ماء‪ ،‬فقلت‪ :‬يـا أميـر المؤمنيـن ل ينبغـي لك هذا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫لمـا أتتنـي الوفود بالسـمع والطاعـة دخلت فـي نفـس نخوة‪،‬‬
‫فأحببـت أن أكسـرها‪ ،‬ومضـى بالقربـة إلى حجرة امرأة مـن‬
‫النصار فأفرغها في إنائها(‪.)58‬‬
‫***‬
‫مستهدف التربية النفسية‬
‫لمـا كانـت تزكيـة النفـس أمـر غايـة فـي الهميـة‪ ،‬كان لبـد‬
‫من تعاهد المرء لنفسه‪ ،‬وعدم الطمئنان لها‪ ،‬أو الوثوق بها‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫() العجب لعمر بن موسي ص ‪ ،98‬نقل عن حلية الولياء لبي نعيم ‪.1/37‬‬
‫‪57‬‬
‫() الزهد لبن المبارك برقم (‪ )834‬ص ‪.287‬‬
‫‪58‬‬
‫() صلح المة في علو الهمة للعفاني ‪.5/435‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪64‬‬
‫لكل مسلم‬

‫لبـد مـن تزكيـة النفـس‪ ،‬وتربيتهـا على العبوديـة لله عـز‬


‫وجل‪ ،‬والتي تصل بالمرء إلى اليقين بأنه بالله وبإمداداته ل‬
‫بنفســه العاجزة المارة بالســوء‪ ،‬وأن يوقــن كذلك بأن بينــه‬
‫ل الل ِهِ‬ ‫ض ُ‬‫ف ْ‬‫ول َ َ‬
‫َ‬ ‫ول َ ْ‬
‫وبيـن الكفـر أن يتركـه الله عـز وجـل‪َ "َ :‬‬
‫د أبَدًا" [النور‪،]21 :‬‬ ‫ح ٍ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫منك ُم ِّ‬
‫ما َزك َا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫مت ُ ُ‬
‫ح َ‬ ‫وَر ْ‬ ‫م َ‬ ‫علَيْك ُ ْ‬
‫َ‬
‫جنُبْن ِِِي‬
‫َ ْ‬‫وا‬ ‫"‬ ‫الســلم‪:-‬‬ ‫عليــه‬ ‫‪-‬‬ ‫إبراهيــم‬ ‫دعاء‬ ‫مــن‬ ‫يكــن‬ ‫ألم‬
‫وبن ِ َ َ‬
‫م" [إبراهيم‪.]35 :‬‬ ‫صنَا َ‬
‫عبُدَ ال ْ‬ ‫ي أن ن َّ ْ‬ ‫َ َ ّ‬
‫‪..‬ويوقــن أيضــا بأن أي طاعــة يؤديهــا فالله ‪-‬عــز وجــل‪-‬‬
‫وحده هو الذي أعانه وحبب إليه القيام بها‪ ،‬وبعث فيه القوة‬
‫اللزمة لدائها‪ ،‬وأزاح عنه العوائق التي من شأنها أن تعطله‬
‫ي َربِّي" [سبأ‪.]50 :‬‬ ‫حي إِل َ َّ‬ ‫ما يُو ِ‬ ‫ت َ‬
‫فب ِ َ‬ ‫هتَدَي ْ ُ‬‫نا ْ‬ ‫وإ ِ ِ‬‫عنها " َ‬
‫‪ ..‬التربيِِة النفسِِية تهدف إلى‪ :‬تحقيِِق نكران‬
‫الذات‪ ،‬وممارسِِة التواضِِع بصِِورة تلقائيِِة غيِِر‬
‫متكلفِِِِة‪ ،‬وتهدف كذلك إلى أن يكون المرء عنِِِد‬
‫نفسِه صِغيًرا‪ ،‬وأن يرى الناس جميعِا أفضِل منِه‪،‬‬
‫كمِِا يقول المام النووي‪« :‬ل تسِِتصغر أحدًا فإن‬
‫العاقبِة منطويِة‪ ،‬والعبِد ل يدري بِم يختِم له‪ .‬فإذا‬
‫رأيِت عاصِيا فل ت ََِِر نفسِك عليِه‪ ،‬فربمِا كان فِي‬
‫علم الله أعلى منِك مقامِا‪ ،‬وأنِت مِن الفاسِقين‪،‬‬
‫ويصير يشفع فيك يوم القيامة‪.»...‬‬
‫***‬
‫‪65‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫المحور الرابع‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫بذل الجهد في سبيل الله‬


‫(التربية الحركية)‬

‫مـن طبيعيـة النسـان أي إنسـان الحركـة وبذل الجهـد فـي‬


‫ســبيل تلبيــة احتياجاتــه‪ ،‬وتحقيــق أهدافــه‪ ،‬فالحركــة دليــل‬
‫الحياة‪.‬‬
‫‪ ..‬هذه الحركــة لبــد لهــا مــن توجيــه صــحيح حتــى تكون‬
‫مثمرة‪ ،‬تؤدي إلى النجاح فــي تحقيــق هدف وجود النســان‬
‫على الرض‪.‬‬
‫فالله ‪-‬عز وجل‪ -‬لم يخلقنا ويسكننا الرض لكي نأكل أو‬
‫نشرب أو نتزوج‪ ،‬بـــــل خلقنـــــا لداء اختبار العبوديـــــة له‬
‫‪-‬سبحانه‪ -‬بالغيب‪.‬‬
‫‪ ..‬نعـــــم‪ ،‬علينـــــا ونحـــــن نؤدي هذا الختبار أن نقوم‬
‫بالمحافظــة على أجســادنا والعمــل على نموهــا الصــحيح‬
‫بالغذاء النافـع حتـى نسـتطيع أن نؤدي تكاليـف الختبار‪ ،‬ولبـد‬
‫مـــن التزاوج حتـــى تظهـــر الجيال الجديدة التـــي قدر الله‬
‫وجودها‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫ولن الله عز وجل يريد للناس جميعا الخير‪ ،‬والنجاح في‬
‫اختبار العبوديــة‪ ،‬وعدم النشغال بزينــة الحياة الدنيــا فقــد‬
‫أرسل إليهم رسائل متعددة كان آخرها رسالة القرآن والتي‬
‫ة‬
‫م ٍ‬‫خيَْر أ ُ َّ‬‫م َ‬ ‫ُكلف أمـة السـلم بنشرهـا فـي العالميـن "كُنْت ُِ ْ‬
‫ن‬ ‫ن بِال ِِْ َ‬ ‫َ‬
‫ع ِِ‬ ‫ن َ‬ ‫و َِ‬ ‫وتَن ْ َ‬
‫ه ْ‬ ‫ف َ‬‫عُرو ِ‬‫م ْ‬ ‫مُرو َِ‬
‫س تَأ ُ‬
‫ت لِلن ّا ِِ‬ ‫ج ِْ‬ ‫ر َ‬
‫خ ِ‬‫أ ْ‬
‫ِْ‬
‫ن بِالل ِهِ" [آل عمران‪ ،]110 :‬لذلك فإن مـن‬ ‫ؤ‬‫ْ‬
‫ال ُ ْ ِ َ ُ ِ ُ َِ‬
‫و‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫أهـم واجبات المسـلم نشـر دعوة السـلم لسـتنقاذ كـل مـن‬
‫فيه خير وشوق إلى الهداية‪.‬‬
‫ن‬
‫م ِْ‬‫و َ‬‫َ فمــن أحــب العمال إلى الله دعوة الخلق إليــه " َ‬
‫و َ‬
‫قا َ‬
‫ل‬ ‫حا َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫م َ‬
‫ل َ‬ ‫ع ِ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬‫عا إِلَى الل ِ‬
‫من د َ َ‬ ‫م َّ‬‫ول ً ِّ‬ ‫ن َ‬
‫ق ْ‬ ‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫أ ْ‬
‫ن" [فصلت‪.]108 :‬‬ ‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫إِنَّنِي ِ‬
‫م َ‬
‫ومن أحب العمال إلى الله كذلك بذل الجهد في سبيله‪:‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪66‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ج ِ ْ‬ ‫َ‬
‫رام‬
‫د الحـِ َ ِ‬ ‫ماَرةَ ال ِِْمـ ْ‬
‫س ِ‬ ‫ع َ‬‫و ِ‬
‫ج ََ‬ ‫ة ال ِِْ َ‬
‫حا ِ ّ‬ ‫قاي َ َ‬‫س َ‬
‫م ِِ‬ ‫علْت ُِ ْ‬
‫ج َ‬‫"أ َ‬
‫ه‬
‫ل الل ِ‬‫سبِي ِ‬
‫في َ‬ ‫هدَ ِ‬
‫جا َ‬ ‫و َ‬
‫ر َ‬ ‫خ ِ‬‫وم ِ ال ِ‬ ‫والْي َ ْ‬
‫ه َ‬‫ن بِالل ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬‫كَ َ‬
‫ه" [التوبة‪.]19 :‬‬ ‫عنْدَ الل ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫وو َ‬ ‫ست َ ُ‬‫ل َ يَ ْ‬
‫ل مصادمة للفطرة‪:‬‬
‫ليس المقصد من بذل الجهد في سبيل الله ترك الدنيا‪،‬‬
‫والتفرغ للدعوة؛ فالســـلم ل يصـــادم الفطرة‪ ،‬بـــل يلبـــي‬
‫احتياجاتهـا دون إفراط أو تفريـط كمـا قال ‪ e‬لعبـد الله بـن‬
‫عمرو‪ ..« :‬فإن لجسدك عليك حقا‪،‬وإن لعينك عليك‬
‫حقِِا‪ ،‬وإن لزورك عليِِك حقِِا‪ ،‬وإن لزوجِِك عليِِك‬
‫حقا»(‪.)59‬‬
‫فمــن الضروري أن يكون هناك جزءًا معتــبًرا مــن حركــة‬
‫صا لتلبيـة احتياجاتـه‪ ،‬واحتياجات مـن يعولهـم‬
‫المسـلم مخصـ ً‬
‫دون إخلل بواجباته الدعوية كما سيأتي بيانه‪ .‬ولكي يستفيد‬
‫المرء مــن هذا الجزء المعتــبر مــن الجهــد المبذول؛ مــن‬
‫المناسب أن يتعلم ويكتسب بعض المهارات التي من شأنها‬
‫أن تحســن أداءه‪ ،‬والتــي يطلقون عليهــا مســمي «تطويــر‬
‫الذات»‪ ،‬ومن أمثلة تلك المهارات‪:‬‬
‫إدارة الوقــت‪ ،‬التواصــل مــع الخريــن‪ ،‬التخطيــط‪ ،‬فــن‬
‫التعامـل مـع الزوجـة والولد‪ ،‬مـع الخـذ فـي العتبار ضرورة‬
‫الحذر مـن النبهار بهذا المـر والنسـياق وراءه بالدرجـة التـي‬
‫تشغـل الوقـت والفكـر‪ ،‬وتبعـد المسـلم عـن مهمتـه السـاسية‬
‫في إصلح نفسه ودعوة غيره‪.‬‬
‫سنات للطعام‪،‬‬ ‫مح ّـِ‬
‫إن هذه المهارات ينبغــي أن تكون كال ُ‬
‫فهي ل تصنع شخصية متكاملة‪ ،‬ول تبني فكرا‪ ،‬ول تنور قلبا‪،‬‬
‫ول تزكي نفسا‪.‬‬
‫سن الداء ‪-‬بعون الله‪ -‬ولكـن لبـد مـن‬ ‫‪ ..‬بالفعـل هـي تُح ّ ِـ‬
‫وضعهـا فـي مكانهـا الطـبيعي فـي سـلم أولويات التربيـة حتـى‬
‫ل ينسـاق المرء وراء بريـق شعاراتهـا‪ ،‬وبمـا تحققـه مـن نجاح‬
‫ســريع فــي بعــض الجزئيات‪ ،‬فتأتــي عنده بنتيجــة عكســية‪،‬‬
‫ويظن أن إتقانه لعدد من المهارات كفيل بتكوين شخصيته‪،‬‬
‫وتقويـم سـلوكه‪ ،‬وأن مـا ينقـص المـة هـو الهتمام أكثـر بهذه‬
‫المهارات‪..‬كـل ذلك قـد يحدث نتيجـة الفراغ الداخلي‪ ،‬وعدم‬
‫‪59‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫وضوح الرؤية لطبيعة وظيفة المسلم على الرض‪.‬‬


‫ونعود فنؤكـد بأن هذا الكلم ليـس معناه الزهـد فـي هذا‬
‫(الفن) بل معناه وضعه في حجمه الطبيعي‪،‬فالحكمة ضالة‬
‫المؤمن أنَّي وجدها فهو أولى الناس بها‪.‬‬
‫بذل الجهد في سبيل الله‪:‬‬
‫بالضافــة إلى حركــة المرء لتلبيــة احتياجاتــه المعيشيــة؛‬
‫فإن على المسـلم أن يكون له جهـد وحركـة فـي سـبيل الله‬
‫من خلل محورين أساسيين‪:‬‬
‫المحور الول‪ :‬العمل الصالح‬
‫على المســـلم أن يعمـــل بالطاعات والعمال الصـــالحة‬
‫التــي أمره الله بهــا‪ ،‬ويجتهــد فــي القيام بالعمال المندوبــة‬
‫والتي تسمي «فضائل العمال» قدر المستطاع‪.‬‬
‫فلكـي يرسـخ اليمان فـي القلب لبـد مـن إتباعـه بالعمـل‬
‫ت‬ ‫ل ال َِِِّ‬
‫م َ‬ ‫من ًِِِا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫حا ِ‬
‫صال ِ َ‬ ‫ع ِ‬
‫قدْ َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫ه ُ‬
‫من يَأت ِِِِ ِ‬ ‫و َِِ‬‫الصـــالح‪َ " :‬‬
‫عل" [طه‪.]75 :‬‬ ‫ت ال ُْ‬ ‫جا‬
‫ّ َ َ ُ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫د‬ ‫ال‬ ‫م‬‫ه ُ‬ ‫فأُولَئ ِ َ‬
‫ك لَ ُ‬ ‫َ‬
‫فعلى المســــلم أن تكون دائرة بذل جهده الولى هــــي‬
‫نفســه وأن يجتهــد فــي اســتكمال جوانــب التربيــة الثلثــة‬
‫المشار إليها آنفا (المعرفية واليمانية والنفسية)‪ ،‬وأن يجتهد‬
‫كذلك فـي العمـل بكـل مـا يبلغـه مـن أعمال صـالحة موافقـة‬
‫للسنة حتى يكتب من أهلها‪.‬‬
‫يقول المام النووي‪ :‬ينبغي لمن بلغه شيء من‬
‫فضائل العمال أن يعمِل بِه ولو مرة واحدة ليكون‬
‫مِن أهله‪،‬ول ينبغِي أن يتركِه مطلقِا‪ ،‬بِل يأتِي بمِا‬
‫تيسر منه‪ ،‬لقول النبي ‪ e‬في الحديث المتفق على‬
‫صِِِِحته‪« :‬إذا أمرتكِِِِم بشيِِِِء فأتوا منِِِِه مِِِِا‬
‫استطعتم»(‪.)60‬‬
‫المحور الثاني‪ :‬دعوة الخلق إلى الله‪:‬‬
‫وعلى المسـلم أن يكون له جهـد معتـبر يبذله فـي الدعوة‬
‫ه" [يوسف‪.]108 :‬‬ ‫سبِيلِي أَدْ ُ‬
‫عو إِلَى الل ِ‬ ‫ه َ‬
‫ذ ِ‬
‫ه ِ‬
‫ل َ‬ ‫إلى الله " ُ‬
‫ق ْ‬

‫‪60‬‬
‫() الذكار للنووي ص ‪ - 28 ،27‬دار الهدى‪ -‬الرياض‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪68‬‬
‫لكل مسلم‬

‫فل يكفــي أن يكون المســلم صــالحا فــي نفســه ليحقــق‬


‫العبوديـة الحقـة الكاملة لله عـز وجـل‪ ،‬بـل لبـد مـن قيامـه‬
‫ل إِن ّ ِِي لَن‬‫ق ْ‬‫بواجـب تبليـغ رسـالة ربـه‪ ،‬ودعوة خلقـه إليـه " ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حدًا‬
‫ملت َ َ‬‫ه ُ‬‫من دُون ِِ ِ‬
‫جدَ ِِ‬
‫نأ ِ‬‫ول َِ ْ‬ ‫حدٌ َ‬‫ن الل ِهِ أ َ‬‫م َِ‬‫جيَرن ِِي ِ‬
‫َ‬ ‫يُ ِ‬
‫ه"‬ ‫َ‬
‫سالت ِ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫و ِ‬‫ه َ‬‫ن الل ِ‬‫م َ‬‫غا ِّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫إِل بَل ً‬
‫[الجن‪.]23 ،22 :‬‬
‫وليــس هذا أمًرا اختياريــا‪ ،‬بــل هــو تكليــف إلهــي لمــة‬
‫الســلم منــذ أن اختارهــا الله عــز وجــل لتقود البشريــة‬
‫وتسعدها بالسلم‪.‬‬
‫وكَذَل ِِِِ َ‬
‫ك‬ ‫تكليـــف إلهـــي بالشهادة على الناس " َ‬ ‫‪ ..‬إنـــه‬
‫علَى الن َّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫س"‬‫ِِِ‬ ‫ا‬ ‫ء‬ ‫ا‬
‫َ َ َ َ‬‫د‬ ‫ه‬ ‫ُ‬
‫ش‬ ‫وا‬‫ُ‬ ‫ن‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ت‬
‫ِ َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫علْنَاك ُ ِ ْ ّ ً َ َ ِ‬
‫سط‬ ‫و‬ ‫ة‬‫م‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ج َ‬
‫َ‬
‫[البقرة‪.]14 :‬‬
‫ولكي نشهد على الناس شهادة صحيحة لبد من تبليغهم‬
‫الرسـالة أول على أحسـن مـا يكون التبليـغ‪ ،‬ثـم التعرف على‬
‫سأَلَنا الله عز و جل يوم‬
‫موقفهم من هذه الرسالة‪ ،‬فإذ ما َ‬
‫القيامـة عـن هذه الشهادة كان الجواب المفترض أن نجيـب‬
‫بمثله‪ :‬إننـــا قمنـــا بتبليـــغ الرســـالة إلى قوم (كذا) و (كذا)‬
‫فاستجاب بعضهم ولم يستجب الخر‪.‬‬
‫‪ ..‬من هنا نقول بأن تربية الفرد ل تكتمل إل إذا كانت له‬
‫حركة وجهد يبذله في تبليغ رسالة ربه ودعوة خلقه إليه‪.‬‬
‫يؤكــد المام حســن البنــا على هذا المعنــى فيقول‪ :‬كلف‬
‫الله المؤمنين بمهمة‪ ،‬وألقي على عاتقهم بواجب هو‪ :‬هداية‬
‫البشــر إلى الحــق‪ ،‬وإرشاد الناس جميعــا إلى الخيــر‪ ،‬وإنارة‬
‫كله بشمـس السـلم‪ ،‬فذلك قوله تبارك وتعالى‪+ :‬ي َِا‬ ‫العالم َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫َ ّ‬ ‫ر‬ ‫وا‬ ‫د‬
‫ُ ُ‬ ‫ب‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫وا‬ ‫د‬ ‫ج‬
‫َ ِْ ُ ُ‬‫س‬ ‫وا‬ ‫عوا‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ر‬
‫َِ َ َ ْ ُ‬ ‫ا‬ ‫وا‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ها ال‬ ‫أي ّ ُِ َ‬
‫في الل ِهِ‬ ‫هدُوا ِِ‬ ‫جا ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫حو َِ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م تُ ْ‬ ‫عل ّك ُِ ْ‬ ‫خيَْر ل َ َ‬ ‫علُوا ال ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫عل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫اك‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ج‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ها‬
‫َ‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ّ‬ ‫ح‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫م ن حر ج مل َّ َ َ‬
‫ن‬‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ماك ُ ُ‬ ‫س َّ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫م ُ‬‫هي َ‬ ‫م إِبَْرا ِ‬ ‫ة أبِيك ُ ْ‬ ‫ِ ْ َ َ ٍ ِّ‬
‫م‬ ‫ُِ‬
‫عليْك ْ‬ ‫َ‬ ‫هيدًا َ‬ ‫ل َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن الَّر ُِ‬ ‫ُ‬
‫هذَا لِيَكو َِ‬ ‫قب ْ ُ‬ ‫من َ‬
‫ش ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫في َ‬ ‫و ِِ‬‫ل َ‬ ‫ِِ‬
‫س" [الحج‪.]78 ،77 :‬‬ ‫على الن ّا ِ‬ ‫هدَاءَ َ‬ ‫ُ‬
‫وتَكونُوا ش َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫معنــي هذا أن القرآن الكريــم يقيــم المســلمين أوصــياء‬
‫على البشريــة القاصــرة‪ ،‬ويعطيهــم حــق الهيمنــة والســيادة‬
‫على الدنيا لخدمة هذه الوصايا النبيلة‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫ويستطرد قائل تحت عنوان‪ :‬وصاية المسلم تضحية‬


‫ل استفادة‪.‬‬
‫ثــم بيــن الله تبارك وتعالى أن المؤمــن فــي ســبيل هذه‬
‫الغايـة قـد باع لله نفسـه وماله فليـس له فيهـا شيـء‪ ،‬وإنمـا‬
‫هــــي وقــــف على نجاح هذه الدعوة وإيصــــالها إلى قلوب‬
‫ن‬
‫م َِِِِ‬ ‫شتََرى ِ‬ ‫ها ْ‬ ‫َِِِِِ‬ ‫ن الل‬‫الناس‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪" :‬إ ِِِِِ َّ‬
‫جن َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ف سهم َ‬ ‫َ‬
‫ة"‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ن ل َ ِِ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫م بِأ َّ‬ ‫والَهـ ِ ْ‬‫م َ‬
‫وأ ْ‬ ‫ن أن ْ ُ َ ِ ُ ْ َ‬
‫منِي َ‬ ‫ال ْ ِِ ُ‬
‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬
‫[التوبة‪.]111 :‬‬
‫ومن ذلك نرى أن المسلم يجعل دنياه وقفا على دعوته‬
‫ليكسب آخرته جزاء تضحيته‪.‬‬
‫ومن هنا كان الفاتح المسلم أستاذ ًا يتصف بكل ما يجب أن‬
‫يتحلى بـه السـتاذ مـن نور وهدايـة ورحمـة ورأفـة‪ ،‬وكان الفتـح‬
‫ضر وإرشاد وتعليم(‪.)61‬‬ ‫السلمي فتح تمدين وتح ُّ‬
‫واإسلماه‪:‬‬
‫ولئن كان بذل الجهد في سبيل الله مطلوب ًا من المسلم‬
‫في كل وقت؛ إل أن الحاجة تشتد إليه في هذا العصر أكثر‬
‫مـن أي وقـت مضـى‪ ،‬كيـف ل والمسـلمون قـد أصـبحوا تحـت‬
‫أقدام أعدائهــم‪ ،‬وتراجــع دورهــم الحضاري‪ ،‬وأصــبحوا عالة‬
‫على المـــــم الخرى‪ ،‬بالضافـــــة إلى تغلغـــــل المشروع‬
‫الصــهيوني فــي ديار الســلم‪ ،‬واســتعلء الباطــل‪ ،‬وارتفاع‬
‫رايات الماديـة والعلمانيـة‪ ،‬مـع ابتعاد المسـلمين عـن تطـبيق‬
‫تعاليم دينهم بصورة صحيحة‪..‬‬
‫من هنا تبرز الحاجة لبذل غاية الجهد في اتجاه تغيير هذا‬
‫الوضــع‪ ،‬والمســاهمة الفعالة فــي بناء المشروع الســلمي‬
‫ما ب ِ َ‬ ‫ه ل َ يُ َ‬ ‫الذي ينطلق مـن قوله تعالى‪" :‬إ ِ َّ‬
‫و مٍ‬
‫ق ْ‬ ‫غي ُِّر َ‬ ‫ن الل َ‬
‫م" [الرعد‪.]11 :‬‬ ‫ه ْ‬
‫س ِ‬ ‫ما بِأَن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫حتَّى ي ُ َ‬
‫غيُِّروا َ‬ ‫َ‬
‫مستهدف التربية الحركية‪:‬‬
‫التربيــة الحركيــة لبــد وأن تشمــل ضبــط وتوجيــه حركــة‬
‫المسـلم فـي الحياة‪ ،‬وهدفهـا أن يكون له أثـر طيـب فـي كـل‬
‫َ‬
‫ما كُن ُ‬
‫ت" [مريـم‪،]31 :‬‬ ‫علَن ِي ُ‬
‫مبَاَرك ًا أيْن َ َ‬ ‫ج َ‬
‫و َ‬
‫مكان يحـل فيهـا " َ‬
‫َ‬
‫وأن يسـاهم مسـاهمة بن ّاءه فـي إقامـة المشروع السـلمي‬
‫‪61‬‬
‫() رسالة إلى أي شيء ندعو الناس؟ ص ‪ 35 ،34‬بتصرف يسير‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪70‬‬
‫لكل مسلم‬

‫الذي يهدف إلى اســــتئناف الحياة الســــلمية الصــــحيحة‪،‬‬


‫البشريـــة مـــن الضياع‪ ،‬وإســـعادها‬
‫ُ ُّ‬ ‫ويهدف كذلك إلى إنقاذ‬
‫ه" [النفال‪.]39 :‬‬
‫ه لل ِ‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ن‬
‫دي ُ‬ ‫ويَكُو َ‬
‫ن ال ِّ‬ ‫بالسلم " َ‬
‫***‬
‫‪71‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫التكامـــــــــل التربــــــــــوي‬

‫‪ ..‬عقل المسلم بحاجة إلى تغذيته بالمعرفة النافعة حتى‬


‫يكتمل نموه‪ ،‬وتتفتح نوافذه‪ ،‬وتتسع مداركه‪.‬‬
‫‪ ..‬وقلبه بحاجة إلى إيمان متجدد حتى يستضيء‪ ،‬وينفتح‬
‫ويصبح قلبا سليما‪.‬‬
‫‪ ..‬ونفســه بحاجــة‪ ،‬إلى ترويــض وتزكيــة حتــى يســلس‬
‫قيادها وارتداؤها رداء العبودية لله عز وجل‪.‬‬
‫‪ ..‬أما حركة المسلم فهي بحاجة إلى توجيه مستمر حتى‬
‫يكون له أثـر نافـع فـي الحياة‪ ،‬وحتـى يحقـق ‪-‬مـن خلل ذلك‬
‫الثــر‪ -‬مراد ربــه مــن وجوده كمســلم يحمــل طوق النجاة‬
‫للبشرية جمعاء‪.‬‬
‫‪ ..‬هذه المور الربعـة ل يكفـي لتحقيقهـا اهتمام لحظـي‪،‬‬
‫أو إمداد عابر‪ ،‬بــل ل بــد مــن دوام المداد والرعايــة حتــى‬
‫يظهر الثر المطلوب‪.‬‬
‫* فالعقــل بحاجــة إلى دوام التغذيــة بالعلم النافــع الذي‬
‫يُعَّرِــفه بربــه‪ ،‬ويعرفــه بأوامره ونواهيــه‪ ،‬ومــا يرضيــه ومــا‬
‫يغضبـه‪ ،‬ويعرفـه كذلك بكيفيـة تحقيـق مراده سـبحانه بنشـر‬
‫دينــه‪ ،‬وإســعاد خلقــه بالســلم‪ ،‬ومــا يســتدعيه ذلك مــن أن‬
‫يكون عالما بزمانه‪ ،‬فاهما لدينه‪ ،‬مدرك ًا لحوال المخاطبين‪،‬‬
‫وبيئاتهم المختلفة‪.‬‬
‫ويلحـق بالعلم النافـع معرفـة كـل مـا مـن شأنـه أن يُي َـسر‬
‫على المسلم أداء حقوق العبودية لله عز وجل‪.‬‬
‫مع الخذ في العتبار ضرورة استمرار تغذية العقل بهذه‬
‫المعارف إن أردنا تحقيق مستهدف «التربية المعرفية»‪.‬‬
‫وعندمــا يغذي المرء عقله بمعلومات عشوائيــة يســمعها‬
‫فـــي (فضائيـــة)‪ ،‬أو يقرؤهـــا مـــن خلل تصـــفحه للشبكـــة‬
‫العنكبوتيـة (النترنـت)‪ ،‬أو بقراءتـه بضـع صـفحات مـن كتاب‪..‬‬
‫فالغالب أن هذا كله لن يُحدِث الثــر الذي تحدثنــا عنــه‪ ،‬بــل‬
‫سـيكون أثره لحظيـا‪ ،‬ناهيـك عـن نوعيـة مـا يقرأ‪ ،‬ومدى قربـه‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪72‬‬
‫لكل مسلم‬

‫أو بعده عن مفهوم العلم النافع‪.‬‬


‫أمـا إذا أردنـا أثًرا تربويـا حقيقي ًـا للعلم النافـع فلبـد مـن‬
‫الستذكار والمدارسة‪ ،‬والصبر على الكتاب حتى نهايته‪ ،‬مع‬
‫استخراج الجديد والمفيد منه‪.‬‬
‫إحسان العمل أولً‪:‬‬
‫أما بخصوص القلب‪ :‬فلكي يتنور‪ ،‬ويصبح قلب ًا سليما لبد‬
‫من دوام إمداده باليمان حتى تتحرر إرادته من أسر الهوى‪،‬‬
‫ومن ثم يسهل على صاحبه اتخاذ القرار بالعمل الصالح في‬
‫أي وقت‪ ،‬وأي اتجاه‪.‬‬
‫وليـس المطلوب لتحقيـق مسـتهدف «التربيـة اليمانيـة»‬
‫هـو الكثار مـن الوراد والعمال الصـالحة فقـط دون النظـر‬
‫إلى كيفية أدائها والثر الناتج عنها‪ ،‬بل المطلوب هو الجتهاد‬
‫فـــي حضور القلب وتحركـــه وانفعال المشاعـــر وتأثرهـــا‬
‫وتجاوبها مع العمل‪ ،‬فأوقات التأثر هي أوقات زيادة اليمان‬ ‫َ‬
‫ت‬‫وإِذَا تُلِي َِِ ْ‬
‫م َ‬ ‫قلُوب ُ ُ‬
‫ه ِِْ‬ ‫جل َِِ ْ‬
‫ت ُ‬ ‫و ِ‬
‫ه َ‬‫ن إِذَا ذُكَِر الل ُِِ‬ ‫ذي َِِ‬ ‫"ال ّ ِ‬
‫مانًا" [النفال‪.]2 :‬‬‫م إِي َ‬
‫ه ْ‬
‫ه َزادَت ْ ُ‬
‫م آيَات ُ ُ‬‫ه ْ‬ ‫َ َ‬
‫علي ْ ِ‬
‫والتأثر «عنوان» حركة القلب والمشاعر مع العمل‪ ،‬وهو‬
‫يختلف باختلفهـا‪ ،‬ففـي الدعاء يسـمي تضرعـا‪ ،‬وفـي الصـلة‬
‫خشوعـا‪ ،‬ومـع آيات الوعيـد‪ :‬خوفًـا ورهب ً‬
‫ة‪ ،‬ومـع آيات الوعـد‬
‫والرجاء‪ :‬فرحـا واسـتبشاًرا وهكذا‪ ...‬وعندمـا ل يحدث التأثـر‬
‫والنفعال مــع العمــل فهذا معناه أن القلب لم يســتفد منــه‬
‫بزيادة اليمان فيـه‪ ،‬وهذا قـد يفسـر لنـا سـبب التناقـض فـي‬
‫شخصـية البعـض ممـن تراه محافظـا على الصـلوات‪ ،‬ومكثرا‬
‫مـن النوافـل والوراد ومـع ذلك فهـو ل يتورع عـن الكذب‪ ،‬أو‬
‫الغــش‪ ،‬وقــد تراه يحرص على المال ويســيء معاملة مــن‬
‫حوله‪.‬‬
‫فالتشخيـــــص الصـــــحيح لهذه الحالة أن أثــــر العمال‬
‫الصـالحة لم يصـل للقلب‪ ،‬ولم يزد اليمان فيـه‪ ،‬ومـن ثـم لم‬
‫يثمـر تحسـنا فـي السـلوك‪ ،‬لذلك كان مـن دعائه ‪« :e‬الل هم‬
‫إني أعوذ بك من صلة ل تنفع»(‪.)62‬‬
‫وكان ابــــن عباس رضــــي الله عنهمــــا يقول‪ :‬ركعتان‬
‫‪62‬‬
‫() رواه أبو داود(‪.)1546‬‬
‫‪73‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ(‪.)63‬‬


‫ويقول ابِن رجِب‪ :‬كان السِلف يوصِون بإتقان‬
‫العمِِِل وتحسِِِينه دون الكثار منِِِه‪ ،‬فإن العمِِِل‬
‫القليل مع التحسين والتقان أفضل من الكثير مع‬
‫الغفلة وعدم التقان‪ .‬وقال بعضهِِم‪:‬إن الرجليِِن‬
‫ليقومان فِي الصِف‪ ،‬ومِا بيِن صِلتهما كمِا بيِن‬
‫السماء والرض(‪.)64‬‬
‫احذر نفسك‪:‬‬
‫ومــــع دوام إمداد القلب باليمان على المرء أل ينســــى‬
‫نفســه‪ ،‬أو يغفــل عنهــا‪ ،‬وعليــه أن يســيء الظــن بهــا‪ ،‬مــع‬
‫مجاهدتهـا دومـا على لزوم الصـدق والخلص لله عـز وجـل‪،‬‬
‫وعليـه عدم التوجـه بالعمـل لغيره سـبحانه‪ ،‬وكذلك فإن عليـه‬
‫أن يربـي نفسـه على السـتعانة بالله فـي أموره كلهـا‪ ،‬وأن‬
‫يضبـط فرحـه بعـد نجاحـه فـي أداء العمـل‪ ،‬وأن يجعـل هذا‬
‫حا بالله وبفضله أن أعانـة ووفقـه على إتمام هذا‬ ‫الفرح‪ :‬فر ًـ‬
‫العمــل‪ ،‬وعليــه أيضــا أن يربــي نفســه على نكران الذات‪،‬‬
‫والتواضع‪ ،‬وأن يكون في‬
‫عيـن نفسـه صـغيرا‪ ،‬وأن يرى الناس جميعًـا أفضـل منـه‪،‬‬
‫وأن يلزمــــه الشعور باليأس مـــن النجاة بعمله‪ ،‬وأن عمله‬
‫مهمـــا كثـــر فلن يوفـــي مثقال ذرة مـــن حـــق الله وديَن ْـــه‬
‫المســتحق‪ ،‬وأن يوقــن بأن نجاتــه متعلقــة بعفــو الله عنــه‬
‫ورحمته إياه‪..‬‬
‫‪ ..‬هذه المعاني ل يكفي مجرد معرفتها لكي تتحقق‪ ،‬بل‬
‫لبـد مـن ممارسـتها‪ ،‬والتربيـة عليهـا‪ ،‬واختبار النفـس دومـا‬
‫فيها‪.‬‬
‫الحركة المباركة‪:‬‬
‫ومـع الهتمام بالتربيـة المعرفيـة واليمانيـة والنفسـية لبـد‬
‫مـن الهتمام كذلك بالتربيـة الحركيـة التـي تهدف إلى التعود‬
‫على بذل الجهد في سبيل الله وتبليغ دعوته‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫() الزهد لبن المبارك برقم (‪.)927‬‬
‫‪64‬‬
‫() مجموع رسائل ابن رجب ‪.1/352‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪74‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ول يكفـي ‪-‬كمـا أسـلفنا‪ -‬أن يتحرك ويبذل جهده مـن أجـل‬
‫خدمة دينه حسبما تتحين ظروفه‪ ،‬بل ينبغي أن تشكل عنده‬
‫«منهج حياة»‪ ،‬وأن يضعها في أولوياته عندما يخطط لوقته‪.‬‬
‫ماذا لو أُهملت التربية؟‬
‫هذه المحاور الربعــة للتربيــة علينــا الهتمام بهــا جميعًـا‪،‬‬
‫وعدم التركيـــز على محور دون الخـــر‪ ،‬ولو حدث هذا لكان‬
‫النتاج‪ :‬تشوه فـــي الشخصـــية‪ ،‬وعدم ظهور ثمرة التربيـــة‬
‫المتكاملة أل وهـي تحقيـق العبوديـة لله عـز وجـل بمفهومهـا‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫فعندما يحدث اهتمام بتحصيل العلم دون الهتمام بزيادة‬
‫اليمان‪ ،‬فسـتكون النتيجـة المتوقعـة‪ :‬شخـص كثيـر التنظيـر‪،‬‬
‫حافظ ًـــا للنصـــوص‪ ،‬كثيـــر الحديـــث عـــن القيـــم والمبادئ‬
‫والمعاني العظيمة‪ ،‬لكنك تجد في المقابل واقعا يختلف عن‬
‫القوال والتنظيرات‪ ،‬فهــو يتحدث عــن العدل والمســاواة‪،‬‬
‫بينمـا ل يتعامـل هـو مـع الخريـن بهذه القيـم وبخاصـة مـع مـن‬
‫يرأسهم‪..‬يتحدث عن الزهد في الدنيا وأهمية العمل للخرة‬
‫فــي حيــن يحرص على جمــع المال‪ ،‬وينفــق منــه بحســاب‬
‫شديد‪ ،‬ويدقق في كل شيء‪ ،‬وفي أتفه المور‪.‬‬
‫‪ ..‬كـل هذا وغيره بسـبب عدم الهتمام باليمان بنفـس‬
‫درجــة الهتمام بالعلم‪ ،‬فالذي يقرب المســافة بيــن القول‬
‫والفعـــل‪ ،‬ويترجـــم العلم إلى ســـلوك هـــو الطاقـــة والقوة‬
‫الروحية المتولدة من اليمان كما أسلفنا‪.‬‬
‫أمـــا عندمـــا يتـــم الهتمام باليمان دون العلم فســـتجد‬
‫أمامــك شخصــا جاهل مشوهــا يتشدد فيمـا ل ينبغــي التشدد‬
‫فيه‪ ،‬ويترخص فيما ل ينبغي الترخص فيه‪.‬‬
‫ستجد شخصا ضيق الفق ل يستطيع أن يتعامل مع فقه‬
‫الواقـع ومسـتجدات العصـر‪ ،‬ولعـل فـي قصـة التائب ‪-‬قاتـل‬
‫المائة‪ -‬مـا يؤكـد ذلك‪ ،‬فهذا الرجـل الذي كان قـد قتـل تسـعًا‬
‫وتسعين نفسا ثم تاقت نفسه للتوبة فسأل عن أعبد الناس‬
‫فدلوه على راهـب‪ ،‬فذهـب إليـه وأخـبره بمـا فعله ثـم سـأله‪:‬‬
‫هل لي من توبة؟!! فكانت إجابته بالنفي تعكس مدي جهله‬
‫وجـل الغفور الرحيـم‪ ،‬فمـا كان مـن الرجـل إل أن‬‫َ‬ ‫بالله عـز‬
‫قتله بعد أن يأ ّسه من التوبة‪ ،‬ليكمل به الضحية المائة‪.‬‬
‫وبعــد ذلك تاقــت نفســه مرة أخرى للتوبــة‪ ،‬فســأل عــن‬
‫‪75‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫أعلم الناس‪ ،‬فدلوه على عالم بمفهوم العلم الصــــــحيح أل‬


‫وهـو العلم بالله وبأحكامـه فذهـب إليـه وسـأله‪ :‬هـل لي مـن‬
‫توبة بعد كل ما فعلته؟!‪ ،‬فطمأنه هذه العالم‪ ،‬وأجابه بأن له‬
‫توبة فالله ‪-‬عز وجل‪ -‬يغفر الذنوب جميع ًا‪ ،‬ثم طلب منه أن‬
‫يغادر بلدتـه إلى بلدة أخرى حتـى تحسـن توبتـه بوجوده فـي‬
‫وسط طيب ل يُذَكِّره بماضيه‪.‬‬
‫فمـا أضـر على النسـان مـن الجهـل!! ومـا أخطـر على‬
‫النسان من ضعف اليمان!!‬
‫أعلم ولكن ل أستطيع‪:‬‬
‫‪ ..‬وفــــي حالة الهتمام بالتربيــــة النفســــية والتعرف على‬
‫النفـــس ومدى خطورتهـــا على النســـان مـــع إهمال التربيـــة‬
‫اليمانيـة الصـحيحة‪ ،‬فمـن المتوقـع أن تجـد أمامـك شخصـا كثيـر‬
‫النقد لنفسه‪ ،‬حزين ًا على حاله وكيف أنه يكثر من الحديث عن‬
‫نفسـه وإنجازاتـه‪ ،‬لكنـه ل يسـتطيع ترك مـا يتضايـق منـه لنـه ل‬
‫يجد القوة الدافعة لجهاد نفسه أل وهي قوة اليمان‪.‬‬
‫عبادة الذات‪:‬‬
‫أمــا فــي حالة الهتمام بالعلم واليمان مــع عدم النتباه‬
‫للنفــس‪ ،‬وإهمال تزكيتهــا‪ ،‬فســيكون النتاج‪ :‬شخــص كثيــر‬
‫العبادة‪ ،‬كثيـر المعلومات‪ ..‬سـبَّاق لفعـل الخيـر وبذل الجهـد‪،‬‬
‫لكنـه متورم فـي ذاتـه‪،‬ل يرى نفسـه إل بعدسـة مكـبرة‪ ،‬ويرى‬
‫غيره بعكـــس ذلك‪ ،‬لن عبادتـــه وأوراده وبذله فـــي الغالب‬
‫ســيغذى إيمانــه بنفســه وبقدراتــه وأنــه أفضــل مــن غيره‪،‬‬
‫فيتمكن منه ‪-‬بمرور اليام واستمرار النجازات والنجاحات ‪-‬‬
‫داء العجـب‪ ،‬ومن ورائه الغرور والكـبر والعياذ بالله‪ ،‬فيعرض‬
‫نفسه لمقت ربه وحبوط عمله‪.‬‬
‫جاء فــي الثــر‪ :‬قال تعالى‪ :‬يــا داود إنــي قــد آليــت على‬
‫نفسـي أن ل أثيـب عبدًا مـن عبادي إل عبدًا قـد علمـت مـن‬
‫طلبـه وإرادتـه وإلقاء كنفـه بيـن يدي أنـه ل غنـى له عنـي‪...‬‬
‫وأنـــه ل يطمئن إلى نفســـه بنظرهـــا وفعالهـــا إل وكلتـــه‬
‫إليها(‪...)65‬‬
‫تفريغ الطاقة وبذل الجهد‪:‬‬

‫‪65‬‬
‫() المحبة لله للجنيد‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪76‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ومـــع ضرورة الهتمام بالتربيـــة المعرفيـــة واليمانيـــة‬


‫والنفســية تأتــي كذلك أهميــة التعود على بذل الجهــد فــي‬
‫سـبيل الله وفـي دعوة الناس إليـه‪ ،‬فلو لم يتحرك المسـلم‪،‬‬
‫ويعلم الناس مـا تعلمـه‪ ،‬ويأخـذ بأيديهـم لتغييـر مـا بأنفسـهم‬
‫بإذن الله فإنـــه ســـيصاب بالفتور والخمول والكســـل‪ ،‬ولن‬
‫يدرك أسرار الكثير من المعاني التي يتعلمها‪ ،‬وكيف ل‪ ،‬وهو‬
‫ل يمارسها في الواقع العملي‪ ،‬كالبئر التي إذا ما تُركت ولم‬
‫سنت وغاض ماؤها وجفت‪.‬‬ ‫يستخدمها الناس أ ِ‬
‫فعلى ســبيل المثال‪ :‬القرآن الكريــم الذي يعــد بمثابــة‬
‫المصــــدر الول للعلم واليمان وتزكيــــة النفــــس ل يدرك‬
‫أسـراره قاعـد ‪-‬كمـا يقول سـيد قطـب‪ -‬ول يعلم مدلولتـه إل‬
‫إنسان يؤمن به ويتحرك به(‪.)66‬‬
‫ويقول‪ :‬والذيــن يتلمســون معانــي القرآن ودللتــه وهــم‬
‫قاعدون‪ ،‬يدرسونه دراسة بيانية أو فنية ل يملكون أن يجدوا‬
‫مـن حقيقته شيئًا في هذه القعدة الباردة الساكنة بعيدًا عن‬
‫الحركة‪ ...‬إن حقيقة القرآن ل تنكشف للقاعدين أبدًا(‪.)67‬‬
‫خطورة الحركة بدون زاد‪:‬‬
‫وفي المقابل ‪ ،‬فإن الحركة وبذل الجهد في سبيل الله‪،‬‬
‫إن لم يكـن وراءهـا زاد متجدد فإن عواقـب وخيمـة سـتلحق‬
‫بصـاحبها‪ ،‬ويكفيـك فـي بيان هذه الخطورة قوله ‪« :e‬مثِل‬
‫الذي يعلم الناس الخيِِِر‪ ،‬وينسِِِى نفسِِِه‪ ،‬مثِِِل‬
‫الفتيلة‪ ،‬تضيء للناس‪ ،‬وتحرق نفسها»(‪.)68‬‬
‫‪ ...‬فلبـد مــن المريــن معـا‪ :‬لبـد مـن الزاد‪ ،‬ولبـد مـن‬
‫التحرك بهذا الزاد‪.‬‬
‫إن العلقــة بيــن الزاد والحركــة‪ ،‬كالعلقــة بيــن خزان‬
‫المياه‪ ،‬وضغــط المياه المتدفــق مــن الصــنبور المتصــل بــه‪،‬‬
‫فعلى حسب كمية المياه في الخزان تكون قوة تدفقها من‬
‫الصنبور‪ ،‬فإذا نقص منسوب المياه في الخزان بشكل كبير‪،‬‬
‫فإن تيار الماء ينزل ضعيفًـا مـن الصـنبور‪ ،‬أمـا إذا مـا أصـبح‬
‫‪66‬‬
‫() في ظلل القرآن ‪.4/2038‬‬
‫‪67‬‬
‫() المصدر السابق ‪.4/1864‬‬
‫‪68‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه الطبراني وصححه اللباني في صحيح الجامع (‪.)5837‬‬
‫‪77‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫الخزان فارغــا‪ ،‬فإن الصــنبور لن يخرج (ماء)‪ ،‬بــل ســيخرج‬


‫(هواءً) وهذا هـو حال الداعيـة الذي ينسـى نفسـه‪ ،‬ول يتزود‬
‫بمـا يحتاجـه وينفعـه‪ ،‬فهـو قـد ينجـح فـي قيامـه بأعمال دعويـة‬
‫بيـن الناس‪ ،‬لكنهـا أعمال غيـر مؤثرة أو منتجـة ‪ ..‬يبذل جهدا‪،‬‬
‫وينفـق وقتـا ومال ولكـن دون أثـر إيجابـي يُذكـر‪ ،‬سـواء على‬
‫نفسه أو الخرين‪.‬‬
‫ل استثناء لحد‪:‬‬
‫‪ ..‬لو جاز لحـــد أن يترك نفســـه بدون زاد‪ ،‬لجاز لســـيد‬
‫البشر محمد ‪ ،e‬فمع انشغاله الشديد بتبليغ دعوة ربه‪ ،‬نجد‬
‫ب"‬‫ص ْ‬ ‫ت َ‬
‫فان ْ ِ َ‬ ‫فَر ْ‬
‫غ َِ‬ ‫فإِذَا َ‬
‫الخطاب اللهــي الموجــه إليــه‪َ " :‬‬
‫[الشرح‪ ،]7 :‬أي إذا فرغت من الجهاد‪ ،‬ودعوة الناس‪ ،‬فانصب‬
‫للعبادة(‪.)69‬‬
‫والذي يتأمـل واقعـه ‪ e‬يجده حريصـا على دوام ذكـر الله‪،‬‬
‫وقراءة القرآن‪ ،‬وقيام الليـل‪ ،‬لدرجـة أنـه لم يترك القيام فـي‬
‫سـفر أو حضـر كمـا أخـبرت بذلك السـيدة عائشـة رضـي الله‬
‫عنها(‪.)70‬‬
‫ولك أن تتأكــد أكثــر وأكثــر بضرورة عدم التهاون فــي‬
‫التزود اليومي بالزاد النافع إذا ما قرأت هذا الحديث‪:‬‬
‫عـن أوس بـن حذيفـة الثقفـي أنـه كان فـي الوفـد الذيـن‬
‫وفدوا على رسـول الله ‪ e‬مـن بنـي مالك فأنزلهـم فـي قبـة‬
‫فــي المســجد‪ ،‬قال‪ :‬فكان يأتينــا فيحدثنــا بعــد العشاء‪ ،‬وهــو‬
‫قائم حتى يراوح بين قدميه من طول القيام‪ ..‬فاحتبـس عنا‬
‫ليلة‪،‬‬
‫فقلنا‪ :‬يا رسول الله لبثت عنا الليلة أكثر مما كنت تلبث!‬
‫فقال‪« :‬نعم طََرأ‬
‫ى حزبِي مِن القرآن‪ ،‬فكرهِت أن أخرج مِن‬ ‫عل ّ‬
‫المسجد حتى أقضيه» ‪.‬‬
‫(‪)71‬‬

‫‪69‬‬
‫() انظر‪ :‬تفسير القرآن العظيم لبن كثير ‪.4/479‬‬
‫‪70‬‬
‫() رواه أبو داود‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫() رواه أبو داود‪ ،‬وابن ماجه‪ ،‬وأحمد‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪78‬‬
‫لكل مسلم‬

‫وعلى هذا النهج كان الصحابة ‪-‬رضوان الله عليهم‪ -‬كانوا‬


‫دومـا يوازنون بيـن الزاد والحركـة‪ ،‬ويدركون خطورة إهمال‬
‫التزود؛ فهذا عبـد الرحمـن بـن عبـد القاري يقـص علينـا قصـة‬
‫عجيبـة حدثـت له مـع عمـر بـن الخطاب ‪ ،‬يقول‪ :‬اسـتأذنت‬
‫على عمر بالهاجرة‪ ،‬فحبسني طويل‪ ،‬ثم أذن لي وقال‪ :‬إنـي‬
‫كنت في قضاء وردي(‪.)72‬‬
‫ب فعــل الوائل فــي المعارك‪ ..‬فعلى‬ ‫وإن تعجــب فعج ٌــ‬
‫الرغـم مـن الجهـد العظيـم الذي يُبذل فـي سـاحات القتال إل‬
‫أننـــا نجدهـــم يحرصـــون على قيام الليـــل‪ ،‬وتلوة القرآن‪،‬‬
‫والتضرع إلى الله عز وجل!! ولك أن تتأكد من هذا المعنى‬
‫بقراءة هذا الخبر‪:‬‬
‫بعــد معركــة القادســية؛ والتــي اســتمرت بضعــة أيام‪،‬‬
‫وانتهت بانتصار جيش المسلمين على جيش الفرس أرسل‬
‫قائد الجيش سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب‬
‫رسالة يبشره فيها بالفتح‪ ،‬فكان مما جاء فيها‪:‬‬
‫«وأصـيب مـن المسـلمين سـعد بـن عبيـد القارئ‪ ،‬وفلن‪،‬‬
‫وفلن‪ ،‬ورجال من‬
‫المســلمين ل يعلمهــم إل الله‪ ،‬فإنــه بهــم عالم‪..‬كانوا‬
‫يدوون بالقرآن إذا جن‬
‫عليهِِم الليِِل كدوى النحِِل‪ ،‬وهِِم آسِِاد فِِي‬
‫النهار ل تشبههم السود»(‪.)73‬‬
‫هكذا كانوا‪:‬‬
‫وعندمـا ننظـر إلى حال المصـلحين الذيـن كان لهـم أثـر‬
‫إيجابي في تاريخ‬
‫المـة‪ ،‬نجدهـم قـد حققوا التوازن بيـن الهتمام بتحصـيل‬
‫الزاد وبين الحركة وبذل الجهد في سبيل الله‪.‬‬
‫يقول القاضـي ابـن شداد عـن القائد العظيـم صـلح الديـن‬
‫اليوبي‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫() فضائل القرآن لبي عبيد الهروي‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫() البداية والنهاية لبن كثير ‪.7/50‬‬
‫‪79‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫وأما الصلة‪ ،‬فكان ‪-‬رحمه الله‪ -‬شديد المواظبة‬


‫عليها‪ ،‬حتى إنه ذكر‬
‫يومِا أنِه مِن سِنين مِا صِلى إل جماعِة‪ ،‬وكان‬
‫يواظب على السنن‬
‫الرواتِب‪ ،‬وكان له صِلوات يصِليها إذا اسِتيقظ‬
‫من الليل‪ ،‬وإل أتى بها‬
‫قبِِِل قيام الفجِِِر‪ ،‬وكان ‪-‬رحمِِِه الله‪ -‬يحِِِب‬
‫سماع القرآن العظيم‪ ،‬وكان‬
‫خاشِِع القلب‪ ،‬غزيِِر الدمِِع‪ ،‬إذا سِِمع القرآن‬
‫يخشع قلبه وتدمع عينه في‬
‫معظم أوقاته(‪.)74‬‬
‫وعندمـا نقرأ فـي رسـائل المام المجدد حسـن البنـا‪ ،‬نجـد‬
‫أن هذا المعنى واضح تمام الوضوح في كلمه‪.‬‬
‫يقول ‪-‬رحمـــه الله‪ -‬فـــي رســـالة إلى أي شيـــء ندعـــو‬
‫الناس‪:‬‬
‫المسـلم الحـق لخصـها الله تبارك وتعالى فـي‬ ‫َّ‬ ‫إن مهمـة‬
‫َ‬
‫عبُدُوا‬ ‫وا ْ‬ ‫جدُوا َ‬ ‫س ُ‬ ‫وا ْ‬ ‫عوا َ‬ ‫َ‬
‫من ُ َوا اْرك ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ِ‬ ‫قوله‪" :‬ي َا أي ُّ َ‬
‫في‬ ‫هدُوا ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م تُ ْ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬ ‫خيَْر ل َ َ‬ ‫علُوا ال ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫وا ْ‬ ‫م َ‬ ‫َربَّك ُ ْ‬
‫في‬ ‫م ِِ‬ ‫علَيْك ُِ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬‫ما َ‬ ‫و َِ‬‫م َ‬ ‫ج َتَبَاك ُِ ْ‬ ‫و َا ْ‬ ‫ه َ‬ ‫هاِد ِهِ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫قِّ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫الل ِهِ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ماك ُ‬ ‫س َّ‬ ‫و َِ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُ‬ ‫هي َِِ‬ ‫م إِبَْرا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ة أبِيك ْ‬ ‫ّ‬
‫مل َ‬ ‫ج ِّ‬ ‫حَر ٍِِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ِْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دّي ِِِ‬ ‫ال ِ‬
‫سو ُ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ن ال ّر َ ُِِ‬ ‫ُ‬
‫هذَا لِيَكو َِِ‬ ‫في َ‬ ‫و ِِِ‬ ‫ل َ‬ ‫من قب ْ ُ‬‫َ‬ ‫ن ِِِ‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬‫م ِِْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫موا‬ ‫قي ُ‬ ‫فأ ِ‬ ‫علَى الن ّا سِِ َ‬ ‫َ‬ ‫هدَاءَ َ‬ ‫ش َ‬ ‫وتَكُونُوا ُ‬ ‫م َ‬ ‫علَيْك ُِ ْ‬ ‫هيدًا َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ش ِ‬
‫م‬ ‫ِ‬
‫ُِ‬
‫ولَك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ُ‬ ‫موا بِالل ِِِ‬ ‫ص ُ‬ ‫عت َِِ ِ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫وآتُوا ال ّزكاةَ َ‬ ‫صلَةَ َ‬ ‫ال َِِّ‬
‫صيُر" [الحج‪.]78 ،77 :‬‬ ‫َ‬
‫م الن ّ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ون ِ ْ‬ ‫ولى َ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫ع َ‬ ‫فن ِ ْ‬ ‫َ‬
‫‪ ..‬هذا كلم بي ّـــِن ل لبـــس فيـــه ول غموض‪ ..‬يأمـــر الله‬
‫المســـلمين أن يركعوا ويســـجدوا وأن يقيموا الصـــلة‪ ،‬وأن‬
‫يفعلوا الخير ما استطاعوا‪...‬وتلك هي المهمة الفردية لكل‬
‫مســلم التـي يجــب عليــه أن يقوم بهـا بنفسـه فـي خلوة أو‬
‫جماعة‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫() رهبان الليل لسيد حسن العفاني ‪.436 ،1/435‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪80‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ثم أمرهم بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر‬


‫الدعوة وتعليمها بين الناس‪.‬‬
‫وقــد كشــف الله عــن ســر هذا التكليــف وحكمــة هذه‬
‫الفريضــة‪ ،‬فــبين لهــم أنــه اجتباهــم واصــطفاهم دون الناس‬
‫سوَّاس خلقـه‪ ،‬وأمنائه على شريعتـه‪ ،‬وورثـة رسـول‬ ‫ليكونوا ُـ‬
‫الله ‪ e‬فـي دعوتـه‪ ..‬وتلك هـي المهمـة الجماعيـة التـي ندب‬
‫الله إليهــا المســلمين جميعــا‪..‬أن يكونوا صــفا واحدًا‪ ،‬وكتلة‬
‫وقوة‪ ،‬وأن يكونوا هــم جيــش الخلص الذي ينقــذ البشريــة‬
‫ويهديها سواء السبيل‪.‬‬
‫ثـم أوضـح الحـق تبارك وتعالى للناس بعـد ذلك الرابطـة‬
‫بيـــن التكاليـــف الفرديـــة مـــن صـــلة وصـــوم‪ ..‬بالتكاليـــف‬
‫الجتماعية‪ ،‬وأن الولى وسيلة للثانية‪ ،‬وأن العقيدة الصحيحة‬
‫أسـاسهما معـا‪ ،‬حتـى ل يكون لناس مندوحـة مـن القعود عـن‬
‫فرائضهــم الفرديــة بحجــة أنهــم يعملون للمجموع‪ ،‬وحتــى ل‬
‫يكون لخرين مندوحة عن القعود عن العمل للمجموع بحجة‬
‫أنهم مشغولون بعباداتهم‪ ،‬مستغرقون في صلتهم بربهم‪.‬‬
‫ويستطرد قائل‪:‬‬
‫أيهـــا المســـلمون‪ ..‬عبادة ربكـــم‪ ،‬والجهاد فـــي ســـبيل‬
‫التمكيـن لدينكـم وإعزاز شريعتكـم هـي مهمتكـم فـي الحياة‪،‬‬
‫فإن أديتموها حق الداء فأنتم الفائزون‪ ،‬وإن أديتم بعضها أو‬
‫أهملتموهــا جميعــا فإليكــم أســوق قول الله تبارك وتعالى‪:‬‬
‫م إِلَيْن َِِا لَ‬ ‫وأَنَّك‬
‫‪ْ ُِِ)75‬‬ ‫َ‬ ‫عبَث ًِِا‬
‫م َ‬ ‫ْ‬ ‫قنَاك ُِِ‬‫خل َ ْ‬
‫ما َ‬
‫َ‬ ‫م أَن َِِّ‬ ‫ْ‬ ‫سبْت ُ‬
‫ح ِِِ‬‫ف َ‬‫”أ َ َ‬
‫ك الْحـ ّ‬ ‫ه الْمـل ِ ُ‬ ‫عالَى الل ُ‬
‫ُ (‬
‫ق"‬ ‫فت َ َ‬‫َ‬ ‫ن‬
‫عو َ‬‫ج ُ‬‫تُْر َ‬
‫[المؤمنون‪.]116 ،115 :‬‬
‫بأي الجوانب نبدأ؟!‬
‫بعـــد أن تعرفنـــا على الحتياجات التربويـــة الســـاسية‬
‫للمسلم وأهمية كل جانب منها يبقي السؤال‪ :‬بأي الجوانب‬
‫نبدأ؟!‬
‫عل َِم أَن َِّه ل َ إل َِه إلَّ‬ ‫بل شـك أن العلم هـو البدايـة‪َ " :‬‬
‫ِ َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫فا ْ ْ‬
‫ه" [محمــد‪ ،]19 :‬فالعلم أسـاس العمـل‪ ،‬ومـع ذلك فليـس‬ ‫الل ُِ‬
‫‪75‬‬
‫() رسالة إلى أي شيء ندعو الناس؟ ص ‪ 43 -41‬باختصار وتصرف يسير‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫المطلوب علما نظريا يعمق الفجوة بين القول والفعل‪ ،‬بل‬


‫نريده علما نافعا راسخا يزيد القلب خشية وإيمانا‪.‬‬
‫لذلك فعلينــا الجتهاد بتحصــيل أصــل العلوم وأنفعهــا‪ ،‬أل‬
‫وهـو «العلم بالله عِز وجِل»‪ ،‬والجتهاد فـي تحويـل هذه‬
‫المعرفة إلى إيمان‪.‬‬
‫ولن التربيــة اليمانيــة ‪-‬بمفهومهــا الصــحيح‪ -‬تركــز على‬
‫معرفـــة الله عـــز وجـــل‪ ،‬وتركـــز كذلك على ترجمـــة هذه‬
‫المعرفـة إلى معان يرسـخ مدلولهـا فـي القلب ‪-‬أي أنهـا قـد‬
‫جمعت بين الخيرين‪ -‬كان من المناسب البدء بجانب التربية‬
‫اليمانية‪.‬‬
‫من فوائد البدء بالتربية اليمانية‪:‬‬
‫هناك حلقـــة مفقودة بيـــن القوال والفعال‪ ،‬والســـبب‬
‫الرئيـس فـي ذلك هـو ضعـف اليمان‪ ،‬فعندمـا يهيمـن اليمان‬
‫الحي على القلب فإنه يولد في ذات صاحبه باستمرار طاقة‬
‫عظيمــة‪ ،‬وقوة روحيــة تدفعــه للقيام بالفعال التــي تناســب‬
‫المواقـــف المختلفـــة‪ ..‬لذلك فلو تجاوزنـــا البدء بالتربيـــة‬
‫اليمانيـة فإن الفجوة سـتزداد بيـن الواجـب والواقـع‪ ..‬فعلى‬
‫سبيل المثال‪:‬‬
‫ما‬
‫لو بدأنا بالتربية النفسية فإننا قد نقتنع أن بداخلنا أصنا ً‬
‫ينبغــي أن تزال‪ ،‬وأننــا مصــابون بداء العجــب واســتعظام‬
‫النفـس‪ ،‬ولكننـا لن نسـتطيع مقاومـة هذا المرض‪ ،‬والوقوف‬
‫له بالمرصاد‪ ،‬لضعف القوة الروحية اللزمة لذلك‪.‬‬
‫ونفس المر لو بدأنا بالتركيز على التربية الحركية وبذل‬
‫الجهـد فـي سـبيل الله‪ ،‬فسـيتحول المـر بمرور الوقـت إلى‬
‫أداء شكلي روتينـي بل روح‪ ،‬وسـيزحف إلى مـن يفعـل ذلك‬
‫الشعور بالفتور والوحشــة وضيــق الصــدر‪ ،‬وســيفقد تأثيره‬
‫على الخرين شيئًا فشيئًا‪.‬‬
‫مـــن هنـــا تظهـــر الحاجـــة إلى البدء بالتربيـــة اليمانيـــة‬
‫بمفهومهــا الصــحيح(‪ )76‬والذي يعمــل باســتمرار على توليــد‬
‫القوة الروحيـــة‪ ،‬وتنميـــة الدافـــع الذاتـــي‪ ،‬وتقويـــة الوازع‬
‫‪76‬‬
‫() نسأل الله عز وجل أن يتفضل علينا بكرمه‪ ،‬ويُيَّسر لنا إتمام كتاب «التربية‬
‫اليمانيـة» فلعلك تجـد فيـه – إن شئت‪ -‬مـا يعطيـك صـورة متكاملة عـن التربيـة‬
‫اليمانية بمفهومها الصحيح‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪82‬‬
‫لكل مسلم‬

‫الداخلي‪ ،‬وبـث الروح فـي القوال والفعال‪ ،‬ومـن ثـم يسـهل‬


‫المطلوبـــة لتحقيـــق‬ ‫على المرء بعـــد ذلك القيام بالعمال َ َّ‬
‫ن‬
‫ّ ِْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫هم‬ ‫ِ‬‫ُ‬ ‫ن‬
‫َِ‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ن ال‬ ‫أهداف التربيــة النفســية والحركيـ َـة "إ ِِ ّ‬
‫م‬
‫ه ِْ‬ ‫ت َر َّب ِّ ِ‬ ‫هم بِآيَا ِِ‬ ‫ن ُِ‬ ‫ذي َِ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫قو َِ‬ ‫ف ُ‬‫ش ِ‬ ‫م ْ‬‫هم ُّ‬
‫ة َرب ّ ِِ ِ َّ‬ ‫شي َ ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َِ‬ ‫وال ِ‬ ‫ن‬
‫ركو َِ‬ ‫ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ْ‬ ‫ملي‬‫َ‬ ‫ه ِْ‬ ‫ب‬ ‫هم‬ ‫ن‬
‫َ َ ِ َِ ُِ ُ َِرب ِّ ِ‬ ‫ذي‬ ‫وال‬ ‫ن‬
‫منُو َِ‬ ‫ي ُؤ ِ‬ ‫ْ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫َ‬
‫ى‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ة ُ أَ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫جل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫قل‬‫ُ‬ ‫و‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫آ‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫يُ ْ‬
‫ؤت ُ‬
‫َ ِّ ِ ِِْ‬ ‫ُ ِِْ ِ‬ ‫ُ ُ ِِْ َ ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َِِ‬ ‫َِِ‬
‫ها‬ ‫َِ‬
‫مل َ‬ ‫ه ِْ‬ ‫و ُ‬ ‫ت َ‬ ‫خيَْرا ِِ‬ ‫في ال َ‬ ‫ْ‬ ‫ن ِِ‬ ‫عو َ‬ ‫ر ُ‬‫سا ِ‬ ‫َ‬
‫ن أولئ ِِك ي ُِ َ‬‫َ‬ ‫عو َِ‬ ‫ج ُ‬ ‫َرا ِ‬
‫ن" [المؤمنون‪.]61 ،57 :‬‬ ‫َ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ساب‬
‫َ ِ‬
‫***‬
‫‪83‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫الرؤيـــــة التربو يـــــة‬

‫بعـد أن تعرفنـا على الحتياجات التربويـة للفرد المسـلم‪،‬‬


‫وضرورة التكامـل بينهـا‪ ،‬وخطورة إهمال جانـب منهـا‪ ،‬يصـبح‬
‫من اليسير تشخيص الحالة التربوية لي شخص‪.‬‬
‫بمعنـى أن المحاور التربويـة الربـع السـابق ذكرهـا يمكنهـا‬
‫أن تُشكــــل المنظار الذي مــــن خلله يتــــم تقييــــم الفرد‬
‫واحتياجاته التربوية‪.‬‬
‫فعلى ســـبيل المثال‪ :‬لو تحدث إنســـان وأجاد التعـــبير‪،‬‬
‫وجادل وناظـر‪ ،‬وأبهـر مـن حوله بمعلوماتـه الغزيرة فإن ذلك‬
‫ينبغـي أل يبهـر المربـي الذي يريـد تحديـد مسـتواه واحتياجاتـه‬
‫التربويـة‪ ،‬فالعلم الغزيـر ل يكفـي‪ ،‬ناهيـك عـن مدى قربـه أو‬
‫بعده مــن مفهوم العلم النافــع‪ ،‬بــل لبــد وأن يصــحبه التزام‬
‫صــحيح بالعبادات والمعاملت فـي دوائر الحركـة المختلفــة‪،‬‬
‫ضا‪ :‬جهـد يبذل‬ ‫مـع نكران للذات وتواضـع غيـر مصـطنع‪ ،‬وأي ًـ‬
‫في سبيل الله وتبليغ دعوته‪.‬‬
‫الرؤيــة التربويــة إذن هــي «المنظار» الذي مــن خلله‬
‫يتم تحديد جوانب النقص التربوي عند الفرد أي ًّا كان موقعه‬
‫أو عمره أو ثقافتـــه‪ ،‬وعلى ضوء هذه الرؤيـــة يتـــم تحديـــد‬
‫احتياجاته التربوية‪.‬‬
‫ضوابط ل بد منها‪:‬‬
‫وممــــا تجدر الشارة إليــــه أن هذا المنظار ينبغــــي أن‬
‫يستخدمه كل منا مع نفسه أول‪ ،‬وأن يوجهه إلى ذاته ليرى‬
‫جوانب نقصه‪ ،‬ويحدد احتياجاته‪.‬‬
‫وفـي المقابـل عليـه أل يوجهـه إلى الخريـن طالمـا أنـه ل‬
‫يقوم على أمــر تربيتهــم‪ ،‬فليــس المطلوب منــا تقييــم مــن‬
‫حولنا طالما ل يوجد مبرر شرعي لذلك‪.‬‬
‫ولنتذكر أن من أعظم شهوات النفس الخفية الكلم عن‬
‫الخريــن‪ ،‬وتقييــم مواقفهــم‪ ،‬وتجريحهــم لنهــا حينئذ تشعــر‬
‫بتميُّزها عليهم‪ ،‬ومما يجعلها تستصغر أي نقص لديها‪ ،‬وشيئًا‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪84‬‬
‫لكل مسلم‬

‫فشيئًا يتعود المرء على ذلك حتـــى يتحقـــق فيـــه قوله ‪:e‬‬
‫«يبصِِر أحدكِِم القذى فِِي عيِِن أخيِِه‪ ،‬وينسِِى‬
‫الجذع في عينه»(‪.)77‬‬
‫أ ما المربـي الذي يتولى أمـر تربيـة غيره كالب مـع أبنائه‪،‬‬
‫فله أن يســــتخدم هذا المنظار معهــــم‪ ،‬ويحدد مــــن خلله‬
‫احتياجاتهم التربوية‪ ،‬بعد أن يكون قد وجهه إلى نفسه أول‪،‬‬
‫واجتهـد فـي اسـتكمال مـا ينقصـه‪ ،‬حتـى ل تكون هذه الرؤيـة‬
‫فتنــة له‪ ...‬يقول ابــن عطاء‪ :‬مــن اطلع على أســرار العباد‪،‬‬
‫ولم يتخلق بالرحمـة اللهيـة كان اطلعـه فتنـه عليـه‪ ،‬وسـببا‬
‫لجر الوبال إليه‪.‬‬
‫جاء فــي كتاب الزهــد للمام أحمــد عــن مالك بــن دينار‬
‫قال‪ :‬أوحـى الله إلى عيسـى ‪ :‬أن يـا عيسـى عـظ نفسـك‬
‫فإن اتعظت فعظ الناس وإل فاستحي مني‪.‬‬
‫***‬

‫‪77‬‬
‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)8013‬‬
‫‪85‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫اســــتمرارية التربيـــــة‬

‫كان هناك شخص حريص على تنمية ذاته‪ ...‬كثير القراءة‬


‫والطلع‪ ...‬واســع المعرفــة‪ ،‬منضبطــا فــي التزامــه بأوامــر‬
‫الشرع‪ ،‬مســارعا فــي الخيرات‪ ،‬له جهــد يبذله فــي دعوة‬
‫الناس إلى الله‪ ،‬وكان حديثه شيق ًا مؤثًرا يحمل دوما الجديد‬
‫والجديد‪.‬‬
‫واســتمر على ذلك الحال ســنوات طويلة‪ ،‬ثــم بدا له أن‬
‫ينتقـل مـن عمله الذي يعمـل فيـه سـاعات قليلة إلى عمـل‬
‫آخــر يحقــق مــن خلله طموحــه الوظيفــي الدنيوي‪ ،‬وكانــت‬
‫ضريبـــة هذا النتقال اســـتهلك هذا العمـــل لغلب وقتـــه‪،‬‬
‫لينعكـس ذلك على حياتـه والتزامـه وجهده الدعوى‪ ،‬فالوقـت‬
‫مستهلك‪ ،‬والجسد منهك‪ ،‬ومن ثم ل يكاد يجد وقتا يمد فيه‬
‫عقله بالعلم النافـع‪ ،‬ول قلبـه باليمان‪ ،‬ول نفسـه بالترويـض‬
‫والجهاد‪ ،‬فكانت النتيجة أن تغير حاله بالسلب‪ ،‬وأصبح جهده‬
‫فـــي الدعوة قليـــل‪ ،‬وأثره ضعيـــف‪ ،‬إن تكلم فـــي الدعوة‬
‫فكلمــه مكرر يفتقــد الحماس والروح‪ ...‬تغيرت اهتماماتــه‪،‬‬
‫وطموحاته لتتجه أكثر وأكثر نحو الرض والطين‪.‬‬
‫هذه الحالة التي تزداد نسبة وجودها يوما بعد يوم تدفعنا‬
‫للحديث عن ضرورة استمرارية التربية‪.‬‬
‫إلى متي التربية؟!‬
‫يقول السـتاذ محمـد قطـب‪« :‬التربيـة ل تنقطـع ول تتوقـف‬
‫عنــد فترة معنيــة‪ ،‬ول ينصــرف الناس عنهــا إلى أمــر آخــر‪ ،‬لن‬
‫المر الذي استوجبها دائم ل ينقطع ول يتوقف»(‪.)78‬‬
‫فطالما أن النسان حي فهو بحاجة إلى تغذية مستمرة‬
‫لمكوناته الربع؛ فالتوجيه اللهي بعبادة الله حتى الموت‬
‫ن" [الحجر‪ ،]99 :‬يستلزم‬ ‫قي ُ‬ ‫حتَّى يَأْتِي َ َ‬
‫ك الْي َ ِ‬ ‫عبُدْ َرب َّ َ‬
‫ك َ‬ ‫وا ْ‬
‫" َ‬
‫استمرار التعاهد والنماء ودفع المضار عن المكونات الربع‬
‫وجل وتستمر حتى‬ ‫َّ‬ ‫حتى تتحقق العبودية الحقة لله عز‬
‫َ‬
‫منُوا‬
‫منُوا آ ِ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬
‫ها ال ِ‬‫الممات‪ ..‬تأمل قوله تعالى‪" :‬يَا أي ُّ َ‬
‫‪78‬‬
‫() مكانه التربية في العمل السلمي ص ‪ -28‬دار الشروق‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪86‬‬
‫لكل مسلم‬
‫َ‬
‫ه‬
‫سول ِ ِ‬‫علَى َر ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ذي نََّز َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫والْكِتَا ِ‬ ‫ه ََ‬‫سول ِ ِ‬ ‫وَر ُ َّ‬ ‫ه َ‬ ‫بِالل ِ‬
‫َ‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫من يَكفْر بِالل ِ‬
‫َ‬ ‫و َ‬ ‫ُ‬
‫من قب ْل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذي أنَْزل ِ‬ ‫ب ال ِ‬ ‫والْكِتَا ِ‬ ‫َ‬
‫ضلَلً‬
‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قدْ َ‬ ‫ف َ‬
‫ر َ‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫وم‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫وال‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫َ‬ ‫مل‬ ‫و‬
‫ِ‬ ‫َ َ ْ ِ‬ ‫َ ِ َ ُ ُ‬ ‫َ َ‬
‫بَِعيدًا" [النساء‪( ،]136 :‬أي حافظوا على إيمانكم‪ ،‬استمروا فيه‪،‬‬
‫ل تغفلوا عنه‪ ..‬ل تفتروا عن المحافظة عليه‪ ..‬ل تفتروا عن‬
‫معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه) (‪.)79‬‬
‫وممــا يؤكــد هذا المعنــى قوله ‪« :e‬إن اليمان يخلق‬
‫في القلوب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم»(‪.)80‬‬
‫يقول د‪ .‬عبــد الســتار فتــح الله فــي تعليقــه على هذا‬
‫الحديث‪:‬‬
‫والحديــث مــن جوامــع الكلم‪ ،‬وهــو على إيجازه يشتمــل‬
‫على حقيقـــــة نفســـــية مؤكدة‪ ،‬وعلى تشـــــبيه يجعلهـــــا‬
‫كالمحسوس‪ ،‬وعلى أمر صريح بتجديد اليمان‪.‬‬
‫انظــر إلى ثيابــك ‪-‬مثل‪ -‬كــم يُبذل فيهــا غســل‪ ،‬وإصــلحا‪،‬‬
‫ومحافظة‪ ،‬ورتقا‪ ،‬ثم تجديدًا شامل ً إذا بليت‪ ،‬وهذا يتكرر مع‬
‫الساعات واليام‪ ،‬والشهور والعوام‪ ،‬ول يمل منه أحد‪.‬‬
‫ول شــك أن (اليمان) أولى وأجدى وأبقــى‪ ،‬فينبغــي أن‬
‫تتعهده ليظل على إشراقه في القلوب(‪.)81‬‬
‫(إن القلب البشري ســريع التقلب‪ ،‬ســريع النســيان‪ ،‬وهــو‬
‫يشـف ويشرق فيفيـض بالنور‪ ...‬فإذا طال عليـه المـد بل تذكيـر‬
‫ول تذكر‪ ،‬تبلد وقسا‪ ،‬وانطمست إشراقته‪ ،‬وأظلم وأعتم‪ ،‬فلبد‬
‫من تذكير هذا القلب‪ ..‬ولبد من اليقظة الدائمة كي ل يصيبه‬
‫التبلد والقساوة) (‪.)82‬‬
‫عتاب للصفوة‪:‬‬
‫لعل في عتاب الله ‪-‬عز وجل‪ -‬للصحابة ما يجعلنا نجتهد‬
‫المســتمر لذواتنــا‪ ..‬هذا العتاب‬
‫َّ‬ ‫دومــا فــي المداد التربوي‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ع‬ ‫َ‬
‫خش َ‬‫منُوا أن ت َ ْ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬
‫ن لِل ِ‬ ‫نجده في قوله تعالى‪+ :‬أل َ ْ‬
‫م يَأ ِ‬
‫‪79‬‬
‫() المصدر السابق ص ‪.26‬‬
‫‪80‬‬
‫ي‪.‬‬
‫() رواه المام أحمد وغيره‪ ،‬وخلق الثوب بمعني بَل َ‬
‫‪81‬‬
‫() آن الوان لتجديد اليمان ص ‪.6‬‬
‫‪82‬‬
‫() في ظلل القرآن ‪.6/3489‬‬
‫‪87‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫ول َ يَكُونُوا‬ ‫ق َ‬ ‫ح ِِ ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َِ‬
‫ل ِ‬‫ما نََز َ‬‫و َِ‬
‫ه َ‬ ‫ر الل ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ذك ْ‬
‫م ُل ِ ِ‬
‫ه ِْ‬‫قل ُ َوب ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫مدُ‬
‫م ال َ‬ ‫ه ُِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫من قب ْل فطال َ‬ ‫ب ِِ‬ ‫ن أوتُوا الكِتَا َِ‬
‫ُ‬
‫ذي َِ‬ ‫كال ِ‬
‫م" [الحديد‪.]16 :‬‬ ‫ه‬
‫ُ ُ ْ‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫قل‬‫ُ‬ ‫ت‬‫ق َ ْ‬
‫س‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫وقد روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة‪ ،‬فلما هاجروا‬
‫أصـابوا الرزق والنعمـة ففتروا عمـا كانوا عليـه مـن الخشوع‪،‬‬
‫فنزلت الية‪.‬‬
‫وعن ابن مسعود ‪ :‬ما كان بين إسلمنا وبين أن عوتبنا‬
‫بهذه اليــة إل أربــع ســنين‪ ،‬واليــة مدنيــة بالجماع‪ ،‬ولعــل‬
‫المقصـود (هجرتنـا) بدل (إسـلمنا) كمـا يقول د‪ .‬عبـد السـتار‬
‫فتح الله‪ ،‬وذلك للجمع بينها وبين الرواية التالية‪:‬‬
‫عـن ابـن عباس رضـي الله عنهمـا‪ :‬إن الله اسـتبطأ قلوب‬
‫المؤمنيــن فعاتبهــم على رأس ثلث عشرة ســنة مــن نزول‬
‫القرآن الكريم(‪.)83‬‬
‫فمهمِِا تقدم عمِِر المرء‪ ،‬ومهمِِا ارتقِِى فِِي‬
‫سِِلم المسِِئولية فلبِِد له مِِن السِِتمرار فِِي‬
‫التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية لله عز‬
‫وجِِل‪،‬وأن تشمِِل هذه التربيِِة المكونات الربِِع‬
‫السابق ذكرها‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫() تفسير القرآن العظيم لبن كثير ‪ -4/279‬مكتبة العبيكان‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪88‬‬
‫لكل مسلم‬

‫لماذا ل تظهر ثمرة التربية؟!‬

‫ثمرة التربيــة هــي ظهور المســلم الصــالح المصــلح‪ ،‬أو‬


‫بعبارة أخرى‪ :‬ظهور المســلم العالم بربــه‪ ،‬الفاهــم لدينــه‪،‬‬
‫العارف بزمانــه الذي تتمثــل فيــه معانــي الســلم بصــورة‬
‫صـحيحة مـن إخلص لله‪ ،‬وإحسـان فـي عبادتـه‪ ،‬وتضحيـة مـن‬
‫أجله‪ ،‬وعمـل دائب فـي سـبيله‪ ،‬وصـبر وثبات على طريقـه‪،‬‬
‫وأخوة صادقة مع إخوانه المسلمين‪ ..‬ويصبغ هذا كله بصبغة‬
‫التواضع ونكران الذات‪.‬‬
‫‪ ..‬هذا الثمرة ينبغــي أن تكون نتاج الجهــد الذاتــي الذي‬
‫يبذله الفرد مـــع نفســـه‪ ،‬ويبذله معـــه المربون (كالبويـــن‬
‫وغيرهمــا) على مســار حياتــه‪ .‬ولكــن الواقــع ل يقول ذلك‪،‬‬
‫فعلى الرغـم مـن الجهـد الكـبير الذي يُبذل فـي مجال التربيـة‬
‫إل أن الشكوى متكررة من عدم ظهور الثمرة المرجوة من‬
‫هذا الجهد‪.‬‬
‫ولن التربية هي الطريق الصحيح للتغيير ومن ثم إصلح‬
‫الفرد والمـة‪ ،‬فل مناص مـن التفكيـر العميـق الجاد فـي هذه‬
‫الشكوى والبحث عن السباب الحقيقيـة لعدم ظهور الثمرة‬
‫ولعـل الصـفحات السـابقة قـد ألقـت الضوء على بعـض هذه‬
‫السباب‪ ،‬إل أن هناك أسبابًا أخرى تسهم ‪-‬إلى حد كبير‪ -‬في‬
‫عدم ظهور ثمرة التربية‪ ،‬منها‪ :‬عدم وجود الستعداد الكافي‬
‫لدي الفرد للتربية والتغيير‪.‬‬
‫ومنهــا كذلك اكتمال ملء الفراغات التكوينيــة الرئيســة فــي‬
‫شخصـيته ‪-‬سـواء كان ذلك بطريقـة صـحيحة أو خاطئة‪ -‬ممـا يحول‬
‫بينه وبين حسن التلقي لي جديد‪ ،‬ومن ثم التغيير‪.‬‬
‫السن الصغيرة والستعداد الكبير‪:‬‬
‫مـن أهـم عناصـر نجاح العمليـة التربويـة‪ :‬وجود السـتعداد‬
‫للتلقي والتوجيه والتغيير لدي الفرد‪.‬‬
‫هذا الســتعداد يكون كــبيًرا فــي الصــغر‪ ،‬ويتناقــص بمرور‬
‫اليام والشهور والسنين‪.‬‬
‫وتحليـل ذلك أن الطفـل بعـد ولدتـه يبدأ شيئًا فشيئًا فـي‬
‫‪89‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫تحســس خطواتــه فــي الدنيــا فيفاجــأ أنــه يحتاج إلى الكثيــر‬


‫والكثير كي يستطيع التعامل مع الموجودات المختلفة‪.‬‬
‫ينظـر لمن حوله فيجدهـم يحسـنون التعامـل مـع كل شيـء‪..‬‬
‫مـع الماء‪ ،‬مـع النار‪ ،‬مـع البواب والنوافـذ‪ ،‬مـع التلفاز والجهزة‬
‫المختلفـة‪ ،‬بينمـا ل يســتطيع هــو أن يفعــل مثلهـم‪ ،‬لذلك ينظــر‬
‫إليهـــم نظرة إجلل وإكبار‪ ،‬ويضعهـــم فـــي مقام الســـتاذية‬
‫والتوجيه‪ ،‬فيسلم لهم قياده‪ ،‬ويُمل ِّكهم من ذاته بالكلية ليمدوه‬
‫بخـبراتهم ومـا تعلموه فـي الحياة‪ ،‬ومـا يعتقدونـه مـن مفاهيـم‬
‫وأفكار سـواء كانـت صـحيحة أم خاطئة ‪-‬وفـي الغالب تكون أول‬
‫جهـة لذلك التوجيـه هـي البوان اللذان تتفتـح عيناه فـي الدنيـا‬
‫فيجدهما أمامه‪.‬‬
‫فالبن في السن الصغيرة ينظر إلى أبويه نظرة استعظام‪،‬‬
‫لما يراه منهما من قدرة على التعامل مع الشياء ولنهما أيضا‬
‫مصـدر شعوره بالراحـة والمان والشبـع‪ ،‬لذلك فهـو يتأثـر بهمـا‬
‫تأثًرا بالغـا‪ ،‬ويأخـذ منهمـا كـل مـا يمكـن أخذه فـي هذه السـن‪..‬‬
‫وفــي هذا المعنــى يقول ‪« :e‬مِِا مِِن مولود إل يولد على‬
‫الفطرة‪ ،‬فأبواه يهودانِِِِِِِِِِه‪ ،‬أو ينصِِِِِِِِِِرانه‪ ،‬أو‬
‫يمجسانه»(‪.)84‬‬
‫فعلى سـبيل المثال‪ :‬الطفـل الذي يولد فـي الصـين يولد‬
‫وهـو ل يعرف الصـينية لكنـه يجـد أبويـه ينطقان بأصـوات ل‬
‫يعرفهــا‪ ،‬وتؤدي هذه الصــوات إلى حدوث التفاهــم بينهمــا‪،‬‬
‫وقيام كـل منهمـا بأفعال نتيجـة سـماعه لهـا‪ ،‬فهـو يسـمع أمـه‬
‫تقول شيئًا فيحضـر أبوه شرابـا (الماء)‪ ،‬ويسـمعها تقول شيئًا‬
‫ما‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى زيادة شغفــه‬ ‫آخــر فيحضــر طعا ً ـ‬
‫لتعلم هذه الصـوات‪ ،‬فينصـت لهمـا‪ ،‬ويتعلم منهمـا ليكتسـب‬
‫بمرور الوقـت القدرة على الفهـم والنطـق والتعامـل باللغـة‬
‫الصينية‪.‬‬
‫هذا الطفــل لو ولد فــي الهنــد لتعلم الهنديــة‪ ،‬ولو ولد فــي‬
‫مصـر لتعلم العربيـة‪ ،‬فالبـن يعتـبر أبويـه همـا عالمـه ومصـدر‬
‫توجيهـه‪ ،‬لذلك يسـتسلم لهمـا‪ ،‬ويأخـذ منهمـا كـل مـا يمكـن أخذه‬
‫من أقوال وأعمال وردود أفعال‪،‬وتعامل مع الشياء مهما كانت‬
‫نوعية هذه المور‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪90‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ل كذلك‬ ‫وكلمـا كـبر سـن هذا الطفـل قـل احتياجـه للخريـن وق َّ‬
‫استعداده للتلقي منهم‪ ،‬وتبدلت نظرته لغيره من نظرة انبهار بما‬
‫عندهم إلى نظرة عادية‪ ،‬فقد أصبح يمتلك رصيدًا ل بأس به من‬
‫المعرفــة والتجارب والمعتقدات تمكنــه مــن الســير فــي الحياة‬
‫ل احتياجــه للخريــن قلت‬ ‫والتعامــل مــع مســتجداتها‪ .‬فإذا مــا ق َّ‬
‫رغبته في التلقي منهم‪ ،‬وهذا ل يحدث في يوم وليلة بل يتناقص‬
‫شعوره بالحتياج للخريـــن تدريجي ًـــا بعـــد مرور ســـنوات عمره‬
‫الولى‪ ..‬هذا التناقـص يعكـس تقلص مسـاحة الفراغات الموجودة‬
‫في شخصيته‪.‬‬
‫اليقين الراسخ وصعوبة تغييره‪:‬‬
‫ضيـة‬‫مر ِ‬
‫والسـبب الخـر لعدم ظهور ثمرة التربيـة بصـورة ُ‬
‫هو رسوخ بعض المفاهيم والمعتقدات داخل النسان سواء‬
‫كانــت صــحيحة أو خاطئة‪ ..‬هذا الرســوخ يزداد عمقــا كلمــا‬
‫تقدم العمر‪،‬ومن ثم فإن تغييره يصبح أمًرا عسيرا‪.‬‬
‫ولئن كانـت التربيـة السـلمية هـي إحداث أثـر «إيجابـي»‬
‫دائم فــي ذات النســان‪ ،‬فإن هذا الثــر الدائم تزداد صــعوبة‬
‫إحداثه كلما تقدم العمر وذلك لرسوخه وتأصله‪.‬‬
‫‪ ..‬هذا الرســــوخ يزداد عمقــــا وتجذرا بمرور الســــنين‪،‬‬
‫ويصبح كالجبال الرواسي‪.‬‬
‫صا متواضعًـا يقبـل النصـح مـن‬ ‫فلو فرضنـا أن هناك شخ ًـ‬
‫الخريـن‪ ،‬ويعطـي لهـم سـمعه‪ ،‬وبصـره‪ ،‬ولديـه اسـتعداد جيـد‬
‫للتلقــي مــن غيره فإن هذا ل يكفــي فــي عمليــة التغييــر‬
‫الجذري؛ لنـه مهمـا بلغـت قوة تأثيـر الخريـن عليـه إل أنهـا ل‬
‫تصـل للحـد الذي يؤدي إلى إحداث التغييـر وزلزلة مـا رسـخ‬
‫لديه وأصبح كالجبال الرواسي‪.‬‬
‫‪ ..‬نعــم‪ ،‬قــد يتأثــر بمــا يســمع أو يقرأ‪ ،‬لكنــه فــي الغالب‬
‫ســيكون تأثًرا لحظي ً ـا وســرعان مــا يعود لســابق حاله الذي‬
‫يعكس ما رسخ لديه من مفاهيم ومعتقدات وتصورات‪.‬‬
‫وهذا مما يفسر لنا عدم ظهور ثمرة التربية‪.‬‬
‫هل نترك التربية؟!‬
‫هذا الحديث عن أسباب عدم ظهور ثمرة التربية بصورة‬
‫صـحيحة ليـس معناه ترك التربيـة‪ ،‬فالتربيـة أمـر ل بديـل عنـه‬
‫إن أردنـا تغييـر مـا بأنفسـنا وإصـلح حال المـة‪ ،‬ولكـن معناه‬
‫‪91‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫البحـث والتركيـز على وسـائل ذات أثـر بالغ فـي القوة‪ ،‬لكـي‬
‫نتمكن بعون الله من التأثير في الثوابت الخاطئة التي تربينا‬
‫عليهـا منـذ الصـغر‪ ،‬وزلزلتهـا‪ ،‬وإبدالهـا بالمعتقدات والمفاهيـم‬
‫الصحيحة(‪.)85‬‬
‫ومعناه كذلك الهتمام الشديــــــد بتنشئة الطفال تنشئة‬
‫صحيحة قدر المستطاع حتى يستقيم عودهم منذ البداية‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫() لعـل هذا الكلم يجيـب عـن تسـاؤل المتسـائلين عـن السـبب الذي يدفـع كاتـب هذا‬
‫الســطور إلى كثرة الحديــث عــن القرآن‪ ،‬فالقرآن ل يوجــد له مثيــل فــي قوة تأثيره‬
‫وزلزلتــه لكــل الفكار والتصــورات الخاطئة وهدمهــا‪ ،‬حتــى ولو كانــت هذه الفكار‬
‫والتصورات قد رسخت في يقين النسان رسوخ الجبال الرواسي‪ ،‬فالقرآن قادر بإذن‬
‫مكانهـا‪ ،‬ألم يقـل سـبحانه فـي وصـف قوة‬ ‫الصـحيحة َ َ‬ ‫هدمهـا وإحلل المفاهيـم‬ ‫الله على‬
‫ة‬
‫شي َ ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬‫م ِّْ‬
‫عا ِّ‬‫دّ َ ً‬
‫ص ِ‬ ‫عا ُّ‬
‫مت َِ َ‬ ‫ش ًِ‬‫خا ِ‬ ‫ه َ‬‫ل ل َّرأيْت َِ ُ‬
‫جب َ ٍ‬‫عل ََِى َ‬
‫ن َ‬ ‫قْرآ َِ‬ ‫و أَنَْزلْن َِا َ‬
‫هذَا ال ْ ُ‬ ‫تأثيره‪﴿ :‬ل َ ْ‬
‫ت ب ِِ ِ‬
‫ه‬ ‫ع ِْ‬‫قطِ َ‬ ‫و ُ‬ ‫لأ ْ‬ ‫جبَا ُ‬ ‫ْ‬
‫ه ال ِ‬ ‫ت ب ِِ ِ‬‫سيَِّر ْ‬ ‫قْرآن ًِا ُِ‬ ‫َ‬
‫ن ُ‬ ‫وأ ّ‬ ‫َ‬
‫ول ْ‬ ‫[الحشـر‪ْ ،]21 :‬وقال‪َ ﴿ :‬‬ ‫الل َ ِهِ﴾‬
‫َ‬
‫وت َى﴾ [الرعد‪ ،]31 :‬وجواب الشرط محذوف وتقديره‪ :‬لكان‬ ‫م ْ‬ ‫م بِ ِ‬
‫ه ال َ‬ ‫و كُل ِّ َ‬
‫ضأ ْ‬ ‫الْر ُ‬
‫هذا القرآن‪ ..‬ولعـل مـا حدث مـن تغييـر جذري فـي جيـل الصـحابة خيـر دليـل على مدي‬
‫قوة تأثير القرآن‪ ،‬فلقد كان منهم من تعدى الثلثين والربعين والخمسين سنة وقت‬
‫إسلمه‪ ،‬ومع ذلك صنع القرآن منهم جيل فريدًا ل زالت تفخر به البشرية حتى الن‪.‬‬
‫ولئن كانـت التربيـة ل بديـل عنهـا لصـلح الفرد والمـة؛ ولئن كان الجهـد المبذول فيهـا‬
‫على ضخامتـه ل يأتـي بالثمرة المطلوبـة‪ ،‬فإن الحـل المثـل لهذا الشكاليـة يكمـن فـي‬
‫العودة الصــحيحة إلى القرآن‪ ،‬وحســن التعامــل معــه‪ ،‬والتعرض لقوة تأثيره‪ ،‬وتحقيــق‬
‫الوصـال بينـه وبيـن العقـل والقلب‪ ،‬وبالضافـة إلى القرآن تأتي الوسـائل التربويـة الخرى‬
‫كوسائل تكميلية‪ ،‬وفي المقابل فإننا إن تجاوزنا القرآن كوسيلة متفردة للتأثير والتغيير‬
‫فسنظل نعاني ونشكو ونتساءل لماذا ل نتغير ول نتحسن؟!‬
‫والناظـر فـي تاريـخ المصـلحين يجـد أن محور دعوتهـم كان يركـز على العودة الصـحيحة‬
‫للقرآن‪ ،‬والنتفاع بقوة تأثيره الضخمة‪ ،‬ومن هؤلء بديع الزمان النورسي‪ ،‬محمد إقبال‪،‬‬
‫حسن البنا‪ ،‬عبد الحميد بن باديس وسيد قطب‪.‬‬
‫يقول محمـد إقبال‪ :‬إن القرآن ليـس بكتاب فحسـب‪ ...‬إنـه أكثـر مـن ذلك‪ ،‬إذا دخـل‬
‫القلب تغيـر النسـان‪ ،‬وإذا تغيـر النسـان تغيـر العالم (روائع إقبال ص ‪ .)158‬وعندمـا‬
‫تحدث المام حسـن البنـا عـن مقاصـد الدعوة قال‪ :‬تصـحيح فهـم المسـلمين لدينهـم‪،‬‬
‫حا‪ ..‬ثـم جمـع المسـلمين عمليـا على مبادئ‬ ‫حا واض ًـ‬ ‫وشرح دعوة القرآن الكريـم شر ًـ‬
‫كتابهــم الكريــم بتجديــد أثره البالغ القوى فــي النفوس (رســالة فــي اجتماع رؤســاء‬
‫المناطق)‪.‬‬
‫ويقول عبد الحميد بن باديس‪ :‬ل فلح للمسلمين إل بالرجوع إلى هدايته‪ ،‬والستقامة‬
‫على طريقته‪.‬‬
‫ويقول سـيد قطـب‪ :‬إن الناس يخسـرون الخسـارة التـي ل يعارضهـا شيـء بالنصـراف‬
‫عن هذا القرآن‪..‬وإن الية الواحدة‪ ،‬لتصنع أحيانا في النفس ‪-‬حين تستمع لها وتنصت‪-‬‬
‫أعاجيــب مــن النفعال والتأثيــر والســتجابة والتكيــف والرؤيــة والدراك والطمأنينــة‬
‫والراحة‪ ،‬والنقلة البعيدة فـي المعرفـة الواعيـة المسـتنيرة‪ ..‬ممـا ل يدركـه إل مـن ذاقه‬
‫وعرفه!‬
‫وإن العكوف على هذا القرآن فـي وعـي وتدبر ل مجرد التلوة والترنـم! لينشـئ فـي‬
‫القلب والعقـــل مـــن الرؤيـــة الواضحـــة البعيدة المدى‪ ،‬ومـــن المعرفـــة المطمئنـــة‬
‫المسـتيقنة؛ ومـن الحرارة والحيويـة والنطلق! ومـن اليجابيـة والمعرفـة والتصـميم مـا‬
‫ل تدانيه رياضة أخرى أو معرفة أو تجريب! (في ظلل القرآن ‪.)3/1425‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪92‬‬
‫لكل مسلم‬

‫الخطوة الولى‪ ...‬عزم وتوكل‬

‫لو أن صاحب شركة من الشركات قد أيقظه رنين‬


‫الهاتف في منتصف الليل‪ ،‬وأخبره المتصل بأنه قد حدث‬
‫حريق في الشركة‪ ..‬ماذا تتوقع أن يكون رد فعله؟ هل‬
‫سيقول في نفسه‪ :‬سأذهب لطمئن على الوضع في‬
‫الصباح ثم يستكمل نومه؟ بالتأكيد سيفزع ويشعر بالخطر‬
‫الشديد‪ ،‬ويسارع إلى الشركة باذل غاية جهده في محاولة‬
‫تقليل الخسائر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه‪ ،‬فالشعور بالخطر هو‬
‫الذي يحرك العزائم‪ ،‬ويستنفر الطاقات المخزونة في ذات‬
‫النسان؛ ولقد أكد هذا المعنى قوله ‪« :e‬من خاف أدلج‬
‫ومن أدلج بلغ المنزل»(‪.)86‬‬
‫مـــن هنـــا نقول بأن اســـتشعار خطـــر ترك التربيـــة‬
‫الصـــحيحة المتكاملة المؤثرة للفرد والمـــة هـــو البدايـــة‬
‫الصـحيحة لتدارك مـا فات‪ ،‬واسـتكمال مـا نَقُـص‪ ،‬ولعـل مـا‬
‫قيـــل فـــي الصـــفحات الســـابقة يكون ســـببًا ‪-‬بإذن الله‪-‬‬
‫لشعارنــا بالقلق والخطــر وبحاجتنــا إلى التربيــة‪ ،‬ويدفعنــا‬
‫لسـتكمال مـا ينقصـنا‪ ،‬ويجعلنـا دومـا فـي حالة مـن التوقـد‬
‫واليجابية‪.‬‬
‫المداد على قدر الستعداد‪:‬‬
‫قبـل أن نبدأ رحلة اسـتكمال مـا ينقصـنا‪ ،‬علينـا أن نتذكـر‬
‫حقيقة مهمة وهي أن الله عز وجل هو الذي يزكي ويربي‪،‬‬
‫ء‬
‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫علَى ك ُ ِّ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ك ُ ِّ‬ ‫خال ِِِ ُ‬ ‫فهــو ســبحانه‪َ " :‬‬
‫ل" [الزمر‪.]62 :‬‬ ‫وكِي ٌ‬ ‫َ‬
‫ء إلَّ‬ ‫من َ‬
‫ي ٍ ِ‬
‫ش ْ‬ ‫وإِن ّ ِِ‬
‫ُ‬
‫وأمـر صـلحنا وفلحنـا فـي َخزائنـه " َ‬
‫وم " [الحجر‪.]21 :‬‬ ‫عل ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ر َّ‬‫قدَ ٍ‬‫ه إِل ّ ب ِ َ‬ ‫زل ُ ُ‬
‫ما نُن َ ّ ِ‬
‫و َ‬‫ه َ‬
‫خَزائِن ُ ُ‬
‫عندَنَا َ‬
‫ِ‬
‫ولقد جعل سبحانه أهم سبب لمداد النسان بما يصلحه‬
‫هـو‪ :‬وجود الرغبـة الكيدة لديـه‪ ،‬كمـا فـي الحديـث القدسـي‪:‬‬
‫«يِا عبادي كلكِم ضال إل مِن هديتِه فاسِتهدوني‬

‫‪86‬‬
‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)6222‬‬
‫‪93‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫أهدكم»(‪.)87‬‬
‫فالحديــث يؤكــد على أن الهدايــة مــن عنــد الله‪ ،‬وأنــه‬
‫سبحانه يمنحها من يسألها ويريدها‪ ،‬ومما يؤكد هذا المعنى‬
‫ما َزك َا‬‫ه َ‬
‫مت ُ ُ‬
‫ح َ‬‫وَر ْ‬ ‫علَيْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ه َ‬‫ل الل ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ول َ َ‬‫ول َ َْ‬‫قوله تعالى‪َ "َ :‬‬
‫ه‬
‫والل ُ‬ ‫شاءُ َ‬‫من ي َ َ‬ ‫ّ‬
‫ه يَُزكِي َ‬ ‫َ‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫ولك ِ ّ‬ ‫د أبَدًا َ‬ ‫ح ٍ‬‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫منكُم ِّ‬ ‫ِ‬
‫م" [النور‪.]21 :‬‬ ‫ي‬
‫ِ ٌ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ع‬ ‫مي‬
‫َ ِ ٌ‬‫س‬
‫فالله عز وجل هو الذي يُزكي‪ ..‬هذه هي الحقيقة‪ ،‬ولكن‬
‫يُزكي من؟!‬
‫يزكــي مــن يراه مســتعدا ومريدًا للتزكيــة‪ ،‬ولهذا ختمــت‬
‫م)‪.‬‬
‫علِي ٌ‬
‫ع َ‬
‫مي ٌ‬
‫س ِ‬
‫ه َ‬
‫والل ُ‬
‫الية بقوله‪َ ( :‬‬
‫فالمداد بحسب الستعداد‪ ،‬وعلى قدر الصدق في طلب‬
‫الشيــء يكون المدد مــن الله عــز وجــل‪ ،‬كمــا قال ‪« :e‬إن‬
‫تصدق الله يصدقك»(‪.)88‬‬
‫فمـــن يرد الخيـــر بصـــدق يدله الله عليـــه ويمنحـــه إياه‬
‫«ومن يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه»(‪.)89‬‬
‫ومـن يصـدق عزمـه فـي طلب العفـة يعفـه الله «ومِن‬
‫يستعفف يعفه الله»(‪.)90‬‬
‫ومــن يصــدق عزمــه فــي طلب العلم يعلمــه الله «إنمــا‬
‫العلم بالتعلم»‪.‬‬
‫العزيمة على الرشد‪:‬‬
‫فالخطوة الولى ‪-‬إذن‪ -‬فـي طريـق اسـتكمال نواقصـنا‬
‫التربويـة هـي الصـدق فـي طلب ذلك‪ ،‬والعزم الكيـد على‬
‫تزكيــة عقولنــا وقلوبنــا وأنفســنا وجهدنــا‪ ،‬وأن نكون ممــن‬
‫ه بِ َ‬ ‫ف سو َ ْ‬
‫وم‬
‫ق َْ ٍ‬ ‫ف يَأتِي َالل ُ‬ ‫بقوله‪ْ َ َ " :‬‬
‫‪-‬عز وجل‪َّ َ -‬‬ ‫عناهم الله‬
‫على‬ ‫ة َ‬ ‫َ‬
‫ع ّز ٍ‬‫نأ ِ‬
‫منِي َِِ‬ ‫ْ‬
‫مؤ ِ‬ ‫ْ‬
‫على ال ُ‬‫َ‬ ‫ة َ‬
‫ذل ٍ‬ ‫هأ ِ‬ ‫ُ‬
‫حب ّون َِِ ُ‬
‫وي ُ ِ‬
‫م َ‬ ‫حب ُّ ُ‬
‫ه ِِْ‬ ‫يُ ِ‬
‫‪87‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪88‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه النسائي وصححه اللباني في صحيح الجامع (‪.)1415‬‬
‫‪89‬‬
‫() حسـن‪ ،‬أخرجـه الخطيـب البغدادي‪ ،‬وحسـنه اللبانـي فـي صـحيح الجامـع (‬
‫‪.)2328‬‬
‫‪90‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪94‬‬
‫لكل مسلم‬

‫ن‬
‫فو َِ‬ ‫خا ُ‬‫ول َ ي َ َ‬‫ل الل ِهِ َ‬‫سبِي ِ‬
‫في َِ‬ ‫ن ِِ‬‫هدُو َِ‬‫جا ِ‬‫ن يُ َ‬‫ري َِ‬ ‫الْكَا ِ‬
‫ف ِ‬
‫المدد‪:‬‬ ‫العزم يكون َّ‬ ‫م " [المائدة‪ ،]54 :‬فعلي قدر‬ ‫ة لئ ِِِِِ ٍ‬ ‫م َ‬
‫و َ‬‫لَ ْ‬
‫م"‬‫ه ْ‬
‫خيًْرا ل ُ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ه لكَا َ‬‫قوا الل َ‬ ‫صدَ ُ‬
‫و َ‬ ‫َ‬
‫فل ْ‬‫مُر َ‬‫م ال ْ‬ ‫عَز َ‬‫فإِذَا َ‬‫" َ‬
‫[محمـــد‪ ،]21 :‬فالخيــر كله ‪-‬كمــا يقول ابــن رجــب‪ -‬منوط‬
‫بالعزيمـة الصـادقة على الرشـد‪ ،‬وهـي الحملة الولى التـي‬
‫تهزم جيوش الباطل‪ ،‬وتوجب الغلبة لجنود الحق‪.‬‬
‫‪ ..‬قال أبــو حازم‪ :‬إذا عزم العبــد على ترك الثام‪ ،‬أتتــه‬
‫الفتوح‪.‬‬
‫سئل بعــض الســلف‪ :‬متــى ترتحــل الدنيــا مــن القلب؟‬‫و ُـ‬
‫قال‪ :‬إذا وقعــت العزيمــة ترحلت الدنيــا مــن القلب‪ ،‬ودرج‬
‫القلب فـي ملكوت السـماء‪ ،‬وإذا لم تقـع العزيمـة اضطرب‬
‫القلب ورجع إلى الدنيا‪.‬‬
‫ويستطرد ابن رجب قائل‪:‬‬
‫من صدق العزيمة يئس منـه الشيطان‪ ،‬ومتى كان العبد‬ ‫َ‬
‫مترددا طمع فيه الشيطان‪ ،‬و ُّ‬
‫سوَّفه ومناه‪.‬‬
‫‪ ..‬يِِا هذا‪ :‬كلمِِا رآك الشيطان قِِد خرجِِت مِِن‬
‫مجالس الذكر كما دخلت‪،‬‬
‫وأنت غير عازم على الرشد فرح بك إبليس(‪.)91‬‬
‫فعون الله للعبِِِِِِِد على قدر قوة عزيمتِِِِِِِه‬
‫وضعفهِا‪ ،‬فمِن صِمم على إرادة الخيِر أعانِه الله‬
‫وثبته(‪.)92‬‬
‫فالبدايـة‪-‬إذن‪ -‬عزم أكيـد ثـم السـتعانة الصـادقة بالله فـي‬
‫تحقيق هذا العزم‪:‬‬
‫علَى الل ِ‬
‫ه" [آل عمران‪.]159 :‬‬ ‫ل َ‬‫وك َّ ْ‬ ‫ت َ‬
‫فت َ َ‬ ‫م َ‬
‫عَز ْ‬ ‫" َ‬
‫فإِذَا َ‬
‫ولنعلم جميعًـا أن الله ‪-‬عــز وجــل‪ -‬وحده هــو الذي يملك‬
‫إمدادنــا بمــا عزمنــا عليــه‪ ،‬وأنــه ســبحانه يريــد أن يرى منــا‬
‫صــدقنا فيمــا نعزم‪ ،‬وأهــم صــورة لظهار هذا الصــدق هــو‬
‫اللحاح عليــه‪ ،‬والتضرع بيــن يديــه‪ ..‬تضُّرع واســتغاثة تشبــه‬

‫‪91‬‬
‫() مجموع رسائل ابن رجب ‪.1/348‬‬
‫‪92‬‬
‫() المصدر السابق ‪.1/344‬‬
‫‪95‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫اســتغاثة الغريــق الذي يســتغيث بمــن حوله ليســارعوا فــي‬


‫إنقاذه‪.‬‬
‫يقول ‪« :e‬إذا دعِا أحدكِم فل يقِل‪ :‬اللهِم اغفِر‬
‫لي إن شئت‪ ،‬وليعزم المسِِألة‪ ،‬وليُعظِِم الرغبِِة‪،‬‬
‫فإن الله ل يعظم عليه شيء أعطاه»(‪.)93‬‬
‫اعزم وتوكل وانطلق‪:‬‬
‫وبعد صـدق العزم والتوكـل على الله علي نا أن نشرع في‬
‫اسـتكمال مـا ينقصـنا مـن جوانـب التربيـة المختلفـة‪ ،‬وإن كان‬
‫من الفضل أن نبدأ بالتربية اليمانية كما أسلفنا ونتبعها بعد‬
‫ذلك بالجوانــب الخرى حتــى يتحقــق التوازن التربوي بعون‬
‫الله‪.‬‬
‫ولعل من أهم السباب التي تعين المرء على الستمرار‬
‫فـي تربيـة نفسـه وبذل جهده فـي سـبيل الله هـو وجوده فـي‬
‫وإذا عزم‬ ‫َّ‬ ‫وســط صــالح‪ ،‬وصــحبة طيبــة‪ ،‬إذا نســي ذكروه‪،‬‬
‫ن‬ ‫ذي َِِ‬ ‫ع ال ِ‬ ‫م َِِ‬ ‫ك َ‬ ‫س َ‬ ‫ف َِِ‬ ‫صبِْر ن َ ْ‬ ‫وا ِِْ‬ ‫أعانوه‪ ،‬وإذا غاب تفقدوه " َ‬
‫ولَ‬‫ه َ‬ ‫ه ُِ‬ ‫ج َ‬‫و ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ريدُو َِ‬ ‫ي يُ ِ‬ ‫ش ِِّ‬‫ع ِ‬ ‫ْ‬
‫وال َ‬ ‫ة َ‬‫غدَا ِ‬‫هم بِال ْ َ‬ ‫ن َرب َِّ ُ‬ ‫عو َِ‬ ‫يَدْ ُ‬
‫ع‬ ‫ط‬
‫َ ُ ِِ ْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ول‬ ‫ا‬
‫ّ ْ َِ َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫د‬ ‫ال‬ ‫ة‬ ‫ا‬
‫َ َ ِ‬‫ي‬ ‫ح‬ ‫الـِ‬ ‫ة‬ ‫ن‬ ‫زي‬ ‫د‬ ‫ري‬ ‫ت‬
‫َ ْ ُ ِْ ُ ِ ُ ِ َ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ك‬ ‫ِ‬‫َ‬ ‫ا‬‫عدُ َ َ ْ َ‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫ع‬ ‫تَ ْ‬
‫ه‬
‫مُر ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫وكا َ‬ ‫َ‬ ‫وا هُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ع َ‬ ‫َ‬
‫وات ّب َ َ‬
‫رن َا َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫فلن َا َ‬ ‫ْ‬ ‫غ َ‬ ‫نأ ْ‬
‫عن ِذك ِ‬ ‫ه َ‬ ‫قلب َ ُ‬
‫ً‬
‫م ْ‬ ‫َ‬
‫فُرطا" [الكهف‪.]28 :‬‬ ‫ُ‬
‫وفـي النهايـة نسـأل الله عـز وجـل أن يتقبـل منـا مـا وفقنـا‬
‫إليـه‪ ،‬وأن يعيننـا جميعًـا على اسـتكمال مـا ينقصـنا لكـي نكون‬
‫عبيدًا مخلصين له غير ضالين ول مضلين‪.‬‬
‫والمد ل الذي هدانا لذا وما كنا لنهتدي لول أن هدانا ال‪.‬‬
‫وصل اللهم على سيدنا ممد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫() صحيح الجامع الصغير (‪.)530‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪96‬‬
‫لكل مسلم‬

‫فهرس المحتويات‬
‫الصف‬ ‫الموضــــــــــــــــوع‬
‫حة‬
‫المقدمة ‪3 ................................................... .......‬‬
‫معنى التربية‬
‫التغير والثر الدائم‪6 .......................... ....................‬‬
‫الفارق بين التعليم والتربية‪6 ............................ ........‬‬
‫حاجة النسان إلى التربية‬
‫‪9‬‬ ‫ضرورة التربيـــــــــــــــــــــة الصـــــــــــــــــــــحيحة‬
‫‪................................. .................................‬‬
‫‪....................................................... ..............‬‬
‫الحياة السعيدة‪11 ..................................................‬‬
‫سة للتربية‬ ‫حاجة المة الما َّ‬
‫الخير المخبوء‪12 ......................................... ..........‬‬
‫أهمية الجهاد‪13 ....................................................‬‬
‫ماذا لو فرطنا؟‪15 .................................................‬‬
‫لماذا نُعاقب؟‪16 ....................................................‬‬
‫إصلح الداخل أولً ‪17 ..............................................‬‬
‫ل بديل عن التربية ‪18 .............................................‬‬
‫هل من الضروري تربية المة كلها؟‪19 ..................... ....‬‬
‫الجمرة المشتعلة ‪21 .............................................‬‬
‫المحور الول‪ :‬العقل والتربية المعرفية‬
‫الكل يعمل من أجلك‪23 ....................... ....................‬‬
‫الوسيلة المتفردة‪25 ...............................................‬‬
‫العرض المتحرك‪26 ................................................‬‬
‫هيا أبصر واعتبر‪27 .................................................‬‬
‫الذنب الكبر‪28 .............................................. ........‬‬
‫العلم الحقيقي‪29 ................................. ..................‬‬
‫العلم النافع‪31 .................................................... ...‬‬
‫غاية العلم‪32 ........................................................‬‬
‫الباب العظم‪33 .......................... ..........................‬‬
‫العقل المعطل‪34 ................................................. ..‬‬
‫‪97‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

‫الصف‬ ‫الموضــــــــــــــــوع‬
‫حة‬
‫‪35‬‬ ‫فلننتبه قبل فوات الوان‪.......................................‬‬
‫‪37‬‬ ‫فضيلة التفكر‪....................................................‬‬
‫‪37‬‬ ‫علم اليقين‪...................... .................................‬‬
‫‪38‬‬ ‫مستهدف التربية المعرفية‪....................................‬‬
‫المحور الثاني‪ :‬القلب والتربية اليمانية‬
‫‪41‬‬ ‫مركز الرادة‪..................... ................................‬‬
‫‪43‬‬ ‫المعرفة وحدها ل تكفي‪.............................. .........‬‬
‫‪44‬‬ ‫أفل تتقون؟‪............................................... ........‬‬
‫‪45‬‬ ‫عندما يضعف اليمان‪...................... .....................‬‬
‫‪47‬‬ ‫اليمان يصنع المعجزات ‪........................................‬‬
‫‪49‬‬ ‫الحارس المين‪..................... .............................‬‬
‫‪49‬‬ ‫اليمان وحل المشكلت‪................................... .....‬‬
‫‪50‬‬ ‫اليقظة الدائمة‪............................................. ......‬‬
‫‪51‬‬ ‫هكذا كان حال الصحابة ‪.......................................‬‬
‫مستهدف التربية اليمانية‪53 .....................................‬‬
‫المحور الثالث‪ :‬النفس وضرورة تزكيتها‬
‫‪56‬‬ ‫ما هي النفس؟‪.......................... ........................‬‬
‫‪57‬‬ ‫أقسام هوى النفس‪............................. ................‬‬
‫‪58‬‬ ‫الشهوة الخفية‪................................................. ..‬‬
‫‪59‬‬ ‫خطورة الرضا عن النفس والعجاب بها‪....................‬‬
‫‪60‬‬ ‫ما هو العجب؟‪............................... ....................‬‬
‫‪62‬‬ ‫لماذا يحبط العُجب العمل؟‪.............................. ......‬‬
‫‪63‬‬ ‫وأن أعمل صالحا ترضاه‪.......................................‬‬
‫‪64‬‬ ‫ماذا لو أهملت التربية النفسية؟!‪............................‬‬
‫‪65‬‬ ‫نماذج مضيئة‪................................... ..................‬‬
‫‪68‬‬ ‫مستهدف التربية النفسية ‪......................................‬‬
‫المحور الرابع‪ :‬بذل الجهد في سبيل الله‬
‫‪70‬‬ ‫ل مصادمة للفطرة‪........................................... ...‬‬
‫‪71‬‬ ‫المحور الول‪ :‬العمل الصالح‪..................... .............‬‬
‫‪72‬‬ ‫المحور الثاني‪ :‬دعوة الخلق إلى الله‪........................‬‬
‫‪73‬‬ ‫واإسلماه‪......................................... ................‬‬
‫التوازن التربوي وأهميته‬ ‫‪98‬‬
‫لكل مسلم‬

‫الصف‬ ‫الموضــــــــــــــــوع‬
‫حة‬
‫مستهدف التربية الحركية‪74 .................................. ....‬‬
‫التكامل التربوي‬
‫إحسان العمل أول‪76 ..............................................‬‬
‫احذر نفسك‪77 ............................. .........................‬‬
‫الحركة المباركة‪78 ........................... ......................‬‬
‫ماذا لو أهملت التربية؟‪78 ........................................‬‬
‫أعلم ولكن ل أستطيع‪79 ..........................................‬‬
‫عبادة الذات‪79 ........................................ ..............‬‬
‫تفريغ الطاقة وبذل الجهد‪80 .................................... ..‬‬
‫خطورة الحركة بدون زاد‪81 ......................................‬‬
‫ل استثناء لحد‪81 ............................ .......................‬‬
‫هكذا كانوا‪83 ......................... ...............................‬‬
‫بأي الجوانب نبدأ؟‪85 ..............................................‬‬
‫من فوائد البدء بالتربية اليمانية‪85 ..............................‬‬
‫الرؤية التربوية‬
‫ضوابط لبد منها‪87 ........................................... ......‬‬
‫استمرارية التربية‬
‫إلى متي التربية؟‪89 .......................................... ......‬‬
‫عتاب للصفوة‪91 ............................................. .......‬‬
‫لماذا ل تظهر ثمرة التربية؟‬
‫السن الصغيرة والستعداد الكبير‪92 ............................‬‬
‫اليقين الراسخ وصعوبة تغييره‪94 ................................‬‬
‫هل نترك التربية؟‪95 ...............................................‬‬
‫الخطوة الولى‪ :‬عزم وتوكل‬
‫المداد على قدر الستعداد‪96 ....................................‬‬
‫العزيمة على الرشد‪97 ............................................‬‬
‫اعزم وتوكل وانطلق‪99 ...........................................‬‬
‫الفهرس‪101 ..........................................................‬‬

‫***‬
‫‪99‬‬ ‫التوازن التربوي وأهميته‬
‫لكل مسلم‬

You might also like