You are on page 1of 91

5

‫مقدمات تأصيلية‬

‫المقدمة‪:‬‬
‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده ونستعينه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله‬
‫من شرور أنفسنا‪ ،‬وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده الله فل مضل له‪،‬‬
‫ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك‬
‫له وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله‪.‬‬
‫وأنتُم مّسلِمونَ‪[ ‬آل‬ ‫‪‬يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقواْ ال َحقّ تُقاتِهِ ول تَموُتنّ إلّ‬
‫عمران‪ .]102:‬يا أيّها النّاسُ اتّقواْ ربّكُم الذي خَ َلقَكُم من نَفسٍ واحِدةِ وخَ َلقَ مِنها‬
‫زَوجَها وبَثّ مِنهُما رِجالً كَثيا ونِساءً واتّقواْ الَ الذي تَساءَلونَ بهِ والرْحامَ إنّ الَ كانَ‬
‫عَليكُم رَقيبا‪[ ‬النساء‪ .]1:‬يا أيّها الذينَ آمنوا اتّقوا الَ وقُولوا قَولً سَديدا * يُصلِح لَكُم‬
‫عَظيما‪[ ‬الحزاب‪-70:‬‬ ‫أعمالَكُم وَيغْفِر لَكُم ذُنوبَكَم ومَن يُ ِطعِ الَ ورَسُوَلهُ فَقد فَازَ فَوزا‬
‫‪.]71‬‬
‫ن الهدي‬
‫أما بعد‪ ،‬فإن أصدق الحديث كتاب الله‪ ،‬وأحس َ‬
‫لَ‬ ‫هدي محمد ×‪ ،‬وشَر المور محدثاتها‪ ،‬وك َّ‬
‫ل محدثة بدعة‪ ،‬وك ّ‬ ‫ّ‬
‫بدعة ضللة‪ ،‬وك َّ‬
‫ل ضللة في النار‪.‬‬
‫ثم إن العلوم الشرعية ضرورة لزمة لنجاة العباد في‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وشرف العلم بشرف المعلوم‪ ،‬وأشرف العلوم‬
‫وأسماها على الطلق بالنسبة للفرد‪ ،‬علم التوحيد بأقسامه‬
‫الثلثة (اللوهية‪ ،‬الربوبية‪ ،‬والأسماء والصفات)‪ ،‬ثم تتفاوت‬
‫درجات العلوم بقدر تفاوتها في حفظ مقاصد الشريعة‬
‫ظ الضروريات لقيام‬ ‫السلمية‪ ،‬وإن من أسمى مقاصدها‪ ،‬حف َ‬
‫الحياة النسانيـة‪ ،‬وأهمها‪ :‬الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والنسل‪،‬‬
‫والمال‪.‬‬
‫ظ الدين‪ ،‬كتعلم ما هو‬ ‫فمن العلوم ما يكون مقصده حف َ‬
‫معلوم من الدين بالضرورة من علوم التوحيد وبعض علوم‬
‫الفقه‪ ،‬والعمل بأحكام الدين والحكم به والدعوة إليه والجهاد‬
‫لجله ورد الشبهات والبدع عنه‪ .‬ومن العلوم ما يكون ضرورياً‬
‫لحفظ النفس‪ ،‬كتحريم العتداء على النفس‪ ،‬والقصاص‪ ،‬وسد‬
‫الذرائع المؤدية للقتل‪ .‬ومنها ما هو ضروري لحفظ المال‪،‬‬

‫‪6‬‬
‫كالحث على التكسب‪ ،‬وتحريم العتداء عليه‪ ،‬وتحريم إضاعته‪،‬‬
‫وتعلم ما شرع من الحدود لحفظه‪ ،‬وتوثيق الديون والشهاد‬
‫عليها‪ .‬ومنها ما هو ضروري لحفظ النسل‪ ،‬كأحكام النكاح‪ ،‬ومنها‬
‫ما هو ضروري لحفظ العقل‪ ،‬كتحريم مفسدات العقل الحسية‬
‫والمعنوية‪ ،‬ووجوب الحد على شارب الخمر‪.‬‬
‫أما أعظم العلوم بالنسبة للجماعة ‪ -‬مع عظم علم‬
‫حفَ ُ‬
‫ظ‬ ‫التوحيد وأهميته للفرد والمجتمع ‪ -‬فهو ذلك العلم الذي ي َ ْ‬
‫لها هذه الضرورات كلها‪ ،‬الدين ومنه التوحيد‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل‪،‬‬
‫والنسل‪ ،‬والمال‪ .‬وقد اتفق العلماء على حقيقة هذا العلم‪،‬‬
‫ماه‪(( :‬الحكام‬ ‫واختلفوا في تسميته‪ ،‬فالماوردي الشافعي س ّ‬
‫السلطانية))‪ ،‬وإمام الحرمين الجويني سماه‪(( :‬غياث المم))‪،‬‬
‫وابن جماعة سماه‪( :‬تحرير الحكام في تدبير أهل السلم)‬
‫وابن تيمية سماه‪(( :‬السياسة الشرعية في إصلح الراعي‬
‫والرعية)) وغيرهم‪.‬‬
‫من تسمية ابن تيمية هذه‪ ،‬والتي قبلها‪ ،‬و((غياث‬ ‫فك ٌّ‬
‫ل ِ‬
‫ت إليه من أن هذا العلم من أهم‬ ‫المم))‪ ،‬تدل على ما ذهب ْ ُ‬
‫العلوم بالنسبة للجماعة‪ ،‬لن الجهل به يؤدي إلى التصرف مع‬
‫الخرين بحماقة تضيع هذه الضرورات‪ ،‬أو بعضا منها‪.‬‬
‫حفظ للمجتمع هذه‬ ‫وممن كتب في هذا العلم الذي ي َ ْ‬
‫الضرورات كلها‪ ،‬من المعاصرين‪ ،‬الدكتور يوسف القرضاوي‪،‬‬
‫سماه‪(( :‬السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة‬
‫ومقاصدها))‪ ،‬والدكتور خالد الفهد‪ ،‬سماه‪(( :‬الفقه‬
‫السياسي السلمي))‪ ،‬والدكتور خالد العنبري‪ ،‬سماه‪(( :‬فقه‬
‫السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة وأقوال‬
‫سلف المة))‪ ،‬وغيرهم مما يدل على أهمية هذا العلم بالنسبة‬
‫للجماعة‪.‬‬
‫وعليه فإن إسقاط هذا النوع من الفقه السياسي من‬
‫المة‪ ،‬سواء كان ذلك بسبب إنكاره‪ ،‬أو بعدم تفعيله وتطبيقه‪ ،‬أو‬
‫بفهمه خلف الواقع‪ ،‬يترتب عليه مخاطر ل حصر لها تصيب‬
‫ل‪ .‬وها نحن جميعا شيبا ً وشباباً‪ ،‬ذكوراً‬
‫مقَاِت َ‬
‫من المة السلمية َ‬
‫وإناثاً‪ ،‬صغارا ً وكباراً‪ ،‬ندفع الثمن غاليا جراء تلك السياسة‬
‫ً‬
‫ض الشباب‬ ‫ت على ألسنة بع ِ‬ ‫جَر ْ‬
‫الدخيلة على السلم‪ ،‬التي َ‬
‫المعاصرين‪ ،‬حين ألقَوْا بهذا الفقه من خلف أظهرهم‪ ،‬وتجردوا‬
‫منه‪ ،‬بل ذهب بعض سفهاء الحلم‪ ،‬حدثاء السنان منهم‪ ،‬إلى‬

‫‪7‬‬
‫التصريح بإنكاره‪ ،‬والنكار على العلماء الكبار العاملين به‪ ،‬بل‬
‫طعنوا فيهم وفي علمهم‪ ،‬فخل الجو لهم ـ حسب زعمهم ـ‬
‫ليتصدروا الفتوى بل علم في الشريعة‪ ،‬وبجهل في الواقع‪،‬‬
‫فضلوا وأضلوا‪.‬‬
‫وقد نقل لنا ابن القيم مؤيدا ً لما جرى بين شافعي وابن‬
‫عقيل في تفسير قول الشافعي‪(( :‬ل سياسة إل ما وافق‬
‫الشرع))‪.‬‬
‫فقال له ابن عقيل‪(( :‬السياسة ما كان فعل ً يكون معه‬
‫الناس أقرب إلى الصلح‪ ،‬وأبعد عن الفساد‪ ،‬وإن لم يضعه‬
‫الرسول ×‪ ،‬ول نزل به وحي‪ .‬فإن أردت بقولك‪ :‬إل ما‬
‫وافق الشرع‪ ،‬أي‪ :‬لم يخالف ما نطق به الشرع‪ ،‬فصحيح‪ .‬وإن‬
‫ط وتغليط للصحابة‪.‬‬ ‫أردت ل سياسة إل ما نطق به الشرع فَغَل َ ٌ‬
‫فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما ل‬
‫يجحده عالم بالسنن‪ ،‬ولو لم يكن إل تحريق عثمان المصاحف‬
‫فإنه كان رأيا ً اعتمدوا فيه مصلحة المة‪ ،‬وتحريق علي‬
‫الزنادقة في الخاديد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫أججت ناري ودعوت‬ ‫لما رأيت المر أمراً‬
‫ً (‪)1‬‬
‫قنبرا ))‬
‫منكراً‬
‫انتهى))‪.‬‬
‫لذا فإنه من الواجب على فريق من العلماء العاملين‪ ،‬أن‬
‫يولوا هذا العلم في هذا الزمان أولوية خاصة‪ ،‬وبأسرع ما يمكن‬
‫لوقف نزيف الدم‪ ،‬والدمار الشامل المحدق بالمة السلمية‪.‬‬
‫كما وعلى شباب الصحوة أن يتعلموه جنبا ً إلى جنب‪ ،‬مع علوم‬
‫التوحيد‪ ،‬والفقه وأصولــه‪ ،‬والقرآن وعلومـه‪ ،‬وعلوم اللغـة‪ ،‬ول‬
‫يرغبوا عنه بحجج ل يستقيم أمرهــا‪ ،‬ول تقف أمام واجب التفقه‬
‫في الواقع المطلوب مـن كل فرد بحسبه‪.‬‬
‫وعليهـــــم كذلك أن يعلموا عـــــن أي الجهات يأخذونـــــه‬
‫ويتعلمونــه‪ ،‬وعليهييم أن ل يسييلموا قيادتهييم الفكرييية‬
‫لمفاهيييم ونظرات حزب التحرييير السييياسية‪ ،‬المتأثرة‬
‫بنظرييية ماركييس للتفسييير المادي للتاريييخ‪ ،‬ول لميين‬
‫مة الكييبرى‬ ‫أعجييب بفكره‪ ،‬أو تأثيير بييه‪ ،‬فإنهييا الطا ّيي‬
‫والهلك بعينيييه‪ .‬بــــل أصــــبحت هذه المفاهيــــم والنظرات‬

‫((الطرق الحكمية))‪( ،‬ص ‪.)18-17‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪8‬‬
‫السـياسية التحريريـة هـي الحاكمـة على تفكيـر كثيـر مـن الشباب‬
‫والشياب والذكور والناث دون شعور منهــــــم‪ ،‬فخرج جيييييل‬
‫جهدهييم وجهادهييم عيين المصييلحة العاميية للسييلم‬
‫والمسيييلمين‪ ،‬وتراهيييم بعيييد حيييين مييين بذل الجهود‬
‫والطاقات‪ ،‬خاصييية حدثاء السييينان منهيييم ‪ ،‬يقومون‬
‫بمراجعات فكرييية لتصييحيح الفكار والسييتغفار عيين‬
‫الخطاء والخطار‪.‬‬
‫لذا فإن التقليل من شأن هذا العلم‪ ،‬أو فهمه على خلف‬
‫الواقع‪ ،‬يضعنا أمام مواجهة غير متكافئة مع ألد خصومنا‬
‫وأعدائنا‪ ،‬الذين يتربصون بديننا وبالضرورات الربع الخرى‬
‫وبغيرها الدوائر‪ ،‬مما يعرضنا إلى سخط الله تعالى‪ ،‬بل قد يدفع‬
‫بنا المر إلى أن نكون من الخسرين أعمالً‪ ،‬مع اعتقادنا بأننا‬
‫نحسن صنعاً‪ ،‬كما حصل لنا في بعض ديار المسلمين‪ ،‬ول يزال‬
‫المر مرشحا ً للتكرار‪.‬‬
‫ولكي نفقه واقعنا السياسي المعاصر‪ ،‬ل بد من توفر‬
‫أمرين اثنين‪:‬‬
‫•العمل بأحكام الشريعة السلمية‪ ،‬أولها علوم العقيدة‪،‬‬
‫فأركان السلم الخمسة‪ ،‬والقيم الخلقية لتزكية النفس‪،‬‬
‫كالعدل والصدق والمانة والعفاف والرحمة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫•معرفة الواقع معرفة صحيحة‪ ،‬بعيدة عن التضليل والخداع‪.‬‬
‫لذا فإن هذه الدراسة اكتفت ببيان بعض الموضوعات‬
‫ت للقارىء الرجوع‬ ‫ذات العلقة بفقه السياسة الشرعية‪ ،‬وتَرك َ ْ‬
‫صر في الحاطة به‪.‬‬ ‫ن هذا العلم لستدراكه لمن ق ّ‬‫مظا ّ‬
‫إلى َ‬
‫ثم كشفت الدراسة عن مصدر الخطر والدمار ـ أعني‬
‫اليهودية ـ الذي أصاب المة السلمية‪ ،‬وكشفت كذلك عن‬
‫أخطر أذرعها التي ابتليت به أمتنا والعالم أجمع في واقعنا‬
‫المعاصر‪ ،‬والذي ل يزال يقتلنا في كل مكان‪ ،‬ونحن ل نشعر به‬
‫ول نراه‪ ،‬بل ذهب بنا المر إلى ما هو أسوء من ذلك‪ ،‬حين نسبنا‬
‫جميع جرائمه إلى غيره‪ ،‬فتوجهنا إلى محاربة هذا الغير وتركنا‬
‫هذا العدو الول والخطر يحاربنا في ديننا‪ ،‬ويهدم مقدساتنا‬
‫بمئات اللف من المساجد‪ ،‬ويسفك دماءنا بمئات المليين‪،‬‬
‫ويحتل أرضنا بعشرات المليين من الكيلومترات المربعة‪،‬‬
‫وينهب ثروات بلدنا بالمليارات‪ ،‬وينتهك أعراضنا‪ ،‬بل لم يكتف‬

‫‪9‬‬
‫البعض بتجاهل هذا الخطر الشتراكي الشرقي الداهم‬
‫المتواصل – مع اعتبار الخطر الغربي ‪ -‬بل ذهبوا إلى التحالف‬
‫معه بحجة التقاء المصالح‪ ،‬ولم يدروا أنها مصالح مزورة‬
‫موهومة‪ ،‬فكانت النتيجة دمارا ً على دمار‪ ،‬وخرابا ً على خراب‪،‬‬
‫وإفسادا ً في الرض باسم الجهاد‪.‬‬
‫لهذا ولغيره‪ ،‬صيغت أفكار هذا البحث القليل في‬
‫صفحاته‪ ،‬الكبير في أهميته عسى الله تعالى أن يهدي به من‬
‫يشاء من عباده‪.‬‬
‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫كتبه‪:‬‬
‫عدنان عبد الرحيم الصوص‬
‫شهر تموز من عام ‪2006‬‬

‫‪10‬‬
11
‫تعريفات أصولية‬
‫تعريف قواعد الفقه السياسي‬
‫ة‪ :‬هي الساس‪ .‬واصطلحاً ‪ :‬حكم كلي‬ ‫القاعدة لغ ً‬
‫ف أحكامها منه‪.‬‬
‫ينطبق على جميع جزئياته أو أكثرها‪ ،‬لتُِعَر َ‬
‫القاعدة الفقهية‪ :‬هي المبادىء العامة في الفقه‬
‫السلمي التي تتضمن أحكاما ً شرعية عامة تنطبق على الوقائع‬
‫والحوادث التي تدخل تحت موضوعها(‪.)2‬‬
‫ومن المثلة على القواعد الفقهية‪(( :‬الصل في‬
‫الكلم الحقيقة))‪(( .‬المور بمقاصدها))‪(( .‬اليقين ل يزول بالشك))‪.‬‬
‫((ل اجتهاد في مورد النص))‪(( .‬الصل براءة الذمة))‪(( .‬المشقة‬
‫تجلب التيسير))‪(( .‬الضرورات تبيح المحظورات))‪(( .‬الضرورة‬
‫تقدر بقدرها))‪(( .‬ل ضرر ول ضرار))‪(( .‬درء المفاسد أولى من‬
‫جلب المصالح))‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ت لتحقيق المصالح الضرورية‬ ‫ضعَ ْ‬
‫فالقواعد العامة ُو ِ‬
‫والحاجية والتحسينية‪ ,‬ونحن لن نتوسع في مباحث الفقه‬
‫السياسي‪ ،‬في هذا البحث‪ ،‬ولكن أردنا إلقاء الضوء على أهمية‬
‫هذه القواعد الفقهية في مجال السياسة الشرعية‪ ،‬أو ما يسميه‬
‫البعض الفقه السياسي‪ ،‬فإن لهذه القواعد مصادرها الخاصة‪،‬‬
‫فقد كُتب الكثير في هذا الباب قديما ً وحديثاً (‪.)3‬‬
‫الفقه السياسي‪:‬‬
‫((هو مجموعة الحكام الشرعية التي تتناول الحكام‬
‫السياسية‪ ،‬كالحكم‪ ،‬وإدارة الدولة‪ ،‬والعلقات الخارجية‪ .‬وهذه‬
‫الحكام مستنبطة من مصادر الفقه السلمي‪ ،‬بالضافة إلى‬
‫العراف والتقاليد التي درجت عليها الدولة السلمية بما ل‬
‫(‪)4‬‬
‫يتنافى والمبادىء السلمية))‪.‬‬

‫((المدخل لدراسة الشريعة السلمية))‪ ،‬د‪ .‬عبدالكريم زيدان‪( ،‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.)90‬‬
‫من هذه المراجع‪(( :‬الشباه والنظائر))‪ ،‬للسيوطي‪(( ،‬الفروق))‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫للقرافي‪(( ،‬إعلم الموقعين))‪ ،‬لبن القيم‪ ،‬و((العتصام))‪ ،‬للشاطبي‪،‬‬


‫وغيرها‪.‬‬
‫((الفقه السياسي السلمي))‪ ،‬د‪ .‬خالد الفهداوي‪( ،‬ص‪ ،)78 :‬الطبعة‬ ‫‪4‬‬

‫الولى‪.)2003( ،‬‬

‫‪12‬‬
‫ويعرفه الستاذ عبدالوهاب خلّف بقوله‪:‬‬
‫ما تُدَبّر فيه‬
‫((إن علم السياسة الشرعية يُبحث فيه عَ ّ‬
‫شؤون الدول السلمية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول‬
‫(‪.)5‬‬
‫السلم‪ ،‬وإن لم يقم على كل تدبر دليل خاص))‬

‫العمل السياسي‪:‬‬
‫((مجمل النشاطات والمواقف والراء السياسية التي‬
‫يتبناها الفراد‪ ،‬أو الجماعات تجاه الدولة‪ ،‬أو الحكم))(‪.)6‬‬
‫مدى الحاجة لقواعد الفقه السياسي‪:‬‬
‫ل شك أن الكتاب والسنة هما رأس مصادر التشريع‬
‫السلمي‪ ،‬ول شك كذلك في ضرورة توفر الضوابط والصول‬
‫العامة لستنباط الحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية‪ ،‬وهذه‬
‫القواعد والصول قد بسطت فيما يعرف بكتب أصول الفقه‬
‫السلمي‪ .‬وعلى طالب العلم أن يرجع إليها في مظانها‬
‫ليستقيم أمر الفقه لديه‪ ،‬ومنه فقه السياسة الشرعية الذي‬
‫نحن بصدد دراسة بعض مباحثه وفقهه المعاصر‪.‬‬
‫((فقواعد الفقه السياسي السلمي مرتبطة ارتباطا َ وثيقاّ‬
‫بتحقيق مقاصد الشريعة وأهدافها العامة‪ .‬والمصالح المرسلة‬
‫تدخل ـ ضمنا َ ـ في مصادر تلقي الحكام الشرعية المنضبطة‬
‫بقواعد كلية))(‪.)7‬‬
‫ولبيان خطر التفريط بهذا الفقه‪ ،‬أو فهمه بخلف الواقع‪،‬‬
‫نضرب لذلك مثال ً نظريا ً وآخر واقعياً‪:‬‬
‫المثال النظري على أهمية الفقه السياسي‪:‬‬
‫لو فرضنا وجود عدوين للمسلمين‪ ،‬الول (س)‪ ،‬والثاني‬
‫(ص)‪ ،‬وكان العدو (س) أشد عداءً للسلم وللمسلمين‪ ،‬من‬
‫ما لظرف‬ ‫العدو (ص) بعشرة أضعاف‪ .‬ولكن لو استطاعت جهة ّ‬
‫من الظروف‪ ،‬أن تُغيّر هذه الحقيقة لدينا‪ ،‬فأصبحنا ننظر إلى‬

‫((السياسة الشرعية ونظام الدولة))‪( ،‬ص ‪ ،)21‬المطبعة السلفية‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫القاهرة‪1350 ،‬هـ‪ .‬عن كتاب ((الفقه السياسي السلمي))‪ ،‬د‪ .‬خالد‬


‫الفهداوي‪( ،‬ص ‪.)78‬‬
‫المرجع السابق‪( ،‬ص ‪.)78‬‬ ‫‪6‬‬

‫المرجع السابق‪.)78( ،‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪13‬‬
‫العدو الثانوي (ص) على أنه العدو الكبر والخطر علينا من‬
‫العدو (س) أضعافا كثيرة‪ .‬ماذا سيترتب على ذلك؟‬
‫ل شك أننا سنوجه جميع طاقاتنا لمحاربة العدو الوهمي‬
‫أو الثانوي (ص)‪ ،‬ونترك العدو الحقيقي الكبر يفتك بنا‪ ،‬ولن‬
‫ضلّلون أو مخدوعون‬ ‫م َ‬
‫نشعر ونحن نتجاهل الخطر الكبر بأننا ُ‬
‫أبداً‪ .‬لننا نعتقد بصحة تصوراتنا وفهمنا للواقع‪ ،‬ول نحسب أننا‬
‫هدى البتة‪ .‬ولك أن تتصور ما سيحل بالمة السلمية‬ ‫ً‬ ‫على غير‬
‫إذا استمرت على هذه الحالة من التضليل السياسي الذي قلب‬
‫الحقيقة واستنزف الطاقة‪.‬‬
‫هذه نتيجة تصوراتنا الخطأ في تصنيف العداء‪ ،‬فكيف إذا‬
‫ازداد المر بنا سوءا‪ ،‬فأصبحنا نرى المعروف منكرا والمنكر‬
‫معروفا ً كما هو حاصل معنا هذه اليام؟‬
‫ومن أمثلة هذه الحالة التي نرى فيها المعروف منكرا‬
‫والمنكر معروفاً‪ ،‬ما أخبر عنه النبي × في زمن السنوات‬
‫خوّ ُ‬
‫ن فيها‬ ‫صدّق فيها الكاذب ويُكَذ ّب الصادق‪ ،‬وي ُ َ‬‫الخداعة‪ ،‬التي ي ُ َ‬
‫المين ويُؤتمن الخائن‪ .‬وهذه المظاهر الخداعة إنما نتجت عن‬
‫الجهل في فقه الواقع السياسي‪ ،‬وقيام جهات مشبوهة بعكسه‬
‫لدى المسلمين‪ ،‬فتنبه‪.‬‬
‫المثال الواقعي على أهمية الفقه السياسي‪:‬‬
‫ل على وقوع المسلمين في‬ ‫وهذا مثال واقعي قديم د ّ‬
‫حبائل التضليل السياسي‪ ،‬حين رأوا المعروف منكرا والمنكر‬
‫معروفاً‪ ،‬فصدقوا الكَذَبَة‪ ،‬وكذّبوا الصادقين‪ ،‬وأتمنوا الخونة‪ ،‬وخونوا‬
‫المناء‪.‬‬
‫كان هذا المثال في القرن الرابع من الهجرة في زمن‬
‫الخلفة العباسية‪ .‬فبعد أن وطدت الدولة الفاطمية العبيدية‬
‫الشيعية أركانها في بلد المغرب العربي‪(( ،‬بعث عبيدالله‬
‫المهدي أول خلفائهم جيوشه لفتتاح مصر‪ ،‬أكثر من مرة‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من استيلئها سنة (‪302‬هـ‪914-‬م)‪ ،‬على بعض المدن‬
‫المصرية كبرقة والسكندرية والفيوم‪ ،‬إل أنها ارتدت على‬
‫(‪)8‬‬
‫أعقابها أمام المقاومة المصرية وجند الخلفة العباسية)) في‬
‫عهد الدولة الخشيدية‪ .‬وفي سنة (‪332‬هـ‪944-‬م) أعادت‬
‫((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))‪ ،‬لمحمد عبد الله عنان‪،‬‬ ‫‪8‬‬

‫(ص ‪ ،)22-18‬ط‪ .1983 ،3/‬بتصرف‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ت مرة‬
‫الجيوش الفاطمية الستيلء على السكندرية‪ ،‬ولكنها ُرد ّ ْ‬
‫أخرى‪.‬‬
‫[((وبعد هذا الفشل المتكرر الذي منيت به القوة‬
‫العسكرية الفاطمية‪ ،‬أمام المقاومة المصرية وجند الخلفة‬
‫العباسية‪ ،‬اعتمد المعز الفاطمي لسقاط مصر على أسلوب‬
‫الدعاية التحريضية من خلل ((دعاة يبثون دعوته خفية‪،‬‬
‫ويبشرون بالفتح الفاطمي))(‪.)9‬‬
‫واستمرت هذه الدعوات المشبوهة لعدة عقود في جو‬
‫مشحون بالخلفات والفوضى والضطراب في أواخر حكم‬
‫الدولة الخشيدية في مصر‪ ،‬فأخذ الشعب المصري ينقم على‬
‫ولة أمره‪ ،‬حتى وصلت المعارضة للخلفة العباسية إلى ذوي‬
‫الشأن من الزعماء والجند‪ ،‬فقد كان فريق من أولئك الجند هم‬
‫الذين دعوا الفاطميين إلى غزو مصر‪ .‬وازداد سخط الشعب‬
‫المصري على ولة أمره‪ ،‬بعد أن تولى حكم مصر أسود خصي‪،‬‬
‫اسمه (كافور)‪.‬‬
‫وكانت الدولة الفاطمية تجلب إليها النظار بقوتها وغناها‪،‬‬
‫فأصبح سواد الشعب المصري يؤثر النضواء تحت لواء‬
‫دولة قوية فتية‪( ،‬الدولة الفاطمية)‪ ،‬على الستمرار‬
‫في معاناة هذه الفوضى السياسية والجتماعية التي‬
‫سادت بلد مصر‪ .‬وهكذا ألفى الفاطميون حين مقدمهم إلى‬
‫مصر‪ ،‬جوا ً ممهدا ً يبشر بتحقيق الفتح المنشود على خير‬
‫الوجوه))] (‪ )10‬أهـ‪ .‬فتم لهم السيطرة على بلد مصر في منتصف‬
‫شعبان سنة ‪358‬هـ‪.‬‬
‫فإذا علمت أن نسب الفاطميين الشيعة يعود على الرجح‬
‫إلى اليهود(‪ ،)11‬وليس إلى المجوس‪ ،‬أدركت مدى درجة الغثائية‬
‫المصدر السابق‪( ،‬ص ‪.)29‬‬ ‫‪9‬‬

‫المصدر السابق‪( ،‬ص ‪ ،)29-1‬بتصرف‪ .‬وقد اعتمد المؤلف على‬ ‫‪10‬‬

‫العديد من المراجع التاريخية‪ ،‬منها‪ :‬كتاب‪(( :‬الخطط)) للمقريزي‪( ،‬‬


‫‪ .)127-2/126‬وكتاب‪(( :‬وفيات العيان)) لبن خلكان في ترجمة القائد‬
‫جوهر‪ .)1/148( ،‬وانظر (‪ .)3/440‬وكتاب‪(( :‬اتعاظ الحنفاء)) (ص ‪-146‬‬
‫‪.)147‬‬
‫كتاب‪ (( :‬النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)) ابن تغري بردي‪_ ،‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪ .)76-4/75‬وكتاب‪(( :‬وفيات العيان)) لبن خلكان‪ .)3/82( ،‬وكتاب‪:‬‬


‫((معجم البلدان)) لياقوت الحموي‪ .)231-5/230( ،‬وكتاب‪(( :‬سير أعلم‬
‫النبلء)) للذهبي‪.)142 -15/141( ،‬‬

‫‪15‬‬
‫التي كانت تتسم بها الشعوب الغافلة المسلمة في بلد مصر‪ ،‬حيث‬
‫استطاعت الجاسوسية اليهودية أن تنفث سمومها في عقولهم‪،‬‬
‫مستخدمة شتى أنواع الدعاية المغرضة‪ ،‬فجعلتهم ينظرون إلى‬
‫الدولة الفاطمية بروح العجاب‪ ،‬فصدقوا الكَذَبَة‪ ،‬وائتمنوا الخونة‪.‬‬
‫وكذّبوا الصادقين‪ ،‬وخونوا المناء ولة المر في دولة الخلفة‬
‫العباسية‪ ،‬بل تآمروا عليها وعلى ولة أمورهم‪ ،‬وانضموا إلى‬
‫َ‬
‫السياسة اليهودية لسقاطها‪ ،‬بل رحبوا بها وفرحوا بنصر الكذَبَة‬
‫خونَة عليها‪ ،‬فماذا كانت نتيجة عدم الوعي‪ ،‬والتضليل السياسي‬ ‫ال َ َ‬
‫الذي أصيبوا به؟‬
‫كانت النتيجة الدمار الشامل الذي أصاب الضرورات‬
‫الخمس للحياة النسانية‪ ،‬فقد عطل الفاطميون الحدود‪،‬‬
‫وأباحوا الفروج‪ ،‬وسفكوا الدماء‪ ،‬وسبّوا النبياء‪ ،‬ولعنوا‬
‫السلف‪ ،‬وا ّدعوا الربوبية‪ .‬وصادروا الملك (التأميم)(‪.)12‬‬
‫فلما علم الناس حقيقية أمرهم ضاقوا بهم ذرعياً‪،‬‬
‫وس ّبوهيم ولعنوهم‪ ،‬حتى أصدر فيهم علمياء العصر‬
‫فتيوى تحذر منهم ومن شرهم وتبين لهم حقيقة‬
‫أمرهم‪ ،‬وما كيان لهؤل العلماء ول لغيرهم من العاميية‪،‬‬
‫أن يخدعوا بهذه الدعيوة الباطنييية الكاذبية ابتدا ًء‪ ،‬لو‬
‫أنهم درسيوا عقائدهيا ومذهبها‪ ،‬ولما رحبييوا بهذه‬
‫الدولية الباطنيية فييي بلدهم‪.‬‬
‫وهذا هو حكم علماء العصر فيهم‪ ،‬بعد أربع وأربعين سنة من‬
‫احتللهم لبلد مصر‪ ،‬ينقله لنا ابن تغري بردي فيقول‪:‬‬
‫((السنة السادسة عشرة من ولية الحاكم منصور على‬
‫مصر‪ :‬وهي سنة اثنتين وأربعمائة‪ ،‬فيها في شهر ربيع الخر كتب‬
‫الخليفة القادر العباسي محضرا ً في معنى الخلفاء المصريين‬
‫والقدح في أنسابهم وعقائدهم وقرئت النسخ ببغداد‪ ،‬وأخذت فيها‬
‫خطوط القضاة والئمة والشراف بما عندهم من العلم بمعرفة‬
‫نسب الديصانية‪ ،‬قالوا‪ :‬وهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد‬
‫الخرمي إخوان الكافرين ونطف الشياطين شهادة يتقربون بها إلى‬
‫الله ومعتقدين ما أوجب الله على العلماء أن ينشروه للناس‬
‫فشهدوا جميعا ً أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب‬
‫مصادرة الملك ذكرت في كتاب‪ (( :‬الخطط أو المواعظ والعتبار‬ ‫‪12‬‬

‫بذكر الخطط والثار)) للمقريزي‪ .)3/23( ،‬وكتاب‪(( :‬تاريخ يحي‬


‫النطاكي ))‪( ،‬ص ‪.)206‬‬

‫‪16‬‬
‫بالحاكم‪ ،‬حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال‪ :‬ابن معد بن‬
‫إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد‪ ،‬ل أسعده الله‪ .‬فإنه لما صار‬
‫إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي هو ومن تقدمه‬
‫من سلفه الرجاس النجاس‪ ،‬عليه وعليهم اللعنة‪،‬‬
‫أدعياء‪ ،‬خوارج‪ ،‬ل نسب لهم في ولد علي بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬وأن ذلك باطل‪ ،‬وزور‪ ،‬وأنهم ل يعلمون أن أحدا ً من‬
‫الطالبيين توقف عن إطلق القول في هؤلء الخوارج أنهم أدعياء‪.‬‬
‫وقد كان هذا النكار شائعا ً بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب‪،‬‬
‫منتشرا ً انتشارا ً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم‪ ،‬أو يذهب وهم‬
‫إلى تصديقهم‪ ،‬وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه‪ ،‬كفار وفساق‬
‫فجار زنادقة ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون‪ ،‬قد عطلوا‬
‫الحدود‪ ،‬وأباحوا الفروج‪ ،‬وسفكوا الدماء‪ ،‬وسبوا النبياء‪،‬‬
‫ولعنوا السلف‪ ،‬وادعوا الربوبية‪.‬‬
‫وكتب خلق كثير في المحضر المذكور الذي حرر في شهر‬
‫ربيع الخر سنة اثنتين وأربعمائة منهم‪:‬‬
‫الشريف الرضي‪ ،‬والمرتضى أخوه‪ ،‬وابن الزرق الموسوي‪،‬‬
‫ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون‪ ،‬والقاضي أبو‬
‫محمد عبد الله بن الكفاني‪ ،‬والقاضي أبو القاسم الجزري‪ ،‬والمام‬
‫أبو حامد السفرايني‪ ،‬والفقيه أبو محمد الكشفلي‪ ،‬والفقيه أبو‬
‫الحسين القدوري الحنفي‪ ،‬والفقيه أبو علي بن حمكان‪ ،‬وأبو‬
‫القاسم التنوخي‪ ،‬والقاضي أبو عبد الله الصيمري‪ .‬انتهى أمر‬
‫المحضر باختصار‪ .‬فلما بلغ الحاكم قامت قيامته وهان في أعين‬
‫الناس لكتابة هؤلء العلماء العلم في المحضر (‪.)13‬‬
‫وفي ترجمة ابن الشواء‪ ،‬أورد كمال الدين عمر بن أبي‬
‫جرادة أنشودة له‪ ،‬يصف فيها تمكن اليهود في عصره‪:‬‬
‫غاية آمالهم وقــد‬ ‫يهود هذا الزمــان‬
‫ملـكوا‬ ‫قد بلغوا‬
‫ومنهم المستشــار‬ ‫العز فيهم والمـــال‬
‫والملك‬ ‫عندهم‬
‫تهودوا قد تهود‬ ‫يا أهل مصر قد‬
‫(‪) 14‬‬
‫الفلك ))‬ ‫نصحت لكم‬
‫((النجوم الزاهرة)) (‪.)231-229 /4‬‬ ‫‪13‬‬

‫((بغية الطلب في تاريخ حلب))‪ ،)697 -2/696( ،‬ط‪1988 ،/‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪17‬‬
‫وقد صور لنا الأستاذ محمد عبدالله عنان‪ ،‬مشهد انتقام‬
‫دعوا بها‪،‬‬‫خ ِ‬‫شعب مصر وجيشه الساخط من الدولة الفاطمية التي ُ‬
‫والتي طالما لعبت في عقولهم‪ ،‬وعاثت في أرضهم الفساد‪،‬‬
‫وحكمتهم بالحديد والنار‪ ،‬في صفحة ( ‪ )210-209‬من كتابه‪:‬‬
‫((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))‪ .‬فكانت نهاية‬
‫دولتهم في سنة ( ‪)411‬هـ‪.‬‬
‫هذه إحدى التجارب المّرة التي لدغنا منها‪ ،‬ولم تكن هي‬
‫الولى أبداً‪ ،‬وليست الخيرة قطعاً‪ ،‬فل زلنا نلدغ من نفس الجحر‬
‫اليهودي بأساليبه المتطورة مع الزمن بصور وأشكال متعددة‪،‬‬
‫وحقيقته واحدة‪.‬‬
‫السس الضرورية لفقه واقعنا السياسي‪:‬‬
‫ينبثق الفقه السياسي أساسا ً من العقيدة السلمية‪،‬‬
‫ومعززا ً بالشعائر التعبدية‪ ،‬ومؤيدا ً بالقيم والخلق النبيلة‪ .‬وهو‬
‫يقوم على مجموعة من السس الضرورية لجلب المصالح‬
‫وتكثيرها‪ ،‬ودرء المفاسد وتقليلها‪ ،‬وهذه السس يعتمد بعضها‬
‫على بعض وهي‪:‬‬
‫أول ‪ :‬فقه الواقيييع‬
‫ثانياً‪ :‬فقه الموازنات‬
‫ثالثاً‪ :‬فقه الولويات‬
‫رابعاً‪ :‬فقه التغيير‬

‫‪18‬‬
‫أولً‪ :‬فقه الواقع‬
‫تعريفات‪:‬‬
‫الفقه لغة‪:‬‬
‫لُ [هود‪ ، ]91:‬أي‪ :‬ل‬
‫شعَيْبُ مَا َنفْ َقهُ كَِثيًا ّممّا َتقُو ‪‬‬
‫مطلق الفهم‪).‬قَالُواْ يَا ُ‬
‫نفهم كثيرا ً مما تقول‪ ،‬ومن دعاء الرسول × لبن عباس ‪:‬‬
‫((اللهم فقهه في الدين‪ ،‬وعلمه التأويل))(‪ .)15‬أي‪ :‬فهمه معناه‪.‬‬
‫الواقع‪:‬‬
‫هو مجموعة الحقائق والسنن الكونية‪ ،‬ومنها الفطرة‬
‫النسانية‪ ،‬وكلها محكمة‪ ،‬أي‪ :‬ل تتبدل ول تتحول‪ .‬يضاف إلى‬
‫الواقع كذلك كل ما يحدث من حوادث‪.‬‬
‫فقه الواقع‪:‬‬
‫هو فهم ومعرفة الحقائق والسنن الكونية‪ ،‬والفطر‬
‫النسانية‪ ،‬معرفة يقينية‪ .‬لتساهم في مواكبة الواقع المعاصر‬
‫ومعايشته على أكمل وجه‪ ،‬إذ أن الشريعة السلمية دعت إلى‬
‫التفاعل مع السنن الكونية للفادة منها‪ ،‬والحذر من مخاطرها‪،‬‬
‫ضمن الثوابت‪ ،‬والصول التي ل يعذر المسلم بالخروج عنها‪.‬‬
‫أهمية فقه الواقع‪:‬‬
‫الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء‪ ،‬بل هو المتفرد‬
‫بالخلق دون غيره‪ ،‬ول يسأل عما يفعل‪ ،‬فقد شــاءت الله تعالى‬
‫أن يخلق هذا الكون بما فيه من أرض وسماوات وما بث فيهما‬
‫سمَاوَاتِ وَاْلأَ ْرضِ َومَا بَثّ فِي ِهمَا مِن‬
‫من دابة‪ ،‬قال تعــالى‪َ ):‬و ِمنْ آيَاِتهِ َخ ْلقُ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَرْضَ‬
‫دَاّبةٍ‪[ ‬الشورى‪ .]29:‬وقال تعالى‪ِ):‬إنّ َربّ ُكمُ ال ّلهُ اّلذِي خَ َلقَ ال ّ‬
‫شمْسَ وَاْل َقمَرَ‬
‫فِي سِّتةِ أَيّامٍ ُثمّ اسَْتوَى َعلَى اْلعَرْشِ ُيغْشِي اللّيْلَ النّهَارَ يَ ْطلُُبهُ حَثِيثًا وَال ّ‬
‫لمْرُ تَبَارَكَ ال ّلهُ َربّ اْلعَاَلمِيَ‪[ ‬العراف‪.]54:‬‬
‫خ ْلقُ وَا َ‬
‫سخّرَاتٍ ِبَأمْرِهِ أَلَ َلهُ الْ َ‬
‫وَالنّجُومَ مُ َ‬
‫لمْرُ)‪ :‬فيه‬
‫خ ْلقُ وَا َ‬
‫قال القرطبي في تفسير قوله تعالى‪( :‬أَلَ َلهُ الْ َ‬
‫مسألتان‪ :‬الولى‪ :‬صدق الله في خبره فله الخلق وله المر‬
‫خلقهم وأمرهم بما أحب‪.‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫‪19‬‬
‫لمْرُ)‬
‫خ ْلقُ وَا َ‬
‫وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى‪( :‬أَلَ َلهُ الْ َ‬
‫أي‪:‬له الملك والتصرف‪.‬‬
‫فالخلق‪ :‬هو الكون بما فيه من جمادات وأحياء‪ ،‬وهو‬
‫نتيجة لمر الله تعالى بأن يكون‪ ،‬فكان‪ .‬كما في قوله تعالى‪ِ :‬إّنمَا‬
‫يءٍ إِذَا أَرَ ْدنَاهُ أَن ّنقُولَ َلهُ كُن فَيَكُونُ‪[ ‬النحل‪ .]40:‬وفقه هذا النوع‬
‫َقوْلُنَا لِشَ ْ‬
‫يسمى‪( :‬فقه الواقع) الكوني‪.‬‬
‫والمر على عدة أحوال‪:‬‬
‫•أمر الله تعالى وكلمته التي بها خلق الجمادات والحياء‪ ،‬كما‬
‫يءٍ ِإذَا أَرَدْنَاهُ أَن ّنقُولَ َلهُ كُن َفيَكُونُ‪[ ‬النحل‪:‬‬
‫في قوله تعالى‪ِ :‬إّنمَا َقوْلُنَا لِشَ ْ‬
‫‪ِ .]40‬إّنمَا َأمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ َيقُولَ َلهُ ُكنْ َفيَكُونُ‪[ ‬يس‪ .]82:‬وهذا النوع‬
‫من المر المتعلق بإيجاد المخلوقات‪ ،‬يسمى كذلك بـ (فقه‬
‫الواقع) الكوني‪.‬‬
‫•أمر الله تعالى لتدبير الكون بما فيه من جمادات وأحياء‪ِ :‬إنّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَرْضَ فِي ِسّتةِ أَيّامٍ ُثمّ اسَْتوَى َعلَى اْلعَ ْرشِ ُي َدبّرُ‬
‫َربّ ُكمُ ال ّلهُ اّلذِي خَ َلقَ ال ّ‬
‫فَاعُْبدُوهُ أَفَلَ َتذَكّرُونَ‪[ ‬يونس‪:‬‬ ‫ا َلمْرَ مَا مِن َشفِيعٍ إِلّ مِن َبعْدِ إِذِْنهِ َذلِ ُكمُ ال ّلهُ رَبّ ُكمْ‬
‫‪َ  .]3‬فأَ ِقمْ وَجْ َهكَ لِلدّينِ حَنِيفًا ِفطْرَةَ ال ّلهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ َعلَيْهَا لَا تَ ْبدِيلَ ِلخَ ْلقِ ال ّلهِ‬
‫كنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعْ َلمُونَ‪[ ‬الروم‪ .]30:‬وهذا المر هو‬
‫َذِلكَ الدّينُ اْلقَّيمُ وَلَ ِ‬
‫السنن الكونية التي فطر الله تعالى الجمادات والحياء‬
‫عليها‪ .‬كدوران الرض حول الشمس‪ ،‬وإنزال الغيث‪ ،‬وتوسع‬
‫الكون في الجمادات‪ .‬وكغريزة التكاثر‪ ،‬والمأكل والمشرب‪،‬‬
‫والنوم‪ ،‬والصحة والمرض‪ ،‬والتدين في الحياء من البشر‬
‫وأمثالهم‪ .‬وهذا النوع يسمى كذلك بـ (فقه الواقع) الكوني‪.‬‬
‫•أمر الله تعالى الحياء‪ ،‬ومنهم النس والجن بطاعته وعبادته‪:‬‬
‫جنّ وَاْلإِنسَ إِلّا لَِيعُْبدُونِ‪[ ‬الذاريات‪ .]56:‬مَا ُقلْتُ َل ُهمْ إِلّ مَا َأمَرْتَنِي‬
‫‪َ ‬ومَا خَ َلقْتُ اْل ِ‬
‫ِبهِ أَنِ اعُْبدُواْ ال ّلهَ رَبّي وَرَبّ ُكمْ} [المائدة‪ .]117:‬يَا َأيّهَا النّاسُ اعُْبدُواْ َربّ ُكمُ اّلذِي‬
‫كمْ تَّتقُونَ‪[ ‬البقرة‪ .]21:‬وهذا المر‪ ،‬هو المر‬
‫َخ َلقَ ُكمْ وَاّلذِينَ مِن َقبْلِ ُكمْ َلعَلّ ُ‬
‫الشرعي‪ ،‬الذي تعبد الله به عباده‪ ،‬فأرسل لغايته الرسل ‪،‬‬
‫وأنزل الشرائع والكتب‪ ,‬وهو ما يسمى بـ (فقه الشرع)‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫سنّتان حاكمتان‪ :‬السنة الكونية(فقه الواقع)‬ ‫إذن هما ُ‬
‫المتعلق بما نتج عن أمر الله من إيجاد الخلق ابتداءً‪،‬‬
‫ثم تدبير شؤونهم ومعاشهم‪ ،‬وما يحدث لهم من حوادث‪.‬‬
‫والسنة الشرعية (فقه الشرع) المتعلق بأمر الله لعباده‬
‫بالطاعة والعبادة‪ ،‬وهي أوامره المتعلقة بالفعل والترك‪ .‬فلكي‬
‫يحيى النسان الحياة الطيبة عليه أن يعلم هاتين السنتين‪ ،‬ثم‬
‫يعمل بمقتضاهما‪ .‬ومن فرط في معرفة أحداهما أو تجاهلها أو‬
‫ظن في نفسه معرفتها فقد ضل سواء السبيل‪ ،‬ومن ضل سواء‬
‫السبيل انقلبت حياته‪ :‬من نعمة إلى نقمة‪ ،‬ومن أمن إلى خوف‪،‬‬
‫ومن سعة في الرزق إلى جوع وفقر‪ ،‬ومن خير إلى شر‪.‬‬
‫حشُرُهُ َي ْومَ‬
‫شةً ضَنكًا وَنَ ْ‬
‫قال تعالى‪):‬وَ َمنْ َأعْ َرضَ عَن ِذكْرِي َفِإنّ َلهُ َمعِي َ‬
‫اْلقِيَا َمةِ َأ ْعمَى‪[ ‬طه‪ .]124:‬وهذا المر مبين في قوله تعالى‪):‬يَا أَيّهَا اّلذِينَ‬
‫صلِحْ لَ ُكمْ َأ ْعمَالَ ُكمْ وَيَ ْغفِرْ لَ ُكمْ ذُنُوبَ ُكمْ َومَن يُطِعْ‬
‫آمَنُوا اّتقُوا ال ّلهَ وَقُولُوا َقوْلًا َسدِيدًا * ُي ْ‬
‫ال ّلهَ وَرَسُوَلهُ َفقَدْ فَازَ َفوْزًا َعظِيمًا‪[ ‬الحزاب‪ .]71-70:‬فالقول السديد‬
‫(الصادق) بحاجة إلى سداد في معرفة الواقع‪ ،‬ولكي نحصل‬
‫على الثمرات الواردة في الية الكريمة‪ ،‬ل بد من اجتماع أمرين‬
‫اثنين‪:‬‬
‫•معرفة الخلق والمر‪ ،‬أي‪ :‬الواقع والشرع‪.‬‬
‫•التقوى التي هي مقتضى تلك المعرفة‪.‬‬
‫وهاتان السنتان الحاكمتان (الخلق والمر) مهمتان‬
‫ومطلوبتان لصدار الحكام ومن ثم العمال‪ ،‬وخاصة لهل العلم‬
‫المفتين والقضاة والرعاة الحاكمين‪.‬‬
‫قال ابن القيم تحت عنوان‪(( :‬تمكن الحاكم والمفتي‬
‫بنوعين من الفهم))‪:‬‬
‫((ول يتمكن المفتي ول الحاكم من الفتوى والحكم بالحق‬
‫إل بنوعين من الفهم‪ :‬إحداهما‪ :‬فهم الواقع والفقه فيه‪،‬‬
‫واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والمارات والعلمات‬
‫حتى يحيط به علماً ‪.‬‬
‫والنوع الثاني‪ :‬فهم الواجب في الواقع‪ ،‬وهو فهم حكم‬
‫الله الذي حكم به في كتابه‪ ،‬أو على لسان رسوله في هذا‬
‫الواقع‪ ،‬ثم يطبق أحدهما على الخر‪ .‬فمن بذل جهده واستفرغ‬

‫‪21‬‬
‫ً‬
‫أجرا ‪ .‬فالعالم‪ :‬من‬ ‫وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو‬
‫يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم‬
‫الله ورسوله‪ ،‬كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر‬
‫إلى معرفة براءته وصدقه‪ .‬وكما توصل سليمان صلى الله عليه‬
‫وسلم بقوله‪ :‬ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما‪ ،‬إلى‬
‫معرفة عين الم‪ )16())..‬أهـ‪.‬‬
‫ولهذا قال رسول الله ×‪(( :‬القضاة ثلثة‪ :‬واحد في الجنة‬
‫واثنان في النار‪ ،‬فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى‬
‫به‪ .‬ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار‪ .‬ورجل‬
‫(‪.)17‬‬
‫قضى للناس على جهل فهو في النار))‬

‫ويقول (ابن القيم) محمد بن أيوب الزرعي‪ ،‬محذرا من‬


‫تبعات التقصير في معرفة الواقع والشريعة‪:‬‬
‫((‪...‬هذا موضع مزلة أقدام‪ ،‬وهو مقام ضنك ومعترك‬
‫صعب‪ .‬فَّرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤوا‬
‫أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة ل تقوم‬
‫بها مصالح العباد‪ ،‬وسدوا على نفوسهم طرقاً عديدة من طرق‬
‫معرفة الحق من الباطل‪ ،‬بل عطلوها مع علمهم قطعاً وعلم‬
‫غيرهم بأنها أدلة حق ظنا ً منهم منافاتها لقواعد الشرع‪ .‬والذي‬
‫أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة‪،‬‬
‫وتقصير في معرفة الواقع‪ ،‬وتنزيل أحدهما على‬
‫الخر‪ .‬فلما رأى ولة المر ذلك وأن الناس ل يستقيم أمرهم‬
‫إل بشيء زائد على ما فهمه هؤلء من الشريعة‪ ،‬أحدثوا لهم‬
‫قوانين سياسية ينتظم بها أمر العالم‪ ،‬فتولد من تقصير‬
‫أولئك في الشريعة وإحداث ما أحدثوه من أوضاع سياستهم‪،‬‬
‫شر طويل وفساد عريض‪ ،‬وتفاقم المر وتعذر استدراكه‪.‬‬
‫وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافى حكم‬
‫الله ورسوله‪ ،‬وكل الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما‬
‫بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم‬
‫الناس بالقسط‪ ،‬وهو العدل الذي به قامت السماوات والرض‪،‬‬
‫فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق‬
‫كان فثم شرع الله ودينه‪ ،‬والله تعالى لم يحصر طرق‬
‫العدل وأدلته وعلماته في شيء‪ ،‬ونفي غيرها من الطرق التي‬
‫((إعلم الموقعين)) (‪.)88 -1/87‬‬ ‫‪16‬‬

‫رواه أبو داود‪ ،‬وابن ماجة والترمذي وصححه الشيخ الألباني‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪22‬‬
‫هي مثلها أو أقوى منها‪ ،‬بل بين ما شرعه من الطرق أن‬
‫مقصوده إقامة العدل‪ ،‬وقيام الناس بالقسط‪ ،‬فأي طريق‬
‫استخرج بها العدل والقسط‪ ،‬فهي من الدين‪ ،‬ل يقال إنها‬
‫مخالفة له‪ ،‬فل تقول‪ :‬إن السياسة العادلة مخالفة لما‬
‫نطق به الشرع بل موافقة لما جاء به بل هي جزء من‬
‫أجزائه‪ .‬ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم وإنما هي شرع‬
‫حق))(‪.)18‬‬
‫مصادر معرفة الواقع‪:‬‬
‫بما أن فقه الواقع معتبر لصحة العتقاد والتصورات وما‬
‫يترتب على ذلك من صدق في القوال وصواب في العمال‪.‬‬
‫فمن الواجب أخذ هذا الفقه من مصادره الصادقة المعتبرة‪،‬‬
‫وأول هذه المصادر صدقاً الوحي بشقيه القرآن الكريم الذي ل‬
‫يأتيه الباطل من بين يديه ول من خلفه‪ ،‬والسنة النبوية‬
‫الصحيحة‪ ،‬وهما منهج للحياة البشرية الكريمة الصالحة‪ ،‬سواء‬
‫كان ذلك من جهة علقة العبد بخالقه‪ ،‬أم علقة العبد بالعبد‪ ،‬أم‬
‫علقته بالكون‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك فقد ترك الوحي أمورا ً من‬
‫الواقع‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بعلقة العبد بالعبد أو علقته بالكون‬
‫لتقدير الناس للوصول إلى معرفة حقائقها‪ .‬فقد أكد القرآن‬
‫على ضرورة التحري عن أخبار الفساق قبل ردها أو الخذ بها‪،‬‬
‫قال تعالى‪ :‬يَا أَيّهَا اّلذِي َن آمَنُوا إِن جَاء ُكمْ فَا ِسقٌ بِنََبأٍ َفتَبَيّنُوا أَن ُتصِيبُوا َق ْومًا بِجَهَاَلةٍ‬
‫صبِحُوا َعلَى مَا َفعَلُْتمْ نَا ِدمِيَ‪[ ‬الحجرات‪.]6:‬‬
‫فَُت ْ‬
‫وهذا التحري له طرقه ومصادره وأساليبه‪ ،‬وهو متطور‬
‫مع الزمن لتطور أساليب الدجل والعمل الجاسوسي المنظم‪،‬‬
‫فَتََر َ‬
‫ك أمره للناس ولفهامهم‪.‬‬
‫وفي علقة العبد بالكون‪ ،‬فقد أرشدنا الله تعالى إلى‬
‫سَألُوَنكَ َعنِ‬
‫أدب آخر في التعامل مع الوحي كما في قوله تعالى‪ :‬يَ ْ‬
‫حجّ وَلَيْسَ اْلبِرّ ِبَأنْ َت ْأُتوْاْ اْلبُيُوتَ مِن ُظهُورِهَا وَلَ ِكنّ الْبِرّ‬
‫الهِ ّلةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْ َ‬
‫كمْ ُتفْلِحُونَ‪[ ‬البقرة‪.]189:‬‬
‫َمنِ اّتقَى وَأْتُواْ الُْبيُوتَ ِمنْ أَْبوَابِهَا وَاّتقُواْ ال ّلهَ َلعَلّ ُ‬
‫فقد جاء قوم وسألوا الرسول × عن الهلّة‪ ،‬فأجابهم‬
‫الوحي بعلقتها بالمواقيت والحج فقط‪ ،‬ثم رد ّ عليهم قصدهم‬
‫((بدائع الفوائد)) (‪ ،)676-3/674‬ط‪ ،1/‬مكة المكرمة‪ ،‬دار الباز للنشر‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫‪23‬‬
‫الذي أرادوا منه معرفة ما وراء ذلك‪ ،‬كطبيعة القمر وخصائصه‬
‫ومكوناته من خلل الوحي‪ ،‬فقال‪):‬وَلَيْسَ الِْبرّ ِبَأنْ َتأُْتوْاْ الُْبيُوتَ مِن ظُهُو ِرهَا‪،‬‬
‫بل أمرهم لمعرفة حقيقة القمر الكونية بأن يأتوا البيوت من‬
‫أبوابها‪ ،‬أي‪ :‬أهل العلم المتخصصين‪ ،‬قال تعالى‪):‬وَأْتُواْ الُْبيُوتَ ِمنْ‬
‫َأْبوَابِهَا‪ ،‬لن القرآن الكريم لم يتطرق إلى بيان كل الحقائق‬
‫العلمية والسنن الكونية عن الكون إن كان فيه ما يدل على‬
‫ذلك‪ ،‬ولو قصد ذلك لحتاج المر إلى أضعاف أضعاف عدد آيات‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬فََرد ّ أمر معرفة ذلك إلى أهل والعلم‬
‫والختصاص‪):‬وَأْتُواْ الُْبيُوتَ ِمنْ أَْبوَابِهَا‪ .‬ولذا قال تعالى‪):‬سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي‬
‫يءٍ شَهِيدٌ‪‬‬
‫حقّ َأوََلمْ يَكْفِ ِبرَّبكَ أَّنهُ َعلَى كُلّ شَ ْ‬
‫س ِهمْ حَتّى يَتَبَّينَ لَ ُهمْ أَّنهُ اْل َ‬
‫الْآفَاقِ وَفِي أَنفُ ِ‬
‫[فصلت‪ .]53:‬أي بالعلم بالبحث والتنقيب‪.‬‬
‫يءٍ‪‬‬
‫وقد يحتج بعضهم‪ ،‬بقوله تعالى‪):‬مّا فَرّ ْطنَا فِي الكِتَابِ مِن شَ ْ‬
‫[النعام‪ .]38:‬لفهم الواقع كله من خلل الوحي‪ :‬القرآن والسنة‬
‫فقط‪ .‬وهذه الية ل تدل على مرادهم‪ ،‬فالمقصود بالكتاب‪ :‬هو‬
‫أم الكتاب‪ ،‬أو اللوح المحفوظ‪ .‬قال الطبري في تفسيرها‬
‫بسنده عن ابن عباس‪(( :‬ما تركنا شيئا ً إل قد كتبناه في أم‬
‫الكتاب))‪ .‬وقال القرطبي‪(( :‬أي في اللوح المحفوظ))‪ .‬ومما يدل‬
‫على صحة هذا التأويل قول الرسول ×‪(( :‬إن أول ما خلق‬
‫الله القلم‪ ،‬فقال له‪ :‬اكتب‪ .‬قال‪ :‬ما أكتب قال‪ :‬اكتب‬
‫القدر ما كان وما هو كائن إلى البد))(‪. )19‬‬
‫ومن الدلة على أن معرفة العبد لواقع هذا الكون‪ ،‬ليست‬
‫محصورة بالوحي فقط‪ ،‬قول رسول الله ×‪(( :‬أنتم أعلم بأمر‬
‫دنياكم))(‪.)20‬‬
‫ونص الحديث بتمامه‪:‬‬
‫((أن النبي × مرّ بقوم يلقحون فقال‪ :‬لو لم‬
‫تفعلوا لصلح قال‪ :‬فخرج شيصاً فمر بهم فقال‪ :‬ما‬

‫تخريج السيوطي ‪( :‬ت) عن عبادة بن الصامت‪ .‬تحقيق الشيخ‬ ‫‪19‬‬

‫اللباني‪( :‬صحيح) انظر حديث رقم‪ )2017( :‬في ((صحيح الجامع))‪.‬‬


‫تخريج السيوطي‪( :‬م) عن أنس وعائشة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪:‬‬ ‫‪20‬‬

‫(صحيح) انظر حديث رقم‪ )1488( :‬في ((صحيح الجامع))‪‌.‬‬

‫‪24‬‬
‫لنخلكم قالوا‪ :‬قلت كذا وكذا قال‪ :‬أنتم أعلم بأمر‬
‫دنياكم))(‪.)21‬‬
‫مع أن القرآن الكريم قد أشار إلى إحدى وظائف الرياح‪:‬‬
‫(التلقيح)‪ ،‬أي تلقيح أزهار النباتات‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ :‬وَأَرْ َسلْنَا‬
‫الرّيَاحَ َلوَاقِحَ‪[ ‬الحجر‪ .]22:‬لكن هذه السنة الكونية ل تصلح لتأبير‬
‫النخل‪ ،‬وعُلم ذلك من الخبرة‪ :‬الدراسة والتجربة‪.‬‬
‫وعليه فإن العتماد على الوحي في معرفة ما يتعلق‬
‫بقوانين الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات أو صناعة المتفجرات‬
‫والقنابل النووية والكهرباء وغير ذلك يعتبر من الجهل الذي ل‬
‫يقول به عاقل‪ ،‬ويدخل في ذلك كذلك أخبار الفرق والحزاب‬
‫والمذاهب وما اتفقت عليه‪ ،‬وما اختلفت فيه وأخبار الدول‬
‫والملوك والمراء والرؤساء والساسة والفراد‪.‬‬
‫ومن المؤسف أن يحمل البعض قول الرسول ×‪(( :‬أنتم‬
‫أعلم بأمر دنياكم)) على فراسة المؤمن‪ ،‬ففيه تعطيل واضح‪،‬‬
‫بل قتل لمادة البحث العلمي لكتشاف أسرار هذا الكون!!!‬
‫أمور مهمة لفهم الواقع‪:‬‬
‫(أ) أصناف الناس في معرفة الحقيقة‪:‬‬
‫يختلف الناس في معرفة الحقيقة وفهم الواقع على‬
‫أربعة أصناف‪:‬‬
‫الصنف الول‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬
‫النظر في الشكل الخارجي فقط‪ ،‬كأن يمتدح شخصا ما لطول‬
‫لحيته‪ ،‬أو لعمامته‪ ،‬أو للباسه المتواضع‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى‬
‫إشارات الصلح‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة‬
‫يقينية‪ .‬وهذا الصنف من أضل الناس‪.‬‬
‫الصنف الثاني‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬
‫القوال والتصريحات الدعائية فقط‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى‬
‫إشارات الصلح‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة‬
‫يقينية‪.‬‬
‫ض للتضليل‪ ،‬وذلك لمكانية وقوع‬
‫معر ٌ‬
‫وهذا الصنف ُ‬

‫مسلم برقم (‪.)2363‬‬ ‫‪21‬‬

‫‪25‬‬
‫ل آمَنّا بِال ّلهِ وَبِاْلَي ْومِ الْآخِرِ َومَا ُهمْ ِب ُمؤْمِنِيَ‪‬‬
‫الكذب‪ ،‬قال تعالى‪َ ):‬و ِمنْ النّاسِ َمنْ َيقُو ُ‬
‫جُبكَ َقوْلُهُ فِي اْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُشْ ِهدُ‬
‫[البقرة‪ .]8:‬وقال تعالى‪):‬وَ ِمنْ النّاسِ َمنْ ُيعْ ِ‬
‫سدَ فِيهَا وَيُ ْه ِلكَ‬
‫خصَامِ*وَإِذَا َتوَلّى سَعَى فِي اْلأَرْضِ لُِيفْ ِ‬
‫ال ّلهَ عَلَى مَا فِي قَلِْبهِ َو ُهوَ أََلدّ اْل ِ‬
‫الْحَ ْرثَ وَالنّسْلَ وَال ّلهُ لَا يُحِبّ اْلفَسَادَ‪[ ‬البقرة‪.]205-204:‬‬
‫الصنف الثالث‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬
‫رؤية الفعال فقط‪ ،‬وإن كانت هذه إحدى إشارات الصلح‬
‫القوية‪ ،‬إل أنها ل تكفي لمعرفة واقع الشخص معرفة يقينية‪،‬‬
‫معرض للتضليل كذلك‪ ،‬من صورتين‪:‬‬‫وهذا الصنف ُ‬
‫•صورة المنافق الذي يشهد الجمعة والجماعات‪ ،‬فلو نظرت‬
‫خدعت به‪.‬‬‫إلى ظاهر عمله فقط‪ُ ،‬‬
‫• صورة المرائي ولو بأفضل العمال والطاعات‪ ،‬كقراءة‬
‫القرآن والجهاد والصدقة‪ ،‬فهذا النوع يخالف ظاهره باطنه‪.‬‬
‫والحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة ‪ ،‬الذي يخبرنا‬
‫فيه النبي × عن أول ثلثة تسعّر فيهم النار يوم القيامة أدل‬
‫دليل على صحة ذلك‪ .‬وقول النبي ×‪(( :‬إنما العمال‬
‫بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته‬
‫إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬ومن‬
‫كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته‬
‫إلى ما هاجر إليه))‪[ .‬رواه البخاري ومسلم وغيرهما]‪.‬‬
‫الصنف الرابع‪ :‬من يريد معرفة الحقيقة عن طريق‬
‫قراءة الفكار والعقائد‪ ،‬فهذا الصنف ل يضل ول يزل بإذن الله‪،‬‬
‫ول يلدغ من جحر واحد مرتين‪ .‬وهذا السلوب هو الدق‬
‫والصوب‪ ،‬ول يستطيعه أو يُطيقه كثير من الناس‪.‬‬
‫وأصحاب هذا الصنف هم الفقهاء في الواقع‪ ،‬ينذرون‬
‫أقوامهم ويأخذون بأيديهم بعيدا ً عن مواطن الزلل والخديعة‪،‬‬
‫قال تعالى‪):‬وََلوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى ُأوْلِي اْلَأمْرِ مِنْ ُهمْ َلعَ ِل َمهُ اّلذِينَ يَسَْتنْبِطُوَنهُ‬
‫مِنْ ُهمْ‪[ (..‬النساء‪.]83:‬‬
‫س الحاجة إلى هذا الصنف من الناس‬ ‫ونحن في أم ّ‬
‫وتكثيره‪ ،‬في زمن السنوات الخدّاعات التي أخبر عنها النبي ×‪:‬‬
‫((ثم يأتي على الناس سنوات خداعات‪ ،‬يُصدّقُ فيها‬

‫‪26‬‬
‫الكاذب‪ ،‬ويُكذّ ُ‬
‫ب فيها الصادق‪ ،‬ويؤتمن فيها الخائين‪،‬‬
‫ون فيهيا المين‪ ،‬وينطق فيها الرويبضة‪ ،‬قييل‪:‬‬ ‫ويُخ ّ‬
‫وما الرويبضة؟ قيال‪ :‬الرجل التافه يتكلم في أمر‬
‫العامة))(‪.)22‬‬
‫كي يقوم أولئك بتصحيح الصورة‪ ،‬وإحقاق الحق‪ ،‬وتصويب‬
‫الوضاع‪ ،‬فكيف الحال بأمة ترى الصادق كاذبا ً والكاذب صادقا ً ؟‬
‫وكيف بأمة ترى المين خائنا ً والخائن أمينا ؟!‬

‫((صحيح ابن ماجة))‪ ،‬رقم‪ )4036 ( :‬عن أبي هريرة ‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪27‬‬
‫ركِها‪:‬‬ ‫أمثلة من الخدع التي وقعنا في َ‬
‫ش َ‬
‫‪-1‬تظاهر مصطفى كمال أتاتورك اليهودي بالسلم‪ ،‬حتى‬
‫تمكن من القضاء على الدولة العثمانية‪ ،‬وسلخ تركيا علنية‬
‫عن السلم(‪ .)23‬فلو أن المسلمين لم يأمنوا جانبه‪،‬‬
‫واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين بصفته يهودياً‬
‫سابقاً لما لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند اليهود تبرر‬
‫الوسيلة‪ .‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب المبرمج‬
‫والخديعة‪.‬‬
‫‪-2‬التحالف القديم بين السلميين والشتراكيين بقيادة لينين‬
‫في روسيا النصرانية قبل الثورة البلشفية الشيوعية(‪،)24‬‬
‫وبعد نجاح الثورة تم الهجوم على الجمهوريات السلمية‬
‫المستقلة‪ .‬فلو أنهم لم يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال‬
‫مخادعته للمسلمين بصفته شيوعياً لما لدغوا من جحره‪،‬‬
‫فالغاية عند الشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه‬
‫الوسائل الكذب المبرمج والخديعة‪.‬‬
‫‪-3‬قيام الرئيس جمال عبد الناصر الشتراكي بالنضمام إلى‬
‫الخوان المسلمين حتى تمكن من استلم السلطة ليقضي‬
‫على الحركة السلمية‪(( ،‬فقد قرر مجلس قيادة الثورة في‬
‫ل جماعة الخوان‬‫ح ّ‬
‫جلسته المنعقدة في ‪َ 12/1/1954‬‬
‫المسلمين‪ ،‬واتهمهم بقلب نظام الحكم‪ ،‬والتصال بالنجليز))‬
‫(‪.)25‬‬
‫يقول حسين محمد حمودة أحد الضباط الحرار في‬
‫جماعة الخوان المسلمين بهذا الشأن‪(( :‬كانت الخلية‬
‫الرئيسية في تنظيم الخوان المسلمين داخل القوات‬
‫المسلحة مكونة من سبعة ضباط هم‪ :‬عبد المنعم عبد‬
‫الرءوف وجمال عبد الناصر وكمال الدين حسن وسعد‬
‫توفيق وخالد محي الدين وحسين حمودة وصلح خليفة))‪.‬‬
‫وقال‪(( :‬التقينا نحن السبعة وحضر اجتماعنا الصاغ محمود‬

‫((الفعى اليهودية في معاقل السلم))‪ ،‬عبد الله التل‪( ،‬ص ‪،85 ،75‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪.)90‬‬
‫طارق حجي في كتابه ((أفكار ماركسية في الميزان))‪ ،‬ص ‪ ،65‬دار‬ ‫‪24‬‬

‫المعارف‪.‬‬
‫جريدة الجمهوربة‪ 15 ،‬يناير ‪ ،1954‬الصفحة الرئيسية‪.‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪28‬‬
‫لبيب وكيل جماعة الخوان المسلمين‪ ،‬وتكررت اجتماعاتنا‬
‫مرة كل أسبوع في منزل عبد المنعم عبد الرءوف بالسيدة‬
‫زينب‪ ،‬وفي منزل جمال عبد الناصر‪ ...‬وتكررت اجتماعاتنا‬
‫السبوعية ولم تنقطع أبدا طيلة الفترة (‪)1948 -1944‬‬
‫أربع سنوات وأربعة اشهر))(‪.)26‬‬
‫فإن كان الخوان المسلمون يعلمون أن جمال عبد‬
‫الناصر كان عضواً في خلية شيوعية قبل الثورة اسمها‬
‫الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني( حدتو)(‪ )27‬فتلك‬
‫مصيبة‪ ،‬وإن كانوا ل يعلمون فالمصيبة أعظم‪ .‬فلو أنهم لم‬
‫يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين‬
‫سابقا على أقل تقدير لما لدغوا‬
‫ً‬ ‫بصفته شيوعياً‪ ،‬أو شيوعياً‬
‫من جحره‪ ،‬فالغاية عند الشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس‬
‫الوسائل الكذب المبرمج والخديعة‪.‬‬
‫علن‬ ‫‪ -4‬تظاهر ميشيل يوسف عفلق اليهودي بالنصرانية‪ ،‬ثم أُ ْ‬
‫منَه من‬ ‫عن إسلمه بعد وفاته كذباً وزوراً (‪ .)28‬وأ ِ‬
‫منَه من أ ِ‬
‫غثاء المسلمين‪ ،‬وساروا على نهجه الشتراكي‪ ،‬وصدق بعض‬
‫الغثاء قصة إسلمه الموهومة‪ .‬فلو أنهم لم يأمنوا جانبه‪،‬‬
‫واحترسوا منه لحتمال مخادعته للمسلمين بصفته يهودياً أو‬
‫سابقا‪ ،‬أو اشتراكياً على أقل تقدير ما‬ ‫ً‬ ‫شيوعياً‪ ،‬أو شيوعياً‬
‫لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند اليهودية والشيوعية تبرر‬
‫الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب المبرمج‬
‫والخديعة‪.‬‬
‫‪ -5‬بعد نجاح الثورة الشيعية المامية الخمينية في إيران‪ ،‬أعلن‬
‫عن قيام جمهورية إيران السلمية‪ ،‬قام عامة المسلمين‬
‫بتهنئة بعضهم بعضاَ‪ ،‬وظنوا بهذه الثورة خيراً‪ ،‬علما ً أن‬
‫الخميني يعتقد بالخط الثوري الماركسي الشيوعي‪ . .‬فلو‬
‫أنهم لم يأمنوا جانبه‪ ،‬واحترسوا منه لحتمال مخادعته‬
‫((أسرار حركة الضباط الحرار)) (ص ‪.)33‬‬ ‫‪26‬‬

‫المرجع السابق‪( ،‬ص ‪ ،)157‬وفيه قيام عبد الناصر بنقض التفاق بينه‬ ‫‪27‬‬

‫وبين الخوان على الحكم بكتاب الله‪ ،‬وفتكه بالحركة السلمية (ص‬
‫‪ ،)167-161‬وراجع كتاب‪(( :‬فشل حركة يوليو بعدائها للتيار‬
‫السلمي)) للدكتور جابر الحاج (ص ‪.)34‬‬
‫نقل خبر إسلمه وسائل العلم في حينه‪ .‬وقد ذكر يهودية أبيه‬ ‫‪28‬‬

‫يوسف عفلق‪ ،‬الذي اعتنق النصرانية‪ ،‬عن الموقع‪:‬‬


‫‪www.moqatel.com/mokatel/DataBehoth/Siasia2/HezbBath/Mokatel3-1-2.htm‬‬

‫‪29‬‬
‫إماميا‪ ،‬أو شيوعياً‪ ،‬أو اشتراكياً على‬
‫ً‬ ‫للمسلمين بصفته شيعياً‬
‫أقل تقدير ما لدغوا من جحره‪ ،‬فالغاية عند الشيعة‬
‫والشيوعية تبرر الوسيلة‪ ،‬وعلى رأس هذه الوسائل الكذب‬
‫المبرمج (التقية)‪ ،‬والخديعة‪.‬‬
‫‪ -6‬والدجال وهو أسوأ خدعة منتظرة‪ ،‬وزمان خروجه قد يكون‬
‫خدِعَ بمن سبق ذكرهم‪ ،‬فكيف سينجو من‬ ‫قد اقترب‪ ،‬فمن ُ‬
‫فتنته؟ مع العلم أن علم تسخير الشعوب الذي تقوم عليه‬
‫الشتراكية اليهودية يزداد تطوراً مع الزمن‪.‬‬
‫(ب) الكذب‪:‬‬
‫الكذب هو عكس حقيقة الخلق‪ ،‬أو عكس الواقع‪ ،‬وهو‬
‫من أقبح الخلق الذميمة‪ ،‬ومصيبة المصائب‪ ،‬وأشنعه ما كان‬
‫عن قصد‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫سمْعَ وَاْلَبصَرَ وَاْل ُفؤَادَ كُلّ أُولِئكَ كَانَ عَ ْنهُ‬
‫‪•‬وَلَ َتقْفُ مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِ ْلمٌ إِنّ ال ّ‬
‫سؤُولً‪[ ‬السراء‪.]36:‬‬
‫مَ ْ‬
‫سةُ أَنّ َلعْنَتَ ال ّلهِ عَ َل ْيهِ إِن كَانَ ِمنَ الْكَاذِبِيَ‪[ ‬النور‪.]7:‬‬
‫‪•‬وَاْلخَامِ َ‬
‫‪َ •‬ف َمنْ حَآ ّجكَ فِيهِ مِن َب ْعدِ مَا جَاءكَ ِمنَ اْلعِ ْلمِ َفقُلْ َتعَالَوْاْ َندْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاء ُكمْ وَنِسَاءنَا‬
‫[آل‬ ‫جعَل ّلعْنَةَ ال ّلهِ َعلَى الْكَاذِبِيَ‪‬‬
‫سنَا وأَنفُسَ ُكمْ ُثمّ نَ ْبتَهِلْ فََن ْ‬ ‫وَِنسَاء ُكمْ وَأَنفُ َ‬
‫عمران‪.]61:‬‬
‫ك ِذبَ َو ُهمْ َيعْ َلمُونَ‪[ ‬آل عمران‪.]95:‬‬ ‫‪•‬وََيقُولُونَ عَلَى ال ّلهِ الْ َ‬
‫وجاء في الحاديث‪:‬‬
‫•((ثم إن الصدق يهدى إلى البر‪ ،‬وإن البر يهدى إلى‬
‫الجنة‪ ،‬وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقا‪ .‬وإن‬
‫الكذب يهدى إلى الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدى إلى‬
‫النار‪ ،‬وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا))‬
‫[متفق عليه]‪.‬‬
‫•((ثم أربع من كن فيه كان منافقا ً خالصاً ‪ ،‬ومن‬
‫كانت فيه خصلة منهن‪ ،‬كانت فيه خصلة من النفاق‬
‫حتى يدعها‪ :‬إذا أؤتمن خان‪ ،‬وإذا حدث كذب‪ ،‬وإذا‬
‫عاهد غدر‪ ،‬وإذا خاصم فجر)) [متفق عليه]‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ي الرجل إلى غير‬ ‫•((إن من أعظم الفرى‪ ،‬أن يدع َ‬
‫أبيه‪ ،‬أو يري عينه ما لم تره‪ ،‬أو يقول على رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل))‪[ .‬رواه‬
‫البخاري]‪.‬‬
‫أنواع الكذب‪:‬‬
‫يقسم الكذب من جهة قائله إلى قسمين هما‪:‬‬
‫‪.1‬الكذب المؤسسي‪ :‬هو الكذب المنطلق من عقيدة‪ ،‬أو‬
‫مبدأ‪ ،‬أو دين‪ ،‬مثل الكذب في الديانة اليهودية المحرفة التي‬
‫تجيز الكذب لتباعها في تعاملهم مع غيرهم‪ ،‬سواء كان ذلك‬
‫لجلب منفعة أو درء مفسدة‪ ،‬بل هو عندهم قربى يتقربون‬
‫بها إلى الله بزعمهم‪ .‬ومثلها العقيدة المامية الباطنية التي‬
‫تتخذ الكذب والتّقيّة ديناً‪ ،‬بل فيها ـ على حد زعمهم ـ تسعة‬
‫أعشار الدين‪.‬‬
‫وأما الكذب في المبدأ الشتراكي الصهيوني فهو الركيزة‬
‫الكبرى عندهم‪ .‬فأصحاب هذا النوع من الكذب يعاملون‬
‫مل دعواهم على مبدأ المواراة‬ ‫ح َ‬
‫بالحذر الشديد‪ ،‬وت ُ ْ‬
‫والمداهنة واللف والدوران‪ ،‬ومن جهة هؤلء يكون الخوف‬
‫والحتراس لباطنيتهم ولفسادهم‪ .‬فلو قالوا‪(( :‬نحن مع‬
‫السلم أو نحترم الحريات الدينية أو أننا ننبذ الرهاب))‬
‫وأمثال ذلك من الكلم الحسن‪ ،‬فل يجب علينا قبول زعمهم‬
‫وتصديقهم‪ ،‬بل علينا حمل هذه التصريحات على المراوغة‬
‫والخديعة‪ ،‬وإل أصبنا بنار تضليلتهم السياسية وغير‬
‫السياسية‪ .‬فصاحب هذا النوع من الكذب تراه منشرح‬
‫الصدر راضٍ عن فعله‪ ،‬بل يتقرب إلى الله تعالى بكذبه‪ .‬ول‬
‫يجوز حمل هذا النوع من الكذب على أنه شخصي‪ ،‬ككذب‬
‫زعماء اليهود والشتراكيين والشيعة المامية‪ ،‬ولو حملنا هذا‬
‫الكذب المؤسسي على أنه شخصي لضللنا‪ ،‬فكيف بنا إذا‬
‫صدّقناهم؟‬‫َ‬
‫‪.2‬الكذب الشخصي‪ :‬وهذا الكذب يصدر عن شخص يدين‬
‫حرّم ممارسة الكذب بين أتباعه‪ ،‬ويحرم على أتباعه‬ ‫بدين يُ َ‬
‫(‪)29‬‬
‫ممارسته على الخرين ‪ .‬ومن أمثلته‪ ،‬المسلم الذي يقع‬

‫إل في ظروف معينة مقيدة استثنائية‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪31‬‬
‫جه النتقاد إلى شخصه هو‪ ،‬ل‬ ‫في جريمة الكذب‪ ،‬فالعاقل يُوَ ّ‬
‫إلى الدين السلمي الذي ينتمي إليه‪ ،‬ومن فعل ذلك فقد‬
‫خلط المور وضلل الناس وأساء إلى السلم‪ ،‬وعلى هذا‬
‫يقاس كل دين يحرم الكذب على أتباعه‪ ،‬كالنصرانية في‬
‫النجيل‪ .‬فصاحب هذا النوع من الكذب تراه يشعر بالذنب‬
‫م ُ‬
‫ل‬ ‫ح ْ‬
‫ن َ‬‫فيستغفر الله ويتوب إليه‪ .‬إذن من الضلل البَي ّ ِ‬
‫الكذب المؤسسي على الكذب الشخصي‪ ،‬وبالعكس‪.‬‬
‫وعليه فمن ثبت كَذِبُه المؤسسي وجب ترك روايته‬
‫والتحذير من مقولته‪ ،‬خاصة إذا اتخذ من الكذب وسيلة لتحقيق‬
‫أهدافه‪ ،‬كما هو الحال في اليهودية والمبدأ الشتراكي والمامية‬
‫الباطنية‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن تيمية عددا ً من الطرق التي يُعلم‬
‫بها كذب المنقول‪ ،‬منها‪:‬‬
‫((أن يَْروي‪ -‬أي الراوي‪ -‬خلف ما عُلم بالتواتر‬
‫والستفاضة‪ ،‬مثل‪ :‬أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة‪،‬‬
‫واتبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة فكانوا مرتدين ليمانهم بهذا‬
‫المتنبئ الكذاب‪ .‬وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر‪ ،‬كان مجوسياً كافراً‪.‬‬
‫وان أبا الهرمزان كان مجوسياً أسلم‪ .‬وأن أبا بكر كان يصلي‬
‫بالناس مدة مرض الرسول × ويخلفه بالمامة بالناس لمرضه‪.‬‬
‫وأن أبا بكر وعمر دفن في حجرة عائشة مع ×‪.‬‬
‫ومثل ما يعلم من غزوات النبي × التي كان فيها القتال‪،‬‬
‫حد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف‪.‬‬ ‫كبدر وأ ُ‬
‫والتي لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها‪ .‬وما نزل من‬
‫القرآن في الغزوات‪ ،‬كنزول النفال بسبب بدر‪ ،‬ونزول آخر آل‬
‫عمران بسبب أحد‪ ،‬ونزول أولها بسبب نصارى نجران‪ ،‬ونزول‬
‫سورة الحشر بسبب بني النضير‪ ،‬ونزول الحزاب بسبب‬
‫الخندق‪ ،‬ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية‪ ،‬ونزول براءة‬
‫بسبب غزوة تبوك‪ ،‬وغيرها و أمثال ذلك‪.‬‬
‫فإذا روى في الغزوات وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلف‬
‫م أنه كذب‪ .‬مثل ما يروي هذا الرافضي‪ ،‬وأمثاله من‬
‫الواقع عُل ِ َ‬
‫الرافضة وغيرهم من الكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات‬
‫كما تقدم التنبيه عليه‪ .‬ومثل أن يعلم نزول القرآن في أي وقت‬
‫كان‪ .‬كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة و‬

‫‪32‬‬
‫النفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة‪ .‬وأن النعام‬
‫والعراف ويونس وهوداً ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت‬
‫الساعة وهل أتى على النسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة‬
‫صفّة كانت بالمدينة‪ .‬وأن‬‫بمكة‪ .‬وأن المعراج كان بمكة‪ .‬وأن ال ُ‬
‫أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلى‬
‫ة منزلً‬
‫صفّ ُ‬
‫الله عليه وسلم ولم يكونوا ناساً معينين بل كانت ال ُ‬
‫ينزل بها من ل أهل له من الغرباء القادمين وممن دخل فيهم‬
‫سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين‬
‫وكالعرنيين الذين ارتدوا عن السلم))(‪.)30‬‬
‫(ج) قانون عاملي القتناع هما التكرار والزمن‪ ،‬أو‬
‫الغزارة والزمن‪:‬‬
‫وهذا القانون أهمها وأخطرها‪ ،‬وبه انتشرت أفكار حزب‬
‫التحرير‪ .‬فبالتكرار والزمن عبد غير الله‪ ،‬فأصبح عزير ابن الله‬
‫عند اليهود‪ ،‬والمسيح ابن الله عند النصارى‪ ،‬وبهذا القانون‬
‫أصبحت الوثان والصنام‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والبقر آلهة عند‬
‫الغثاء من الناس‪.‬‬
‫وبهذا القانون‪ ،‬انتشرت البدع والخرافات في الدين‪ .‬و‬
‫بالتكرار والزمن كذلك‪ ،‬عاد الناس إلى التوحيد ونبذ البدع‬
‫والخرافات مرة أخرى‪ .‬ويهمنا أن نوضح للقارىء الكريم علقة‬
‫هذا القانون في عصرنا الراهن بمصدر الشر على وجه الرض‪،‬‬
‫فاليهود اتخذوا الكذب وسيلة كبرى لتحقيق غاياتهم‪.‬‬
‫(د) السنوات الخداعة‪:‬‬
‫بما أن الكذب هو عكس للواقع وللحقيقة‪ ،‬تقوم عليه‬
‫دعوات هدامة(‪ )31‬تقصد الفساد والفساد في المجتمعات‬
‫النسانية من خلل إثارة مجموعة من الفكار والتصورات‬
‫والمفاهيم الكاذبة‪ .‬وبهذه التصورات المزعومة يعتقد الناس ـ أو‬
‫فقل إن شئت الغثاء من الناس ـ بمجموعة من المصالح‬
‫والمفاسد الموهومة‪ .‬فتصبح هذه المصالح والمفاسد هي‬
‫الحاكمة على تصرفات من اعتقد بها باعتبارها الحقّ الذي ل‬
‫حق غيره‪ ،‬وما علموا أن هذه المصالح هي في الحقيقة مفاسد‬
‫حوا وتحالفوا مع‬‫ض ّ‬
‫خالصة‪ ،‬بل هي خطة عدوهم فيهم‪ ،‬طالما َ‬
‫((منهاج السنة النبوية)) (‪.)438 -7/437‬‬ ‫‪30‬‬

‫مثل‪ :‬اليهودية والشتراكية والشيعة المامية وحزب التحرير‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫‪33‬‬
‫أعدائهم ـ أمثال الشتراكية والمامية الباطنية الحاقدة ـ من‬
‫أجل تحقيقها‪ .‬وما علموا كذلك أن المفاسد التي تصوروها‪ ،‬إنما‬
‫هي مصالح‪ ،‬أو أنها تصنف ضمن باب ((درء المفسدة الكبرى‬
‫بالمفسدة الصغرى))‪.‬‬
‫مطَبّقة في هذا الباب اتهام‬
‫ومن أخطر الساليب ال ُ‬
‫الصادق بالكذب‪ ،‬والمين بالخيانه‪ ،‬وبالعكس‪ .‬ففي الوقت الذي‬
‫خوَنة من الشتراكيين الشيوعيين‪،‬‬ ‫يُخدع فيه الناس بالكَذ َبَةِ ال َ‬
‫والشيعة المامية‪ ،‬تجدهم يتهمون الصادق والمين من‬
‫السلميين والوطنيين العادلين‪ ،‬فيعيش الناس في بيئة سياسية‬
‫واجتماعية موبوءة‪ ،‬خداعة كما وصفها الرسول × في قوله‪:‬‬
‫((إن بين يدي الساعة سنين خداعة‪ ،‬يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويكذب‬
‫فيها الصادق‪ ،‬ويؤتمن فيها الخائن‪ ،‬ويخون فيها المين‪ ،‬وينطق‬
‫فيها الرويبضة‪ .‬قيل‪ :‬وما الرويبضة؟ قيل‪ :‬المرء التافه يتكلم‬
‫في أمر العامة))(‪.)32‬‬
‫وبسبب هذه الحالة التي تصيب الناس‪ ،‬يصبح الناس‬
‫((غثاء كغثاء السيل))‪ .‬فتجدهم ينطلقون مع هذا التيار الفكري‬
‫المخادع‪ ،‬إلى الهداف التي حددها لهم مسبقا‪ ،‬أو حيّدها‪ ،‬وهم ل‬
‫يشعرون بخطته فيهم‪ ،‬ول بوجوده أصلً‪ .‬فتجدهم يقاتلون‬
‫إخوانهم‪ ،‬كقتالهم لبعض الدول السلمية التي ل زالت من خير‬
‫الدول في تطبيق السلم‪ ،‬ويقاتلون أصدقاءهم‪ ،‬كبعض الدول‬
‫الغربية غير المحاربة لنا في الدين‪ ،‬بل تجدهم ينصرون أعداءهم‬
‫من الشتراكيين اليهود‪ ،‬والمامية الباطنية تحت باب التقاء‬
‫المصالح في صراعنا مع الصليبية أو اليهود‪ .‬فانطبق علينا قول‬
‫الرسول الله ×‪(( :‬يوشك المم أن تداعى عليكم كما‬
‫تداعى الكلة إلى قصعتها))‪ .‬فقال قائل‪ :‬ومن قلة نحن‬
‫يومئذ؟ قال‪(( :‬بل أنتم يومئذ كثير‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء‬
‫السيل‪ ،‬ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم‪،‬‬
‫وليقذفن الله في قلوبكم الوهن))‪ .‬فقال قائل‪ :‬يا رسول‬
‫الله وما الوهن؟ قال‪(( :‬حب الدنيا وكراهية الموت))(‪.)33‬‬
‫(هي) قانون إماتة الحتمالت الحية وإحياء‬
‫الحتمالت الميتة‪:‬‬

‫(صحيح)‪(( ،‬السلسلة الصحيحة))‪ .‬برقم (‪.)2253‬‬ ‫‪32‬‬

‫((السلسلة الصحيحة)) رقم (‪ ،)647‬قال الشيخ اللباني‪ :‬صحيح‪.‬‬ ‫‪33‬‬

‫‪34‬‬
‫يقوم هذا القانون على إثارة الغثاء ضد أمر موهوم ل‬
‫وجود له‪ ،‬أو تضخيم أحد الخطار المتوقعة قليلة الثر‪ .‬وفي‬
‫المقابل يتم إماتة الخطر الول والعظم بعدم الشارة إليه‬
‫بالمرة‪ ،‬أو التقليل من خطره‪.‬‬
‫فقد عانى الناس ول زالوا‪ ،‬من هذا القانون القاتل‪ ،‬إذ به‬
‫يتوجه الناس لقتال السراب‪ ،‬ويتركون عدوهم الكبر يعيث في‬
‫الرض الفساد‪ .‬فقد قتلت الشيوعية (الشرق) من المسلمين‪،‬‬
‫حوالي (‪ )200‬مليون مسلم‪ ،‬في غضون (‪ )70‬سنة فقط‪ ،‬في‬
‫حين لم تقتل الصليبية (الغرب) من المسلمين ماضياً وحاضراً‬
‫على مر التاريخ السلمي‪ ،‬أكثر من (‪ )5‬مليين مسلم‪ ،‬منهم‬
‫مليون مسلم في الجزائر‪ ،‬وهدمت الشيوعية (الشرق) من‬
‫مساجد المسلمين مئات اللف‪ ،‬في حين يزداد عددها في‬
‫الغرب‪ ،‬وأغلقت الشيوعية (الشرق) مئات اللف من دور‬
‫القرآن والمدارس السلمية‪ ،‬في حين يزداد عددها في الغرب‪.‬‬
‫وألغت الشيوعية (الشرق) اللغة العربية لغة القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وانتشرت في الغرب‪ .‬ثم بعد كل هذا مات الخطر‬
‫الشيوعي (الشرق)‪ .‬مع العلم أنه يوجد حاليا ً في عام (‪1427‬هـ‪/‬‬
‫‪2006‬م)‪ ،‬حوالي مائـة حزب يسـاري منتشرة في الدول‬
‫العربيـة(‪ .)34‬وليس المقصود أنها غير مؤثرة في واقعنا‪ ،‬بل هي‬
‫على العكس تماماً‪ ،‬بل منها أنظمة قائمة على سدة الحكم‪.‬‬
‫وبهذا فقد تضخم الخطر الغربي وتضخم لدى المسلمين!!!‬
‫ولم نلتفت إلى تحذير النبي × المتكرر‪ :‬أن الخطر القادم‬
‫من الشرق‪ .‬أل يدل ذلك أننا فعلً غثاء كغثاء السيل‪ ،‬فقد وجهنا‬
‫سيل الدعاية الفكري الجارف لن نوجه كل عدائنا إلى الغرب‬
‫ونترك الشرق‪ ،‬فاستجبنا لندائه‪.‬‬
‫ومن الصور التي ساعدت على قلب الحقائق وانعكاس‬
‫فهم الواقع لدى المسلمين‪ ،‬أن أصحاب القلم والتحليل‬
‫السياسي المتأثرين بدعاية حزب التحرير‪ ،‬المدافعة عن‬
‫الماركسية الشتراكية بطريقة مدروسة‪ ،‬يصفون دائماً وبكل‬
‫إصرار‪ ،‬الجرائم التي ارتكبتها الشتراكية في طول بلد السلم‬
‫وعرضها‪ ،‬بأنها من صنع الغرب‪ ،‬وبمخططات أمريكية على وجه‬
‫((الحزاب السياسية في العالم العربي))‪ ،‬إصدار مركز القدس‬ ‫‪34‬‬

‫للدراسات السياسية‪( ،‬ص ‪ .)200-150‬وهو عبارة عن توثيق لفعاليات‬


‫مان ‪ 13-12‬حزيران‪.2004/‬‬‫المؤتمر الذي عقد في ع ّ‬
‫‪35‬‬
‫الخصوص‪ ،‬ويتهمون حكام هذه الدول الشتراكية التي ذاق فيها‬
‫المسلمون أقسى أنواع العذاب والقتل والتشريد والجوع‬
‫والفقر‪ ،‬بالعمالة لمريكا أو لبريطانيا‪ .‬كجرائم النظم‬
‫الشتراكية‪ ،‬في مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن‪ ،‬والجزائر‪،‬‬
‫والصومال‪ ،‬وإثيوبيا واندونيسيا وأفغانستان وغيرها من الدول‪،‬‬
‫بل ذهبت هذه القلم إلى صرف النظر عن جرائم التحاد‬
‫السوفيتي نفسه‪ ،‬باعتباره صاحب النظرية الشتراكية‬
‫المريكية!!!‬
‫وكذلك جرائم الشتراكية في البوسنة والهرسك‪،‬‬
‫وكوسوفا‪ ،‬بل ذهبت هذه القلم إلى ما هو أبعد من ذلك‪،‬‬
‫فاعتبرت تحرك حلف شمال الطلسي بقيادة الوليات المتحدة‬
‫المريكية ضد الشتراكيين الصرب‪ ،‬كان لتصفية السلم في‬
‫دول البلقان‪ ،‬وهكذا يضلل الغثاء من الناس حين يصدقون هذه‬
‫الكاذيب والكاذيب التي ليس لها حدود‪.‬‬
‫ومن الصور التي ساعدت على قلب الحقائق وانعكاس‬
‫فهم الواقع لدى المسلمين كذلك‪ ،‬وصفهم لكل ما تقوم به‬
‫أمريكا من تضييق وفرض عقوبات و حرب‪ ،‬تقصدها ضد الدول‬
‫الشتراكية العربية وغير العربية‪ ،‬إنما هو موجه ضد السلم‬
‫والمسلمين‪ ،‬مثل حربها ضد نظام البعث العربي الشتراكي‬
‫العراقي‪ ،‬وتضييقها على النظام الشتراكي في سورية‪،‬‬
‫ومراقبتها الحثيثة والموجهة ضد إيران‪ ،‬والعقوبات على ليبيا‬
‫والسودان‪ .‬وجرائم الشتراكية في البوسنة والهرسك‪ ،‬وكوسوفا‬
‫كما مر من قريب‪.‬‬
‫وقد انتقل هذا النحراف الول المتمثل بالتضليل‬
‫العلمي‪ ،‬إلى قلب الحقائق وانعكاس فهم الواقع لدى كثير من‬
‫المسلمين‪ ،‬بفعل قانون التكرار والزمن‪ ،‬ومنهم إخوة لنا في‬
‫العقيدة والمنهج الصحيح‪ ،‬القائم على الكتاب والسنة قولً‬
‫وعملً‪ ،‬مما أدى إلى شق الصف الواحد الذي لزال متماسكا‬
‫قويا إلى وقت ليس ببعيد‪ ،‬فأدى بهؤلء الذين وقعوا في هذا‬
‫التضليل العلمي ممن يرون الواقع بآذانهم ل بأعينهم‪ ،‬إلى‬
‫انحراف ثان‪ ،‬وهو‪ :‬تكفير بعضهم للنظمة السلمية كلها‪،‬‬
‫وخاصة الدول السلمية التي تعادي الشتراكية اليهودية‪ ،‬وعلى‬
‫رأسها المملكة العربية السعودية‪ ،‬ثم الردن‪.‬‬
‫وهذا النحراف أدى إلى انحراف ثالث‪ :‬وهو رمي كبار‬
‫علماء المسلمين‪ ،‬ممن ل يرون كفر هذه النظمة التي تعادي‬

‫‪36‬‬
‫الشتراكية‪ ،‬من باب‪ :‬من لم يكفر الكافر ـ على حد زعمهم ـ‬
‫فهو كافر‪ ،‬سواء كان هؤلء العلماء يعملون داخل حكومات تلك‬
‫النظمة‪ ،‬أو خارجها‪ ،‬وعلى رأس هؤلء العلماء هيئة كبار العلماء‬
‫في السعودية‪ ،‬وعلماء الزهر الشريف في مصر‪ ،‬ومشيخة‬
‫الشام‪ ،‬وأولهم الشيخ ناصر الدين اللباني رحمه الله‪ ،‬فقد رموا‬
‫كل هؤلء العلماء وأمثالهم‪ ،‬بالخيانة ووصفوهم بالرجاء‪،‬‬
‫والتخذيل أو بـ (أئمة القعدة)‪ ،‬أو التزلف للسلطين‪ ،‬فأدى ذلك‬
‫إلى انحراف رابع وهو‪ :‬التشكيك في منهج هؤلء العلماء لدى‬
‫بعضهم‪ ،‬والتحذير منهم‪ ،‬فأدى إلى تناحر فئتين من مدرسة‬
‫واحدة‪ ،‬تراشقا بالتهم والخيانة‪ ،‬بل وصل المر ببعضهم إلى‬
‫رمي الخر بالكفر‪ ،‬عياذاً بالله‪.‬‬
‫هذه النحرافات المتتالية التي قد تصل في المستقبل‪،‬‬
‫إلى حد الحتراب بين أصحاب الفئة الواحدة‪ ،‬بل وصلت‪ ،‬لتدلنا‬
‫على مدى خطورة التهاون بفقه السياسة الشرعية في السلم‪،‬‬
‫فالعالم ل غنى له عن هذا الفقه‪ ،‬الذي ل تكون النجاة من‬
‫علميا دقيقاً‪.‬‬
‫ً‬ ‫الفتن‪ ،‬إل بضبطه وتأصيله تأصيلً‬
‫فقد أدت هذه الفتن إلى التطاول على خير الناس‪ ،‬إذ‬
‫بمثلها أو بأسلوبها المشابه‪ ،‬البعيد عن التأصيل العلمي‪ ،‬قتل‬
‫عثمان بن عفان ‪ ،‬حتى وصل الكره له إلى حد التذمر من‬
‫حكمه ودعاء الله تعالى لتغيير حكمه‪.‬‬
‫فقد نقل لنا ابن كثير في قصة قتله‪ ،‬أن المرأة كانت‬
‫تجيء في زمان عثمان إلى بيت المال فتحمل حملها من‬
‫(‪)35‬‬
‫الخيرات من بيت المال‪ ،‬وتقول‪(( :‬اللهم بدل اللهم غير)) ‪.‬‬
‫وهذه المرأة وأمثالها هي من المسلمين‪ ،‬الذين خدعوا‬
‫بالدعاية السبئية الباطنية‪ ،‬ليست عدوة لله تعالى عن قصد‬
‫أبداً‪ ،‬فكيف يكون أمر الدعاية المغرض مع من هم أدنى شأناً‬
‫ومنزلة من عثمان ؟‬
‫تقول البروتوكولت‪:‬‬
‫((ولضمان الرأي العام يجب أولً ‪ :‬أن نحيره كل الحيرة‬
‫بتغييرات من جميع النواحي لكل أساليب الراء المتناقضة حتى‬
‫يضيع المميون (غير اليهود) في متاهتهم‪ .‬وعندئذ سيفهمون أن‬
‫خير ما يسلكون من طرق هو أن ل يكون لهم رأي في‬
‫((البداية والنهاية))‪.)194 / 7( ،‬‬ ‫‪35‬‬

‫‪37‬‬
‫السياسية‪ :‬هذه المسائل ل يقصد منها أن يدركها الشعب‪ ،‬بل‬
‫يجب أن تظل من مسائل القادة الموجهين فحسب‪ .‬وهذا هو‬
‫السر الول‪ .‬والسر الثاني(‪ )36‬وهو ضروري لحكومتنا الناجحة ـ‬
‫أن تتضاعف وتتضخم الخطاء والعادات والعواطف والقوانين‬
‫العرفية في البلد‪ ،‬حتى ل يستطيع إنسان أن يفكر بوضوح في‬
‫ظلمها المطبق‪ ،‬وعندئذ يتعطل فهم الناس بعضهم بعضاً ))(‬
‫‪.)82-5/81‬‬
‫((من الخطير جدا ً في سياستنا أن تتذكروا التفصيل‬
‫المذكور آنفاً‪ ،‬فإنه سيكون عونا ً كبيرا ً لنا حينما تناقش مثل هذه‬
‫المسائل‪ :‬توزيع السلطة‪ ،‬وحرية الكلم‪ ،‬وحرية الصحافة‬
‫والعقيدة‪ ،‬وحقوق تكوين الهيئات‪ ،‬والمساواة في نظر القانون‪،‬‬
‫وحرمة الممتلكات والمساكن‪ ،‬ومسألة فرض الضرائب (فكرة‬
‫سرية فرض الضرائب) والقوة الرجعية للقوانين‪ .‬كل المسائل‬
‫المشابهة لذلك ذات طبيعة تجعل من غير المستحسن مناقشتها‬
‫علنا ً أمام العامة‪ .‬فحيثما تستلزم الحوال ذكرها للرعاع يجب‬
‫أن ل تحصى‪ ،‬ولكن يجب أن تنشر عنها بعض قرارات بغير‬
‫مضي في التفصيل‪ .‬ستعمل قرارات مختصة بمبادئ الحق‬
‫المستحدث على حسب ما ترى‪ .‬وأهمية الكتمان تكمن في‬
‫حقيقة أن المبدأ الذي ل يذاع علنا ً يترك لنا حرية العمل‪ ،‬مع أن‬
‫مبدأ كهذا إذا أعلن مرة واحدة يكون كأنه قد تقرر))(‪-10/108‬‬
‫‪.)109‬‬
‫((وسنصور الخطاء التي ارتكبها المميون (غير اليهود)‬
‫في إدارتهم بأفضح اللوان‪ .‬وسنبدأ بإثارة شعور الزدراء نحو‬
‫منهج الحكم السابق‪ ،‬حتى إن المم ستفضل حكومة السلم في‬
‫جو العبودية على حقوق الحرية التي طالما مجدوها ‪ ...‬وسنوجه‬
‫عناية خاصة إلى الخطاء التاريخية للحكومات الممية‪())..‬‬
‫‪.)158-14/156‬‬
‫((وسنتقدم بدراسة مشكلت المستقبل بدل ً من‬
‫الكلسيكيات (‪ )Classics‬وبدراسة التاريخ القديم الذي يشتمل‬
‫على مثل (‪ )Examples‬سيئة أكثر من اشتماله على مثل‬

‫هذان السران من أخطر الأسرار السياسية‪ ،‬وعليهما تبنى النتائج‬ ‫‪36‬‬

‫الخطيرة المشار إلى بعضها في الفقرة التالية لهما (من كلم‬


‫المترجم)‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫حسنة(‪ ،)37‬وسنطمس في ذاكرة النسان العصور الماضية التي‬
‫قد تكون شؤما علينا‪ ،‬ول نترك إل الحقائق التي ستظهر أخطاء‬
‫الحكومات في ألوان قاتمة فاضحة))(‪.)188-16/187‬‬
‫((غير أني سأسألكم توجيه عقولكم إلى أنه ستكون بين‬
‫النشرات الهجومية نشرات نصدرها نحن لهذا الغرض‪ ،‬ولكنها ل‬
‫تهاجم إل النقط التي نعتزم تغييرها في سياستنا‪ .‬ولن يصل‬
‫طرف من خبر إلى المجتمع من غير أن يمر على إرادتنا‪ .‬وهذا‬
‫ما قد وصلنا إليه حتى في الوقت الحاضر كما هو واقع‪ :‬فالخبار‬
‫تتسلمها وكالت (‪ )Agencies‬قليلة(‪ )38‬تتركز فيها الخبار من كل‬
‫أنحاء العالم‪ .‬وحينما نصل إلى السلطة ستنضم هذه الوكالت‬
‫ً‬
‫جميعا إلينا‪ ،‬ولن تنشر إل ما نختار نحن التصريح به من الخبار))‬
‫(‪.)136-12/135‬‬
‫((إن القيود التي سنفرضها على النشرات الخاصة‪ ،‬كما‬
‫بينت‪ ،‬ستمكننا من أن نتأكد من النتصار على أعدائنا‪ .‬إذ لن‬
‫تكون لديهم وسائل صحفية تحت تصرفهم يستطيعون حقيقة‬
‫أن يعبروا بها تعبيرا ً كامل ً عن آرائهم‪ ،‬ولن نكون مضطرين ولو‬
‫إلى عمل تنفيذ كامل لقضاياهم))(‪.)12/145‬‬
‫‪ .‬وبهذا يتذكر العقلء‪ ،‬قول الرسول ×‪(( :‬إن بين يدي‬
‫الساعة سنين خداعة‪ ،‬يصدق فيها الكاذب‪ ،‬ويكذب فيها الصادق‪،‬‬
‫ويؤتمن فيها الخائن‪ ،‬ويخوّن فيها المين‪ ،‬وينطق فيها الرويبضة‬
‫‪ .‬قيل‪ :‬وما الرويبضة ؟ قال‪ :‬المرء (الرجل) التافه يتكلم في‬
‫أمر العامة))(‪. )39‬‬

‫أي‪ :‬إن اليهود سيدرسون يومئذ للشباب صفحات التاريخ السود‬ ‫‪37‬‬

‫ليعرفوهم أن الشعوب عندما كانت محكومة بالنظم القديمة كانت‬


‫حياتها سيئة ول يدرسون لهم الفترات التي كانت الشعوب فيها‬
‫سعيدة‪ ،‬لكي يقنعوهم بهذه الدراسة الكاذبة الزائفة أن النظام‬
‫الجديد أفضل من القديم‪ ،‬وهذا ما يجري في روسيا الن‪ .‬وفي كل‬
‫بلد عقب كل انقلب سياسي(من كلم المترجم)‪.‬‬
‫أي الوكالت الإخبارية‪ ،‬ويلحظ أن معظم هذه الوكالت تخضع لليهود‬ ‫‪38‬‬

‫الن‪ ،‬فمعظم ما كانوا يشتهونه قد تحقق لهم الن (من كلم‬


‫المترجم)‪.‬‬
‫(صحيح )‪(( ،‬السلسلة الصحيحة))‪ ،‬للشيخ اللباني رحمه الله‪ ،‬رقم (‬ ‫‪39‬‬

‫‪. )2253‬‬

‫‪39‬‬
‫وساحة هذا القانون‪( ،‬قانون إماتة الحتمالت الحية‬
‫وإحياء الحتمالت الميتة)‪ :‬الشعوب الغافلة (الغثاء) التي‬
‫تسعى الصهيونية والشيوعية الشتراكية إلى فصل قوتها عن‬
‫القوى الحاكمة‪ ،‬بل جعل قوة الشعب سندا ً إلى جانبهم‪ ،‬وهذا‬
‫السلوب من أمضى الساليب المستخدمة لسقاط النظمة‪،‬‬
‫لن تحالف القوى الحاكمة مع شعوبها يحول دون هدم اليهود‬
‫للدول المستهدفة‪ .‬وليت المسلمين يدركون ما يحاك ضدهم‪،‬‬
‫وما ينتظرهم من مصائب بعد سقوط النظمة المعتدلة‬
‫السلمية والوطنية المتبقية في ديارنا ـ السعودية‪ ،‬والردن‬
‫وأخواتهما ـ التي طالما تعمل اليهودية للفصل بينها وبين‬
‫ساحقا بأساليب‬
‫ً‬ ‫شعوبها‪ ،‬وقد نجحت في تحقيق ذلك نجاحاً‬
‫شتى‪.‬‬
‫تقول البروتوكولت الصهيونية اليهودية‪:‬‬
‫((إننا نخشى تحالف القوة الحاكمة في المميين (غير‬
‫اليهود) مع قوة الرعاع العمياء‪ ،‬غير أننا قد اتخذنا كل‬
‫الحتياطات لنمنع احتمال وقوع هذا الحادث‪ .‬فقد أقمنا بين‬
‫القوتين سدا ً قوامه الرعب الذي تحسه القوتان‪ ،‬كل من‬
‫الخرى‪ .‬وهكذا تبقى قوة الشعب سندا ً إلى جانبنا‪ ،‬وسنكون‬
‫وحدنا قادتها‪ ،‬وسنوجهها لبلوغ أغراضنا))(‪.)40‬‬
‫المثلة التطبيقية على هذا القانون‪:‬‬
‫هذه بعض المثلة الواقعية التي أظهرت مدى تأثرنا‬
‫بقانون‪(( :‬إماتة الحتمالت الحية وإحياء الحتمالت الميتة))‪.‬‬
‫‪.1‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة سياسة السعودية والردن‪ ،‬في‬
‫حين هدأت ونامت ضد سياسة الشتراكية اليهودية في ليبيا‬
‫الذي اقترح تسليم المسجد القصى لليهود وبناء مسجد‬
‫آخر‪ ،‬واقترح إنشاء دولة إسرائيلية فلسطينية سماها‬
‫مه (زمردة)‬ ‫(إسراطين)؟؟؟ علماً بأن القذافي ربته أ ّ‬
‫اليهودية؟؟؟‬
‫‪.2‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة وجود القوات المريكية في‬
‫السعودية ودول الخليج‪ ،‬بينما ل ترى القوات الروسية‬
‫والخبراء الروس بعشرات اللف في الدول الشتراكية‬

‫البروتوكول‪.)9( :‬‬ ‫‪40‬‬

‫‪40‬‬
‫العربية‪ ،‬مثل سوريا والعراق واليمن الجنوبي سابقا‪ ،‬وإيران‬
‫الفارسية؟؟؟‬
‫‪.3‬ألم يَثُْر العالم السلمي‪ ،‬بل العالم كله ضد تنفيذ قرار‬
‫التحالف بإزالة النظام الشتراكي في العراق‪ ،‬في حين‬
‫سكت العالم إلى حد كبير أمام قرار الحرب ضد حركة‬
‫طالبان؟؟؟!!!‪.‬‬
‫‪.4‬ألم يتحرك العالم السلمي ومؤسساته الرسمية ليستنكر‬
‫جريمة العتداء على القرآن الكريم ـ وهذا حسن ـ في حين‬
‫هدأ الشارع السلمي ومؤسساته ضد قيام الشتراكية في‬
‫أوزبكستان ـ وهي إحدى الجمهوريات السلمية ذات‬
‫الستقلل الصوري عن التحاد السوفيتي السابق ـ في تلك‬
‫الثناء‪ ،‬بقتل (‪ )750‬مسلم؟ لماذا؟ لن جريمة العتداء على‬
‫القرآن الكريم كانت على يد أمريكا المعادية للشتراكية‬
‫اليهودية‪ ،‬علما ً أن معاداة الشتراكية هي في الحقيقة ضد‬
‫المشروع الصهيوني الكبر للسيطرة على العالم كله‪ ،‬لذا‬
‫ثارت الشعوب‪ .‬وأما الجريمة الثانية التي قتل فيها (‪)750‬‬
‫مسلما كانت على يد الشتراكية ربيبة اليهودية‪ ،‬فتجد‬
‫الشعوب قد تخدرت‪.‬‬
‫‪.5‬ألم تثر الصحافة العالمية ضد معاملة المريكان للسجناء‬
‫في سجن أبو غريب ول زالت منذ أكثر من ثلثة أشهر‪ ،‬في‬
‫حين لم تسمع تلك الصحافة بجرائم الشتراكية والمقابر‬
‫الجماعية في نفس السجن في حكم البعث الشتراكي‪ ،‬بل‬
‫لم تعرف الصحافة‪ ،‬ول نحن معها اسمه قبل ذلك‪ ،‬إل‬
‫قليل؟؟؟!!!‬
‫ً‬
‫‪.6‬أين حركة الغثاء ضد بناء جدار الفصل العنصري في‬
‫فلسطين على يد اليهود؟؟؟!!!‬
‫‪.7‬أين حركة الغثاء ضد المقابر الجماعية وهتك العراض‬
‫المنظم من الشتراكيين في البوسنة والهرسك وكوسوفو‬
‫والعراق والصومال والتحاد السوفيتي والصين؟؟؟‬
‫ألم تقتل الشتراكية من المسلمين حوالي (‪)200‬‬
‫مليون مسلم‪ ،‬ول زالت تقتل؟؟؟ ألم تهدم مئات اللف‬
‫من المساجد ول زالت تهدم؟؟؟ ألم تُلِْغ اللغة العربية‬

‫‪41‬‬
‫في الصين والتحاد السوفيتي‪ ،‬ول زالت ملغاة في‬
‫الصين؟؟؟‬
‫‪.8‬ألم تنتقد الشعوب الغافلة سياسة السعودية ودول الخليج‬
‫النفطية‪ ،‬في حين لم تتطرق إلى نقد سياسات الدول‬
‫النفطية الشتراكية‪ ،‬التي أحرقت النفط في آباره‪ ،‬أو أهدته‬
‫إلى أسيادها اليساريين بأرخص الثمان؟‬
‫‪.9‬هل يسمع أحد بـ (قانون لينين) الذي يقضي بالعمل على‬
‫إقامة دولة لليهود في فلسطين‪ ،‬وبناء على هذا القانون‬
‫أقيمت دولة إسرائيل؟ بينما هل يجهل أحد (وعد بلفور)؟‬
‫‪...‬إلخ‪.‬‬
‫إذن هناك حقائق كبيرة وخطيرة جدا تموت ول تذكر‪،‬‬
‫وأخرى حقيرة تحيا وتضخم على حساب الولى!!‬
‫فمن الذي أمات الولى وأحيا الثانية لدى الغثاء من‬
‫الناس‪ ،‬وكيف يتم ذلك؟ وهل لهذا القانون دوٌر في فتنة‬
‫الدجال؟ أسئلة بحاجة ماسة إلى إجابات صادقة!!‬
‫تقول بروتوكولت حكماء صهيون‪:‬‬
‫((وبفضل هذه الجراءات سنكون قادرين على إثارة‬
‫عقل الشعب وتهدئته في المسائل السياسية‪ ،‬حينما يكون‬
‫ضروريا ً لنا أن نفعل ذلك))(‪ .)41‬وهذا ما هو حاصل بالفعل‪ ،‬تثور‬
‫الشعوب للدفاع عن اليهود وابنتها الشتراكية‪ ،‬وتهدأ أمام‬
‫مخططاتهم وجرائمهم‪.‬‬
‫(و) سياسة التشهير‪:‬‬
‫إن من أخطار الكذب وأساليبه الوضيعة سياسة التشهير‬
‫بالمعارضين‪ ،‬فبعض الخصوم من اليهود وأفراخهم أمثال‬
‫الشيوعية والشيعة المامية‪ ،‬ل يَقْدِرون على مواجهة الحق‬
‫بالحجة والبيان‪ ،‬فتجدهم يسارعون إلى التشهير بالخصوم‪،‬‬
‫وخاصة أهل العلم لتنفير الناس من الحق والحقيقة التي‬
‫ينتهجون‪ .‬فيبقى سوق باطلهم وإفكهم رائجاً‪ ،‬ومصالحهم‬
‫الموهومة والمزعومة قائمة‪ .‬وقد استُخدِم هذا السلوب الحقير‬
‫م المعارضون لدعوة التوحيد أنبياءهم‬
‫منذ زمن بعيد‪ ،‬فقد اتّهَ َ‬
‫بشتى انواع التهم الباطلة‪ ،‬ومن صور ذلك‪:‬‬

‫البروتوكول‪.)12( :‬‬ ‫‪41‬‬

‫‪42‬‬
‫•التهام بالكذب والسحر والجنون والسفاهة‪ :‬قال‬
‫تعالى‪َ :‬كذَِلكَ مَا َأتَى اّلذِينَ مِن َقبْلِهِم مّن رّسُولٍ ِإلّا قَالُوا سَاحِرٌ َأوْ مَجْنُو ‪‬نٌ‬
‫[الذاريات‪ .]52:‬فََتوَلّى ِبرُكِْنهِ وَقَالَ سَاحِرٌ َأوْ مَجْنُو ‪‬نٌ [الذاريات‪ .]39:‬قَالَ‬
‫جبُوا أَن جَاءهُم‬
‫اْلمَلُ مِن َق ْومِ فِ ْر َعوْنَ ِإنّ َهذَا َلسَاحِرٌ َعلِيمٌ‪[ ‬العراف‪َ  .]109:‬وعَ ِ‬
‫مّنذِرٌ مّنْ ُهمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ َهذَا سَاحِرٌ َكذّابٌ‪[ ‬ص‪ .]4:‬قَالَ اْلمَلُ اّلذِينَ َكفَرُواْ مِن‬
‫سفَا َهةٍ وِإِنّا لَنَ ُظّنكَ مِنَ الْكَاذِبِيَ‪[ ‬العراف‪.]66:‬‬ ‫َق ْومِهِ إِنّا َلنَرَاكَ فِي َ‬
‫•حادثة الفك‪ :‬تتمثل في التشهير والتنفير من دعوة النبي‬
‫×‪ ،‬من خلل اتهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها‬
‫عفّتِها‪ .‬فقد تولى إشاعة هذه الجريمة زعيم‬ ‫ضها و ِ‬ ‫بِعِْر ِ‬
‫مها في أكرم بيت‬ ‫س ّ‬‫المنافقين في المدينة المنورة‪ ،‬فأطلق ُ‬
‫من البيوت على الله‪ ،‬ولم يَعْلم هذا المنافق‪ ،‬بل إنه يعلم أن‬
‫في فعلته الشنيعة هذه طعناً في حكم الله سبحانه وتعالى‬
‫وإرادته‪ ،‬الذي اختار عائشة الطاهرة زوجاً للنبي الكريم ×‪.‬‬
‫ن الله‬ ‫وعلى الرغم من فداحة هذه الجريمة النكراء‪ ،‬إل أ ّ‬
‫سبحانه وتعالى وصفها بالخير‪ ،‬لما فيها من دروس وعبر‬
‫سبُوهُ شَرّا‬
‫عظيمة‪ .‬قال تعالى‪ :‬إِنّ اّلذِينَ جَاؤُوا بِاْلإِ ْفكِ ُعصَْبةٌ مّن ُكمْ لَا َتحْ َ‬
‫كمْ‪[ ‬النور‪.]11:‬‬
‫لّكُم بَلْ ُهوَ خَيْرٌ لّ ُ‬
‫من هذه العبر‪:‬‬
‫‪.1‬تأخر نزول براءة عائشة رضي الله عنها لكثر من شهر‪،‬‬
‫وفي ذلك امتحان لردود الفعال لدى المؤمنين‪ .‬فالشاعة‬
‫كلما طال رواجها دون بيان زيفها‪ ،‬حصدت أكثر وجندت‬
‫عددا ً أكبر من المتشككين من الناس‪ ،‬وفي ذلك بلء‬
‫وتمحيص لليمان‪.‬‬
‫‪.2‬تأثيم كل من ردد الشاعة‪ ،‬ولزعيمها الكبر العذاب العظيم‪،‬‬
‫قال تعالى‪ :‬لِكُلّ امْرِئٍ مّنْهُم مّا اكَْتسَبَ ِمنَ اْلإِْثمِ وَاّلذِي َتوَلّى كِ ْبرَهُ مِنْ ُهمْ َلهُ‬
‫َعذَابٌ َعظِيمٌ‪[ ‬النور‪.]11:‬‬
‫‪.3‬على المسلم المسارعة في الذب عن عرض كل مؤمن‬
‫عُلم صلحه وتقواه يقيناً‪ ،‬وخاصة إذا كانت التهمة كبيرة‬
‫ومستبعدة‪ ،‬ول يجب عليه في هذه الحال التبين والتحقق‬
‫من صدق الخبر انطلقا ً من قوله تعالى‪ :‬يَا َأيّهَا اّلذِينَ آمَنُوا إِن‬

‫‪43‬‬
‫سقٌ بِنََبأٍ َفتَبَيّنُوا أَن ُتصِيبُوا َق ْومًا بِجَهَاَلةٍ َفُتصْبِحُوا عَلَى مَا َفعَلُْتمْ نَا ِدمِيَ‪‬‬
‫جَاء ُكمْ فَا ِ‬
‫[الحجرات‪ .]6:‬فإن انتظار نتائج التحقيق ل يصلح في مثل هذا‬
‫المقام‪.‬‬
‫لذا فقد أنّب القرآن الكريم المسلمين لعدم المسارعة‬
‫إلى َرد ّ الشاعة وانتظار القول الفصل من الوحي‪ ،‬بل‬
‫ن العَظِيم‪،‬‬ ‫طالبهم بوصفه فورا ً بإلِفْك ال ُّ‬
‫مبِين والبُهْتا ِ‬
‫فالنتظار في مثل هذه الحال ليس في محله‪ ،‬وهو من‬
‫الورع البارد الذي يؤدي إلى نتائج سلبية‪ ،‬قال تعالى‪َ):‬لوْلَا إِذْ‬
‫س ِهمْ خَيْرًا وَقَالُوا َهذَا إِ ْفكٌ مّبِيٌ‪ ‬سورة‬
‫َس ِمعُْتمُوهُ َظنّ اْل ُمؤْمِنُونَ وَاْل ُمؤْمِنَاتُ ِبأَنفُ ِ‬
‫النــور(‪) .)12‬وََلوْلَا إِذْ َس ِمعُْتمُوهُ قُلْتُم مّا يَكُونُ َلنَا أَن نّتَ َك ّلمَ ِب َهذَا سُ ْبحَاَنكَ َهذَا‬
‫ُبهْتَانٌ عَظِيمٌ‪[ ‬النور‪.]16:‬‬
‫‪.4‬أثرت الشاعة في مختلف درجات المؤمنين‪ ،‬منهم من‬
‫خاض مع الخائضين‪ ،‬مثل حسان بن ثابت‪ ،‬ومسطح بن‬
‫أثاثة‪ ،‬وحمنة بنت جحش‪ .‬ونقل الطبري بأسانيده اختلف‬
‫الرواة في الشخص الذي تولى كبره‪ ،‬على قولين‪:‬‬
‫الول‪ :‬هو حسان بن ثابت والثاني‪ :‬عبد الله بن أبي بن‬
‫سلول‪ ،‬ورجح الطبري الثاني حيث قال‪(( :‬وأولى القولين في‬
‫ذلك بالصواب قول من قال‪ :‬الذي تولى كبره من عصبة‬
‫الفك كان عبد الله بن أبي‪ ،‬وذلك أنه ل خلف بين أهل‬
‫العلم بالسير أنه الذي بدأ بذكر الفك)) أ‪ .‬هـ‪.‬‬
‫ومن الصحابة ـ علي ـ ممن نصح النبي × بطلق‬
‫زوجه‪ ،‬ومنهم من توقف في المر ظاهراً‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫النبي ×‪.‬‬
‫ولعل قول عائشة لمن حضر من المؤمنين‪ ،‬وفيهم النبي‬
‫مها أم رومان‪(( :‬والله لئن حلفت لتصدقوني‪ ،‬ولئن‬ ‫×‪ ،‬وأ ّ‬
‫مثلكم كيعقوب وبنيه‪ ،‬والله‬ ‫مثَلي و َ‬‫قلت لتعذروني‪َ ،‬‬
‫المستعان على ما تصفون‪ .‬قالت‪ :‬وانصرف ـ أي النبي ـ‬
‫فلم يقل شيئا))‪ .‬وهؤلء الذين تناقلوا الخبر بألسنتهم أثموا‬
‫فيما قالوا‪ .‬قال تعالى‪):‬لِكُلّ امْرِئٍ مّنْهُم مّا اكَْتسَبَ ِمنَ اْلإِْثمِ وَاّلذِي َتوَلّى‬
‫كِبْرَهُ مِنْ ُهمْ َلهُ َعذَابٌ َعظِيمٌ‪ .‬أما ابن سلول فقد تولى كبره‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫خيََرة‬
‫من هذه الحادثة يجب أن ل نستبعد خوض بعض ال ِ‬
‫من المؤمنين بالباطل‪ ،‬وإذا حصل فعلينا أن ل نغتر بقولهم‪،‬‬
‫وأن ل نشهر بهم‪ ،‬بل ننصحهم بالحكمة ل بالتجريح والتقبيح‪.‬‬
‫فها هو شاعر الدعوة حسان بن ثابت‪ ،‬قد لوثته الشاعة‪،‬‬
‫والشاعة إذا تكررت تقررت‪ ،‬وظنها الناس حقيقة‪ ،‬وأسلوب‬
‫تكرار الشاعة مع الزمن‪ ،‬من أمضى الساليب التي‬
‫يستخدها المغرضون‪.‬‬
‫‪.5‬الشاعة سلح الجبناء‪ ،‬وهي ل تفرق بين صالح وغيره‪ ،‬بل‬
‫إن مقصود الشاعة عادة‪ ،‬النيل من الصالحين الصادقين‬
‫المناء من المؤمنين‪ ،‬لذا فعلى المؤمن ابتداءً‪ ،‬أن يظن بكل‬
‫من ظهر صلحه خيراً‪ ،‬ولو توجهت إليه الشاعة‪ .‬أو أن‬
‫صدْقَ وأمانة من طالته الشاعات وتكررت‬ ‫ب على ظنه ِ‬‫يَغْل ُ َ‬
‫في حقه‪ ،‬سواء كان ذلك شخصا ً أم جماعة أم دولة‪ ،‬ول‬
‫يجوز العتماد على هذه القاعدة كلياً‪ ،‬حتى يعززها بدراسة‬
‫الفكار والمعتقدات التي من خللها سيعلم الحقيقة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ثانياً‪ :‬فقه الموازنات‬

‫يُعد فقه الموازنات أو فقه التعارض والترجيح‪ ،‬من العلوم‬


‫الأساسية الواجب معرفتها على طالب العلم لضبط فقه الواقع‪،‬‬
‫لما له من حاجة ماسة في مختلف شؤون الحياة النسانية‪ ،‬لذا‬
‫تجد أن هذا العلم يمارس من قبل الناس جميعا ً في حياتهم‬
‫المعيشية‪ ،‬للترجيح بين مصلحتين‪ ،‬أو بين مفسدتين‪ ،‬أو الموازنة‬
‫بين المصالح والمفاسد‪.‬‬
‫وتشتد الضرورة لفقه الموازنات‪ ،‬لتقرير مسائل فقه‬
‫ما تتعارض أمامهم‬‫السياسة الشرعية عند أولي المر‪ .‬فكثيرا ّ‬
‫المصلحة والمفسدة‪ ،‬أو المنافع مع بعضها البعض‪ ،‬أوالمفاسد‬
‫مع بعضها البعض‪ .‬وعليه جاء هذا العلم‪ ،‬الذي أرسى قواعده‬
‫علماء الصول‪ ،‬ليضع أمام المعنيين من المراء والقضاة‬
‫والسياسيين القواعد الضابطة للوصول إلى المصلحة المرجوة‬
‫عند تعارض الدلة‪.‬‬
‫أقسام فقه الموازنات‪:‬‬
‫يقسم فقه الموازنات إلى ثلثة أقسام رئيسية‪ ،‬وقد‬
‫استنبط العلماء قواعد هذا الفقه من القرآن والسنة‪:‬‬
‫(أ) الموازنة بين المصالح‪:‬‬
‫المصلحة لغة‪ :‬هي المنفعة‪ .‬وضدها يسمى‪ :‬مفسدة‪.‬‬
‫والمصلحة في الصطلح كما عرفها الغزالي هي‪(( :‬عبارة‬
‫في الصل عن جلب منفعة أو دفع مفسدة‪...‬والمحافظة على‬
‫مقصود الشرع‪ ،‬ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهي‬
‫(الدين‪ ,‬والنفس‪ ،‬والنسل‪ ،‬والعقل‪ ,‬والمال)‪...‬فكل ما يتضمن‬
‫حفظ هذه الصول الخمسة فهو مصلحة‪ ،‬وكل ما يفوت هذه‬
‫الصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة))(‪,)42‬‬
‫ومن الدلة التي استنبط منها العلماء قاعدة‬
‫سأَلُوَنكَ مَاذَا يُن ِفقُونَ قُلِ اْلعَ ْفوَ‪‬‬
‫الموازنة بين المصالح‪ :‬قوله تعالى‪ :‬وََي ْ‬

‫((المستصفى))‪( ،‬ص ‪ ،)251‬عن كتاب ((مقاصد الشريعة))‪ ،‬لليوبي (ص‬ ‫‪42‬‬

‫‪.)390‬‬

‫‪46‬‬
‫[البقرة‪ .]219:‬فقدم القرآن الكريم مصلحة النفاق على العيال‬
‫في حال عدم وفرة المال‪ ،‬على مصلحة النفاق على الفقير‪.‬‬
‫قال العز بن عبد السلم‪(( :‬واعلم أن تقديم الصلح‬
‫فالصلح‪ ،‬ودرء الفسد فالفسد‪ ،‬مركوز في طبائع‬
‫العباد نظرا ً لهم من رب الرباب))(‪ .)43‬ويقول‪(( :‬والشريعة‬
‫كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح))(‪.)44‬‬
‫يقول ابن تيمية‪(( :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل‬
‫المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع‬
‫ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين‬
‫وإن حصل أدناهما))(‪ .)45‬ويقول‪(( :‬ومطلوبها ـ أي الشريعة ـ‬
‫ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً‪،‬‬
‫ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً))(‪.)46‬‬
‫(ب) الموازنة بين المصالح والمفاسد‪:‬‬
‫الصلح والفساد ضدان ذكرهما الله تعالى في آية‬
‫حِ [البقرة‪.]220:‬‬
‫سدَ ِمنَ اْل ُمصْلِ ‪‬‬
‫واحدة‪):‬وَال ّلهُ َيعْ َلمُ اْل ُمفْ ِ‬
‫وذكرهما منفردين في آيات أخر‪ ،‬كقوله تعالى‪ِ):‬إنّا لَ ُنضِيعُ‬
‫سدِينَ‪‬‬
‫صلِحُ َعمَلَ اْل ُمفْ ِ‬
‫حيَ‪[ ‬العراف‪ .]170:‬وقوله تعالى‪):‬إِنّ ال ّلهَ لَ ُي ْ‬
‫أَ ْجرَ اْل ُمصْلِ ِ‬
‫[يونس‪.]81:‬‬
‫ومن اليات الدالة على الموازنة بين المصالح‬
‫والمفاسد‪:‬‬
‫خ ْمرِ وَاْلمَ ْيسِرِ قُلْ فِي ِهمَا إِْثمٌ كَِبيٌ َومَنَافِعُ‬
‫سَألُوَنكَ َعنِ الْ َ‬
‫قوله تعالى‪):‬يَ ْ‬
‫لِلنّاسِ وَإِْثمُ ُهمَآ َأكْبَرُ مِن ّن ْفعِ ِهمَا‪[ ‬البقرة‪ .]219:‬ففي قوله تعالى‪):‬وَإِْث ُم ُهمَآ أَكَْبرُ‬
‫مِن ّن ْفعِ ِهمَا‪ ،‬دللة واضحة على الموازنة بين المصالح والمفاسد‪.‬‬
‫في قوله تعالى‪):‬وَإِْث ُم ُهمَآ أَكَْبرُ مِن ّنفْعِ ِهمَا‪.‬‬

‫((قواعد الحكام في مصالح النام)) (ص ‪.)7‬‬ ‫‪43‬‬

‫المصدر السابق (ص ‪.)11‬‬ ‫‪44‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)30/193‬‬ ‫‪45‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)23/343‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪47‬‬
‫وقوله تعالى‪َ  :‬فإِنْ ِخفُْتمْ أَلّ َت ْعدِلُواْ َفوَا ِحدَةً َأوْ مَا مَلَكَتْ أَْيمَانُ ُكمْ ذَِلكَ‬
‫َأدْنَى أَلّ َتعُولُواْ‪[ ‬النساء‪ .]2:‬وفيها تقديم مصلحة الزواج من واحدة‪،‬‬
‫على مفسدة التعدد في الزواج من النساء‪.‬وقاعدتها الصولية‪:‬‬
‫((درء المفاسد أولى من جلب المنافع))‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪ ....(( :‬فالواجبات والمستحبات لبد أن‬
‫تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة‪ ,‬إذ بهذا بعثت الرسل‬
‫ونزلت الكتب‪.)47())...‬‬
‫(ج) الموازنة بين المفاسد‪:‬‬
‫ذكر القرآن الكريم قصة الخضر حين خرق السفينة‬
‫وهي صالحة‪ .‬فقد أحدث فيها مفسدة‪ ،‬ليدفع بها مفسدة أعظم‪،‬‬
‫أل وهي غصب السفينة من قبل الملك‪ .‬فلول هذا الخرق أو‬
‫المفسدة لخذها الملك‪ ،‬وضاع أهلها الذين يقتاتون بما رزقهم‬
‫حرِ‬
‫سفِيَنةُ فَكَانَتْ ِلمَسَا ِكيَ َي ْعمَلُونَ فِي الْبَ ْ‬
‫الله من دخلها‪ .‬قال تعالى‪َ :‬أمّا ال ّ‬
‫خذُ كُلّ سَفِيَنةٍ َغصْبًا‪[ ‬الكهف‪.]79:‬‬
‫َفأَرَدتّ أَنْ َأعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مّ ِلكٌ َيأْ ُ‬
‫وفي هذه القصة دليل على جواز قصد إحداث مفسدة‬
‫ما‪ ،‬لدفع أخرى راجحة‪ ،‬ول يُعد ذلك من باب الخيانة للمانة أو‬
‫ّ‬
‫للمة‪.‬‬
‫ض الواقع نفسه بضغط من‬ ‫فكيف يكون الحال إذا فََر َ‬
‫الرعية المطالبين ببعض المور خلف الولى‪ ،‬كقيادة المرأة‬
‫للسيارات‪ ،‬أو عملها خارج البيت‪ ،‬أو بالضغط من قبلهم‪ ،‬أو من‬
‫قبل العداء لقبول بعض المفاسد المخالفة للشريعة‪،‬‬
‫كالمشاركة في المجالس البرلمانية بطريقة النتخابات‪ ،‬أو‬
‫تشكيل الحزاب‪ ،‬أو الستعانة بالجيوش غير المسلمة لدفع عدو‬
‫صائل‪ ،‬أو توقيع معاهدة سلم مع العداء والتنازل فيها عن‬
‫بعض الحقوق‪ ،‬أو بالضغط من قبل العداء لتسليمهم بعض‬
‫الرعايا المسلمين في ظروف خاصة حرجة‪ ،‬ل شك أن عمل‬
‫مثل هذه المور في مثل هذه الحوال القاهرة أولى بالجواز‪،‬‬
‫لما سيترتب على عدم الستجابة لهذه الضغوط من مفاسد‬
‫كبيرة تهدد وجود الدولة السلمية‪.‬‬

‫((الفتاوى)) (‪.)28/26‬‬ ‫‪47‬‬

‫‪48‬‬
‫فقد روى تاج الدين السبكي في أحداث سنة ‪616‬هـ‪،‬‬
‫قصة حصلت بين جنكزخان طاغية التتار والسلطان علء الدين‬
‫خوارزمشاه محمد بن تكش‪ ،‬أحد سلطين المماليك‪ ،‬وكان ملكاً‬
‫عظيماً‪ ،‬اتسعت ممالكه‪ ،‬وعظمت هيبته‪ ،‬وأذعنت له العباد‪...‬‬
‫مل هذا السلطان نتيجة ما حل بالمسلمين على يد‬ ‫ح ّ‬
‫والقصة ت ُ َ‬
‫التتار من ألوان الدمار والقتل‪ ،‬بسبب عدم تسليم نفس واحدة‬
‫من المسلمين لجنكيزخان‪ ،‬وتفصيل القصة بتصرف يسير‪ ،‬كما‬
‫يلي‪:‬‬
‫((ان جماعة من التجار المسلمين‪ ،‬خرجوا الى بلد‬
‫جنكزخان دون إذن السلطان خوازمشاه ومعهم المستظرفات‪.‬‬
‫فقابلهم جنكزخان وأكرمهم غاية الكرام‪ ،‬وردا ً على سؤاله لهم‪:‬‬
‫لي شيء انقطعتم عنا؟ فقالوا‪ :‬إن السلطان خوارزمشاه منع‬
‫التجار من المسافرة إلى بلدك‪ ،‬ولو علم بنا لهلكنا‪.‬‬
‫فأرسل جنكزخان رسله إلى خوارزمشاه لعادة العلقات‬
‫التجارية المتبادلة بين البلدين‪ .‬وأرسل من جهته تجارا ً معهم‬
‫أموال ل تعد ول تحصى‪ .‬فلما انتهوا إلى الترار عمد نائب‬
‫خوارزمشاه بها‪ ،‬فكتب إلى خوارزمشاه بأن يقتلهم ويأخذ‬
‫أموالهم‪ .‬فأصدر خوارزمشاه مرسوما ً بقتلهم وسلب ما كان‬
‫معهم‪ .‬فأرسل جنكزخان إلى خوارزمشاه‪ :‬هذا الذي جرى‪،‬‬
‫أعلمني هل هو عن رضى منك؟ إن لم يكن برضاك فنحن‬
‫نطلب بدمائهم من نائب الترار‪.‬‬
‫فكان جواب خوارزمشاه‪ :‬أن هذا كان بعلمي وأمري‪ ،‬وما‬
‫بيننا إل السيف‪ .‬فقام ولده السلطان جلل الدين وكان عاقلً‬
‫وأشار على والده أن يتلطف في الجواب ويخلي بين‬
‫جنكزخان ونائب الترار‪ ،‬ويسلطه على دم واحدة‬
‫يحمي به المسلمين من نهر جيحون إلى قريب بلد‬
‫الشام‪ ،‬ومساجد ل تحصى عددها‪ ،‬ومدارس‪ ،‬وأمم ل‬
‫يحصون‪ ،‬وأقاليم‪ .‬فأبى والده إل السيف وأمر بقتل‬
‫الرسل‪.‬‬
‫ت كل قطرة من‬
‫جَر ْ‬
‫فيالها من فعلة ما كان أقبحها! أ ْ‬
‫دمائهم سيل ً من دماء المسلمين))(‪.)48‬انتهى‬

‫((طبقات الشافعية))‪ .)233-1/232( ،‬تحت عنوان‪ :‬واقعة جنكزخان‬ ‫‪48‬‬

‫وحفيده هولكو‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وهذا ما حصل لحركة طالبان من قريب‪ .‬حيث‬
‫رفضت ما كان رفضه سببا ً في ضياع دولة وسقوطها‪.‬‬
‫وعلى الذين ل يستطيعون تقدير هذه المور‪ ،‬ترك خيار التقدير‬
‫لولي العلم الفقهاء في الواقع‪ ،‬ثم احترام رأيهم‪ ،‬وعدم‬
‫التعرض للحومهم‪ ،‬فهم ما قاموا بذلك إل لحفظ مقاصد‬
‫الشريعة‪ ،‬وعلى رأسها حفظ الضرورات‪.‬‬
‫سأَلُوَنكَ‬
‫وفي باب الترجيح بين المفاسد كذلك قوله تعالى‪َ):‬ي ْ‬
‫جدِ‬
‫سِ‬‫صدّ عَن سَبِيلِ ال ّلهِ وَ ُكفْرٌ ِبهِ وَاْلمَ ْ‬
‫َعنِ الشّ ْهرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَِبيٌ َو َ‬
‫الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ َأهْ ِلهِ مِ ْنهُ أَكَْبرُ عِندَ ال ّلهِ وَاْلفِتَْنةُ أَ ْكبَرُ ِمنَ اْلقَتْلِ‪[ ‬البقرة‪ .]217:‬فمن‬
‫باب درء المفسدة الكبرى بالصغرى‪ ،‬أجاز لنا القرآن الكريم‬
‫القتال في الشهر الحرام مع أنه كبير‪ ،‬لدفع ما هو أكبر‪.‬‬
‫جدَنّ أَ َشدّ النّاسِ َعدَاوَةً لّ ّلذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَاّلذِينَ‬
‫وقوله تعالى‪):‬لََت ِ‬
‫ج َدنّ أَقْ َربَ ُهمْ ّموَدّةً لّ ّلذِي َن آمَنُواْ اّلذِينَ قَاُلوَاْ ِإنّا َنصَارَى ذَِلكَ ِبأَنّ مِنْ ُهمْ‬
‫أَ ْشرَكُواْ وََلتَ ِ‬
‫سيَ وَ ُرهْبَانًا وَأَنّ ُهمْ لَ َيسْتَكِْبرُونَ‪[ ‬المائدة‪.]82:‬‬
‫ِقسّي ِ‬
‫ودللة الية‪ :‬ذكر لنا القرآن أسماء أشد الناس عداوة‬
‫للمؤمنين من بين جميع العداء‪ ،‬لخذ الحيطة والحذر من‬
‫جهتهم‪ .‬لذا فّرق الله سبحانه وتعالى بين المقاتلين لنا في الدين‬
‫من العداء من غيرهم‪ ،‬كما في قوله‪):‬لَا َينْهَا ُكمُ ال ّلهُ َعنِ اّلذِينَ َلمْ‬
‫سطُوا إَِليْ ِهمْ ِإنّ ال ّلهَ ُيحِبّ‬
‫ُيقَاتِلُو ُكمْ فِي الدّينِ وََلمْ يُخْرِجُوكُم مّن دِيَارِ ُكمْ أَن تَبَرّو ُهمْ وَُتقْ ِ‬
‫اْل ُمقْسِطِيَ*إِّنمَا َينْهَا ُكمُ ال ّلهُ َعنِ اّلذِينَ قَاَتلُو ُكمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِ ُكمْ‬
‫الظّاِلمُونَ‪[‬الممتحنة‪-8:‬‬ ‫وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِ ُكمْ أَن َتوَّل ْو ُهمْ وَمَن يََتوَلّ ُهمْ َفُأوْلَِئكَ ُهمُ‬
‫‪ .]9‬يقول ابن تيمية‪(( :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح‬
‫وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير‬
‫الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل‬
‫أدناهما))(‪ .)49‬ويقول‪(( :‬ومطلوبها ـ اي الشريعة ـ ترجيح خير‬
‫الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً ودفع شر الشرين إذا‬
‫لم يندفعا جميعاً))(‪.)50‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)30/193‬‬ ‫‪49‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)23/343‬‬ ‫‪50‬‬

‫‪50‬‬
‫إذن في حالة تعارض المفاسد‪ ،‬وانطلقأ َ من قوله تعالى‪ :‬‬
‫فَاّتقُوا ال ّلهَ مَا اسَْت َطعُْتمْ‪[ ‬التغابن‪ ،]16:‬فإنه يُصار إلى دفعهما جميعاً‪ ،‬فإذا‬
‫لم يندفعا جميعاً‪ ،‬دفعنا الفسد فالفسد‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ -‬تدفع المفسدة المجمع عليها بالمفسدة المختلف فيها))(‪.)51‬‬
‫‪ -‬تدفع المفسدة الكبرى بالصغرى(‪.)52‬‬
‫‪ -‬تدفع المفسدة التي يترتب عليها ضرر عام بالتي يترتب عليها‬
‫ضرٌر خاص(‪.)53‬‬
‫الموازنة بين العداء‪:‬‬
‫أعداء السلم ليسوا سواءً‪ ،‬كما يظن أغلب العوام في‬
‫هذا الزمان‪ .‬وهذه الفكرة أثارها حزب التحرير والشيوعيون‬
‫والشتراكيون بين المسلمين لضللهم وخداعهم وصرفهم عن‬
‫أشد الناس عداوة للذين آمنوا‪ ،‬فراجت بيننا بالتكرار والزمن‪،‬‬
‫ن)‪.‬‬‫خوَ ٌ‬
‫مقولة‪( :‬كلهم أعداء‪ ،‬أو كلهم َ‬
‫سلّمات‪ ،‬فترتب على ذلك‪،‬‬ ‫م َ‬
‫ت هذه المقولة من ال ُ‬ ‫واعتُبَِر ْ‬
‫ليس فقط تكذيب النظمة الصادقة وتخوين النظمة المينة‪،‬‬
‫التي أمرنا الله تعالى أن نكون معهم‪ ،‬كما في قوله‪ :‬يَا َأيّهَا اّلذِينَ‬
‫آمَنُواْ اّتقُواْ ال ّلهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِيَ‪[ ‬التوبة‪ .]119:‬بل انقلب هذا العداء‬
‫للنظمة الصادقة والمينة إلى عطف على أعدائنا البعثيين‬
‫والشيوعيين وأمثالهم‪ .‬وهذا المر جلل وشره مستطير‪.‬‬
‫جدَنّ أَ َشدّ النّاسِ‬
‫فعكسوا الواقع والحقيقة في قول الله تعالى‪ :‬لََت ِ‬
‫جدَنّ أَقْرََب ُهمْ ّموَدّةً لّ ّلذِينَ آمَنُواْ اّلذِينَ قَاُلوَاْ‬
‫َعدَاوَةً لّ ّلذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَاّلذِينَ أَشْ َركُواْ وَلََت ِ‬
‫كبِرُونَ‪[ ‬المائدة‪.]82:‬‬
‫ِإنّا َنصَارَى ذَِلكَ ِبَأنّ مِنْ ُهمْ ِقسّيسِيَ وَ ُرهْبَانًا وَأَنّ ُهمْ لَ يَسْتَ ْ‬
‫ومن الدلة القرآنية الواردة لبيان فقه الموازنات بين‬
‫العداء‪:‬‬

‫((مقاصد الشريعة السلمية))‪ ،‬للدكتور محمد سعد اليوبي‪( ،‬ص ‪،)399‬‬ ‫‪51‬‬

‫ط‪ ،1/‬دار الهجرة‪.‬‬


‫المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫المصدر السابق‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫‪51‬‬
‫قوله تعالى‪ُ ):‬غلِبَتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى اْلأَرْضِ وَهُم مّن َب ْعدِ غَلَِب ِهمْ سََيغْلِبُونَ‬
‫* فِي ِبضْعِ سِنِيَ لِ ّلهِ اْلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن َب ْعدُ وََي ْومَِئذٍ َيفْ َرحُ اْل ُمؤْمِنُونَ‪[ ‬الرم‪. ]3-2:‬‬
‫الملفت للنظر أن هذا الحدث‪ :‬هزيمة الروم أمام‬
‫الفرس‪ ،‬يبعد عن المدينة المنورة مسافة ل تقل عن (‪)1000‬‬
‫كم‪ .‬فلو لم يذكر لنا القرآن الكريم هذه الحادثة‪ ،‬لما ترتب على‬
‫المسلمين مفسدة تلحق بهم في ديارهم حينها‪ .‬إنما أراد منا‬
‫الشارع الحكيم أن نوظف هذا الحدث لمصلحتنا‪ ،‬ونحكم عليه‬
‫من خلل ثوابتنا وأصولنا وقواعدنا الفقهية السياسية‪.‬‬
‫فتجد أن المسلمين قد تعاطفوا مع الروم لنهم القرب‬
‫إلى ديننا من الفرس‪ ,‬علما ً أن هذا التعاطف معهم ليس من‬
‫باب الولء أو العمالة لهم في شيء‪ .‬إنما هو من باب تقليل‬
‫الشر في الرض قدر المكان‪ ،‬ولو بتغيير الشر الكبر والكفر‬
‫الكبر (الفرس)‪ ،‬بالشر الصغر والكفر الصغر (الروم)‪ ،‬تطبيقاً‬
‫للقواعد الصولية‪(( :‬دفع الضرر الكبر بالضرر الصغر)) أو‪:‬‬
‫((اختيار أدنى المفسدتين)) أو ((درء المفاسد وتقليلها))‪ ،‬ول يقال‬
‫في مثل هذا الموضع (كلهم كفار) (‪ ،)54‬فهناك كفر وكفر أكبر‪،‬‬
‫وشر وشر أكبر‪.‬‬
‫وياللسف تجد البعض يوافقنا على هذه القواعد الأصولية‬
‫نظرياً‪ ،‬لكنه يخالفنا عمليا ً وواقعياً‪ ،‬حين نقرر أن الخطر‬
‫الشتراكي اليهودي هو الكبر والشد على مصالح المسلمين‬
‫من الخطر الرأسمالي الغربي‪ ،‬انسجاما ً مع الواقع الذي نراه‬
‫ضمن تقريرات الشرع‪ ،‬ول يرونه بسبب الدعايه المضللة‪ ،‬ومع‬
‫ج َدنّ أَ َشدّ النّاسِ َعدَاوَةً لّ ّلذِي َن آمَنُواْ اْليَهُودَ وَاّلذِينَ أَشْ َركُواْ‬
‫الية القرآنية‪َ):‬لتَ ِ‬
‫جدَنّ أَقْرََب ُهمْ ّموَدّةً لّ ّلذِي َن آمَنُواْ اّلذِينَ قَاُلوَاْ إِنّا َنصَارَى َذِلكَ ِبأَنّ مِنْ ُهمْ قِسّيسِيَ‬
‫وَلََت ِ‬
‫وَ ُرهْبَانًا وَأَنّ ُهمْ لَ يَسْتَكِْبرُونَ‪[ ‬المائدة‪.]82:‬‬
‫هجرة المسلمين إلى بلد الحبشة النصرانية‪:‬‬
‫فهل يستقيم اتهام الصحابة المهاجرين إلى الحبشة‬
‫النصرانية بالولء والعمالة لها‪ ،‬لقبولهم العيش في كنف‬
‫النصارى وتحت حكمهم؟ إن المر ليس كذلك‪ ،‬إنما كانت‬

‫وقول‪( :‬كلهم كفار) ليس في المعاملة في الدنيا‪ ،‬بل في حكم الخرة‬ ‫‪54‬‬

‫أنهم كلهم في النار‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫هجرتهم إلى الحبشة‪ ،‬من باب ((اختيار أدنى المفسدتين))‪،‬‬
‫فمفسدة قريش (الوثنية)‪ ،‬أبناء العمومة‪ ،‬أعظم من مفسدة‬
‫الحبشة (النصارى)‪ ،‬هذه مقاييس الشرع إعمال ً للمصالح‪ ،‬مع‬
‫أننا نسمع من يردد مقولة‪ :‬أنّا ضد أي عداء كان ضد أي عربي‪،‬‬
‫نقول‪ :‬حتى لو كان اشتراكيا ً كافراً؟ فعجبا ً لهؤلء!!‬
‫فانطلقا ً من مقصد الشريعة السمى‪ (( :‬تحصيل‬
‫المصالح و تكميلها‪ ,‬وتعطيل المفاسد وتقليلها)) نقول باختصار‪:‬‬
‫علينا أن ل نرفض‪ ،‬بل نؤيد كل ما يؤدي إلى تغيير الواقع من‬
‫الشر إلى شر أقل منه‪ ،‬فإن ذلك يدفع باتجاه تقليل الشر في‬
‫الرض‪ ،‬وبالتالي يساهم في قرب النصر‪.‬‬
‫لذا قال شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله تعالى‪(( :‬ليس‬
‫العاقل الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير‬
‫الخيرين وشر الشرين))(‪.)55‬‬
‫ويقول‪(( :‬فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ول‬
‫دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪ ،‬فإن الشريعة‬
‫جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‬
‫بحسب المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن‬
‫يجتمعا جميعاً‪ ،‬ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً))(‪.)56‬‬
‫ويقول‪(( :‬إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح‬
‫وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير الخيرين‬
‫بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما))(‪.)57‬‬
‫إذن من الورع أن ندفع شر الشرين‪( :‬الشتراكية‬
‫الصهيونية) بالشر الدنى‪( :‬الديموقراطية الغربية)‪ ،‬ول يكون‬
‫ذلك إل في حالت الضطرار‪ ،‬أما في حالة الختيار‪ ،‬فل شرقية‬
‫ول غربية‪.‬‬
‫ولقد رفع الخميني الشتراكي الشيعي المامي شعار‪( :‬ل‬
‫شرقية ول غربية) أيام شاه إيران الرأسمالي‪ ،‬فلما استلم‬
‫الخميني الحكم جعلها شرقية اشتراكية وحارب التوجه‬
‫الرأسمالي الغربي الذي كان سائداً أيام الشاه‪ ،‬ولو كان مسلماً‬
‫حقا كما يدعي لرفض التوجه للشرق الشتراكي كذلك‪ ،‬إنما‬ ‫ً‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)20/54‬‬ ‫‪55‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)23/343‬‬ ‫‪56‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)30/193‬‬ ‫‪57‬‬

‫‪53‬‬
‫استدرج غثاء المسلمين بشعاره المضلل حينئذ‪ ،‬وخدعهم بذلك‪،‬‬
‫وربط إيران بموسكو رأساً‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ثالثا‪ :‬فقه الولويات‬

‫يُعد فقه الولويات من السس المهمة المرتبط بفقه‬


‫السياسة الشرعية‪ ،‬وفي العادة فإن ضبط فقه الموازنات‬
‫السابق الذكر‪ ،‬يعين الفقهاء على تحديد الولويات‪.‬‬
‫المقصود بفقه الولويات‪:‬‬
‫ما‪،‬‬
‫ترتيب العمال المطلوب القيام بها لتحقيق هدف ّ‬
‫حسب الهمية والحاجة إليها في الزمان أوالمكان المحددين‪،‬‬
‫بحيث ل نقدم المهم على الهم‪ ،‬ول ما هو من الدرجة الصغرى‬
‫على الدرجة الكبرى‪.‬‬
‫ولما كان الهدف المنشود لدى المسلمين عموما ً هو‬
‫العمل بكتاب الله وسنة نبيه وتطبيقهما في المجتمع السلمي‪،‬‬
‫للخروج من الزمات المختلفة‪ ،‬وليتحقق بذلك النصر على‬
‫الشهوات والشبهات والعداء‪ ،‬فإن الحاجة لفقه الولويات له‬
‫حضوره وأهميته‪ .‬وليس من الصعب على المسلمين التفاق‬
‫على تحديد شروط النصر‪ ،‬أو شروط التغيير‪ ،‬بقدر اتفاقهم على‬
‫تحديد الأولويات الواجب العمل بها في هذه المرحلة الحرجة‪.‬‬
‫فقد نتفق على ضرورة هذه الشروط‪ ،‬لكن سرعان ما نختلف‬
‫على أولويات العمل بها‪.‬‬
‫أهم الموضوعات في ترتيب سلم الولويات في‬
‫الفقه السياسي‬
‫•العقيدة أولً ‪:‬‬
‫وفيه العمل على تجذير اليمان الصادق في المة‪ ،‬وعبادة‬
‫الله وحده واجتناب الطاغوت‪ .‬قال تعالى‪َ  :‬ف َمنْ يَ ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَُيؤْمِن‬
‫سكَ بِاْلعُ ْروَةِ اْلوُْثقَىَ‪[ ‬البقرة‪ .]256:‬وََل َقدْ َبعَثْنَا فِي كُلّ ُأمّةٍ رّسُولً أَنِ‬
‫بِال ّلهِ َف َقدِ اسَْت ْم َ‬
‫ا ْعُبدُواْ ال ّلهَ وَاجْتَنِبُواْ الطّاغُوتَ‪[ ‬النحل‪.]36:‬‬
‫فالعقيدة مقدمة على كل عمل مهما كانت سمو درجته‪،‬‬
‫فل نصر ول عز ول كرامة مع الشرك‪ ،‬ل في الدنيا ول في‬
‫الخرة‪ .‬ومن المهم تقديم رابطة العقيدة على كل رابطة من‬
‫دونها مهما كانت صلتها بالفرد‪ ،‬كرابطة القرابة والنسب‪،‬‬

‫‪55‬‬
‫جدُ َقوْمًا‬
‫ورابطة الرض‪ ،‬ورابطة القومية‪ ،‬وأمثالها‪ .‬قال تعالى‪) :‬لَا تَ ِ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ بِال ّلهِ وَاْلَي ْومِ الْآ ِخرِ ُيوَادّونَ َمنْ حَادّ ال ّلهَ وَرَسُولَهُ وََلوْ كَانُوا آبَاء ُهمْ َأوْ أَْبنَاءهُمْ َأوْ‬
‫شيَتَ ُهمْ ُأوَْلِئكَ كَتَبَ فِي قُلُوِب ِهمُ اْلإِيَانَ وَأَّي َدهُم ِبرُوحٍ مّنْهُ وَُيدْخِ ُل ُهمْ جَنّاتٍ‬
‫إِ ْخوَانَ ُهمْ َأوْ َع ِ‬
‫َتجْرِي مِن تَحِْتهَا اْلأَْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َرضِيَ ال ّلهُ عَنْ ُهمْ وَرَضُوا عَ ْنهُ ُأوْلَِئكَ حِ ْزبُ ال ّلهِ أَلَا‬
‫ح ْزبَ ال ّلهِ ُهمُ اْل ُمفْلِحُونَ‪[ ‬المجادلة‪.]22:‬‬
‫ِإنّ ِ‬
‫•الركان مقدمة على سائر الفرائض‪:‬‬
‫بعد سلمة العقيدة‪ ،‬تأتي أركان السلم في الولوية‬
‫لعظم شأنها‪ ،‬ويكفي أن يقال فيها‪ ،‬ما جاء عن النبي ×‪(( :‬بني‬
‫السلم على خمس‪ :‬شهادة أن ل إله إل الله وأن‬
‫محمدا رسول الله وإقام الصلة وإيتاء الزكاة وصوم‬
‫رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلً))‪ .‬فهي من‬
‫المعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬فمن أنكرها‪ ،‬أو استهزأ بها‪ ،‬فقد‬
‫كفر‪.‬‬
‫•الفرائض مقدمة على النوافل‪:‬‬
‫عن أبي هريرة عن النبي × أنه قال‪(( :‬يقول الله‬
‫تعالى‪ :‬من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة‪ ،‬وما‬
‫تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ول يزال‬
‫عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته‪)) ...‬‬
‫[صحيح]‪.‬‬
‫ودللة الحديث واضحة في قوله‪(( :‬وما تقرب إلي‬
‫عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه))؛ فالفرائض أحب إلى‬
‫الله تعالى من النوافل‪ ،‬التي تأتي بالدرجة التالية‪ ،‬وهذه‬
‫الفرائض المقصودة هي ما انعقد عليها إجماع المة من دون‬
‫الركان السابقة‪ .‬منها حرمة الربا‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬والحدود‪،‬‬
‫والمواريث‪ ،‬والزواج‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫•تقديم فهم الصحابة على غيرهم‪:‬‬
‫المقصود تقديم إجماع فهم الصحابة على غيرهم‪ ،‬لقوله‬
‫تعالى‪َ ):‬ومَن يُشَا ِققِ الرّسُولَ مِن َب ْعدِ مَا َتبَّينَ َلهُ الْ ُهدَى وََيتّبِعْ َغيْرَ سَبِيلِ اْل ُم ْؤمِنِيَ ُنوَّلهِ‬
‫ص ِلهِ جَهَّنمَ وَسَاءتْ َمصِيًا‪[ ‬النساء‪.]115:‬‬
‫مَا َتوَلّى وَُن ْ‬

‫‪56‬‬
‫قال ابن كثير في تفسيرها‪(( :‬ومن يشاقق الرسول من‬
‫طريقا غير طريق‬
‫ً‬ ‫بعد ما تبين له الهدى‪ ،‬أي‪ :‬ومن سلك‬
‫الشريعة التي جاء بها الرسول ×‪ ،‬فصار في شق والشرع في‬
‫شق‪ ،‬وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح‬
‫له‪ ،‬وقوله (وَيَتّبِعْ غَ ْيرَ سَبِيلِ اْل ُم ْؤمِنِيَ)‪ :‬هذا ملزم للصفة الولى ولكن‬
‫قد تكون المخالفة لنص الشارع‪ ،‬وقد تكون لما اجتمعت عليه‬
‫المة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً‪ ،‬فإنه قد ضمنت‬
‫لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً‬
‫لنبيهم)) اهـ‪.‬‬
‫‪‬وَالسّاِبقُونَ ا َلوّلُونَ مِنَ اْلمُهَاجِرِينَ وَالَنصَارِ وَاّلذِينَ اتَّبعُوهُم ِبإِحْسَانٍ ّرضِيَ ال ّلهُ‬
‫جرِي َتحْتَهَا الَنْهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا أََبدًا ذَِلكَ اْلفَوْزُ‬
‫عَ ْن ُهمْ وَ َرضُواْ عَ ْنهُ وََأ َعدّ لَ ُهمْ جَنّاتٍ تَ ْ‬
‫اْلعَظِيمُ‪[ ‬التوبة‪.]100:‬‬
‫وقال رسول الله ×‪(( :‬خير أمتي قرني‪ ،‬ثم الذين‬
‫يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم)) [رواه البخاري‪].‬‬
‫•البناء الخلقي‪:‬‬
‫لقوله تعالى‪ُ  :‬هوَ اّلذِي َبعَثَ فِي اْلُأمّيّيَ رَسُولًا مّنْ ُهمْ َيتْلُو عَ َليْ ِهمْ آيَاِتهِ‬
‫وَيُ َزكّي ِهمْ وَُيعَ ّلمُ ُهمُ الْكِتَابَ وَالْحِ ْك َمةَ وَإِن كَانُوا مِن َقبْلُ َلفِي ضَلَالٍ مّبِيٍ‪ ‬سورة المعة(‬
‫‪ .)2‬قال تعال‪َ  :‬قدْ أَ ْفلَحَ مَن َزكّاه ‪َ‬ا [الشمس‪ .]9:‬فتزكية النفس المؤمنة‬
‫بالخلق الحسن والقيم النبيلة من ضرورات التغيير المنشود‪ .‬بل‬
‫إن بناء الهيكل الخلقي له أكبر الثر في التأثير في الخرين‪،‬‬
‫لن حسن الخلق من مقومات ثبات المجتمع ولمعان بريقه في‬
‫عيون الغير‪.‬‬
‫•رعاية الضروريات‪ ،‬ثم الحاجيات‪ ،‬ثم التحسينيات‪:‬‬
‫لقد جاءت الشريعة السلمية بجملة من المصالح للعناية‬
‫بها وإقامتها في المجتمع‪ ،‬ولتفاوت درجات هذه المصالح في‬
‫الهمية‪ ،‬تقدم المصالح الضرورية على المصالح الحاجية‪ ،‬وتقدم‬
‫المصالح الحاجية على المصالح التحسينية‪.‬‬
‫أ) الضروريات‪:‬‬
‫يقول الشاطبي في تعريفها‪(( :‬ما ل بد منها في قيام‬

‫‪57‬‬
‫مصالح الدين والدنيا‪ ،‬بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على‬
‫استقامة‪ ،‬بل على فساد وتهارج وفوت حياة‪ ،‬وفي الخرى فوت‬
‫النجاة والنعيم‪ ،‬والرجوع بالخسران المبين)) (‪. )58‬‬
‫وقد جاءت كل أمة بحفظها وهي‪ :‬حفظ الدين‪ ,‬والنفس‪،‬‬
‫والنسل‪ ،‬والعقل‪ ,‬والمال‪ ,‬وقد شرع السلم لحفظ هذه‬
‫الضروريات ما يجلبها وما يحفظها‪ ،‬وهي متفاوتة في درجاتها‪،‬‬
‫فأولها وأولها‪ ،‬حفظ الدين‪ ،‬فهو مقصد الحياة‪ ،‬لقوله تعالى‪):‬وَمَا‬
‫جنّ وَاْلإِنسَ إِلّا ِلَيعُْبدُونِ‪[ ‬الذاريات‪.]56:‬‬
‫َخ َلقْتُ الْ ِ‬
‫فل يجوز التنازل عن الدين وتركه لجل أي من هذه‬
‫الضرورات‪ ،‬إل من أكره وقلبه مطمئن باليمان‪ ،‬قال تعالى‪):‬مَن‬
‫صدْرًا‬
‫َكفَرَ بِال ّلهِ مِن َب ْعدِ إيَاِنهِ إِلّ َمنْ أُ ْكرِهَ وَقَ ْلُبهُ مُ ْطمَِئنّ بِالِيَانِ وَلَكِن مّن شَ َرحَ بِالْ ُكفْرِ َ‬
‫َفعَلَ ْي ِهمْ َغضَبٌ ّمنَ ال ّلهِ وَلَ ُهمْ َعذَابٌ َعظِيمٌ‪[ ‬النحل‪ ،]106:‬كما حصل مع عمار‬
‫بن ياسر رضي الله عنه‪ ،‬إذ شتم نبيه‪ ،‬تحت الكراه‪.‬‬
‫ب) الحاجيات‪:‬‬
‫وهي التي يتعلق بها رفع الحرج في العبادات والعادات‬
‫والمعاملت(‪ .)59‬فقد تميزت هذه الشريعة السمحاء برفع الحرج‬
‫جٍ [الحج‪.]78:‬‬
‫ح َر ‪‬‬
‫عن أهلها‪ ،‬لقوله تعالى‪):‬وَمَا َجعَلَ عَلَيْ ُكمْ فِي الدّينِ مِنْ َ‬
‫سعَه ‪َ‬ا [البقرة‪ .]286:‬والحاجة إلى‬
‫وقوله تعالى‪):‬لَ يُ َكلّفُ ال ّلهُ َنفْسًا إِلّ وُ ْ‬
‫الحاجيات تكون دون الضرورات التي لو فقدت لختل نظام‬
‫الحياة‪.‬‬
‫حقَ بالناس حرج ومشقة‪ ،‬في‬ ‫فالحاجيات لو فقدت لَل َ ِ‬
‫عباداتهم‪ ،‬كالصيام في نهار رمضان للمسافر والمريض‪ ،‬وما‬
‫يلحق بالناس من حرج في عاداتهم‪ ،‬كالمأكل والمشرب‬
‫والمسكن والملبس‪ ،‬ودرجة الحاجيات في هذه العادات هي‬
‫درجة التوسط‪ ،‬فالحد الدنى منها يعد من الضروريات‪ ،‬والحد‬
‫العلى من التحسينيات‪.‬‬
‫ج) التحسينيات‪:‬‬

‫((الموافقات)) (‪.)2/8‬‬ ‫‪58‬‬

‫انظر‪(( :‬الموافقات))‪ ،‬للشاطبي‪(( ،)2/11( :‬الحكام)) للمدي (‪.)3/274‬‬ ‫‪59‬‬

‫‪58‬‬
‫تكون فيما يتعلق بمكارم الخلق(‪ .)60‬وهي‪ :‬ما ل يرجع‬
‫إلى ضرورة ول إلى حاجة‪ ،‬وهي‪(( :‬خادم للصل الضروري‬
‫ومحسنة لصورته الخاصة))(‪ .)61‬وبها يظهر ((كمال المة في‬
‫نظامها حتى تعيش أمة آمنة مطمئنة‪ ،‬ولها بهجة منظر المجتمع‬
‫مرغوبا في‬
‫ً‬ ‫في مرأى بقية المم حتى تكون الأمة السلمية‬
‫الندماج فيها‪ ،‬أو في التقرب منها))(‪.)62‬‬

‫((الموافقات))‪ ،‬للشاطبي (‪.)2/11‬‬ ‫‪60‬‬

‫((الموافقات))‪ ،‬للشاطبي (‪.)2/42‬‬ ‫‪61‬‬

‫((مقاصد الشريعة))‪ ،‬لبن عاشور‪( ،‬ص ‪.)82‬‬ ‫‪62‬‬

‫‪59‬‬
‫رابعاً‪ :‬فقه التغيير‬

‫تسعى كل أمة من المم عبر التاريخ للحصول على‬


‫التغيير اليجابي الذي يحقق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد‪،‬‬
‫وفق معتقداتها وأخلقها‪ .‬لذا فقد اختلفت مدارس التغيير‬
‫وتباينت نتيجة لتلك المبادىء والمعتقدات‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي سعت فيه بعض المدارس أمثال‬
‫الملحدين وعبدة الوثان‪ ،‬إلى المخلوق لنيل التغيير اليجابي‪،‬‬
‫توجهت أخرى من أتباع الديانات السماوية إلى الخالق‪ .‬ثم‬
‫تباينت بعد ذلك رؤى أصحاب المذاهب الرضية إلى طرق شتى‪،‬‬
‫ففى الوقت الذي رأى فيه البعض النطلق إلى الهدف من‬
‫صَرهُ آخرون في التغيير السياسي‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫ح َ‬
‫التغيير القتصادي‪َ ،‬‬
‫أما داخل المدرسة السلمية‪ ،‬فقد تباينت كذلك رؤى‬
‫الصلح والتغيير‪ ،‬قديما وحديثاً‪ ،‬فمن جهة مصدر التلقي‪ ،‬انقسم‬
‫الصلحيون إلى ثلث مدارس‪:‬‬
‫•مدرسة النقل (الوحي)‪ :‬وهؤلء ينطلقون من العقيدة‬
‫السليمة ومحاربة الشرك‪ ،‬والدعوة إلى التباع ونبذ‬
‫البتداع‪ ،‬وهم السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان‪،‬‬
‫وشعارهم في الواقع المعاصر (التصفية والتربية)‪.‬‬
‫•مدرسة العقل‪ :‬وهؤلء يقدمون العقل على النقل‬
‫(الوحي)‪ .‬وأشهر رؤوسهم المعتزلة والشاعرة‪.‬‬
‫•مدرسة الكشف والذوق‪ :‬وهؤلء ينطلقون من الكشف‬
‫الصوفي للوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وهي في نظرهم وحدة‬
‫الوجود‪.‬‬
‫•أما من جهة ساحة التغيير‪ ،‬فقد انقسمت رؤى الصلح‬
‫والتغيير إلى‪:‬‬
‫•مدرسة الدعوة إلى التغييرعن طريق تغيير ما بالنفس‪،‬‬
‫س ِهمْ‪[ ‬الرعد‪.]11:‬‬
‫لقوله تعالى‪ :‬إِنّ ال ّلهَ لَ ُيغَيّرُ مَا ِبقَ ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُواْ مَا ِبأَْنفُ ِ‬
‫وأصحاب هذه المدرسة هم السواد العظم في كل زمان‪،‬‬
‫وهم السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان‪ ،‬ومن‬

‫‪60‬‬
‫المعاصرين‪ :‬السلفيون‪ ،‬والخوان المسلمون‪ ،‬وجماعة‬
‫الدعوة والتبليغ‪ ،‬والصوفيون‪.‬‬
‫•مدرسة الدعوة إلى التغييرعن طريق تغيير النظمة‬
‫القائمة‪ ،‬وأصحاب هذه المدرسة هم‪ :‬الخوارج قديماً‪،‬‬
‫و(حزب التحرير السلمي) حديثاً‪ ،‬وهم الوحيدون الذين‬
‫خرجوا عن السواد العظم‪ ،‬ومنهج السلف الصالح عبر‬
‫العصور‪ ،‬ومنهجهم يقوم على تغيير النظمة الحاكمة‬
‫ليقوم السلم كله في الناس‪.‬‬
‫ومع التكرار والزمن‪ ،‬فقد تأثر بطرح الخوارج وحزب‬
‫التحرير‪ ،‬كثيرون ممن ينتسبون إلى الجماعات السلمية‬
‫الخرى‪ ،‬مثل الخوان المسلمين‪ -‬في وقت مبكر‪-‬‬
‫والسلفية‪ ،‬والصوفية‪ ،‬والدعوة والتبليغ‪ .‬ففي الوقت الذي‬
‫اكتفى فيه بعض هؤلء من المتأثرين بالخوارج وبفكر حزب‬
‫التحرير بالمعارضة السياسية ومناكفة النظمة القائمة‬
‫سلمياً‪ ،‬دعا البعض الخر منهم إلى الخروج على النظمة‬
‫بحمل السلح‪ ،‬وتطور المر ببعضهم إلى التكفير والتفجير‬
‫العشوائي‪ .‬وإذا علمنا أن مؤسس حزب التحرير الشيخ‬
‫تقي الدين النبهاني‪ ،‬كان بعثياً اشتراكيا ً (‪ .)63‬وكان عضواً‬
‫في (كتلة القوميين العرب) اليسارية(‪ ،)64‬قبل تأسيسه‬
‫لحزب التحريـر‪ ،‬تبين لنا مصدر فسـاد منهج حزب التحرير‬
‫في التغيير‪.‬‬
‫فالشتراكية ـ وهي من أصل يهودي ـ تقوم على تطبيق‬
‫نظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ‪ ،‬وهذه النظرية‬
‫تعمل على قلب النظم السياسية والجتماعية القائمة في‬
‫العالم أجمع‪ ،‬ومنها الدول السلمية التي تعادي اليسار‪،‬‬
‫ت هذه النظرية في فكر الحزب وكتبه ومنشوراته‪،‬‬ ‫فَ َ‬
‫سَر ْ‬
‫ومن ثم إلى أفراده‪ ،‬ومن ثم إلى المة السلمية‪.‬‬
‫أما من جهة طبيعة التغيير ومادته‪ ،‬فقد تباينت الجماعات‬
‫السلمية المعاصرة فيه تباينا ً واضحاً‪ ،‬علماً بأن الجميع يقولون‬
‫بأنهم يتخذون من الكتاب والسنة دستوراً‪ ،‬ومنهجاً في التغيير‪.‬‬
‫((موسوعة الحركات السلمية في الوطن العربي وإيران وتركيا))‪،‬‬ ‫‪63‬‬

‫(ص ‪ ،)397‬إصدار مركز دراسات الوحدة العربية‪.‬‬


‫((القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين من ‪، ))1948 -1917‬‬ ‫‪64‬‬

‫تأليف‪ :‬بيان نويهض‪( ،‬ص ‪ ،)900‬طبعة بيروت‪.)1981( ،‬‬

‫‪61‬‬
‫وهذا هو أهم وأبرز جانب من الجوانب التي ركزت عليها كل‬
‫جماعة‪:‬‬
‫أبرز جانب اشتهرت به‬ ‫اسم‬
‫الجماعة‬
‫العقيدة ومجانبة البدع بالمر‬ ‫السلفية‬
‫والنهي‬
‫الذكر والدروشة‬ ‫الصوفية‬
‫الحركة والتنظيم والتجميع‬ ‫الخوان‬
‫كيفما اتفق‬ ‫المسلمون‬
‫السياسة‬ ‫حزب التحرير‬
‫المر بالمعروف والوعظ‬ ‫الدعوة‬
‫القصصي‬ ‫والتبليغ‬
‫وهذه الجوانب كلها ل شك أنها من دعوة السلم‬
‫الشاملة‪ ،‬إل أن الصوفية اتخذت من الذكر جسرا ً لتعبر من‬
‫خلله إلى أوحال الشرك‪ .‬وحزب التحرير اتخذ من السياسة‬
‫جعَلَهُم‬ ‫المغرضة المخالفة للواقع طريقا ً لضلل المسلمين‪َ ،‬و َ‬
‫ل الشتراكية الفكري الجارف‪.‬‬ ‫سي ْ ْ‬
‫بذلك غثاء ل ِ َ‬
‫إن الكتفاء بجانب واحد من جوانب التغيير المذكورة‪،‬‬
‫وغيرها ممن لم تذكر كالجانب الجتماعي‪ ،‬والثقافي‬
‫والقتصادي‪ ،‬ل يحقق التغيير المنشود‪ ،‬حتى تتكامل هذه‬
‫الجوانب كلها في المجتمع المسلم‪ ،‬ثم ل بد أن يسير بها‬
‫المصلحون وفق السنة الكونية التي ل تتبدل ول تتغير لتحقيق‬
‫التغيير المنشود‪ ،‬المتمثلة في قوله تعالى‪ِ):‬إنّ ال ّلهَ لَ ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى‬
‫ُيغَيّرُواْ مَا بأْنفُسِهمْ‪[ ‬الرعد‪.]11:‬ولهمية هذه السنة الكونية ولخطورة‬
‫تجاهلها‪ ،‬أو تخطيها ل بد من إقامة الحجج والبراهين الدالة‬
‫عليها‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫حتى يغيروا ما بأنفسهم‬

‫وقفة قصيرة مع خطر الصراع مع النظمة‬

‫ليعلم أولئك البعض‪ ،‬ممن قل اعتبارهم لسنن الله تعالى‬


‫في خلقه‪ ،‬أن ما ذهبوا إليه من تصورات في طريق التغيير‬
‫المنشود‪ ،‬سيؤدي إلى النشغال بالحاكم‪ ،‬وتركيز الصراع مع‬
‫النظام السياسي القائم وإسقاطه‪ ،‬فينتج عن ذلك ازدياد الفساد‬
‫والفساد في الناس لتوقف مسيرة المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر أو إعاقتها بحجة النشغال بتغيير منكر الحكام‪.‬‬
‫فمشروع الصراع مع النظمة الحاكمة وضرب الحاكم‬
‫بالمحكوم من أهم الساليب المستخدمة من قبل الصهيونية‬
‫وذراعها القوى ( الشتراكية) للسيطرة على العالم‪ ،‬فعن‬
‫طريق الثورات الشعبية التي يقفون خلفها ويوجهونها بواسطة‬
‫عملئهم الشتراكيين على اختلف أسمائهم‪ ،‬يقودون الثورة‬
‫ويركبون الموجة‪ ،‬ويقومون بعد ذلك بتصفية المعارضة‪ ،‬مهما‬
‫كان دينها أو عرقها‪.‬‬
‫وللتدليل على ذلك نقرأ في بروتوكولت حكماء صهيون‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫((وذلك حين يحين الوقت لتغيير كل الحكومات القائمة‬
‫من أجل أوتقراطيتنا‪ ،‬أن تعرفنا لملكنا التوقراطي(‪ )65‬يمكننا أن‬
‫نتحقق منه قبل إلغاء الدساتير‪ ،‬أعني بالضبط أن تعرف أن‬
‫حكمنا سيبدأ في اللحظة ذاتها حين يصرخ الناس الذين مزقتهم‬
‫الخلفات وتعذبوا تحت إفلس حكامهم (وهذا ما سيكون مدبراً‬
‫ً‬ ‫عالميا‬ ‫على أيدينا) فيصرخون هاتفين‪ :‬اخلعوهم وأعطونا حاكماً‬
‫واحداً يستطيع أن يوحدنا‪ ،‬ويمحق كل أسباب الخلف‪ ،‬وهي‬
‫الحدود والقوميات والديان والديون ونحوها‪ ..‬حاكماً يستطيع أن‬
‫يمنحنا السلم والراحة اللذين ل يمكن أن يوجدا في ظل‬
‫وافيا أنه‬
‫ً‬ ‫رؤسائنا وملوكنا وممثلينا‪ .‬ولكنكم تعلمون علماً دقيقاً‬
‫لكي يصرخ الجمهور بمثل هذا الرجاء‪ ،‬لبد أن يستمر في كل‬
‫البلد اضطراب العلقات القائمة بين الشعوب والحكومات‪،‬‬

‫الوتوقراطية هي‪ :‬نظام الحكم الفردي الستبدادي‪.‬‬ ‫‪65‬‬

‫‪63‬‬
‫فتستمر العداوات والحروب والكراهية والموت استشهاداً‬
‫أيضا))(‪. )66‬‬
‫ً‬
‫((إننا نخشى تحالف القوى الحاكمة مع المميين (غير‬
‫اليهود) مع قوة الرعاع العمياء‪ ،‬غير أننا قد اتخذنا كل‬
‫الحتياطيات لنمنع احتمال حدوث هذا الحادث‪ .‬فقد أقمنا بين‬
‫القوتين سداً قوامه الرعب الذي تحسه القوتان كل من الخرى‪،‬‬
‫وهكذا تبقى قوة الشعب سنداً إلى جانبنا‪ ،‬سنكون وحدنا قادتها‪،‬‬
‫وسنوجهها لبلوغ أغراضنا))(‪.)67‬‬
‫وتقول أيضاً‪:‬‬
‫(‪)68‬‬
‫ومعظما من كل رعاياه ـ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫محبوبا‬ ‫((ولكي يكون الملك‬
‫يجب أن يخاطبهم جهاراً مرات كثيرة‪ .‬فمثل هذه الجراءات‬
‫ستجعل القوتين في انسجام‪ ،‬أعني قوة الشعب وقوة الملك‬
‫اللتين قد فصلنا بينهما في البلد الممية (غير اليهودية) بإبقائنا‬
‫كل منهما في خوف دائم من الخرى‪ .‬ولقد كان لزاماً علينا أن‬
‫نبقي كلتا القوتين في خوف من الخرى‪ ،‬لنهما حين انفصلتا‬
‫وقعتا تحت نفوذنا))(‪.)69‬‬
‫وقبل البدء بالستدلل على ما ذهبنا إليه من أن التغيير‬
‫المنشود يكون بتغيير النفس أولً(‪ ،)70‬علينا أن نتذكر حقيقة‬
‫شرعية‪ ،‬أن اللتزام بالسلم ل يصح إل إذا كان خالصاً لله‬
‫تعالى‪ ،‬فإيمان المصالح والمنافع‪ ،‬وإيمان الكراه والقهر مخالف‬
‫لقوله تعالى‪ :‬وما أمروا إل ليعبدوا ال ملصي له الدين ‪[‬البينة‪ ،]5:‬ومخالف‬
‫لقول الرسول ×‪(( :‬إنما العمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما‬
‫نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله‪ ،‬فهجرته إلى الله‬
‫ورسوله‪ ،‬ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها‪،‬‬
‫فهجرته إلى ما هاجر إليه)) [متفق عليه]‪.‬‬

‫البروتوكول العاشر‪.‬‬ ‫‪66‬‬

‫البروتوكول التاسع‪.‬‬ ‫‪67‬‬

‫المقصود بالملك‪( :‬ملك إسرائيل) بعد تتويجه لحكم العالم‪ ،‬أو أي‬ ‫‪68‬‬

‫حاكم أو ديكتاتور ممن يأتون بانقلب عسكري موجه من قبل اليسار‬


‫(الماركسية)‪.‬‬
‫البروتوكول الرابع والعشرون‪.‬‬ ‫‪69‬‬

‫‪...‬وعاشرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخامسا‬ ‫ورابعا‬
‫ً‬ ‫وثانيا وثالثاً‬
‫ً‬ ‫‪70‬‬

‫‪64‬‬
‫فمن تظاهر بالسلم طلبا ً لمنفعة أو دفعا ً لمفسدة‪ ،‬أو‬
‫تزلفاً لحاكم‪ ،‬فقد نافق ومن نافق خسر خسرانا ً مبيناً‪ ،‬ومقصود‬
‫الشريعة إخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور اليمان‪،‬‬
‫فعلينا أن نتذكر هذه الحقيقة للهمية الساسية‪.‬‬
‫الدلة على أن التغيير يكون بتغيير ما بالنفس‬
‫اليات القرآنية‪:‬‬
‫ورد في القرآن الكريم‪ ،‬العديد من اليات الدالة على‬
‫إثبات التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية والنشغال‬
‫بذلك‪ ،‬منها‪:‬‬
‫صالحا‪ ،‬وإذا‬
‫ً‬ ‫أولً‪ :‬إذا صلحت الرعية أفرزت حاكماً‬
‫فسدت الرعية أفرزت حاكما فاسداً‪ :‬ورد هذا المفهوم‬
‫الجلي في العديد من المواضع من كتاب الله تعالى منها‪:‬‬
‫نَ [النعام‪:‬‬
‫كسِبُو ‪‬‬
‫كَانُوا يَ ْ‬ ‫‪-1‬قوله تعالى‪):‬وَ َكذَِلكَ ُنوَلّي َبعْضَ الظّاِل ِميَ َب ْعضًا ِبمَا‬
‫‪.]129‬‬
‫تدل الية على أن الله تعالى يولي بعض ظلمة المجتمع‬
‫بعضاً في الحكم‪ ،‬فإذا علمنا أن الحاكم هو إفراز من المجتمع‪،‬‬
‫وأن المجتمع يُسوّد على نفسه من يراه الصلح لتحقيق أهدافه‬
‫وغاياته‪ ،‬دل ذلك بكل تأكيد على أن القاعدة العامة تقول‪(( :‬إذا‬
‫صالحا‪ ،‬وإذا فسدت الرعية أفرزت‬‫ً‬ ‫صلحت الرعية أفرزت حاكماً‬
‫فاسدا))‪.‬‬
‫ً‬ ‫حاكماً‬
‫ينقل القرطبي قول ابن عباس وابن زيد في تفسير هذه‬
‫الية قائلً‪:‬‬
‫قال ابن عباس‪(( :‬إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم‬
‫خيارهم‪ ،‬وإذا سخط الله عن قوم ولى أمرهم شرارهم))‪.‬‬
‫وقال ابن زيد‪(( :‬نُسلّط بعض الظلمة على بعض فيهلكه‬
‫ويذله‪ ،‬وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه يسلط الله‬
‫عليه ظالماً آخــر‪ ،‬ويدخل في اليـة جميع من يظلم نفسه أو‬
‫يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق‬
‫وغيرهم))(‪ )71‬انتهى‪.‬‬
‫قال ابن أبي العز الحنفي‪:‬‬
‫((تفسير القرطبي)) (‪.)7/85‬‬ ‫‪71‬‬

‫‪65‬‬
‫َ‬
‫((فإذا أراد الرعية أن يتخل ّصوا من ظلم المير فليتركوا‬
‫الظلم))(‪.)72‬‬
‫وقال الشيخ اللباني رحمه الله‪:‬‬
‫((وفي هذا بيان لطريق الخلص من ظلم الحكام الذين‬
‫هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا‪ ،‬وهو أن يتوب المسلمون إلى‬
‫ربهم ويصححوا عقيدتهم ويربوا أنفسهم وأهليهم على السلم‬
‫الصحيح تحقيقا لقوله تعالى‪ِ :‬إنّ ال ّلهَ لَ ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُواْ مَا ِبأَْنفُسِ ِهمْ‪‬‬
‫[الرعد‪ ،]11:‬وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين(‪ )73‬بقوله‪:‬‬
‫((أقيموا دولة السلم في قلوبكم تقم لكم على أرضكم))‪ .‬وليس‬
‫طريق الخلص ما يتوهم بعض الناس وهو الثورة بالسلح على‬
‫الحكام‪ .‬بواسطة النقلبات العسكرية(‪ )74‬فإنها مع كونها من بدع‬
‫العصر الحاضر فهي مخالفة لنصوص الشريعة التي منها المر‬
‫بتغيير ما بالنفس وكذلك فل بد من إصلح القاعدة لتأسيس‬
‫البناء عليها‪ :‬ولينصرنّ الُ مَن يَنصُر ‪‬هُ [الحج‪ ،)75())]40:‬انتهى‪.‬‬
‫وفي معرض حديثه عن أسباب انتقال المر من الخلفة‬
‫إلى الملك‪ ،‬قال ابن تيمية‪(( :‬وقد ذكرت في غير هذا الموضع‪،‬‬
‫ملوك ونوابهم من الولة‪ ،‬والقضاة‬ ‫أن مصير المر إلى ال ُ‬
‫والمراء‪ ،‬ليس لنقص فيهم فقط‪ ،‬بل لنقص في الراعي والرعية‬
‫ل عليكم))(‪ ،)76‬وقد قال الله‬ ‫و ّ‬
‫جميعا‪ ،‬فإنه((كما تكونوا ي ُ َ‬
‫تعالى‪  :‬وكذِلكَ نول بعضَ الظاليَ بعضاً ‪[‬الحج‪، ))]40:‬انتهى‪.‬‬
‫(‪) 77‬‬

‫‪-2‬قوله تعالى‪ِ  :‬إنّ ال ّلهَ لَا ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا ِبأَنفُسِ ِهمْ وَإِذَا أَرَادَ ال ّلهُ‬
‫ِب َق ْومٍ سُوءًا فَلَا مَرَدّ َلهُ َومَا لَ ُهمْ ِمنْ دُوِنهِ ِمنْ وَالٍ‪[ ‬الرعد‪.]11:‬‬

‫((شرح العقيدة الطحاوية))‪ ،‬ط‪ 1399 ،5 /‬هـ‪( ،‬ص ‪.)430‬‬ ‫‪72‬‬

‫قال الشيخ اللباني رحمه الله‪ :‬وهو الستاذ حسن الهضيبي ‪ -‬رحمه‬ ‫‪73‬‬

‫الله‪.-‬‬
‫من أمثلة هذه النقلبات‪ ،‬انقلب (ثورة ‪ 23‬يوليو ‪ 1952‬الشتراكية)‬ ‫‪74‬‬

‫في مصر‪ ،‬والثورات الشتراكية الخرى في كل من‪ ،‬سوريا وليبيا‬


‫واليمن والعراق والصومال والسودان والجزائر وإيران وإندونيسيا‪.‬‬
‫((العقيدة الطحاوية))‪ ،‬شرح وتعليق‪ ،‬ط‪ /‬المكتب السلمي ‪( 1978‬ص‬ ‫‪75‬‬

‫‪.)47‬‬
‫ضعفه الشيخ ناصر في ((السلسلة الضعيفة)) (‪( ،)1/490‬رقم ‪.)320‬‬ ‫‪76‬‬

‫((مجموع الفتاوى)) (‪.)35/20‬‬ ‫‪77‬‬

‫‪66‬‬
‫وهذه الية أصرح في الدللة على المراد‪ ،‬وهي عامة‬
‫تشمل نوعي التغيير سواء من الخير إلى الشر أو العكس‪.‬‬
‫ونلحظ أن الية تتحدث عن تغيير يحدث في القوم ـ أي‬
‫الجماعة ـ وليس في شخص الحاكم دون المحكوم‪ .‬وليس‬
‫بالضرورة أن يحصل التغيير بتغيير فئة قليلة في المجتمع‪ ،‬إنما‬
‫المراد أن يكون التغيير غالبا فيه‪ .‬وتجدر الشارة إلي أن الله‬
‫تعالى قد وعد بالتغيير إلى الخير والتمكين للمؤمنين في الرض‬
‫بعد توفر شروط وانتفاء موانع كما سيأتي بيانه قريباً إن شاء‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫يقول الطبري في تفسيرها‪(( :‬إن الله ل يغير ما بقوم من‬
‫عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم‪ ،‬حتى يغيروا ما بأنفسهم‬
‫من ذلك بظلم بعضهم بعضاً‪ ،‬واعتداء بعضهم على بعض‪ ،‬فتحل‬
‫بهم حينئذ عقوبته وتغييره))(‪.)78‬‬
‫وقال القرطبي و ابن كثير بمثله‪.‬‬
‫ويقول ابن القيم‪:‬‬
‫((وهل زالت عن أحد قط نعمة إل بشؤم معصيته‪ ،‬فإن‬
‫الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه‪ ،‬ول يغيرها عنه حتى‬
‫يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه‪ِ):‬إنّ ال ّلهَ لَا ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى‬
‫ُيغَيّرُوا مَا ِبأَنفُسِ ِهمْ وَِإذَا أَرَادَ ال ّلهُ ِبقَ ْومٍ سُوءًا َفلَا مَرَدّ َلهُ َومَا لَ ُهمْ مِنْ دُوِنهِ ِمنْ وَالٍ‪‬‬
‫[الرعد‪.)79())]11:‬‬
‫ويقول محب الدين الخطيب في كلم نفيس‪:‬‬
‫((وقد يظن من ل نظر له في حياة الشعوب وسياستها‬
‫أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون‪.‬‬
‫وهذا خطأ‪ ،‬فللبيئة التأثير في الحاكم‪ ،‬وفي نظام الحكم أكثر‬
‫مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة‪ .‬وهذا من‬
‫معاني قول الله عز وجل‪ِ( :‬إنّ ال ّلهَ لَا ُيغَيّرُ مَا ِب َق ْومٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا‬
‫ِبأَنفُسِ ِهمْ)))(‪ ،)80‬انتهى‪.‬‬

‫((تفسير الطبري)) (‪.)13/121‬‬ ‫‪78‬‬

‫((بدائع الفوائد)) (‪.)2/432‬‬ ‫‪79‬‬

‫في كتاب ((العواصم من القواصم)) (ص ‪.)77‬‬ ‫‪80‬‬

‫‪67‬‬
‫ثانياً‪ :‬أن العذاب ينزل بذنوب القوام من أهل القرى‪،‬‬
‫وليس الولة فقط‪:‬‬
‫وسبب وضع هذا العنوان أن البعض قد ابتعد عن الحق‬
‫كثيراً في رسم حدود مسؤولية الحكام‪ ،‬فأناط بهم تغيير كل‬
‫شيء في المجتمع سواء وقع المر ضمن دائرة مسؤوليته‪ ،‬أم‬
‫ضمن دوائر أصحاب المسؤوليات الخرى‪ ،‬التي ذكرها الحديث‬
‫الشريف‪(( :‬كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته‪.))...‬‬
‫واليات الدالة على المعنى المذكور في العنوان كثيرة‪،‬‬
‫منها‪:‬‬
‫صيُ‪[ ‬الحج‪.]48:‬‬
‫‪•‬وَ َكأَّينْ مِنْ قَ ْرَيةٍ َأمْلَيْتُ لَهَا َوهِيَ ظَاِل َمةٌ ُثمّ أَ َخذْتُهَا وَإِلَيّ اْل َم ِ‬
‫شأْنَا َب ْع َدهَا َقوْمًا آخَرِينَ‪[ ‬النبياء‪.]11:‬‬
‫صمْنَا ِمنْ قَرَْيةٍ كَانَتْ ظَاِل َمةً وَأَن َ‬
‫‪•‬وَ َكمْ َق َ‬
‫من الملحظ أن هذه اليات تؤكد بوضوح وجلء‪ ،‬أن‬
‫السبب المباشر لوقوع العذاب‪ ،‬وقوع الظلم من أهل القرى‬
‫عامة حكاماً ومحكومين وليس بذنوب الحكام فقط‪ .‬وأنها سنة‬
‫الله التي قد خلت في عباده‪ ،‬كما قال تعالى‪َ  :‬ف َلمْ َيكُ َي ْنفَعُ ُهمْ إِيَانُ ُهمْ‬
‫َلمّا رََأوْا َبأْسَنَا سُّنةَ ال ّلهِ الّتِي َقدْ خَلَتْ فِي عِبَا ِدهِ وَخَسِرَ هُنَاِلكَ الْكَافِرُونَ‪[ ‬غافر‪.]85:‬‬
‫قال ابن القيم‪:‬‬
‫((ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال‬
‫المم الذين أزال نعمه عنهم‪ ،‬وجد سبب ذلك جميعه إنما هو‬
‫مخالفة أمره وعصيان رسله‪ ،‬وكذلك من نظر في أحوال أهل‬
‫عصره وما أزال الله عنهم من نعمه‪ ،‬وجد ذلك كله من سوء‬
‫عواقب الذنوب‪ ،‬كما قيل‪:‬‬
‫فإن المعاصي‬ ‫إذا كنت في نعمة‬
‫تزيل النعم‬ ‫فارعها‬
‫فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته‪ ،‬ول‬
‫حصلت فيها الزيادة بمثل شكره‪ ،‬ول زالت عن العبد بمثل‬
‫معصيته لربه‪ ،‬فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في‬
‫الحطب اليابس))(‪ ،)81‬انتهى‪.‬‬
‫ويقول كذلك‪:‬‬
‫((بدائع الفوائد)) (‪.)2/432‬‬ ‫‪81‬‬

‫‪68‬‬
‫((فما أزيلت نعم الله بغير معصيته‪ ،‬إذا كنت في نعمة‬
‫فارعها‪ ،‬فإن المعاصي تزيل النعم‪ .‬فآفتك من نفسك‪ ،‬وبلؤك‬
‫من نفسك‪ ،‬وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك‪ ،‬وبلغت‬
‫من معاداة نفسك ما ل يبلغ العدو منك‪ .‬كما قيل‪ :‬ما يبلغ‬
‫العداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه))(‪ ،)82‬انتهى‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬إن البركة تنزل بسبب تحقق إيمان أهل القرى جميعاً‬
‫وليس الولة فقط‪.‬‬
‫واليات في ذلك كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫سمَاءِ وَاْلأَرْضِ وَلَ ِكنْ‬
‫حنَا عَ َليْ ِهمْ َبرَكَاتٍ ِمنْ ال ّ‬
‫)•وََلوْ َأنّ َأهْلَ اْلقُرَى آمَنُوا وَاّت َقوْا َلفَتَ ْ‬
‫خذْنَا ُهمْ ِبمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‪[ ‬العراف‪.]96:‬‬
‫َكذّبُوا َفأَ َ‬
‫رابعاً‪ :‬شروط تحقق الوعد بالتمكين والستخلف‬
‫(التغيير إلى الخير) متعلقة بالجماعة وليس بالولة‬
‫فقط‪.‬‬
‫ومن اليات الدالة على ذلك ما يلي‪:‬‬
‫خ ِلفَنّهُم فِي اْلأَرْضِ َكمَا‬
‫ستَ ْ‬
‫)• َو َعدَ ال ّلهُ اّلذِينَ آمَنُوا مِنْ ُكمْ َو َعمِلُوا الصّاِلحَاتِ لَيَ ْ‬
‫خلَفَ اّلذِينَ ِمنْ َقبْلِ ِهمْ وَلَُيمَكَّننّ َل ُهمْ دِينَ ُهمْ اّلذِي ا ْرَتضَى لَ ُهمْ وَلَيَُبدَّلنّ ُهمْ ِمنْ َب ْعدِ‬
‫ا ْستَ ْ‬
‫شرِكُونَ بِي شَ ْيئًا َومَنْ َكفَرَ َب ْعدَ ذَِلكَ َفُأوْلَِئكَ ُهمْ‬
‫َخوْفِ ِهمْ َأمْنًا َيعُْبدُونَنِي لَا يُ ْ‬
‫سقُونَ‪[ ‬النور‪.]55:‬‬
‫اْلفَا ِ‬
‫تضمنت الية الشروط الواجبة لتحقيق وعد الله تعالى‬
‫لعباده بالستخلف والتمكين في الرض‪ ،‬وهما تحقق اليمان‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬ومن الملحظ أن الخطاب في الية جاء بصيغة‬
‫الجمع‪ ( :‬آمنوا منكم‪ ،‬ليستخلفنهم )‪ ،‬ولم يأت بصيغة الفرد‬
‫للتأكيد على ما نحن بصدد تقديم البراهين عليه‪ ،‬من أن التغيير‬
‫يكون بعموم المجتمع ل بخصوص الفراد‪ ،‬كالحكام على سبيل‬
‫ط به سلمة اليمان‬ ‫منا ٍ‬
‫المثال‪ .‬ثم اختُتمت الية بشرط آخر ُ‬
‫وصحته‪ ،‬وهو عدم الشرك لضمان سلمة توحيد كلمة (ل إله إل‬
‫الله)‪ ،‬ولو كان شيئا ً يسيرا ً كما في قوله تعالى‪َ):‬يعُْبدُونَنِي لَا يُ ْ‬
‫شرِكُونَ‬
‫بِي شَيْئًا‪.‬‬

‫((طريق الهجرتين)) (‪ .)111 -1/110‬وانظر‪(( :‬الفوائد)) (‪.)210 ،1/181‬‬ ‫‪82‬‬

‫‪69‬‬
‫الحاديث النبوية‪:‬‬
‫•عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي × دخل‬
‫عليها فزعا يقول‪((:‬ل إله إل الله‪ ،‬ويل للعرب من شر‬
‫قد اقترب‪ ،‬فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل‬
‫هذه‪ ،‬وحلق بين أصبعيه البهام والتي تليها‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬أنهلك وفينا الصالحون؟‬
‫قال‪ :‬نعم إذا كثر الخبث))(‪.)83‬‬
‫ودللة الحديث‪ :‬أن الهلك ينزل بالعباد إذا كثر الخبث‪ ،‬ول‬
‫تتحقق كثرة الخبث في المجتمع إل بفساد أكثره‪ ،‬وفساد الحاكم‬
‫وحده دون المجتمع ل يتحقق به كثرة الخبث‪ ،‬فثبت أن العذاب‬
‫ينزل بذنوب القوام من أهل القرى رعاة ورعية‪ ،‬وليس بذنوب‬
‫الحكام فقط‪.‬‬
‫•وعن أبي أمامة قال‪ :‬قال ×‪(( :‬لتنقضن عرى السلم‬
‫عروة عروة‪ ،‬فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي‬
‫تليها‪ ،‬فأولهن نقضا ً الحكم‪ ،‬وآخرهن الصلة))(‪.)84‬‬
‫ودللة الحديث‪ :‬أن إعادة عروة الحكم إلى موضعها في‬
‫التطبيق‪ ،‬ل بد أن يسبقها إعادة تطبيق العرى الخرى بدءا من‬
‫الصلة وهكذا‪ ،‬فإن القاعدة العامة تقول‪( :‬أول قطعة تفكك‪،‬‬
‫آخر قطعة تركب)‪.‬‬
‫•عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫×‪(( :‬أل كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته‪،‬‬
‫فالمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن‬
‫رعيته‪ ،‬والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول‬
‫عن رعيته‪ ،‬والمرأة راعية على بيت زوجها وولده‬
‫وهي مسئولة عنهم‪ ،‬وعبد الرجل راع على مال‬
‫سيده وهو مسؤول عنه‪ ،‬أل فكلكم راع وكلكم‬
‫مسؤول عن رعيته)) (‪.)85‬‬
‫قال ابن حجر‪:‬‬

‫رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪83‬‬

‫(صحيح)‪ ،‬رواه ابن حبان في ((صحيحه))‪ ،‬وصححه الشيخ اللباني في‬ ‫‪84‬‬

‫((الترغيب والترهيب))‪.‬‬
‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪85‬‬

‫‪70‬‬
‫((قال الخطابي‪ :‬اشتركوا أي المام والرجل ومن ذكر‬
‫في التسمية‪ ،‬أي في الوصف‪ ،‬بالراعي‪ ،‬ومعانيهم مختلفة‪،‬‬
‫فرعاية المام العظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل‬
‫في الحكم‪ ،‬ورعاية الرجل أهله‪ ،‬سياسته لمرهم وإيصالهم‬
‫حقوقهم‪ ،‬ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والولد والخدم‬
‫والنصيحة للزوج في كل ذلك‪ ،‬ورعاية الخادم حفظ ما تحت‬
‫يده‪ ،‬والقيام بما يجب عليه من خدمته))(‪ ،)86‬انتهى‪.‬‬
‫وقال النووي‪:‬‬
‫((قال العلماء‪ :‬الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلح‬
‫ما قام عليه‪ ،‬وما هو تحت نظره‪ .‬ففيه أن كل من كان تحت‬
‫نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه‬
‫ودنياه ومتعلقاته))(‪.)87‬‬
‫وقال القرطبي في شرح قوله تعالى‪ِ :‬إ ّن ال ّلهَ يَ ْأ ُم ُركُمْ أَن تُؤدّواْ‬
‫ا َلمَانَاتِ إِلَى أه ِلهَا‪[ ‬النساء‪.]58:‬‬
‫((فجعل في هذه الحاديث الصحيحة كل هؤلء رعاة‬
‫وحكاما على مراتبهم))(‪ ،)88‬انتهى‪.‬‬
‫ً‬
‫قلت‪ :‬وهكذا تكتمل دوائر المسؤولية دون إفراط ول‬
‫تفريط‪ .‬وهذا المر يعكس عظمة السلم العظيم حيث لم‬
‫مناطا ً بفرد‪ ،‬أو بفئة من الناس أبداً‪ ،‬فهو دين‬
‫يجعل قيام الدين ُ‬
‫الجماعة‪.‬‬
‫•عن أبي أيوب قال‪ :‬سمعت رسول الله × يقول‪(( :‬ما‬
‫بعث الله من نبي ول كان بعده من خليفة إل له‬
‫بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن‬
‫المنكر‪ ،‬وبطانة ل تألوه خبالً‪ ،‬فمن وقي شرها‬
‫فقد وقي))(‪.)89‬‬
‫قال ابن حجر في الشرح‪:‬‬

‫((فتح الباري)) (‪.)13/113‬‬ ‫‪86‬‬

‫((شرح النووي على صحيح مسلم)) (‪.)12/213‬‬ ‫‪87‬‬

‫((تفسير القرطبي)) (‪.)5/258‬‬ ‫‪88‬‬

‫رواه البخاري رقم (‪ ،)6237‬ورقم (‪ ،)7198‬وفي رواية صفوان بن‬ ‫‪89‬‬

‫سليم يقول‪(( :‬ما بعث الله من نبي ول بعده من خليفة))‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫((ونقل ابن التين عن أشهب‪ :‬إنه ينبغي للحاكم أن يتخذ‬
‫من يستكشف له أحوال الناس في السر‪ ،‬وليكن ثقة مأموناً‬
‫فطنا ً عاقلً ‪ ،‬لن المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من‬
‫قبوله قول من ل يوثق به إذا كان هو حسن الظن به‪ ،‬فيجب‬
‫عليه أن يتثبت في مثل ذلك))(‪ ،)90‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذا كان تحقيق العدل في الرعية مقصود التشريع‬
‫اللهي‪ ،‬وقد أنيط هذا المر بالحاكم‪ ،‬وأمر الحاكم إنما يكون‬
‫بأهل مشورته وبطانته الخيرة‪ ،‬فإنه يلزم الرعية أن يجعلوا من‬
‫أنفسهم بطانة لحاكمهم ول يتركونه وشأنه لشياطين النس‬
‫والجن‪ ،‬ول أن يتعففوا عن أداء هذا الواجب‪ ،‬وخاصة في الزمنة‬
‫التي يقل فيها الكفاء من المناء الصالحين‪ ،‬فإنهم لو فعلوا ذلك‬
‫وتخلوا عن مواقع المسؤولية‪ ،‬فقد خدموا أعداء المة وساهموا‬
‫في تسلط بطانة السوء على رقابهم‪ ،‬في حين أنهم مأمورون‬
‫بأن ل يتخذوا بطانة من دونهم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪):‬يَاأَيّهَا اّلذِينَ‬
‫خذُوا بِطَاَنةً ِمنْ دُونِ ُكمْ لَا َيأْلُونَ ُكمْ خَبَالًا وَدّوا مَا عَنِّتمْ َقدْ َب َدتْ الَْب ْغضَاءُ ِمنْ‬
‫آمَنُوا لَا تَتّ ِ‬
‫صدُو ُر ُهمْ َأكْبَرُ َقدْ بَيّنّا لَ ُكمْ الْآيَاتِ إِنْ كُ ْنُتمْ َت ْعقِلُونَ * َهأَنُْتمْ ُأوْلَاءِ‬
‫خفِي ُ‬
‫أَ ْفوَاهِ ِهمْ وَمَا ُت ْ‬
‫ُتحِبّونَ ُهمْ وَلَا ُيحِبّونَ ُكمْ وَُت ْؤمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُ ّلهِ وَإِذَا َلقُو ُكمْ قَالُوا آمَنّا وَإِذَا َخ َلوْا َعضّوا‬
‫صدُورِ‪[ ‬آل عمران‪:‬‬
‫ال ّ‬ ‫َعلَيْ ُكمْ اْلأَنَامِلَ ِمنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا ِبغَيْظِ ُكمْ إِنّ ال ّلهَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ‬
‫‪.]119-118‬‬
‫يقول ابن كثير في تفسيرها‪:‬‬
‫((يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ‬
‫المنافقين بطانة‪ :‬أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه‬
‫لعدائهم‪ .‬والمنافقون بجهدهم وطاقتهم ل يألون المؤمنين‬
‫خبالً‪ ،‬أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن‪ ،‬وبما‬
‫يستطيعون من المكر والخديعة‪ ،‬ويودّون ما يعنت المؤمنين‪،‬‬
‫ويحرجهم ويشق عليهم ‪ ....‬ثم قال تعالى‪َ ( :‬قدْ َب َدتْ الَْب ْغضَاءُ ِمنْ‬
‫صدُو ُر ُهمْ َأكْبَرُ)‪ ،‬أي قد لح على صفحات وجوههم‬
‫خفِي ُ‬
‫أَ ْفوَاهِ ِهمْ وَمَا ُت ْ‬
‫وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في‬
‫صدورهم من البغضاء للسلم وأهله ما ل يخفى مثله على لبيب‬
‫عاقل))‪.‬انتهى‪.‬‬
‫((فتح الباري)) (‪.)13/190‬‬ ‫‪90‬‬

‫‪72‬‬
‫قلت‪ :‬هذا وقد كثر المنافقون الذين يتربصون بالسلم‬
‫وأهله في هذا الزمان‪ ،‬وعلى رأسهم كثير من المنتمين‬
‫للحركات القومية والشتراكية من بعثية وناصرية وغيرهم‪ ،‬إذ‬
‫ينطلقون بقوة إلى مهادنة ومداهنة السلميين باعتبارهم القوة‬
‫الكامنة (الرعاع) التي هم بحاجة ماسة لها مرحليا ً للسيطرة‬
‫على ما تبقى من الدول غير الشتراكية في العالم السلمي‬
‫فتنبه‪.‬‬
‫فهم يظهرون الولء الظاهري للحكم القائم المستهدف‪،‬‬
‫مع أنه قد بدت بعض البغضاء من أفواههم مستغلين هامش‬
‫الديموقراطية‪ ،‬وما تخفي صدورهم أكبر‪ ،‬وهو تغيير النظام بآخر‬
‫اشتراكي أو شيعي رافضي‪.‬‬
‫إذن لزم المة أن تجعل من نفسها البطانة الصالحة‬
‫للحاكم دون غيرها ما استطاعت إلى ذلك سبيلً‪ ،‬حتى يستقيم‬
‫أمره ويسعد الناس بعدله‪ .‬وعليه يلزمها قبل ذلك‪ ،‬السعي إلى‬
‫إيجاد البطانة الصالحة التي ستقوم بأداء هذا الواجب‪ ،‬وذلك‬
‫بتربية الجيال الناشئة‪ ،‬ول يكون ذلك بدون إيجاد السرة‬
‫المسلمة ول الفرد المسلم‪.‬‬
‫•وعن النعمان بن بشير قال‪ :‬قال رسول الله ×‪.. (( :‬أل‬
‫وإن في الجسد مضغة‪ ،‬إذا صلحت صلح الجسد‬
‫كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬أل وهي‬
‫القلب))(‪.)91‬‬
‫نلحظ من هذا الحديث الشريف‪ ،‬أن صلح الفرد أو‬
‫فساده مرتبط بصلح قلبه أو فساده وليس مرتبطاً بصلح‬
‫الرعاة أو فسادهم‪ .‬فكم من قلوب صلحت مع فساد رعاتها؟‬
‫وكم من قلوب فسدت مع صلح رعاتها؟‬
‫فل يوجد للحاكم تأثير سحري على قلوب العباد ليصلح أو‬
‫يفسد‪ .‬فلو كان مجرد وصول الرجل الصالح إلى الحكم في‬
‫مجتمع فاسد‪ ،‬يغير واقع المجتمع بقرار ملزم منه‪ ,‬لتخذ من‬
‫ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة‪ ,‬فعدوله عن ذلك‬
‫وتركه للعروض المغرية التي تقدمت له بها قريش‪ ،‬مقابل ترك‬
‫الدعوة‪ ،‬دل على مخالفة هذه الطريقة لسنة الله تعالى في‬
‫تغيير المجتمعات‪ .‬فترك نقل السنة‪ ،‬نقل للترك‪.‬‬

‫متفق عليه‪.‬‬ ‫‪91‬‬

‫‪73‬‬
‫•وقال رسول الله ×‪(( :‬من ولي منكم عملً فأراد الله‬
‫به خيراً جعل له وزيراً صالحاً‪ ،‬إن نسي ذكره وإن‬
‫ذكر أعانه))(‪.)92‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الحديث يعزز مفهوم الحديث السابق‪ .‬إذ‬
‫كيف يتحقق مراد الله تعالى بالخير لولي المر دون وجود‬
‫الوزير الصالح ؟ وكيف يوجد الوزير الصالح دون وجود المجتمع‬
‫الصالح؟ وكيف يكون ذلك دون وجود السرة المسلمة والفرد‬
‫المسلم؟‬
‫من القصص القرآني‪:‬‬
‫مع فرعون‪:‬‬ ‫•قصة موسى‬
‫‪‬وَإِذْ قَالَ مُوسَى ِلقَ ْومِهِ اذْكُرُوا ِن ْعمَةَ ال ّلهِ َعلَيْ ُكمْ ِإذْ َأنَا ُكمْ ِم ْن آلِ فِ ْر َعوْنَ‬
‫َيسُومُونَ ُكمْ سُوءَ اْل َعذَابِ وَُيذَبّحُونَ أَبْنَاءَ ُكمْ وَيَسَْتحْيُونَ نِسَا َء ُكمْ وَفِي ذَلِ ُكمْ بَلَاءٌ ِمنْ‬
‫كمْ عَظِيمٌ‪[ ‬ابراهيم‪.]6:‬‬
‫َربّ ُ‬
‫يقول ابن كثير‪:‬‬
‫((إن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته‪ ...‬مضمونها‬
‫أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل‪ .‬ويقال‬
‫ماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل‬ ‫س ّ‬
‫بعد تحدث ُ‬
‫منهم يكون لهم به دولة ورفعة‪ ،‬وهكذا جاء حديث الفتن كما‬
‫سيأتي في موضعه في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك‬
‫أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني‬
‫إسرائيل وأن تترك البنات))‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ولكن بعد أن صدر المر الفرعوني هذا ـ باعتباره أمرا‬
‫إلهيا ً عند قومه ـ بقتل المواليد الذكور من بني إسرائيل خشية‬
‫أن يزول ملكه على يد رجل منهم‪ ،‬نجد أنه لم يطبق هذا المر‬
‫على المعني بالقضية لمعارضة امرأة فرعون تنفيذ حكم القتل‬
‫في موسى الرضيع حين رأته‪ ،‬فقالت كلمتها‪ :‬ل تقتلوه‪.‬‬

‫تخريج السيوطي ‪( :‬ن) عن عائشة‪ .‬تحقيق الشيخ اللباني‪( :‬صحيح)‬ ‫‪92‬‬

‫انظر حديث رقم‪ )6596( :‬في ((صحيح الجامع))‪ ‌.‬و((سنن النسائي)) (‬


‫‪ ،)7/159‬بسند آخر وهو صحيح‪.‬وفي ((السلسة الصحيحة)) (‪.)1/881‬‬

‫‪74‬‬
‫خذَهُ وََلدًا‬
‫)وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِ ْر َعوْنَ ُقرّةُ َع ْينٍ لِي وََلكَ لَا َتقْتُلُوهُ َعسَى َأنْ يَنفَعَنَا َأوْ نَتّ ِ‬
‫شعُرُونَ‪[ ‬القصص‪ .]9:‬مما يدل على أن حكم الحاكم قد‬
‫َو ُهمْ لَا يَ ْ‬
‫يتخلف أحيانا بأتفه السباب ممن حوله‪ ،‬وهذا يؤكد على أثر‬
‫البطانة في حكمه‪ .‬فثبتت ضرورة إيجاد البطانة الصالحة أول‬
‫كي تعين الحاكم على الخير والستقامة‪.‬‬
‫لكن من أين تأتي البطانة الصالحة؟‬
‫إنها‪ ،‬طبعاً إفراز من المجتمع‪ ،‬فإن كان المجتمع صالحاً‬
‫تكون البطانة صالحة‪ ،‬وإن كان المجتمع سيئا ً ـ كما هو واقعنا ـ‬
‫تكون البطانة سيئة‪.‬‬
‫فرضية‪:‬‬
‫فاسقا‪ ،‬استيقظ يوما ما ليجد‬
‫ً‬ ‫تقول‪ :‬لو أن مجتمعاً‬
‫حاكمه‪ ،‬بقدرة الله تعالى‪ ،‬قد صلح أو آمن‪ ،‬فهل بالضرورة أن‬
‫يتوب المجتمع من ساعته ويرجع إلى الله تعالى؟‬
‫مما مضى ـ أخي القارىء ـ يتضح لنا بطلن الزعم بأن‬
‫صلح المجتمع وفساده مناط بصلح الحاكم وفساده‪ ،‬فقد تاب‬
‫النجاشي وآمن ولم يقدر أن يظهر إيمانه فضل ً عن أمر رعيته‬
‫به‪ .‬وهرقل عظيم الروم لم يقدر على جبر حاشيته على اتباع‬
‫فهذه النظرة الصنمية للحاكم‪ ،‬وإضفاء صفة اللهية‬ ‫النبي ×‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬كأنه يقول للشيء‪ :‬كن فيكون‪ ،‬نظرة خبيثة خبث الشرك‬
‫نفسه‪ ،‬يقعد الناس بسببها عن القيام بواجباتهم من الأمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ويترك بذلك المجتمع للتراجع‬
‫فاجرا بمعظمه‪،‬‬
‫ً‬ ‫مجتمعا‬
‫ً‬ ‫إلى الخلف يوماً بعد يوم‪ ،‬حتى يغدو‬
‫وفي هذا لفت نظر لولئك الذين يدندنون حول (شرك‬
‫القصور)‪ ،‬مع أنهم أقرب إلى التورط في ذلك‪ ،‬ذلك بأنهم‬
‫أعطوْا الحاكم المنشود هالة العصمة التي ل تكون لغير نبي‪،‬‬
‫ولربطهم النجاة في الدارين به‪ ،‬مع قيام الدلة الواقعية على‬
‫خلف ذلك‪ ،‬عصمنا الله وإياهم من اتباع الهوى‪.‬‬
‫وحتى ل يساء الفهم ويهمش دور الحاكم بالكلية فنقع في‬
‫انحراف في الطرف الخر‪ ،‬وحتى ل نغفل حدود دوائر‬
‫المسؤولية فيختلط بعضها ببعض فيتقاعس الحاكم عن‬
‫الواجبات المناطة به ويلقي بالمسؤولية على عاتق الرعية‪،‬‬
‫وكذلك حتى ل تلقي الرعية بمسؤولياتها وواجباتها على عاتق‬

‫‪75‬‬
‫الحاكم‪ ،‬بإحدى الحجج السابقة التي مر مناقشتها‪ ،‬ل بد لك أخي‬
‫القارىء أن تستذكر ما مر معك قريباً بهذا الخصوص‪.‬‬
‫وبالضافة إلى ذلك أقول‪ :‬إن الحاكم وحاشيته الصالحة‪،‬‬
‫تكون سيطرتهم على الساحة المكشوفة بقدر قوة أفراد‬
‫الحاشية‪ ،‬والجماعات التي خلف هذه الحاشية تدعمها‪ ،‬فكلما‬
‫ضعف إيمانهم وخارت عزائمهم‪ ،‬ونخرت فيهم أسباب الفساد‬
‫الخلقية المنافية للعدل والصدق والمانة من اعتبار‬
‫المحسوبيات وقبول الرشاوى والوصولية‪ ،‬أدى ذلك إلى ضعف‬
‫واضح في الجهاز الحكومي‪ ،‬وبالتالي في تطبيق الحكام‬
‫والقوانين مما ينعكس سلباً على سمعة الدولة والنظام الحاكم‪.‬‬
‫فيجد كل صاحب غرض ما يريد في تأليب غثاء الناس ضدها‪،‬‬
‫مما يعين المتربصين من أعدائنا أمثال الشتراكيين على تحقيق‬
‫أطماعهم وإسقاط أنظمتنا السلمية المعارضة والمعادية‬
‫للشتراكية‪ .‬وبهذا المعنى يكون البعض منا قد سعى مع‬
‫حسن النية في جلب المفاسد أو تكثيرها وهو ل‬
‫يعلم‪.‬‬
‫وكلما قوي اليمان في أفراد الحاشية‪ ،‬كانت فاعليتهم‬
‫في تطبيق الحكام ومنع ظهور المنكرات أعظم‪ ،‬فالقضية إذن‬
‫نسبية‪ .‬ومن جانب آخر إذا كان المنكر مما يقع في الساحة‬
‫المستورة‪ ،‬فكيف للحاكم وحاشيته الوصول إليه ومنعه؟‬
‫وأضرب مثل لتوضيح المر‪ ،‬قال تعالى‪ :‬وَلَ َتقْرَبُواْ الزّنَى إِّنهُ‬
‫شةً وَسَاء سَبِيلً‪[ ‬السراء‪.]32:‬‬
‫كَانَ فَا ِح َ‬
‫ولمنع وقوع الزنا في المجتمع ل بد من محاربته ومراقبته‬
‫في كل مكان‪ .‬فعلى الساحة المكشوفة‪ ,‬يستطيع الحاكم‬
‫ببطانته الصالحة إغلق دور الزنا المباشر‪ ,‬وكل ما يؤدي إلى‬
‫وقوع الزنا‪ ,‬مثل حفلت الرقص العامة‪ ,‬وبرك السباحة العامة‪,‬‬
‫ومخالفات الشواطئ المختلطة‪ ,‬ورياضة النساء التي تتكشف‬
‫ن‪ ،‬من تزلج وألعاب القوى والسباحة والرقص في‬ ‫فيها عوراته ّ‬
‫الماء‪ ،‬ومسابقات ملكات الجمال وغيرها الكثير‪.‬‬
‫كما يستطيع الحاكم ببطانته الصالحة أن يمنع جميع‬
‫مة‬
‫مظاهر الختلط المحرم في الساحات والماكن العا ّ‬
‫مة‪ ,‬وكذلك أن يحد ّ من مظاهر‬
‫والجامعات والمواصلت العا ّ‬

‫‪76‬‬
‫السفور والعريّ المنتشر في الشوارع‪ ,‬والسينما والصور‬
‫الفاضحة‪ ,‬وأن يراقب ما يجوز وما ل يجوز نشره من مطبوعات‬
‫ومنشورات وصحف ومجلت‪ ،‬وما شاكل ذلك من أمور‪.‬‬
‫أما على الساحة المستورة فإن دور الحاكم وبطانته‬
‫الصالحة ينتهي ليبدأ دور أصحاب المسؤوليات الخرى من آباء‬
‫وأمهات ومربين وكل من له علقة بالمنكر‪ ،‬أي‪ :‬إن الحاكم ل‬
‫يستطيع منع الزنا في البيوت المستورة‪ ,‬ول الختلط المحرم‬
‫ول المنكرات في السر‪ .‬كما أنه ل يفعل شيئا ً لما بجري من‬
‫مخالفات ومحرمات داخل المؤسسات الخاصة‪ ،‬والمكاتب‪ ،‬ول‬
‫داخل سيارات الجرة الخاصة والعامة‪ ،‬ول التعري بين القارب‬
‫ومع الصحاب‪ ,‬وما يجري داخل البيوت من منكرات العراس‪،‬‬
‫ول يستطيع كذلك أن يمنع ما تعرضه قنوات الدول الخرى غير‬
‫الملتزمة الفضائية وغير الفضائية على شاشات التلفاز‬
‫والنترنت‪ ،‬ول ما يجري تبادله كذلك من مخالفات وصور‬
‫شابّات في أجهزة الهواتف النقالة‪ .‬ول‬‫فاضحة بين الشباب وال ّ‬
‫يستطيع أن يتتبع جميع الماكن والشوارع التي تظهر فيه النساء‬
‫الكاسيات العاريات وخاصة ما يجري في القرى والرياف بعيداً‬
‫عن أعين السلطة‪.‬‬
‫وهنا تجدر الملحظة بأنه‪ ،‬أينما غاب الرقيب انتهكت‬
‫المحرمات‪ ،‬حتى لو فرضت القوانين الرادعة لذلك‪ ،‬خصوصاً‬
‫في مجتمع منهارٍ أخلقيا ً وسلوكياً‪ ،‬لذا أكد السلم على مراقبة‬
‫الله تعالى في السر والعلن‪.‬‬
‫فكلما ضعف الجهاز التنفيذي(‪ )93‬عند الحاكم ومراقبته لله‬
‫تعالى انتشرت مظاهر المحرمات لضعف المتابعة‪ ،‬بل يؤدي‬
‫إلى وقوع هذا الجهاز فيما حرم الله أو خالف القانون‪.‬‬
‫وعندنا في الردن قانون يمنع التدخين في المكاتب‬
‫مة‪ ,‬ويقضي بدفع غرامة ماليّة على كل مخالف‪،‬‬ ‫والماكن العا ّ‬
‫ورغم التأكيد المستمر عليه من الحكومة‪ ,‬إل أننا لم نر لهذا‬
‫القانون أثراً‪ ,‬لنتهاكه من قبل الكبير والصغير‪ ,‬من داخل الجهاز‬
‫التنفيذي أو من خارجه‪ ,‬فغدا حبرا ً على ورق‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫غياب البطانة الصالحة‪ ،‬بل غياب البطانة الصالحة المؤثرة‪.‬‬

‫الجهاز التنفيذي والجهاز التشريعي في الدولة يتشكلن من أشخاص‬ ‫‪93‬‬

‫مواطنين في الصل‪ ،‬قبل أن يكونوا حكوميين‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫وعليه‪ ،‬يجب التعاضد وتركيز العمل على إصلح الرعية‬
‫ورفع ظلمهم لنفسهم والنشغال بذلك‪ ،‬بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬والنصح للحاكم بشروطه وضوابطه‪.‬‬
‫درجات التغيير ومراتبه‬

‫لما خلق الله تعالى الخلق ابتلهم أيهم أحسن عملً‪ ,‬فل‬
‫زالوا على التوحيد حتى اجتالتهم الشياطين‪ ،‬فأرسل الله لهم‬
‫النبيين تترى يدعونهم إلى السلم ـ دين النبياء جميعاً ـ من‬
‫جديد‪ ,‬وهو دين الرحمة‪ ,‬يرحم الله به عباده الصالحين‪ ,‬فكانت‬
‫هداية الخلق للحق مقصودة لذاتها‪ ,‬وهي أسمى مقصد من‬
‫مقاصد الديانات السماوية جميعها‪.‬‬
‫لذا حرص السلم باعتباره آخر الشرائع وناسخا ً لها كل‬
‫الحرص على إخراج العباد من الظلمات إلى النور‪ ,‬وأوجب‬
‫لأجل ذلك المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬وذلك لتحقيق‬
‫أمرين اثنين‪:‬‬
‫الول‪ :‬زيادة الخير في المم من خلل المر بالمعروف‪،‬‬
‫وأعظمه تحقق التوحيد وأركان السلم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التقليل من المنكرات من خلل النهي عن‬
‫المنكر‪ ,‬وأكبره الشرك بالله والكبائر‪.‬‬
‫وبما أن أهل الخير يتفاوتون في الدرجات فيما بينهم‪,‬‬
‫وأهل الشر كذلك‪ ،‬فإن المطلوب‪:‬‬
‫‪-1‬رفع نسبة الخير في المجتمع‪ ,‬وذلك بزيادة الخير من درجة‬
‫إلى أخرى ـ أي من درجة الكمال إلى الكمل ـ‪.‬‬
‫‪-2‬التقليل من نسبة الشر في المجتمع من الدرجة السـوأ‪،‬‬
‫إلى الدرجة القــل ســوءاً‪.‬‬
‫صل أهل الفقه قواعد أصوليّة‪,‬‬‫وتحقيقا ً للمعاني السابقة أ ّ‬
‫منها قاعدة((ترجيح خير الخيرين‪ ،‬ودفع شر الشرين))‪ ،‬وهذا باب‬
‫عظيم من أبواب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬إذ بالعمل‬
‫به تتنّزل رحمة الله تعالى على العباد وينجون من عذابه‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى‪:‬‬
‫((فل يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ول دفع أخف‬

‫‪78‬‬
‫الضررين بتحصيل أعظم الضررين‪ ،‬فإن الشريعة جاءت‬
‫بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب‬
‫المكان‪ ،‬ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا‬
‫جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً ))(‪.)94‬‬
‫ويقول‪:‬‬
‫((إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها‬
‫وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت‬
‫أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما))(‪.)95‬‬
‫ولتوضيح المر‪ ,‬علينا أن نتصوّر الرسم التالي‪:‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)23/343‬‬ ‫‪94‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)30/193‬‬ ‫‪95‬‬

‫‪79‬‬
‫شكل(‪)1‬‬
‫اتجاه‬ ‫موقف‬ ‫اتجاه‬
‫سلبي‬ ‫محايد‬ ‫ايجابي‬
‫(شر‬ ‫(خير‬

‫عم عمل عمل بذل‬ ‫م‬ ‫بذل عمل عمل عمل‬


‫الما الركا اللس القل وقف ل اللس الركا المال‬
‫والنف‬ ‫ن‬ ‫ب محايد القل ان‬ ‫ان‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫س‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫موقف متعاطف مع‬
‫موقف متآمر ضد السلم‬ ‫السل‬ ‫السلم تدرج في الولء‬
‫تدرج في البراء‬ ‫م‬
‫م‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫م‬
‫س‬ ‫س‬ ‫س‬ ‫س‬ ‫وج‬ ‫وج وجب وج‬
‫الب‬ ‫صفر الب الب الب‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫‪3‬‬ ‫ب‬
‫‪4‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪4‬‬

‫سلبي‬
‫اتجاه‬ ‫موقف‬ ‫إيجابي‬
‫محايد‬ ‫اتجاه‬

‫قاعدة‪ :‬تعطيل‬ ‫موقف محايد‬ ‫قاعدة‪ :‬تحصيل‬


‫المفاسد وتقليلها‬ ‫المصالح وتكميلها‬
‫(دفع شر الشرين)‬ ‫(ترجيح خير الخيرين)‬
‫يمثل هذا الرسم موقف الشخص المقصود أو الجماعة أو‬
‫الدولة من السلم كما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬نقطة المنتصف ( الصفر)‪ ,‬وتمثل موقف الحياد من السلم‪,‬‬
‫غير مؤيد وغير معارض‪.‬‬
‫ب‪ -‬التجاه إلى اليمين‪ ,‬ويمثل أربع درجات‪:‬‬
‫‪-1‬عمل القلب باليمان‪ ،‬ويشمل (قول القلب‪ ،‬أي تصديقه‪،‬‬
‫وعمل القلب‪ ،‬أي خضوعه وانقياده) وهو أصل اليمان‪ ،‬أو‬
‫حدّه الدنى(‪.)96‬‬

‫((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (‪.)7/637،263،644،377،639‬‬ ‫‪96‬‬

‫‪80‬‬
‫‪-2‬عمل باللسان‪ :‬وتشمل الدرجة السابقة‪ ,‬ويضاف إليها‬
‫التعبير عن التعاطف مع السلم باللسان‪ ,‬كأن يقول‪:‬‬
‫السلم دين الحق وهكذا‪.‬‬
‫‪-3‬عمل بالركان‪ :‬وتشمل الدرجات السابقة وإقامة أركان‬
‫السلم في النفس (صلة‪ ,‬صوم‪)...‬‬
‫‪-4‬بذل النفس والمال‪ ,‬وتشمل الدرجات السابقة جميعاً‪،‬‬
‫ويضاف إليها بذل المال والنفس دفاعا ً عن السلم والدعوة‬
‫إليه‪.‬‬
‫ج‪ -‬التجاه إلى اليسار‪ ,‬ويمثل بأربع درجات‪:‬‬
‫‪-1‬عمل القلب بالكفر‪ ,‬ويشمل ( قول القلب‪ ،‬أي تكذيبه‪،‬‬
‫وعمل القلب‪ ،‬أي عدم الخضوع والنقياد) وهو حد الكفر‬
‫الدنى‪.‬‬
‫‪-2‬عمل باللسان‪ ,‬ويشمل الدرجة السابقة ويضاف إليها‬
‫استعمال اللسان في الصد عن السلم‪ ,‬كأن يقول‪ :‬السلم‬
‫دين رجعي وباطل‪ ،‬أو يسخر من العلماء‪.‬‬
‫‪-3‬عمل بالركان‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة‪ ،‬ويضاف إليها ترك‬
‫الواجبات‪ ،‬وفعل المحرمات‪.‬‬
‫‪ -4‬بذل النفس والمال‪ ,‬ويشمل الدرجات السابقة ويضاف‬
‫إليها بذل المال والنفس في محاربة السلم‪.‬‬
‫درجات المر بالمعروف‪:‬‬
‫درجات اليمان‪ ,‬ويمثلها الدرجات من موجب (‪ )1+‬إلى‬
‫موجب(‪ ,)4+‬أدناها الدرجة الولى (عمل القلب) وأعلها الرابعة‬
‫بذل النفس والمال‪ ,‬فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصاً‬
‫من الدرجة الولى(عمل القلب‪ :‬أي تصديقه وخضوعه)‪ ،‬إلى‬
‫الدرجة الثانية (عمل اللسان‪ :‬أي التعاطف مع السلم بالقول)‬
‫لكانت نقلة في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله إلى الدرجتين‬
‫الثالثة أو الرابعة؟‪.‬‬
‫وهكذا لو استطاع أن ينقل شخصا ً من الدرجة الثالثة إلى‬
‫الرابعة أو من الثانية إلى الثالثة‪ ,‬إذن فكل نقلة باتجاه اليمين‬
‫تعتبر نقلة إيجابية‪ ،‬وبهذا العمل نكون قد طبقنا قاعدة تحصيل‬

‫‪81‬‬
‫المصالح وتكميلها‪ ،‬أو ترجيح خير الخيرين‪ .‬ونكون قد والينا‬
‫المؤمنين بقدر درجة إيمانهم وبذلهم للسلم‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن النتقال ما بين الدرجات (‪ )1+‬و(‪،)4+‬‬
‫ل يلحظه البعض من الناس‪ ،‬وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها‬
‫مباشرة‪ ،‬مع انه باب من أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به يزداد المعروف‬
‫في الرض تدريجياً‪ ،‬وهذا مقصود لذاته‪.‬‬
‫درجات النهي عن المنكر‪:‬‬
‫درجات الكفر‪ ,‬ويمثلها الدرجات من (‪ )1-‬إلى (‪ )4-‬أدناها‬
‫الدرجة (‪ :)1-‬درجة (كفر القلب‪ :‬أي تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع‬
‫والنقياد) وأعلها (‪( :)4-‬بذل النفس والمال في الصد عن‬
‫السلم)‪ .‬فلو استطاع أحد الدعاة أن ينقل شخصا ً من الدرجة‬
‫(‪ )4-‬درجة‪ :‬بذل المال والنفس في محاربة السلم‪ ،‬إلى‬
‫الدرجــة (‪ :)3-‬التي يقوم فيها الشخص بالمنكرات‪ ,‬لكانت نقلة‬
‫في التجاه اليجابي‪ ،‬فكيف لو نقله من الدرجة (‪ )4-‬الـى (‪:)1-‬‬
‫درجة (كفر القلب)؟‪.‬‬
‫إذا ً بهذا العمل وعلى الرغم من أننا لم نوفق بإخراج‬
‫الشخص من الكفر إلى اليمان‪ ،‬نكون قد عملنا بقاعدة تعطيل‬
‫المفاسد وتقليلها‪ ،‬أو دفع شر الشرين‪ .‬وعادينا الكافرين بقدر‬
‫درجة كفرهم وصدهم عن دين السلم‪ ،‬فكلما ازدادوا بموقفهم‬
‫سوءاً‪ ،‬زيد عذابهم‪ .‬قال تعالى‪):‬اّلذِينَ َكفَرُوا َو َ‬
‫صدّوا َعنْ سَبِيلِ ال ّلهِ زِ ْدنَا ُهمْ‬
‫سدُونَ‪[ ‬النحل‪ .]88:‬ومن المعلوم أن‬
‫َعذَابًا َفوْقَ ال َعذَابِ ِبمَا كَانُوا ُيفْ ِ‬
‫النتقال ما بين الدرجـات (‪ )4-‬و(‪ ،)1-‬ل يلحظه كثير من الناس‪،‬‬
‫وخاصة ما بين الدرجة والتي تليها مباشرة‪ ،‬مع أنه باب من‬
‫أبواب الدعوة‪ ،‬إذ به ينحسر الفساد في الرض تدريجيا‪ ،،‬وهذا‬
‫مقصود لذاته كذلك‪ .‬فلو أن مسلما‪ ، ،‬قام بعمل كانت نتيجته‬
‫بقاء الكفر‪ ،‬ولكن انتقل موقف أهله من (‪ )1-‬الى (‪ ،)2-‬أو من‬
‫(‪ )3-‬الــى (‪ ،)4-‬كان عمله محرماً‪ .‬فكيف به لو قام بعمل أخرج‬
‫به البعض من دائرة السلم إلى الكفر‪ ،‬وهو يظن نفسه‬
‫محسناً؟‬
‫ومما يجدر التنبيه إليه‪ :‬أن البعض ممن قل علمهم بهذا‪،‬‬
‫قد يصنف العلماء العاملين بهذا المنهج الصولي بالعمالة‪ ،‬إذا‬

‫‪82‬‬
‫أفتوا بدفع الشر الكبر بالشر الصغر‪ ،‬إذا لم يندفعا جميعاً‪،‬‬
‫ومثاله‪ ،‬انظر الحاشية(‪.)97‬‬
‫ولتوضيح المر أكثر نضرب مثلً بما حدث في صلح‬
‫الحديبية‪ ،‬ولماذا سمي بالفتح المبين ؟‬
‫لقد بدأت دعوة رسول الله × بمفرده‪ ،‬ومع الزمن‬
‫والصبر على أذى المشركين‪ ،‬بدأ الناس بالنتقال من درجات‬
‫الكفر{(‪ })1-(-)4-‬إلى درجات اليمان {(‪ ،})4+(-)1+‬ولقد‬
‫كانوا متفاوتين في موقفهم الولي من السلم حين دُعوا إليه‪،‬‬
‫فلم يكونوا كلهم في الدرجة (‪ )4-‬المعادية للسلم بالمال‬
‫والنفس‪ ،‬كموقف أبي جهل لعنه الله‪ ،‬ومع استمرار الدعوة أخذ‬
‫المشركون بالنتقال من درجة إلى التي تليها باتجاه السلم‪،‬‬
‫ومنهم من دخل فيه وبدأ بالترقي في درجات السلم‬
‫{(‪+‬موجب ‪+(-)1‬موجب ‪ ،})4‬إل أن الدرجة الرابعة (‪+‬موجب‬
‫‪ )4‬في العهد المكي‪ ،‬كانت ببذل المال في سبيل الدعوة فقط‪،‬‬
‫ولم يكن قد فرض الجهاد بعد‪.‬‬
‫وبعد الهجرة إلى المدينة‪ ،‬قويت شوكة المسلمين‪،‬‬
‫وقاموا بالعديد من الغزوات‪ ،‬وعلى رأسها (بدر الكبرى)‪ .‬وفي‬
‫السنة السادسة من الهجرة وقّعَ الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫صلح الحديبية مع قريش‪ ،‬وأخذ بنشر الدعوة خارج المدينة‬
‫المنورة مستغلً فترة وضع القتال لمدة عشر سنين‪ ،‬فازداد عدد‬
‫المسلمين‪ ،‬فدخل فيه في غضون سنتين أكثر ممن أسلموا في‬
‫تسعة عشر عاماً مضت‪ ،‬وممن أسلم في هذه الفترة خالد بن‬
‫الوليد رضي الله عنه‪.‬‬
‫يقول ابن كثير في تفسير أول سورة الفتح‪:‬‬
‫نا ظاهراً‪ ،‬والمراد به‬
‫((فقوله‪( :‬إنا فَتحنا لك فتحا مُبينا) أي‪ :‬بَيّ ً‬
‫صلح الحديبية‪ .‬فإنه حصل بسببه خير جزيل‪ ،‬وآمن الناس‬

‫دفع الخطر الاشتراكي الكبر‪ ،‬بالخطر الرأسمالي‪ ،‬ومن صور‬ ‫‪97‬‬

‫الاشتراكية (النظام اليراني الخميني‪ ،‬والنظام البعثي الشتراكي في‬


‫العراق وسوريا‪ ،‬ونظام كل من ليبيا‪ ،‬وتونس‪ ،‬والجزائر‪ ،‬والصين‪،‬‬
‫وكوريا الشمالية‪ ،‬وكوبا‪ ،‬وروسيا التحادية وهكذا‪ .‬ومن صور‬
‫الرأسمالية‪ :‬دول أوروبا‪ ،‬وأمريكا وأمثالها‪ .‬انظر كتابنا‬
‫((المنابرالعلمية بين تجاهل الخطر الشتراكي وظاهرة معاداة‬
‫أمريكا))‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم‬
‫النافع واليمان))‬

‫ويقول الطبري في تفسيره‪:‬‬


‫((قوله‪َ ( :‬فجَعلَ مِن دُون ذَلِك فَتحاً قريباً) يعني‪ :‬صلح الحديبية؛‬
‫وما فتح في السلم فتح كان أعظم منه‪ ،‬إنما كان القتال حيث‬
‫التقى الناس‪ ،‬فلما كانت الهدنة وضعت الحرب وآمن الناس‬
‫كلهم بعضهم بعضاً‪ ،‬فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة‪،‬‬
‫فلم يكلم أحد بالسلم يعقل شيئا إل دخل فيه‪ ،‬فلقد دخل‬
‫في تينك السنتين في السلم مثل من كان في‬
‫السلم قبل ذلك وأكثر))‪.‬‬
‫أقول‪ :‬لماذا تضاعف عدد المسلمين في غضون سنتين‬
‫فقط؟‬
‫نعلم مما سبق من قول الطبري وابن كثير وغيرهما‪ ،‬أن‬
‫السبب في ذلك‪ ،‬هو توقيع الهدنة ووضع الحرب‪ ،‬لن مناخ‬
‫الحروب يؤجج النفوس ويشحنها للدفاع عن المعتقدات والرض‬
‫والعرض‪ ،‬فتأخذ المشركين حمية الجاهلية‪.‬‬
‫فلو نزل الرسول ×‪ ،‬على رأي عمر بن الخطاب وعامة‬
‫الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬وقاتلوا المشركين حين منعوهم من‬
‫أداء العمرة‪ ،‬وقامت الحرب‪ ،‬لتراجع كل أؤلئك الذين كانوا قد‬
‫اقتربوا من السلم عدة درجات عن درجاتهم‪ ،‬فبعضهم كان قد‬
‫أوشك على الدخول في السلم‪ ،‬فوصل إلى الدرجة (الصفر)‬
‫درجة الحياد‪ ،‬وبعضهم وصل إلى الدرجة (‪ :)1-‬درجة (كفر‬
‫القلب‪ :‬أي تكذيبه‪ ،‬وعدم الخضوع والنقياد)‪ ،‬وبعضهم إلى‬
‫الدرجة (‪ :)2-‬درجة (استعمال اللسان في الصد عن السلم)‪،‬‬
‫وهكذا‪ .‬وبهذا يتبين لنا أن النصر الحقيقي والفتح المبين‪ ،‬هو فتح‬
‫القلوب للدخول في السلم‪ ،‬ويكون أحياناً في الموطن الذي‬
‫يراه الناس‪ ،‬موطن ذل وهزيمة‪ ،‬فمن كان يتصور أن في هاتين‬
‫السنتين سيدخل في السلم من المشركين أكثر من عدد من‬
‫وجيها آخر‬
‫ً‬ ‫أسلم منذ تسعة عشر عاما ً مضت؟ فكان ذلك سبباً‬
‫لفتح مكة‪ .‬ألم يرتجف أبو سفيان من عدد جيش فتح مكة‬
‫المقدر بعشرة آلف مقاتل من المسلمين؟‬

‫‪84‬‬
‫لذا على المسلين أن يحرصوا على كل أسلوب‬
‫حسن يقرب المشركين من السلم ولو خطوة‪ ،‬وأن‬
‫يتجنبوا كل ما يبعدهم عن السلم ولو خطوة‪.‬‬
‫فهل ما يقوم به بعض الجهلة باسم السلم‬
‫وتحت يافطات إسلمية من أعمال إرهابية وصلت إلى‬
‫حد ذبح البرياء‪ 98‬والتفاخر بذلك ونشره مصوراً في‬
‫وسائل العلم‪ ،‬يقرب غير المسلمين من السلم‪،‬‬
‫أم أن هذه العمال ستشكك حديثي العهد بهذا الدين‪،‬‬
‫فضل عن أن يدخلوا فيه؟‬
‫ً‬
‫ألم يقل الله تعالى‪ :‬لَا َينْهَاكُمُ ال ّلهُ َعنْ اّلذِينَ َلمْ ُيقَاِتلُو ُكمْ فِي الدّينِ‬
‫سطُوا ِإلَيْ ِهمْ إِنّ ال ّلهَ يُحِبّ اْل ُمقْسِ ِطيَ‪‬‬
‫وََلمْ يُخْرِجُو ُكمْ ِمنْ دِيَارِ ُكمْ أَنْ تََبرّو ُهمْ وَُتقْ ِ‬
‫[الممتحنة‪]8:‬؟‬
‫ألم تحمل الية ردا ً مسبقا ً على تصورات البعض الخاطئة‬
‫في هذه اليام‪ ،‬ممن يعتقدون أن مجرد معاملة من لم يقاتلوننا‬
‫في ديننا من غير المسلمين‪ ،‬بالبر والحسان يُعَد ّ من باب‬
‫الموالة لهم؟‬
‫بناء على ما سبق ذكره‪ ،‬فإنه يحسن أن نبين العلقة‬
‫الطردية بين العمال الصالحة من جهة ودرجة التغيير إلى‬
‫الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪ .‬وكذلك العلقة العكسية‬
‫القائمة بين العمال السيئة من جهة‪ ،‬ودرجة التغيير إلى‬
‫الحسن في المجتمع من جهة أخرى‪.‬‬
‫فقد مضت سنة الله تعالى أن تغيير النفس في‬
‫م فيه وتظهر‪ ،‬وتكون‬ ‫المجتمع بما يرضي الله تعالى بنسبة تع ّ‬
‫هي الغلب‪ ،‬سيؤدي ذلك بإذن الله وتوفيقه إلى تغيير ما بالقوم‬
‫إلى الحسن‪ .‬والتغيير الكلي المطلوب‪ ،‬هو محصلة‬
‫إيجابية لتغيير جميع ما في النفس البشرية من‬
‫الفكار والمعتقدات التي تبنى عليها العمال‬
‫والقوال‪.‬‬

‫ومن صور أعمالهم المنحرفة تكفيرهم لمن مارس حقه في‬ ‫‪98‬‬

‫النتخابات في العراق‪ ،‬ومن ثم قتلهم في مراكز القتراع‪ ،‬إذ قاموا‬


‫يوم القتراع بـ (‪ )13‬عملية قتل فيها العشرات من المقترعين‪ ،‬كما‬
‫تناقلته وسائل العلم‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫وعليه فإنه يلزم كل فرد من أفراد المجتمع الحرص على‬
‫ما يلي‪:‬‬
‫‪-1‬أن يتعرف على درجة تعاطفه مع السلم‪ ،‬هل هي مؤيدة‬
‫بالقلب فقط‪ ،‬أم أنها بالقلب واللسان‪ ،‬أم أنها أرفع من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪-2‬المبادرة بنقل نفسه من الدرجة التي يشغلها حالياً‪ ،‬إلى‬
‫الدرجة التي تليها‪ ،‬والتي تليها‪ ،‬وهكذا‪ ،‬لقوله تعالى‪ :‬وَسَا ِرعُوا‬
‫سمَاوَاتُ وَاْلأَ ْرضُ ُأ ِع ّدتْ ِل ْلمُّتقِيَ‪[ ‬آل‬
‫ِإلَى َمغْفِرَةٍ ِمنْ رَبّ ُكمْ وَجَنّةٍ َع ْرضُهَا ال ّ‬
‫عمران‪ .]133:‬وإن لم يستطع أن يترقى من درجة إلى‬
‫أخرى‪ ،‬عليه أن يترقى في الدرجة الواحدة‪ ،‬وذلك لتفاوت‬
‫أهل التوحيد في الدرجة الواحدة‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪،‬‬
‫يتفاوت المصلون في أجرهم بقدر حسن إقامتهم للصلة‪:‬‬
‫أركانها‪ ،‬وطهورها‪ ،‬وخشوعها‪ ،‬ونوافلها‪ ،‬وموضعها‪ .‬وكذلك‬
‫يتفاوتون في الصدقات‪ ،‬وغيره‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يدعوا المسلمين إلى النتقال من درجة إلى أخرى‬
‫تليها في اليجابية‪ ،‬ليزداد اليمان في المجتمع‪ ،‬فتقترب‬
‫محصلته من الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق‬
‫التغيير اليجابي المنشود في القوم‪.‬‬
‫‪-4‬على المسلم أن يشعر أنه بترقية أي فرد من أفراد‬
‫المجتمع‪ ،‬من درجة إيجابية إلى أخرى‪ ،‬يزداد اليمان في‬
‫المجتمع‪ ،‬فيقترب من الدرجة التي يرضاها الله تعالى‬
‫لستحقاق التغيير اليجابي المنشود في القوم‪ .‬فإن أي‬
‫ل شأنه في نظر فاعله‪ ،‬يعدّ‬‫زيادة في المعروف مهما ق ّ‬
‫ً‬
‫بركة‪ ،‬قال ×‪(( :‬ل تحقرن من المعروف شيئا‪ ،‬ولو أن‬
‫تلقى أخاك بوجه طليق)) [رواه مسلم]‪.‬‬
‫‪-5‬على المسلم العتراف‪ ،‬بأن تراجعه‪ ،‬أو أي فرد من أفراد‬
‫المجتمع‪ ،‬من درجة إلى التي تليها في التجاه السلبي‪،‬‬
‫سيؤدي إلى نقصان درجة اليمان في المجتمع‪ ،‬وبالتالي‬
‫نقصان معدله‪ ،‬أي أنه بهذا التراجع يساهم بالبتعاد عن‬
‫الدرجة التي يرضاها الله تعالى لستحقاق التغيير اليجابي‬
‫المنشود في القوم‪ ،‬وبالتالي يساهم في الهزيمة التي‬
‫صائم‬
‫ٍ‬ ‫ل صلته‪ ،‬أو‬‫ستلحق بالمسلمين‪ .‬أي‪ :‬إذا ترك مص ٍ‬
‫ة‬
‫ة دعوته‪ ،‬وأمثال ذلك‪ ،‬أو ارتكب معصي ً‬ ‫صومه‪ ،‬أو داعي ٌ‬

‫‪86‬‬
‫صغرت أم كبرت‪ ،‬فإن هذا التراجع عن أداء واجب أو الجرأة‬
‫على فعل محرم‪ ،‬يؤدي إلى ما ذكرنا‪ .‬وبهذا سندرك المعاني‬
‫العظيمة‪ ،‬والعبر في قوله ×‪(( :‬مثل القائم في حدود‬
‫الله والواقع فيها‪ ،‬كمثل قوم استهموا على‬
‫سفينة‪ ،‬فصار بعضهم أعلها وبعضهم أسفلها‪.‬‬
‫فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا‬
‫على من فوقهم فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا‬
‫خرقا ً ولم نؤذ من فوقنا‪ ،‬فإن تركوهم وما أرادوا‬
‫هلكوا جميعا ً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا‬
‫جميعاً ))‪[ .‬رواه البخاري والترمذي]‪.‬‬
‫‪-6‬فإنه من الخير‪ ،‬أن يقوم الدعاة والوعاظ والعلماء بنشر‬
‫هذه المفاهيم في الناس‪ ،‬ليقبلوا على الخير أو يزدادوا بها‬
‫خيرا‪ ،‬وليجتنبوا الشر‪ ،‬أو ينقصوا منه ما استطاعوا إلى ذلك‬
‫سبيلً‪.‬‬
‫قواعد يجب مراعاتها عند التغيير‪:‬‬
‫‪ -1‬التدرج في تطبيق السلم العام حسب الحال‬
‫والقدرة‪:‬‬
‫لقد اتسم التشريع السلمي بالتدرج‪ ،‬سواء كان ذلك في‬
‫العقائد أم في الحكام‪ ،‬ففي الوقت الذي كان فيه التركيز على‬
‫العقائد في المراحل الولى من الدعوة في مكة المكرمة‪ ،‬تأخر‬
‫فرض كثير من الحكام بعد الهجرة إلى المدينة‪ ،‬حتى إن الكفار‬
‫ضاقوا بهذه السنة الكونية‪ ،‬وطالبوا بإنزال القرآن جملة واحدة‪.‬‬
‫قال تعالى‪):‬وَقَالَ اّلذِينَ َكفَرُوا َلوْلَا نُزّلَ عَلَ ْيهِ اْلقُرْآنُ ُجمْ َلةً وَا ِحدَةً َكذَِلكَ‬
‫ِلنُثَبّتَ ِبهِ ُفؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلًا‪[ ‬الفرقان‪ .]32:‬ثم أكد القرآن الكريم على‬
‫هذه السنة الكونية‪ ،‬سنة التدرج في تطبيق السلم في قوله‬
‫لً [السراء‪.]106:‬‬
‫تعالى‪):‬وَقُرْآنا فَرَ ْقنَاهُ ِلَتقْرَأَهُ َعلَى النّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزّْلنَاهُ َتنِي ‪‬‬
‫وهذا التدرج الذي نعنيه يكون في التطبيق وليس في‬
‫التشريع‪ .‬فقد اكتمل الدين والحمد لله‪ .‬ول يصار إلى تطبيق‬
‫هذه السنة إل في المجتمعات التي قد غلب الجهل في الدين‬
‫على أفرادها‪ ،‬أو جديدة العهد باللتزام بالسلم‪ ،‬أو جديدة العهد‬
‫بالكفر‪ ،‬قال تعالى‪):‬قَالَتِ اْلَأعْرَابُ آمَنّا قُل ّلمْ ُتؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْ َلمْنَا وََلمّا‬

‫‪87‬‬
‫َيدْخُلِ اْلإِيَانُ فِي ُقلُوبِ ُكمْ وَإِن تُطِيعُوا ال ّلهَ وَرَسُوَلهُ لَا َيلِتْكُم ّمنْ َأ ْعمَالِ ُكمْ َشيْئًا ِإنّ ال ّلهَ‬
‫َغفُورٌ رّحِيمٌ‪[ ‬الحجرات‪.]14:‬‬
‫لذا فقد بدأ السلم بغرس العقيدة وتقوية اليمان في‬
‫النفوس أول ً لتهيئتها لقبول الحكام التي أخذت بالنزول فيما بعد‬
‫تترى‪ .‬ففرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة‪ ،‬أما‬
‫الحج ((ففرض في السنة السادسة على قول جمهور العلماء‪,‬‬
‫وفي التاسعة أو العاشرة على قول ابن القيم))(‪ .)99‬أما النهي‬
‫عن المحرمات‪ ،‬فحرمت الخمر‪ ،‬وفرضت الحدود في المدينة‬
‫المنورة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ومن الدلة على اعتبار سنة التدرج في التغيير‪:‬‬
‫(أ) أن السلم لم يمنع الرق دفعة واحدة‪ ،‬ولم يحسم أمره‬
‫سريعاً‪ ،‬وذلك لحاجة المجتمعات النسانية إليه‪ ،‬ولكنه قام‬
‫بخطوات مع الزمن أدت إلى تجفيفه وتطهيره من المجتمع‪.‬‬
‫والخشية تساورني من أن بعض الجهال بمقاصد الشريعة‬
‫السلمية سيعيدون العبودية باسم تطبيق أحكام السلم‪،‬‬
‫ضاربين عرض الحائط بما سيترتب على خطوتهم هذه من‬
‫الساءة إلى سمعة السلم في واقعنا المعاصر الذي ينتقص‬
‫فيه العالم العبودية وعصورها الجاهلية‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى إغلق‬
‫قلوب غير المسلمين أمام المد السلمي الزاحف‪ ،‬وتشكك‬
‫قريبي العهد بالكفر منهم فيه‪.‬‬
‫سلم‬‫لذا فتطبيق السلم دفعة واحدة على مجتمع لم ي ُ ْ‬
‫أمره لله تعالى ينطوي على مخاطر كثيرة‪ ،‬وهو ضد سنة الله‬
‫تعالى في التغيير‪ ،‬ويؤيد هذا القاعدة الفقهية المعروفة‪ :‬أنه‬
‫يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة‪ .‬وقد حاولت حركة طالبان‬
‫في أفغانستان فرض أحكام السلم دفعة واحدة‪ ،‬كما ينادي‬
‫بذلك حزب التحرير‪ ،‬فكّرهت الدنيا في السلم وفي المسلمين‪،‬‬
‫وكان نهاية أمرها خسرانا ً مبيناً‪ ،‬وأدى ذلك إلى زوالها في وقت‬
‫مبكر‪ .‬ولو أنها اتخذت أسلوب التدرج والحكمة الحسنة في‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬لكان أقرب إلى مراعاة‬
‫مقاصد الشريعة السمحة‪ ،‬ولكن ما هكذا يا سعد تورد البل!!‬
‫(ب) التدرج في تحريم الخمر على ثلث مراحل‪:‬‬
‫الحج‪.‬‬ ‫((فقه السنة))‪ ،‬لسيد سابق‪ ،‬كتاب‬ ‫‪99‬‬

‫‪88‬‬
‫الولى‪ :‬بين فيها القرآن الكريم أن من نعم الله تعالى‬
‫على العباد‪ ،‬ما سخر لهم من ثمرات النخيل والعناب‪ ،‬وما‬
‫سكَر ومن رزق حسن‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ :‬‬ ‫يتخذون منه من َ‬
‫خذُونَ مِ ْنهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنّ فِي َذِلكَ لَيةً ّل َق ْومٍ‬
‫َومِن َثمَرَاتِ النّخِيلِ وَا َلعْنَابِ تَتّ ِ‬
‫َي ْعقِلُونَ‪[ ‬النحل‪ .]67:‬فقد لفت القرآن أنظار المسلمين‪ ،‬إلى أن‬
‫سكََر ليس من الرزق الحسن‪.‬‬ ‫ال ّ‬
‫الثانية‪ :‬أمرهم بعد ذلك بأن ل يقربوا الصلة وهم‬
‫سكارى‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪ :‬يَا أَيّهَا اّلذِي َن آمَنُواْ لَ َتقْرَبُواْ الصّلَةَ وَأَنُتمْ‬
‫حتّىَ َتعْ َلمُواْ مَا َتقُولُونَ‪[ ‬النساء‪.]43:‬‬
‫سُكَارَى َ‬
‫الثالثة‪ :‬نزل التحريم كما في قوله تعالى‪ :‬يَا أَيّهَا اّلذِي َن آمَنُواْ‬
‫سرُ وَالَنصَابُ وَالَزْ َلمُ رِجْسٌ مّنْ َعمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَلّ ُكمْ‬
‫خمْرُ وَاْلمَيْ ِ‬
‫ِإّنمَا اْل َ‬
‫ُتفْ ِلحُونَ‪[ ‬المائدة‪.]90:‬‬
‫‪ -2‬تغير الفتوى بحسب تغير الزمنة والمكنة‬
‫والحوال‪:‬‬
‫يقول ابن القيم تحت عنوان‪( :‬فصل في تغير الفتوى‬
‫واختلفها بحسب تغير الزمنة والمكنة والحوال والنيات‬
‫والعوائد)‪:‬‬
‫((هذا فصل عظيم النفع جداً‪ ،‬وقع بسبب الجهل به غلط‬
‫عظيم على الشريعة‪ ،‬أوجب من الحرج والمشقة‪ ،‬وتكليف ما ل‬
‫سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب‬
‫المصالح ل تأتي به‪ ،‬فإن الشريعة مبناها وأساسها على‬
‫الحكم‪ ،‬ومصالح العباد‪ ،‬في المعاش والمعاد‪ ،‬وهي‬
‫عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‪ ،‬ومصالح كلها‪ ،‬وحكمة كلها‪،‬‬
‫فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور‪ ،‬وعن الرحمة إلى‬
‫ضدها‪ ،‬وعن المصلحة إلى المفسدة‪ ،‬وعن الحكمة إلى العبث‪،‬‬
‫فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل‪ .‬فالشريعة عدل‬
‫الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته‬
‫الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دللة‬
‫وأصدقها ‪...‬‬

‫‪89‬‬
‫ونحن نذكر ـ والقول لبن القيم ـ تفصيل ما أجملناه في‬
‫هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة))‪.‬‬
‫ثم يتابع ابن القيم القول تحت عنوان‪( :‬النكار له‬
‫شروط)‪:‬‬
‫المثال الول‪:‬‬
‫أن النبي × شرع لمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل‬
‫بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله‪ ،‬فإذا كان إنكار‬
‫المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه ل‬
‫يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله‪ ،‬وهذا كالنكار‬
‫على الملوك والولة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة‬
‫إلى آخر الدهر‪ ،‬وقد استأذن الصحابة رسول الله × في قتال‬
‫المراء الذين يؤخرون الصلة عن وقتها‪ ،‬وقالوا‪ :‬أفل نقاتلهم؟‬
‫فقال‪(( :‬ل‪ ،‬ما أقاموا الصلة)) وقال‪(( :‬من رأى من أميره‬
‫ما يكرهه فليصبر‪ ،‬ول ينزعن يدا ً من طاعته))‪ .‬ومن‬
‫تأمل ما جرى على السلم في الفتن الكبار والصغار‪،‬‬
‫رآها من إضاعة هذا الصل‪ ،‬وعدم الصبر على منكر‬
‫فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه‪ ،‬فقد كان رسول‬
‫الله × يرى بمكة أكبر المنكرات‪ ،‬ول يستطيع تغييرها‪ ،‬بل لما‬
‫فتح الله مكة وصارت دار إسلم‪ ،‬عزم على تغيير البيت ورده‬
‫على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك ـ مع قدرته عليه ـ خشية‬
‫وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب‬
‫عهدهم بالسلم وكونهم حديثي عهد بكفر‪ .‬ولهذا لم يأذن في‬
‫النكار على المراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم‬
‫منه كما وجد سواء‪.‬‬
‫أربع درجات للنكار‪:‬‬
‫فإنكار المنكر أربع درجات‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن يزول ويخلفه ضده‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يقل وإن لم يزل بجملته‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يخلفه ما هو مثله‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أن يخلفه ما هو شر منه‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫فالدرجتان الوليان مشروعتان‪ ،‬والثالثة موضع اجتهاد‪،‬‬
‫والرابعة محرمة‪.‬‬
‫فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج‪ ،‬كان‬
‫إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إل إذا نقلتهم منه إلى‬
‫ما هو أحب إلى الله ورسوله‪ ،‬كرمي النشاب وسباق الخيل‬
‫ونحو ذلك‪ .‬وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو‬
‫سماع مكاء وتصدية‪ ،‬فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو‬
‫المراد‪ ،‬وإل كان تركهم على ذلك خيرا ً من أن تفرغهم لما هو‬
‫أعظم من ذلك‪ ،‬فكان ما هم فيه شاغل ً لهم عن ذلك‪ ،‬وكما إذا‬
‫كان الرجل مشتغل ً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها‬
‫انتقاله إلى كتب البدع والضلل والسحر‪ ،‬فدعه وكتبه الولى‬
‫وهذا باب واسع‪.‬‬
‫وسمعت شيخ السلم ابن تيمية قدس الله روحه ونور‬
‫ضريحه يقول‪ :‬مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم‬
‫منهم يشربون الخمر‪ ،‬فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه‬
‫وقلت له‪ :‬إنما حرم الله الخمر لنها تصد عن ذكر الله وعن‬
‫الصلة‪ ،‬وهؤلء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية‬
‫وأخذ الموال فدعهم))(‪ ،)100‬انتهى‪.‬‬
‫ثم ذكر ابن القيم فصول ً عديدة مستدل ً بها على تغير‬
‫الفتوى منها‪( :‬فصل‪ :‬النهي عن قطع اليدي في الغزو)‪،‬و(فصل‪:‬‬
‫سقوط حد السرقة في المجاعة)‪.‬‬
‫المجالس النيابية الديموقراطية وتغير الفتوى‪:‬‬
‫ومن المثلة المعاصرة على تغير الفتوى بتغير المكان‬
‫والزمان والحوال‪ ،‬حكم المشاركة في المجالس النيابية‪.‬‬
‫فالحكم فيها على وجوه‪:‬‬
‫•عدم جواز‪ ،‬بل تحريم المطالبة بالمجالس النيابية‬
‫الديموقراطية في الدول السلمية التي تكون فيها كلمة‬
‫الله هي العليا‪ ،‬وكلمة الذين كفروا السفلى‪ ،‬والتي تحفظ‬
‫فيها الضرورات الخمس وتصان‪ ،‬مثل المملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬لما يترتب على إقرار الحكم النيابي فيها‪ ،‬جعل‬
‫كلمة الذين كفروا مساوية لكلمة الله تعالى‪ ،‬بحجة‬

‫‪100‬‬
‫((إعلم الموقعين)) (‪.)6-3/3‬‬

‫‪91‬‬
‫المساواة في الحريات العامة‪ ،‬وخصوصا ً حرية التعبير عن‬
‫الرأي‪.‬‬
‫ولكن لو قامت الدولة بإقرار هذا النظام الديموقراطي‬
‫تحت ضغط الواقع والجماهير ـ كما حصل في الكويت‬
‫والردن ـ وترتب على عدم الستجابة لهذه المطالب‬
‫مفسدة أعظم من وجود مفسدة الحكم الديموقراطي‪ ،‬أو‬
‫فرض هذا النظام الديموقراطي بالقوة‪ -‬كما حصل في‬
‫العراق‪ -‬فإنه ل يجوز للمسلمين ترك المشاركة في الحكم‬
‫الديموقراطي بحجة كفره‪ ،‬لما في هذا الترك من ترك‬
‫لمقاصد الشريعة‪ ،‬وفقه الموازنات‪ ،‬وإخلء مواقع صنع‬
‫القرار لغير المسلمين‪ ،‬وهذا يؤدي إلى الضرار بالضرورات‬
‫الخمس‪ ،‬ومصالح السلم والمسلمين عامة في هذا البلد‪.‬‬
‫•جواز المطالبة بالمجالس النيابية الديموقراطية في الدول‬
‫السلمية التي تكون فيها كلمة الذين كفروا العليا‪ ،‬ول‬
‫تحفظ فيها الضرورات الخمس ول تصان‪ ،‬مثل سوريا‪،‬‬
‫والجزائر‪ ،‬وتونس‪ ،‬وليبيا‪ ،‬والعراق ـ قبل سقوط النظام‬
‫الشتراكي ـ وسائر الدول الشتراكية عموماً‪ .‬لما يترتب‬
‫على إقرار الحكم النيابي فيها‪ ،‬من رفع القيود على‬
‫الضرورات الخمس‪ ،‬وبالتالي رفع كلمة الله تعالى في‬
‫المجتمع من خلل إتاحة الفرصة للدعوة إلى الله تعالى‪،‬‬
‫ول تقدح عملية‬ ‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫المشاركة في المجالس النيابية الديموقراطية في براءة‬
‫المشاركين من الشرك وأهله‪ .‬وقد ارتكب أهل السنة في‬
‫العراق أبشع جريمة في التاريخ الحديث‪ -‬بعد سقوط الحكم‬
‫الشتراكي في العراق‪ -‬حين تركوا مراكز صنع القرار للد‬
‫أعدائهم من الشيوعيين والشيعة والشتراكيين‪ ،‬بحجج‬
‫(‪)101‬‬
‫وأوهام‪ ،‬ل علقة لها بمقاصد الشريعة‪ ،‬وفقه الموازنات ‪،‬‬
‫فأدى ذلك إلى تمكين هؤلء العداء من ديننا ورقابنا وأموالنا‬
‫وأعراضنا حين تركوا لهم معظم مؤسسات الدولة المدنية‬
‫والعسكرية والمنية‪ ،‬ومعظم مراكز النفوذ في السلطات‬
‫التشريعية والتنفيذية والقضائية‪ ،‬وخاصة‪ ،‬أن أهل السنة في‬
‫العراق‪ ،‬بما فيهم الكراد‪ ،‬يشكلون أغلبية راجحة‪.‬‬
‫فقد أفتى السيستاني الشيعة بالنار لكل من ل يشارك في النتخابات‪ ،‬في حين‬ ‫‪101‬‬

‫أفتى الزرقاوي ـ وليس من أهل الفتيا ـ بالنار والتفجير لكل من يشارك من أهل‬
‫السنة‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫كما أنه من أعجب العجب أن يترفع‪ ،‬أو يزهد المسلمون‪،‬‬
‫في استلم الحكم في الدولة وإدارة شؤونها بعد تمكنهم‬
‫منها‪-‬كما حصل في مصر بعد النقلب على حكم الملك‬
‫فاروق‪ -‬وتركها لجمال عبد الناصر الشتراكي وزبانيته‪،‬‬
‫ليفسد في أرض مصر وأهلها كما يشاء‪.‬‬
‫‪ -3‬مراعاة الضرورات‪:‬‬
‫الضرورات هي غير المصالح الضرورية للحياة‪ .‬وهي‬
‫تعني في الصطلح‪(( :‬بلوغ المرء حدا ً إذا لم يتناول الممنوع‬
‫هلك أو قارب))(‪. )102‬‬
‫وقد أولت الشريعة السلمية قاعدة الضرورات أهمية‬
‫خاصة‪ ،‬استنبطها الفقهاء من الدلة الفقهية التفصيلية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)‪ ،‬وقاعدة (الضرورات تقدر‬
‫بقدرها)‪ .‬وهذه القواعد معلومة لعامة طلبة العلم‪ ،‬ومشتهرة‬
‫بينهم‪ .‬وهم يحسنون استعمالها في الحكام المتعلقة‬
‫بالضرورات الفردية فقط‪ ،‬خاصة في أبواب الطعمة والشربة‪.‬‬
‫علما ً أن للفراد ضروراتهم‪ ،‬وللمجتمع ضروراته‪ .‬يقول الدكتور‬
‫يوسف القرضاوي‪:‬‬
‫((والضرورات الشرعية ليست كلها فردية‪ ،‬كما قد يتوهم‪.‬‬
‫فللمجتمع ضروراته‪ ،‬كما للفرد ضروراته‪ ،‬فهناك ضرورات‬
‫اقتصادية‪ ،‬وسياسية‪ ،‬وعسكرية‪ ،‬واجتماعية‪ ،‬لها أحكامها‬
‫الستثنائية التي توجبها الشريعة‪ ،‬مراعاة لمصالح البشر‪ ،‬التي‬
‫هي أساس التشريع السلمي كله))(‪ ،)103‬انتهى‪.‬‬
‫لعل البعض ل يعجبه هذا القتباس عن الدكتور‬
‫القرضاوي‪ ،‬بحجة مخالفتنا له في بعض المسائل الفقهية‪ ،‬أو‬
‫لعل هذا البعض من الناس‪ ،‬سيحذر من قراءة هذا الكتاب أو‬
‫سيشهر بكاتبه لجل هذا القتباس‪ .‬والجواب على ذلك من‬
‫وجوه‪:‬‬
‫‪-‬دلنا هذا العتراض الذي ليس في محله‪ ،‬على الزمة التي‬
‫يعيشها البعض في فهم فقه السياسة الشرعية‪ ،‬وسياسة‬
‫التعامل مع المخالف‪ .‬فهؤلء بحاجة ماسة لعلج أمرهم في‬
‫هذا الباب بأسرع ما يمكن‪ ،‬كي ل يتطور المر بهم إلى جعل‬
‫‪(( 102‬الشباه والنظائر))‪( ،‬ص‪.)85/‬‬
‫‪(( )(103‬السياسة الشرعية)) ‪( ،‬ص ‪ ،)326‬ط‪.1998 ،1/‬‬

‫‪93‬‬
‫المر من باب الولء والبراء الذي يؤدي إلى التدابر‬
‫والتباغض والتلعن‪ ،‬وقد يؤدي ببعض حدثاء السنان‪ ،‬سفهاء‬
‫الحلم إلى التقاتل‪.‬‬
‫‪-‬ينظر في القتباس هل هو موافق للحق أم مخالف له‪ ،‬فإن‬
‫كان موافقاً‪ ،‬ففيم العتراض إذن‪ ،‬وقد اقتبسنا عن أبي‬
‫حامد الغزالي من قبل‪ ،‬وما أدراك ما الغزالي؟ فهو إمام‬
‫مقَعّدُها‪ ،‬ولكن أهل العلم قد شهدوا له بالحجة‬
‫الصوفية و ُ‬
‫في علم الصول‪ .‬والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها‬
‫التقطها‪.‬‬
‫‪-‬أما إذا كان القتباس غير موافق للحق‪ ،‬فل يصار إلى ترك‬
‫جميع أقوال صاحبه لجله‪ .‬ولو كان الصل ترك جميع أقوال‬
‫المخالف لنا في بعض المسائل‪ ،‬لتركنا جميع أقوال أهل‬
‫العلم قاطبة‪ .‬فما من عالم إل وله من المسائل ما خالف‬
‫بعض ما تراه أنت حقاً‪ .‬فهل يجوز لك لجل ذلك‪ ،‬ترك جميع‬
‫أقوال المام أبي حنيفة‪ ،‬والمام مالك‪ ،‬والمام الشافعي‪،‬‬
‫لعدم تكفيرهم تارك الصلة تكاسلً؟ أو ترك جميع أقوال‬
‫المام أحمد لتكفيره تارك الصلة؟ وهل يجوز لمن ل يرى‬
‫جواز دخول الوزارات الحكومية والمناصب الرسمية في‬
‫الحكومات الطاغوتية أن يترك جميع أقوال ابن تيمية‪ ،‬بحجة‬
‫أنه يرى جواز ذلك؟ وهل يجوز لمن يرى كفر تارك عمل‬
‫الجوارح بالكلية‪ ،‬ترك جميع أقوال الئمة العلم الربعة‪،‬‬
‫وابن حزم‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬بحجة أنهم ل يكفرونه؟ ما‬
‫لكم كيف تحكمون؟!‬

‫كتبه‪:‬‬
‫عدنان عبد الرحيم الصوص‬
‫شهر تموز من عام ‪2006‬‬
‫‪AdnanSous@Yahoo.Com‬‬
‫‪079-5928729‬‬

‫‪94‬‬
‫الفهرس‬

‫‪5.........................................................................................‬‬
‫مقدمات تأصيلية‪6.....................................................................‬‬
‫تعريف قواعد الفقه السياسي‪12.............................................................................‬‬
‫أول ً‪ :‬فقه الواقـــع‪18........................................................................................‬‬
‫هجرة المسلمين إلى بلد الحبشة النصرانية‪52................................:‬‬
‫فهل يستقيم اتهام الصحابة المهاجرين إلى الحبشة النصرانية بالولء‬
‫والعمالة لها‪ ،‬لقبولهم العيش في كنف النصارى وتحت حكمهم؟ إن المر‬
‫ليس كذلك‪ ،‬إنما كانت هجرتهم إلى الحبشة‪ ،‬من باب ((اختيار أدنى‬
‫المفسدتين))‪ ،‬فمفسدة قريش (الوثنية)‪ ،‬أبناء العمومة‪ ،‬أعظم من‬
‫مفسدة الحبشة (النصارى)‪ ،‬هذه مقاييس الشرع إعمال ً للمصالح‪ ،‬مع أننا‬
‫نسمع من يردد مقولة‪ :‬أنّا ضد أي عداء كان ضد أي عربي‪ ،‬نقول‪ :‬حتى لو‬
‫كان اشتراكيا ً كافراً؟ فعجبا ً لهؤلء!!‪52............................................‬‬
‫فانطلقا ً من مقصد الشريعة السمى‪ (( :‬تحصيل المصالح و تكميلها‪,‬‬
‫وتعطيل المفاسد وتقليلها)) نقول باختصار‪ :‬علينا أن ل نرفض‪ ،‬بل نؤيد كل‬
‫ما يؤدي إلى تغيير الواقع من الشر إلى شر أقل منه‪ ،‬فإن ذلك يدفع‬
‫باتجاه تقليل الشر في الرض‪ ،‬وبالتالي يساهم في قرب النصر‪53..........‬‬

‫‪95‬‬

You might also like