Professional Documents
Culture Documents
تأليف
www.dawahmemo.com
مقدمة
الحمد ل حمداً يبلغ رضاه وصلى ال على أشرف من اجتباه وعلى من صاحبه وواله وسلم تسليماً ل يدرك
منتهاه.
لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها ثم تعرض عنها فتذهب كان من أولى المور حفظ ما
يخطر لكيل ينسى.
ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر سنح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب فأنثال عليه من
كثيب التفهيم ما ل يجوز التفريط فيه فجعلت هذا الكتاب قيداً -لصيد الخاطر -وال ولي النفع إنه قريب مجيب.
قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة ،فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القساوة و الغفلة !
فتدبرة السبب في ذلك فعرفته .
ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك ،فالحالة العامة أن القلب ل يكون على صفته من اليقظه عند سماع
الموعظة و بعدها ،لسببين :
أحدهما :أن المواعظ كالسياط ،و السياط ل تؤلم بعد انقضائها إيلمها وقت و قوعها .
و الثاني :أن حالة سماع المواعظ يكون النسان فيها مزاح العلة ،قد تخلى بجسمه و فكره عن أسباب
الدنيا ،و أنصت بحضور قلبه ،فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها ،وكيف يصح أن يكون كما كان ؟ .
و هذه حالة تعم الخلق إل أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الثر :
فمنهم من يعزم بل تردد ،و يمضي من غير التفات ،فلو توقف بهم ركب الطبع لضجوا ،كما قال
حنظلة عن نفسه :نافق حنظلة ! و منهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحيانا ،و يدعوهم ما تقدم من
المواعظ إلى العمل أحيانا ،فهم كالسنبلة تميلها الرياح ! و أقوام ل يؤثر فيهم إل بمقدار سماعه ،كماء
دحرجته على صفوان .
و قال أحمد بن حنبل [ :و هل يراد بالعلم إل ما وصل إليه معروف ؟ ] .
و صح عن سفيان الثوري قال [ :وددت أن قطعت و لم أكتب الحديث ] .
و قالت أم الدرداء لرجل [ :هل عملت بما علمت ] ؟ قال :ل .قالت [ :فلم تستكثر من حجة ال عليك
؟].
و قال أبو الدرداء [ :ويل لمن يعلم و لم يعمل مرة ،و ويل لمن علم و لم يعمل سبعين مرة ] .
و قال الفضيل [ :يغفر للجاهل سبعون ذنبا ،أن يغفر للعالم ذنب واحد ]
فما يبلغ من الكل قوله تعالى :هل يستوي الذين يعلمون و الذين ل يعلمون .
و جاء سفيان إلى رابعة :فجلس بين يديها ينتفع بكلمها ،فدل العلماء العلم على أن المقصود منه
العمل به ،و أنه آلة فانكسروا و اعترفوا بالتقصير .
فحصل الكل على العتراف و الذل فاستخرجت المعرفة منهم حقيقة العبودية باعترافهم ،فذلك هو
المقصود من التكليف .
تأملت في قوله تعالى :يحبهم و يحبونه .فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقا و قالت :محبته
طاعته ،فتدبرت ذلك فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس .
و بيان هذا أن محبة الحس ل تتعدى الصور الذاتية ،و محبة العلم و العمل ترى الصور المعنوية
فتحبها .
فإنا نرى خلقا يحبون أبا بكر رضي ال عنه ،و خلقا يحبون عليا بن أبي طالب رضي ال عنه ،و
قوما يتعصبون لحمد بن حنبل ،و قوما للشعري فيقتتلون و يبذلون النفوس في ذلك .
و ليسوا ممن رأى صور القوم ،و ل صور القوم توجب المحبة .
لكن لما تصورت لهم المعاني فدلتهم على كمال القوم في العلوم ،وقع الحب لتلك الصور التي شوهدت
بأعين البصائر .
فكيف بمن صنع تلك الصور المعنوية و بذلها ؟ .
و كيف ل أحب من وهب لي ملذوذات حسي ،و عرقى ملذوذات علمي ؟ فإن التذاذي بالعلم و إدراك
العلوم أولى من جميع اللذات الحسية ،فهو الذي علمني و خلق لي إدراكا ،و هداني إلى ما أدركته .
ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوق جديد ،أراه فيه بإتقان ذلك الصنع و حسن ذلك المصنوع .
فكل محبوباتي منه ،و عنه ،و به ،الحسية و المعنوية ،و تسهيل سبل الدراك به ،و المدركات منه
،و ألذ من كل لذة عرفاني له ،فلول تعليمه ما عرفته .
و كيف ل أحب من أنا به ،و بقائي منه ،و تدبيري بيده ،و رجوعي إليه ،و كل مستحسن محبوب
هو صنعه و حسنه و زينه و عطف النفوس إليه .
فذلك الكامل القدرة أحسن من المقدور ،و العجيب الصنعة أكمل من المصنوع ،و معنى الدراك أحلى
عرفانا من المدرك .
و لو أننا رأينا نقشا عجيبا لستغرقنا تعظيم النقاش و تهويل شأنه ،و ظريف حكمته عن حب المنقوش
،و هذا مما تترقى إليه الفكار الصافية ،إذا خرق نظرنا الحسيات ،و نفذ إلى ما وراءها ،فحينئذ تقع
محبة الخالق ضرورة .و على قدر رؤية الصانع في المصنوع يقع الحب له .
فإن قوي أوجب قلقا و شوقا .و إن مال بالعارف لى مقام الهيبة ،أوجب خوفا .و إن انحرف به إلى
تلمح الكرم أوجب رجاء قويا قد علم كل أناس مشربهم .
تأملت حال عجيبة ،و هي أن ال سبحانه تعالى قد بنى هذه الجسام متقنه على قانون الحكمة .
فدل بذلك المصنوع على كمال قدرته ،و لطيف حكمته .
ثم عاد فنقضها فتحيرت العقول بعد إذعانها له بالحكمة ،في سر ذلك الفعل .
فأعلمت أنها ستعاد للمعاد و أن هذه البنية لم تخلق إل لتجوز في مجاز المعرفة ،و تتجر في موسم
المعاملة ،فسكنت العقول لذلك .
ثم رأت أشياء من هذا الجنس أظرف منه ،مثل احترام شاب ما بلغ بعض المقصود بنياته .
و أعجب من ذلك أخذ طفل من أكف أبويه يتململن .و ل يظهر سر سلبه ،و ال الغني عن أخذه ،و
هما أشد الخلق فقرا إلى بقائه .
و أظرف منه إبقاء هرم ل يدري معنى البقاء ،و ليس له فيه إل مجرد أذى .
و من هذا الجنس تقتير الرزق على المؤمن الحكيم ،و توسعته على الكافر الحمق .
و في نظائر لهذه المذكورات يتحير العقل في تعليلها ،فيبقى مبهوتا .
فلم أزل أتلمح جملة التكاليف ،فإذا عجزت قوى العقل عن الطلع على حكمه ذلك ،و قد ثبت لها
حكمة الفاعل ،علمت قصورها عن درك جميع المطلوب ،فأذعنت مقرة بالعجز .و بذلك تؤدي مفروض
تكليفها .
فلو قيل للعقل :قد ثبت عندك حكمة الخالق بما بنى أفيجوز أن ينقدح في حكمته أنه نقض ؟ لقال :لني
عرفت بالبرهان أنه حكيم ،و أنا أعجز عن إدراك علله فأسلم على رغمي مقرأ بعجزي .
كل شيء خلق ال تعالى في الدنيا فهو أنموذج في الخرة و كل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في
االخرة .فأما المخلوق منها فقال ابن عباس رضي ال عنهما [ :ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا
إل السماء ] .
وهذا لن ال تعالى شوق بنعيم إلى نعيم ،و خوف بعذاب من عذاب .
فأما ما يجري في الدنيا فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الجل ،و كذلك كل مذهب ذنبا ،
وهو معنى قوله تعالى :من يعمل سوءا يجز به .
و ربما رأى العاصي سلمة بدنه و ماله فظن أن ل عقوبة ،و غفلة عما عوقبت به عقوبة .
و قد قال الحكماء :المعصية ،و الحسنة بعد الحسنه ثواب الحسنه .
و ربما كان العقاب العاجل معنويا كما قال بعض أحبار بني إسرائيل [ :يا رب كم أعصيك و ل تعاقبني ؟
] فقيل له [ :كم أعاقبك وأنت ل تدري أليس قد حرمتك حلوة مناجاتي ؟ ] .
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد ،حتى قال وهب بن الورد و قد سئل :أيجد لذة
الطاعة من يعصي ؟ فقال :و ل من هم .
فرب شخص أطلق بصره فحرمه ال اعتبار بصيرته أو لسانه فحرم صفاء قلبه ،أو آثر شبهة في
مطعمه فأظلم سره ،وحرم قيام الليل وحلوة المناجاة ،إلى غير ذلك .
و هذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس و على ضده يجد من يتقي ال تعالى من حسن الجزاء على التقوى
ل ،كما في حديث أبي أمامة :عن النبي صلى ال عليه و سلم يقول ال تعالى :النظرة إلى المرأة
عاج ً
سهم مسموم من سهام الشيطان ،من تركه ابتغاء مرضاتي آتيته إيمانا يجد حلوته في قلبه .
فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها .
فأما المقابلة الصريحة في الظاهر فقل أن تحتبس ،و من ذلك قول النبي صلى ال عليه و سلم :
الصبحة تمنع الرزق ،وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .
و قد روى المفسرون :أن كل شخص من السباط جاء باثني عشر ولدا ،و جاء يوسف بأحد عشر
بالهمة ،و مثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة رأى الجزاء و فهم كما قال الفضيل [ :إني لعصي ال عز وجل
فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي ] .
و عن أبي العثمان النيسابوري :أنه انقطع شسع نعله في مضيه إلى الجمعة فتعوق لصلحه ساعة ،
ثم قال [ :ما انقطع إل لني ما اغتسلت غسل الجمعة ] .
و من عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة يوسف و شروه بثمن بخس امتدت
أكفهم بين يديه بالطلب ،يقولون :و تصدق علينا .
و لما صبر هو يوم الهمة ملك المرأة حللً ،و لما بغت عليه بدعواها :ما جزاء من أراد بأهلك سوء
أنطقها الحق بقولها أنا راودته .
ولو أن شخصا ترك معصية لجل ال تعالى لرأى ثمرة ذلك ،وكذلك إذا فعل طاعة .و في الحديث :إذا
أملقتم فتاجروا ال بالصدقة ،أي عاملوه لزيادة الرباح العاجلة .
و لقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع ،طلبا للراحة العاجلة ،انقلبت أحواله إلى التنغص
العاجل ،و عكست عليه المقاصد .
حكى بعض المشايخ :أنه اشترى في زمن شبابه جارية ،قال [ :فلما ملكتها تاقت نفسي إليها ،فما
زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقا يرخص لي ] .
فكلهم قال [ :ل يجوز النظر إليها بشهوة ،و ل لمسها ،و ل جماعها إل بعد حيضها ] .
قال :فسألتها فأخبرتني أنها اشتريت و هي حائض ] ،فقلت [ :قرب المر ] .
فسألت الفقهاء فقالوا [ :ل يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه ] .
قال :فقلت لنفسي و هي شديدة التوقان لقوة الشهوة ،و تمكن القدرة و قرب المصاقبة [ :ما
تقولين ؟ ] .
فقالت [ :اليمان بالصبر على الجمر ،شئت أم أبيت ] .
فصبرت إلى أن حان ذلك ،فأثابني ال تعالى على ذلك الصبر بنيلي ما هو أعلى منها وأرفع .
نظرت في الدلة على الحق سبحانه و تعالى فوجدتها أكثر من الرمل ،و رأيت من أعجبها أن النسان
قد يخفي ما ل يرضاه ال عز و جل ،فيظهره ال سبحانه عليه وحده و لو بعد حين ،و ينطق اللسنة به
و إن لم يشاهده الناس .
و ربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق ،فيكون جوابا لكل ما أخفى من الذنوب ،و ذلك
ليعلم الناس أن هنالك من
يجازي على الزلل ،و ل ينفع من قدره وقدرته حجاب ول استتار ،و ل يصاغ لديه عمل .
و كذلك يخفي النسان الطاعة فتظهر عليه ،و يتحدث الناس بها و بأكثر منها ،حتى إنهم ل يعرفون له
ذنبا و ل يذكرونه إل بالمحاسن ،ليعلم أن هنالك ربا ل يضيع عمل عامل .
و إن قلوب الناس لتعرف حال الشخص و تحبه ،أو تأباه ،و تذمه ،أو تمدحه وفق ما يتحقق بينه و
بين ال تعالى ،فإنه يكفيه كل هم ،و يدفع عنه كل شر .
و ما أصلح عبد ما بينه و بين الخلق دون أن ينظر الحق ،إل انعكس مقصوده وعد حامده ذاما .
تأملت الرض و من عليها بعين فكري ،فرأيت خرابها أكثر من عمرانها .
ثم نظرت في المعمور منها فوجدت الكفار مستولين على أكثره ،و وجدت أهل السلم في الرض قليلً
بالضافة إلى الكفار .
ثم تأملت المسلمين فرأيت المكاسب قد شغلت جمهورهم عن الرازق ،و أعرضت بهم عن العلم الدال
عليه .
فالسلطان مشغول بالمر و النهي و اللذات العارضة له ،و مياه أغراضه جارية ل شكر لها .
و ل يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس .
و إنما ينبغي أن تقاوم المراض بأضدادها .
كما قال عمر بن المهاجر :قال لي عمر بن عبد العزيز [ :إذا رأيتني قد حدت عن الحق فخذ بثيابي و
هزني ،و قل :مالك يا عمر ؟ ] .
و قال عمر بن الخطاب رضي ال عنه [ :رحم ال من أهدى إلينا عيوبنا ] .
فأحوج الخلق إلى النصائح و المواعظ ،السلطان .
و أما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى ،و زينة الدنيا ،و قد انضاف إلى ذلك الجهل ،و عدم العلم ،
فل يؤلمهم ذنب ،و ل ينزعجون من لبس حرير ،أو شرب خمر ،حتى ربما قال بعضهم [ :إيش يعمل
الجندي ،أيلبس القطن ؟ ] .
ثم أخذهم للشياء من غير وجهها ،فالظلم معهم كالطبع .
و أرباب البوادي قد غمرهم الجهل ،و كذلك أهل القرى .ما أكثر تقلبهم في النجاس و تهوينهم لمر
الصلوات ،و ربما صلت المرأة منهن قاعدة .
ثم نظرت في التجار ،فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص ،حتى ل يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت ،
و صار الربا في معاملتهم فاشيا ،فل يبالي أحدهم من أي تحصل له الدنيا ؟
و هم في باب الزكاة مفرطون ،و ل يستوحشون من تركها ،إل من عصم ال .
ثم نظرت في أرباب المعاش ،فوجدت الغش في معاملتهم عاما ،و التطفيف و البخس ،و هم مع هذا
مغمورون بالجهل .
و رأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الشغال طلبا للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه و ما يتأدب
به .
ثم نظرت في أحوال النساء ،فرأيتهن قليلت الدين ،عظيمات الجهل ،ما عندهم من الخرة خبر إل من
عصم ال .
فقلت :واعجبا فمن بقي لخدمة ال عز وجل و معرفته ؟
فنظرت فإذا العلماء ،و المتعلمون ،و العباد ،و المتزهدون .فتأملت العباد ،و المتزهدين فرأيت
جمهورهم يتعبد بغير علم ،و يأنس إلى تعظيمه ،و تقبيل يده و كثرة أتباعه ،حتى إن أحدهم لو اضطر
إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل لئل ينكسر جاهه .
ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى أل يعودوا مريضا ،و ل يشهدوا جنازة ،إل أن يكون عظيم القدر
عندهم .و ل يتزاورون ،بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاء ،فقد صارت النواميس كلوثان يعبدونها
و ل يعلمون .
و فيهم من يقدم على الفتوى و هو جاهل لئل يخل بناموس التصدر ثم يعيبون العلماء لحرصهم على
الدنيا و ل يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه ،إل تناول المباحات .
ثم تأملت العلماء المتعلمين ،فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة ،لن أمارة النجابة طلب
العلم للعمل به .و جمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب ،إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به
قاضي بلد ،أو قدر ما يتميز به عن عن أبناء جنسه لم يكتفي .
ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلعب به الهوى و يستخدمه ،فهو يؤثر ما يصده العلم عنه ،و يقبل
على ما ينهاه ،و ل يكاد يجد ذوق معاملة ال سبحانه ،و إنما همته أن يحدث و حسب .
إل أن ال ل يخلي الرض من قائم له بالحجة ،جامع بين العلم و العمل .غارف بحقوق ال تعالى ،
خائف منه .فذلك قطب الدنيا ،و متى مات أخلف ال عوضه .
و ربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة .
و مثل هذا ل تخلو الرض منه ،فهو بمقام النبي في المة .
و هذا الذي أصفه يكون قائما بالصول ،حافظا للحدود ،و ربما قل علمه أو قلت معاملته .
فأما الكاملون في جميع الدوات فيندر وجودهم ،فيكون في الزمان البعيد منهم واحد .
و لقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين ،و بين
العمل حتى صار قدوة للعابدين ،فلم أر أكثر من ثلثة :أولهم الحسن البصري ،و ثانيهم سفيان الثوري ،
و ثالثهم أحمد بن حنبل .
و قد أفردت لخبار كل واحد منهم كتابا ،و ما أنكر على من ربعهم بسعيد بن المسيب .
و إن كان في السلف سادات إل أن أكثرهم غلب عليه فن ،فنقص من الخر ،فمنهم من غلب عليه
العلم ،و منهم من غلب عليه العمل ،و كل هؤلء كان هؤلء كان له الحظ الوافر من العلم ،و النصيب
الوفى من المعاملة و المعرفة .
و ل يأس من و جود من يحذو حذوهم ،و إن كان الفضل بالسبق لهم .فقد أطلع ال عز وجل الخضر
على ما خفى من موسى عليهما السلم .
فخزائن ال مملوءة ،و عطاؤه ل يقتصر على شخص .
و قد حكي لي عن ابن عقيل أنه كان يقول عن نفسه [ :أنا عملت في قارب ثم كسر ] .
و هذا غلط فمن أين له ؟ فكم معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك و كم من
متأخر سبق متقدما ،و قد قيل :
و ليس يعلم غير ال ما تلد إن الليالي و اليام حاملة
رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائدا في المقدار حتى إنها إذا مالت ،مالت بالقلب و العقل و الذهن ،
فل يكاد المرء ينتفع بشيء من النصح .
فصحت بها يوما و قد مالت بكليتها إلى شهوة :ويحك ! ففي لحظة أكلمك كلمات ثم افعلي ما بدا لك .
قالت :قل اسمع .
قلت :قد تقرر قلة ميالك إلى المباحات من الشهوات ،و أما جل ميلك فإلى المحرمات .
و أنا أكشف لك عن المرين ،فربما رأيت الحلوين مرين .
أما المباحات من الشهوات ،فمطلقة لك و لكن طريقها صعب ،لن المال قد يعجز عنها ،و الكسب قد
ل يحصل معظمها ،و الوقت الشريف يذهب بذلك .
ثم شغل القلب بها وقت التحصيل ،و في حالة الحصول ،و بحذر الفوات .
ثم ينغصها من النقص ما ل يخفى على مميز ،و أن كان مطعما فالشبع يحدث آفات ،و إن كان
شخصيا فالملل أو الفراق ،أو سوء الخلق .ثم ألذ النكاح أكثره إهانا للبدن ،إلى غير ذلك مما يطول
شرحه .
و أما المحرمات :فتشتمل على ما أشرنا إليه من المباحات و تزيد عليها بأنها آفة العرض و مظنة
عقاب الدنيا و فضيحتها ،و هناك و عيد الخرة ،ثم الجزع كلما ذكرها التائب .
ل ؟ لنه
و في قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة .أل ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذلي ً
قهر .بخلف غلب الهوى فأنه يكون قوي القلب ،عزيزا لنه قهر .
فالحذر الحذر من رؤية المشتهي بعين الحسن ،كما يرى اللص لذة أخذ المال من الحرز ،و ل يرى
بعين فكره القطع .
و ليفتح عين البصيرة لتأمل العواقب و استحلة اللذة نغصة ،و انقلبها عن ،كونها لذة ،إما لملل أو
لغيره من الفات ،أو ل نقطاعها بامتناع الحبيب .فتكون المعصية الولى كلقمة تناولها جائع ،فما ردت
كلب الجوع ،بل شهت الطعام .
و ليتذكر النسان لذة قهر الهوى ،مع تأمل فوائد الصبر عنه .
فمن وقف لذلك ،كانت سلمه قريبة منه . .
خطر لي خاطر و المجلس قد طيب ،و القلوب قد حضرت ،والعيون جارية ،و الرؤوس مطرقة ،و
النفوس قد ندمت على تفريطها ،و العزائم قد نهضت لصلح شؤونها ،و ألسنة اللوم تعمل في الباطن
على تضييع الحزم و ترك الحذر ،فقلت لنفسي :ما بال هذه اليقظة ل تدوم فإني أرى النفس و اليقظة في
المجلس متصادقين متصافيين ،فإذا قمنا عن هذه التربة ،و قعت الغربة .
فتأمت ذلك فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة ،و القلب ما يزال عارفا ،غير أن القواطع كثيرة ،و الفكر
الذي ينبغي استعماله في معرفة ال سبحانه تعالى قد كل مما يستعمل في اجتلب الدنيا ،و تحصيل حوائج
النفوس ،و القلب منغمس في ذلك ،و البدن أسير مستخدم .
و بينا الفكر يجول في اجتلب الطعام و الشراب و الكسوة ،و ينظر في صدد ذلك ،و ما يدخر لعده و
سنته ،إذا هو مهتم بخروج الفضلت المؤذية ـ و منها المني فاحتاج إلى النكاح ،فعلم أنه ل يصح إل
باكتساب كسب الدنيا فتفكر في ذلك وعمل بمقتضاه .
ثم جاء الولد فاهتم به وله ،و إذا الفكر عامل في أصول الدنيا و فروعها .فإذا حضر النسان المجلس
فإنه ل يحضر جائغا و ل حاقنا .بل يحضره جائعا لهمه ،ناسيا ما كان من الدنيا على ذكره فيخلو الوعظ
بالقلب فيذكره بما ألف ،و بجذبه بما عرف ،فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه .فيحضرون النفس
إلى باب المطالبة بالتفريط ،و يؤاخذون الحس بما مضى من العيوب ،فتجري عيون الندم ،و تنعقد
عزائم الستدراك .
و لو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها ،لتشاغلت بخدمة باريها .
ل بقربه .
و لو وقعت في سورة حبه ،لستوحشت عن الكل شغ ً
و لهذا سكن الزهاد الخلوات ،و تشاغلوا بقطع المعوقات ،و على قدر مجاهدتهم في ذلك نالوا من
الخدمة مرادهم ،كما أن الحصاد على مقدار البذر .
غير أن تلمحت في هذه الحالة ـ دقيقة ـ و هو أن النفس لو دامت لها اليقظة لوقعت فيما هو شر من
فوت ما فاتها ،و هو العجب بحالها ،و الحتقار لجنسها .
و ربما ترقت بقوة علمها و عرفانها ،إلى دعوى قولها :لي ،و عندي ،و أستحق .فتركها في حومة
ذنوبها تتخبط .
فإذا وقفت على الشاطئ قامت بحق ذلة العبودية ،و ذلك أولى لها .
هذا حكم الغالب من الخلق ،و لذلك شغلوا عن هذا المقام ،فمن بذر فصلح له فل بد له من هفوة
تراقبها عين الخوف بها تصح عبوديته ،و تسلم له عبادته .
و إلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح :لو لم تذنبوا لذهب ال بكم و جاء بقوم يذنبون فيستغفرون
فيغفر لهم .
تفكرت فرأيت أن حفظ المال من المتعين ،و ما يسميه جهلة المتزهدين توكل من إخراج ما في اليد
ليس بالمشروع .فإن النبي صلى ال عليه و سلم قال لكعب بن مالك :أمسك عليك بعض مالك أو كما قال
له ،و قال لسعد :لن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس .
فإن اعترض جاهل فقال :فقد جاء أبو بكر رضي ال عنه بكل ماله .
فالجواب أن أبا بكر صاحب جأش و تجارة ،فإذا أخرج الكل أمكنه أن يستدين عليه ،فيتعيش .
فمن كان على هذه الصفة ل أذم إخراجه لماله ،و إنما الذم متطرق إلى من يخرج ماله و ليس من
أرباب المعائش .
أو يكون من أولئك ،إل أنه ينقطع عن المعاش فيبقى كل على الناس ،يستعطهم و يعتقد أنه على
الفتوح ،و قلبه متعلق بالخلق ،و طعمه ناشب فيهم .
و مت حرك بابه نهض قلبه .و قال :رزق قد جاء .
و هذا أمر قبيح بمن يقدر به على المعاش ،و إن لم يقدر كان إخراج ما يملك أقبح ،لنه يتعلق قلبه
بما في أيدي الناس .
و ربما ذل لبعضهم ،أو تزين له بالزهد ،و أقل أحواله أن يزاحم الفقراء و المكافيف و الزمني في
الزكاة .
فعليك بالشرب الول ،فانظر هل فيهم من فعل ما يفعله جهلة المتزهدين ؟
و قد أشرت في أول هذا إلى أنهم كسبوا و خلفوا الموال .
فرد إلى الشرب الول ،الذي لم يطرق فإنه الصافي .
و احذر من المشارع المطروقة بالراء الفاسدة الخارجة في المعنى على الشريعة مذعنة بلسان حالها
أن الشرع ناقص يحتاج إلى ما يتم به .
واعلم ـ وفقك ال تعالى ـ أن البدن كالمطية ،و ل بد من علف المطية ،و الهتمام به .
فإذا أهملت ذلك كان سببا لوقوفك عن السير .
وقد رئي سلمان رضي ال عنه يحمل طعاما على عاتقه ،فقيل له :أتفعل هذا وأنت صاحب رسول ال
صلى ال عليه و سلم ؟ فقال [ :إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت ] .
و قال سفيان الثوري [ :إذا حصلت قوت شهر فتعبد ] .
و قد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوي فقالوا :هذا شك في الرازق والثقة به أولى .فإياك وإياهم
.
و ربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف فل يعول عليه ،ول يهولنك خلفهم .
فقد قال أبو بكر المروذي :سمعت أحمد بن حنبل يرغب في النكاح .فقلت له :قال ابن أدهم ،فما
تركني أتمم حتى صاح علي ،و قال :أذكر لك حال رسول ال صلى ال عليه و سلم وأصحابه ،وتأتيني
ببنيات الطريق ؟
و اعلم وفقك ال :أنه لو رفض السباب شخص يدعي التزهد .و قال :ل آكل و ل أشرب ،و ل أقوم
من الشمس في الحر ،و ل استدفئ من البرد ،كان عاصيا بالجماع .
و كذلك لو قال و له عائلة :ل أكتسب و رزقهم على ال تعالى ،فأصابهم أذى ،كان آثما .
كما قال عليه الصلة والسلم :كفى بالمرء إثما أن يضيع من يوقت .
و اعلم أن الهتمام بالكسب يجمع الهم ،و يفرغ القلب ،ويقطع الطمع في الخلق ،فإن الطبع له حق
يتقاضاه .
وقد بين الشرع ذلك فقال :إن لنفسك عليك حقا ،و إن لعينك عليك حقا .
و مثال الطبع من المريد السالك ،كمثل كلب ل يعرف الطارق ،فكل من رآه يمشي ،نبح عليه ،فإن
ألقى إليه كسرة سكت عنه .
فالمراد من الهتمام بذلك جمع الهم ل غير ،فافهم هذه الصول ،فإن فهمها مهم . .
بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام فقال :ل آكل .فقيل له :لم ؟ قال :لن نفسي
تشتهيه ،و أنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي .
فقلت :لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين ،و سبب خفائها عدم العلم .
أما الوجه الول :فإن النبي صلى ال عليه و سلم لم يكن على هذا و ل أصحابه ،و قد كان عليه
الصلة و السلم يأكل لحم الدجاج ،و يحب الحلوى و العسل .
و دخل فرقد السبخي على الحسن و هو يأكل الفالوذج .فقال [ :يا فرقد ما تقول في هذا ] ؟ فقال [ ل
آكله و ل أحب من أكله ] .فقال الحسن [ :لعاب النحل ،بلباب البر ،مع سمن البقر ،هل يعيبه مسلم ؟ ]
.
و جاء رجل إلى الحسن فقال [ :إن لي جارا ل يأكل الفالوذج ] فقال [ و لم ؟ ] قال يقول [ :ل أؤدي
شكري ] ،فقال [ إن جارك جاهل و هل شكر الماء البارد ؟ ] .
و كان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج .و الحمل المشوي ،و يقول [ :إن الدابة إذا أحسن
إليها عملت ] .
و ما حدث في الزهاد بهدهم من هذا الفن فأمور مسروقة من الرهبانية .و أنا خائف من قوله تعالى :
ل تحرموا طيبات ما أحل ال لكم و ل تعتدوا .
و ل نحفظ عن أحمد من السلف الول من الصحابة من هذا الفن شيء أن يكون ذلك لعارض .
و سبب ما يروى عن ابن عمر رضي ال عنهما :أنه اشتهى شيئا فآثر به فقيرا ،و أعتق جاريته
رميثة ،و قال [ :إنها أحب الخلق إلي ] ،فهذا و أمثاله حسن ،لنه إيثار بما هو أجود عند النفس من
غيره ،و أكثر لها من سواه .
فإذا وقع في بعض الوقات ،كسرت الفعل سورة هواها أن تطغى بنيل كل ما تريد .
فأما من دام على مخالفتها على الطلق ،فإنه يعمي قلبها ،و يبلد خواطرها ،و يشتت عزائمها ،
فيؤذيها أكثر مما ينفعها .
و قد قال إبراهيم بن أدهم :إن القلب إذا أكره عمى .و تحت مقالته سر لطيف و هو أن ال عز وجل
قد وضع طبيعة الدمي على معنى عجيب ،و هو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها ،فتعلم
باختيارها له صلحه ،و صلحها به .
و قد قال حكماء الطب :ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي من المطاعم ،و إن كان فيه نوع ضرر ،
لنها إنما تختار ما يلئمها ،فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا عاد على بدنه بالضرر .
و لول جواذب الباطن من الطبيعة ما بقي البدن فإن الشهوة للطعام تثور ،فإذا وقعت الغنية بما يتناول
كفت الشهوة .
فاشهوة مريد و رائد ،و نعم الباعث هي على مصلحة البدن .
غير أنها إذا أفرطت وقع الذى ،و متى منعت ما تريد على الطلق مع المن من فساد العاقبة عاد ذلك
على النفس بالفساد ،و وهن الجسم ،و اختلف السقم الذي تتداعى به الجملة ،مثل أن يمنعها الماء عند
اشتداد العطش ،و الغذاء عند الجوع ،و الجماع عند قوة الشهوة ،و النوم عند غلبته ،حتى إن المغتم
إذا لم يتروح بالشكوى قتله الكمد .
قهذا أصل إذا فهمه هذا الزاهد .علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى ال عليه و سلم و أصحابه .
من حيث النقل ،و خالف الموضوع من حيث الحكمة .
و ل يلزم على هذا قول القائل :فمن أين يصفو المطعم ؟ لنه إذا لم يصف كان الترك ورعا ،و إنما
الكلم في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع و كان ما شرحته جوابا للقائل :ما أبلغ نفسي
شهوة على الطلق .
و الوجه الثاني :أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك فصار يشتهي أل يتناول ،و
للنفس في هذا مكر خفي ،و رياء دقيق ،فإن سلمت من الرياء للخلق ،كانت الفة من جهة تعلقها بمثل
هذا الفعل ،و إدلها في الباطن به ،فهذه مخاطرة و غلط .
و ربما قال بعض الجهال :هذا صد عن الخير و عن الزهد .و ليس كذلك ،فإن الحديث قد صح عن
النبي صلى ال عليه و سلم أنه قال :كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد .
و ل ينبغي أن يغتر بعبادة جريح ،و ل بتقوى ذي الحويصرة ،و لقد دخل المتزهدون في طرق لم
يسلكها الرسول صلى ال عليه و سلم ،و ل أصحابه ،من إظهار التخشع الزائد في الحد ،و التنوق في
تخشين الملبس ،و أشياء صار العوام يستحسونها .
و صارت لقوام كالمعاش يجتنون من أرباحها :تقبيل اليد ،و توفير التوقير و حراسة الناموس .
و أكثرهم في خلوته ،على غير حالته في جلوته .
و قد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قهقهة ،و إذا خل بالليل فكأنه قتل أهل القرية .
فنسأل ال تعالى علما نافعا فهو الصل ،فمتى حصل أوجب معرفة المعبود عز وجل ،و حرك إلى
خدمته بمقتضى ما شرعه و أحبه ،و سلك بصاحبه طريق الخلص .
و أصل الصول ـ العلم ،و أنفع العلوم النظر في سير الرسول صلى ال عليه و سلم و أصحابه أولئك
الذين هدى ال فبهداهم اقتده .
تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد ،و رأيت خلقا من العلماء و الزهاد ل يفهمون معناه ،لن فيهم
من منعها حظوظها على الطلق ،و ذلك غلط من وجهين :
أحدهما :أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها .
مثل أن يمنعها مباحا فيشتهر بمنعه إياها ذلك ،فترضى النفس بالمنع لنها قد استبدلت به المدح .
و أخفى من ذلك أن يرى ـ بمنعه إياها ما منع ـ أنه قد فصل سواه ممن لم يمنعها ذلك و هذه دفائن
تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها .
و الوجه الثاني ،أننا قد كلفنا حفظها ،و من أسباب حفظها ميلها إلى الشياء التي تقيمها ،فل بد من
إعطائها ما يقيمها ،و أكثر ذلك أو كله ما تشتهيه .
و نحن كالوكلء في حفظها .لنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا ،فمنعها حقوقها على الطلق خطر .
ثم رب شد أوجب استرخاء ،و رب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلفيها .
و إنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل ،يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية ،و
يذوب في المرارة قليلً من الحلوة ،و يتناول من الغذية مقدار ما يصفه الطبيب .و ل تحمله شهوته
على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعا ،و من لقمة ربما حرمت لقمات .
فكذلك المؤمن العاقل ل يترك لجامها ،و ل يهمل مقودها ـ بل يرخى لها في وقت و الطول بيده .
فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها .
فإذا رآها مالت ردها باللطف ،فإن ونت و أبت فبالعنف .
و يحبسها في مقام المداراة ،كالزوجة التي مبنى عقلها على الضعف و القلة ،فهي تدارى عند نشوزها
بالوعظ ،فإن لم تصلح فبالهجر ،فإن لم تستقم فبالضرب .
و ليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم .
هذه مجاهده من حيث العمل ،فأما من حيث وعظها و تأنيبها ،فينبغي لمن رآها تسكن للخلق ،و
تتعرض بالدناءة من الخلق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول :
ألست التي قال فيك :خلقتك بيدي ،و اسجدت لك ملئكتي ،و ارتضاك للخلفة أرضه ،و راسلك و
اقترض منك و اشترى .
فإن رآها تتكبر ،قال لها :هل أنت إل قطرة من ماء مهين ،تقتلك شرقة ،تؤلمك بقة ؟
و إن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد .
و أن ونت في العمل ،حدثها بجزيل الجر .
و إن مالت إلى الهوى ،خوفها عظيم الوزر .ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية ،كقوله تعالى :قل
أرأيتم إن أخذ ال سمعكم و أبصاركم و المعنوية كقوله تعالى :سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في
الرض بغير الحق .
فهذا جهاد بالقول ،و ذاك جهاد بالفعل .
رأيت من البلء أن المؤمن يدعو فل يجاب ،فيكرر الدعاء و تطول المدة ،و ل يرى أثرا للجابة ،
فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلء الذي يحتاج إلى الصبر .
و ما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب ،و لقد عرض لي من هذا
الجنس .فإنه نزلت بي نازلة ،فدعوت ،فلم أر الجابة ،فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده .
فتارة يقول :الكلم واسع و البخل معدوم ،فما فائدة تأخير الجواب ؟
فقلت له :إخسأ يا لعين ،فما أحتاج إلى تقاضي ،و ل أرضاك وكيلً .
ثم عدت إلى نفسي فقلت :إياك و مساكنة وسوسته ،فإنه لو لم يكن في تأخير الجابة إل أن يبلوك
المقدر في محاربة العدو لكفي في الحكمة .
قالت :فسلني عن تأخير الجابة في مثل هذه النازلة .
فقلت :قد ثبت بالبرهان أن ال عز وجل مالك ،و للمالك التصرف بالمنع والعطاء ،فل وجه العتراض
عليه .
و الثاني :أنه قد ثبتت حكمته بالدلة القاطعة ،فربما رأيت الشيء مصلحة و الحكمة ل تقتضيه ،و قد
يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب ،من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة ،فلعل هذا من ذاك
.
و الثالث :أنه قد يكون التأخير مصلحة ،و الستعجال مضرة ،و قد قال النبي صلى ال عليه و سلم :
ل يزال العبد في خير ما لم يستعجل ،يقول دعوت فلم يستجب لي .
الرابع :أنه قد يكون امتناع الجابة لفة فيك فربما يكون في مأكولك شبهة ،أو قلبك وقت الدعاء في
غفلة ،أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه .
فابحثي عن بعض هذه السباب لعلك تقفي بالمقصود كما روى عن أبي يزيد رضي ال عنه :أنه نزل
بعض العاجم في داره فجاء ،فرأه فوقف بباب الدار ،و أمر بعض أصحابه فدخل ،فقلع طينا جديدا قد
طينه ،فقام العجمي و خرج .فسئل أبو يزيد عن ذلك فقال [ :هذا الطين من وجه شبهة ،فلما زالت
الشبهة زال صاحبها ] .
و عن إبراهيم الخواص رحمه ال عليه أنه خرج لنكار منكر ،فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي ،فعاد
ودخل المسجد ،و صلى ثم خرج ،فسئل فبصبص الكلب له فمضى ،و أنكر فزال المنكر .
فسئل عن تلك الحال فقال [ :كان عندي منكر ،فمنعني الكلب ،فلما عدت تبت من ذلك ،فكان ما رأيتم
].
و الخامس :أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب ،فربما كان في حصوله زيادة إثم ،
أو تأخير عن مرتبة خير ،فكان المنع أصلح .
و قد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل ال الغزو ،فهتف به هاتف [ :إنك إن غزوت أسرت ،و إن
أسرت تنصرت ] .
و السادس :أنه ربما كان فقد ما فقدته سببا للوقوف على الباب و اللجأ و حصوله سببا للشتغال به
عن المسؤول .
و هذا الظاهر بدليل أنه لول هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ .
فالحق عز وجل من الخلق اشتغالهم بالبر عنه فلذعهم في خلل النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه ،
يستغيسون به ،فهذا من النعم في طي البلء .
و إنما البلء المحض ،ما يشغلك عنه ،فأما ما يقيمك بين يديه ،ففيه جمالك .
و قد حكي عن يحي البكاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام ،فقال [ :يارب كم أدعوك و ل تجيبني ] ؟
فقال [ :يا يحي إني أحب أن أسمع صوتك ] .
و إذا تدبرت هذه الشياء ،تشاغلت بما هو أنفع لك ،من حصول ما فاتك من رفع خلل ،أو اعتزار من
زلل ،أو وقوف على الباب إلى رب الرباب .
من نزلت به بلية ،فأراد تمحيقها ،فليتصورها أكثر مما هي تهن .
و ليتخايل ثوابها و ليتوهم نزول أعظم منها ،يرى الربح في القتصار عليها و ليتلمح سرعة زوالها ،
فإنه لول كرب الشدة ،ما رجيب ساعات الراحة .
و ليعلم أن مدة مقامها عنده كمدة مقام الضيف فليتفقد حوائجه في كل لحظة ،فيا سرعة انقضاء مقامه
،و يا لذة مدائحه و بشره في المحافل ،و وصف المضيف بالكرم .
فكذلك المؤمن في الشدة ينبغي أن يراعي الساعات ،و يتفقد فيها أحوال النفس .
و يتلمح الجوارح ،مخافة أن يبدو من اللسان كلمة ،أو من القلب تسخط .فكأن قد لح فجر الجر ،
فانجاب ليل البلء ،و مدح الساري بقطع الدجي فما طلعت شمس الجزاء ،إل و قد وصل إلى منزل
السلمة .
لما رأيت نفسي في العلم حسنا ،فهي تقدمه على كل شيء و تعتقد الدليل و تفضل ساعة التشاغل به
على ساعات النوافل ،و تقول :أقوى دليل لي على فضله على النوافل ،أني رأيت كثيرا ممن شغلتهم
نوافل الصلة و الصوم عن نوافل العلم ،عاد ذلك عليهم بالقدح في الصول ،فرأيتها في هذا التجاه على
الجادة السهلة و الرأي الصحيح .
إل أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم ،فصحت بها :فما الذي أفادك العلم ؟ أين الخوف ؟ أين
القلق ؟ أين الحذر ؟
أو ما سمعت بأخبار أخيار الحبار في تعبدهم و اجتهادهم ؟
أما كان الرسول صلى ال عليه و سلم سيد الكل ،ثم إنه قام حتى ورمت قدماه ؟
أما كان أبو بكر رضي ال عنه شجي النشيج ،كثير البكاء ؟
أما كان في خد عمر رضي ال عنه خطان من آثار الدموع ؟
أما كان عثمان رضي ال عنه يختم القرآن في ركعة ؟
أما كان علي رضي ال عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ؟ و يقول [ :يا دنيا
عري غيري ؟ ] .
أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق ؟
أما كان سعيد بن المسيب ملزما للمسجد فلم تفته صلة في جماعة أربعين سنة ؟
أما صام السود بن يزيد حتى اخضر و اصفر ؟
أما قالت بنت الربيع بن خيثم له [ :مالي أرى الناس ينامون و أنت ل تنام ] ؟ فقال [ :إن أباك يخاف
عذاب البيات ] .
أما كان أبو مسلم الخولني يعلق سوطا في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر ؟
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة ؟ و كان يقول :و الهفاة سبقني العابدون ،و قطع بي .
أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة ؟
أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف ؟
أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف ؟
أما تعلمين أخيار الئمة الربعة في زهدهم و تعبدهم :أبو حنيفة ،و مالك ،و الشافعي ،و أحمد ؟
فاحذري من الخلد إلى صورة العلم ،مع ترك العمل به فإنها حالة الكسالى الزمنى :
و مقبل عيشك لم يدبر و خذ لك منك على مهلة
ر و تطوي الورود علىالمصدر و خف هجمة ل تقبل العثا
يضمك في حلبة المحشر و مثل لنفسك أي الرعيل
مما يزيد العلم عندي فضلً ،أن قوما تشاغلوا بالتعبد عن العلم ،فوقفوا عن الوصول إلى حقائق الطلب
.
فروى عن عن بعض القدماء أنه قال لرجل [ :يا أبا الوليد ،إن كنت أبا الوليد ،يتورع أن يكنيه و ل و
لد له ! ! ]
ل فقال :
و لو أوغل هذا في العلم لعلم أن النبي صلى ال عليه و سلم :كنى صهيبا أبا يحي ،و كنى طف ً
يا أبا عمير ،ما فعل النغير ؟
و قال بعض المتزهدين [ :قيل لي يوما :كل من هذا اللبن .فقلت :هذا يضرني ،ثم و قفت بعد مدة
عند الكعبة فقلت :اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين ،فهتف بي هاتف ،و ل يوم اللبن ؟ ]
و هذا لو صح أن جاز أن يكون تأديبا له ،لئل يقف مع السباب ناسيا للمسيب و إل فالرسول صلى ال
عليه و سلم قد قال :ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى الن قطعت أبهري .و قال ما نفعني مال كمال أبي
بكر .
و من المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع السباب كلها ،و هذا جهل بالعلم فإن النبي صلى ال عليه و
سلم :دخل الغار ،و شاور الطبيب ،و لبس الدرع ،و حفر الخندق ،و دخل مكة في جوار المطعم بن
عدي و كان كافرا ،و قال لسعد :لن تدع و رثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس .
فالوقوف مع السباب مع نسيان المسبب غلط .
و كل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم .
و لقد ضل من مشى في ظلمة الجهل أو في زقاق الهوى .
ما أزال اتعجب ممن يرى تفضيل الملئكة على النبياء و الولياء ،فإن كان التفضيل بالصورة ،فصورة
الدمي أعجب من ذوي أجنحة .
و إن تركت صورة الدمي لجل أوساخها المنوطة بها ،فالصورة ليست الدمي ،إنما هي قالب .ثم
استحسن منها ما يستقبح في العبادة مثل خلوف فم الصائم ،و دم الشهداء ،و النوم في الصلة فبقيت
صورة معمورة و صار الحكم للمعنى .
ألهم مرتبة يحبهم ،أو فضيلة يباهى بهم ،و كيف دار المر فقد سجدوا لنا .
و هو صريح في تفضيلنا عليهم ،فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة ،يوم ل علم لنا يا آدم
أنبئهم .
و إن فضلت الملئكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس ،و علينا أثقال أعباء الجسم .
بال لول احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها ،و يرفق في السير بها لطرق أرض منى
قبل العشر .
واعجبا أتفضل الملئكة بكثرة التعبد ! فما ثم صعاد .
أو يتعجب من الماء إذا جرى ،أو من منحدر يسرع ؟ إنما العجب من مصاعد يشق الطريق و يغالب
العقبات .
بلى قد يتصور منهم الخلف ،و دعوى اللهية لقدرتهم على دك الصخور ،و شق الرض لذلك توعدوا
:و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ،لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه .
فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية و ضعف يقيننا بالناهي ،و غلبة شهوتنا مع الغفلة يحتاج إلى جهاد
أعظم من جهادهم .
تال لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به ،لم يقدر على التماسك .
يصبح أحدنا و خطاب الشرع يقول له :الكسب لعائلتك ،و احذر في كسبك .و قد تمكن منه ما ليس
من فعله ،كحب الهل ،و علوق الولد بنياط القلب ،و احتياج بدنه إلى ما ل بد منه .
فتارة يقال للخليل عليه السلم [ :اذبح ولدك بيدك ،و اقطع ثمرة فؤادك بكفك ،ثم قم إلى المنجنيق
لترمي في النار ] .
ل و نهارا] .
و تارة يقال لموسى عليه السلم [ :صم شهرا ،لي ً
ثم يقال للغضبان :اكظم ،و للبصير اغضض ،و لذي المقول اصمت ،و لمستلذ النوم تهجد ،و لمن
مات حبيبه اصبر ،و لمن أصيب في بدنه أشكر ،و للواقف في الجهاد بين اثنين ل يحل أن تفر .
ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات ،فينزع الروح عن البدن فإذا نزل فاثبت .
و اعلم أنك ممزق في القبر فل تتسخط لنه مما يجري به القدر .
و إن وقع بك مرض فل تشك إلى الخلق .
فهل للملئكة من هذه الشياء شيء ؟ و هل ثم إل عبادة ساذجة ليس فيها مقاومة طبع ،و ل رد
هوى ؟
و هل هي إل عبادة صورية بين ركوع و سجود و تسبيح ؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا ؟ ثم
أكثرهم في خدمتنا بين كتبة علينا ،و دافعين عنا ،و مسخرين لرسال الريح و المطر ،و أكبر وظائفهم
الستغفار لنا .
فكيف يفضلون علينا بل علة ظاهرة ؟ .
و إذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روى عن هاروت و ماروت ،فخرجوا أقبح من
بهرج .
و ل تظنن أني أعتقد في تعبد الملئكة نوع تقصير ،لنهم شديد و الشفاق و الخوف ،لعلمهم بعظمة
الخالق .لكن طمأنينة من لم يخطئ تقوى نفسه .و انزعاج الغائص في الزلل يرقي روحه إلى التراقي .
فاعرفوا إخواني شرف أقداركم ،و صونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب ،فأنتم معرض الفضل
على الملئكة ،فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم ،و ل حول و ل قوة إل بال العلي العظيم
.
رأيت كثيرا من الخلق ،و عالما من العلماء ل ينتهون عن البحث عن أصول الشياء التي أمروا بعلم
ل فال تعالى سترها بقوله :قل الروح من أمر ربي فلم يقنعوا ،
جلها من غير بحث عن حقائقها كالروح مث ً
و أخذوا يبحثون عن ما هيتها و ل يقعون بشيء ،و ل يثبت لحد منهم برهان على ما يدعيه ،و كذلك
العقل ،فإنه موجود بل شك ،كما أن الروح موجودة بل شك ،كلهما يعرف بآثاره ل بحقيقة ذاته .
فإن قال قائل :فما سرفي كتم هذه الشياء؟ قلت :لن النفس ما تزال تترقى من حلة إلى حالة فلو
اطلعت على هذه الشياءلترقت إلى خالقها .فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه ،لنه إذا كان بعض
مخلوقاته يعلم جملة ،فهو أجل و أعلى .
و لو قال قائل :ما الصواعق ؟ و ما البرق ؟ و ما الزلزل ؟
قلنا :شيء مزعج ،و يكفي .
و السر في ستر هذا لكشفت حقائقه ،خف مقدار تعظيمه .
و من تلمح هذا الفصل علم أنه فصل عزيز ،فإذا ثبت هذا في المخلوقات فالخالق أجل و أعلى .
فينبغي أن يوقف على إثباته على دليل وجوده ،ثم يستدل على جواز بعثه رسله ،ثم تتلقى أوصافه من
كتبه و رسله ،و ل يزاد على ذلك .
و لقد بحث خلق كثير عن صفاته بآرائهم ،فعاد وبال ذلك عليهم .و إذا قلنا :إنه موجود ،و علمنا من
كلمه أنه سميع ،بصير ،حي ،قادر كفانا هذا في صفاته ،و ل نخوض في شيء آخر .
و كذلك نقول :متكلم القرآن كلمه ،و ل نتكلف ما فوق ذلك .
و لم يقل السلف :تلوة و متلو ،و قراءة و مقروء ،و ل قالوا :استوى على العرش بذاته ،و ل
قالوا :ينزل بذاته ،بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة .
و هذه كلمات كالمثال ،فقس عليها جميع الصفات ،تفز سليما من تعطيل ،متخلصا من تشبيه .
لم تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي ،بتسخير السحاب ،و إنزال المطر برفق ،و البذر دفين تحت
الرض ،كالموتى ،قد عفن ينظر نفخه من صور الحياة ،فإذا أصابته اهتز خضرا .
و إذا انقطع عنه الماء مد يد الكلب يستعطي ،و أمال رأسه خاضعا ،و لبس حلل التغير ،فهو محتاج
إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس ،و برودة الماء و لطف النسيم ،و تربية الرض ،فسبحان من
أراني ـ فيما يربيني به ـ كيف تربيتي في الصل .
فيا أيتها النفس التي قد إطلعت على بعض حكمه ،قبيح بك ـ ال ـ القبال علىغيره .
ثم العجب كيف تقبلين على فقير مثلك ،يناديني لسان حاله بي مثل ما بك ،يا حمام !
فارجعي إلى الصل الول ،و اطلبي من المسبب .
و ياطوبي لك إن عرفتيه ،فإن عرفانه ملك الدنيا و الخرة .
•فصل :النقطاع إلى ال
كنت في بداية الصبوة ،قد ألهمت سلوك طريف الزهاد ،بإدامة الصوم و الصلة .
و حببت إلي الخلوة فكنت أجد قلبا طيبا .و كانت عين بصيرتي قوية الحدة ،تتأسف على لحظة تمضي
في غير طاعة ،و تبادر الوقت في اغتنام الطاعات .
و لى نوع أنس ،و حلوة مناجاة ! !
فانتهى المر إلى أن صار بعض ولة المور يستحسن كلمي ،فأمالني إليه ،فمال الطبع ،ففقدت تلك
الحلوة .
ثم استمالني آخر ،فكنت أتقي مخالطته و مطاعمه ،لخوف الشبهات ،و كانت حالتي قريبة .
ثم جاء التأويل فانبسطت فيما يباح فعدم ما كنت أجد من استنارة و سكينة .
و صارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله .
فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس ،فيتوبون و يصلحون ،و أخرج مفلسا فيما
بيني و بين حالي .
و كثر ضجيجي من مرضي ،و عجزت عن طب نفسي ،فلجأت إلى قبور الصالحين ،و توسلت في
صلحي ،فاجتذبني لطف مولي بي إلى الخلوة على كراهةمني ،ورد قلبي علي بعد نفور مني ،وأراني
عيب ما كنت أوثره .
فأفقت من مرض غفلتي ! و قلت في مناجاة خلوتي :سيدي كيف أقدر على شكرك ؟ و بأي لسان أنطق
بمدحك ؟ إذ لم تؤاخذني على غفلتي ،و نبهتني من رقدتي ،و أصلحت حالي على كره من طبعي .
فما أربحني فيما سلب مني إذ كانت ثمرته اللجأ إليك !
و ما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي علىالخلوة بك .
و ما أغناني إذ أفقرتني إليك ،و ما آنسني إذ أوحشتني من خلقك .
آه على زمان ضاع في غير خدمتك ! أسفا لوقت مضى في غير طاعتك .
قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر ل يؤلمني نومي طول الليل .
و إذا انسلخ عني النهار ل يوجعني ضياع ذلك اليوم .
و ما علمت أن عدم الحساس لقوة المرض .
فالن قد هبت نسائم العافية ،فأحسست باللم فستدللت على الصحة .فيا عظيم النعام تمم لي العافية .
آه من سكير لم يعلم قدر عربدته إل في و قت الفاقة ؟
لقد فتقت ما يصعب رتقه ،فوا أسفا على بضاعة ضاعت ،و على ملح تعب في موج الشمال مصاعدا
مدة ،ثم غلبه النوم فرد إلى مكانه الول .
يا من يقرأ تحذيري من التخطيط فإني ـ و إن كنت خنت نفسي بالفعل ـ نصيح لخوتي بالقول احذروا
إخواني من الترخص فيما ليؤمن فساده .
،في أول مرتبة ،ثم يجر إلي النجاح ،فتلمحوا المآل ،و افهموا الحال . فإن الشيطان يزين
و ربما أراكم الغاية الصالحة ،و كان في الطريق إليها نوع مخالفة ،فيكفي العتبار في تلك الحال ،
بأبيكم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك ل يبلى .
إنما تأمل آدم الغاية و هي الخلد ،و لكنه غلط في الطريق ،و هذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها
العلماء .
يتأولون لقوالب المصالح ،فيستعجلون ضرر المفاسد .مثاله أن يقول للعالم :ادخل على هذا الظالم
فاشفع في مظلوم ،فيستعجل الداخل رؤية المنكرات ،و يتزلزل دينه .
وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم .
فمن لم يثق بدينه فليحذر من المصائد ،فإنها خفية .
و أسلم ما للجان العزلة ،خصوصا في زمان قد مات فيه المعروف ،و عاش المنكر ،و لم يبق لهل
العلم وقع عند الولة .
فمن داخلهم دخل معهم فيما ل يجوز ،و لم يقدر على جذبهم مما هم فيه .
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الوليات يراهم منسلخين من نفع العلم قد صاروا
كالشرطة .
فليس إل العزلة عن الخلق ،و العراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة .و لن أنفع نفسي وحدي ،
خير لي من أن أنفع غيري و اتضرر.
فالحذر الحذر من خوادع التأويلت ،و فواسد الفتاوى ،و الصبر الصبر على ما توجبه العزلة .فإنه
إن انفردت بمولك فتح لك باب معرفته .فهان كل صعب ،و طاب كل مر ،و تيسر كل عسر و حصلت كل
مطلوب .
و ال الموفق بفضله ،و ل حول و ل قوة إل به .
•فصل :الورع
ل في مباح أنال به شيئا من الدنيا ،إل أنه في باب الورع كدر .
تاملت على نفسي تأوي ً
فرأيته أولً قد احتلب در الدين فذهبت حلوة المعاملة ال تعالى .
ثم عاد فقلص ضرع حلبي له ،فوقع الفقد للحالين .
فقلت لنفسي :ما مثلك إل كمثل وال ظالم ،جمع مال من غير حله ،فصودر فأخذ منه الذي جمع ،و
ألزم مالم يجمع .
فالحذر الحذر من فساد التأويل ،فإنه ال تعالى ل يخادع ،و ل ينال ما عنده بمعصيته .
عجبت من أقوام يدعون العلم ،و يميلون إلى التشبيه بحملهم الحاديث على ظواهرها ،فلو أنهم
أمروها كما جاءت سلموا ،لن من أمر ما جاء و مر من غير اعتراض [ و ل تعرض ] ؟ فما قال شيئا ل
له و ل عليه .
و لكن أقواما قصرت علومهم ،فرأت أن حمل الكلم على غير ظاهرة نوع تعطيل ،و لو فهموا سعة
اللغة لم يظنوا هذا .
و ما هم إل بمثابة قول الحجاج لكتابه و قد مدحته الخنساء فقالت :
تتبع أقصى دائها فشفاها إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة
شفاها من الداء العضال الذي بها غلم إذا هز القناة شفاها
فلما أتمت القصيدة ،قال لكاتبه :اقطع لسانها ،فجاء ذلك الكاتب المغفل بالموس .
قالت له :و يلك إنما قال :أجزي لها العطاء .
ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت :كاد و ال يقطع مقولي .
فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم ،فإنه من قرأ اليات و الحاديث و لم يزد ،ألمه ،و هذه
طريقة السلف .
فأما من قال :الحديث يقتضي كذا ،و يحمل على كذا ،مثل أن يقول :استوى على العرش بذاته ،ينزل
إلى السماء الدنيا بذاته ،فهذه زيادة فهمها قائلة من الحس ل من النقل .
و لقد عجبت لرجل أندلس يقال له ابن عبد البر ،صنف كتاب التمهيد ،فذكر فيه حديث النزول إلى
السماء الدنيا فقال :هذا يدل على أن ال تعالى على العرش لنه لو ل ذلك لما كان لقوله ينزل معنى .
و هذا كلم جاهل بمعرفة ال عز وجل .لن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الجسام .فقاس
صفة الحق عليه .
فأين هؤلء و اتباع الثر ؟
و لقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ،ثم عابوا المتكلمين .
و اعلم أيها الطالب للرشاد ،أنه سبق إلينا من العقل و النقل أصلن راسخان عليهما مر الحاديث كلها
.
أما النقل فقوله سبحانه و تعالى :ليس كمثله شيء .و من فهم هذا لم يحمل وصفا له على ما يوجبه
الحس .
و أما العقل ،فإنه قد علم مباينه الصانع للمصنوعات ،و استدل على حدوثها بتغيرها ،و دخول
النفعال عليها ،فثبت له قدم الصانع .
واعجبا كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلم .
أليس في الحديث الصحيح ،أن الموت يذبح بين الجنة و النار ؟
أو ليس العقل إذا استغنى في هذا صرف المر عن حقيقته ؟
لما ثبت عند من يفهم ما هية الموت .
فقال :الموت عرض يوجب بطلن الحياة .فكيف يمات الموت ؟
فإذا قيل له :فما تصنع بالحديث ؟
قال :هذا ضرب مثلً بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى .
قلنا له :فقد روى في الصحيح [ :تأتي البقرة و آل عمران كأنهما غمامتان ] ،
فقال :الكلم ليكون غمامة ،و ل يتشبه بها .
قلنا له أفتعطل النقل ؟ قال :ل ،و لكن يأتي ثوابهما .
قلنا فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق ؟
فقال :علمي بأن الكلم ل يتشبه بالجسام ،و الموت ل يذبح ذبح النعام .و لقد علمتم سعة لغة العرب
.
ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا .
فقال العلماء :صدقت .هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة ،و في ذبح الموت .
فقال واعجبا لكم ،صرفتم عن الموت و الكلم ما ل يليق بهما ،حفظا لما علمتم من حقائقهما فكيف لم
تصرفوا عن الله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه ،بما قددل الدليل على تنزيهه عنه ؟
فما زال يجادل الخصوم بهذه الدلة .و يقول :ل أقطع حتى أقطع ،فما قطع حتى قطع .
عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى ال تعالى وحده ،عالما بأنه ل يقدر على جلب نفعي و دفع
ضري سواه .
ثم قمت أتعرض بالسباب ،فأنكر علي يقيني ،و قال :هذا قدح في التوكل .
فقلت :ليس كذلك فإن ال تعالى وضعها من الحكم .
و كان معنى حالي أن ما وضعت ل يفيد و إن وجوده كالعدم .
و ما زالت السباب في الشرع كقوله تعالى :و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلة فلتقم طائفة منهم معك
و ليأخذوا أسلحتهم .
و قال تعالى :فذروه في سنبله .
و قد ظاهر النبي صلى ال عليه و سلم بين درعين ،و شاور طبيبين ،و لما خرج إلى الطائف لم يقدر
على دخول مكة ،حتى بعث إلى المطعم بن عدي فقال :أدخل في جوارك .
و قد كان يمكنه أن يدخل متوكلً بل سبب .
فإذا جعل الشرع المور منوطة بالسباب ،كان إعراضي عن السباب دفعا للحكمة .
و لهذا أرى أن التداوي مندوب إليه ،و قد ذهب صاحب مذهبي إلى أن ترك التداوي أفضل ،و منعني
الدليل من اتباعه في هذا فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى ال عليه و سلم قال :ما أنزل ال داء إل و
أنزل له دواء فتداووا .
و مريبة هذه اللفظة المر ،و المر إما أن يكون واجبا ،أو ندبا .و لم يسبقه حظر ،فيقال :هو إباحة
.
و كانت عائشة رضي ال عنها تقول [ :تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول ال صلى ال عليه و سلم
،و ما ينعت له ] .
و قال عليه الصلة و السلم لعلي بن أبي طالب رضي ال عنه :كل من هذا فإنه أوفق لك من هذا .
و من ذهب إلى تركه أفضل احتج بقوله عليه الصلة السلم :يدخل الجنة سبعون ألفا بل حساب .ثم
وصفهم فقال :ل يكتون ،و ل يسترقون ،و ل يتطيرون ،و على ربهم يتوكلون .
و هذا ل ينافي التداوي ،لنه قد كان أقوام يكتوون لئل يمرضوا و يسترقون لئل تصبهم نكبة ،و قد
كوى عليه الصلة السلم بن زرارة و رخص في الرقية في الحديث الصحيح .فعلمنا أن المراد ما أشرنا
أليه .
و إذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع ،رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي ،و شرب ماء التمر
هندي أوفق ،و هذا طب .
فإذا لم أشرب ما يوافقني ،ثم قلت :اللهم عافني ،قالت لي الحكمة ،أما سمعت [ :اعقلها و توكل ؟ ]
اشرب و قل عافني ،و ل تكن كمن بين زرعه و بين النهر كف من تراب ،تكاسل أن يرفعه بيده ،ثم قام
يصلي صلة الستسقاء .و ما هذه الحالة إل كحال من سافر على التجريد ،و إنما سافر على التجريد لنه
يجرب بربه عز وجل هل يرزقه أول ،و قد تقدم المر إليه :و تزودوا فقال :ل أتزود ،فهذا هالك قبل أن
،يهلكه .
و لو جاء وقت صلة و ليس معه ماء ،ليم على تفريطه ،و قيل له :هل استصحبت الماء قبل المفازة
.
فالحذر الحذر من أفعال أقوام دققوا فمرقوا عن الوضاع الدينية ،و ظنوا أن كمال الدين بالخروج عن
الطباع ،و المخالفة للوضاع .
و لول قوة العلم و الرسوخ فيه ،لما قدرت على شرح هذا و ل عرفته ،فافهم ما أشرت إليه ،فهو
أنفع لك من كراريس تسمعها ،و كن مع أهل المعاني ل مع أهل الحشو .
تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال إبدانهم ،فمنهم من ل ينظف فمه بالخلل بعد الكل .
و منهم من ل ينفي يديه في غسلها من الزهم ،و منهم من ل يكاد يستاك ،و فيهم من ل يكتحل ،و
فيهم من ل يراعي البط ،إلى غير ذلك ،فيعود هذا الهمال بالخلل في الدين و الدنيا .
أما الدين فإنه قد أمر المؤمن بالتنظف و الغتسال للجمعة لجل اجتماعه بالناس ،و نهى عن دخول
المسجد إذا أكل الثوم ،و أمر الشرع بتنقية البراجم و قص الظافر ،و السواك ،و الستحداد و غير ذلك
من الداب .فإذا أهمل ذلك ترك مسنون الشرع ،و ربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة ،مثل أن يهمل
أظفاره فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل .
و أما الدنيا فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم ،يتقدمون إلى السرار ،و الغفلة التي أوجبت
إهمالهم أنفسهم ،أوجبت جهلهم بالذى الحادث عنهم .
فإذا أخذوا في مناجاة السر ،لم يمكن أن أصدف عنهم ،لنهم يقصدون السر ،فألقى الشدائد من ريح
أفواههم .
و لعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر أصبعه على أسنانه .
ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة ،و قد ل تستحسن ذكر ذلك للرجل ،فيثمر ذلك التفافها عنه .
و قد كان ابن عباس رضي ال عنها يقول [ :إني لحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي ] .و
في الناس من يقول :هذا تصنع .و ليس بشيء فإن ال تعالى زيننا لما خلقنا ،لن للعين حظا في
النظر ،و من تأمل أهداب العين و الحاجبين ،و حسن ترتيب الخلقة ،علم أن ال زين الدمي .
و قد كان النبي صلى ال عليه و سلم أنظف الناس و أطيب الناس ،و في الحديث عنه يرفع يديه حتى
تبين عفرة إبطيه ،و كان ساقه ربما انكشفت فكأنهما جمارة .
و كان ل يفارقه السواك ،و كان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة .
و في حديث أنس الصحيح [ :ما شأنه ال ببيضاء ] .
و قد قالت الحكماء [ :من نظف ثوبه قل همه ،و من طاب ريحه زاد عقله ] .
و قال عليه الصلة السلم لصحابه :ما لكم تدخلون علي قلحا ،استاكوا .
و قد فضلت الصلة بالسواك ،على الصلة بغير سواك ،فالمتنظف ينعم نفسه ،و يرفع منها عندها .
و قد قال الحكماء [ :من طال ظفره قصرت يده ،ثم إنه يقرب من قلوب الخلق ،و تحبه النفوس ،
لنظافته و طيبه ] .
و قد كان النبي صلى ال عليه و سلم يحب الطيب .
ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال .فإن النساء شقائق الرجال ،فكما أنه يكره الشيء منها ،فكذلك هي
تكرهه ،و ربما صبر هو على ما يكره و هي ل تصبر .
و قد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد .و هم من أقذر الناس ،و ذلك أنهم ما قومهم العلم .
و أما ما يحكى عن داود الطائي أنه قيل له :لو سرحت لحيتك ،فقال :إني عنها مشغول .
فهذا قول معتذر عن العمل بالسنة ،و الخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه من الخرة و لو كان
مفيقا لذلك لم يتركه ،فل يحتج بحال المغلوبين .
ل في العلم و العمل ،فيه يكون القتداء
و من تأمل خصائص الرسول صلى ال عليه و سلم ،رأى كام ً
و هو الحجة على الخلق .
تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر و البرد .فرأيتها تعكس المقصود في باب الحكمة .و إنما
تحصل مجرد لذة و ل خير في لذة تعقب ألما .
فأما في الحر فإنهم يشربون الماء المثلوج ،و ذلك على غاية في الضرر ،و أهل الطب يقولون :إنه
يحدث أمراضا صعبة يظهر أثرها في وقت الشيخوخة و يضعون الخيوش المضاعفة .و في البرد يصنعون
اللبود المانعة للبرد .
و هذا من حيث الحكمة يضاد ما وضعه ال تعالى .فإنه جعل الحر لتحلل الخلط ،و البرد لجمودها ،
فيجعلون هم جميع السنة ربيعا .فتنعكس الحكمة التي وضع الحر و البرد لها ،و يرجع الذى على البدان
.
و ل يظنن سامع هذا أني آمره بملقاة الحر و البرد .
و إنما أقول له :ل يفرط في التوقي ،بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض الخلط ،إلى حد ل يؤثر في
القوة ،و في البرد بأن يصيبك منه المر القريب ل المؤذي ،فإن الحر و البرد لمصالح البدن .
ل ،و قد ذكرت قصته
و قد كان بعض المراء يصون نفسه من الحر و البرد فتغيرت حالته فمات عاج ً
في كتاب لقط المنافع في علم الطب .
ليس في التكاليف أصعب من الصبر على القضاء ،و ل فيه أفضل من الرضى به .فأما الصبر :فهو
فرض .و أما الرضى فهو فضل .
و إنما الصبر لن القدر يجري في الغلب بمكروه النفس ،و ليس مكروه النفس يقف على المرض و
الذى في البدن ،بل هو يتنوع حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر .
فمن ذلك أنك إذا رأيت مغمورا بالدنيا قد سالت له أوديتها حتى ل يدري ما يصنع بالمال ،فهو يصوغه
أواني يستعملها .و معلوم أن البلور و العقيق و الشبة ،قد يكون أحسن منها صورة ،غير أن قلة مبالته
بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه .و يلبس الحرير ،و يظلم الناس ،و الدنيا منصبة عليه .
ثم يرى خلقا من أهل الدين ،و طلب العلم ،مغمورين بالفقر و البلء ،مقهورين تحت ولية ذلك
الظالم .فحينئذ يجد الشيطان طريقا للوسواس ،و يبتدئ بالقدح في حكمة القدر .
فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر في الدنيا ،و على جدال إبليس في ذلك .
و كذلك في تسليط الكفار على المسلمين ،و الفساق على أهل الدين .
و أبلغ من هذا إيلم الحيوان ،و تعذيب الطفال ،ففي مثل هذه المواطن يتمحض اليمان و مما يقوي
الصبر على الحالتين النقل و العقل .
أما النقل فالقرآن و السنة ،أما القرآن فمنقسم إلى قسمين :
أحدهما :بيان سبب إعطاء الكافر و العاصي ،فمن ذلك قوله تعالى :إنما نملي لهم ليزدادوا إثما .
و لول أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة .
و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها .
و في القرآن من هذا كثير .
و القسم الثاني :ابتلء المؤمن بما يلقى كقوله تعالى :أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم ال الذين
جاهدوا منكم .
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء و الضراء و زلزلوا .
أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم ال الذين جاهدوا منكم .
و في القرآن من هذا كثير .
و أما السنة فمنقسمة إلى قول و حال .
أما الحال :فإنه صلى ال عليه و سلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه ،فبكى عمر رضي
ال عنه .و قال :كسرى و قيصر في الحرير و الديباج ،فقال له صلى ال عليه و سلم :أفي شك أنت يا
عمر ؟ أل ترضى أن تكون لنا الخرة و لهم الدنيا .
أما القول فقوله عليه الصلة و السلم :لو أن الدنيا تساوي عند ال جناح بعوضة ما سقى كافرا منها
شربة ماء .
و أما العقل :فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود ،منها أن يقول :قد ثبت عندي الدلة القاطعة على حكمة
المقدر . .فل أترك الصل الثابت لما يظنه الجاهل خلل .
و منها أن يقول :ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى ،و ما قد أثر
عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى ،لن ذلك البسط يوجب عقابا طويلً ،و هذا القبض يؤثر
انبساطا في الجر جزيلً ،فزمان الرجلين ينقضي عن قريب و المراحل تطوى و الركبان في الحثيث .
و منها أن يقول :قد ثبت أن المؤمن بال كالجير ،و أن زمن التكليف كبياض نهار ،و ل ينبغي
للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب ،بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل ،فإذا فرغ تنظف و لبس
أجود ثيابه ،فمن ترفه وقت العمل ندم وقت تفريق الجرة ،و عوقب على التواني فيما كلف ،فهذه النبذة
تقوي أزر الصبر .
و أزيدها بسطا فأقول :أترى إذا أريد اتخاذ شهداء ،فكيف ل يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل
المؤمنين ،أفيجوز أن يفتك بعمر إل مثل أبي لؤلؤة ؟ و بعلي مثل ابن ملجم :أفيصح أن يقتل يحيى بن
زكريا إل جبار كافر ،و لو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا ،لرأيت المسبب ل السباب ،و المقدر ل
القدار ،فصبرت على بلئه ،إيثارا لما يريد ،و من ههنا ينشأ الرضى .
كما قيل لبعض أهل البلء :ادع ال بالعافية ،فقال :أحبه إلي أحبه إلى ال عز وجل .
فسلم ال على وسني إن كان رضاكم في سهري
ما زال جماعة من المتزهدين يزرون على كثير من العلماء إذاانبسطوا في مباحات .و الذي يحملهم
على هذا الجهل .فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم .و هذا لن الطياع ل تتساوى ،قرب شخص
يصلح على خشونة العيش ،و اخر ل يصلح على ذلك ،و ل يجوز لحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو
.
غير أن لنا ضابطا هو الشرع ،فيه الرخصة و فيه العزيمة .فل ينبغي أن يلم من حصر نفسه في ذلك
الضابط .و رب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها .
و لو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة با ال فتنبت القلوب من خوفه ،و تنحل الجسام للحذر
منه فوجب التلطف بالجسام حفظا لقوة الراحة .
و لن آلة العلم و الحفظ :القلب و الفكر ،فإذا رفهت للة جاد العمل ،و هذاأمر ل يعلم إل بالعلم .
فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا ،و ظنوا أن المراد إتعاب البدان ،و إنضاء الرواحل ،و
ما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى راحة مقاومة ،كما قال القائل :روحوا القلوب تعي الذكر .
ليس في الوجود شيء أشرف من العلم ،كيف ل و هو الدليل ،فإذا عدم و قع الضلل .
و ان من خفي مكايد الشيطان أن يزين في نفس النسان التعبد ليشغله عن أفضل التعبد و هو العلم ،
حتى إنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم و رموها في البحر .و هذا قد ورد عن جماعة .و
أحسن ظني بهم أن أقول :كان فيها شيء من رأيهم و كلمهم فما حبوا انتشاره.
و إل فمتى كان فيها علم مفيد صحيح ل يخاف عواقبه ،كان رميها إضاعة .للمال ل يحل .
و قد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حمل المحابر تلمذتهم .
و حتى قال جعفر الخلدي :لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا ،كتبت مجلسا عن أبي العباس
الدوري فلقيني بعض الصوفية فقال [ :دع علم الورق ،و عليك بعلم الخرق ] .
و رأيت محبرة مع بعض الصوفية .فقال له صوفي آخر [ :استر عورتك ] ـ و قد انشدوا للشبلي :
برزت عليهم بعلم الخرق إذا طالبوني بعلم الورق
و هذا من خفي حيل إبليس ،و لقدصدق عليهم إبليس ظنه ،و إنما فعل و زينة عندهم لسببين :
أحدهما :أنه أرادهم يمشون في الظلمة .
و الثاني :أن تصفح العلم كل يوم يزيد في العالم .و يكشف له ما كان خفي عنه ،و يقوي إيمانه و
معرفته ،و يريه عيب كثير من مسالكه ،إذا تصفح منهاج الرسول صلى ال عليه و سلم ،و الصحابة .
فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة ،فأظهر أن المقصود العمل ،ل العلم لنفسه ،و خفي على
المخدوع أن العلم عمل و أي عمل .
فاحذر من هذه الخديعة الخفية ،فإن العلم هو الصل العظم ،و النور الكبر .
و ربما كان تقليب الوراق أفضل من الصوم و الصلة ،و الحج و الغزو .
و كم من معرض عن العلم يخوض في عذاب من الهوى في تعبده ،و يضيع كثيرا من الفرض بالنقل ،
و يشتغل بما يزعمه الفضل عن الواجب .
و لو كانت عنده شعلة من نور العلم ل هتدى ،فتأمل ما ذكرت لك ترشد إن شاء ال تعالى .
مر بي حمالن جذع ثقيل ،و هما يتجاوبان بانشاد النغم ،و كلمات الستراحة .
فأحدهما يصغى إلى ما يقوله الخر ثم يعيده أو يجيبه بمثله ،و الخر همته مثل ذلك .
فرأيت أنهما لو لم يفعل هذا زادت المشقة عليهما ،و ثقل المر ،و كلما فعل هذا هان المر .
فتأملت السبب في ذلك ،فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما يقوله الخر ،و طربه به ،و إحالة فكره في
الجواب بمثل ذلك ،فينقطع الطريق ،و ينسى ثقل المحمول .
فأخذت من هذا إشارة عجيبة ،و رأيت النسان قد حمل من التكليف أمورا صعبة ،و من أثقل ما حمل
مداراة نفسه ،و تكليفها الصبر عما تحب ،و على ماتكره .فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية و
التلطف للنفس ،كما قال الشاعر :
ضوء الصباح و عدها بالروح ضحى فإن تشكت فعللها المجرة من
و من هذا ما يحكى عن بشر الحافي رحمه ال عليه ،سار و معه رجل في طريق فعطش صاحبه ،فقال
له :نشرب من هذا البئر ؟ فقال بشر :اصبر إلى البئر الخرى ،فلما و صل إليها قال له :البئر الخرى .
فما زال يعلله . . .ثم التفت إليه فقال له [ :هكذا تنقطع الدنيا ] .
و من فهم هذا الصل علل النفس و تلطف بها و وعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت ،كما كان
بعض السلف يقول لنفسه :و ال ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إل الشفاق عليك .
و قال أبو يزيد رحمه ال عليه :ما زلت أسوق نفسي إلى ال تعالى و هي تبكي حتى سقتها و هي
تضحك .
و اعلم أن مداراة النفس و التلطف بها لزم ،و بذلك ينقطع الطريق ،فهذا رمز إلى الشارة ،وشرحه
يطول .
تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ ،يعتقدها العوام و جهال العلماء قربة و هي منكر و بعد .
و ذاك أن المقرئ يطرب و يخرج اللحان إلى الغناء ،و الواعظ ينشد بتطريب أشعار المجنون و ليلى ،
فيصفق هذا ،و يخرق ثوبه هذا ،و يعتقدون أن ذلك قربة و معلوم أن هذه اللحان كالموسيقى ،توجب
طربا للنفوس و نشوة ،فالتعرض بما يوجب الفساد غلط عظيم .
و ينبغي الحتساب على الوعاظ في هذا ،و كذلك المقابريون منهم فإنهم يهيجون الحزان ليكثر بكاء
النساء ،فيعطون على ذلك الجرة .
و لو أنهم أمروا بالصبر لم ترد النسوة ذلك ،و هذه أضداد للشرع .
قال ابن عقيل [ :حضرنا عزاء رجل قد مات ،فقرأ المقرئ :يا أسفى على يوسف فقلت له [ :هذه
نياحة بالقرآن ] .
و في الوعاظ من يتكلم على طريق المعرفة و المحبة ،فترى الحائك و السوقي الذي ل يعرف فرائض
تلك الصلة يمزق أثوابه دعوى لمحبة ال تعالى .
و الصافي حالً منهم ـ و هو أصلحهم ـ يتخايل بوهمه شخصا هو الخالق فيبكيه شوقه إليه لما يسمع
من عظمته و رحمته و جماله .
و ليس ما يتخايلونه المعبود ،لن المعبود ل يقع في خيال .
و بعد هذا فالتحقيق مع العوام صعب ،و ل يكادون ينتفعون بمر الحق إل أن الواعظ مأمور بأل يتعدى
الصواب ،و ل يتعرض لما يفسدهم ،بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه ،و هذا يحتاج إلى صناعة ،
فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ ،و منهم من يعجبه الشارة ،و منهم من ينقاد ببيت من الشعر .
و أحوج الناس إلى البلغة الواعظ ليجمع مطالبهم ،لكنه ينبغي أن ينظر في اللزم الواجب ،و أن
يعطيهم من المباح في اللفظ ،قدر الملح في الطعام ،ثم يجتذبهم إلى العزائم ،و يعرفهم الطريق الحق .
و قد حضر أحمد بن حنبل ،فسمع كلم الحارث المحاسبي فبكى ،ثم قال [ :ل يعجبني الحضور ] ،و
إنما بكى لن الحال أوجبت البكاء .
و قد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص ،فينهون عن الحضور عندهم .
و هذا على الطلق ل يحسن اليوم ،لنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم ،فرأوا حضور
القصص صادا لهم ،و اليوم كثر العراض عن العلم ،فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ ،يرده عن ذنب ،و
يحركه إلى توبة ،و إنما الخلل في القاص ،فليتق ال عز وجل .
من أضر الشياء على العوام كلم المتأولين ،و النفاة للصفات و الضافات فإن النبياء عليهم الصلة و
السلم بالغوا في الثبات ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق ،فإن النفوس تأنس بالثبات ،فإذا سمع
العامي ما يوجب النفي ،طرد عن قلبه الثبات ،فكأن أعظم ضرر عليه ،و كان هذا المنزه من العلماء
على زعمه ،مقاما لثبات النبياء عليهم الصلة و السلم بالمحو و شارعا في إبطال ما يفتون به .
و بيان هذا أن ال تعالى أخبر باستوائه على العرش ،فأنست النفوس إلى إثبات الله و وجوده ،قال
تعالى :و يبقى وجه ربك و قال تعالى :بل يداه مبسوطتان و قال غضب ال عليهم رضي ال عنهم و
أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ،و قال [ :قلوب العباد بين أصبعين ] ،و قال :كتب التوراة بيده ،و
كتب كتابا فهو عنده فوق العرش ،إلى غير ذلك مما يطول ذكره .
فإذا امتل العامي و الصبي من الثبات ،و كاد يأنس من الوصاف بما يفهمه الحس ،قيل له :ليس
كمثله شيء فمحا من قلبه ما نقشه الخيال ،و تبقى ألفاظ الثبات متمكنة .
و لهذا أقر الشرع مثل هذا ،فسمع منشدا يقول :و فوق العرش رب العالمين ،فضحك .
و قال له آخر :أو يضحك ربنا ؟ فقال :نعم .و قال :إنه على عرشه هكذا .كل هذا ليقرر الثبات في
النفوس .
و أكثر الخلق ل يعرفون الثبات إل على ما يعلمون من الشاهد ،فيقنع منهم بذلك إلى أن يفهموا التنزيه
.
فأما إذا ابتدئ بالعامي الفارغ من فهم الثبات ،فقلنا :ليس في السماء و ل على العرش ،و ل يوصف
بيد ،و كلمه صفة قائمة بذاته ،و ليس عندنا منه شيء ،و ل يتصور نزوله ،انمحى من قلبه تعظيم
المصحف ،و لم يتحقق في سره إثبات إله .
هذه جناية عظيمة على النبياء ،توجب نقض ما تعبوا في بيانه ،و ل يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة
عامي قد أنس بالثبات فيهوشها ،فإنه يفسده و يصعب صلحه .
فأما العالم فإنا قد أمناه لنه ل يخفي عليه استحالة تجدد صفة ال تعالى ،و أنه ل يجوز أن يكون
استوى كما يعلم ،و ل يجوز أن يكون محمولً ،و ل يوصف بملصقة و مس ،و ل أن ينتقل .
ل يخفي عليه أن المراد بتقليب القلوب بين أصبعين العلم بالتحكم في القلوب فإن ما يديره النسان
بين أصبعين هو متحكم فيه إلى الغاية .
و ل يحتاج إلى تأويل من قال :الصبع الثر الحسن ،فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية ،و هما :
القامة ،و الزاغة .
و ل إلى تأويل من قال :يداه نعمتاه ،لنه إذا فهم أن المقصود الثبات و قد حدثنا بما نعقل ،و ضربت
لنا المثال بما نعلم ،و قد ثبت عندنا بالصل المقطوع به أنه ل يجوز عليه ما يعرفه الحس ،علمنا
المقصود بذكر ذلك .
و أصلح ما نقول للعوام :أمروا هذه الشياء كما جاءت ،و ل تتعرضوا لتأويلها ،بل ذلك يقصد به
حفظ الثبات ،و هذا الذي قصده السلف .
و كان أحمد يمنع من أن يقال :لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ،كل ذلك ليحمل على التباع ،و
تبقى ألفاظ الثبات على حالها .
و أجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى ال عليه و سلم تعظيمه ،فأضعف في النفوس قوى
التعظيم .
قال النبي صلى ال عليه و سلم :ل تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ـ يشير إلى المصحف ـ .
و منع الشافعي أن يحمله المحدث بعلقته تعظيما له .
فإذا جاء متحذلق فقال :الكلم صفة قائمة بذات المتكلم فمعنى قوله هذا أن ما ههنا شيء يحترم ،فهذا
قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع .ينبغي أنم يفهم أوضاع الشعر و مقاصد النبياء عليهم الصلة و
السلم ،و قد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع ،فنهى رسول ال صلى ال عليه و سلم عن الكلم في
القدر و نهى عن الختلف ،لن هذه الشياء تخرج إلى ما يؤذي فإن الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى
أن يقول :قضى و عاقب ،تزلزل إيمانه بالعدل .
و إن قال :لم يقدر و لم يقض .تزلزل بالقدرة ،و الملك ،فكان الولى ترك الخوض في هذه الشياء .
و لعل قائلً يقول :هذا منع لنا عن الطلع على الحقائق ،و أمر بالوقوف مع التقليد .
فأقول :ل ،إنما أعلمك أن المراد منك اليمان بالجمل ،و ما أمرت بالتنقير مع أن قوى فهمك تعجز
عن إدراك الحقائق .
فإن الخليل عليه الصلة و السلم قال :أرني كيف تحي ،فأراه ميتا حي و لم يره كيف أحياه ،لن قواه
تعجز عن إدراك ذلك .
و قد كان النبي صلى ال عليه و سلم و هو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم ،يقنع من الناس
بنفس القرار و اعتقاد الجمل .
كذلك كانت الصحابة ،فما نقل عنهم إنهم تكلموا في تلوة و متلو ،و قراءة و مقروء ،و ل إنهم قالوا
استوى بمعنى استولى ،و يتنزل بمعنى يرحم .
بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس ،و كفوا كف الخيال بقوله :ليس كمثله شيء .
ثم هذا منكر و نكير إنما يسألن عن الصول المجملة فيقولن :من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ .
و من فهم هذا الفصل سلم من تشبيه المجسمة ،و تعطيل العطلة ،و وقف علىجادة السلف الول ،و
ال الموفق .
قرأت هذه الية :قل أرأيتم إن أخذ ال سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم من إله غير ال يأتيكم به
فلحت لي فيها إشرة كدت أطيش منها .
و ذلك أنه إن كان عني بالية نفس السمع و البصر ،فإن السمع آلة لدراك المسموعات ،و البصر آلة
لدراك المبصرات ،فهما يعرضان ذلك على القلب ،فيتدبر ،و يعتبر .
فإذا عرضت المخلوقات على السمع و البصر ،أوصل إلى القلب أخبارها من أنها تدل على الخالق ،و
تحمل على طاعة الصانع ،و تحذر من بطشه عند مخالفته .
و إن عنى معنى السمع و البصر ،فذلك يكون بذهولها عن حقائق ما أدركا ،شغل بالهوى ،فيعاقب
النسان بسلب معاني تلك اللت ،فيرى و كأنه ما رأى ،و يسمع كأنه ما سمع ،و القلب ذاهل عما يتأدى
به ل يدري ما يراد به ،ل يؤثر عنده أنه يبلى ،و ل تنفعه موعظة تجلى ،و ل يدري أين هو ،و ل ما
المراد منه ،و ل إلى أين يحمل ،و إنما يلحظ بالطبع مصالح عاجلته و ل بتفكر في خسران آجلته ،ل
يتعبر برفيقه ،و ل يتعظ بصديقه ،و ل يتزود لطريقة كما قال الشاعر :
و ما يفيقون حتى ينفذ العمر الناس في غفلة و الموت يوقظهم
و ينظرون ما فيه قد قبروا يشيعون أهاليهم بجمعهم
كأنهم ما رأوا شيئا و ل نظروا و يرجعون إلى أحلم غفلتهم
و هذه حالة أكثر الناس ،فنعوذ بال من سلب فوائد اللت ،فإنها أقبح الحالت .
نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق و أسبابه و أدويته و صنفت في ذلك كتابا سميته بذم الهوى .
و ذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا :سبب العشق حركة نفس فارغة ،و أنهم اختلفوا .
فقال قوم منهم :ل يعرض العشق إل لظراف الناس .
و قال آخرون :بل لهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق .
إل أنه خطر لي بعد ذلك معنى عجيب أشرحهه ههنا :
و هو أنه ل يتمكن العشق إل مع واقف جامد .فأما أرباب صعود الهمم فإنها كلما تخايلت ما توجبه
المحبة فلحت عيوبه لها ،إما بالفكر فيه أو بالمخالطة له ،تسلت أنفسهم و تعلقت بمطلوب آخر .
فل يقف على درجة العشق الموجب للتمسك بتلك الصورة ،العامي عن عيوبها ،إل جامدا واقفا .
و أما أرباب النفة من النقائص ،فإنهم أبدا في الترقي ،ل يصدهم صاد ،فإذا علقت الطباع محبة
شخص لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر ،بل ربما مالوا ميلً شديدا إما في البداية لقلة التفكر أو لقلة
المخالطة و الطلع على العيوب ،و إما لتشتت بعض الخلل الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت
بين الشخصين ،كالظريف مع الظريف ،و الفطن مع الفطن ،فيوجب ذلك المحبة .
فأما العشق فل فهم أبدا في السير فل يوقف وابل الطبع تتبع حادي الفهم ،فإن للطبع متعلقا ل تجده في
الدنيا ،لنه يروم مال يصح وجوده من الكمال في الشخاص ،فإذا تلمح عيوبها نفر .
و أما متعلق القلوب من محبة الخالق البارئ ،فهو مانع لها من الوقوف مع سواء .و إن كانت محبة
ل تجانس محبة المخلوقين ،غير أن أرباب المعرفة ولهى قد شغلهم حبه عن حب غيره .
و صارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب و محبتها كما قالت رابعة :
و أحببيهم من في هواه عيوب أحب حبيبا ل أعاب بحبه
و لقد روي عن بعض فقراء الزهاد أنه مر بإمرأة فأعجبته ،فخطبها إلى أبيها ،فزوجه و جاء به إلى
المنزل و ألبسه غير خلقانه .
فلما جن الليل صاح الفقير :ثيابي ثيابي .فقدت ما كنت أجده ،فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته
على أنه منحرف عن الجادة .
و إنما تعتري هذه الحالت أرباب المعرفة بال عز وجل و أهل النفة من الرذائل .
و قد قال ابن مسعود [ :إذا أعجبت أحدكم إمرأة فليتذكر مثانتها ] .
و مثال هذه الحال أن العقل يغيب عند استحلء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم و
بلعه .
و يذهل عند الجماع عن ملقات القاذورات لقوة غلبة الشهوة ،و ينسى عند بلع الرضاب إستحالته عن
الغذاء ،و في تغطية تلك الحوال مصالح .
إل أن أرباب اليقظة يعتريهم من غير طلب له في غالب أحوالهم ،فينغض لذيذ العيش ،و يوجب النفة
من رذالة الهوى .
و على قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق ،و على قدر جمود الذهن يقوى القلق ،
قال المتنبي :
حسن الذي يسببه لم يسبه لو فكر العاشق في منتهى
و مجموع ما أرادت شرحه ،أن طباع المتيقظين تترقى فل تقف مع شخص مستحسن .
و سبب ترقيها التفكر في نقص ذلك الشخص و عيوبه ،أو في طلب ما هو أهم منه .
و قلوب العارفين تترقى إلى معروفها ،فتعبر في معبر العتبار .
فأما أهل الغفلة فجمودهم في الحالتين ،و غفلتهم عن المقامين ،يوجب أسرهم و قسرهم و حيرتهم .
قرأت من غرائب العلم ،و عجائب الحكم ،على بعض من يدعي العلم ،فرأيته يتلوى من سماع ذلك ،
و ل يطلع على غوره ،و ل يشرئب إلى ما يأتي ،فصدفت عن إسماعه شيئا آخر و قلت :إنما يصلح مثل
هذا الذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء .
ثم أخذت من هذه إشارة هي أنه لو كان هذا يفهم ما جرى و مدحني لحسن ما صنعت لعظم قدره
عندي ،و لريته محاسن مجموعاتي و كلمي .و لكنه لما لم أره لها أهلً صرفتها عنه ،و صدفت
بنظري إليه .
و كانت الشارة :أن ال عز وجل ،قد صنف هذه المخلوقات فأحسن التركيب ،و أحكم الترتيب ،ثم
عرضها على اللباب ،فأي لب أو غل في النظر مدح على قدر فهمه فأحبه المصنف ،و كذلك أنزل القرآن
يحتوي على عجائب الحكم ،فمن فتشه بيد الفهم .و حادثة في خلوة الفكر ،استجلب رضى المتكلم به و
حظي بالزلفى لديه .
و من كان للذهن مستغرق الفهم بالحسيات ،صرف عن ذلك المقام .قال ال عز وجل :سأصرف عن
آياتي الذين يتكبرون في الرض بغير الحق .
دعوت يوما فقلت :اللهم بلغني آمالي من العلم و العمل ،و أطل عمري لبلغ ما أحب من ذلك .
فعارضني وسواس من إبليس ،فقال :ثم ماذا ؟ أليس الموت ؟ فما الذي ينفع طول الحياة ؟ .
فقلت له :يا أبله :لو فهمت ما تحت سؤالي علمت أنه ليس بعبث .
أليس في كل يوم يزيد علمي و معرفتي فتكثر ثمار غرسي ،فأشكر يوم حصادي ؟ .
أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة ؟ ل و ال ،لني ما كنت أعرف ال تعالى عشر معرفتي به اليوم .
كل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية ،و ارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع
البصيرة ،و اطلعت على علوم زاد بها قدري ،و تجوهرت بها نفسي .
ثم زاد غرسي لخرتي ،و قويت تجارتي في إنفاذ المباضعين من المتعلمين و قد قال ال لسيد
المرسلين :و قل رب زدني علما .
و في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه و سلم أنه قال :ل
يزيد المؤمن عمره إل خيرا .
و في حديث جابر بن عبد ال رضي ال عنهما ،قال رسول ال صلى ال عليه و سلم :إن من السعادة
أن يطول عمر العبد و يرزقه ال عز وجل النابة .
فيا ليتني قدرت على عمر نوح ،فإن العلم كثير ،و كلما حصل منه حاصل رفع و نفع .
قلوب العارفين يغار عليها من السباب و إن كانت ل تساكنها لنها لما إنفردت لمعرفتها أنفرد لها بتولي
أمورها .
فإذا تعرضت بالسباب محى أثر السباب :و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا .
و تأمل في حال يعقوب و حذره على يوسف عليهم السلم ،حتى قال :أخاف أن يأكله الذئب فقالوا :
أكله الذئب .
فلما جاء أوان الفرج ،خرج يهوذا بالقميص فسبقه الريح إني لجد ريح يوسف .
و كذلك قول يوسف عليه السلم للساقي :اذكرني عند ربك فعوقب بأن لبث سبع سنين ،و إن كان
يوسف عليه السلم يعلم أنه ل خلص إل بإذن ال ،و أن التعرض بالسباب مشروع ،غير أن الغيرة
أثرت في العقوبة .
و من هذا قصة مريم عليها السلم و كفلها زكريا فغار المسبب من مساكنة السباب كلما دخل عليها
زكريا المحراب وجد عندها رزقا .
و من هذا القبيل ما يروى عن النبي صلى ال عليه و سلم أنه قال :أبى ال أن يرزق عبده المؤمن إل
من حيث ل يحتسب .
و السباب طريق ،و ل بد من سلوكها .و العارف ل يساكنها غير أنه يجلي له من أمرها ما ل يجلي
لغيره ،من أنها ل تساكن ،و ربما عوقب إن مال إليها و إن كان ميلً ل يقبله ،غير أن أقل الهفوات
يوجب الدب ،و تأمل عقبي سليمان عليه السلم لما قال [ :لطوقن الليلة على مائة إمرأة ،تلد كل واحدة
منهن غلما و لم يقل :إن شاء ال ،فما حملت إل واحدة جاءت بشق غلم ] .
و لقد طرقني حالة أوجبت التشبث ببعض السباب إل أنه كان من ضرورة ذلك لقاء بعض الظلمة ،و
مداراته بكلمة .فبينا أنا أفكر في تلك الحال دخل علي قارئ فاستفتح فتفاءلت بما يقرأ فقرأ و ل تركنوا إلى
الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون ال من أولياء ثم ل تنصرون .
فبهت من إجابتي على خاطري ،و قلت لنفسي :إسمعي فإنني طلبت النصر في هذه المداراة فأعلمني
القرآن أنني إذا ركنت إلى ظالم فاتنى ما ركنت لجله من النصر .
فيا طوبى لمن عرف المسبب و تعلق به ،فإنها الغاية القصوى ،فنسأل ال أن يرزقنا .
المؤمن ل يبالغ في الذنوب و إنما يقوى الهوى و تتوقد نيران الشهوة فينحدر .
و له مداد ل يعزم المؤمن على مواقعته ،و ل على العود بعد فراغه .و ل يستقصي في النتقام إن
غضب ،و ينوي التوبة قبل الزلل .
و تأمل إخوة يوسف عليهم السلم فإنهم عزموا على التوبة قبل إبعاد يوسف فقالوا :اقتلوا يوسف ثم
زاد ذلك تعظيما فقالوا :أو اطرحوه أرضا ثم عزموا على النابة فقالوا :و تكونوا من بعده قوما صالحين
.فلما خرجوا إلى الصحراء هموا بقتله بمقتضى ما في القلوب من الحسد .
فقال كبيرهم :ل تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجب و لم يرد أن يموت بل يلتقطه بعض السيارة ،
فأجابوا إلىذلك .
و السبب في هذه الحوال أن اليمان على حسب قوته ،فتارة يردها عند الهم ،و تارة يضعف فيردها
عند العزم ،و تارة عن بعض الفعل ،فإذا غلبت الغفلة ،و واقع لذنب ،فتر الطبع ،فنهض اليمان
للعمل ،فينغص بالندم أضعاف ما التذ .
أفضل الشياء التزيد من العلم ،فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافيا استبد برأيه ،و صار تعظيمه
لنفسه مانعا له من الستفادة .و المذاكرة تبين له خطأه ،و ربما كان معظما في النفوس فلم يتجاسر على
الرد عليه .
و لو أنه أظهر الستفادة لهديت إليه مساويه فعاد عنها .
و لقد حكى ابن عقيل عن أبي المعالي الجويني أنه قال [ :إن ال تعالى يعلم جمل الشياء و ل يعلم
التفاصيل ] ،و ل أدري أي شبهة وقعت ،في وجه هذا المسكين حتى قال هذا .
و كذلك أبا حامد حين قال :النزول التنقل ،و الستواء مماسة ـ و كيف أصف هذا بالفقه ،أو هذا
بالزهد ،و هو ل يدري ما يجوز على ال مما ل يجوز .
و ل أنه ترك تعظيم نفسه لرد صبيان الكتاب رأيه عليه ،فبان له صدقهم .
و من هذا الفن أبو بكر بن مقسم :فإنه عمل كتاب الحتجاج للقراء ،فأتى فيه بفوائد ،إل أنه أفسد
علمه بإجازته أن يقرأ بما لم يقرأ به ،ثم تفاقم ذلك منه حتى أجاز ما يفسد المعنى ،مثل قوله تعالى :
فلما استيأسوا منه خلصوا .فقال :يصلح أن يقال هنا نجيا أي خلصوا كراما براد من السرقة .
و هذا سوء فهم للقصة ،فإن الذي نسب إلى السرقة فظهرت معه ما خلص ،فما الذي ينفع خلصهم ؟
و إنما سيقت القصة ليبين أنهم انفردوا و تشاوروا فيما يصنعون ،و كيف يرجعون إلى أبيهم و قد
احتبس أخوهم .
فأي وجه للنجاة ها هنا ؟
و من تأمل كتابه رأى فيه من هذا الجنس ما يزيد على الحصاء من هذا الفن القبيح ،و لو أنه أصغى
إلىعلماء وقت ،و ترك تعظيم نفسه لبان له الصواب ،غير أن إقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع
رؤية للنفس حبس عن إدراك الصواب نعوذ بال من ذلك .
تأملت قوله عز وجل :يمنون عليك أن أسلموا قل ل تمنوا علي إسلمكم بل ال يمن عليكم أن هداكم
لليمان فرأيت فيه معنى عجيبا .
و هو أنهم لما و هبت لهم العقول فتدبروا بها عيب الصنام ،و علموا أنها ل تصلح للعبادة ،فوجهوا
العبادة إلى من فطر الشياء ،كانت هذه المعرفة ثمرة العقل الموهوب الذي به باينوا البهائم .
فإذا آمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب ،فقد جهلوا قدر الموهوب ،و غفلوا عن وهب .
و أي شيء لهم في الثمرة و الشجرة ليس ملكا لهم ؟
فعلى هذا كل متعبد و مجتهد في علم إنما رأى بنور اليقظة ،و قوة الفهم و العقل صوابا ،فوقع على
المطلوب ،فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلم الطبع القبس .
و من هذا الفن حديث الثلثة الذين دخلوا الغار ،فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار ،فقالوا :
تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا ،فقال كل منهم :فعلت كذا وكذا .و هؤلء إن كانوا لحظوا نعمة الواهب
للعصمة عن الخطأ فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم ،فبه
توسلواإليه .
و إن كانوا ل حظوا أفعالهم ،فلمحوا جزاءها ظنا منهم أنهم هم الذين فعلوا فهم أهل غيبة ل حضور .
و يكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة .
و مثل هذا رؤية المتقي تقواه حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق .
و ربما احتقر أهل المعاصي و تشمخ عليهم .و هذه غفلة عن طريق السلوك ،و ربما أخرجت .
و ل أقول لك خالط الفساق احتقارا لنفسك .بل أغضب عليهم في الباطن و أعرض عنهم في الظاهر .
ثم تلمح جريان القدار عليهم .فأكثرهم ل يعرف من عصى .
و جمهورهم ل يقصد العصيان ،بل يريد موافقة هواه ،و عزيز عليه أن يعصي .و فيهم من غلب
تلمح العفو و الحلم فاحتقر ما يأتي لقوة يقينه بالعفو .
و هذه كلها ليست بأعذار لهم ،و لكن تلمحه أنت يا صاحب التقوى ،و اعلم أن الحجة عليك أوفى من
الحجة عليهم ،لنك تعرف من تعصى ،و تعلم ما تأتي .
بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين فربما دارت الدائرة فصرت المنقطع و وصل المقطوع .
فالعجب ممن يدل بخير عليه ،و ينسى من أنعم و وفق .
اعلم أن شرعنا مضبوط الصول ،محروس القواعد ،ل خلل فيه و ل دخل ،و كذلك كل الشرائع .
إنما الفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال .
مثل ما أثر عند النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلم فتأملوا الخارق للعادة
الذي ل يصلح للبشر ،فنسبوا الفاعل إلى اللهية .
و لو تأمل ذاته لعلموا أنها مركبة على النقائص و الحاجات ،و هذا القدر يكفي في عدم صلح إلهية ،
فيعلم حينئذ ما جرى على يديه فعل غيره .
وقد يؤثر ذلك في الفروع .مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر فزادوه عشرين يوما ،ثم
جعلوه في فصل من السنة بآرائهم .
و من هذا الجنس تخبيط اليهود في الصول و الفروع ،و قد قارب الضلل في أمتنا هذه المسالك ،و
إن كان عمومهم قد حفظ من الشرك و الشك و الخلف الظاهر الشنيع لنهم أعقل المم و أفهمها .
غير أن الشيطان قارب بهم و لم يطمع في إغراقهم ،و إن كان قد أغرق بعضهم في بحار الضلل .
فمن ذلك أن الرسول صلى ال عليه و سلم :جاء بكتاب عزيز من ال عز وجل قيل في صفته :ما فرطنا
في الكتاب من شيء و بين ما عساه بشكل مما يحتاج إلى بيانه بسنته كما قيل له :لتبين للناس ما نزل
إليهم فقال بعد البيان :تركتكم على بيضاء نقية .فجاء أقوام فلم يقنعوا بتبيينه ،و لم يرضوا بطريقة
أصحابه ،فبحثوا ثم إنقسموا .
فمنهم :من تعرض لما تعب الشرع في إثباته في القلوب فمحاه منها ،فإن القرآن و الحديث يثبتان
الله عز وجل بأوصاف تقرر وجوده في النفوس كقوله تعالى :استوى على العرش و قوله تعالى :بل
يداه مبسوطتان و قوله تعالى و لتصنع على عيني و قول النبي صلى ال عليه و سلم :ينزل ال إلى
السماء الدنيا و يبسط يده لمسيء الليل و النهار ،و يضحك و يغضب .
كل هذه الشياء ـ و إن كان ظاهرا يوجب تخايل التشبيه ،فالمراد منها إثبات موجود فلما علم الشرع
ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها ،قطع ذلك بقوله :ليس كمثله شيء .
ثم إن هؤلء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز الكبر ،و قد قصد الشرع تقرير وجوده فقال :إنا
أنزلناه نزل به الروح المين فذرني و من يكذب بهذا الحديث و هذا كتاب أنزلناه و أثبته في القلوب بقوله
تعالى :في صدور الذين أوتوا العلم و في المصاحف قوله تعالى :في لوح محفوظ و قول رسول ال صلى
ال عليه و سلم :ل تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو .
فقال قوم من هؤلء :مخلوق فأسقطوا حرمته من النفوس ،و قالوا :لم ينزل ،و ل يتصور نزوله و
كيف تنفصل الصفة عن الموصوف ،و ليس في المصحف إل حبر و ورق ؟ فعادوا على ما تعب الشرع
في إثباته بالمحو .
كما قالوا :إن ال عز وجل ليس في السماء ،و ل يقال إستوى على العرش .و ل ينزل إلى السماء
الدنيا ،بل ذاك رحمته ،فمحوا من القلوب ما أريد إثباته فيها ،و ليس هذا مراد الشرع .
و جاء آخرون فلم يقفوا على ما حده الشرع ،بل عملوا فيه بآرائهم فقالوا :ال على العرش ،و لم
يقنعوا بقوله :ثم استوى على العرش .
و دفن لهم أقوام من سلفهم دفائن ،و وضعت لهم الملحدة أحاديث ،فلم يعلموا ما يجوز عليه ممال
يجوز ،فأثبتوا بها صفاته ،و جمهور الصحيح منها آت على توسع العرب ،فأخذوهم على الظاهر ،
فكانوا في ضرب المثل كجحا فإن أمه قالت له :إحفظ الباب ،فقلعه و مشى به ،فأخذ ما في الدار ،
فلمته أمه .فقال :إنما قلت إحفظ الباب ،و ما قلت إحفظ الدار .
و لما تخايلوا صورة عظيمة على العرش ،أخذوا يتأولون ما ينافي وجودها على العرش ،مثل قوله :
[ و من أتاني يمشي ،أتيته هرولة ] .فقالوا :ليس المراد به دنو القتراب ،و إنما المراد قرب المنزل و
الحظ .
و قالوا في قوله تعالى :إل أن يأتيهم ال في ظلل :هو محمول على ظاهرها في مجيء الذات .فهم
يحلونه عاما و يحرمونه عاما .
و يسمون الضافات إلى ال تعالى صفات ،فإنه قد أضاف إليه النفخ و الروح .
و أثبتوا خلقه باليد ،فلو قالوا خلقه لم يمكن إنكار هذا بل قالوا هي صفة تولى بها خلق آدم دون غيره
.
فأي مزية كانت تكون لدم ؟
فشغلهم النظر في فضيلة آدم ،عن النظر إلى ما هو يليق بالحق مما ل يليق به .
فإنه ل يجوز عليه المس ،و ل العمل باللت ،و إنما آدم أضافه إليه ،فقالوا :نطلق على ال تعالى
إسم الصورة لقوله :خلق آدم على صورته .
و فهموا هذا الحديث و هو قوله عليه السلم :إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ،و ل يقل قبح ال
وجهك و ل وجها أشبه وجهك ،فإن ال خلق آدم على صورته .
فلو كان المراد به ال عز وجل لكان وجه ال سبحانه يشبه وجه هذا المخاصم لن الحديث كذا جاء ـ
و ل وجها أشبه وجهك ـ و رووا حديث خولة بنت حكيم :و إن آخر وطئة وطئها ال بوج و ما علموا
النقل و ل السير و قول الرسول صلى ال عليه و سلم :اللهم أشدد وطأتك على مضر ،و أن المراد به
آخر وقعة قاتل فيها المسلمون بوج ،و هي غزاة حنين .فقالوا :نحمل الخبرعلى ظاهره ،و أن ال
وطئ ذلك المكان .
و ل شك أن عندهم أن ال تعالى كان في الرض ثم صعد إلى السماء ،و كذلك قالوا في قوله إن ال ل
يمل حتى تملوا قالوا :يجوز أن ال يوصف بالملل فجهلوا اللغة و ما علموا أنه لو كانت حتى ههنا للغاية
لم تكن بمدح لنه إذا مل حين يمل فأي مدح ،و إنما هو كقول الشاعر :
ل يمل الشر حتى يملوا جلبت مني هزيل بخرق
و المعنى ل يمل و إن ملوا .
و قالوا في قوله عليه الصلة السلم :الرحم شجنة من الرحمن تتعلق بحقوي الرحمن .فقالوا ـ
الحقوا ـ صفة ذات و ذكروا أحاديث لو رويت في نقض الوضوء ما قبلت .
و عمومها وضعته الملحدة كما يروى عن عبد ال بن عمرو .و قال [ :خلق ال الملئكة من نور
الذراعين و الصدر ] فقالوا :نثبت هذا على ظاهره .ثم أرضوا العوام بقولهم :و ل نثبت جوارح ،فكأنهم
يقولون فلن قائم و ما هو قائم .
فاختلف قولهم هل يطلق على ال عز وجل إنه جالس أو قائم كقوله تعالى :قائما بالقسط .
و هؤلء أخس فهما من جحا لن قوله قائما بالقسط ل يراد به القيام و إنما هو كما يقال :المير قائم
بالعدل .
و إنما ذكرت بعض أقوالهم لئل يسكن إلى شيء منها .فالحذر من هؤلء عبادة .
و إنما الطريق طريق السلف .على أنني أقول لك قد قال أحمد بن حنبل رحمه ال عليه [ من ضيق علم
الرجل أن يقلد في دينه الرجال ] .
فل ينبغي أن تسمع من معظم في النفوس شيئا في الصول فتقلده فيه .
و لو سمعت عن أحدهم ما ل يوافق الصول الصحيحة فقل :هذا من الراوي ،لنه قد ثبت عن ذلك
المام أنه ل يقول بشيء من رأيه .
فلو قدرنا صحته عنه فإنه ل يقلد في الصول و ل أبوبكر و ل عمر رضي ال عنهما .
فهذا أصل يجب البناء عليه فل يهولنك ذكر معظم في النفوس .
و كان المقصود من شرح هذا أن ديننا سليم ،و أنما أدخل أقوام فيه ما تأذينا به .
و لقد أدخل المتزهدون في الدين ما ينفر الناس ،حتى إنهم يرون أفعالهم فيستعبدون الطريق .
و أكثر أدلة هذه الطريق القصاص ،فإن العامي إذا دخل إلى مجلسهم و هو ل يحسن الوضوء كلموه
بدقائق الجنيد ،و إرشادات الشبلي .فرأى ذلك العامي أن الطريق الواضح لزوم زاوية و ترك الكسب
للعائلة و مناجاة الحق في خلوة على زعمه .
مع كونه ل يعرف أركان الصلة ،و ل أدبه العلم ،و ل قوم أخلقه شيء من مخالطة العلماء .
فل يستفيد من خلوته إل كما يستفيد الحمار من الصطبل.
فأن امتد عليه الزمان في تقلله زاد يبسه فربما خايلت له الماليخوليا أشباحا يظنهم الملئكة ثم يطأطئ
رأسه ،و يمد يده للتقبيل .
فكم قد رأينا من أكار ترك الزرع و قعد في زاوية ،فصار إلى هذه الحالة فاستراح من تعبه .
فلو قيل له :عد مريضا ،قال :مالي عادة .فلعن ال عادة تخالف الشريعة .
فيرى العامة بما يورده القصاص أن طريق الشرع هذه ،ل التي عليها الفقهاء ،فيقعون في الضلل .
و من المتزهدين من ل يبالي عمل بالشرع أم ل .
ثم يتفاوت جهالهم ،فمنهم من سلك مذهب الباحة و يقول :الشيخ ل يعارض ،و ينهمك في المعاصي
.
و منهم :من يحفظ ناموسه فيفي بغير علم ،لئل يقال :الشيخ ل يدري .
و لقد حدثني الشيخ أبو حكيم رحمه ال :أن الشريف الدحالتي ـ و كان يقصد فيزار و يتبرك به ـ
حضر عنده يوما فسأل أبو حكيم :هل تحل المطلقة ثلثا إذا ولدت ذكرا ؟ قال :
فقلت :ل و ال ،فقال لي الشريف :اسكت فو ال لقد أفتيت الناس بأنها تحل من ههنا إلى البصرة .
و حكى لي الشيخ أبو حكيم :أن جد آذاذ الحداد ،و كان يتوسم بالعلم ،جاءت إليه امرأة فزوجها من
رجل ،و لم يسأل عن انقضاء العدة ،فاعترضها الحاكم و فرق بينها و بين الزوج ،و أنكر على
المزوج ،فلقيته المرأة .فقالت يا سيدي ،أنا امرأة ل أعلم ،فكيف زوجتني ؟ فقال [ دعي حديثهم ،ما
أنت إل طاهرة مطهرة ] .
و حدثني بعض الفقهاء عن رجل من العباد أنه كان يسجد للسهو سنين ،و يقول :و ال ما سهوت ،
و لكن أفعله احترازا ،فقال له الفقيه :قد بطلت صلتك كلها ،لنك زدت سجودا غير مشروع .
ثم من الدخل الذي دخل ديننا طريق المتصرفة فإنهم سلكوا طرقا أكثرها تنافي الشريعة ،و أهل التدين
منهم يقللون و يخففون .
ل كان قريبا من زماني يقال له كثير ،دخل إلى جامع المنصور و قال :
و هذا ليس بشرع ،حتى إن رج ً
عاهدت ال عهدا و نقضته ،فقد ألزمت نفسي أل تأكل أربعين يوما .
فحدثني من رآه أنه بقي عشرة أيام في العشر الرابع ،أشرف على الموت ،قال :فما إنقضت حتى
تفرغ ،فصب في حلقه ماء فسمعنا له نشيشا كنشيش المقلة ،ثم مات بعد أيام .
فأنظروا إلى هذا المسكين و ما فعله به جهلة .
و منهم من فسح لنفسه في كل ما يحب من التنعم و اللذات ،و اقتنع من التصوف بالقميص و الفوطة
و العمامة اللطيفة و لم ينظر من أين يأكل و ل من أين يشرب ،و خالط المراء من أرباب الدنيا ،و لباس
الحرير ،و شراب الخمور ،حفظا لماله و جاهه .
و منهم أقوام سننا لهم تلقوها من كلمات أكثرها ل يثبت .
و منهم من أكب على سماع الغناء و الرقص و اللعب ،ثم إنقسم هؤلء ،فمنهم من يدعي العشق فيه ،
و منهم من يقول بالحلول ،و منهم من يسمع على وجه الهوى و اللعب .
و كل الطريقين يفسد العوام الفساد العام .
و هذا الشرح يطول .و قد صنفت كتبا ترى فيها البسط الحسن إن شاء ال تعالى ،منها [ تلبيس
إبليس ] .
و المقصود أن تعلم أن الشرع تام كامل فإن رزقت فهما له فأنت تتبع الرسول صلى ال عليه و سلم و
أصحابه ،و تترك بنيات الطريق و ل تقلد في دينك الرجال .فإذا فعلت فإنك ل تحتاج إلى وصية أخرى .
و إحذر جمود النقلة ،و إنبساط المتكلمين ،و جموع المتزهدين ،و شره أهل الهوى ،و وقوف
العلماء على صورة العلم من غيل عمل ،و عمل المتعبدين بغير علم .
و من أيده ال تعالى بلطفه ،رزقه الفهم و أخرجه عن ربقة التقليد ،و جعله أمة وحده في زمانه ،ل
يبالي بمن عبث ،و ل يلتفت إلى من لم ،قد سلم زمامه إلى دليله في واضح السبيل .
عصمنا ال و إياكم من تقليد المعظمين ،و ألهمنا إتباع الرسول صلى ال عليه و سلم ،فإنه درة
الوجود ،و مقصود الكون صلى ال عليه و سلم و على آله و أصحابه و أتباعه ،و رزقنا إتباعه مع
أتباعه .
اعلم أن الزمان ل يثبت على حال كما قال عز وجل :و تلك اليام نداولها بين الناس .
فتارة فقر و تارة غنى ،و تارة عز ،و تارة ذل ،و تارة يفرح الخوالي ،و تارة يشمت العادي .
ل واحدا على كل حال ،و هو تقوى ال عز وجل فإنه إن استغنى زانته ،و إن
فالسعيد من لزم أص ً
إفتقر فتحت له أبواب الصبر ،و إن عوفي تمت النعمة عليه ،و إن إبتلى حملته ،و ل يضره إن نزل به
الزمان أو صعد ،أو أعراه أو أشبعه أو أجاعه .
لن جميع تلك الشياء تزول و تتغير .و التقوى أصل السلمة حارس ل ينام ،يأخذ باليد عند العثرة و
يواقف على الحدود .
و المنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى فإنها ستحول و تخلية خاسرا .
و لزم التقوى في كل حال فإنك ل ترى في الضيق إل السعة ،و في المرض إل العافية .هذا نقدها
العاجل .و الجل معلوم .
ل ظريفا ،و هو انهيال البتلء على المؤمن ،و عرض صورة اللذات عليه
تأملت أمرا عجيبا ،و أص ً
مع قدرته على نيلها .و خصوصا ما كان في غير كلفة من تحصيله كمحبوب موافق في خلوة حصينة .
فقلت :سبحان ال ،ههنا يبين أثر اليمان ل في صلة ركعتين .
و ال ما صعد يوسف عليه السلم و ل سعد إل في مثل ذلك المقام ،فبال عليكم يا إخواني ،تأملوا
حاله لو كان وافق هواه ،من كان يكون ؟
و قيسوا بين تلك الحالة ،و حالة آدم عليه السلم ،ثم زنوا بميزان العقل عقبي تلك الخطيئة ،و ثمرة
هذا الصبر ،و اجعلوا فهم الحال عدة لكم عند كل مشتهى .
و إن اللذات لتعرض على المؤمن ،فمتى لقيها في صف حربه و قد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب
هزم .
و كأني أرى الواقع في بعض أشراكها ،و لسان الحال يقول له :قف مكانك ،أنت و ما إخترت لنفسك
.
فغاية أمره الندم و البكاء .
فإن أمن إخراجه من تلك الهوة لم يخرج إل مدهونا بالخدوش .
و كم من شخص زلت قدمه ،فما ارتفعت بعدها .
و من تأمل ذل إخوة يوسف عليهم السلم يوم قالوا :و تصدق علينا عرف شؤم الزلل .
و من تدبر أحوالهم قاس ما بينهم و بين أخيهم من الفروق .و إن كانت توبتهم قبلت ،لنه ليس من
رقع و خاط ،كمن ثوبه صحيح .
و رب عظم هيض لم ينجبر ،فإن جبر فعلى و هي .
فتيقظوا إخواني لعرض المشتبهات على النفوس ،و استوثقوا من لجم الخيل ،و انتبهوا للغيم إذا تراكم
بالصعود إلى تلعة .
فربما مد الوادي فراح بالركب .
تأملت حالة عجيبة ،و هي :أن المؤمن تنزل به النازلة فيدعو ،و يبالغ ،فل يرى أثرا للجابة .
فإذا قارب اليأس نظر حينئذ إلى قلبه ،فإن كان راضيا بالقدار ،غير قنوط من فضل ال عز وجل ،
فالغالب تعجيل الجابة حينئذ ،لن هناك يصلح .اليمان و يهزم الشيطان ،و هناك تبين مقادير الرجال .
و قد أشير إلى هذا في قوله تعالى :حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه :متى نصر ال .
و كذلك جرى ليعقوب عليه السلم فإنه لما فقد ولدا ،و طال المر عليه ،لم ييأس من الفرج ،فأخذ
ولده الخر ،و لم ينقطع أمله من فضل ربه أن يأتيني بهم جميعا .
و كذلك قال زكريا عليه السلم و لم أكن بدعائك رب شقيا .
فإياك أن تستطيل مدة الجابة ،و كن ناظرا إلى أنه المالك ،و إلى أنه الحكيم في التدبير ،و العالم
بالمصالح ،و إلى أنه يريد اختبارك ليبلو أسرارك ،و إلى أنه يريد أن يرى تضرعك ،و إلى أنه يريد أن
يأجرك بصبرك ،إلى غير ذلك .و إلى أنه يبتليك بالتأخير لتجارب وسوسة إبليس .
و كل واحدة من هذه الشياء تقوي الظن في فضله ،و توجب الشكر له ،إذ أهلك بالبلء لللتفاف إلى
سؤاله ،و فقر المضطر إلى اللجأ إليه غنى كله .
•فصل :الغريزة
لما كان بدن الدمي ل يقوم إل باجتلب المصالح و دفع المؤذي ،ركب فيه الهوى ،ليكون سببا لجلب
النافع .و الغضب ليكون سببا لدفع المؤذي .
و لول الهوى في المطعم ،ما تناول الطعام ،فلم يقم بدنه ،فجعل له إليه ميل و توق .
فإذا حصل له قدر ما يقيم بدنه زال التوق ،و كذلك في المشرب و الملبس و المنكح .
و فائدة المنكح من وجهين :أحدهما :إبقاء الجنس ،و هو معظم المقصود .و الثاني :دفع الفضلة
المحتقنة المؤذي احتقانها .
و لول تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح ما طلبه أحد ،فمات النسل و آذى المحتقن .
فأما العارفون فإنهم فهموا المقصود ،و أما الجاهلون فإنهم مالوا مع الشهوة ،و الهوى ،و لم يفهموا
مقصود وضعها ،فضاع زمانهم فيما ل طائل فيه ،و فاتهم ما خلقوا لجله ،و أخرجهم هواهم إلىفساد
المال ،و ذهاب العرض و الدين ،ثم أداهم إلى التلف .
و كم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري ،ليحرك طبعه بالمتجسد ،فما كان أسرع من أن
وهنت قواه الصلية فتعجل تلفه .
و كذلك رأينا من زاد غضبه فخرج عن الحد ففتك بنفسه و بمن يحبه .
فمن علم أن هذه الشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا ،و لم تخلق لنفس اللتذاذ ،و
إنما جعلت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها إذ لو كان المقصود التنعم بها لما جعلت الحيوانات
البهيمة أو في حظا من الدمي منها .
فطوبى لمن فهم حقائق الوضع ،و لم يمل له الهوى عن فهم حكم المخلوقات
ينبغي للعاقل أن يلزم باب موله على كل حال و أن يتعلق بذيل فضله إن عصى و إن أطاع .
و ليكن له أنس في خلوته به ،فأن وقعت وحشة فليجتهد في رفع الموحش كما قال الشاعر :
فأحسن إذا شئت و استأنس أمستوحش أنت مما جنيت
ل إلى الدنيا طلبها منه ،أو إلى الخرة سأله التوفيق للعمل لها .
فإن رأى نفسه مائ ً
فإن خاف ضرر ما يرومه من الدنيا سأل ال إصلح قلبه ،وطب مرضه فإنه إذا صلح لم يطلب ما
يؤذيه .
و من كان هكذا كان في العيش الرغد ،غير أن من ضرورة هذه الحال ملزمة التقوى ،فإنه ل يصلح
النس إل بها .
و قد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شيء إل عن اللج و السؤال .
و في الخبر :أن قتيبة بن مسلم لما صاف الترك هاله أمرهم فقال :أين محمد بن واسع ؟ فقيل :هو
في أقصى الميمنة جنح على سية قوسه ،يومي بأصبعه نحو السماء ،فقال قتيبة :تلك الصبع الفاردة
أحب إلي من مائة ألف سيف شهير ،و سنان طرير ،فلما فتح عليهم قال له :ما كنت تصنع ؟ قال :آخذ
لك بمجامع الطرق .
ينبغي لمن تظاهرة نعم ال عز وجل عليه أن يظهر منها ما يبين أثرها ،و ل يكشف جملتها ،و هذا
من أعظم لذات الدنيا التي يأمر الحزم بتركها ،فإن العين حق .
و إني تفقدت النعم فرأيت إظهارها حلوا عند النفس ،إل أنها إن أظهرت الوديد لم يؤمن تشعث باطنه
بالغيظ .
و إن أظهرت لعدو فالظاهر غصابته بالعين لموضع الحسد ،إل أنني رأيت شر الحسود كاللزم ،فإنه
في حال البلء يتشفى ،و في حال النعم يصيب بالعين .
و لعمري إن المنعم عليه يشتهي غيظ حسوده ،و لكنه ل يؤمن أن يخاطر بنعمته ،فإن الغالب إصابة
الحاسد لها بالعين فل يساوي ال لتذاذ بإظهار ما غيظ به ما أفسدت عينه بإصابتها .
و كتمان المور في كل حال فعل الحازم ،فإنه إن كشف مقدار سنة استهرموه إن كان كبيرا و إحتقروه
إن كان صغيرا ،و إن كشف ما يعتقدناصبه الضداد بالعداوة .
و إن كشف قدر ماله استحقروه إن كان قليلً و حسدوه إن كان كثيرا و في هذه الثلثة يقول الشاعر .
سن و مال ما استطعت و مذهب احفظ لسانك ل تبح بثلثة
بمموه و ممخرق و مكذب فعلى الثلثة تبتلى بثلثة
و قس على ماذكرت مالم أذكره و ل تكن من المذاييع الغر الذين ل يحملون أسرارهم حتى يفشوها إلى
من ل يصلح .
و رب كلمة جرى بها اللسان هلك بها النسان .
رأيت كل من يعثر بشيء أو يزلق في مطر يلتفت إلي ما عثر به ،فينظر إليه ،طبعا موضوعا في
الخلق .
إما ليحذر منه أن جاز عليه مرة أخرى ،أو لينظر ـ مع احترازه و فهمه ـ كيف فاته التحرز من مثل
هذا .
فأخذت من ذلك إشارة و قلت :يا من عثر مرارا هل أبصرت ما الذي عثرك فاحترزت من مثله ،أو
قبحت لنفسك مع حزمها تلك الواقعة .
فإن الغالب ممن يلتفت أن معنى التفاته كيف عثر مع احترازه بمثل ما أرى .
فالعجب لك كيف عثرت بمثل الذنب الفلني و الذنب الفلني ؟.
كيف غرك زخرف تعلم بعقلك باطنه ،و ترى بعين فكرك مآله ؟ كيف آثرت فانيا على باق ؟
كيف بعت بوكس ؟ كيف اخترت لذة رقدة على انتباه معاملة ؟.
آه لك لقد اشتريت بما بعت أحمال ندم ل يفلها ظهر ،و تنكيس رأس أمسى بعيد الرفع ،و دموع حزن
على قبح فعل ما لمددها انقطاع .
و أقبح الكل ،أن يقال لك :بماذا ؟ و من أجل ماذا ؟ و هذا على ماذا ؟ يا من قلب الغرور عليه
الصنجة ،و وزن له و الميزان راكب .
بكرت يوما أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة ،فجعلت أجول و حدي و أتفكر في ذلك المكان و من كان
به من العلماء و الصالحين .
و رأيت أقواما قد جاوروا فيه فسألت أحدهم :منذ كم أنت ها هنا ؟ فأومأ إلي قريب من أربعين سنة .
فرأيته في بيت كثير الدرن و الوسخ ،و جعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح هذه المدة ،فأخذت
النفس تحسن ذلك ،و تذم الدنيا و الغترار بها .
فأقبل العلم ينكر على النفس ،و نهض الفهم لحقائق المور ،و موضوع الشرع يقوي ما قال العلم .
فينحل من ذلك أن قلت للنفس :اعلمي أن هؤلء على ضربين .منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه
الحوال ،فتفوته فضائل المخالطة لهل العلم و العمل و طلب الولد ،و نفع الخلق ،و انتفاع نفسه
بمجالسة أهل الفهم ،فيحدث له من حاله تشابه فيها الوحش فيؤثر النفراد .
و ربما يبس الطبع ،و ساء الخلق ،و ربما حدث من حبس مائة المحتقن سميه من أفسدت بدنه وعقله
،و ربما أورثته الخلوة وسوسة ،و ربما ظن أنه من الولياء واستغنى بما يعرفه ،و ربما خيل له
الشيطان أشياء من الخيالت و هو يعدها كرامات ،ربما ظن أن الذي هو فيه الغاية ل يدري أنه إلى
الكراهة أقرب .
فإن رسول ال صلى ال عليه و سلم :نهى أن يبيت الرجل وحده ،و هؤلء كل منهم يبيت وحده ،و
نهى عن التبتل و هذا تبتل ،و نهىعن الرهبانية و هذا من خفىخدع إبليس التي يوقع بها في ورطات
الضللة بألطف وجه و أخفاه .
و الضرب الثاني :مشايخ قد فنوا فانقطعوا ضرورة ،إذ ليس لحدهم مأوى .فهم في مقام الزمني .
و إن كان الضرب الول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم و العمل و الكسب و تعلقت هممهم بفتوح
يطرق عليهم الباب ،فرضوا بالعمى بعد البصر ،و بالزمن بعد الطلق قالت لي النفس :ل أرضى هذا
الذي تقوله ،فإنك إنما تميل إلى إيثار نكاح المستحسنات و المطاعم المشتهيات .فإذا لم تكن من أهل
التعبد فل تطعن فيهم .
فقلت لها :إن فهمت حدثتك و إن كنت تقلدين صور الحوال فل فهم لك .
أما المستحسنات فإن المقصود من النكاح أشياء منها طلب الولد ،و منها شفاء النفس بإخراج الفضلة
المؤذية ،و كمال خروجها ل يكون إلى بوجود المستحسن .
و اعتبر هذا بالوطء دون الفرج فإنه يخرج من الفضلت ما ل يخرج بالوطء في الفرج .
و بتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها فتدري أين هي .
كما نأمر القاضي بالكل قبل الحكم ،و ننهاه عن الحكم و هو غضبان أو حاقن .
و بكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي خلق منها .
ثم للنفس حظ فهو يستوفيه إستيفاء الناقة حظها من العلف في السفر ،و ذلك بعين على سيرها .
و أما المطاعم فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها .
و إنما المراد إصلح الناقة لجمع همها ،و نيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في هواها .
و إذا تأملت حال الشرب الول رأيت من هذا عجبا ،فإن النبي صلى ال عليه و سلم إختار لنفسه
عائشة رضي ال عنها و كانت مستحسنة [ .و رأى زينب استحسنها ،فتزوجها ،و كذلك إختار صفية ،
و كان إذا وصفت له إمرأة بعث يخطبها ] .
و كان لعلي رضي ال عنه أربع حرائر ،و سبع عشرة سرية مات عنهن .
و قبل هذه المة فقد كان لداود عليه السلم مائة إمرأة ،و لسليمان عليه السلم ألف إمرأة ،فمن ادعى
خللً في هذه الطرق ،أو أن هؤلء آثروا هواهم ،و أنفقوا بضائع العمر في هذه الغراض و غيرها أفضل
،فقد إدعى على الكاملين النقصان ،و إنما هو الناقص في فهمه ل هم .
و قد كان سفيان الثوري إذا سافر ففي سفرته حمل مشوية و فالوذج ،و كان حسن الطعم ،و كان
يقول [ :إن الدابة إذا لم تحسن إليها لم تعمل ] .
و هذه الفنون التي أشرت إليها إن قصدت للحاجة إليها ،أو لقضاء و طر النفس منها ،أو لبلوغ
الغراض الدينية و الدنيوية منها ،فكله قصد صحيح ل يعكر عليه من يقوم و يقعد في ركعات ل يفهم
معناها ،و في تسبيحات أكثر ألفاظها ردية .
كل ليس إل العلم الذي هو أفضل الصفات ،و أشرف العبادات ،و هو المر بالمصالح ،و الناطق
بالنصائح .
ثم منفعة العلم معروفة ،و زهد الزاهد ل يتعدى عتبة بابه ،و قد قال صلى ال عليه و سلم :لن
ل خير لك مما طلعت الشمس .
يهدي ال بك رج ً
ثم اعتبر فضل الرسل على النبياء عليهم الصلة و السلم .و الجوارح على التي ل تصيد .و الطين
منه ما ينتفع به على الطين في المقلع .
و غاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح ،و أكثر المتزهدين جهلة يستعبدهم تقبيل اليد لجل تركهم ما
أبيح .
فكم فوتت العزلة علما يصلح به أهل الدين ،و كم أوقعت في بلية هلك بها الدين ،و إنما عزلة العالم
عن الشر فحسب ،و ال الموفق .
يبغي لكل ذي لب و فطنة أن يحذر عواقب المعاصي .فإنه ليس بين الدمي و بين ال تعالى قرابة و ل
رحم ،و إنما هو قائم بالقسط ،حاكم بالعدل .
و إن كان حلمه يسع الذنوب .إل أنه إذا شاء عفا فعفا كل كثيف من الذنوب ،و إذا شاء أخذ و أخذ
باليسير ،فالحذر الحذر .
و لقد رأيت أقواما من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم و المعاصي باطنة و ظاهرة فتعبوا من حيث لم
يحتسبوا .
فقلت أصولهم .و نقص ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم .
و ما كان ذلك إل لنهم أهملوا جانب الحق عز وجل ،و ظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري
من شر ،فمالت سفينة ظنونهم .فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم .
و رأيت أقواما من المنتسبين إلى العلم أهملوا نظر الحق عز وجل إليهم في الخلوات .
فمحا محاسن ذكرهم في الخلوات .فكانوا موجودين كالمعدومين ،ل حلوة لرؤيتهم ،و ل قلب يحن
إلى لقائهم .
فال ال في مراقبة الحق عز وجل .فإن ميزان عدله تبين فيه الذرة ،و جزاؤه مراصد للمخطئ و لو
بعد حين .
و ربما ظن أنه العفو و إنما هو إمهال و للذنوب عواقب سيئة .
فال ال الخلوات الخلوات .
البواطن البواطن .النيات النيات .
فإن عليكم من ال عيبا ناظرة .
و إياكم و الغترار بحلمه و كرمه ،فكم قد استدرج .
و كونوا على مراقبة الخطايا ،مجتهدين في محوها .
و ما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا ،فلعله ...
و هذا فصل إذا تأمله المعامل ل تعالى نفعه .
و لقد قال بعض المراقبين ل تعالى :قدرت على لذة و ليست بكبيرة .
فنازعني نفسي إليه ،اعتمادا على صغرها ،و عظم فضل ال تعالى و كرمه .
فقلت لنفسي :إن غلبت هذه فأنت أنت ،و إذا أتيت هذه فمن أنت ؟
و ذكرتها حالة أقوام كانوا يفسحون لنفسهم في مسامحة كيف انطوت أذكارهم ،و تمكن العراض
عنهم .
فارعوت ،و رجعت عما همت به ،و ال الموفق .
كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة .و هي تقدح في الصول كاستعارة طلب العلم
جزءا ل يردونه .
و قصد الدخول يتسامحون على من يأكل ليأكل معه .
و التسامح بعرض العدو التذاذا بذلك ،و استصغارا لمثل هذا الذنب .
و إطلق البصر استهانة بتلك الخطيئة .
و أهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس ،و من مقام رفعه القدر عند
الحق .
[ أو فتوى من ل يعلم ،لئل يقال :هو جاهل ،و نحو ذلك مما يظنه صغيرا و هو عظيم ] .
و ربما قيل له بلسان الحال :يا من اؤتمن على أمر يسير فخان .كيف ترجو بتدليك رضا الديان ؟
قال بعض السلف [ :تسامحت بلقمة فتناولتها ،فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف ] .
فال ال ،اسمعوا ممن قد جرب ،كونوا على مراقبة .و انظروا في العواقب ،و اعرفوا عظمة الناهي
.و احذروا من نفخة تحتقر ،و شررة تستصغر ،فربما أحرقت و بلدا .و هذا الذي أشرت إليه ،يسير
يدل على كثير ،و أنموذج ،يعرف باقي المحقرات من الذنوب .
و العلم و المراقبة يعرفانك ما أخللت بذكره ،و يعلمانك إن تلمحت بعين البصيرة ،أثر شؤم فعله و ل
حول و ل قوة إل با ال العلي العظيم .
من عاش مع ال عز وجل طيب النفس في زمن السلمة خفت عليه في زمن البلء ،فهناك المحك .
إن الملك عز وجل بينا يعطي نقص ،و بينا يعطي سلب ،فطيب النفس و الرضى هناك يبين .
فأما من تواصلت لديه النعم فإنه يكون طيب القلب لتواصلها ،فإذا مسته نفحة من البلء فبعيد ثيابه .
قال الحسن البصري [ :كانوا يتساوون في وقت النعم فإذا نزل البلء تباينوا ] .
فالعقل من أعد ذخرا ،و حصل زادا ،من العدد للقاء حرب البلء .
و ل بد من لقاء البلء ،و لو لم يكن إل عند صرعه الموت ،فإنها إن نزلت و العياذ بال فلم تجد
معرفة توجب الرضى أو الصبر ،أخرجت إلى الكفر .
و لقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة الخير و هو يقول في ليالي موته :ربي هو ذا يظلمني ،فلم
أزل منزعجا بتحصيل عدة ألقى بها ذلك اليوم .
كيف و قد روى أن الشيطان يقول لعوانه في تلك الساعة [ :عليكم بهذا ،فإن فاتكم لم تقدروا عليه ]
.
و أي قلب يثبت عند إمساك النفس ،و الخذ بالكظم ،و نزع النفس و العلم بمفارقة المحبوبات إلى ما
ل يدري ما هو ،و ليس في ظاهره إل البقر و البلء .
فنسأل ال عز وجل يقينا يقينا شر ذلك اليوم ،لعلنا نصبر للقضاء ،أو نرضى به .
و نر غب إلى مالك المور في أن يهب لنا من فواضل نعمه على أحبابه ،حتى يكون لقاؤه أحب إلينا
من بقائنا ،و تفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا .
و نعوذ بال من اعتقاد الكمال لتدبيرنا ،حتى إذا انعكس علينا أمر عدنا إلى القدر بالتسخط .
و هذا هو الجهل المحض ،و الخذلن الصريح ،أعاذنا ال منه .
ليس في الدنيا و ل في الخرة أطيب عيشا من العارفين بال عز وجل ،فإن العارف به مستأنس به في
خلوته .
فإن عمت نعمة علم من أهداها ،و إن مر مر حل مذاقه في فيه ،لمعرفته بالمبتلي .و إن سأل فتعوق
مقصوده ،صار مراده ما جرى به القدر ،علما منه بالمصلحة بعد يقينه بالحكمة ،و ثقته بحسن التدبير .
و صفة العارف أن قلبه مراقب لمعروفه ،قائم بين يديه ،ناظر بعيز اليقين إليه ،فقد سرى من بركة
معرفته إلى الجوارح ما هذبها .
و إن سكت فأنتم عقد إضماري فإن نطقت فلم أنطق بغيركم
إذا تسلط على العارف أذى أعرض نظره عن السبب ،و لم ير سوى المسبب ،فهو في أطيب عيش
معه .إن سكت تفكر في إقامة حقه ،و إن تكلم بما يرضيه ،ل يسكن قلبه إلى زوجة و ل إلى ولد ،و ل
يتشبث بذيل محبة أحد .
و إنما يعاشر الخلق ببدنه ،و روحه عند مالك روحه ،فهذا الذي ل هم عليه في الدنيا ،و ل غم عنده
وقت الرحيل عنها ،و ل وحشة له في القبر ،و ل خوف عليه يوم المحشر .
فأما من عدم المعرفة فإنه معثر ل يزال يضج من البلء لنه ل يعرف المبتلي ،و يستوحش لفقد
غرضه لنه ل يعرف المصلحة .و يستأنس بجنسه لنه ل معرفة بينه و بين ربه ،و يخاف من الرحيل
لنه ل زاد له و ل معرفة بالطريق .
و كم من عالم و زاهد لم يرزقا من المعرفة إل ما رزقه العامي البطال ،و ربما زاد عليهما .
و كم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما .
و إنما هي مواهب و أقسام ،ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء .
•فصل :ل قيمة للجنة مع إعراض الحبيب
بال عليك يا مرفوع القدر بالتقوى ،ل تبع عزها بذل المعاصي .
و صابر عطش الهوى في هجير المشتهى و إن أمض و أرمض .
فإذا بلغت النهاية من الصبر فاحتكم و قل ،فهو مقام من لو أقسم على ال لبره .
تال لول صبر عمر ما انبسطت يده يضرب الرض بالدرة .
و لول جد أنس بن النضير في ترك هواه ،و قد سمعت من آثار عزمته [ :لئن أشهدني ال مشهدا
ليرين ما أصنع ،فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل فلم يعرف إل ببنانه ] .فلول هذا العزم ما كان إنبساط
وجهه يوم حلف و ال ل تكسر سن الربيع .
بال عليك تذوق حلوة الكف عن المنهى ،فإنها شجرة تثمر عز الدنيا و شرف الخرة .
و متى اشتد عطشك إلى ما تهوى ،فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل .
و قل قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف ،فعجل لي العام الذي فيه أغاث و أعصر .
بال عليك تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى و الطاعة ثم عرضت فتنة في الوقت الخر ،كيف نطح
مركبه الجرف فغرق وقت الصعود .
أف و ال للدنيا ،لبل للجنة إن أوجب نيلها إعراض الحبيب .
إنما نسب العامي باسمه و اسم أبيه ،فأما ذوو القدار فاللقاب قبل النساب .
قل لي :من أنت ؟ و ما عملك ؟ و إلى أي مقام ارتفع قدرك ؟ يا من ل يصبر لحظة عما يشتهي .
بال عليك أتدري من الرجل ؟
الرجل و ال من إذا خل بما يحب من المحرم و قدر عليه و تقلل عطشا إليه ،نظر إلى نظر الحق إليه
فاستحى من إجالة همه فيما يكرهه ،فذهب العطش .
كأنك ل تترك لنا إل ما ل تشتهي ،أو مال تصدق الشهوة فيه ،أو مال تقدر عليه .
كذا و ال عادتك إذا تصدقت أعطيتك كسرة ل تصلح لك ،أو في جماعة
يمدحونك .
هيهات و ال و ل نلت وليتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصة .تبذل أطايبك .و تترك مشتهياتك ،و
تصبر على مكرهاتك .
علما منك تدخر ثوابك لدينا إن كنت معاملً بأنك أجير و ما غربت الشمس فإن كنت محبا رأيت ذلك قليلً
في جنب رضى حبيبك عنك .
وما كلمنا مع الثالث !! ...
أعجب الشياء مجاهدة النفس ،لنها تحتاج إلى صناعة عجيبة .
فإن أقواما أطلقوها فيما تحب ،فأوقعتهم فيما كرهوا ،و إن أقواما بالغوا في خلفها حتى منعوها
حقها ،و ظلموها .
و أثر ظلمهم لها في تعبداتهم ،فمنهم من أساء غذاءها فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها .
منهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس و آلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض ،
أو بر والدة .
و إنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد و حفظ الصول .فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه .
فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده ،فإن ل ينبسط إليه الغلم .فإن انبسط ذكر هيبة المملكة .
فكذلك المحقق يعطيها حظها ،و يستوفي منها ما عليها .
أضر ما على المريض التخليط ،و ما من أحد إل و هو مريض بالهوى ،و الحمية هي رأس الدواء .
و التخليط يديم المرض ،و تخليط أرباب الخرة على ضربين :أحدهما :تخليط العلماء ،و هو إما
لمخالطة الضدادكالسلطين ،فإنهم يضعفون قوى يقينهم .وكما زادت المخالطة ،يفقدون دليلهم عند
المريدين .
فإني إذا رأيت طبيبا يخلط و يحميني شككت أو وقفت .
و الثاني :تخليط الزهاد ،و قد يكون بمخالطة أرباب الدنيا ،و قد يكون بحفظ الناموس في إظهار
التخشع ،لجتلب محبة العوام .
ال ال فإن ناقد الجزاء بصير ،و الخلص في الباطن ،و الصدق في القلب .ونعم طريق السلمة
ستر الحال .
سبحان الملك الغظيم الذي من عرفه خافه ،و ما أمن مكره قط ما عرفه .
لقد تأملت أمرا عظيما ،إنه عز وجل يمهل حتى كأنه يهمل ،فترى أيدي العصاة مطلقة كأنه ل مانع .
فإذا زاد النبساط ،و لم ترعو العقول ،أخذ أخذ جبار .
و إنما كان ذلك المهال ليبلو صبر الصابر ،و ليملي في المهال للظالم ،فيثبت هذا على صبره ،و
يجزي هذا بقبيح فعله .
مع أن هنالك من الحلم في طي ذلك ما ل نعلمه .
فإذا أخذ عقوبة ،رأيت على كل غلطة تبعة .
و ربما جمعت فضرب العاصي بالحجر الدامغ .
و ربما خفي على الناس سبب عقوبته ،فقيل فلن من أهل الخير فما وجه ماجرى له ؟
فيقول القدر :حدود لذنوب خفية ،صار إستيفاؤها ظاهرا .
فسبحان من ظهر حتى ل خفاء به ،و إستتر حتى كأنه ل يعرف .
و أمهل حتى طمع في مسامحته ،و ناقش حتى تحيرت العقول من مؤاخذته ،ل حول و ل قوة إل با
ال .
فإني لكره لنفسي من جهة ضعف قلبي و رقته أن أكثر زيادة القبور ،و إن أحضر المحتضرين ،لن
ذلك يؤثر في فكري ،و يخرجني من حيز المتشاغلين بالعلم إلى مقام الفكر في الموت ،و لنتفع بنفسي
مدة .و فصل الخطاب في هذا أنه ينبغي أن يقام المرض بضده .
فمن كان قلبه قاسيا شديد القسوة ،و ليس عنده من المراقبة ما يكفه عن الخطأ ،قاوم ذلك بذكر
الموت و محاضرة المحتضرين .
فأما من قلبه شديد الرقة فيكفيه ما به ،بل ينبغي له ان يتشاغل بما ينسيه ذلك لينتفع بعيشه ،و ليفهم
ما يفتي به .و قد كان الرسول صلى ال عليه و سلم يمزح ويسابق عائشة رضي ال عنها ،و يتلطف
بنفسه ،فمن سار سيرته عليه الصلة السلم ،فهم من مضمونها ما قلت من ضرورة التلطف بالنفس .
من أظرف الشياء إفاقة المحتضر عند موته ،فإن ينتبه إنتباها ل يوصف ،و يقلق قلقا ل يحد و
يتلهف على زمانه الماضي .
و يود لو ترك كي يتدارك ما فاته ،و يصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت و يكاد يقتل نفسه قبل
موتها بالسف .
و لو وجدت ذرة من تلك الحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى .
فالعاقل من مثل تلك الساعة و عمل بمقتضى ذلك .
فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته .
فإنه يكف كف الهوى ،و يبعث على الجد .
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه ،كان كالسير لها .
كما روي عن حبيب العجمي إنه كان إذا أصبح يقول لمرأته :إذا مت اليوم ففلن يغسلني ،و فلن
يحملني .
و قال معروف لرجل صل بنا الظهر ،فقال :إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر .
فقال :و كأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر ،نعوز با ال من طول المل .
ل بين يديه بغيبة ،فجعل معروف يقول له :أذكر القطن إذا و ضعوه على عينيك .
و ذكر رجل رج ً
ربما أخذ المتيقظ بيت شعر ،فأخذ منه إشارة فإنتفع بها .
قال الجنيد :ناولني سري رقعة مكتوب فيها سمعت حاديا في الطريق مكة شرفها ال تعالى بقول .
أبكي حذارا أن تفارقيني أبكي و ما يدريك ما يبكيني
و تقطعي حبلي و تهجريني
فانظر رحمك ال و وفقك ،إلى تأثير هذه البيات عند سري حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما
إطلع عليه ،و لم يصلح للطلع على مثلها إل الجنيد .
فإن أقواما فيهم كثافة طبع ،و خشونة فهم .
قال بعضهم لما سمع مثل هذه .إل م يشار بهذه ؟
إن كان إلى الحق ،فالحق عز وجل ل يشار بلفظ تأنيث .و إن كان إلى إمرأة فأين الزهد ؟
و لعمري إن هذا حداء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا ،و لذلك ينهى عن سماع القصائد و أقوال أهل
الغناء ،لن الغالب حمل تلك البيات على مقاصد النفس ،و غلبات الهوى .
و من أين لنا مثل الجنيد و ستري ؟
و إذا وجدنا مثلهما فهما خبيران بما يسمعان .
و أما إعتراض هذا الكثيف الطبع فالجواب :أن سيرا لم يأخذ الشارة من اللفظ ،و لم يقس ذلك على
مطلوبه فيصيره تأنيسا أو تذكيرا .
و إنما أخذ الشارة من المعنى ،فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى البيات ،فيقول :أبكي حذارا من إعراضك
و إبعادك .فهذا الحاصل له .
و ما التفت قط إلى تذكير و ل إلى لفظ تأنيث .فافهم هذا .
و ما زال المتيقظون يأخذون الشارة من هذا حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة و يلقبونه
بكان و كان .
فرأيت بخط ابن عقيل عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع إمرأة تنشد :
فركت له طول النهار غسلت له طول الليل
زلق وقع في الطين خرج يعاين غيري
فأخذ من إشارة معناها كان يا عبدي إني حسنت خلقك ،و أصلحت شأنك ،و قومت بنيتك ،فأقبلت على
غيري فانظر عواقب خلفك لي .
و قال ابن عقيل :و سمعت إمرأة تقول ،من هذا المكان ،و كانت كلمة بقيت في قلقها مدة : .
لذا التواني غائله كم كنت با ال أقول لك
تبين بعد قليل و للقبيح خميرة
قال ابن عقيل :فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لمور غدا تبين خمايرها بين يدي ال تعالى .
أمكنني تحصيل شيء من الدنيا بنوع من أنواع الرخص ،فكنت كلما حصل شيء منه ،فاتني من قلبي
شيء ،و كلما إستنارت لي طريق التحصيل ،تجدد في قلبي ظلمة .
فقلت يا نفس السوء ـ الثم حواز القلوب ـ و قد قال استفت قلبك فل خير في الدنيا كلها إذا كان في
القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر .
و إن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة ما لذت ،و النوم على المزابل مع سلمة
القلب من الكدر ألذ من تكآت الملوك .و ما زلت أغلب نفسي تارة و تغلبني أخرى ،ثم تدعي الحاجة إلى
تحصيل ما ل بد لها منه .و تقول :فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر .
فقلت لها :أو ليس الورع يمنع من هذا ؟ قالت :بلى .
قلت :أليست القسوة في القلب تحصل به ؟ قالت :بلى .
قلت :فل خير لك في شيء هذا ثمرته .
فخلوت يوما بنفسي فقلت لها :ويحك اسمعي أحدثك :
إن جمعت شيئا من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه ؟ قالت :ل .
قلت :فالمحنة أن يحظي به الغير و ل تنالين إل الكدر العاجل ،و الوزر الذي ل يؤمن .
و يحك ،أتركي هذا الذي يمنع منه الورع لجل ال فعامليه بتركه .
كأنك ل تدرين أل تتركي إل ما هو محرم فقط أو مال يصح و جهه.
أو ما سمعت أن من ترك شيئا ال عوضه ال خيرا منه ؟
أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم ،و أملوا فما بلغوا مناهم ؟
كم من عالم جمع كتبا كثيرة ما انتفع بها .
و كم من منتفع ما عنده عشرة أجزاء .
و كم من طيب العيش ل يملك دينارين .
و كم من ذي قناطير منغص .
أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجه فيسلب منه من أوجه ؟
ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسبه ،و
المتقي معافى .
فضجت النفس من لومي و قالت :إذا لم أتعد واجب الشرع فما الذي تريد مني ؟
فقلت لها :أضن بك عن الغبن و أنت أعرف بباطن أمرك .
قالت :فقل لي ما أصنع ؟
قلت :عليك بالمراقبة لمن يراك ،و مثلي نفسك بحضرة معظم من الخلق فإنك بين يدي الملك العظم
يرى من باطنك ما ل يراه المعظمون من ظاهرك .
فخذي بالحوط ،و احذري من الترخص في بيع اليقين ،و التقوى بعاجل الهوى .
ل ،فما انقضت مدة الشارة ،و ال مرشدك إلى التحقيق ،و
فإن ضاق الطبع مما تلقين فقولي له :مه ً
معينك بالتوفيق .
ما زلت أسمع عن جماعة من الكابر و أرباب المناصب أنهم يشربون الخمور ،و يفسقون ،و يظلمون
و يفعلون أشياء توجب الحدود .
فبقيت أتفكر أقول متى يثبت على مثل هؤلء ما يوجب حدا ؟ فلو ثبت يقيمه ؟
و أستبعد هذا في العادة ،لنهم في مقام إحترام لجل مناصبهم .
فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم ،حتى رأيناهم قد نكبوا و أخذوا مرات ،و مرت عليهم
العجائب .
فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم ،و أخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل ،و القيد الثقيل ،و
الذل العظيم .
و فيهم من قتل بعد ملقاة كل شدة ،فعلمت أنه ما يهمل شيء .
فالحذر الحذر ،فإن العقوبة بالمرصاد .
عرض لي في طريق الحج من العرب ،فسرنا على طريق خبير ،فرأيت من الجبال الهائلة و الطرق
العجيبة ما أذهلني ،و زادت عظمة الخالق عز وجل في صدري فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع
تعظيم ل أجد عند ذكر غيرها .
فصحت بالنفس :و يحك أعبري إلى البحر و أنظري إليه و إلى عجائبه بعين الفكر ،تشاهدي أهوال
هي أعظم من هذه ،ثم أخرجي إلى الكون و التفتي إليه فإنك ترينه بالضافة إلى السماوات و الفلك كذرة
فيفلة .
ثم جولي في الفلك و طوفي حول العرش و تلمحي ما في الجنان و النيران ،ثم أخرجي عن الكل و
إلتفتي إليه ،فإنك تشاهدين العالم في قبضة القادر الذي ل تقف قدرته عند حد .ثم إلتفي إليك فتلمحي
بدايتك و نهايتك ،و تفكري فيما قبل البداية ،و ليس إل العدم ،و فيما بعد البلى وليس إل التراب .
فكيف يأنس بهذا الوجود من نظر بعين فكره المبدأ و المنتهي ؟ و كيف يغفل أرباب القلوب عن ذكر هذا
الله العظيم ؟
با ال لو صحت النفوس عن سكر هواها ،لذابت من خوفه ،أو لغابت في حبه .
غير أن الحس غلب فعظمت قدرة الخالق عند رؤية جبل ،و إن الفطنة لو تلمحت المعاني لدلت القدرة
عليه أوفى من دليل الجبل .
سبحان من شغل أكثر الخلق بما هم فيه عما خلقوا له ،سبحانه .
للبليا نهايات معلومة الوقت عند ال عز وجل ،فل بد للمبتلي من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلء .
فإن تقلل قبل الوقت لم ينفع التقلل ،كما أن المادة إذا إنحدرت إلى عضو فإنها لن ترجع ،فل بد من
الصبر إلى حين البطالة ،فإستعجال زوال البلء مع تقدير مدته ل ينفع .
فالواجب الصبر و إن كان الدعاء مشروعا و ل ينفع إل به ،إل أنه ل ينبغي للداعي أن يستعجل ،بل
يتعبد بالصبر و الدعاء و التسليم إلى الحكيم .
و يقطع المواد التي كانت سببا للبلء ،فإن غالب البلء أن يكون عقوبة .
فأما المستعجل فمزاحم للمدبر ،و ليس هذا مقام العبودية و إنتما المقام العلى هو الرضى ،و الصبر
هو اللزم .
و التلقي بكثرة الدعاء نعم المعتمد ،و العتراض حرام ،و الستعجال مزاحمة للتدبير فافهم هذه
الشياء فإنها تهون البلء .
ليس في الجودة شيء أصعب من الصبر ،إما عن المحبوب أو على المكروهات .
و خصوصا إذا امتد الزمان أو وقع اليأس من الفرج .
و تلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها ،و الزاد يتنوع من أجناس ،فمنه تلمح مقدار البلء ،و قد
يمكن أن يكون أكثر ،و منه أنه في حال فوقها أعظم منها ،مثل أن يبتلي بفقد ولد عنده أعز منه ،و من
ذلك رجاء العوض في الدنيا ،و منه تلمح الجر في الخرة .و منه التلذذ بتصوير المدح و الثناء من
الخلق فيما يمدحون عليه ،و الجر من الحق عز وجل .
و من ذلك أن الجزع ل يفيد بل يفضح صاحبه ،إلى غير ذلك من الشياء التي يقدحها العقل و الفكر .
فليس في طريق الصبر نفقة سواها ،فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه ،و يقطع بها ساعات ابتلئه و
قد صبح المنزل .
ينبغي لمن وقع في شدة ثم دعا أل يختلج في قلبه أمر من تأخير الجابة أو عدمها .
لن الذي إليه أن يدعو ،و المدعو مالك حكيم ،فإن لم يجب فعل ما يشاء في ملكه ،و إن أخر فعل
بمقتضى حكمته .
فالمعترض عليه في سره خارج عن صفة عبد ،مزاحم لمرتبة مستحق ثم ليعلم أن إختيار ال عز وجل
له ،خير من إختياره لنفسه ،فربما سأل سيل سال به .
و في الحديث :أن رجلً كان يسأل ال عز وجل أن يرزقه الجهاد ،فهتف به هاتف :إنك إن غزوت
أسرت ،و إن أسرت تنصرت .
فإذا سلم العبد تحكيما لحكمته و حكمه ،و أيقن أن لكل ملكه طاب قلبه ،قضيت حاجته أو لم تقض .
و في الحديث :ما من مسلم دعا ال تعالى إل أجابه .فإما أن يعجلها ،و إما أن يؤخرها ،و إما أن
يدخرها له في الخرة .
فإذا رأى يوم القيامة أن ما أجيب فيه قد ذهب ،و ما لم يجب فيه قد بقى ثوابه ،قال :ليتك لم تجب لي
دعوة قط .
فافهم هذه الشياء و سلم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال .
إعلم أن أصلح المور العتدال في كل شيء .و إذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم و فسدت في
الخير أعمالهم ،أمرناهم بذكر الموت و القبور و الخرة .
فأما إذا كان العالم ل يغيب عن ذكره الموت ،و أحاديث الخرة تقرأ عليه و تجري على لسانه فتذكره
الموت زيادة على ذلك ل تفيد إل انقطاعه بالمرة .
بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من ال تعالى الكثير الذكر للخرة أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت
ليمتد نفس أمله قليلً فيصنف و يعمل أعمال خير ،و يقدر على طلب ولد .
فأما إذا لهج بذكر الموت كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته .
ألم تسمع أن النبي صلى ال عليه و سلم سابق عائشة رضي ال عنها فسبقته و سابقها فسبقها ،و
كان يمزح و يشاغل نفسه ؟
فإن مطالعة الحقائق على التحقيق تفسد البدن و تزعج النفس .
و قد روي عن أحمد بن حنبل رحمه ال عليه [ :أنه سأل ال تعالى أن يفتح عليه باب الخوف ففتح
عليه فخاف على عقله ،فسأل ال أن يرد ذلك عنه ] .
فتأمل هذا الصل فإنه ل بد من مغالطة النفس و في ذلك صلحها و ال الموفق و السلم .
من أعمل فكره الصافي دله على طلب أشرف المقامات ،و نهاه عن الرضى بالنقص في كل حال .
و قد قال أبو الطيب المتنبي :
كنقص القادرين على التمام و لم أر في عيوب الناس عيبا
فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه .
فلو كان يتصور للدمي صعود السموات ،لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالرض .
و لو كانت النبوة تحصل بالجتهاد ،رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض .غير أنه إذا لم يمكن ذلك
فينبغي أن يطلب الممكن .
و السيرة الجميلة عند الحكماء خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم و العمل .
و أنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله :
أما في البدن :فليست الصورة داخلة تحت كسب الدمي ،بل يدخل تحت كسبه تحسينها و تزيينها .
فقبيح بالعاقل إهمال نفسه .
و قد نبه الشرع على الكل بالبعض ،فأمر بقص الظفار ،و نتف البط ،و حلق العانة ،و نهى عن
أكل الثوم و البصل النيء لجل الرائحة .
و ينبغي له أن يقيس على ذلك و يطلب غاية النظافة و نهاية الزينة .
و قد كان النبي صلى ال عليه و سلم يعرف مجيئه بريح الطيب ،فكان الغاية في النظافة و النزاهة .
و لست آمر بزيادة التقشف الذي يستعمله الموسوس ،و لكن التوسط هو المحمود .
ثم ينبغي له أن يرفق بيدنه الذي هو راحلته و ل ينقص من قوتها فتنقص قوته .
و لست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء ،إنما آمر بالتوسط فإن قوى الدمي كعين جارية كم فيها منفعة
لصاحبها و لغيره .
و ل يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين الذين جدوا في التقلل فضعفوا عن الفرائض .
و ليس ذلك من الشرع و ل نقل عن الرسول صلى ال عليه و سلم و ل أصحابه .
إنما كان الرسول صلى ال عليه و سلم و أصحابه إذا لم يجدوا جاعوا ،و ربما آثروا فصبروا ضرورة
.
و كذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها ـ فرب لقمة منعت لقمات ـ فل يعطيها ما يؤذيها بل
ينظر لها في الصلح ،و ل يتلفت إلى متزهد يقول ل أبلغها الشهوات .
فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم و أخذ ما يصلح بمقدار .
و لم ينقل عن الرسول صلى ال عليه و سلم و ل أصحابه رضي ال عنهم ما أحدثه الموسوسون في
ترك المشتهيات على الطلق .إنما نقل عنهم تركها لسب ،إما للنظر في حلها ،أو للخوف من مطالبة
النفس بها في كل وقت و يجوز ذلك .
و ينبغي له أن يجتهد في التجارة و الكسب ليفضل على غيره و ل يفضل غيره عليه .
و لبيلغ من ذلك غاية ل تمنعه عن العلم ،ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم .
و من أقبح النقص التقليد ،فإن قويت همته ،رقته إلى أن يختار لنفسه مذهبا و ل يتمذهب لحد فإن
المقلد أعمى بقوده مقلده .
ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة ال تعالى و معاملته ،و في الجملة ل يترك فضيلة يمكن تحصيلها
إل حصلها .فإن القنوع حالة الرذال .
و هامة همته في الثريا فكن رجلً رجله في الثرى
و لو أمكنك عبور كل أحد من العلماء و الزهاد فإفعل ،فإنهم كانوا رجالً و أنت رجل .و ما قعد من
قعد إل لدناءة الهمة و خساستها .
و اعلم أنك في ميدان سباق و الوقات تنتب و ل تخلد إلى كسل ،فما مات ما فات إل بالكسل ،و ل نال
من نال إل بالجد و العزم .
و إن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور ،و قد قال بعض من سلف :
فبه أحيا من العدم ليس لي مال سوى كرى
و تمطت في العل هممي فنعت نفسي بما رزقت
ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للستغناء عن الناس ،فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال .
و إن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب ،فاحتاجوا إلى ما ل بد منه .و قل الصبر فدخلوا مداخل
شانتهم و إن تأولوا فيها ،إل أن غيرها كان أحسن لهم .فالزهري مع عبد الملك ،و أبو عبيدة مع طاهر
بن الحسين ،و ابن أبي الدنيا مؤدب المعتضد ،و ابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير .و ما زال حلف من
العلماء و الزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم .
و هؤلء و إن كانوا سلكوا طريقا من التأويل فإنهم فقدوا من قلوبهم و كمال دينهم أكثر مما نالوا من
الدنيا .
و قد رأينا جماعة من المتصوفة و العلماء يغشون الولة لجل نيل ما في أيديهم ،فمنهم من يداهن و
يرائي ،و منهم من يمدح بما ل يجوز ،و منهم من يسكت عن منكرات ،إلى غير ذلك من المداهنات ،و
سببها الفقر .
فعلمنا أن كمال العز و بعد الرياء إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة ،و لم نر من صح له هذا إل
في أحد رجلين :
إما من كان له مال كسعيد بن المسيب كان يتجر في الزيت و غيره ،و سفيان الثوري كانت له بضائع ،
و ابن المبارك .
و إما من كان شديد الصبر قنوعا بما رزق و إن لم يكفه كبشر الحافي ،و أحمد بن حنبل .
و متى لم يجد النسان كصبر هذين ،و ل كمال أولئك ،فالظاهر تقلبه في المحن و الفات ،و ربما
تلف دينه .
فعليك يا طالب العلم بالجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس ،فإنه يجمع لك دينك ،فما رأينا في
الغلب منافقا في التدين و التزهد و التخشع ،و ل آفة طرأت على عالم إل يجب الدنيا ،و غالب ذلك
الفقر ،فإن كان له مال يكفيه ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة ،فذلك معدود في أهل الشره ،خارج عن
حيز العلماء ،نعوذ بال من تلك الحوال .
أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته .و من تأمل ثمرة الفقه علم أنه أفضل العلوم ،فإن
أرباب المذاهب فاقوا بالفقه على الخلئق أبدا ،و إن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو
بالحديث أو باللغة .و اعتبر هذا بأهل زماننا ،فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلف الظاهرة فيستغني و
يعرف حكم ال تعالى في الحوادث ما ل يعرفه النحرير من باقي العلماء .
كم رأينا مبرزا في علم القرآن أو في الحديث أو في التفسير أو في اللغة ل يعرف مع الشيخوخة معظم
أحكام الشرع .
و ربما جهل علم ما ينويه في صلته ،على أنه ينبغي للفقيه أل يكون أجنبيا عن باقي العلوم .فإنه ل
يكون فقيها ،بل يأخذ من كل علم بحظ ثم ينوفر على الفقه فإنه عز الدنيا و الخرة .
رأيت كثيرا من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة و ل يتحاشون من غيبة ،و يكثرون من الصدقة و
ل يبالون بمعاملت الربا ،و يتهجدون بالليل و يؤخرون الفريضة عن الوقت ،في أشياء يطول عددها من
حفظ فروع و تضييع أصول ،فبحثت عن سبب ذلك ،فوجدته من شيئين :أحدهما العادة ،و الثاني غلبة
الهوى في تحصيل المطلوب ،فإنه قد يغلب فل قد يغلب فل يترك سمعا و ل بصرا .
و من هذا القبيل ان إخوة يوسف قالوا ـ حين سمعوا صوت المنادي ـ :إنكم لسارقون لقد علمتم ما
جئنا لنفسد في الرض و ما كنا سارقين ،فجاء في التفسير أنهم لما ذخلوا مصر كمموا أفواه إبلهم لئل
نتناول ما ليس لهم فكأنهم قالوا :قد رأيتم ما صنعناه بإبلنا فكيف نسرق ؟ و نسوا هم تفاوت ما بين
الورع و اختطاف أكلة ل يملوكونها ،و بين إلقاء يوسف عليه السلم في الجب و بيعه بثمن بخس .و في
الناس من يطيع في صغار المور دون كبارها ،و فيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة ،و فيما ل ينقص شيئا
من عادته في مطعم و ملبس .نرى أقواما يأخذون الربا و يقول أحدهم :كيف يراني عدوي بعد بعت داري
،أو تغير ملبوسي و مركوبي !
و نرى أقواما يوسوسون في الطهارة و يستعملون الكثير من الماء و ل يتحاشون من غيبه .
و أقواما يستعملون التأولت الفاسدة في تحصيل أغراضهم مع علمهم أنها ل تجوز ،حتى أني رأيت
ل من أهل الخير و التعبد أعطاه رجل مالً ليبني به مسجدا ،فأخذه لنفسه و أنفق عوض الصحيح
رج ً
قراضة ،فلما إحتضر قال لذلك الرجل :إجعلني في حل فإني فعلت كذا و كذا .
و نرى أقواما يتركون الذنوب لبعدهم عنها ،فقد ألفوا الترك ،و إذا قربوا منها لم يتمالكوا .
و في الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها .
و قد علمنا أن خلقا من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم ،فلما جاء السلم و عرفوا
صحته لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محور رياستهم .
كذلك قيصر فإنه عرف رسول ال صلى ال عليه و سلم بالدليل ،ثم لم يقدر على مقاومة هواه و ترك
ملكه .
فال ال في تضييع الصول ،و من إهمال سرح الهوى ،فإنه إن أهملت ماشية نفشت في زروع التقى
.
ما مثل الهوى إل كسبع في عنقه سلسلة فإن استوثق منه ضابطه كفه .
و ربما لحت له شهواته الغالبة عليه فلم تقاومها السلسلة فأفلت ،على أن من الناس من يكف هواه
بسلسلة ،و منهم من يكفه بخيط ،فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى ،و أن يكون بصيرا بما يقوى
عليه من أعدائه ،و بمن يقوى عليه .
من أعظم الغلط الثقة بالناس و السترسال إلى الصدقاء ،فإن أشد العداء و أكثرهم أذى الصديق
المنقلب عدوا ،لنه قد اطلع على خفي السر .
قال الشاعر :
و إحذر صديقك ألف مرة احذر عدوك مرة
ديق فكان أعلم بالمضرة فلربما إنقلب الص
و إعلم أن من المر الموضوع في النفوس الحسد على النعم ،أو الغبطة و حب الرفعة ،فإذا رآك من
يعتقدك مثلً له و قد ارتقيت عليه فل بد أن يتأثر و ربما حسد .
فإن إخوة يوسف عليهم السلم من هذا الجنس جرى لهم ما شأنهم .
فإن قلت :كيف يبقى النسان بل صديق ؟ قلت لك أتراك ما تعلم أن المجانس يحسد ،و أن أكثر العوام
يعتقدون في العالم أنه ل يبتسم ،و ل يتناول من شهوات الدنيا شيئا ،فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح
هبط من أعينهم فإذا كانت هذه حالة العوام ،و تلك حالة الخواص ،فمع من تكون المعاشرة ؟
ل بل و ال ما تصح المعاشرة مع النفس لنها متلونة ،و ليس إل المداراة للخلق و الحتراز منهم ،و
اتخاذ المعارف من غير طمع في صديق صادق ،فإن ندر فليكن غير مماثل ،لن الحسد إليه أسبق ،و
ليكن مرتفعا عن رتبة العوام غير طامع في نيل مقامك .
و إن كانت معاشرة هذا ل تشفي لن المعاشرة ينبغي أن تكون بين العلماء للمجانس ،فلزمهم من
الرشادات في المخالطة ما تطيب به المجالسة ،و لكن ل سبيل إلى الوصال .
و مثل هذه الحال أنك إن إستخدمت الذكياء عرفوا باطنك ،و إن إستخدمت البله إنعكست مقاصدك .
فإجعل الذكياء لحوائجك الخارجة ،و البله لحوائجك في منزلك لئل يعلموا أسرارك ،و أقنع من
الصدقاء ،بمن وصفته لك ،ثم ل تلقه إل متدرعا درع الحذر ،و ل تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه
،و كن كما يقال عن الذئب :
بأخرى العادي فهو يقظان هاجع ينام بإحدى مقلتيه و يتقي
رأيت نفرا ممن أفنى أوائل عمره و ريعان شبابه في طلب العلم يصبر على أنواع الذى ،و هجر فنون
الراحات ،أنفة من الجهل ،و رذيلته ،و طلبا للعلم و فضيلته ،فما نال منه طرفا رفعه عن مراتب أرباب
الدنيا .و من ل علم له إل بالعاجل ضاق به معاشه أو قل ما ينشده لنفسه من حظوظ ،فسافر في البلد
يطلب من الرذال ،و يتواضع للسفلة و أهل الدناءة و المكاس و غيرهم .
فخاطبت بعضهم و قلت ،ويحك أن تلك النفة من الجهل التي سهرت لجلها ،و أظمأت نهارك بسببها ،
فلما إرتفعت و إنتفعت عدت إلى أسفل سافلين .
أفما بقي عندك ذرة من النفة تنبو بها عن مقامات الرذال ؟ و ل معك يسير من العلم يسير بك عن
مناخ الهوى ؟
و ل حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس عن مراعي السوء ؟ على أنه يبين لي أن سهرك و تعبك
كأنهما كانا لنيل الدنيا .
ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئا من الدنيا تستعين به على طلب العلم ،فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب
تستغني به عن الرذال أفضل من التزيد في علمك .
فلو عرفت ما ينقص به دينك لم تر فيما قد عزمت عليه زيادة ،بل لعله كله مخاطرة بالنفس ،و بذل
الوجه طالما صين لمن ل يصلح إلتفات مثلك إلى مثله .
و بعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا المر بقدر الكفاف ،و قد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من الثم
.
و أبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ .
و من لك بالسلمة و الرجوع إلى الوطن ؟ و كم رمى قفر في بواديه من هالك !
ثم ما تحصله يفني و يبقى منه ما أعطى ،و عيب المتقين إياك ،و اقتداء الجاهلين بك .
و يكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه إذ فعلت ما يناقضه ،خصوصا و قد مر أكثر العمر
.
و من أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي .
إن للخلوة تأثيرات تبين في الخلوة ،كم من مؤمن با ال عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما
يشتهي حذرا من عقابه ،أو رجاء لثوابه ،أو إجللً له ،فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودا هنديا على
مجمر فيفوح طيبه فيستشنقه الخلئق و ل يدرون أين هو .
و على قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته ،أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك
يزيد الطيب ،و يتفاوت تفاوت العود .
فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص و ألسنتهم تمدحه و ل يعرفون لم ؟ و ل يقدرون على وصفه
لبعدهم عن حقيقة معرفته .
و قد تمتد هذه الرابيح بعض الموت على قدرها ،فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى ،و منهم
من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره و قبره ،و منهم أعلم يبقى ذكرها أبدا .
و على عكس هذا من هاب الخلق ،و لم يحترم خلوته بالحق ،فإنه على قدر مبارزته بالذنوب ،و على
مقادير تلك الذنوب ،يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب ،فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر اللسن له
بالخير ،و بقي لمجرد تعظيمه ،و إن كثر كان قصارى المر سكوت الناس عنه ل يمدحونه و ل يذمونه .
و رب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا و الخرة و كأنه قيل له :إبق بما
آثرت فيبقى أبدا في التخبيط .
فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت و عثرت .
و قال أبو الدرداء رضي ال عنه [ :إن العبد ليخلوا بمعصية ال تعالى فيلقي ال بغضه في قلوب
المؤمنين من حيث ل يشعر ] .
فتلحموا ما سطرته ،و اعرفوا ما ذكرته ،و ل تهملواخلواتكم و ل سرائركم ،فإن العمال بالنية ،و
الجزاء على مقدار الخلص .
من عرف جريان القدار ثبت لها ،و أجهل الناس بعد هذا من قاواها ،لن مراد المقدار الذل له ،فإذا
قاويت القدر فلنت مرادك من ذلك لم يبق لك ذل .
مثال هذا :أن يجوع الفقير فيصبر قدر الطاقة ،فإذا عجز خرج إلى سؤال الخلق مستحيا من ال كيف
يسألهم ،و إن كان له عذر بالحجة لتي ألجأته ،غير أنه يرى أنه مغلوب الصبر فيبقى معتذرا مستحيا و
ذاك المراد منه .
أو ليس بخروج النبي صلى ال عليه و سلم من مكة فل يقدر على العود إليها حتى يدخل في خفارة
المطعم بن عدي و هو كافر .
فسبحان من ناط المور بالسباب ،ليحصل ذل بالحاجة إلى التسبب .
سبحان المتصرف في حقله بالغتراب و الذلل ليبلو صبرهم ،و يظهر جواهرهم في البتلء .
هذا آدم صلى ال عليه و سلم ،تسجد له الملئكة ،ثم بعد قليل يخرج من الجنة .
و هذا نوح عليه السلم يضرب حتى يغشى عليه ،ثم بعد قليل ينجو في السفينة ،و يهلك أعداؤه .
و هذا الخليل عليه السلم يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلمة .
و هذا الذبيح يضطجع مستسلما ،ثم يسلم و يبقى المدح .
و هذا يعقوب عليه السلم يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول .
و هذا الكليم عليه السلم يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم .
و هذا نبينا محمد صلى ال عليه و سلم يقال له بالمس اليتيم ،و يقلب في عجائب يلقيها من العداء
تارة ،و من مكائد الفقر أخرى ،و هو أثبت من جبل حراء .ثم لما تم مراده من الفتح ،و بلغ الغرض
من أكبر الملوك و أهل الرض نزل به ضيف النقلة ،فقال :و اكرباه .
فمن تلمح بحر الدنيا ،و علم كيف تتلقى المواج ،و كيف يصبر على مدافعة اليام ،لم يستهول نزول
بلء ،و لم يفرح بعاجل رخاء .
أجل الجهال من آثر عاجلً على آجل ل يأمن سوء مغبته ،فكم قد سمعنا عن سلطان و أمير و صاحب
مال أطلق نفسه في شهواتها ،و لم ينظر في حلل و حرام فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ ،
و لقي من مرير الحسرات ما ل يقاومه و ل ذرة من كل لذة .
و لو كان هذا فحسب لكفى حزنا كيف و الجزاء الدائم بين يديه .
فالدنيا محبوبة للطبع ل ريب في ذلك و ل أنكر على طالبها و مؤثر شهواتها .
و لكن ينبغي له أن ينظر في كسبها و يعلم وجه أخذها ،ليسلم له عاقبة لذته ،و إل فل خير في لذة
من بعدها النار .
و هل عد في العقلء قط من قيل له :إجلس في المملكة سنة ثم نقتلك .
هيهات بل المر بالعكس و هو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة بل سنين ليستريح في عاقبته .
و في الجملة أف للذة أعبت عقوبة .
و قد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال :أخبرنا أبو بكر الخطيب ،قال :أخبرنا الحسن بن أبي
طالب ،قال :حدثنا يوسف بن عمر القواس ،قال :حدثنا الحسين بن إسماعيل إملء ،قال :حدثنا عبد
ال بن أبي سعد ،قال :حدثنا محمد بن أبي مسلمة البلخي ،قال :حدثنا محمد بن علي القوهستاني ،قال
:حدثنا دلف بن أبي دلف قال [ :رأيت كأن آتيا أتى بعد موت أبي فقال أجب المير .فقمت معه ،فأدخلني
دار وحشة ،و عرة سوداء الحيطان ،مقلمة السقوف و البواب ،ثم أصعدني درجا فيها .ثم أدخلني
غرفة ،فإذا في حيطانها أثر النيران ،و إذا في أرضها أثر الرماد و إذا بأبي عريان واضعا رأسه بين
ركبتيه فقال لي كالمستفهم :دلف ؟ قلت :نعم أصلح ال المير ] .فأنشأ يقول :
ما لقينا في البرزخ الخفاق أبلغن أهلنا و ل تخف عنهم
فارحموا وحشتي و ما قد ألقي قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا
أفهمت ؟ قلت :نعم ؟ فأنشأ يقول :
لكان الموت راحة كل حي فلو إنا إذا متنا تركنا
و نسأل بعده عن كل شيء و لكن إذا متنا بعثنا
اللذات كلها بين حسي و عقلي ،فنهاية اللذات الحسية و أعلها النكاح ،و غاية اللذات العقلية العلم ،
فمن حصلت له الغاياتان في الدنيا فقد نال النهاية ،و أنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين ،غير أن
للطالب المرزوق علمة و هو أن يكون مرزوقا علو الهمة ،و هذه الهمة تولد مع الطفل فتراه من زمن
طفولته يطلب معالي المور .
كما يروى في الحديث أنه كان لعبد المطلب مفرش في الحجر ،فكان النبي صلى ال عليه و سلم يأتي و
هو طفل فيجلس عليه ،فيقول عبد المطلب [ :إن لبني هذا شأنا ] .
فإن قال قائل :فإذا كانت لي همة و لم أرزق ما أطلب فما الحيلة ؟
فالجواب :أنه إذا امتنع الرزق من نوع لم يمتنع من نوع آخر .
ثم من البعيد أن يرزقك همة و ل يعينك ،فأنظر في حالك فلعله أعطاك شيئا ما شكرته ،أو إبتلك
بشيء من الهوى ما صبرت عنه .
و اعلم أنه ربما زوى عنك من لذات الدنيا كثيرا ليؤثرك بلذات العلم ،فإنك ضعيف ربما ل تقوى على
الجمع ،فهو أعلم بما يصلحك .
و أما ما أردت شرحه لك فإن الشاب المبتدئ طلب العلم ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفا ،و يجعل
علم الفقه الهم ،و ل يقصر في معرفة النقل ،فيه تبين سير الكاملين ،و إذا رزق فصاحة من حيث
الوضع ،ثم أضيف إليها معرفة اللغة و النحو فقد شحذت شفرة لسانه على أجود مسن .و متى أدى العلم
لمعرفة الحق و خدمة ال عز وجل فتحت له أبواب ل تفتح لغيره .
و ينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءا من زمانه مصروفا إلى توفير الكتساب و التجارة ،مستنيبا فيها ،
غير مباشر لها مع التدبير في العيش الممتن من السراف و التبذير .
فإن رواية العلم و العمل به إلى درجة المعرفة ل عز وجل آسرة للمشاعر ،فربما شغلته لذة ما وصل
إليه عن كل شيء ،و يا لها حالة سليمة من آفة .و إن وجد من طبعه منازعا إلى الشوق في النكاح
فليتخير السراري فإن الحرائر في الغلب غل ،و ليعزل عن المملوكات إلى أن يجرب خلقهن و دينهن ،
فإن رضيهن طلب الولد منهن ،و إل فالستبدال بهن سهل .
و ل يتزوج حرة إل أن يعلم أنها تصبر على التزويج عليها و التسري ،و لكن قصده الستمتاع بها ل
إجهاد النفس في النزال .
فإن ذلك يهدم قوته فيضعف الصل .
فهذه الحالة الجامعة من لذتي الحسن و العقل ذكرتها على وجه الشارة .
و فهم الذكي يملى عليه ما لم أشرحه .
قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع العاجم فارتقوا منابر التذكير للعوام فكان معظم مجالسهم أنهم
يقولون :ليس ال في الرض كلم ،و هل المصحف إل ورق و عفص و زاج ،و إن ال ليس في السماء
،و إن الجارية التي قال لها النبي صلى ال عليه و سلم :أين ال ؟ كانت خرساء فأشارت إلى السماء ،
أي ليس هو من الصنام التي تعبد في الرض .ثم يقولون :أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف
و صوت ،هذا عبارة جبريل .
فلما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام ،و صار أحدهم يسمع فيقول هذا هو
الصحيح ،و إل فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس .
فشكا إلى جماعة من أهل السنة ،فقلت لهم :إصبروا فل بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الوقات
و إن كانت مدموغة ،و للباطل جولة ،و للحق صولة ،و الدجالون كثر ،و ل يخلو بلد ممن يضرب
البهرج على مثل سكة السلطان .
قال قائل :فما جوابنا عن قولهم ؟ قلت :إعلم ـ و فقك ال تعالى ـ أن ال عز وجل و رسوله صلى
ال عليه و سلم قنعا من الخلق باليمان بالجمل و لم يكلفهم معرفة التفاصيل ،إما لن الطلع على
التفاصيل يخبط العقائد ،و إما لن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك .
فأول ما جاء به الرسول صلى ال عليه و سلم إثبات الخالق ،و نزل عليه القرآن بالدليل على وجود
الخالق بالنظر في صنعه ،فقال تعالى :أمن جعل الرض قرارا و جعل خللها أنهارا .
و قال تعالى :و في أنفسكم أفل تبصرون .
و ما زال يستدل على و جوده بمخلوقاته ،و على قدرته بمصنوعاته ،ثم أثبت نبوة نبيه بمعجزاته ،و
كان من أعظمها القرآن الذي جاء به ،فعجز الخلئق عن مثله ،و إكتفى بهذه الدلة جماعة من
الصحابة ،و مضى على ذلك القرآن الول و المشرب صاف لم يتكدر ،و علم ال عز وجل ما سيكون من
البدع ،فبالغ في إثبات الدلة ومل بها القرآن .
و لما كان القرآن هو منبع العلوم ،و أكبر المعجزات للرسول ،أكد المر فيه فقال تعالى و هذا كتاب
أنزلناه مبارك و ننزل من القرآن ما هو شفاء .
فأخبر أنه كلمه بقوله تعالى :يريدون أن يبدلوا كلم ال .
و أخبر أنه مسموع بقوله تعالى :حتى يسمع كلم ال .
و أخبر أنه محفوظ فقال تعالى :في لوح محفوظ .
و قال تعالى :بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم .
و أخبر أنه مكتوب و متلو ،فقال تعالى :و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و ل تخطه بيمينك .
إلى ما يطول شرحه من تعدد اليات في هذه المعاني التي توجب إثبات القرآن .
ثم نزه نبيه صلى ال عليه و سلم عن أن يكون أتى من قبل نفسه .فقال تعالى :أم يقولون افتراه بل
هو الحق من ربك .
و تواعده لو فعل ،فقال تعالى :و لو تقول علينا بعض القاويل .
و قال في حق الزاعم إنه كلم الخلق حين قال :إن هذا إل قول البشر * سأصليه سقر .
و لما عذب كل أمة بنوع عذاب توله بعض الملئكة كصيحة جبريل عليه السلم بثمود ،و إرسال الريح
على عاد ،و الخسف بقارون ،و قلب جبريل ديار قوم لوط عليه السلم ،و إرسال الطير البابيل على من
قصد تخريب الكعبة .
و تولى هو بنفسه عقاب المكذبين بالقرآن ،فقال تعالى :ذرني و من يكذب بهذا الحديث ذرني و من
خلقت وحيدا .
و هذا لنه أصل هذه الشرائع و المثبت لكل شريعة تقدمت .فإن جميع الملل ليس عندهم ما يدل على
صحة ما كانوا فيه إل كتابنا ،لن كتبهم غيرت و بدلت .
و قد علم كل ذي عقل أن القائل :إن هذا إل قول البشر إنما أشار إلى ما سمعه .
و ل يختلف أولو اللباب وأهل الفهم للخطاب ،أن قوله و إنه كناية عن القرآن ،و قوله :نزل به كناية
أيضا عنه ،و قوله :هذا كتاب إشارة إلى حاضر .
و هذا أمر مستقر لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى ال عليه و سلم و الصحابة
رضوان ال عليهم ،ثم دس الشيطان دسائس البدع ،فقال قوم :هذا المشار إليه مخلوق ،فثبت المام
أحمد رحمه ال ثبوتا لم يثبته غيره على دفع هذا القول ،لئل يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه
في النفوس ،و يخرجه عن الضافة إلى ال عز وجل .
و رأى أن إبتداع ما لم يقل فيه ل يجوز إستعماله فقال :كيف أقول ما لم يقل .
ثم لم يختلف الناس في غير ذلك ،إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الشعري فقال مرة بقول المعتزلة ،ثم
عن له فإدعى أن الكلم صفة قائمه بالنفس ،فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق .
و زادت فخبطت العقائد تعالى فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم .
و الكلم في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج و الشبه في كتب الصول ،فل أطيل به ههنا ،بل أذكر لك
جملة تكفي من أراد ال هداه ،و هو أن الشرع قنع منا باليمان جملة ،و بتعظيم الظواهر ،و نهى عن
الخوض فيما يتير غبار شبهة ،و ل تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم .
و إذا كان قد نهى عن الخوض في القدر فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر ؟ . .
و ما ذاك إل لحد المرين اللذين ذكرتهما ،إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد ،أو لن قوى البشر
تعجز عن إدراك الحقائق .
فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت و جود القرآن فقال قائل :ليس ههنا قرآن ،فقد رد الظواهر التي تعب
الرسول صلى ال عليه و سلم في إثباتها ،و قرر و جودها في النفوس .
و بماذا يحل و يحرم ،و يبت و يقطع ،و ليس عندنا من ال تعالى تقدم بشيء .
و هل للمخالف دليل إل أن يقول :قال ال فيعود فيثبت ما نفى ؟
فليس الصواب لمن وفق إل الوقوف مع ظاهر الشرع ،فإن إعترضه ذو شبهة فقال :هذا صوتك و هذا
خطك ،فأين القرآن ؟ فليقل له :قد أجمعنا أنا و أنت على وجود شيء به نحتج جميعا .
و كما أنك تنكر على أن أثبت شيئا ل يتحقق لي إثباته حسا ،فأنا أنكر عليك كيف تنفي وجود شيء قد
ثبت شرعا .
و أما قولهم :هل في المصحف إل ورق و عفص و زاج ،فهذا كقول القائل :هل الدمي إل لحم و
دم ؟
هيهات أن معنى الدمي هو الروح ،فمن نظر إلى اللحم و الدم و قف مع الحس .
فإن قال :فكذا أقول إن المكتوب غير الكتابة :قلنا له :و هذا مما ننكره عليك لنه ل يثبت تحقيق هذا
لك و ل لخصمك ،فإن أردت بالكتابة الحبر و تخطيطه فهذا ليس هو القرآن ،و إن أردت المعنى القائم
بذلك فهذا ليس هو الكتابة .
و هذه الشياء ل يصلح الخوض فيها ،فإن ما دونها ل يمكن تحقيقه على التفصيل كالروح مثلً ،فإنا
نعلم وجودها في الجملة ،فأما حقيقتها فل .
فإذا جهلنا حقائقها كنا لصفات الحق أجهل ،فوجب الوقوف مع السمعيات ،مع نفي ما ل يليق ،لن
الخوض يزيد الخائض تخبيطا و ل يفيده تحصيلً ،بل يوجب عليه نفي ما يثبت بالسمع من غير تحقيق
أمر عقلي ،فل وجه للسلمة إل طريق السلف و السلم .
و كذلك أقول إن إثبات الله بظواهر اليات و السنن ألزم للعوام من تحديثهم بالتنزيه ،و إن كان التنزبه
لزما .
و قد كان ابن عقيل يقول [ :الصلح فعتقاد العوام ظواهر الي و السنن ،لنهم يأنسون بالثبات ،
فمتى محونا ذلك من قولبهم زالت السياسات و الحشمة ] .
و تهافت العوام في الشبهة أحب إلي من إغراقهم في التنزيه ،لن التشبيه يغمسهم في الثبات ،
فيطمعوا و يخافوا شيئا قد أنسوا إلى ما يخاف مثله و يرجى .
فالتنزيه يرمي بهم إلى النفي ،و ل طمع و ل مخافة من النفي .
و من تدبر الشريعة رآها عامة للمكلفين في التشبيه باللفاظ التي ل يعطي ظاهرها سواه كقول العرابي
:أو يضحك ربنا ؟ قال :نعم ،فلم يكفر من هذا القول .
،أعظم البليا أن يعطيك همه عالية و يمنعك من العمل بمقتضاها ،فيكون من تاثير همتك النفة من
قبول إرفاق الخلق استثقالً لحمل مننهم ،ثم يبتليك بالفقر فتأخذ منهم ،و يلطف مزاجك ،فل تقبل من
المأكولت ما سهل إحضاره فتحتاج إلى فضل نفقة ،ثم يقلل رزقك و يعلق همتك بالمستحسنات ،و يقطع
بالفقر السبيل إليهن .
و يريك العلوم في مقام معشوق ،و يضعف بذلك عن العادة ،و يخلي يديك من المال الذي تحصل به
الكتب ،و يقوي توقك إلى درجات العارفين و الزهاد ،و يحوجك إلى مخالطة أرباب الدنيا و هذا البلء
المبين .
و اما الخسيس الهمة الذي ل يستنكف من سؤال الخلق ،و ل يرى الستبدال بزوجته ،و يكتفي بيسير
من العلم ،و ل يتوق إلى أحوال العارفين ،فذاك ل يؤلمه فقد شيء ،و يرى ما وجد هو الغاية ،فهو
يفرح فرح الطفال بالزخارف ،فما أهون المر عليه .
إنما البلء على العارف ذي الهمة العالية الذي تدعوه همته إلى جميع الضداد للتزيد من مقام الكمال ،
و تقصر خطاه عن مدارك مقصودة .
فيا له من حال ينفد في طريقه زاد الصابرين .
و لول حالت غفلة تعتري هذا المبتلي يعيش بها لكان دوام ملحظته للمقامات يعمي بصره ،و اجتهاده
في السلوك يخفي قدمه .
لكن ملحظات المداد له تارة ببلوغ بعض مراده ،و تارة بالغفلة عما قصد ،تهون عليه العيش .
و هذا كلم عزيز ل يفهمه إل أربابه ،و ل يعلم كنهه إل أصحابه .
تراعنت علي نفسي في طلبها شيئا من أغراضها بتأويل فاسد ،فقلت لها :بال عليك تصبري ،فإن في
المعبر شغلً يحذر الغرق من كثرة الموج عن التنزه في عجائب البحر .إذا هممت بفعل فقدري حصوله ،
ثم تلمحي عواقبه ،و ما تجتنين من ثمراته ،فأقل ذلك الندم على ما فعلت ،و ل يؤمن أن يثمر غضب
الحق عز وجل ،و إعراضه عنك ،فأف للقاطع عنه و لو كان الجنة .
ثم إعلمي أيتها النفس أنه ما يمضي شيء جزافا ،و أن ميزان العدل تبين فيه الذرة ،فتلمحي الموات
و الحياء ،و انظري إلى من نشر ذكره بالخير و الشر ،و زيادة ذلك و نقصانه .
فسبحان من أظهر دليل الخلوات على أربابها ،حتى أن حبات القلوب تتعلق بأهل الخير ،
و تنفر من أهل الشر من غير مطالعة لشيء من أعمال الكل .
قال إبليس :أو تترك مرادك لجل الخلق ؟
قلت :ل ،إنما هذا بعض الثمرات الحاصلة ل عن الغرض .
و نحن نرى من يمشي ثلثين فرسخا ليقال ساع ،فالمتقي قد نال شرف الذكر و إن لم يقصد نيل ذلك
مترجحا له في وزن الجزاء سيجعل لهم الرحمن ودا .
النفس :لقد أمرتني بالصبر على العذاب ،لن ترك الغراض عذاب .
قلت :لك عن الغرض عوض ،و من كل متروك بدل ،و أنت في مقام مستعبد و ل يصح للجير أن
يلبس ثياب الراحة في زمان الستئجار ،و كل زمان المتقي نهار صوم .
و من خاف العقاب ترك المشتهى ،و من رام القرب إستعمل الورع ،و للصبر حلوة تبين في العواقب
.
من نازعته نفسه إلى لذة محرمة ،فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها و عقابها و سمع هتاف العقل
يناديه :و يحك ل تفعل ،فإنك تقف عن الصعود ،و تأخذ في الهبوط ،و يقال لك :إبق بما إخترت ،فإن
شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له ،لم يزل في نزول ،و كان مثله في سوء إختياره كالمثل المضروب :
أن الكلب قال للسد :ياسيد السباع ،غير إسمي فإنه قبيح ،فقال له :أنت خائن ل يصلح لك غير هذا
السم ،قال :فجربني فأعطاه شقة لحم و قال :إحفظ لي هذه إلى غد و انا أغير إسمك ،فجاع و جعل
ينظر إلى اللحم ،و يصبر ،فلما غلبته نفسه قال :و أي شيء بإسمي ؟ و ما كلب إل إسم حسن .فأكل .
و هكذا الخسيس الهمة ،القنوع بأقل المنازل ،المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل .
فا ال ال في حريق الهوى إذا ثار ،و انظر كيف تطفئه ،فرب زلة أوقعت في بئر بوار ،و رب أثر لم
ينقلع ،و الفائت ل يستدرك على الحقيقة ،فابعد عن أسباب الفتنة ،فإن المقاربة محنة ل يكاد صاحبها
يسلم ،و السلم .
رأيت الخلق كلهم في صف محاربة ،و الشياطين يرمونهم بنبل الهوى ،و يضربونهم بأسياف اللذة .
فأما المخلوق فصرعى من أول وقت اللقاء .
و أما المتقون ففي جهد جهيد من المجاهدة ،فل بد مع طول الوقوف في المحاربة من جراح ،فهم
يجرحون و يداوون إل أنهم من القتل محفوظون .
بل ،إن الجراحة في الوجه شين باق ،فليحذر ذلك المجاهدون .
الدنيا فخ ،و الجاهل بأول نظرة يقع ،فأما العاقل المتقي فهو يصابر المجاعة و يدور حول الحب
والسلمة بعيدة .
فكم من صابر إجتهد سنين ،ثم في آخر المر وقع .
فالحذر الحذر .فقد رأينا من كان سنن الصواب ،ثم زل على شفير القبر .
إعلموا إخواني و من يقبل نصيحتي ،أن للذنوب تأثيرات قبيحة ،مرارتها تزيد على حلوتها أضعافا
مضاعفة .
و المجازي بالمرصاد ،ل يسبقه شيء ،و ل يفوته .
أو ليس يروي التفسير ،أن كل واحد من أولد يعقوب عليهم السلم و كانوا إثنى عشر ـ ولد له إثنا
عشر ولدا ،إل يوسف فإنه ولد له أحد عشر و جوزي بتلك الهمة فنقص ولدا .
فوا أسفا لمضروب بالسياط ما يحسن باللم ،و لمثخن بالجراح و ما عنده من نفسه خبر ،و لمتقلب
في عقوبات ما يدري بها .
و لعمري أن أعظم العقوبة أل يدري بالعقوبة .
فواعجبا للمغالط نفسه ،يرضي ربه بطاعة ،و يقول :حسنة ،و سيئة .
و يحك من كيسك تنفق ،و من بضاعتك تهدم ،و وجه جاهل تشين .
رب جراحة قتلت ،و رب عثرة أهلكت ،و رب فارط ل يستدرك .
و يحك انتبه لنفسك ما الذي تنتظر بأوبتك ؟ و ماذا تتقرب المشيب ؟ فها هو ذا أوهن العظم .
و هل بعد رحيل الهل و الولد و القارب إل اللحاق ؟
قدرأن ما تؤمله من الدنيا قد حصل ،فكان ماذا ؟ ما هو عاجل فشغلك عاجلً .ثم آخر جرعة اللذة
شرقة ،و إما أن تفارق محبوبك أو يفارقك .فيا لها جرعة مريرة ،تود عندنا أن لو لم تره .
آه لمحجوب العقل عن التأمل ،و لمصدود عن الورود ،و هو يرى المنهل .
أما في هذه القبور نذير ؟ أما في كرور الزمان زاجر ؟
أين من ملك وبلغ المنى فيما أمل ،نادهم في ناديهم ،هيهات صموا عن مناديهم فلو أن ما بهم
الموت ،إنما هنيه . . .ثم القبور .
العمل حصل يا معدوما بالمس ،يا متلشي الشلء في الغد ؟ بأي وجه تلقى ربك ؟ أيساوي ما تناله
من الهوى لفظ عتاب ؟
با ال إن الرحمة يعد المعاتبة ،ربما لم تستوف قلع البغضة من صميم القلب .
فكيف إن أعقب العتاب عقاب ،و قد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال أخبرنا أبو بكر الخطيب ،
قال أخبرنا محمد بن الحسين المعدل ،قال :أخبرنا أبو الفضل الزهري ،قال :أخبرنا أحمد بن محمد
الزعفراني ،قال :حدثنا أبو العباس بن واصل المقري ،قال :سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال
[ :رأى جار لنا يحي بن أكثم بعد موته في منامه ،فقال ما فعل بك ربك ؟ فقال :وقفت بين يديه ،فقال
لي :سوء لك ياشيخ ] .
فقلت :يارب إن رسولك قال :إنك لتستحي من أبناء الثمانين أن تعذبهم و أنا ابن ثمانين أسير ال في
الرض .
فقال لي :صدقت رسولي قد عفوت عنك .
و في رواية أخرى ،عن محمد بن سلم الخواص ،قال [ :رأيت يحي بن أكثم في المنام فقلت :ما فعل
ال بك ؟ فقال :أوقفني بين يديه و قال لي :يا شيخ السوء لو ل شيبتك لحرقتك بالنار ] .
و المقصود من هذا النظر بعين العتبار ،هل يفي هذا بدخول الجنة فضلًعن لذات الدنيا ؟
فنسأل ال عز وجل أن ينبهنا من رقدات الغافلين ،و أن يرينا الشياء كما هي لنعرف عيوب الذنوب و
ال الموفق .
يجب على من ل يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدا ،و ل يغتر بالشباب و الصحة ،فإن أقل من
يموت الشياخ ،و أكثر من يموت الشبان و لهذا يندر من يكبر ،و قد أنشدوا :
و ينسى من يموت من الشباب يعمر واحد فيغر قوما
ل .و إنما
و من الغترار طول المل ،و ما من آفة أعظم منه ،فإنه لول طول المل ما وقع إهمال أص ً
يقدم المعاصي و يؤخر التوبة لطول المل و تبادر الشهوات ،و تنس النابة لطول المل .و إن لم تستطع
قصر المل ،فإعمل عمل قصير المل و ل تمس حتى تنظر فيما مضى من يومك ،فإن رأيت زلة فامحها
بتوبة .أو خرقا فارقعه بإستغفار ،و إذا أصبحت فتأمل ما مضى في ليلك .و إياك و التسويف فإنه أكبر
جنود إبليس :
و مقبل عيشك لم يدبر و خذ لك منك على مهله
ر و تطوي الورود على المصدر و خف هجمة ل تقيل العثا
يضمك في حلبة المحشر و مثل لنفسك أي الرعيل
ثم صور لنفسك قصر العمر ،و كثرة الشغال ،و قوة الندم على التفرط عند الموت ،و طول الحسرة
على البدار بعد الفوت .
و صبور ثواب الكاملين و أنت ناقص ،و المجتهدين و أنت متكاسل ،و ل تخل نفسك من موعظة
تسمعها ،و فكرة تحادثها بها ،فإن النفس كالفرس المتشيطن إن أهملت لجامه لم تأمن أن يرمي بك .و
قد و ال دنستك أهواؤك ،و ضيعت عمرك .
فالبدار في الصيانة ،قبل تلف الباقي بالصبانة .فكم تعرقل في فخ الهوى جناح حازم ،و كم وقع في
بئر بوار مخمور .و ل حول و ل قوة إل ال .
الحذر الحذر من المعاصي .فإن عواقبها سيئة ،و كم من معصية ل يزال صاحبها في هبوط أبدا مع
تعثير أقدامه ،و شدة فقره و حسراته على ما تفوته من الدنيا ،و حسرة لمن نالها .
فلو قارب زمان جزائه على قبيحه الذي ارتكبه كان اعتراضه على القدر في فوات أغراضه يعيد العذاب
جديدا ،فوا أسفا لمعاقب ل يحسن بعقوبته .
و آه من عقاب يتأخر حتى ينسى سببه .
أو ليس ابن سيرين يقول [ :عيرت رجلً بالفقر فافتقرت بعد أربعين سنة ]
و ابن الخلل يقول [ :نظرت إلى شاب مستحسن فنسيت القرآن بعد أربعين سنة ] .
فوا حسرة لمعاقب ل يدري أن أعظم العقوبة عدم الحساس بها .
ال ال في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء ،و الحذر الحذر من الذنوب خصوصا ذنوب
الخلوات ،فإن المبارزة ل تعالى تسقط العبد من عينه ،و أصلح ما بينك و بينه في السر و قد أصلح لك
أحوال العلنية .
و ل تغتر بستره أيها العاصي فربما يجذب عن عورتك ،و ل بحلمه فربما بغت العقاب .
و عليك بالقلق و اللجأ إليه و التضرع .فإن نفع شيء فذلك ،و تقوت بالحزن ،و تمزز كأس الدمع ،
و احفر لمعول السى قليب قلب الهوى ،لعلك تنبط من الماء ما يغسل جرم جرمك .
أيها المذنب :إذا أحسست نفحات الجزاء فل تكثرون الضجيج ،و ل تقولن قد تبت و ندمت ،فهل زال
عني من الجزاء ما أكره ! فلعل توبتك ما تحققت .
و إن للمجازاة زمانا يمتد امتداد المرض الطويل ،فل تنجح فيه الحيل حتى ينقضي أوانه .
و إن بين زمان :و عصى إلى إبان :فتلقى مدة مديدة .
فاصبر أيها الخاطئ حتى يتخلل ماء عينيك خلل ثوب القلب المتنجس ،فإذا عصرته كف السى ،ثم
تكررت دفع الغسلت حكما بالطهارة .
بقى آدم يبكي على زل ثلث مائة سنة .
و مكث أيوب عليه السلم في بلئه ثماني عشرة سنة .
و أقام يعقوب يبكي على يوسف عليهما السلم ثمانين سنة .
و للبليا أوقات ثم تنصرم ،و رب عقوبة امتدت إلى زمان الموت .
فاللزم لك لن تلزم محراب النابة ،و تجلس جلسة المستجدي ،و تجعل طعامك القلق ،و شرابك
البكاء ،فربما قدم بشير القبول فارتد يعقوب الحزن بصيرا .
و إن مت في سجنك فربما ناب حزن الدنيا عن حزن الخرة ،و في ذلك ربح عظيم .
الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي ،فإن نارها تحت الرماد .
و بما تأخرت العقوبة ثم فجأت ،و ربما جاءت مستعجلة ،فليبادر بإطفاء ما أوقد من نيران الذنوب ،و
ل ماء يطفئ تلك النار إل ما كان من عين العين ،لعل خصم الجزاء يرضى قبل أن يبت الحاكم في حكمه .
قدرت في بعض اليام على شهوة للنفس ،هي عندها أحلى من الماء الزلل في فم الصادي .
و قال التأويل :ما ههنا مانع ،و ل معوق إل نوع ورع .
و كان ظاهر المر امتناع الجواز ،فترددت بين المرين ،فمنعت النفس عن ذلك ،فبقيت حيرتي لمنع
ما هو الغاية في غرضها من غير صاد بحال إل حذر المنع الشرعي .
فقلت لها :يا نفس و ال ما من سبيل إلى تودين و ل ما دونه ؟
فتقلقلت ،فصحت بها :كم وافقتك في مراد ذهبت لذته و بقي التأسف على فعله ؟ فقدري بلوغ الغرض
من هذا المراد ،أليس الندم يبقى في مجال اللذة أضعاف زمانها ؟
فقالت :كيف أصنع ؟ فقلت :
على الحب لكني صبرت على الرغم صبرت و ل و ال مابي جلدة
و ها أنا أنتظر من ال عز وجل حسن الجزاء على هذا الفعل ،و قد تركت باقي هذه الوجهة البيضاء ،
أرجوأن أرى حسن الجزاء على الصبر ،فأسطره فيه إن شاء ال تعالى ،فإنه قد يعجل جزاء الصبر و قد
يؤخره ،فإن عجل ستره ،و إن أخر فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه ،فإنه من ترك شيئا
ل عوضه ال خيرا منه .
و ال إني ما تركته إل ل تعالى ،و يكفيني تركه ذخيرة ،حتى لو قيل لي :أتذكر يوما آثرت ال على
هواك ؟ قلت :يوم كذاو كذا .
فافتخري أيتها النفس بتوفيق من و فقك ،فكم قد خذل سواك .
و احذري أن تخذلي في مقلها ،و ل حول و ل قوة إل با ال العلي العظيم .
و كان هذا في سنة إحدى و ستين و خمسمائة ،فلما دخلت سنة خمس و ستين ،عوضت خيرا من ذلك
بما ل يقارب مما ل يمنع منه ورع و ل غيره .
فقلت :هذا جزاء الترك لجل ال سبحانه في الدنيا ،و لجر الخرة خير و الحمد ال .
ل أنكر على من طلب لذة الدنيا من طريق المباح ،لنه ليس كل أحد يقوى على الترك ،إنما المحنة من
طلبها فلم يجدها ،أو أكثرها ،إل من طريق الحرام ،فاجتهد في تحصيلها ،و لم يبال كيف حصلت .
فهذه المحنة التي بخس العقل فيها حقه ،و لم ينتفع صاحبه بوجوده لنه لو وزن ما آثر عقابه ،
طاشت كفه اللذة التي فنيت عند أول ذرة من جزائها .و كم قد رأينا ممن آثر شهوته فسلبت دينه .
فاليعجب العاقل حين التصفح لحوالهم ،كيف آثروا شيئا ما أقاموا معه ،و صاروا إلى عقاب ل يفارقهم
.
فا ال ال في بخس العقول حقها .
و لينظر السالك أين يضع القدم ،فرب مستعجل و قع في بئر بوار .
و لتكن عين التيقظ مفتوحة ،فإنكم في صف حرب ل يدري فيه من أين يتلقى النبل ،فاأعينوا أنفسكم و
ل تعينوا عليها .
الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد ،لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه .
فأمر بقصد نيته ،و رفع اليدين إليه ،و السؤال له .فقلوب الجهال تستشعر البعد ،و لذلك تقع منهم
المعاصي ،إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر لكفوا الكف عن الخطايا .
و المتيقظون علموا قربه فحضرهم المراقبة ،و كفتهم عن النبساط .
و لول نوع تغطية على عين المراقبة الحقيقية لما انبسطت كف بأكل ،و ل قدرت عين على نظر .
و من هذا الجنس إنه ليغان على قلبي و متى تحققت المراقبة حصل النس و إنما يقع النس بتحقيق
الطاعة ،لن المخالفة توجب الوحشة ،و الموافقة مبسطة المستأنسين .
فيا لذة عيش المستأنسين ،و يا خسار المستوحشين .
و ليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنها في مجرد الصلة و الصيام ،إنما الطاعة الموافقة بامتثال
المر و اجتناب النهي .
هذا هو الصل و القاعدة الكلية ،فكم من متعبد بعيد ،لنه مضيع الصل ،و هادم للقواعد بمخالفة
المر و ارتكاب النهي ،و إنما المحقق من أمسك ذؤابه ميزان المحاسبة للنفس ،فأدى ما عليه ،و اجتنب
ما نهي عنه ،فإن رزق زيادة تنقل ،و إل لم يضره ،و السلم .
•فصل :دوام الود بحسن الئتلف
الدنيا في الجملة معبر فينبغي للنسان أل ينافس بلذاتها ،و أن يعبر اليام بها ،فإنه لو تفكر في كيفية
الذبائح ،و وسخ من يباشرها ،و عمل الكامخ و غيرها من المأكولت ما طابت له .
و لو تفكر في جولن اللقمة مختلطة بالريق ما قدر على إساغتها .
و المرء ل يخلو من حالين ،إما أن يريد التنعم باللذات المباحات ،أو يريد دفع الوقت بالضرورات ،و
أيهما طلب فل ينبغي له أن يبحث فيما يناله عن باطنه ،فإنه لو نظر إلى عورة الزوجة نبا عنها ،و قد
قالت عائشة رضي ال عنها :ما رأيته من رسول ال صلى ال عليه و سلم و ل رآه مني .
فينبغي للعاقل أن يكون له وقت معلوم يأمر زوجته بالتصنع له فيه ،ثم يغمض عن التفتيش ليطيب له
عيشه .و ينبغي لها أن تتفقد من نفسها هذا ،فل تحصره إل على أحسن حال ،و بمثل هذا يدوم العيش .
فأما إذا حصلت البذلة بانت بها العيوب ،فنبت النفس و طلبت الستبدال ،ثم يقع في الثانية مثل ما وقع
في الولى .
وكذلك ينبغي أن يتصنع لها كتصنعها له ،ليدوم الود بحسن الئتلف ،و متى لم يجر المر على هذا
في حق من له أنفه من شيء تنبو عنه النفس ،و قع في أحد أمرين :إما العراض عنها ،و إما
الستبدال بها .
و يحتاج في حالة العراض إلى صبر عن أغراضه ،و في حالة الستبدال إلى فضل مؤنه و كلهما
يؤذي .و متى لم يستعمل ما و صفنا لم يطب له عيش في متعه ،و لم يقدر على دفع الزمان كما ينبغي .
نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع ،و جعلت تنصب لي التأويلت ،و تدفع الكراهة ،و كانت
تأويلتها فاسدة ،و الحجة ظاهرة علىالكراهة ،فلجأت إلى ال تعالى في دفع ذلك عن قلبي ،و أقبلت
على القراءة ،وكان درسي قد بلغ إلى سورة يوسف فافتتحتها ،و ذلك الخاطر قد شغل قلبي حتى ل أدري
ما أقرأ ،فلما بلغت إلى قوله تعالى :قال معاذ ال إنه ربي أحسن مثواي إنتبهت لها و كأني خوطبت بها .
و سهل لك مدارك العلوم حتى نلت في قصير الزمان ما لم ينله غيرك في طويله ،و جلى في عرصة
لسانك عرائس العلوم في حلل الفصاحة بعد أن ستر عن الخلق مقابحك ،فتلقوها منك بحسن الظن .
و ساق رزقك بل كافة تكلف و ل كدر من رغدا غير نزر ؟ فو ال ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك ،
حسن الصورة و صحة اللت ؟ أم سلمة المزاج و اعتدال التركيب ؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة ؟
أم إلهام الرشاد منذ الصغر ؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش و الزلل ؟ أم تحبب طريق النقل و إتباع
الثر من غير جمود تقليد لمعظم ،و ل انخراط في سلك مبتدع ؟ و إن تعدوا نعمة ال ل تحصوها .
كم كائد نصب لك المكايد فوقاك ؟
كم عدو حط منك بالذم فرقاك ؟
كم أعطش من شراب الماني خلقا و سقاك ؟
كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك و أبقاك ؟
فأنت تصبحين و تمسين سليمة البدن ،محروسة الدين ،في تزيد من العلم و بلوغ المل ،فإن منعت
مرادا فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع ،فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح
.
و لو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنخ ذكره امتلت الطروس و لم تنقع الكتابة ،و أنت تعلمين أن ما لم
أذكره أكثر ،و أن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح ،فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه ؟ معاذ ال إنه ربي
أحسن مثواي إنه ل يفلح الظالمون .
ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة ،و قل أن يقاربها إل من يقع فيها .و من حام حول الحمى
يوشك أن يقع فيه .
قال بعض المعتبرين :قدرت مرة على لذة ظاهرها التحريم ،و تحتمل الباحة ،إذ المر فيها مردد ،
فجاهدت النفس فقالت :أنت ما تقدر فلهذا تترك ،فقارب المقدور عليه ،فإذا تمكنت فتركت كنت تاركا
حقيقة .
ففعلت و تركت ،ثم عاودت مرة أخرى في تأويل أرتني فيه الجواز ،و إن كان المر يحتمل ،فلما
وافقتها أثر ذلك ظلمه في قلبي ،لخوف أن يكون المر محرما ،فرأيت أنها تارة تقوى علي بالترخص و
التأويل ،و تارة أقوى عليها بالمجاهدة و المتناع .
فإذا ترخصت لم آمن أن يكون ذلك المر محظورا ،ثم أرى عاجلً تأثير ذلك الفعل في القلب فلما لم آمن
عليها بالتأويل تفكرت في قطع طمعها من ذلك المر المؤثر ،فلم أر ذلك إل بأن قلت لها :قدري أن هذا
المر مباح قطعا ،فو ال ل إله إل هو ل عدت إليه .
فانقطع طمعها باليمين و المعاهدة .و هذا أبلغ دواء وجدته في امتناعها ،لن تأويلها ل يبلغ إلى أن
تأمر بالحنث و التفكير .
فأجود الشياء قطع أسباب الفتن و ترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملً و مؤديا إلى ما ل يجوز ،
ال الموفق .
لول غيبة العاصي في و قت المعاصي كان كالمعاند ،غير أن الهوى يحول بينه و بين الفهم للحال ،فل
يرى إل قضاء شهوته.
و إل فلو لحت له المخلفة خرج من الدين بالخلف ،فإنما يقصد هواه فيقع الخلف ضمنا و تبعا .
و أكثر ما يقع هذا في مقاربة الفتنة ،و قل من يسلم عند المقاربة ،لنه كتقديم نار إلى حلفا .ثم لو
ميز العاقل بين قضاء و طرده لحظة و إنقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر لما قرب منه و
لو أعطى الدنيا .غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر و ذلك .آه كم معصية في ساعتها كأنها لم تكن ثم
بقيت آثارها ،و أقلها ما ل يبرح من المرارة في الندم و الطريق العظم في الحذر أل يتعرض لسبب فتنة
.و ل يقاربه ،فمن فهم هذا و بالغ في الحتراز كان إلى السلمة أقرب .
البليا على مقادير الرجال .فكثير من الناس تراهم ساكتين راضين بما عندهم من دين و دنيا .
و أولئك قوم لم يرادوا لمقاسات الصبر الرفيعة ،أو علم ضعفهم عن مقاومة البلء فلطف بهم .
إنما المحنة العظمى أن ترزق همة عالية ل تقنع منك إل بتحقيق الورع و تجويد الدين ،و كمال العلم ،
ثم تبتلي بنفس تميل إلى المباحات ،و تدعي أنها تجمع بذلك همها ،و تشفي مرضها ،لتقبل مزاحمة
العلة على تحصيل الفضائل .و هاتان الحالتان كضدين ،لن الدنيا و الخرة ضربتان .
و اللزم في هذا المقام مراعات الواجبات ،و أل يفسح للنفس في مباح ل يؤمن أن يتعدى منه إعراض
عن واجب ورع .
المبتلي يصيح ،فلن يبكي الطفل خير من أن يبكي الولد .
و اعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثير في الدين فأوثق السكر قبل فتح الماء ،و البس الدرع
قبل لقاء الحرب ،و تلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد و استظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه و
إن لم يتيقن .
•فصل :مع العدل و النصاف تأتي كل مراد
ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همته مصروفا إلى الحفظ و العادة ،فلو صح صرف الزمان إلى ذلك
كان الولى .
غير أن البدن مطية ،و إجتهاد السير مظنه النقطاع ،و لما كانت القوى تكل فتحتاج إلى تجديد ،و
كان النسخ و المطالعة و التصنيف ل بد منه ،مع أن المهم الحفظ وجب تقسيم الزمان على المرين ،
فيكون الحفظ في طرفي النهار و طرفي الليل ،و يوزع الباقي بين عمل بالنسخ و المطالعة ،و بين راحة
للبدن و أخذ لحظه .
و ل ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء ،فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر الغبن و بان أثره ،و إن
النفس لتهرب إلى النسخ و المطالعة و التصنيف عن العادة و التكرار ،لن ذلك أشهى و أخف عليها .
فليحذر الراكب من إهمال الناقة ،و ل يجوز له أن يحمل عليها ما ل تطيق و مع العدل و النصاف
يتأتى كل مراد .
و من انحرف عن الجادة طالت طريقه .
و من طوى منازل في منزل أوشك أن يفوته ما جد لجله ،على أن النسان إلى التحريض أحوج لن
الفتور ألصق به من الجد .
و بعد ،فاللزم في العلم طلب المهم ،فرب صاحب حديث حفظ مثلً لحديث :من أتى الجمعة فليغتسل :
عشرين طريقا ،و الحديث قد ثبت من طريق واحد ،فشغله ذلك عن معرفة آداب الغسل ،و العمر أقصر و
النفس من أن يفرط منه في نفس ،و كفى بالعقل مرشدا إلى الصواب ،و با ال التوفيق .
أذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف ،فإن كثيرا من العلماء يأنفون من قول ل أدري ،
فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئل يقال :جهلوا الجواب ،و إن كانوا على غير يقين مما قالوا ،و
هذا نهاية الخذلن .
ل سأله عن مسألة فقال :ل أدري ،فقال سافرت البلدان إليك ،
و قد روى عن مالك بن أنس أن رج ً
فقال :ارجع إلى بلدك و قل :سألت مالكا فقال :ل أدري .
فانظر إلى دين هذا الشخص و عقله كيف استراح من الكلفة ،و سلم عند ال عز وجل .ثم إن كان
المقصود الجاه عندهم ،فقلوبهم بيد غيرهم .
و ال لقد رأيت من يكثر الصلة و الصوم و الصمت ،و يتخشع في نفسه و لباسه ،و القلوب تنبوا
عنه ،و قدره في النفوس ليس بذلك .و رأيت من يلبس فاخر الثياب و ليس له كبير نفل و ل تخشع ،و
القلوب تتهافت على محبته .
فتدبرت السبب فوجدته السريرة ،كما روي عن أنس بن مالك أنه لم يكن له كبير صلة و صوم ،و
إنما كانت له سريرة .
فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله ،و عبقت القلوب بنشر طيبه .فا ال ال في السرائر ،فإنه ما
ينفع مع فسادها صلح ظاهر .
نزلت في شدة و كأثرت مت الدعاء أطلب الفرج و الراحة .و تأخرت الجابة ،فانزعجت النفس و قلقت
،فصحت بها :ويلك ،تأملي أمرك ،أمملوكة أنت أم حرة مالكة ؟ أمدبرة أنت أم مدبرة ؟
أما علمت أن الدنيا دار ابتلء و اختبار ،فإذا طلبت أغراضك و لم تصبري على ما ينافي مرادك فأين
البتلء ؟ و هل البتلء إل العراض و عكس المقاصد ؟
فافهمي معنى التكليف و قد هان عليك ما عز ،و سهل ما استصعب .
فلما تدبرت ما قلته سكنت بعض السكون .
فقلت لها :و عندي جواب ثان ،و هو أنك تقتضين الحق بأغراضك و ل تقتضين نفسك بالواجب له ،و
هذا عين الجهل .
و إنما كان ينبغي أن يكون المر بالعكس ،لنك مملوكة ،و المملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق
المالك ،و يعلم أنه ل يجب على المالك تبليغه ما يهوى ،فسكنت أكثر من ذلك السكون .
فقلت لها :و عندي جواب ثالث ،و هو أنك قد استبطأت الجابة ،و أنت سددت طرقها بالمعاصي ،فلو
قد فتحت الطريق أسرعت .كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى .
أو ما سمعت قوله تعالى :و من يتق ال يجعل له مخرجا * و يرزقه يجعل له من أمره يسرا .
أو ما فهمت أن العكس بالعكس ؟
آه من سكر غفلة صار أقوى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول إلى زرع الماني ،
فعرفت النفس أن هذا حق فطمأنت .
فقلت :و عندي جواب رابع ،و هو أنك تطلبين ما ل تعلمين عاقبته ،و ربما كان فيه ضررك ،فمثلك
كمثل طفل محموم يطلب الحلوى ،و المدبر لك أعلم بالمصالح ،كيف و قد قال ال :و عسى أن تكرهوا
شيئا و هو خير لكم .
فلما بان الصواب للنفس في هذه الجوبة ،زادت طمأنينتها .
فقلت لها :و عندي جواب خامس ،و هو أن هذا المطلوب ينقص من أجرك ،و يحط من مربتبتك ،
فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك ،و لو أنت طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك .فأولى لك أن
تفهمي ما قد شرحت .فقالت :لقد سرحت في رياض ما شرحت .فهمت إذ فهمت .
•فصل :إدخر المال و إستغن عن الناس
حضرنا بعض أغذية أرباب الموال .فرأيت العلماء أذل الناس عندهم .فالعلماء يتواضعون لهم و
يذلون لموضع طمعهم فيهم .و هم ل يحلفون بهم لما يعلمونه من إحتياجهم إليهم .
فرأيت هذا عيبا في الفريقين .
أما في أهل الدنيا فوجه العتب أنهم كانوا ينبغي لهم تعظيم العلم .و لكن لجهلهم بقدره فاتهم و آثروا
عليه كسب الموال .فل ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما ل يعرفون و ل يعلمون قدره .
و إنما أعود باللوم على العلماء و أقول :ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل
للنذال .و إن كنتم في غنى عنهم كان الذل لهم و الطلب منهم حراما عليكم .و إن كنتم في كفاف فلم
تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني الحاصل بالذلة ،إل أنه يتخيل لي من هذا المر ،أني
علمت قلة صبر النفس على الكفاف و العزوف عن الفضول ،فإن وجد ذلك منها في وقت لم يوجد على
الدوام .
فالولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى .و يبالغ في الكسب ،و إن ضاع بذلك عليه كثير من زمان
طلب العلم ،فإنه يصون بعرضه عرضه .
و قد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت و خلف مالً .
و خلف سفيان الثوري ما ًل و قال [ :لولك لتمندلوا بي ] .
و قد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال ،و من كان من الصحابة و العلماء يقتنيه .و
السر في فعلهم ذلك .
و حثى طالبي العلم على ذلك ما بينته من أن النفس ل تثبت على التعفف ،و ل تصبر على دوام التزهد
.
و كم رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الخرة فأخرج ما في يده ،ثم ضعفت فعاد يكتسب من
أقبح وجه .
فالولى إدخار المال و الستغناء عن الناس ،ليخرج الطمع من القلب ،و يصفو نشر العلم من شائبة
ميل .
و من تأمل أخبار الخيار من الحبار وجدهم على هذه الطريقة .
و إنما سلك طريق الترفه عن الكسب من لم يؤثر عنده بذل الدين و الوجه فطلب الراحة و نسى أنها في
المعنى عناء ،كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم و ادعاء التوكل ،و ما علموا
أن الكسب ل ينافي التوكل .و إنما طلبوا طريق الراحة و جعلوا التعرض للناس كسبا ،و هذه طريقة
مركبة من شيئين :أحدهما :قلة النفة على العرض .الثاني :قلة العلم .
رأيت عموم أرباب الموال يستخدمون العلماء و يستذلونهم بشيء يسير يعطونهم من زكاة أموالهم ،
فإن كان لحدهم ختمة فلن ما حضر ،و إن مرض قال فلن ما تردد ،و كل منته عليه شيء نزر يجب
تسليمه إلى مثله .
و قد رضي العلماء بالذل في ذلك لموضع الضرورة .فرأيت أن هذا جهل من العلماء بما يجب عليهم
من صيانة العلم ،و دواؤه من جهتين :
إحداهما :القناعة باليسير .كما قيل :من رضي بالخل و البقل لم يستعبده أحد .
الثاني :صرف بعض الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا ،فإنه يكون سببا لعزاز العلم ،
و ذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم ،مع احتمال هذا الذل .
و من تأمل ما تأملته و كانت له أنفة قدر قوته ،و احتفظ بما معه ،أو سعى في مكتسب يكفيه ،و من
لم يأنف من مثل هذه الشياء لم يحظ من العلم إل بصورته دون معناه .
مدار المر كله على العقل ،فإنه إذا تم العقل لم يعمل صاحبه إل على أقوى دليل ،و ثمرة العقل فهم
الخطاب ،و تلمح المقصود من المر .
و من فهم المقصود و عمل على الدليل كان كالباني على أساس وثيق .
و إني رأيت كثيرا من الناس ل يعملون على دليل ،بل كيف اتفق ،و ربما كان دليلهم العادات ،و هذا
أقبح شيء يكون .
ثم رأيت خلقا كثيرا ل يتبعون الدليل بطريق إثباته كاليهود و النصارى .فإنهم يقلدون الباء و ل
ينظرون فيما جاء من الشرائع هل صحيح أم ل ،و كذلك يثبتون الله و ل يعرفون ما يجوز عليه مما ل
يجوز ،فينسبون إليه الولد ،و يمنعون جواز تغييره ما شرع .
و هؤلء لم ينظروا حق النظر ل في إثبات الصانع و ما يجوز عليه ،و ل الدليل على صحة النبوات ،
فتقع أعمالهم ضائعة كالباني على رمل .
و من هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون و يتزهدون و ينصبون أبدانهم في العلم بأحاديث باطلة ،و ل
يسألون عنها من يعلم .
و من الناس من يثبت الدليل و ل يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل .
و من هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا فتزهدوا ،و ما فهموا المقصود ،فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها ،و
أن النفس تجب عداوتها ،فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق ،و عذبوها بكل نوع و منعوها حظوظها ،
جاهلين بقوله صلى ال عليه و سلم إن لنفسك عليك حقا .
و فيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض ،و نحول الجسم ،و ضعف القوى .
و كل ذلك لضعف الفهم للمقصود و التلمح للمراد .كما روي عن داود الطائي أنه كان يترك ماء في دن
تحت الرض فيشرب منه و هو شديد البحر .
و قال لسفيان [ :إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب ،و تشرب الماء البارد المبرد ،فمتى تحب الموت و القدوم
على ال ؟ ]
و هذا جهل بالمقصود .فإن شرب الماء الحار يورث أمراضا في البدن و ل يحصل به الري .
و ما أمرنا بتعذيب أنفسنا على هذه الصورة ،بل تترك ما تدعو إليه من ما نهى ال عنه .
و في الحديث الصحيح :أنا أبا بكر رضي ال عنه لما حلب له الراعي في طريق الهجرة صب الماء
على القدح حتى برد أسفله ،ثم سقى رسول ال صلى ال عليه و سلم ،و فرش له في ظل صخرة .
و كان يستعذب لرسول ال صلى ال عليه و سلم الماء .و قال :إن عندكم ماء بات في شن و إل
كرعنا .
و لو فهم داوود رحمه ال أن إصلح علف الناقة متعين لقطع المسافة لم يفعل هذا .
أل ترى إلى سفيان الثوري فإنه كان شديد المعرفة و الخوف و كان يأكل اللذيذ و يقول [ :إن الدابة إذا
لم يحسن إليها لم تعمل ] .
و لعل بعض من لم يسمع كلمي هذا يقول :هذا ميل على الزهاد .
فأقول :كن مع العلماء ،و أنظر إلى طريق الحسن ،و سفيان ،و مالك ،و أبي حنيفة ،و أحمد ،و
الشافعي ،و هؤلء أصول السلم .
و ل تقلد دينك من قل علمه و إن قوى زهده ،و احمل أمره على أنه كان يطيق هذا و ل تقتد بهم فيما
ل تطيقه ،فليس أمرنا إلينا ،و النفس وديعة عندنا ،فإن أنكرت ما شرحته فأنت ملحق بالقوم الذي نكرت
عليهم .
و هذا رمز إلى المقصود .و الشرح يطول .
الواجب على العاقل أن يتبع الدليل ثم ل ينظر فيما ل يجني من مكروه .
مثاله أنه قد ثبت بالدليل القاطع حكمة الخالق عز وجل و ملكه و تدبيره .
ل مرزوقا ،أوجب عليه الدليل المثبت حكمة الخالق التسليم
فإذا رأى النسان عالما محروما ،و جاه ً
إليه ،و نسبة العجز عن معرفة الحكمة إلى نفسه .
ل منهم ،أفتراهم بماذا حكموا ؟ بفساد هذا التدبير ؟ أليس بمتقضى عقولهم
فإن أقواما لم يفعلوا ذلك جه ً
؟ أو ما عقولهم من جملة مواهبه ؟
فكيف يحكم على حكمته و تدبيره ببعض مخلوقاته التي هي بالضافة إليه أنقص من كل شيء ؟
و لقد بلغني عن اللعين ابن الراوندي أنه كان جالسا على الجسر و في يده رغيف يأكله ،فجازت خيل و
أموال ،فقال :لمن هذه ؟ فقيل :لفلن الخادم .ثم جازت خيل و أموال ،فقال :لمن هذه ؟ فقيل لفلن
الخادم .
فلما مر الخادم رأى شخصا محتقرا ،فرمى الرغيف إلى ناحيته و قال :و هذا لفلن ! ما هذه القسمة !
و لو فكر المعترض لبانت له وجوه أقلها جهله بمن يدعي معرفته و قلة تعظيمه له .و ذلك يوجب عليه
أشد مما كان فيه من تضييق العيش ،و لكنه ميراث إبليس ،حيث إعتقد سوء التدبير في تفضيل آدم عليه
السلم .
فالعجب من تلميذ يتعالم على أستاذه ،و من مملوك يتيه على سيده .
و مما ينبغي أن يتبع فيه الدليل ،و ل يلتفت إلى ما جنت الحال ،أن العلم أشرف مكتسب .
و قد رأى جماعة من الجهلة قلة حظوظ العلماء من الدنيا ،ففأزوروا على العلم و قالوا :ل فائدة فيه ،
و ذلك لجهلهم بمقدار العلم ،فإن تابع الدليل ل يبالي ما جنى .و إنما يبين الختبار بفقد الغرض .
و لو لم يكن من الدليل على صدق نبينا صلى ال عليه و سلم إل إعراضه عن الدنيا و تضييق العيش
ل على صدق طلبه لمطلوب آخر .
عليه .ثم لن يخلف شيئا ،و حرم أهله الميراث ،لكفاءة ذلك دلي ً
و ربما رأى الجاهل قوما من العلماء يفعلون خطيئة فيزدري على العلم و يدعيه ناقصا ،و هذا غلط
كبير ،فليتق ال العاقل و ليعمل بمقتضى العقل فيما يأمر به من طاعة ال تعالى و العمل بالعلم ،و ليعلم
أن البتلء في الصبر على فوات المطلوبات ،و ليلزم إتباع الدليل و إن جنى مكروها و ال الموفق .
رأيت الشتغال بالفقه و سماع الحديث ل يكاد يكفي في صلح القلب ،إل أن يمزح بالرفائق و النظر في
سير السلف الصالحين ،لنهم تناولوا مقصود النقل .و خرجوا عن صور الفعال المأمور بها إلى ذوق
معانيها و المراد بها .
و ما أخبرتك بهذا إل بعد معالجة و ذوق لني وجدت المحدثين و طلب الحديث همة أحدهم في الحديث
العالي و تكثير الجزاء .
و جمهور الفقهاء في علوم الجدل و ما يغالب به الخصم .
و كيف يرق القلب مع هذه الشياء ؟
و قد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته و هديه .ل لقتباس علمه .
و ذلك أن ثمرة علمه هديه و سمته ،فافهم هذا و أمزج طلب الفقه و الحديث بمطالعة سير السلف و
الزهاد في الدنيا ،ليكون سببا لرقة قلبك .
و قد جمعت لكل واحد من مشاهير الخيار كتابا فيه أخباره و آدابه .فجمعت كتابا في أخبار الحسن ،و
كتابا في أخبار سفيان الثوري ،و إبراهيم بن أدهم ،و بشر الحافي ،و أحمد بن حنبل ،و معروف ،و
غيرهم من العلماء و الزهاد ،و ال الموفق للمقصود .و ل يصلح العمل مع قلة العلم .
فهما في ضرب المثل كسائق و قائد ،و النفس بينهما حرون ،و مع جد السائق و القائد ينقطع
المنزل ،و نعوذ بال من الفتور .
•فصل :نورالقلب يلبه المريد
ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب ،فوجدت في قلبي قسوة عظيمة ،و تخايل لي نوع طرد
عن الباب ،و بعد ،و ظلمة تكاثفت .
فقالت نفسي :ما هذا ؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء ؟ فقلت لها :يا نفس السوء جوابك من
وجهين :
أحدهما :إنك تأولت ما ل تعتقدين ،فلو استفتيت لم تفت بما فعلت .
قالت :لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته .
قلت :إل أن إعتقادك ما ترضيه لغيرك في الفتوى .
و الثاني :أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك ،لنه لول نور في قلبك ما أثر هذا
عندك .
قالت :فلقد إستوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب .
قلت :فاعزمي على الترك ،و قدري ما تركت جائزا بالجماع ،و عدي هجره ورعا ،و قد سلمت .
مما أفادتني تجارب الزمان أنه ل ينبغي لحد أن يظاهر بالعداوة أحدا ما إستطاع ،فإنه ربما يحتاج إليه
مهما كانت منزلته .
و إن النسان ربما ل يظن الحاجة إلى مثله يوما ما كما يحتاج إلى عويد منبوذ ل يلتفت إليه .لكن كم
من محتقر احتيج إليه .فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع وقعت الحاجة في دفع ضر .
و لقد إحتجت في عمري إلى ملطفة أقوام ما خطر لي لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف بهم .
و إعلم أن المظاهرة بالعداوة قد تجلب أذى من حيث ل يعلم .لن المظاهر بالعداوة كشاهر السيف
ينتظر مضربا .و قد يلوح منه مضرب خفي ،و إن إجتهد المتدرع في ستر نفسه فيغتنمه ذلك العدو .
فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في أل يظاهر بالعداوة أحدا لما بينت من وقوع إحتياج الخلق
بعضهم إلى بعض ،و إقدار بعضهم على ضرر بعض .
و هذا فصل مفيد تبين فائدته للنسان مع تقلب الزمان .
رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة و تنسى كيف حصلت و ما يتضمنها من الفات .
و بيان هذا أنك إن رأيت صاحب إمارة و سلطنة فتأملت نعمته وجدتها مشوية ،إن لم يقصد هو الشر
حصل من عماله ،ثم هو خائف منزعج في كل أموره ،حذر من عدو أن يسيئه ،فلق ممن هو فوقه أن
يعزله ،و من نظيره أن يكيده ،ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلطين ،و في حساب
أموالهم و تنفيذ أوامرهم التي ل تخلو من أشياء منكرة ،و إن عزل أربى ذلك على جميع ما نال من لذة .
ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ،و منها ،و عليها .
و إن رأيت صاحب تجارة رأيته قد تقطع في البلد فلم ينل ما نال إل بعد علة السن و ذهاب زمان اللذة
.
كان حال شبيبة فقيرا ،كما كبر استغنى و ملك أموالً و اشترى عبيدا من ل من
كما حكى أن رج ً
الترك و غيرهم ،و جواري من الروم ،فقال هذه البيات في شرح حاله:
ملكته بعد أن جاوزت سبعينا ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرينا
مثل الغصون على كثبان يبرينا تطوف بي من التراك أغزلة
يحكين بالحسن حور الجنة العينا و خرد من بنات الروم رائعة
تكاد تعقد من أطرفها لينا يغمزنني بأساريع منعمة
و كيف يحيين ميتا صار مدفونا يردن إحياء ميت ل حراك به
فما الذي تشتكي قلت الثمانينا قالوا أنينك طول الليل يسهرنا
و هذه الحالة هي الغالية فإن النسان ل يكاد يجتمع له كل ما يحبه إل عند قرب رحيله ،فإن بدر ما
يحب في بداية شبابه فالصبوة مانعة من فهم التدابير أو حسن اللتزاز و النسان في حالة الصبوة ل يدري
أين هو إل أن يبلغ ،فإذا بلغ كانت همته في المنكوح كيفما اتفق ،و إن تزوج جاء الولد فمنعوه اللذة و
انكسر في نسفه و افتقر إلى الكسب عليهم ،فبينما هو قد دعك في تلك المديدة القريبة من الثلثين و خطه
الشيب فانفرق من نفسه لعمله أن النساء يتفرقن منه ،كما قال ابن المعتز بال :
فكيف تحبي الغيد الكعاب لقد أتعبت نفسي في مشيبي
و هكذا ل ترى المتمتع بالمستحسنات ،إن و جدهن ،لم يجد مالً يبلغ به المراد ،و إن اشتغل بجمع
المال ضاع زمن تمتعه ،و إذا تم المطلوب فالشيب أقبح قذى و أعظم مبغض .
ثم إن صاحب المال خائف على ماله ،محاسب لمعامليه ،مذموم إن أسرف و إن فتر .
ولده يرصد موته ،و جاريته قد ل ترضى بشخصه ،و هو مشغول بحفظ حواشيه ،فقد مضى زمانه
في محن ،و اللذات فيها خلس معتادة ل لذة فيها ،ثم في القيامة يحشر المير و التاجر خزايا ،إل من
عصم ال .
فإياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم فإنك تستطيبه لبعده عنك ،و لو قد بلغته كرهته ،ثم في ضمنه من
محن الدنيا و الخرة ما ل يوصف .فعليك بالقناعة مهما أمكن ،ففيها سلمة الدنيا و الدين .
و قد قيل لبعض الزهاد و عنده خبز يابس :كيف تشتهي هذا ؟
فقال :أتركه حتى أشتهيه .
•فصل :لن يصيبا إل ما كتب ال لنا
و قع بيني و بين أرباب الوليات نوع معاداة لجل المذهب .فإني كنت في مجلس التذكير أنظر أن
القرآن كلم ال و أنه قديم ،و أقدم من أبا بكر .
و اتفق في أرباب الوليات من يميل إلى مذهب الشعري ،و فيهم من يميل إلى مذهب الروافض ،و
تمالؤا علي في الباطن .
فقلت يوما في مناجاتي للحق سبحانه و تعالى :سيدي نواصي الكل بيدك ،و ما فيهم من يقدر لي على
ضر ،إل أن تجريه على يده ،و أنت قلت سبحانك وما هم بضارين به من أحد إل بإذن ال .
و طيبت قلب المبتلي بقولك :قل لن يصيبنا إل ما كتب ال لنا .
فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلني كان خوفي على ما تصرفه أكثر من خوفي على نفسي ،
لئل يقال :لو كان على حق ما خذل .
و إن نظرت إلى تفصيري و ذنوبي فإني مستحق للخذلن ،غير أني أعيش بما نصرته من السنة ،
فأدخلني في خفارته .
و قد استودعني إياك خلق من صالحي عبادك ،فإن لم تحفظني بي فاحفظني بهم .
سيدي أنصرني على من عاداني .فإنهم ل يعرفونك كما ينبغي ،و هم معرضون عنك على كل حال ،أنا
ـ على تقصيري ـ إليك أنسب .
روي عن الحلج الصوفي أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد و عرقه يسيل ،فجاز بعض العقلء
فقال له :يا أحمق هذا تقاوي على ال تعالى ! ! . . .
و ما أحسن ما قال هذا ! فإنه ما وضع التكليف إل على خلف الغراض و قد يحرج صاحبه إلى أن
يعجز عن الصبر ،فالجاهل الحمق من تقاوى أو من يسأل البلء كما قال ذلك البله :فكيف ما شئت
فإختبرني .
و السعيد من ذل ل و سأل العافية ،فإنه ل يوهب العافية على الطلق ،إذ ل بد من بلء ،و ل يزال
العاقل يسأل العافية ليتغلب على جمهور أحواله ،فيقرب الصبر على يسير البلء .
و في الجملة ينبغي للنسان أن يعلم إنه ل سبي إلى محبوباته خالصة ،ففي كل جرعة غصص ،و في
كل لقمة شجأ :
و لكن ل سبيل إلى الوصال و كم من يعشق الدنيا قديما
و على الحقيقة ما الصبر إل على القدار ،و قل أن تجري القدار إل على خلف مراد النفس .
فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الجر ،و تسهيل المر ،ليذهب زمان البلء سالما من
ل العافية .
شكوى ،ثم يستغيث بال تعالى سائ ً
فأما المتجلد فما عرف ال قط ،نعوذ بال من الجهل به ،و نسأله عرفانه ،إنه كريم مجيب .
الجادة السليمة ،و الطريق القومية ،القتداء بصاحب الشرع .و البذار إلى الستنان به ،فهو الكامل
الذي ل نقص فيه ،فإن خلقا كثيرا إنحرفوا إلى جادة الزهد ،و حملوا أنفسهم فوق الجهد ،فأقاموا في
أواخر العمر ،و البدن قد نهك ،و فانت أمور مهمة من العلم و غيره .
و إن أقواما إنحرفوا إلى صورة العلم فبالغوا في طلبه ،فأفاقوا في أواخر قدم ،و قد فاتهم العمل به .
فطريق المصطفى صلى ال عليه و سلم العلم و العمل ،و التلطف بالبدن .
ما أوصى عبد ال بن عمر ،عمر بن العاصي و قال له :إن لنفسك عليك حقا ،و لزوجك عليك حقا .
فهذه هي الطريق الوسطى ،و القول الفصل .
فأما اليبس المجرد فكم فوت من علم ،لو حصل نيل به أكثر مما نيل بالعمل .
فإن مثل العالم كرجل يعرف الطريق ،و العابد جاهل بها فيمشي العابد من الفجر إلى العصر ،و يقوم
العالم قبيل العصر فيلتقيان و قد سبق العالم فضل شوطه .
فإن قال قائل :بين لي هذا ؟
قلت :صورة التعبد خدمة ل تعالى ،و ذل له و ربما لم يطلع العابد على معنى تلك الصورة ،لنه ربما
ظن أنه أهل لوجود الكرامة على يده ،و أنه مستحق تقبيل يده ،أو أنه خير من كثير من الناس و ذلك
كله لقلة العلم ،و أعني بالعلم فهم أصول العلم ،ل كثرة الرواية و مطالعة مسائل الخلف .
فإذا طالع العالم الصولي ،سبق هذا العابد بحسن خلق ،و مداراة لناس ،و تواضعه في نفسه ،و
إرشاده الخلق إلى ال تعالى ،فيعسر هذا على العابد ،و هو في ليل جهله بالحال راقد .
ربما تزوج العابد ثم حمل نفسه على التجفف ،فحبس زوجته عن مطلوبها و لم يطلقها ،و صار كالتي
حبست الهرة فل هي أطعمتها و ل هي تركتها تأكل من خشاش الرض .
ل من الخلق يعطي كل ذي حق حقه .
و من تأمل حالة الرسول صلى ال عليه و سلم ،رأى كام ً
فتارة يمزح ،و تارة يضحك ،و يداعب الطفال ،و يسمع الشعر ،و يتكلم بالمعاريض ،و يحسن
معاشرة النساء ،و يأكل ما قدر عليه و أتيح له ،و إن كان لذيذا كالعسل .و يستعذب له الماء ،و يفرش
له في الظل ،و لم ينكر ذلك ،و لم يسمع عنه ما حدث بعده من جهال المتصوفة و المتزهدين ،من منع
النفس شهواتها على الطلق .
فقد كان يأكل البطيخ بالرطب ،و يقبل ،و يمص اللسان ،و يطلب المستحسنات .
فأما أكل خبز الشعير و وزن المأكول ،و تجفيف البدن ،و هجر كل مشتهي ،فإنه تعذيب للنفس ،و
هدم للبدن .ل يقتضيه عقل ،و ل يمدحه شرع .و إنما اقتنع أقوام بالقليل ،لسباب مثل أن حديث شبهة
فتقللوا أو إختلط طعام بطعام فتورعوا .
ثم كان النبي صلى ال عليه و سلم يوفي العبادة حقها بقيام الليل و الجتهاد في الذكر .
فعليك بطريقته التي هي أكمل الطرق ،و بشرعته التي ل شوب فيها .و دع حديث فلن و فلن من
الزهاد .و احمل أمرهم على أحسن محمل ،و أقم لهم العذار مهما قدرت .فإن لم تجد عذرا فهم
محجوبون بفعله ،إذ هو قدوة الخلق ،و سيد العقلء .و هل فسد الناس إل بالنحراف عن الشريعة ؟
و لقد حدثت آفات من المتصوفة و المتزهدين .خرقوا بها شبكة الشريعة و عبروا .فمنهم من يدعي
المحبة و الشوق ،و ل يعرف المحبوب .
فتراه يصيح و يستغيث و يمزق ثيابه و يخرج عن حد الشرع بدعواه و مضمونها .
منهم من حمل على نفسه بالجوع و الصوم الدائم ،و قد صح عن النبي صلى ال عليه و سلم إنه قال
لعبد ال بن عمرو :صم يوما و أفطر يوما ،فقال أريد أفضل من ذلك ،فقال ل أفضل .
و فيهم من خرج إلى السياحة ،فأفأت نفسه الجماعة .و فيهم من دفن كتب العلم و قد يصلي و
يصوم ،و لم يعلم أن دفنها خطأ قبيح ،لن النفس تغفل و تحتاج إلى التذكير في كل وقت ،و نعم المذكر
كتب العلم .
و إنما دخل إبليس على قوم منهم من حيث قدر ،و كان مقصوده بدفن الكتب إطفاء المصباح ،ليسير
العابد في الظلمة .
و ما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال :أريد أن أمضي إلى جبل الكام .فقال هذه ـ هوكلة
ـ و هذه كلمة عامية معناها حب البطالة .
و على الحقيقة الزهاد في مقام الخفافيش .قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس ،و هي حالة حسنة
إذا لم تمنع من خير من جماعة ،و اتباع جنازة ،و عيادة مريض .
إل أنها حالة الجنباء ،فأما الشجعان فهم يتعلمون و يعلمون .و هذه مقامات النبياء عليهم السلم .
أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة و بين الفقيه ؟
بال لو مال الخلق إلى التعبد لضاعت الشريعة .
على أنه فهم معنى التعبد لم يقتصر به على الصلة و الصوم فرب ماش في حاجة مسلم فضل تعبده ذلك
على صوم سنة .
و العمل بالبدن سعى اللت الظاهرة .و العلم سعي اللت الباطنة من العقل و الفكر و الفهم ،فلذلك
كان أشرف .
فإن قلت :كيف تذم المعتزلين للشر و تنفي عنهم التعبد ؟
قلت :ما أذمهم بل حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل من الدعاوي و الفات التي سببها قلة العلم .و
حملوا على أنفسهم التي لبست لهم .و عن غير إذن المر ما لم يجز .
حتى إن أحدهم يرى أن فعل ما يؤذي النفس على الطلق فضيلة .و حتى قال بعض الحمقى :دخلت
الحمام فوجدت غفلة .فآليت أل أخرج حتى أسبح كذا و كذا تسبيحة ،فطال المر فمرضت .
و هذا رجل خاطر بنفسه في فعل ما ليس له .و من المتصوفة و الزهاد من قنع بصورة اللباس ،و
ركب من الجهل في الباطن ما ل يسعه كتاب .
طهر ال الرض منهم ،و أعان العلماء عليهم .
فإن أكثر الحمقى معهم ،فلو أنكر عالم على أحدهم ،مال العوام على العالم بقوة الجهل .
و لقد رأيت كثيرا من المتعبدين و هو مقام العجائز يسبح تسبيحات ل يجوز النطق بها ،و يفعل في
صلته ما لم ترد به السنة .
و لقد دخلت يوما على بعض من كان يتعبد ،و قد أقام إماما و هو خلفه في جماعة يصلي بهم صلة
الضحى و يجهر ،غفلت لهم :إن النبي صلى ال عليه و سلم قال :صلة النهار عجماء ،فغضب ذلك
الزاهد و قال :كم ينكر هذا علينا !
و قد دخل فلن و أنكر فلن و أنكر ،نحن نرفع أصواتنا حتى ل ننام .
فقلت :واعجبا و من قال لكم ل تناموا ،أليس في الصحيحين من حديث ابن عمرو و أن النبي صلى
ال عليه و سلم قال له :قم و نم ،و قد كان رسول ال صلى ال عليه و سلم ينام ،و لعله ما مضت
عليه ليلة إل و نام فيها .
ل كان يقال له حسين القزويني بجامع المنصور و هو يمشي في الجامع مشيا كثيرا
و لقد شاهدت رج ً
دائما .فسألت ما السبب في هذا المشي ؟ فقيل لي :حتى ل ينام .
و هذا كلها حماقات أوجبتها قلة العلم ،لنه إذا لم تأخذ النفس حظها من النوم إختلط العقل ،و فات
المراد من التعبد لبعد الفهم .
و لقد حدثني بعض الصالحين المجاورين بجامع المنصور أن رجلً إسمه كثير دخل عليهم الجامع فقال :
إني عاهدت ال على أمر و نقضته ،و قد جعلت تقوبتي لنفسي أل آكل شيئا أربعين يوما ،قال :فمكث
منها عشرة أيام قريب الحال يصلي في جماعة ،ثم في العشر الثاني بان ضعفه و كان يداري المر ،ثم
صار في العشر الثالث يصلي قاعدا ،ثم استطرح في العشر الرابع ،فلم تمت الربعون جيء بنقوع فشربه
،فسمعنا صوته في حلقه مثل ما يقع الماء على المقلة ،ثم مات بعد أيام .
فقلت :يا ل العجب ،أنظروا ما فعل الجهل بأهله ،ظاهر هذا أنه في النار ،إل أن يعفى عنه ،و لو
فهم العلم و سأل العلماء لعرفوه أنه يجب عليه أن يأكل و أن ما فعله بنفسه حرام ،و لكن من أعظم الجهل
ل قليلً حتى تمكنت .
إستبداد النسان بعلمه ،و كل هذه الحوادث نشأت قلي ً
فأما الشرب الول فلم يكن فيه من هذا شيء .و ما كانت الصحابة تفعل شيئا من هذه الشياء و قد
كانوا يؤثرون و يأكلون دون الشبع .و يصبرون إذا لم يجدوا .فمن أراد القتداء فعليه برسول ال صلى
ال عليه و سلم و أصحابه ففي ذلك الشفاء و المطلوب .
و ل ينبغي أن يخلد العاقل إلى تقليد معظم شاع إسمه .فيقول :قال :أبو يزيد و قال الثوري .فإن
المقلد أعمى .و كم قد رأينا أعمى يأنف من حمل عصا .فمن هذا المشار إليه طلب الفضل و العلى .و
ال الموفق .
تأملت الدخل الذي دخل في ديننا من ناحيتي العلم و العمل ،فرأيته من طريقين قد تقدما هذا الدين و
أنس الناس بهما .
فأما أصل الدخل في العلم و العتقاد فمن الفلسفة .
و هو أن خلقا من العلماء في ديننا لم يقنعوا بما قنع به رسول ال صلى ال عليه و سلم من النعكاف
على الكتاب و السنة ،فأوغلوا في النظر في مذاهب أهل الفلسفة وخاضوا في الكلم الذي حملهم على
مذاهب رديئة أفسدوا بها العقائد .
و أما أصل الدخل في باب العمل فمن الرهبانية .
فإن خلقا من المتزهدين أخذوا عن الرهبان طريق التقشف ،و لم ينظروا في سيرة نبينا صلى ال عليه
و سلم و أصحابه ،و سمعوا ذم الدنيا و ما فهموا المقصود ،فاجتمع لهم العراض عن علم شرعنا مع
سوء الفهم للمقصود ،فحدثت منهم بدع قبيحة .
فأول ما ابتدأ به إبليس أنه أمرهم بالعراض عن العلم ،فدفنوا كتبهم و غسلوها و ألزمهم زاوية التعبد
فيما زعم ،و أظهر لهم من الخزعبلت ما أوجب إقبال العوام عليهم فجعل إلههم هواهم ،و لو علموا أنهم
منذ دفنوا كتبهم و فارقوا العلم انطفأ مصباحهم ما فعلوا ،لكن إبليس كان دقيق المكر يوم جعل علمهم في
دفين تحت الرض .
و بالعلم يعلم فساد الطريقين ،و يهتدي إلى الصوب .
نسأل ال عز وجل أل يحرمنا إياه فإنه النور في الظلم ،و النيس في الوحدة ،و الوزير عند الحادثة .
أعوذ با ال من صحبة البطالين ،لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما قد إعتاده الناس من كثرة
الزيارة ،و يسمون ذلك الترددخدمة ،و يطلبون الجلوس و يجرون فيه أحاديث الناس و ما ل يعني ،و ما
يتخلله غيبة .
و هذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس ،و ربما طلبه المزور و تشوق إليه ،و إستوحش من
الوحدة ،و خصوصا في أيام التهاني و العياد .فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض ،و ل يقتصرون على
الهناء و السلم ،بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان .
فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء ،و الواجب إنتهاؤه بفعل الخير ،كرهت ذلك و بقيت مهم بين أمرين
:
إن أنكرت عليهم و قعت وحشة لموضع قطع المألوف ،و إن تقبلته منهم ضاع الزمان ،فصرت أدافع
اللقاء جهدي ،فإذا غلب قصرت في الكلم لتعجل الفراق ،ثم أعددت أعمالً تمنع من المحادثة لوقات
لقائهم لئل يمضي الزمان فارغا .فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد و بري القلم ،و حزم الدفاتر ،
فإن هذه الشياء ل بد منها .و ل تحتاج إلى فكر و حضور قلب ،فأرصدتها لوقات زيارتهم يضيع شيء
من و قتي .
نسأل ال عز وجل أن يعرفنا أوقات العمر ،و ان يوفقنا لغتنامه .
و لقد شاهدت خلقا كثيرا ل يعرفون معنى الحياة ،فمنهم من أغناه ال عن التكسب بكثرة ماله ،فهو
يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس ،و كم تمر به من آفة و منكر .
و منهم من يخلو بلعب الشطرنج ،و منهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من السلطين و الغلء و
الرخص ،إلى غير ذلك .
فعلمت أن ال تعالى لم يطلع على شرف العمر و معرفة قدر أوقات العافية إل من و فقه و ألهمه إغتنام
ذلك و ما يلقاها إل ذو حظ عظيم .
رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة .
لني أشافه في عمري عددا من المتعلمين و أشافه بتصنيفي خلقا ل تحصى ما خلقوا بعد .
و دليل هذا أن إنتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من إنتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم .
فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد ،فإنه ليس كل من صنف صنف .
و ليس المقصود جمع شيء كيف كان ،و إنما هي أسرار يطلع ال عز وجل عليها من شاء من عباده
و يوفقه لكشفها ،فيجمع مافرق ،أو يرتب ما شتت ،أو يشرح ما أهمل ،هذا هو التصنيف المفيد .
و ينبغي إغتنام التصنيف في وسط العمر ،لن أوائل العمر زمن الطلب ،و آخره كلل الحواس .
و ربما خان الفهم و العقل من قدر عمره ،و إنما يكون التقدير على العادات الغالبة ،لنه ل يعلم الغيب
فيكون زمان الطلب و الحظ و التشاغل إلى الربعين ،ثم يبتدىء بعد الربعين بالتصانيف و التعليم .
هذا إذا كان قد بلغ ما يريد من الجمع و الحفظ ،و أعين على تحصيل المطالب .
فأما إذا قلت اللت عنده من الكتب ،أو كان في أول عمره ضعيف الطلب فلم ينل ما يريده في هذا
الوان ،أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة .
ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف و التعليم إلى رأس الستين .ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم و
يسمع الحديث و العلم و يعلل التصانيف إلى أن يقع مهم إلى رأس السبعين ،فإذا جاوز السبعين جعل
الغالب عليه ذكر الخرة و التهيؤ للرحيل ،فيوفر نفسه على نفسه إل من تعليم يحتسبه ،أو تصنيف يفتقر
إليه ،فذلك أشرف العدد للخرة .
و لتكن همته في تنظيف نفسه ،و تهذيب خلله ،و المبالغة في إستدراك زلته ،فإن إختطف في خلل
ما ذكرنا ،فنية المؤمن خير من عمله .
و إن بلغ إلى هذه المنازل ،فقد بينا ما يصلح لكل منزل .
و قد قال سفيان الثوري :من بلغ سن رسول ال صلى ال عليه و سلم فاليتخذ لنفسه كفنا ،و قد بلغ
جماعة من العلماء سبعاو سبعين سنة ،منهم أحمد بن حنبل فإنه بلغها فليعلم أنه على شفير القبر ،و أن
كل يوم يأتي بعدها مستطرف .
فإن تمت له الثمانون فليجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلله ،و تهيئه زاده ،و ليجعل الستغفار
حليفه ،و الذكر أليفه ،و ليدقق في محاسبة النفس و في بذل العلم ،أو مخالطة الخلق .
فإن قرب الستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض .
و ليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله ،مثل بث علمه ،و إنفاق كتبه ،و شيء من ماله .
و بعد ،فمن توله ال عز وجل علمه ،و من أراده ألهمه .
فسأل ال عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولنا و ل يتولى عنا إنه قريب مجيب .
رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع ،فهم يستوحشون من فعل الشيء لعدم جريان العادة
ل لنهي الشرع !
فكم من رجل يوصف بالخير يبيع و يشتري ،فإذا حصلت له القراضة باعها بالصحيح من غير تقليد
لمام ،أو عمل برخصة ،عادة من القوم ،و إستثقالً للستفتاء .
و نرى خلقا يحافظون على صلة الرغائب و يتوانون عن الفرائض .
و كثيرا من المتصوفين ل يستوحشون من ظلم الناس ،ثم يتصدقون على الفقراء .
و ربما توانو عن إخراج الزكاة .و تكاسلوا بإستعمال التأويلت فيها .
ثم إذا حضر أحدهم مجلس وعظ بكى كأنه يصانع بتلك الحال .
و منهم من يخرج بعض الزكاة مصانعة عما لم يخرجه .
و منهم من يعلم أن أصل ماله حرام ،و يصعب عليه فراقه للعادة .
و فيهم من يخلف بالطلق و يحنث ،و يرى الفراق صعبا .
فربما تأول ،و ربما تكاسل عن التأويل إتكالً على عفو ال تعالى ،و وعدا من النفس بالتوبة .
و منهم من يرى أن إستعمال الشرع ربما كان سببا في تضييق معاشه .
و قد ألف التفسح فل يسهل عليه فراق ما قد ألف و العادات في الجملة هي المهلكة .
و لقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنة ،فاشتريت منه دكانا و عقدت معه العقد .
فلما إفترقنا غدر بعد أيام .فطلبت منه الحضور عند الحاكم فأبى .
فأحضرته فحلف باليمين الغموس إنه ما بعته ،فقلت ما تدور عليه السنة .و أخذ يبرطل لمن يحول
بيني و بينه من الظلمة .
فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات فل يلتفت معها إلى قول فقيه ،يقول هذا ما قبض الثمن
فكيف يصح البيع ؟ و آخر يقول :كيف يجوز لك أن تأخذ دكانه بغير رضاه ؟ و آخر يقول :يجب عليك أن
تقيله البيع .
فلما لم أقله أخذ هو و أقاربه يأخذون عرضي ،و رأى أنه يحامي عن ملكه ،ثم سعى بي إلى السلطان
سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني ،و يبرطل مالً لخلق من الظلمة ،فبالغوا و سعوا .إل أن ال
تعالى نجاني من شرهم .
ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم ،فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم :ل تحكم له ،فوقف عن الحكم
بعد ثبوت البنية عنده ،فرأيت من هذا الحاكم و من حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظا
لرياستهم ما هون عندي ما فعله ذلك الشيخ حفظا لماله ،لجله و علم هؤلء ،فينحل لي من المر أن
العادات غلبت على الناس ،و إن الشرع أعرض عنه .
و إن وقعت موافقة للشرع فكما أتفق أو لجل العادة .
فإن النسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان عادة قد إستمرت .و يأخذ أعراض الناس و أموالهم
عادة غالبة !! .
فكم قد رأيت هذا الشيخ يصلي و يحافظ على الصلة .ثم لما خاف فوت غرضه ترك الشرع جانبا .
و كم قد رأيت أولئك الحكام يتعبدون و يطلبون العلم .غير أنهم لما خافوا على رياستهم أن تزول تركوا
جانب الدين .
ثم إن ال تعالى نصرني عليه و تقدم إلي الحاكم بإنفاذ ما ثبت عنده ،و دارت السنة فمات الشيخ على
قل ،فنسأله عز وجل التوفيق للنقياد لشرعه و مخالفة أهوائنا .
ما أعرف للعالم قط لذة و ل عزا و ل شرفا و ل راحة و ل سلمة أفضل من العزلة ،فإنه ينال بها
سلمة بدنه و دينه و جاهه عند ال عز وجل و عند الخلق ،لن الخلق يهون عليهم من يخالطهم ،و ل
يعظم عندهم قد المخالط لهم ،و لهذا عظم قدر الخلفاء لحتجابهم .
و إذا رأى العوام أحد العلماء مترخصا في أمر مباح هان عندهم ،فالواجب عليه صيانه علمه و إقامة
قدر العلم عندهم .
فقد قال بعض السلف :كنا نمزح و نضحك ،فإذا صرنا يقتدى بنا فما أراه يسعنا ذلك .
و قال سفيان الثوري :تعلموا هذا العلم و اكظموا عليه ،و ل تخلطوه بهزل فتمجه القلوب .
فمراعاة الناس ل ينبغي أن تنكر .
و قد قال صلى ال عليه و سلم لعائشة :لو ل حدثنا قومك في الكفر لنقضت الكعبة و جعلت لها بابين .
و قال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب [ :رأيت الناس يكرهونهما فتركتهما ] .
و ل تسمع من جاهل يرى مثل هذه الشياء رياء ،إنما هذه صيانة للعلم .
و بيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس أو في يده كسرة يأكلها قل عندهم و إن كان
مباحا ،فيصير بمثابة تخليط الطبيب المر بالحمية .
فل ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام حفظا لهم ،و متى أراد مباحا فليستتر به عنهم .
و هذا القدر الذي لحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب رضي ال عنهما قد قدم الشام راكبا على
حمار و رجله من جانب ،فقال [ :يا أمير المؤمنين يتلقاك عظماء الناس ،فما أحسن ما لحظ ] .
إل أن عمر رضي ال عنه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الصل فقال [ :إن ال أعزكم بالسلم فمهما
طلبتم العزة في غيره أذلكم ] .
و المعنى ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين ل بصور الفعال ،و إن كانت الصور تلحظ .
فإن النسان يخلو في بيته عريانا ،فإذا خرج إلى الناس لبس ثوبين و عمامة و رداء .
و مثل هذا ل يكون تصنعا و ل ينسب إلى كبر .
و قد كان مالك بن أنس يغتسل و يتطيب و يقعد للحديث ،و ل تلتفت يا هذا إلى ما ترى من بذل العلماء
على أبواب السلطين ،فإنه العزلة أصون للعالم و العلم ،و ما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما
يربحونه .
و قد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب ل يغشى الولة ،و عن قول هذا سكتوا عنه ،و هذا فعل
الحازم .
فإن أردت اللذة و الراحة فعليك أيها العالم بقعر بيتك ،و كن معتزلً عن أهلك يطب لك عيشك ،و إجعل
للقاء الهل وقتا ،فإذا عرفوه تصنعوا للقائد ،فكانت المعاشرة بذلك أجود .
و ليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه ،وتحادث سطور كتبك ،و تجري في حلبات فكرك .
و إحيرس من لقاء الخلق و خصوصا العوام .
و اجتهد في كسب يعفك عن الطمع ،فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا .
و قد قيل ل بن المبارك :ما لك ل تجالسنا ؟ فقال :أنا أذهب فأجالس الصحابة و التابعين و أشار بذلك
إلى أنه ينظر في كتبه .
و متى رزق العالم الغنى عن الناس و الخلوة ،فإن كان له فهم يجلب التصانيف فقد تكاملت لذة .
و إن رزق فهما يرتقي إلى معاملة الحق و مناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات .
نسأل ال عز وجل همة عالية تسمو إلى الكمال ،و توفيقا لصالح العمال ،فالسكون طريق الحق أفراد
.
تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم ،فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ .
فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب ،و منهم من فرط إكتساب العلم ،و منهم من أكثر من
الستمتاع باللذات .
فكلهم نادم في حاله الكبر حين فوات الستدراك لذنوب سلفت أو قوى ضعفت ،أو فضيلة فاتت ،
فيمضي زمان الكبر في حسرات .
فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال :و اأسفا على ما جنيت .و إن لم يكن له إفاقة صار
متأسفا على فوات ما كان يلتذ به .
فإما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس ،و يلتذ بتصنيف ما
جمع ،و ل يرى ما يفقد من لذات البدن شيئا بالضافة إلى ما يناله من لذات العلم .
هذا مع و جود لذاته في الطلب الذي كان يتأمل به إدراك المطلوب .
و ربما كانت تلك العمال أطيب مما نيل منها ،كما قال الشاعر :
و رب أمنية أحلى من الظفر اهتز عند تمني وصلها طربا
و لقد تاملت نفسي بالضافة إلى عشيرتي الذبين أنفقوا أعمالهم في اكتساب الدنيا ،و أنفقت زمن
الصبوة و الشباب في طلب العلم ،فرأيتني لم يفتني مما نالوه إل ما لو حصل لي ندمت عليه .
ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم ،و جاهي بين الناس أعلى من جاههم .و ما نلته
من معرفة العلم ل يقاوم .
فقال لي إبليس :و نسيت تعبك و سهرك ؟
فقلت له :أيها الجاهل ،تقطيع اليدي ل و قع له عند رؤية يوسف .و ما طالت طريق أدت إلى صديق
:
و إن ترك المطايا كالمزاد جرى ال المسير إليه خيرا
و لقدكنت في حلوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لجل ما أطلب و أرجو .
كنت زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث ،و أقعد على نهر عيسى فل أقدر على
أكلها إل عند الماء .
فكلما أكلت لقمة شربت عليها ،و عين همتي ل ترى إل لذة تحصيل العلم .
فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول صلى ال عليه و سلم و أحواله و آدابه ،و
أحوا ل أصحابه و تابعيهم ،فصرت في معرفة طريقه كابن أجود .
و أثمر ذكل عندي من المعاملةما ل يدري بالعلم ،حتى أنني أذكر في زمان الصبوة و وقت الغلمة و
العزبة قدرتي علىأشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلل ،و لم يمنعني عنها إل
ما أثمر عندي العلم من خوف ال عز وجل .
و لول خطايا ل يخلو منها البشر ،لقد كنت أخاف على نفسي من العجب .
غير أنه عز وجل صانني ،و علمني ،و أطلعني من أسرار العلم على معرفة ،و إيشار الخلوة به ،
حتى إنه لو حضر معي معروف و بشر لرأيتهما زحمة .
ثم عاد فغمسني في التقصير و التفريط حتى رأيت أقل الناس خيرا مني .
و تارة يوقظني لقيام الليل و لذة مناجاتة ،و تارة يحرمني ذلك مع سلمة بدني .
و لول بشارة العلم بأن هذانوع تهذيب و تأديب لخرجت إما إلى العجب عند العمل ،و إما إلى اليأس
عند البطالة .
لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه .
و قد يغلب الرجاء بقوة أسبابه ،لني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلً فإن أبي مات وأنا ل أعقل ،و
الم لم تلتفت إلي .فركز في طبعي حب العلم .
و ما يوقعني علىالمهم فالمهم ،و يحملني إلى من يحملني على الصوب ،حتى قوم أمري .
و كم قد قصدني عدو فصده عني .وإذ رأيته قد نصرني و بصرني و دافع عني ،و وهب لي ،قوى
رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي .
و لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف .و أسلم على يدي أكثر من مائتي نفس .
و كم سألت عين مختبر بوعظي لم تكن تسيل .و يحق لمن تلمح هذا النعام أن يرجو التمام .
و ربما ل حت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري و زللي .
و لقد جلست يوما فرأيت حولي أكثر من عشرة آلف ما فيهم إل من قد رق قلبه ،أو دمعت عينيه .
فقلت لنفسي :كيف بك إن نجونا و هلكت :فصحت بلسان وجدي :إلهي و سيدي إن قضيت علي بالعذاب
غدا فل تعلمهم بعذابي ،صيانة لكرمك ل لجل ،لئل يقولوا عذب من دل عليه .
إلهي قد قيل لنبيك صلى ال عليه و سلم :إقتل ابن أبي المنافق ،فقال :ل يتحدث الناس أن محمد ا
يقتل أصحابه .
إلهي فأحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك .
حاشاك و ال يارب من تكدير الصافي .
حاشا لباني الجود أن ينقضا ل تبر عودا أنت ريشته
ل تعطش الزرع الذي نبته بصوب إنعامك قد روضا
من المور التي تخفي على العاقل أن يرى أنه متى لم تكن عنده إمرأة أوجارية يهواها هوى شديدا أنه
ل يلتذ في الدنيا .فإذا صور محبوبا مملوكا تخايل لذة عظيمة .و إذا كان عنده من ل يميل إليه إعتقدنفسه
محروما .
و هذا أمر شديد الخفاء .فينبغي أن يوضح .و هو أن المملوك مملول .
و متى قدر النسان على ما يشتبه مله و مال إلى غيره .
تارة لبيان عيوبه التي تكشفها المخالطة فإنه قد قال الحكماء :العشق يعمي عن عيوب المحبوب .
و تارة لمكان القدر عليه ،و النفس ل تزال تتطلع إلى ما ل تقدر عليه .
ثم لو قدرنا دوام المحبة مع القدر فإنها قد تكون و لكن ناقصة بمقدار القدرة ،و إنما بقوتها تجني
المحبوب .فيكون تجنبه كالمتناع ،او إمتناعه من الموافقة .
فإذا صفا فل بد من اكدار ،منها الحذر عليه ،و منها قلة ميله إلى هذا العاشق .و ربما يتكلف القرب
منه ،و يعلم النسان بقلة ميل محبوبه إليه فينغص بل يبغض .
فإن خاف منه خيانة إحتياج إلى حراسة فقويت النغص .
و أصلح المقامات التوسط ،و هو إختيار ما تميل النفس إليه و ل يرتقي إلى مقام العشق ،فإن العاشق
في عذاب .و إنما يتخايل الفارغ من العشق إلتذاذ العاشق و ليس كذلك .فإنه كما قيل :
و إن وجد الهوى عذب المذاق و ما في الرض أشقى من محب
مخافة فرقة أو ل إشتياق تراه باكيا في كل و قت
و يبكي إن دنوا خوف الفراق فيبكي إن نأوا شوقا إليهم
و تسخن عينه عند الفراق فتسخن عينه عن التداني
و ما ابتلى النسان قط بأعظم من علو همته .فإن من علت همته يختار المعالي .
و ربما ل يساعده الزمان ،وقد تضعف اللة ،فيبقى في عذاب .
و إني أعطيت من علو الهمة طرفا فأنا به في عذاب و ل أقول ليته لم يكن فإنه إنما يحلو العيش بقدر
عدم العقل ،و العاقل ل يختار زيادة اللذة بنقصان العقل .
و لقد رأيت أقواما يصفون علو هممهم ،فتأملتها بها في فن واحد .و ل يبالون بالنقص فيما هو اهم ،
قال الرضي :
و بلء جسمي من تفاوت همتي و لكل جسم في النحول بلية
فنظرت فإذا غاية أمله المارة .
و كان ابو مسلم الخرساني في حال شبيبته ل يكاد ينام ،فقيل له في ذلك فقال :ذهن صاف ،و هم
بعيد ،و نفس تتوق إلى معالي المور ،مع عيش كعيش الهمج الرعاع .
قيل :فما الذي يبرد غليلك ؟ قال :الظفر بالملك .
قيل :فاطلبه ،قال ل يطلب إل بالهوال .
قيل :فاركب الهوال .قال :العقل مانع .
قيل :فما تصنع ؟ قال :سأجعل من عقلي جهلً .و أحاول به خدرا ل ينال إل بالجهل .
و أدبر بالعقل ما ل يحفظ إل به .فإن الخمول أخو العدم .
فنظرت إلى حال هذا المسكين فإذا هو قد ضيع أهم المهمات و هو جانب الخرة ،و انتصب في طلب
الوليات .فكم فتك و قتل ؟ حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا .
ثم لم يتنعم في ذكل غير ثمان سنين .
ثم اغتيل ،و نسى تدبير العقل ،فقتل و مضى إلى الخرة على أقبح حال .
و كان المتنبي يقول :
و مركوبه رجله و الثوب جلده و في الناس من يرضى بميسور عيشه
مدى ينتهي بي في مراد أحده و لكن قلبا ـ بين جنبي ـ ماله
فيختار أن يكسي دروعا تهده يرى جسمه يكسي شفوفا تربه
فتأملت هذا الخر فإذا نهمته فيما يتعلق بالدنيا فحسب .
و نظرت إلى علو همتي فرأيتها عجبا .و ذلك أنني أروم من العلم ما أتيقن أني ل أصل إليه ،لني
أحب نيل كل العلوم على إختلف فنونها .
و أريد إستقصاء كل فن ،هذا أمر يعجز العمر عن بعضه .
فإن عرض لي ذو همة في فن بلغ منتهاه رأيته ناقصا في غيره ،فل أعد همته تامة .
مثل المحدث فاته الفقه .و الفقيه فاته علم الحديث .فل أرضى بنقصان من العلوم إل حادثا عن نقص
الهمة .
ثم أني أروم نهاية العمل بالعلم ،فأتوق إلى ورع بشر ،و زهادة معروف و هذا مع مطالعة التصانيف
و إفادة الخلف و معاشرتهم بعيد .
ثم إني أروم الغنى عن الخلق ،و أستشرف الفضال عليهم و الشتغال بالعلم مانع من الكسب .و قبول
المنن مما تأباه الهمة العالية .
ثم إني أتوق إلى طلب الولد ،كما أتوق إلى تحقيق التصاميم ،لبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف .و
في طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد .
ثم إني أروم الستمتاع بالمستحسنات ،و في ذلك إمتناع من جهة قلة المال ثم لو حصل فرق جمع
الهمة .
و كذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم و المشارب ،فإنه متعود للترفه و اللطف ،و في قلة المال
مانع ،و كل ذلك جمع بين أضداد .
فأين أنا و ما و صفته من حال من كانت غاية همته الدنيا ؟ و أنا ل أحب أن يخدش حصول شيء من
الدنيا وجه ديني بسبب .و ل أن يؤثر في علمي و ل في عملي .
فواقلقي من طلب قيام الليل ،و تحقيق الورع مع إعادة العلم ،و شغل القلب بالتصانيف ،و تحصيل ما
يلئم البدن من المطاعم .
و وا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة مع ملقاة الناس و تعليمهم .
و يا كدر الورع مع طلب ما ل بد منه للعائلة .
غير أني قد إستسلمت لتعذيبي و لعل تهذيبي في تعذيبي ،لن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى
الحق عز وجل .
و ربما كان الحيرة في الطلب دليلً إلى المقصود ،و ها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في
غير فائدة .
و إن بلغ همي مراده . . .و إل فنية المؤمن أبلغ من عمله .
لما سطرت هذا الفصل المتقدم ،و رأيت إدكار النفس بما ل بد لها في الطريق منه .
و هو أنه ل بد لها من التلطف ،فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف .فينبغي أن يقطع
الطريق بألطف ممكن .
و إذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها ،و أخذ الراحة للجد جد ،و غوص السابح في طلب الدر
صعود .و دوام السير يحسر البل ،و المفازة صعبة .
و من أراد أن يرى التلطف بالنفس ،فلينظر في سيرة الرسول صلى ال عليه و سلم ،فإنه كان يتلطف
بنفسه ،و يمازح ،و يخالط النساء ،و يقبل و يمص اللسان ،و يختار المستحسنات ،و يستعذب له
الماء و يختار الماء البارد ،و الوفق من المطاعم ،كلحم الظهر و الذراع و الحلوى ،و هذا كله رفق
بالناقة في طريق السير .
فأما من جرد عليها السيوط فإنه يوشك أل يقطع الطريق .
و قد قال صلى ال عليه و سلم :إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ،فإن المنبت ل أرضا قطع ،و
ل ظهرا ابقى .
و اعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عوراه ،فإن فكر المتيقظ قبل مباشرة
المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة ،و قبل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق ،و لو
أخرجها النسان لفظها .
و لو فكرت في قرب الموت و ما يجري عليه بعده ،لبغض عاجل لذته .
فل بد من مغالطة تجري لينتفع النسان بعيشة كما قال لبيد :
إن صدق النفس يزري بالمل فأكذب النفس إذا حدثتها
و قال البستي :
تجم و علله بشيء من المزح أفد طبعك المكدود بالهم راحة
بمقدار ما يعطى الطعام من الملح و لكن إذا أعطيته ذاك فليكن
و قال أبو علي بن الشبل :
و عدا ،فخيرات الجنان عدات و إذا هممت فناج نفسك بالمنى
حتى تزول بهمك الوقات و اجعل رجاءك دون بأسك جنة
جلساؤك الحساد و الشمات و اسر عن الجلساء بثك ،إنما
للحى ـ من قبل الممات ـ ممات و دع التوقع للحوادث إنه
في أهله ما للسرور ثبات فالهم ليس له ثبات مثل ما
لم تصف للمتيقظين حياة لول مغالطة النفوس عقولها
و قال أيضا :
بقاء النار تحفظ بالوعاء بحفظ الجسم تبقى النفس فيه
و ل تمدد لها طول الرجاء فباليأس الممض فل تمتها
و ذكرها الشدائد في الرخاء و عدها في شدائدها رخاء
و بالتركيب منفعة الدواء يعد صلحها هذا و هذا
و قد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئل يرى النسان منهم ما يكره .
و إن كان الخضاب ل يعدم النفس علمها بذلك .و لكنه نوع مخادعة للنفس .
و ما زالت النفوس ترى الظاهر .و إنما الفكر و العقل مع الغائب .و ل بد من مغالطة تجري ليتم
العيش .
و لو عمل العامل بمقتضى قصر المل ،ما كتب العلم و ل صنف .
فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه ،فإن الول في مقام العزيمة ،و هذا في مكان الرخصة .
و ل بد للتعب من راحة و إعانة ،و ال عز وجل معك على قدر صدق الطلب ،و قوة اللجأ ،و خلع
الحول و القوة ،و هو الموفق .
و ليحذر الصبي من الكذب غاية التحذير ،و من المخالطة للصبيان ،و ليوصه بزيادة البر للوالدين ،و
ليحفظ من مخالطة النساء .
فإذا بلغ فليزوج بصبيه فينتفعان .هذه الشارة إلى تدبير أمور الدنيا .
فأما تدبير العلم فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن و الفقه و
سماع الحديث .
و ليحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات ،لن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة ،فإذا بلغ
تشتت همته ،فليضرب تارة ،و يرشي أخرى ،ليبلغ و قد حصل محفوظات سنية .
و أول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقنا ،فإنه يثبت و يختلط باللحم و الدم ،ثم مقدمة من النحو
يعرف بها اللحن ،ثم الفقه مذهبا و خلفا ،و ما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن .
و ليحذر من عادات أصحاب الحديث .فإنهم يفنون الزمان في سماع الجزاء التي تتكرر فيها
الحاديث ،فيذهب العمر و ما حصلوا فهم شيء .
فإذا بالغوا سنا طلبوا جواز فتوى ،أو قراءة جزء من القرآن ،فعادوا القهقرى .
لنهم يحفظون بعد كبر السن ،فل يحصل مقصودهم ،فالحفظ في الصبا للمهم من العلم ،أصل عظيم .
و قد رأينا كثيرا ممن تشاغل بالمسموعات و كتابة الجزاء و رأى الحفظ صعبا ،فمال إلى السهل
فمضى عمره في ذلك .
فلما احتاج إلى نفسه ،قعد يتحفظ على كبر ،فلم يحصل مقصوده .
فاليقظة لفهم ما ذكرت ،و انظر في الخلص ،فما ينفع شيء دونه .
اشتد الغلء ببغداد في أول سنة خمس و سبعين ،و كلما جاء الشعير زاد السعر .
فتواقع الناس على إشتراء الطعام ،فاغتبط من يستعد كل سنة يزرع ما يقوته ،و فرح من بادر في أول
نيسان إلى إشتراء الطعام فإنه يضاعف ثمنه .
و أخرج الفقراء ما في بيوتهم فرموه في سوق الهوان .و بان ذل نفوس كانت عزيزة .
فقلت :يا نفس خذي من هذه الحال إشارة ،ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه ،و ليفرحن
من له جواب عند إقبال المسألة .
و كل الويل على المفرط الذي ل ينظر في عاقبته ،فتنبهى .
فقد نبهت ناسيا الدنيا على أمر الخرة .
و بادري موسم الزرع ما دامت الروح في البدن .فالزمان كله تشرين قبل أن يدخل نيسان الحصاد .
و مالك زرع ،و حاجة المفتقرين إلى أموالهم تمنعهم من اليثار .
تأملت حالة أزعجتني ،و هو أن الرجل قد يفعل مع إمرأته كل جميل و هي ل تحبه ،و كذا يفعل مع
صديقه و الصديق يبغضه ،و قد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه و السلطان ل يؤثره ،فيبقى
متحيرا يقول :ما حيلتي ؟
فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه ،أتقرب إليه و هو ل يريدني .و ربما يكون قد كتبني
شقيا في الزل .
و من هذا خاف الحسن فقال :أخاف أن يكون إطلع على بعض ذنوبي فقال :ل غفرت لك .
فليس إل القلق و الخوف لعل سفينة الرجاء تسلم ـ يوم دخولها الشاطئ ـ من جرف .
اعلم أن ال عز وجل وضع في النفوس أشياء ل تحتاج إلى دليل .فالنفوس تعلمها ضرورة ،و أكثر
الخلق ل يحسنون التعبير عنها .
فإنه وضع في النفس أن المصنوع ل بد له من صانع ،و أن المبنى ل بد له من بان ،و أن الثنين
أكثر من الواحد ،و أن الجسم الواحد ل يكون في مكانين في حالة واحدة .و مثل هذه الشياء ل تحتاج
إلى دليل .
و ألهم العرب النطق بالصواب من غير لحن ،فهم يفرقون بين المرفوع و المنصوب بأمارات في
جبلتهم ،و إن عجزوا عن النطق بالعلة .
قال عثمان بن جني :سألت يوما أبا عبد ال محمد بن عساف العقيلي فقلت له :كيف تقول ضربت
أخوك ؟ فقال :أقول ضربت أخاك .
فأدرته على الرفع فأبى و قال ل أقول أخوك أبدا .
قال فكيف تقول ضربني أخوك ؟ فرفع ،فقلت :أليس زعمت أنك ل تقول أخوك أبدا ؟ فقال :إيش هذا ،
اختلفت جهتها في الكلم .
و هذا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلم ،و إعطائهم إياه في كل موضوع حقه ،و إنه ليس إسترسالً
و ل ترخيما .
قال عثمان :و اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ،و النحو انتحاء سمت كلم العرب في
تصرفه من إعراب و غيره ،كالتثنية و الجمع و التحقير و التكسير و غير ذلك ،ليلحق من ليس من أهل
اللغة أهلها .
تدبرت أحوال الخيار و الشرار فرأيت سبب صلح الخيار النظر ،و سبب فساد الشرار ،إهمال النظر
.
و ذاك أن العاقل ينظر فيعلم أنه ل بد من صانع ،و أن طاعته لزمة ،و يتأمل معجزات رسول ال
صلى ال عليه و سلم ،فيسلم قياده إلى الشرع .
ثم ينظر فيما يقربه إليه ،و يزلفه إليه .
فإذا شق عليه إعادة العلم ،تأمل ثمرته ،فسهل ذلك ،و إذا صعب عليه قيام الليل ،فكذلك .
و إذا رأى مشتهى ،تأمل عاقبته ،فعلم أن اللذة تفنى ،و العار و الثم يبقيان ،فيسهل الترك .
و إذا إشتهى النتقام ممن يؤذيه ،و ذكر ثواب الصبر ،و ندم الغضبان على أفعاله في حال الغضب .
ثم ل يزال يتأمل سرعة ممر العمر فيغتنمه بتحصيل أفضل الفضائل فينال مناه .
و أما الغافل ،فإنه ل يرى إل الشيء الحاضر .
فمنهم من لم يتأمل في معنى المصنوع و إثبات الصانع ،فجحدوا و تركوا النظر ،و جحدوا الرسل و ما
جاءوا و نظروا إلى العاجل ،و لم يتفكروا في مبدئه و منتهاه .
فليس عندهم من عرفان المطعم إل الكل .
و لو تأملوا كيف أنشئ ؟ و لماذا جعل حافظا للبدان ؟ لعرفوا حقائق المور .
و كذلك كل شهوة تعرض ل ينظرون في عاقبتها ،بل في عاجل لذتها .و كم قد جنت عليهم من وقوع
حد ،و قطع يد و فضيحة .
فتعجيل اللذة يفوت الفضائل ،و يحصل الرذائل .
و سببه ،عدم النظر في العواقب ،و هذا شغل لعقل ،و ذاك المذموم ،شغل الهوى .
نسأل ال عز وجل ،يقظة ترينا العواقب ،و تكشف لنا الفضائل و المعائب إنه قادر على ذلك .
ما أقل من يعمل ل تعالى خالصا ،لن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم و سفيان الثوري كان يقول :
[ ل أعتد بما ظهر من عملي ] .و كانوا يسترون أنفسهم .
و اليوم ثياب القوم تشهرهم ،و قد كان أيوب السختياني يطول قميصه ،حتى يقع على قدميه ،و يقول
:كانت الشهرة في التطويل ،و اليوم الشهرة في التقصير .
فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق و محو الجاه من قلوبهم بالعمل و إخلص القصد و ستر الحال ،هو
الذي رفع من رفع .
فقد كان أحمد بن حنبل يمشي حافيا في وقت و يحمل نعليه في يديه و يخرج للقاط ،و بشر يمشي
حافيا على الدوام وحده ،و معروف يلتقط النوى .
و اليوم صارت الرياسات أكثر من كل جانب ،و ما تتمكن الرياسات حتى تتمكن من القلب الغفلة ،و
رؤية الخلق ،و نسيان الحق ،فحينئذ تطلب الرياسة على أهل الدنيا .
و لقد رأيت من الناس عجبا ،حتى من يتزين بالعلم ،إن رآني أمشي وحدي أنكر علي ،و إن رآني
أزور فقيرا عظم ذلك ،و إن رآني أنبسط بتبسم ،نقصت من عينه .
فقلت :فواعجبا ،هذه كانت طريق الرسول صلى ال عليه و سلم و أصحابه رضي ال عنهم .
فصارت أحوال الخلق ،نواميس لقامة الجاه .
ل جرم ـ و ال ـ سقطتم من عين الحق ،فأسقطكم من عين الخلق .
فكم ممن يتعب في تربية ناموس ،و ل يلتفت إليه و ل يحظى بمراده ،و يفوته المراد الكبر .
فالتفتوا ـ إخواني ـ إلى إصلح النيات ،و ترك التزين للخلق .و لتكن عمدتكم الستقامة مع الحق ،
فبذلك صعد السلف و سعدوا .
و إياكم و ما الناس عليه اليوم ،فإنه بالضافة إلى يقظة السلف ،نوم .
و ال ما ينفع تأديب الوالد إذا لم يسبق إختيار الخالق لذلك الولد ،فإنه سبحانه إذا أراد شخصا ،رباه
طفولته ،و هذاه إلى الصواب ،و دله على الرشاد ،و حبب إليه ما يصلح ،و صحبه من يصلح ،و
بغض إليه ضد ذلك ،و قبح عنده سفساف المور ،و عصمه من القبائح ،و أخذ بيده كلما عثر .
و إذا أبغض شخصا ،تركه دائم التعثير ،متخبطا في كل حال ،و لم يخلق له همة لطلب المعالي ،و
شغله بالرذائل عن الفضائل .
و إن قال :لم خصصت بهذا ؟
قال الخطاب الذي ل يحاب :فبما كسبت أيديكم .
من أكبر الدليل على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة المحركة للبدن على مقتضى
إرادتها التي دبرت مصالحها ،و ترقت إلى معرفة الفلك ،و اكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم ،و
شاهدت الصانع في المصنوع ،فلم يحجبها ستر ،و إن تكاثف ،و ل يعرف مع هذا ،ماهيتها و ل كيفيتها
،و ل جوهرها و ل محلها .
و ل يفهم من أين جاءت ،و ل يدري أين تذهب ،و ل كيف تعلقت بهذا الجسد ؟
و هذا كله يوجب عليها أن لها مدبرا و خالقا ،و كفى بذلك دليلً عليه .
إذ لو كانت وجدت بها لما خفيت أحوالها عليها .فسبحانه سبحانه .
سبحان من من على الخلق بالعلماء الفقهاء الذي فهموا مقصود المر و مراد الشارع ،فهم حفظة
الشريعة ،فأحسن ال جزاءهم .
و إن الشيطان ليتجافاهم خوفا منهم ،فأنهم يقدرون على آذاه و هو ل يقدر على أذاهم .
و لقد تلعب بأهل الجهل و القليلي الفهم .
و كان من أعجب تلعبه ،أن حسن لقوام ترك العلم ،ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به
.
و هذا ـ لو فهموه ـ قدح في الشريعة ،فأن رسول ال صلى ال عليه و سلم يقول :بلغوا عني ،و
قد قال له ربه عز وجل :بلغ .
فإذا لم يتشاغل بالعلم ،فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق ؟
و لقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد ،كبشر الحافي ،فإنه قال لعباس بن عبد العظيم [ :ل تجالس
أصحاب الحديث ] .
و قال لسحاق بن الضيف [ :إنك صاحب حديث ،فأحب أل تعود إلي ] .
ثم إعتذر فقال [ :إنما الحديث فتنة ،إل لمن أراد ال به ،و إذا لم يعمل به فتركه أفضل ] ،و هذا
عجب منه .
من أين له أن طلبه ل يريدون ال به ،و أنهم ل يعملون به ؟
أو ليس العمل به على ضربين :عمل بما يجب ،و ذلك ل يسع أحدا تركه .
و الثاني :نافلة و ل يلزم .
و التشاغل بالحديث ،أفضل من التنفل بالصوم و الصلة .
و ما أظنه أراد إل طريقة في دوام الجوع و التهجد ،و ذلك شيء ل يلم تاركه .
فإن كان يريد أل يوغل في علوم الحديث ،فهذا خطأ ،لن جميع أقسامه محمودة .
أفترى لو ترك الناس طلب الحديث كان بشر يفتي ؟
فال ال في اللتفات إلى قول من ليس بفقيه ،و ل يهولنك تعظيم إسمه فال يعفو عنه .
فقال :أبكي لمر ذكره ذل ،و سره حزن ،و لن يخلو أحد من شجن .
فلما خرج طاهر أنفذ إلى حسين الخادم مائتي ألف درهم ،و سأله أن يسأل المأمون لم بكى ؟ فلما تغذى
المأمون قال :يا حسين إسقني .
قال ل و ال ل أسقيك حتى تقول لم بكيت حين دخل عليك طاهر ؟
قال :يا حسين و كيف عنيت بهذا حتى سألت عنه ؟ قال :لغمي بذلك .
قال :يا حسين أمر إن خرج من رأسك قتلك .
قال :يا سيدي و متى أخرجت لك سرا ؟
قال :إني ذكرت أخي محمدا و ما ناله من الذلة ،فخنقني العبرة ،فاسترحت إلى إفاضتها و لن يفوت
طاهرا مني ما يكره .
فأخبر حسين طاهرا بذلك ،فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد .
فقال له إن المعروف عندي ليس بضائع ،فغيبني عن عينه .قال :سأفعل .
فدخل على المأمون فقال :ما بت البارحة .قال :و لم ؟ قال :لنك وليت غسان بن عباد خراسان .و
هو و من معه أكلة رأس ،فأخاف أن يخرج خارج من الترك فيصطلمه .
قال :فمن ترى ؟ قال :طاهر بن الحسين .فعقد له فمضى ،فبقي مدة ثم قطع الدعاء للمأمون على
المنبر يوم الجمعة .
فقال له صاحب البريد :ما دعوت لمير المؤمنين .قال :سهو فل تكتب .
ففعل ذلك في الجمعة الثانية و الثالثة .فقال له :ل بد أن أكتب لئل يكتب التجار و يسبقوني .قال :
أكتب .فكتب .
فدعا المأمون أحمد بن أبي خالد و قال :إنه لم يذهب على إحتيالك في أمر طاهر ،و أنا أعطي ال
عهدا إن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي لتذمن عقباك .
فشخص و جعل يتلوم في الطريق و يعتل بالمرض ،فوصل إلى الري و قد بلغته وفاة طاهر .
قلت :و لما خرج الراشد من بغداد و أرادوا تولية المقتفى ،شهد جماعة من الشهود بأن الراشد ل
يصلح للخلفة ،فنزعوه ،و ولى المقتفي .
فبلغني أنه ذكر للمقتفي بعض الشهود فذمه ،و قال :كان فيمن أعان على أبي جعفر .
و على ضد هذا ،كل من يراعي جانب الحق و الصواب ،يرضى عنه من سخط عليه .
و لقد حدثني الوزير ابن هبيرة أن المستنجد بال كتب إليه كتابا و هو يومئذ ولي عهد ،و أراد أن
يستره من أبيه قال فقلت للواصل به :و ال ما يمكنني أقرؤه و ل أجيب عنه .
فلما ولي الخلفة دخلت عليه فقلت :أكبر دليل على صدقي و إخلصي أني ما حابيتك في أبيك .فقال :
صدقت أنت الوزير .
و حدثني بعض الصدقاء أن قوما ألحقوا إلى المخزن بعض دين لهم ليستخلص ،فقال المسترشد
لصاحب المخزن :خلصه لهم ،و خذ ما ضمنوا لنا .
فأحضر ابن الرطبي و عرض المر عليه ،فقال :هذا أمر بظلم ،و ما أحكم فيه .
فقال :إن السلطان قد تقدم ،قال :ما أفعل .
فأحضر قاضيا آخر ،فبت الحكم ،فأخبر الخليفة بالحال .
فقال :أما ابن الرطبي فيشكر على ما قال .و أما الخر فيعزل و ذلك لنه بان له أن الحق ما قاله ابن
الرطبى .
و كذلك ما طلبه السلطان من أن يلقب ملك الملوك ،فاستفتى الفقهاء فأجازوا ذلك ،و امتنع من إجازته
الماوردي ،فعظم قدره عند السلطان .
و مثل هذا ـ إذا تتبع ـ كثير .
فينبغي أن يحسن القصد لطاعة الخالق ،و إن سخط المخلوق ،فإنه يعود صاغرا .
و ل يسخط الخالق ،فيفوت الحظان جميعا .
ينبغي للعاقل أن ينظر إلى الصول فيمن يخالطه و يعاشره و يشاركه و يصادقه و يزوجه أو يتزوج إليه
.
ثم ينظر بعد ذلك في الصور ،فإن صلحها دليل على صلح الباطن .
أما الصول فإن الشيء يرجع إلى أصله ،و بعيد ممن ل أصل له أن يكون فيه معنى مستحسن .
إن المرأة الحسناء إذا كانت من بيت رديء فقل إن تكون صينة ،و كذلك أيضا المخالط و الصديق و
المباضع و المعاشر .
فإياك أن تخالط إل من له أصل يخاف عليه الدنس ،فالغالب معه السلمة و إن وقع غير ذلك كان نادرا
.
و قد قال عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه لرجل :أشر علي فيمن أستعمل .
فقال :أما أرباب الدين فل يريدونك أي ل يسألونك الرياسة ،و أما أرباب الدنيا فل تردهم ،و لكن
عليك بالشراف ،فإنهم يصونون شرفهم عما ل يصلح .
و قد روى أبو بكر الصول ي قال :حدثني الحسين بن يحي عن إسحاق قال ،دعاني المعتصم يوما
فأدخلني معه الحمام ،ثم خرج فخل بي و قال :يا أبا إسحاق في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه .
إن أخي المأمون اصطنع قوما فأنجبوا ،و اصطفيت أنا مثلهم فلم ينجبوا .
قلت و من هم ؟ قال :اصطنع طاهرا و ابنه إسحاق و آل سهل فقد رأيت كيف هم .
و اصطنعت أنا الفشين فقد رأيت إلى ما آل أمره .و أسناش فلم أجده شيئا ،و كذلك إيتاح و وصيف .
قلت :يا أمير المؤمنين ،ههنا جواب ،على أمان من الغضب .
قال :لك ذاك .قلت :نظر أخوك إلى الصول فاستعملها فأنجبت فروعها ،و استعملت فروعا ل أصول
لها فلم تنجب .
فقال :يا أبا إسحاق مقاساة ما مر بي طول هذه المدة أهون علي من هذا الجواب .
أما الصور ،فإنه متى صحت البينة و لم يكن فيها عيب فالغالب صحة الباطن و حسن الخلق ،و متى
كان فيها عيب فالعيب في الباطن أيضا .
فاحذر من به عاهة كالقرع و العمى و غير ذلك ،فإن بواطنهم في الغالب ردية .
ثم مع معرفة أصول المخالط ،و كمال صورته ل بد من التجربة قبل المخالطة و استعمال الحذر لزم ،
و إن كان كما ينبغي .
ينبغي أن يكون شغل العاقل النظر في العواقب و التحرز مما يمكن أن يكون .
و من الغلط النظر في الحالة الحاضرة الموافقة لمعاشه و لصحة بدنه ،و ربما ل يجري له مصحوبة
فينبغي أن يعمل على انقطاع ذلك ،فيكون مستعدا لتغير الحوال .
كذلك النظر في لذة تفنى و تبقى تبعتها و عارها ،و إيثار الكسل و الدعة لما يجيء بعدهما من بقاء
الجهل .
و كذلك تحصيل المرادات التي ل تحصل إل بالتلطف في الحتيال ،خصوصا إذا أريد من ذكي فإنه يفطن
بأقل تلويح .
فمن أراد غلبة الذكي دقق النظر و تلطف في الحتيال .
و قد ذكر في كتب الحيل ما يشحذ الخواطر ،و أتينا بجملة منه في كتاب الذكياء .
ل من الشراف كان ل يقوم لحد و ل يخشى أحدا ،فجاز عليه بعض الوزراء و حي
مثلما روي أن رج ً
فلم يرد و لم يقم .
فقال ذاك الوزير لرجل :أخبر فلنا أني قد كلمت أمير المؤمنين في حقه ،و قد أمر له بمائة ألف ،
فليحضر ليقبضها ،فأخبره ذلك الرجل .
فقال الشريف :إن كان أمر لي بشيء فلينفذه لي ،و إنما مقصوده أن يضع مني بالتردد عليه .
فمتى وقع النسان مع ذكي فينبغي أن يتحرز منه [ ،كما ينظر صاحب الرقعة النقلت ] .
و كثير من الذكياء لم يقدروا على أغراضهم من ذكي فاعطوه و بالغوا في إكرامه ليصيدوه ،فإن كان
قليل الفطنة وقع في الشرك ،و إن كان أقوى منهم ذكاء علم أن تحت هذه النية خبيئا فزاده ذلك احترازا .
و أقوى ما ينبغي أن يكون الحتراز من موتور ،فإنك إذا آذيت شخصا فقد غرست في قلبه عداوة ،فل
تأمن تفريع تلك الشجرة ،و ل تلتفت إلى ما يظهر من ود و إن حلف ،فإن قاربته فكن مكنه على حذر .
و من التغفل أن تعاقب شخصا أو تسيء إليه إساءة عظيمة و تعلم أن مثل ذلك يجدد الحقد ،فتراه ذليلً
لك طائعا تائبا مقلعا عما فعل ،فتعود فتستطيبه و تنسى ما فعلت و تظن أنه قد انمحى من قلبه ما أسلفت .
فربما عمل لك المحن ،و نصب لك المكايد ،كما جرى لقصير مع الزباء ،و أخباره معروفة .
فإياك أن تساكن من آذيته ،بل إن كان و ل بد فمن خارج ،فما تؤمن الحقاد .
و متى رأيت عدوك فيه غفلة ل يثنيه مثل هذا فأحسن إليه ،فإنه ينسى عداوتك و ل يظن أنك قد
أضمرت له جزاء على قبح فعله ،فحينئذ تقدر على بلوغ كل غرض منه .
و من الخور إظهار العداوة للعدو ....و من أحسن التدبير التلطف باللعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم
...و لو لم يمكن ذاك كان اللطف سببا في كف أكفهم عن الذى ،و فيهم من يستحي لحسن فعلك فيتغير
قلبه لك .
ل قد شتمهم أهدوا إليه و أعطوه ،فهم بالعاجل يكفوه شره
و قد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن رج ً
،و يحتالون في تقليب قلبه ،و يقع ذلك لهم مهلة لتدبير الحيل عليه إن أرادوا .
و كفى بالذهن الناظر إلى العواقب و التأمل لكل ممكن مؤدبا .
رأيت أكثر الناس ل يتمالكون من إفشاء سرهم ،فإذا ظهر عاتبوا من أخبروا به .
فواعجبا كيف ضاقوا بحبسه ذرعا ثم لموا من أفشاه .
و في الحديث :استعينوا على قضاء أموركم بالكتمان .
و لعمري إن النفس يصعب عليها كتم الشيء ،و ترى بإفشائه راحة ،خصوصا إذا كان مرضا أو هما
أو عشقا .
و هذه الشياء في إفشائها قريبة .إنما اللزم كتمانه احتيال المحتال فيما يريد أن يحصل به غرضا .
فإن من سوء التدبير إفشاء ذلك قبل تمامه ،فإنه إذ ظهر بطل ما يراد أن يفعل ،و ل عذر لمن أفشى
هذا النوع .
و قد كان النبي صلى ال عليه و سلم إذا أراد سفرا ورى بغيره .
فإن قال قائل :إنما أحدث من أثق به .
قيل له :و كل حديث جاوز الثنين شائع ،و ربما لك يكتم صديقك .
و كم قد سمعنا من يحدث عن الملوك بالقبض على صاحب فنم الحديث إلى الصاحب و هرب ففات
السلطان مراده .
وإنما الرجل الحازم الذي ل يتعداه سره و ل يفشيه إلى أحد .
و من العجز إفشاء السر إلى الولد و الزوجة .
و المال من جملة السر .فاطلعهم عليه ،إن كان كثيرا فربما تمنوا هلك الموروث .
ل تبرموا بوجوده .
و إن كان قلي ً
و ربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته فأتلفته النفقات .
و ستر المصائب من جملة كتمان السر ،لن إظهارها يسر الشامت و يؤلم المحب .
و كذلك ينبغي أن يكتم مقدار السن ،لنه إن كان كبيرا استهرموه ،و إن كان صغيرا احتقروه .
و مما قد انهال فيه كثير من المفرطين أنهم يذكرون بين أصدقائهم أميرا أو سلطانا فيقولون فيه فيبلغ
ذلك إليه فيكون سبب الهلك .
و ربما رأى الرجل من صديقه إخلصا وافيا فأشاع سره و قد قيل :
و احذر صديقك ألف مرة إحذر عدوك مرة
فلربما انقلب الصديق فكان أدرى بالمضرة
و رب مفش سره إلى زوجة أو صديق فيصير بذلك رهينا عنده و ل يتجاسر أن يطلق الزوجة ،و ل أن
يهجر الصديق ،مخافة أن يظهر سره القبيح .
فالحازم من عامل الناس بالظاهر ،فل يضيق صدره بسره فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم لم يقدر
أحد منهم أن يقول ما يكره .
و من أعظم السرار الخلوات ،فليحذر الحازم فيها من النبساط بمرأى من مخلوق .و من خلق له
عقل ثاقب دله على الصواب قبل الوصايا .
ما أعرف نفعا كالعزلة عن الخلق خصوصا للعالم و الزاهد فإنك ل تكاد ترى إل شامتا بنكبة أو حسودا
على نعمة ،و من يأخذ عليك غلطاتك .
فيا للعزلة ما الذها ،سلمت من كدر غيبة ،و آفات تصنع ،و أحوال المداجاة و تضييع الوقت .ثم خل
فيها القلب بالفكر ،لنه مستلذ عنه بالمخالطة فدبر أمر دنياه و آخرته .فمثله كمثل الحمية يخلو فيها
المعي بالخلط فيذيبها .
و ما رأيت مثل ما يصنع المخالط ،لنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس و كلمهم فيشتغل بها عما
بين يديه .فمثله كمثل رجل يريد سفرا قد أزف ،فجالس أقواما فشغلوه بالحديث حتى ضرب البوق و ما
تزود .فلو لم يكن في العزلة إل التفكير في زاد الرحيل و السلمة من شر المخالطة كفى .
ثم ل عزلة على الحقيقة إل للعالم و الزاهد ،فإنهما يعلمان مقصود العزلة و إن كانا ل في عزلة .
أما العالم فعلمه مؤنسه ،و كتبه محدثه ،و النظر في سير السلف مقومه ،و التفكير في حوادث
الزمان السابق فرجته .
فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه ،و تشبث بأذيال محبته ،تضاعفت لذاته ،و
اشتغل بها عن الكوان و ما فيها .
فخل بحبيبه ،و عمل معه بمقتضى علمه .
و كذلك الزاهد ،تعبده أنيسه ،و معبوده جليسه ،فإن كشف لبصره عن المعمول معه غاب عن
الخلق ،و غابوا عنه .
إنما اعتزل ما يؤذي .فهما في الوحدة بين جماعة .فهذان رجلن قد سلما من شر الخلق ،و سلم
الخلق من شرورهما .
بل هما قدوة للمتعبدين ،و علم للسالكين .ينتفع بكلمهما السامع ،و تجري موعظتهما المدافع ،و
تنتشر هيبتها في المجامع .
فمن أراد أن يشتبه بأحدهما فليصابر الخلوة و إن كرهها ،ليثمر له العسل .و أعوذ با ال من عالم
مخالط للعالم ،خصوصا لرباب المال و السلطين ،يجتلب و يجتلب و يختلب ،فما يحصل له شيء من
الدنيا إل و قد ذهب من دينه أمثاله .
ثم أين النفة من الذل للفساق ؟
فالذي ل يبالي بذلك هو الذي ل يذوق طعم العلم و ل يدري ما المراد به ،و كأنه به و قد وقع في بادية
جرز ،و قفر مهلك في تلك البراري .
و كذلك المتزهد إذا خالط و خلط ،فإنه يخرج إلى الرياء و التصنع و النفاق فيفوته الحظان ،ل الدنيا و
نعيمها تحصل له و ل الخرة .
فنسأل ال عز وجل خلوة حلوة ،و عزلة عن البشر لذيذة يستصلحنا فيها لمناجاته ،و يلهم كل منا
طلب نجاته .إنه قريب مجيب .
ما أبله من ل يعلم متى يأتيه الموت ،و هو ل يستعد للقائه .
ل من قد عبر الستين و قارب السبعين ـ فإن ما بينهما هو معترك المنايا .و
و أشد الناس بلها و تغفي ً
من نازل المعترك استعد و هو مع ذلك غافل عن الستعداد .
ندع الذنوب فما بقول الشيب ؟ قال الشباب لعلنا في شيبنا
و ال إن الضحك من الشيخ ماله معنى .و إن المزاح منه بارد المعنى .
و إن تعرضه بالدنيا و قد دفعته عنها يضعف القوى و يضعف الرأي .
و هل بقي لبن ستين منزل ؟
فإن طمع في السبعين فإنما يرتقي إليها بعناء شديد ،إن قام دفع الرض .و إن مشى لهث ،و إن قعد
تنفس .
و يرى شهوات الدنيا و ل يقدر على تناولها .فإن أكل كد المعدة ،و صعب الهضم و إن و طىء أذى
المرأة ،و وقع دفنا ل يقدر على رد ما ذهب من القوة إلى مدة طويلة .فهو يعيش عيش السير .
فإن طمع في الثمانين فهو يزحف إليها زحف الصغير .
فإن الملمات فيها فنون و عشر الثمانين من خاضها
فالعاقل من فهم مقادير الزمان .فإنه فيما قيل قبل البلوغ صبي ليس على عمره عيار .
إل أن يرزق فطنه ففي بعض الصبيان فطنه تحثهم من الصغر على اكتساب النكارم و العلوم .
فإذا بلغ فليعلم أنه زمان المجاهدة للهوى ،و تعلم العلم .
فإذا رزق الولد فهو زمان الكسب للمعاملة ،فإذا بلغ الربعين انتهى تمامه و قضى مناسك الجل .و
لم يبق إل النحدار إلى الوطن .
إلى أن يجوز الربعين و ينحط كأن الفتى يرقى من العمر معلما
فينبغي له عند تمام الربعين أن يجعل جل همته التزود للخرة ،و يكون كل تلمحه لما بين يديه ،و
يأخذ في الستعداد للرحيل .و إن كان الخطاب بهذا لبن عشرين ،إل أن رجاء التدارك في حق الصغير ل
في حق الكبير .
فإذا بلغ الستين فقد أعذر ال إليه في الجل و جاز من الزمن .فليقل بكليته على جمع زاده ،و تهيئة
آلت السفر .
و ليعتقد أن كل يوم يحيا فيه غنيمة ما هي في الحساب .
خصوصا إذا قوي عليه الضعف و زاد .
و كلما علت سنه فينبغي أن يزيد اجتهاده .فإذا دخل في عشر الثمانين فليس إل الوداع و ما بقي من
العمر إل أسف على تفريط ،أو تعبد على ضعف .
ل صالحا نأمن معه من الندم يوم النتقام
نسأل ال عز وجل يقظة تامة تصرف عنا رقاد الغفلت ،و عم ً
،ال الموفق .
ما نهى السلف عن الخوض في الكلم إل لمر عظيم ،و هو أن أن النسان يريد أن ينظر ما ل يقوى
عليه بصره ،فربما تحير فخرج إلى الحجب .
لنا إذا نظرنا في ذات الخالق حار العقل و بهت الحس ،فهو ل يعرف شيئا ل بداية له .إنه ل يعلم إل
الجسم و الجوهر و العرض ،فإثبات ما يخرج عن ذاك ل يفهمه .
و إن نظرنا في أفعاله رأيناه يحكم البناء ثم ينقضه و ل نطلع على تلك الحكمة ،فالولى للعاقل أن يكف
كف التطلع إلى ما ل يطبق النظر إليه .
و متى قام العقل فنظر في دليل و جود الخالق بمصنوعاته ،و أجاز بعثه نبي و استدل بمعجزاته ،كفاه
ذلك أن يتعرض لما قد أغنى عنه .
إذا قال القرآن كلم ال تعالى بدليل قوله حتى يسمع كلم ال كفاه .
و أما من تحذلق فقال :التلوة هي المتلو أو غير المتلو ،و القراءة هي المقروء أو غير المقروء ،
فيضيع الزمان في غير تحصيل ،و المقصود العمل بما فهم .
و قد حكى أن ملكا كتب إلى عماله في البلدان أني قدم عليكم فاعملوا كذا و كذا ،فعملوا إل واحد
منهم ،فإنه قعد يتفكر في الكتاب فيقول :أترى كتبه بمداد أو بحبر ؟ أترى كتبه قائما أو قاعدا ؟ فما زال
يفكر حتى قدم الملك و لم يعمل مما أمر به شيئا .فأحسن جوائز الكل و قتل هذا .
لقد غفل طلب الدنيا عن اللذة فيها شرف العلم و زهرة العفة و أنفه الحمية .و عز القناعة ،و حلوة
الفضال على الخلق .فأما اللتذاذ بالمطعم و المنكح فشغل جاهل باللذة ،لن ذاك ل يراد لنفسه ،بل
لقامة العوض في البدن و الولد .
و أي لذة في نكاح ،و هي قليل المباشرة ل تحصل .
و في حال المباشرة قلق ل يثبت .
و عند انقضائها ،كأن لم تكن ،ثم تثمر الضعف في البدن .
ل عن الحاجة .فإنه مستعبد للخازن ،يبيت حذرا عليه ،و يدعوه قليله
و أي لذة في جمع المال فض ً
إلى كثيره .
أي لذة في المطعم ،و عند الجوع يستوي خشنه و حسنه .
فإن ازداد الكل خاطر بنفسه .
قال علي بن أبي طالب رضي ال عنه :بنيت الفتنة على ثلث ،النساء وهن فخ إبليس المنصوب ،و
الشراب و هو سيفه المرهف ،و الدينار و الدرهم ،و هما سهماء المسمومان .
فمن مال إلى النساء لم يصف له عيش .و من أحب الشراب لم يمتع بعقله .و من أحب الديار و
الدرهم كان عبدا ما عاش .
أصل كل محنة في العقائد قياس أمر الخالق على أحوال الخلق .
فإنه الفلسفة لما رأوا إيجاد شيء ل من شيء كالمستحيل في العادات قالوا بقدم العالم .
و لما عظم عندهم في العادة الحاطة بكل شيء قالوا :إنه يعلم الجمل ل التفاصيل .
و لما رأوا تلف البدان بالبلء أنكروا إعادتها .و قالوا العادة رجوع الرواح إلى معادنها .
و كل من قاس صفة الخالق على صفات المخلوقين خرج إلى الكفر .فإن المجسمة دخلوا في ذلك لنهم
حملوا أوصافه على ما يعقلون .
و كذلك تدبيره عز وجل ،فإن من حمله على ما يعقل في العادات رأى ذبح الحيوان ل يستحسن ،و
المراض تستقبح ،و قسمه الغني للبله ،و الفقر للجلد العاقل أمرا ينافي الحكمة .
و هذا في الوضاع بين الخلق .فأما الخالق سبحانه فإن العقل ل ينتهي إلى حكمته .بلى .قد ثبت
عنده و جوده و ملكه و حكمته .
فتعرضه بالتفاصيل على ما تجري به عادات الخلق ،جهل .
أل ترى إلى أول المعترضين و هو إبليس كيف ناظر فقال :أنا خير منه ،و قول خليفته و هو أبو
العلء المعري :
رأى منك ما ل يشتهي فتزندقا
و نسأل ال عز وجل توفيقا للتسليم ،و تسليما للحكيم ربنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا .
ل عن مطالعة ذاته ؟
أترى نقدر على تعليل أفعاله فض ً
و كيف نقيس أمره على أحوالنا ؟
فإذا رأينا نبينا صلى ال عليه و سلم يسأل في أمه و عمه فل يقبل منه ،و يتقلب جائعا و الدنيا ملك
يده .و يقتل أصحابه و النصر بيد خالقه ،أو ليس هذا مما يحير !
فما لنا و العتراض على مالك قد ثبتت حكمته و استقر ملكه .
•فصل :احتقار العمال و العتذار عن التقصير
تأملت عجبا ،و هو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه و يكثر التعب في تحصيله .
فإن العلم لما كان أشرف الشياء لم يحصل إل بالتعب و السهر و التكرار و هجر اللذات و الراحة .
حتى قال بعض الفقهاء :بقيت سنين أشتهي الهريسة ل أقدر ،لن وقت بيعها وقت سماع الدرس .
و نحو هذا تحصيل المال فإنه يحتاج إلى المخاطرات و السفار و التعب الكثير .
و كذلك نيل الشرف بالكرم و الجود ،فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل المحبوب ،و ربما آل إلى
الفقر .
و كذلك الشجاعة ،فإنها ل تحصل إل بالمخاطرة بالنفس قال الشاعر :
الجود يفقر و القدام قتال لول المشقة ساد الناس كلهم
و من هذا الفن تحصيل الثواب في الخرة ،فإنه يزيد على قوة الجتهاد و التعبد ،أو على قدر وقع
المبذول من المال في النفس .أو على قدر الصبر على فقد المحبوب و منع النفس من الجزع .
و كذلك الزهد يحتاج إلى صبر عن الهوى .
العفاف ل يكون إل بكف كف الشره .
و لول ما عاني يوسف عليه السلم ما قيل له :أيها الصديق .
و ال أقوام ما رضوا من الفضائل إل بتحصيل جميعها ،فهم يبالغون في كل علم ،و يجتهدون في كل
عمل ،و يثابرون على كل فضيلة .فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة و هم لها سابقون
.
و أكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم .فهم يحتقرونها مع التمام ،و يعتذرون من التقصير .
و منهم من يزيد على هذا فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك .
و منهم من ل يرى ما عمل أصلً ،لنه يرى نفسه و عمله لسيده .
و بالعكس من المذكور من أرباب الجتهاد حال أهل الكسل و الشره و الشهوات .
فلئن التذوا بعاجل الراحة لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من السف و الحسرة .
و من تلمح صبر يوسف عليه السلم ،و عجلة ماعز ،بأن له الفرق ،و فهم الربح من الخسران .
ولقد تأملت نيل الدر من البحر ،فرأيته بعد معاناة الشدائد .
ل بانت له أمثال .
و من تفكر فيما ذكرته مث ً
فالموفق من تلمح قصر الموسم المعمول فيه ،وامتداد زمان الجزاء الذي ل آخر له ،فانتهب حتى
اللحظة ،و زاحم كل فضيلة ،فإنها إذا فاتت فل وجه ل ستدراكها .
أو ليس في الحديث يقال للرجل :اقرأ و ارق فمنزلك عند آخر آية تقرؤها .
فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل حفظ القرآن عاجلً .
•فصل :المؤمن هو من إذااشتد البلء زاد إيمانا
ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبارات صورة ،و يتجنب المحظورات فحسب .
إنما المؤمن هو الكامل اليمان ،ل يختلج في قلبه اعتراض ،و ل يساكن نفسه فيما يجري و سوسة .
و كلما اشتد البلء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه .
و قد يدعو فل يرى للجابة أثرا ،و سره ل يتغير لنه يعلم أنه مملوك و له مالك يتصرف بمقتضى
إرادته .
فإن اختلج في قلبه اعتراض خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة ،كما جرى لبليس .
و اليمان القوي يبين أثره عند قوة البلء .
فأما إذا رأينا مثل يحيى بن زكريا تسلط عليه فاجر فيأمر بذبحه فيذبح و ربما اختلج في الطبع أن يقول
فهل ردعنه من جعله نبيا ؟ .
و كذلك كل تسلط من الكفار على النبياء و المؤمنين و ما وقع رد عنهم ،فإن هجس بالكفر أن القدرة
تعجز عن الرد عنهم كان كفرا .
و إن علم أن القدرة متمكنة من الرد و ما ردت و يجوع المؤمن و يشبع الكفار ،و يعافي العصاة .و
يمرض المتقين ،لم يبق إل التسليم للمالك و إن أمض و أرمض .
و قد ذهب يوسف بن يعقوب عليهما السلم فبكى يعقوب ثمانين سنة ثم لم ييأس ،فلما ذهب ابنه الخر
قال :عسى ال أن يأتيني بهم جميعا .
و قد دعا موسى عليه السلم على فرعون ،فأجيب بعد أربعين سنة .
و كان يذبح النبياء و ل ترده القدرة القديمة العظيمة ،و صلب السحرة ،و قطع أيديهم .
و كم من بلية نزلت بمعظم القدر ،فلما زاده ذلك إل تسليما و رضى فهناك يبين معنى قوله :و رضوا
عنه
و ههنا يظهر قدر قوة المان ل في ركعات .
قال الحسن البصري [ :استوى الناس في العافية ،فإذا نزل البلء تباينوا ] .
أضر ما على العوام المتكلمون فإنهم يخلطون عقائدهم بما يسمعونه منهم .
من أقبح الشياء أن يحضر العامي الذي ل يعرف أركان الصلة و ل الربا في البيع مجلس الوعظ فل
ينهاه عن التواني في الصلة ،و ل يعلمه الخلص من الربا بل يقول له القرآن قائم بالذات ،و الذي عندنا
مخلوق .
فيهون القرآن عند ذلك العامي ،فيحلف به على الكذب .
ويح المتكلم لو كان له فهم علم أن ال سبحانه و تعالى نصب أعلما تأنس بها النفوس و تطأمن إليها
الكعبة و سماها بيته ،و العرش و ذكر استواءه عليه ،و ذكر من صفاته اليد و السمع و البصر و
العين ،و ينزل إلى السماء الدنيا ،و يضحك ،و كل هذا لتأنس بالعادات .
و قد جل عما تضمنته هذه الصفات من الجوراح .
و كذلك عظم أمر القرآن ،و نهى المحدث أن يمس المصحف فآل المر لقوم من المتكلمين إلى أن
أجازوا الستنجاء به .
فهؤلء على معاندة الشريعة ،لنهم يهينون ما عظم الشرع .
و هل اليغال في الكلم مما يرقب إلى معرفة الحقائق التي ل يمكن خلفها ! هيهات لو كان كذلك ما وقع
بين المتكلمين خلف .
أوليس الشرب الول ما تكلموا في شيء من هذا ! و إن كانوا تعرضوا ببعض الصول .
ثم جاء فقهاء المصار فنهوا عن الخوض في الكلم لعلمهم ما يجلب و ما يجتنب .
و من لم يقنع بعقيدته مثل الصحابة ،و ل بطريق مثل طريق أحمد و الشافعي في ترك الخوض فل كان
من كان .
ثم بال تأملوا أليس قد وجب علينا هجر الربا لقوله تعالى :ل تأكلوا الربا و هجر الزنا بقوله :ول
تقربوا الزنى .
فأي فائدة لنا في ذكر قراءة و مقروء و تلوة و متلو و قديم و محدث ؟
فإن قيل :فل بد من العتقاد .
قلنا :طريق السلف أوضح محجة ،لن ل نقوله تقليدا بل بالدليل ،ولكن لم نستفده عن جوهر و
عرض و جزء ل يتجزء .
بل بأدلة النقل مع مساعدة العقل من غير بحث عما ل يحتاج إليه و ليس هذا مكان الشرح .
مازلت على عادة الخلق في الحزن على من يموت من الهل و الولد ،و ل أتخايل إل بلى البدان في
القبور ،فأحزن لذلك ،فمرت بي أحاديث قد كانت تمر بي و ل أتفكر فيها .
منها قول النبي صلى ال عليه و سلم :إنما نفس المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرده ال عز
وجل على جسده يوم يبعثون .فرأبت أن الرحيل إلى الراحة ،و أن هذا البدن ليس بشيء ،لنه مركب
تفكك و فسد ،و سيبنى جديدا يوم البعث ،فل ينبغي أن يتفكر في بلء .
و لتسكن النفس إلى أن الرواح انتقلت إلى راحة فل يبقى كبير حزن ،و أن اللقاء للحباب عن قرب .
و إنما يبقى السف لتلعق الخلق بالصور ،فل يرى النسان إل جسدا مستحسنا قد نقض فيحزن لنقضه
.
و الجسد ليس هو الدمي ،و إنما هو مركبه ،فالرواح ل ينالها البلى .و البدان ليست بشيء .
و اعتبر هذا بما إذا قلعت ضرسك و رميته في حفرة ،فهل عندك خبر مما يلقى في مدة حياتك ؟
فحكم البدان حكم ذلك الضرس ،ل تدري النفس ما يلقى ،و ل ينبغي أن تغتم بتمزيق جسد المحبوب و
بله .
و اذكر تنعم الرواح ،و قرب التجديد ،و عاجل اللقاء ،فإن الفكر في تحقيق هذا يهون الحزن ،و
يسهل المر .
ينبغي للعاقل أل يتكلم في الخلوة عن أحد بشيء حتى يمثل ذلك الشيء ظاهرا معلنا به ثم ينظر فيما
يجني .
فرب رجل وثق بصديق فتكلم أمامه عن سلطان بأمر فبلغه فأهلكه ،أو عن صديق فبلغه فوقعت الواقعة
.
و كذلك ينبغي كتم المذاهب ،فإنه ما يربح مظهرها إل المعاداة .
و لما صرح الشريف أبو جعفر في زمان المقتدي بمخالفة الشاعرة ،أخذ و حبس حتى مات .
و كان المقصود قطع الفتن و إصلح الرعية ،فإنه أهم إلى السلطان من التعصب لمذهب .
رأيت كثيرا من المغفلين يظهر عليهم السخط بالقدار .و فيهم من قل إيمانه فأخذ يعترض .
و فيهم من خرج إلى الكفر ،و رأى أن ما يجري كالعبث ،و قال ما فائدة العدام بعد اليجاد و البتلء
ممن هو غني عن أذانا ؟
فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا :إن حضر عقلك و قلبك حدثتك .
و إن كنت تتكلم بمجرد واقعك من غير نظر و إنصاف فالحديث معك ضائع .
ويحك ،أحضر عقلك ،و اسمع ما أقول :
أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك ،و للمالك أن يتصرف كيف يشاء ؟
أليس قد ثبت أنه حكيم و الحكيم ل يعبث ؟
و أنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئا ،فإنه قد سمعنا عن جالينوس أنه قال :ما أدري ؟ أحكيم
هو أم ل .
و السبب في قوله هذا ،أنه رأى نقضا بعد إحكام ،فقاس الحال على أحوال الخلق ،و هو أن من بنى
ثم نقض ل لمعنى فليس بحكيم .
و جوابه لو كان حاضرا أن يقال :بماذا بان لك أن النقص ليس بحكمة ؟
أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك ؟
و كيف يهب لك الذهن الكامل و يفوته هو الكمال ؟
و هذه هي المحنة التي جرت لبليس .فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله ،فلو تفكر على أن واهب العقل
أعلى من العقل ،و أن حكمته أوفى من كل حكيم ،لنه بحكمته التامة أنشأ العقول .
فهذا إذا تأمله المصنف زال عنه الشك .
و قد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى :أم له البنات و لكم البنون .
أي أجعل لنفسه الناقصات و أعطاكم الكاملين ؟
فلم يبق إل أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا .
و نقول هذا فعل عالم حكيم و لكن ما يبين لنا معناه .
و ليس هذا بعجب ،فإن موسى عليه السلم خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة ،و
قتل الغلم الجميل ،فلما بين له الخضر وجه الحكمة أذعن فلنكن مع الخالق كموسى مع الخضر .
أو لسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف يقطع و يمضغ و يصير إلى
ما نعلم .و لسنا نملك ترك تلك الفعال و ل ننكر الفساد له ،لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه .
فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن ل نعلمه ؟
و من أجل الجهال العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر موله ،فإن فرضه التسليم ل العتراض .
و لو لم يكن في البتلء بما تنكره الطباع إل أن يقصد إذعان العقل و تسليمه لكفي .
و لقد تأملت حالة عجيبة ،يجوز أن يكون المقصود بالموت هي ،و ذلك أن الخالق سبحانه في غيب ل
يدركه الحساس .
فلو أنه لم ينقض هذه البنية لتخايل للنسان أنه صنع ل بصانع .
فإذا وقع الموت عرفت النفس نفسها التي كانت ل تعرفها لكونها في الجسد ،و تدرك عجائب المور
بعد رحيلها .
فإذا ردت إلى البدن عرفت ضرورة أنها مخلوقة لمن أعادها .
و تذكرت حالها في الدنيا ـ الفكار تعاد كما تعاد البدان ـ فيقول قائلهم إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين .
و متى رأيت ما قد وعدت به من أمور الخرة أيقنت يقينا ل شك معه .
و ل يحصل هذا بإعادة ميت سواها .و إنما يحصل برؤية هذا المر فيها .
فتبني بنية تقبل البقاء و تسكن جنة ل ينقضي دوامها .
فيصلح بذلك اليقين أن تجاور الحق ،لنها آمنت بما وعد ،و صبرت بما ابتلى ،و سلمت لقداره ،فلم
تعترض ،و رأت في غيرها العبر ،ثم في نفسها .فهذه هي التي يقال لها :ارجعي إلى ربك راضية
مرضية * فادخلي في عبادي * و ادخلي جنتي .
فأما الشاك و الكافر فيحق لهما الدخول إلى النار و اللبث فيها ،لنهما رأيا الدلة و لم يستفيدا و نازعا
الحكيم و اعترضا عليه ،فعاد شؤم كفرهما يطمس قلوبهما ،فبقيت على ما كانت عليه .
فلما لم تنتفع بالدليل في الدنيا لم تنتفع بالموت و العادة و دليل بقاء الخبث في القلوب قوله تعالى :و
لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .
ل مسلما يقف على حده ،و ل يعترض على خالقه و موجده .
فنسأل ال عز وجل عق ً
ثم الويل للمعترض ،أيرد اعتراضه القدار ؟
فما يستفيد إل الخزي ،نعوذ بال ممن خذل .
ل ينبغي للمؤمن أن ينزعج من مرض أو نزول موت ،و إن كان الطبع ل يملك .
إل أنه ينبغي له التصبر مهما أمكن ،إما لطلب الجر بما يعاني ،أو لبيان أثر الرضى بالقضاء ،و ما
هي إل لحظات ثم تنقضي .
و ليتفكر المعافي من المرض في الساعات التي كان يقلق فيها أين هي في زمان العافية ؟ ذهب البلء و
حصل الثواب .
كما تذهب حلوة اللذات المحرمة و يبقى الوزر .و يمضي زمان التسخط بالقدام ،و يبقى العتاب .
و هل الموت إل آلم تزيد فتعجز النفس عن حملها فتذهب .
فليتصور المريض و جود الراحة بعد رحيل النفس ،و قد هان ما يلقى ،كما يتصور العافية بعد شرب
الشربة المرة .
و ل ينبغي أن يقع جزع بذكر البلى ،فإن ذلك شأن المركب ،أما الراكب ففي الجنة أو في النار .
و إنما ينبغي أن يقع الهتمام الكلي بما يزيد في درجات الفضائل قبل نزول المعوق عنها .
فالسعيد من و فق لغتنام العافية .ثم يختار تحصيل الفضل فالفضل في زمن الغتنام .
و ليعلم أن زيادة المنازل في الجنة على قدر التزيد من الفضائل ههنا ،و العمر قصير ،و الفضائل
كثيرة ،فاليبالغ في البدار .
فيا طول راحة التعب ،و يا فرحة المغموم ،و يا سرور المحزون .
و متى تخايل دوام اللذة في الجنة من غير منغص و ل قاطع ،هان عليه كل بلء و شدة .
حضرنا يوما جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له ،فرأيت من ذم الناس للدنيا ،و عيب من سكن
إليها و التقبيح للغافلين عن الستعداد لهذا المصرع أمرا كبيرا من الحاضرين .
فقلت :نعم ما قلتم .و لكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه .
أعجب الشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه أوجب عليه عقله البدار بالعمل و القلق من
الخوف .
وقد اشتد ذلك بأقوام فهاموا في البراري ،و طووا اليام بالمجاعة ،و داموا على سهر الليل ،و
لزموا المقابر ،فهلكوا سريعا .
و لعمري إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل .
و لكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق قد أمر بما يوجب السكون ،فقال :إنما خلق هذا البدن ليحمل
النفس كما تحمل الناقة الراكب .
و ل بد من التلطف بالناقة ليحصل المقصود من السير ،و ل يحسن في العقل دوام السهر و طول القلق
،لنه يؤثر في البدن فيفوت اكثر المقصود .
كيف و قد خلق بدن الدمي خلقا لطيفا ،فإذا هجر الدسم نشف الدماغ .و إذا دام على السهر قوى
اليبس ،و إذا لزم الحزن مرض القلب .
فل بد من التلطف بالبدن بتناول ما يصلحه ،و بالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له .
و إل فمتى دام المؤذي عجل التلف .
ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل ،فيقول [ :إن لنفسك عليك حقا و إن لزوجك عليك حقا ،فصم و
أفطر ،و قم و نم ] .
و يقول [ :كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت ] .
و يحث على النكاح و دوام القلق و اليبس يترك الزوجة كالرملة ،و الولد كاليتيم .
و ل وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق .
و من أراد مصداق ما قلته ،فاليتأمل حالة الرسول صلى ال عليه و سلم .فإنه كان يعدل ما عنده من
الخوف فيمازح ،و يسابق عائشة ،و يكثر من التزوج .و كان يتلطف ببدنه ،فيختار الماء البائت ،و
يحب الحلوى و اللحم .
و لول مساكنة نوع غفلة لما صنف العلماء ،و ل حفظ العلم ،و ل كتب الحديث .
لن من بقول :ربما مت اليوم كيف يكتب و كيف يسمع و يصنف ،
فل يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت و عدم ذكره حق ذكره ،فإنها نعمة من ال سبحانه
بها تقوم الدنيا و يصلح الدين .
و إنما تذم قوة الغفلة الموجبة للتفرط و الهمال للمحاسبة للنفس ،وتضييع الزمان في غير التزود ،
وربما قويت فحملت على المعاصي .
فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام ل بد منه ،فإن كثر صار الطعام زعافا .فالغفلة تمدح إذا كانت
بقدر كما بينا .و متى زادت وقع الذم .
فافهم ما قلته .
و ل تقل فلن شديد اليقظه ما ينام الليل ،و فلن غافل ينام أكثر الليل ،فإن غفلة توجب مصلحة البدن
و القلب ل تذم ،و السلم .
و قد رأينا من يرائي و ل يدري فيمتنع من المشي في السوق ،و من زيارة الخوان ،و من أن
يشتري شيئا بنفسه .
و توهمه نفسه أني أكره مخالطة السوقة ،و إنما هذا يربي جاها بين العلماء إذ لو خالطهم ل متحى
جاهه ،و بطل تقبيل يده .
و قد كان بشر الحافي يجلس في مجلس عند العطار .
و أبلغ من هذا كله أن نبينا صلى ال عليه و سلم كان يشتري حاجته و يحملها ،و خرج علي بن أبي
طالب رضي ال عنه و هو أمير المؤمنين فاشترى ثوبا .و قد كان طلحة بن مطرف قارئ أهل الكوفة ،
فلما كثر الناس عليه مشى إلى العمش فقرأ عليه ،فمال الناس إلى العمش و تركوا طلحة .
هذا و ال الكبريت الحمر و الكسير ،ل يظن إكسيرا في الكيمياء .
و المعاملة مع ال تعالى هكذا تكون .
فأما ضد هذه الحال فحالة عابد للخلق ملبس .و قد عم هذا جمهور الخلق حاشا السلف .
مضغ الكلم و ل صبغ الحواجيب أفدي ظباء فلة ما عرفن بها
•فصل :الزنا اقبح الذنوب
متى رأيت صاحبك قد غضب و أخذ يتكلم بما ل يصلح ،فل ينبغي أن تعقد على ما يقوله خنصرا ،و ل
أن تؤاخذه به .
فإن حاله حال السكران ،ل يدري ما يجري .
بل اصبر لفورته ،و ل تعول عليها ،فإن الشيطان قد غلبه ،و الطبع قد هاج ،و العقل قد استتر .
و متى أخذت في نفسك عليه ،أو أجبته بمقتضى فعله ،كنت كعاقل واجه مجنونا ،أو كمفيق عاتب
مغمى عليه .فالذنب لك .
بل انظر بعين الرحمة ،و تلمح تصريف القدر له ،و تفرج في لعب الطبع به .و اعلم أنه إذا انتبه ندم
على ما جرى ،و عرف لك فضل الصبر .
و أقل القسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به .
و هذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند الغضب الوالد ،و الزوجة عند غضب الزوج ،فتتركه يشتفي
بما يقول ،و ل تعول على ذلك ،فسيعود نادما معتذرا .
و متى قوبل على حالته و مقالته صارت العداوة متمكنة ،و جازى في الفاقة على ما فعل في حقه وقت
السكر .
و أكثر الناس على غير هذه الطريق .
متى رأوا غضبان قابلوه بما يقول و يعمل ،و هذا على مقتضى الحكمة ،بل الحكمة ما ذكرته ،و ما
يعقلها إل العالمون .
ليس في الدنيا أكثر بلهة ممن يسئ إلى شخص و يعلم أنه قد بلغ إلى قلبه بالذى ثم يصطلحان في
الظاهر ،فيعلم أن ذلك الثر محي بالصلح .
و خصوصا مع الملوك ،فإن لذتهم الكبرى أل يرتفع عليهم أحد ،و ل ينكر لهم غرض ،فإذا جرى
شيء من ذلك لم ينجبر .
و اعتبر هذا بأبي مسلم الخراساني ،فإنه غض من قدر المنصور قبل وليته فحصل ذلك في نفسه فقتله
.
و من نظر في التواريخ رأى جماعة قد جرى لهم مثل هذا .
و ل ينبغي لمن أساء إلى ذي سلطان لن يقع في يده ،فإنه إذا رام التخلص لم يقدر .فيبقى ندمه على
ترك احترازه ،و حسرته على مساكنة الضمان للسلمة ،أشد عليه من كل ما يلقى به من الهوان و الذى
.
و من هذا الجنس الصدقاء المتماثلون ،فإنك متى آذيت شخصا و بلغ إلى قلبه أذاك فل تثق بمودته ،
فإن أذاك نصب عينه ،فإن لم يحتل عليك لم يصف لك .
و ل تخالط إل من أنعمت عليه فحسب ،فهو لم ير منك إل خيرا ،فيكون في نفسه ،و كذلك الولد و
الزوجة و المعاملون .
و يلحق بهذا أن أقول :ل ينبغي أن تعادي أحدا و ل تتكلم في حقه ،فربما صارت له دولة فاشتفى .
و ربما احتيج إليه فلم يقدر عليه .
فالعاقل يصور نفسه كل ممكن ،و يستر ما في قلبه من البغض و الود ،و يداري مع الغيظ و الحقد ،
هذه مشاورة العقل إن قبلت .
كل من يتلمح العواقب و ل يستعد لما يجوز وقوعه فليس بكامل العقل .
و اعتبر هذا في جميع الحوال ،مثل أن يغتر بشبابه و يدوم على المعاصي و يسوف بالتوبة .
فربما أخذ بغته و لم يبلغ بعض ما أمل .
و كذلك إذا سوف بالعمل أو بحفظ العلم ،فإن الزمان ينقضي بالتسويف و يفوت المقصود .
و ربما عزم على فعل خيرا أو وقف شيء من ماله فسوف فبغت .
فالعاقل من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه و عمل بمقتضى ذلك .
فإن امتد الجل لم يضره ،و إن وقع المخوف كان محترزا .
و مما يتعلق بالدنيا أن يميل مع السلطان و يسيء إلى بعض حواشيه ثقة بقربه منه ،فربما تغير ذلك
السلطان فارتفع عدوه فانتقم منه .
و قد يعادي بعض الصدقاء و ل يبالي به لنه دونه في الحالة الحاضرة .
فربما صعدت مرتبة ذلك فاستوفى ما أسفله إليه من القبيح و زاد .
فالعاقل من نظر فيما يجوز وقوعه و لم يعاد أحدا .
فإن كان بينهما ما يوجب المعاداة كتم ذلك ،فإن صح له أن يثب على عدوه فينتقم منه انتقاما يبيحه
الشرع جاز على أن العفو أصلح في باب العيش .
و لهذا ينبغي أن يخدم البطال ،فإنه ربما عمل فعرف ذلك لمن خدم .
و قس على أنموذج ما ذكرته من جميع الحوال .
•فصل :عزة العلم تضع أصحابها فوق الملوك
و أقله من يقف على قبره فيقرأ :قل هو ال أحد و يهديها له .و السلطين تقف بين يدي قبره ذليلة .
هذا بعد الموت ،و يوم الحشر تنشر الكرامات التي ل توصف ،و كذلك قبور العلماء المحققين .
و لما بليت أقوام بمخالطة المراء أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها .
فقال سفيان بن عتبة :منذ أخذت من مال فلن المير ،منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن .
و هذا أبو يوسف القاضي ،ل يزور قبره اثنان .
فالصبر عن مخالطة المراء و إن أوجب ضيق العيش من وجه ،يحصل طيب العيش من جهات .
و مع التخليط ،ل يحصل مقصود .فمن عزم جزم .
كان أبو الحسن القزويني ،ل يخرج من بيته إل وقت الصلة ،فربما جاء السلطان فيقعد لنتظاره ،
ليسلم عليه .
و مد النفس في هذا ربما أضجر السامع ،و من ذاق عرف .
من عرف الشرع كما ينبغي و علم حالة الرسول صلى ال عليه و سلم و أحوال الصحابة و أكابر
العلماء ،علم أن أكثر الناس على غير الجادة .
و إنما يمشون مع العادة ،يتزاورون ،فيغتاب بعضهم بعضا ،و يطلب كل واحد منهم عورة أخته ،و
يحسده إن كانت نعمة ،و يشمت به إن كانت مصيبة و يتكبر عليه إن نصح له ،و يخادعه لتحصيل شيء
من الدنيا ،و يأخذ عليه العثرات إن أمكن .
هذا كله يجري بين المنتمين إلى الزهد ل الرعاع .
فالولى بمن عرف ال سبحانه ،و عرف الشرع ،و سير السلف الصالحين النقطاع عن الكل .
فإن اضطر إلى لقاء منتسب إلى العلم و الخير تلقاه و قد لبس درع الحذر ،و لم يطل معه الملم ،ثم
عجل الهرب منه إلى مخالطة الكتب التي تحوي تفسيرا لنطاق الكمال .
•فصل :الكمال قليل الوجود
ليس في الدنيا أبله ممن يريد معاملة الحق سبحانه على بلوغ الغراض .
فأين تكون البلوى إذن ؟.
ل و ال ل بد من انعكاس المرادات ،و من توقف أجوبة السؤالت ،و من تشفي العداء في أوقات .
فأما من يريد أن تدوم له السلمة و النصر على من يعاديه ،و العافية من غير بلء ،فما عرف
التكليف ،و ل فهم التسليم .
أليس الرسول صلى ال عليه و سلم ينصر يوم بدر ثم يجري عليه ما جرى يوم أحد ! .
أليس يصد عن البيت ثم قهر بعد ذلك !
فل بد من جيد و ردىء و الجيد يوجب الشكر ،و الردىء يحرك إلى السؤال و الدعاء .
فإن امتنع الجواب ،أريد نفوذ البلء ،و التسليم للقضاء .
و ههنا يبين ما اليمان ،و يظهر في التسليم جواهر الرجال .
فإن تحقق التسليم باطنا و ظاهرا فذلك شأن الكامل .
و إن وجد الباطن انعصار من القضاء ل من المقضي ـ فإن الطبع ل بد أن ينفر من المؤذى دل ـ على
ضعف المعرفة .
فإن خرج المر إلى العتراض باللسان ،فتلك حال الجهال ،نعوذ بال منها .
ل ينكر أن الطباع تحب المال ،لنه سبب بقاء البدان ،لكنه يزيد حبه في بعض القلوب حتى يصير
محبوبا لذاته ل للتواصل به إلى المقاصد .
فترى البخيل يحمل على نفسه العجائب ،و يمنعها اللذات و تصبر لذاته في جمع المال .و هذا جبلة في
خلق كثير .
و ليس العجب أن تكون في الجهال و ينبغي أن يؤثر فيها عند العلماء المجاهدة للطبع و مخالفته ،
خصوصا في الفعال اللزمة في المال .
فأما أن يكون العالم جامعا للمال من وجوه قبيحة و من شبهات قوية و بحرص شديد و بذل في
الطالب ،ثم يأخذ من الزكوات و ل تحل له مع الغنى ،ثم يدخره و ل ينفع به ،فهذه بهيمية تخرج من
صفات الدمية .
بل البهيمية أعذر ،لنها بالرياضة تتغير طباعها ،و هؤلء ما غيرهم رياضة ،و ل أفادهم العلم .
و لقد كان أبو الحسن البسطامي مقيما في رباط البسطامي الذي على نهر عيسى ،و كان ل يلبس إل
الصوف شتاء و صيفا ،و كان يحترم و يقصد ،فخلف مالً يزيد على أربعة الف دينار .
و رأينا بعض أشياخنا و قد بلغ الثمانين و ليس له أهل و ل ولد ،و قد مرض فألقى نفسه عند بعض
أصدقائه يتكلف له ذلك الرجل ما يشتهيه و ما يشفيه ،فمات فخلف أموالً عظيمة .
و رأينا صدقة بن الحسين الناسخ ،و كان على الدوام يذم الزمان و أهله ،و يبالغ في الطلب من الناس
و يتجفف و هو في المسجد وحده ليس له من يقوم بأمره ،فمات فخلف فيما قيل ثلث مائة دينار .
و كان يصحبنا أبو طالب بن المؤيد الصوفي ،و كان يجمع المال ،فسرق منه نحو مائة دينار ،فتلهف
عليها و كان ذلك سبب هلكه .
و من أحوال الناس أنك ترى أقواما جلسوا على صفة القوم يطلبون الفتوح فيأتهم منها الكثير الذي
يصيرون به من الغنياء ،و هم ل يمتنعون من أخذ زكاة و ل من طلب .
و كذلك القصاص ،يخرجون إلى البلد و يطلبون ،فيحصل لهم المال الكثير ،فل يتركون الطلب عادة .
فيا سبحان ال . .أي شيء أفاد العلم .بل الجهل كان لهؤلء أعذر .
و من أقبح أحوالهم لزومهم السباب التي تجلب لهم الدنيا من التخاشع و التنسك في الظاهر ،و ملزمة
حث العزلة عن المخالطة ،و كل هؤلء بمعزل عن الشرع .
و لقد تأملت على بعضهم من القدح في نظيره إلى أن يبلغ به إلى التعرض به للهلك .
فالويل لهم ،ما أقل ما يتمتعون بظواهر الدنيا ،و إن كان مقلب القلوب قد صرف القلوب عن محبتهم ،
لن الحق عز وجل ل يميل بالقلوب إل إلى المخلصين .
فقد فاتتهم الدنيا على الحقيقة ،و ما حصلوا إل صورة الحطام .
نسأل ال عز وجل عقلً يدبر دنيانا ،و يحصل لنا آخرتنا ،و الرزاق قادر .
من علم قرب الرحيل عن مكة ،استكثر من الطواف ،خصوصا إن كان ل يؤمل العود لكبر سنه و
ضعف قوته .
فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات ،و ينتظر الهاجم بما يصلح له .
فقد كان في قوس الجل منزع زمان الشباب ،و استرخى الوتر في المشيب عن سية القوس ،فانحدر
إلى القلب و ضعفت القوى .
و ما بقي إلى الستسلم لمحارب التلف ،فالبدار البدار أن يؤثر إلى أن التنظيف ليكون القدوم على
طهارة .
و أي عيش في الدنيا يطيب لمن أيامه السليمة تقربه إلى الهلك ،و صعود عمره نزول عن الحياة و
طول بقائه نقص مدى المدة ،فليتفكر فيما بين يديه ،و هو أهم مما ذكرناه .
أليس في الصحيح :ما منكم أحد إل و يعرض عليه مقعدة بالغداة و العشي من الجنة و النار فيقال :
هذا مقعدك حتى يبعث ال .
فوا أسفا لمهدد ،لم يحسن التأهب ،و يا طيب عيش الموعود بأزيد المنى .
و ليعلم من شارف السبعين ،أن النفس أنين ،أعان ال من قطع عقبة العمر على رمل زرود الموت .
من أراد أن يعلم حقيقة الرضى عن ال عز وجل ففي أفعاله ،و أن يدري من أين ينشأ الرضى ،
فليتفكر في أحوال رسول ال صلى ال عليه و سلم .
فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه رأى أن الخالق مالك ،و للمالك التصرف في مملوكه ،و رآه
حكيما ل يصنع شيئا عبثا ،فسلم تسليم مملوك لحكيم فكانت العجائب تجري عليه و ل يوجد منه تغير ،و
ل من الطبع تأفف .
و ل يقول بلسان الحال :لو كان كذا ،بل يثبت للقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح .
هذا سيد الرسل صلى ال عليه و سلم بعث إلى الخلق وحده ،و بالكفر قد مل الفاق ،فجعل يفر من
مكان إلى مكان ،و استتر في دار الخيزران ،و هم يضربونه إذا خرج ،و يدمون عقبه ،و شق السلى
على ظهره ،و هو ساكت ساكن .
و يخرج كل موسم فيقول :من يؤويني ،من ينصرني ؟
ثم خرج من مكة فلم يقدر على العود إل في جواز كافر ،و لم يوجد من الطبع تأنف ،و ل من الباطن
اعتراض .
إذ لو كان غيره لقال :يا رب أنت مالك الخلق ،و قارد على النصر ،فلم أذل ؟
كما قال عمر رضي ال عنه يوم صلح الحديبية :ألسنا على الحق ؟ فلم نعطي الدنية في ديننا ؟
و لما قال هذا ،قال له الرسول صلى ال عليه و سلم :إني عبد ال و لن يضيعني ،فجمعت الكلمتان
الصلين اللذين ذكرناهما .
فقوله :إني عبد ال ،إقرار بالملك و كأنه قال :أنا مملوك يفعل بي ما يشاء .
و قوله :لن يضيعني ،بيان حكمته ،و أنه ل يفعل شيئا عبثا .
ثم يبتلي بالجموع فيثد الحجر ،و ل خزائن السموات و الرض .
و تقتل أصحابه و يشج وجهه ،و تكسر رباعيته ،و يمثل بعمه و هو ساكت
ثم يرزق ابنا و يسلب منه ،فيتعلل بالحسن و الحسين ،فيخبر بما سيجري عليهما .
و يسكن بالطبع إلى عائشة رضي ال عنها ،فينغص عيشه بقذفها .
و يبالغ في إظهار المعجزات فيقام في وجهه مسيلمة و العنسي و ابن صياد .
و يقيم ناموس المانة و الصدق ،فيقال :كذاب ساحر .ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلن و هو ساكن
ساكت .فإن أخبر بحاله فليعلم الصبر .
ثم يشدد عليه الموت ،فيسلب روحه الشريفة و هو مضطجع في كساء ملبد و إزار غليظ ،و ليس
عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذ .
هذا شيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قلبه ،و لو ابتليت به الملئكة ما صبرت .
هذا آدم عليه السلم يباح له الجنة سوى شجرة فل يقع ذباب حرصه إل على العقر .
و نبينا صلى ال عليه و سلم يقول في المباح :مالي و للدنيا !
و هذا نوح عليه السلم يضج مما لقى ،فيصبح من كمد وجده ل تذر على الرض من الكافرين ديارا .
و نبينا صلى ال عليه و سلم يقول :اللهم اهد قومي فإنهم ل يعلمون .
ل إن هي إل
هذا الكليم موسى صلى ال عليه و سلم ،يستغيث عند عبادة قومه العجل على القدر قائ ً
فتنتك و يوجه إليه ملك الموت فيقلع عينه .
و عيسى صلى ال عليه و سلم يقول [ :إن صرفت الموت عن أحد فاصرفه عني ] .
و نبينا صلى ال عليه و سلم يخير بين البقاء و الموت ،فيختار الرحيل إلى الرفيق العلى .
هذا سليمان صلى ال عليه و سلم يقول :هب لي ملكا ،و نبينا صلى ال عليه و سلم يقول :اللهم
اجعل رزق آل محمد قوتا
هذا و ال فعل رجل عرف الوجود و الموجود ،فماتت أغراضه ،و سكنت اعتراضاته ،فصار هواه
فيما يجري .
أكثر شهوات الحس النساء ،و قد يرى النسان امرأة في ثيابها فيتخايل له أنها أحسن من زوجته .
أو يتصور بفكره المستحسنات و فكره ل ينظر إل إلى الحسن من المرأة ،فيسعى في التزوج و التسري
.
فإذا حصل له مراده لم يزل ينظر في عيوب الحاصل التي ما كان يتفكر فيها ،فيمل و يطلب شيئا آخر .
علم الحديث هو الشريعة ،لنه مبين للقرآن و موضح للحلل و الحرام و كاشف عن سيرة رسول ال
صلى ال عليه و سلم و سير أصحابه .
و قد مزجوه بالكذب ،و أدخلوا في المنقولت كل قبيح .
فإذا وفق الزاهد و الواعظ لم يذكرا إل ما شهد بصحته .
و إن حرما التوفيق ،عمل الزاهد بكل حديث يسمعه لحسن ظنه بالرواة ،و قال الواعظ كل شيء يراه
الجهلة بالتصحيح ،ففسدت أحوال الزاهد ،و انحرف عن جادة الهدى ،و هو ل يعلم .
كيف ل وعموم الحاديث الدالة على الزاهد ل تثبت ،مثل حديث ابن عمر رضي ال عنهما :أيما
امرىء مسلم اشتهى شهوة فرد شهوته و آثر على نفسه غفر له .و هذا حديث موضوع ،يمنع النسان
ما أبيح مما يتقوى به على الطاعة .
و مثل قوله :من وضع ثيابا حسنا ،و كذلك ما رووا إن رسول ال صلى ال عليه و سلم قدم له أدمان
فقال :أدمان في قدح ،ل حاجة لي فيه ،أكره أن يسألني ال عن فضول الدنيا .
و في الصحيح :أن رسول ال صلى ال عليه و سلم :أكل البطريخ بالرطب و مثل هذا إذا تتبع كثير
فقد بنوا على فساد ،ففسدت أحوال الواعظ و الموعوظ ،لنه يبني كلمه على أشياء فاسدة و محالت .
و لقد كان جماعة من المتزهدين يعملون على أحاديث و مقولت ل تصح فيضيع زمانهم في غير
المشروع .
ثم ينكرون على العلماء استعمالهم للمباحات ،و يرون أن التجفف هو الدين .
و كذلك الوعاظ يحدثون الناس بما ل يصح عن الرسول صلى ال عليه و سلم و ل أصحابه ،فقد صار
المحال عندهم شريعة .
فسبحان من حفظ هذه الشريعة بأخبار ينفون عنها تحريف الغالين و انتحال المبطلين .
كان قد سألني بعض أصحاب الحديث :هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح ؟ فقلت :نعم .
فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب ،فحملت أمرهم على أنهم عوام ،و أهملت فكر ذلك .
إذا بهم قد كتبوا فتاوي ،فكتب فيها جماعة من أهل خراسان ،منهم أو أبو العلء الهمداني يعظمون
هذا القول ،و يردونه و يقبحون قول من قاله .
فبقيت دهشا متعجبا ،و قلت في نفسي :و اعجبا صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضا .
و ما ذاك إل أنهم سمعوا الحديث و لم يبحثوا عن صحيحه و سقيمه ،و ظنوا أن من قال ما قلته قد
تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد .
و ليس كذلك ،فإن المام أحمد روى المشهور و الجيد و الرديء .
ثم هو قد رد كثيرا مما روى ،و لم يقل به ،و لم يجعله مذهبا له .
أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ مجهول !
من نظر في كتاب العلل الذي صنفه أبو بكر الخلل رأى أحاديث كثيرة كلها في المسند ،و قد طعن فيها
أحمد .
و نقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألته النبيذ قال :إنما روى أحمد في
مسنده ما اشتهر ،و لم يقصد و ل السقيم .
و يدل على ذلك أن عبد ال قال :قلت لبي :ما تقول في حديث ربعي بن حراش عن حذيفة ؟ قال :
الذي يرويه عبد العزيز بن أبي داود ؟ قلت :نعم .
قال :الحاديث بخلفه .قلت :فقد ذكرته في المسند .قال قصدت في المسند المشهور ،فلو أردت أن
أقصد ما صح عندي لم أرد لهذا المسند إل الشيء بعد الشيء اليسير .
و لكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث ،لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء
ل للصحة فقد خالفه
يدفعه .قال القاضي ـ و قد أخبر عن نفسه ـ كيف طريقه في المسند فمن جعله أص ً
و ترك مقصده .
قلت :قد غمني في هذا الزمان أن العلماء لتقصيرهم في العلم صاروا كالعامة و إذا مر بهم حديث
موضوع قالوا :قد روي .
و البكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم و ل حول و ل قوة إل بال العلي العظيم .
إعلم أن الدمي قد خلق لمر عظيم . . .و هو مطالب بمعرفة خالقه بالدليل ،و ل يكفيه التقليد .و
ذلك يفتقر إلى جمع الهم في طلبه .
و هو مطالب بإقامة المفروضات ،و اجتناب المحارم .فإن سمت همته إلى طلب العلم احتاج إلى زيادة
جمع الهم .
فأسعد الناس من له قوت دار بقدر الكفاية ،ل من منن الناس و صدقاتهم و قد قنع به .
و أما إذا لم يكن له قوت يكفي فالهم الذي يريد اجتماعه في تلك المور يتشتت و يصير طالبا للتحليل
في جمع القوت .
فيذهب العمر في تحصيل قوت البدن الذي يريد من بقائه غير بقائه ،و يفوت المقصود ببقائه ،و ربما
احتاج إلى النذال ،قال الشاعر :
يصون عرضي عن الهوان حسبي من الدهر ما كفاني
فضل فلن على فلن مخافة أن يقول قوم
فينبغي للعاقل أن إذا رق قوتا أو كان له موار أن يحفظها ليجتمع همه و ل ينبغي أن يبذر في ذلك فإنه
يحتاج فيتشتت همه .
و النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت ،فإن لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته ،و قلل الغلو ليجتمع بين
همه و ضرورته .
و ليقنع بالقليل ،فإنه متى سمت همته إلى فضول المال وقع المحذور من التشتت ،لن التشتت في
الول للعدم ،و هذا التشتت يكون للحرص على الفضول فيذهب العمر على البارد :
مخافة فقر فالذي فعل الفقر و من ينفق اليام في حفظ ماله
فافهم هذا يا صاحب الهمة تفي طلب الفضائل ،فإنك ما لم تعزل قوت الصبيان شتتوا قلبك ،و طبعك
طفل .ففرغ همك من استعانته .
و اعرف قدر شرف المال أوجب جمع همك ،و صان عرضك عن الخلق .
و إياك أن يحملك الكرم على فرط الخراج ،فتصير كالفقير المتعرض لك بالتعرض لغيرك .
و في الحديث أن رجلً أتى رسول ال صلى ال عليه و سلم فرأى عليه آثار الفقر ،فعرض به فأعطى
شيئا .فجاءه فقير آخر فآثره الول ببعض ما أعطى فرماه النبي صلى ال عليه و سلم ،و نهاه عن مثل
ذلك .
القناعة بما يكفي ،و ترك التشوف إلى الفضول أصل الصول .
و لما آيس المام أحمد بن حنبل نفسه من قبول الهدايا و الصلت اجتمع همه ،و حسن ذكره ،لما
أطعمها ابن المديني و غيره سقط ذكره .
ثم فيمن ! إنما هو سلطان جائر ،أو منرك منان ؟ أو صديق مدل بما يعطي و العز ألذ من كل لذة ،و
الخروج عن ربقة المنن و لو بسف التراب أفضل .
قد ركب في الطباع حب التفضيل على الجنس ،فما أحد إل و هو يحب أن يكون أعلى درجة من غيره .
فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه ،فينبغي أن يتجلد بستر تلك النكبة ،لئل يرى بعين
نقص .
ليتجمل المتعفف حتى ل يرى بعين الزحمة ،و ليتحامل المريض لئل يشمت به ذو العافية .
و قد قال صلى ال عليه و سلم لصحابه حين قدومه مكة و قد أخذتهم الحمى فخاف أن يشمت بهم
العداء حين ضعفهم عن السعي ،فقال :رحم ال من أظهر من نفسه الجلد ،فيرملوا ـ و الرمل شدة
السعي ـ .
و زال ذلك السبب و بقي الحكم ،ليتذكر السبب فيفهم معناه .
استأذنوا على معاوية و هو في الموت ،فقال لهله :أجلسوني ،فقعد متمكنا يظهر العافية ،فلما خرج
العواد أنشد :
أني لريب الدهر أتضعضع و تجلدي للشامتين أيهم
و إذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة ل تنفع
و ما زال العقلء يظهرون التجلد عند المصائب و الفقر و البلء ،لئل يتحملوا معى النوائب شماتة
العداء ،و إنها لشد من كل نائبة .
كان فقيرهم يظهر الغنى ،و مريضهم يظهر العافية .
بلى ،ثم نكتة ينبغي التفطن لها ،ربما أظهر النسان كثرة المال و سبوغ النعم ،فأصابه عدوه بالعين ،
فل يفي ما تبجح به بما يلقي من انعكاس النعمة .
و العين ل تصيب إل ما يستحسن ،و ل يكفي الستحسان في إصابة العين حتى يكون من حاسد ،و ل
يكفي ذلك حتى يكون من شرير الطبع .
فإذا اجتمعت هذه الصفات خيف من إصابة العين ،فليكن النسان مظهرا للتجميل مقدار ما يأمن إصابة
العين و يعلم أنه في خير .
و ليحذر الفراط في إظهار النعم ،فإن العين هناك محذورة .
و قد قال يعقوب لنبيه عليهم السلم ل تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة .
و إنما خاف عليهم العين .فليفهم هذا الفصل فإنه ينفع من له تدبر .
إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في معرفته و محادثته و رؤيته في البقاء الدائم .
و إنما ابتدىء كوننا في الدنيا لنها في مثال مكتب نتعلم فيه الخط و الدب ليصلح الصبي عند بلوغه
للرتب .
فمن الصبيان بعيد الذهن يطول مكثه في المكتب و يخرج و ما فهم شيئا .
و هذا مثال من ل يعلم و جوده ،و ل نال المراد من كونه .
و من الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه ،و قلة فهمه و عدم تعلمه أذى الصبيان ،فهو يؤذيهم ،و
يسرق مطاعمهم ،و يستغيثون من يده ،فل هو صلح ،و ل فهم و ل كف عن الشر .
و هذا مثل أهل الشر و المؤذيين .
و من الصبيان من علق بشيء من الخط لكنه ضعيف الستخراج رديء الكتابة ،فخرج و لم يعلق إل
بقدر ما يعلق به حساب معاملته .
و هذا مثل من فهم الشيء و فاتته الفضائل التامة .
و منهم من جود الخط و لم يتعلم الحساب ،و أتقن الدب حفظا ،غير أنه قاصر في أدب النفس .
فهذا يصلح أن يكون كائبا للسلطان على مخاطرة لسوء ما في باطنه من الشره و قلة التأدب .
و منهم من سمعت همته إلى المعالي الكاملة ،فهو مقدم الصبيان في المكتب ،و نائب عن معلمهم ،ثم
يرتفع عنهم بعزة نفسه ،و أدب باطنه ،و كمال صناعة الدب الظاهرة .
و ل يزال حاث من باطنه يحثه على تعجيل التعليم ،و تحصيل كل فضيلة ،لعمله أن المكتب ل يراد
لنفسه بل لخذ الدب منه ،و الراحلة إلى حالة الرجولية و التصرف ،فهو يبادر الزمان في نيل كل فضيلة
.
فهذا مثل المؤمن الكامل يسبق القران التجاري ،و يعرض لوح عمله جيد الخط ،فيقول بلسان حاله
هاؤم اقرؤوا كتابيه .
و كذلك الدنيا و أهلها .من الناس هالك بعيد عن الحق ،و هم الكفار .
و منهم خاطئ مع قليل من اليمان ،فهو معاقب ،و المصير إلى خير .و منهم سليم ،لكنه قاصر .
و منهم تام ،لكنه بالضافة إلى من دونه ،و هو ناقص بالضافة إلى من فوقه .
فالبدار البدار يا أرباب الفهوم ،فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة ،و سفر إلى المستقر و القرب من
السلطان و مجاورته ،فتهيئوا للمجالسة ،و استعدوا للمخاطبة ،و بالغوا في استعمال الدب ،لتصلحوا
للقرب من الحضرة .
و ل يشغلكم عن تضمير الخيل تكاسل ،و ليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق .
فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا .
و منازلهم على قدر ،فما منزل النفاط كمنزل الحاجب ،و ل منزل الحاجب كمكان الوزير .
جنتان من ذهب ،آنيتهما و ما فيهما .و جنتان من فضة ،آنيتهما ،و ما فيهما ،و الفردوس العلى
لخرين .
و الذين في أرض ينظرون أهل الدرجات كما يرون الكوكب الدري ،فليتذكر الساعي حلوة التسليم إلى
المين .
و ليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق .و ليحذر المسابق من تقصير ل يمكن استدراكه .
و ليخف من عيب يبقى قبح ذكره .
هؤلء الجهنميون عتقاء الرحمن ،أزرى بهم اتباع الهوى ،ثم لحقتهم العافية فنجوا بعد لي ،فليتعظ
و ليصبر عن المشتهي ،فاليام قلئل .
يدخل فقراء المؤمنين قبل الغنياء إلى الجنة بخمس مائة عام ،فالجد الجد ،بإقدام المبادرة .
فقد لح العلم خصوصا لمن بانت له بانة الوادي ،إما بالعلم الدال على الطريق ،و إما بالشيب الذي هو
علم الرحيل ،و هو ما يأمله أهل الجد .
و كان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه ،فيقال له في هذا الوقت ! فيقول [ :أبادر طي صحيفتي ] .
و بعد هذا ،فالمراد موفق ،و المطلوب معان .و إذا أرادك لمر هيأك له .
تأملت حالة عجيبة ،و هو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم بالضافة إلى من فوقهم ،
و هم يعلمون فضلل أولئك .
فلو تفكروا في ما فاتهم من ذلك وقعت الحسرات ،غير أن ذلك ل يكون ،لن ذلك ل يقع لهم لطيب
منازلهم ،و ل يقع في الجنة غم .
و يرضى كل بما أعطي من وجهين :أحدمها أنه ل يظن أن يكون نعيم فوق ما هو فيه ،و إن علت
منزلة غيره .و الثاني أنه يحبب إليه كما يحبب إليه ولده المستوحش الخلفة فإنه يؤثره على الجنبي
المستحسن .
إل أن تحت هذا معنى لطيفا ،و هو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا عن طلب الفضائل يتفاوت
قصورها .
فمنهم من يحفظ بعض القرآن و ل يتوق إلى التمام ،و منهم من يسمع يسيرا من الحديث و منهم من
ل من الفقه ،و منهم من قد رضي من كل شيء بيسيره ،و منهم مقتصر على الفرائض ،و
يعرف قلي ً
منهم قنوع بصلت ركعتين في الليل .و لو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل ،و نبت عن
النقص فاستخدمت البدن ،كما قال الشاعر :
و بلء جسمي من تفاوت همتي و لكل جسم في النحول بلية
و يدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع و ل يسهل عليه السهر في سماع القرآن .
و النسان يحشر و معه تلك الهمة ،فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا لم تتق إلى الكمال و قنعت
بالدون ،قنعت في الخرة بمثل ذلك .
ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم ،فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل ،و ل يطمع من صلى ركعتين في
ثواب من صلى ألفا .
فإن قال قائل :فكيف يتصور لها أل تروم ما ناله من هو أفضل منها ؟
قلت :إن لم يتصور نيله يتصور الحزن على فوته .
و هل رأيت عاميا يحزن على فوات الفقه حزنا يقلقه ؟ هيهات .
لو كان ذلك الحزن عنده لحره إلى التشاغل .
فليس عندهم همة توجب السف مع أنهم قد رضوا بما فيه .فافهم ما قلته و بادر ،فهذا ميدان السباق
.
تفكرت في إبقاء اليهود و النصارى بيننا و أخذ الجزية منهم ،فرأيت في ذلك حكما عجيبة .
منها :ما قد ذكر أن السلم كان ضعيفا فتقوى بما يؤخذ من جزيتهم .و منها :ظهور عزه بذلهم ،
إلى غير ذلك مما قد قيل .
و وقع لي فيه معنى عجيب ،و هو أن وجودهم و تعبدهم و حفظهم شرع نبيهم صلى ال عليه و سلم
دليل على أنه قد كان أنبياء و شرائع .
و أن نبينا صلى ال عليه و سلم ليس ببدع من الرسل ،فقد اجتمعت الجن و هم على إثبات صانع ،و
إقرار برسل ،فبان أننا ما ابتدعنا ما لم يكن .
و هم يصبرون على باطلهم ،و يؤدون الجزية ،فكيف ل نصبر على حق ،و الدولة لنا و في بقائهم
احترام لما كان صحيحا من الدين و ليرجع متبصر ،و ليستعمل مفكر .
قد ثبت بالدليل شرف العلم و فضله ،إل أن طلب العلم افترقوا ،فكل تدعوه نفسه إلى شيء .
فمنهم من أذهب عمره في القراءات ،و ذلك تفريط في العمر ،لنه إنما ينبغي أن يعتمد على المشهور
منها ل على الشاذ .
ما أقبح القارىء يسأل عن مسألة في الفقه و هو ل يدري .و ليس ما شغله عن ذلك إل كثرة الطرق
في روايات القراءات .
و منهم من يتشاغل بالنحو و علله فحسب ،و منهم من يتشاغل باللغة فحسب .و منهم من يكتب
الحديث ،و يكثر و ل ينظر في فهم ما كتب .
و قد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلة فل يدري ما يقول .
و كذلك القراء ،و كذلك أهل اللغة و النحو .
و حدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه ،قال :حدثني ابن المنصوري ،قال :حضرنا مع أبي محمد بن
الخشاب ،و كان إمام الناس في النحو و اللغة ،فتذاكروا الفقه فقال [ :سلوني عما شئتم ] ،فقال له
رجل :إن قيل لنا رفع اليدين في الصلة ما هو فماذا نقول ؟ فقال [ :هو ركن ] ! فدهشت الجماعة من
قلة فقهه .
و إنما ينبغي للعاقل أن يأخذ من كل علم طرفا يهتم بالفقه .
ثم ينظر في مقصود العلوم ،و هو المعاملة ل سبحانه ،و المعرفة به ،و الحب له .
و ما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم ،و إنما ينبغي أن يعرف من ذلك اليسير و المنازل لعلم
الوقات ،فأما النظر فيما يدعى أنه القضاء و الحكم فجهل محض لنه ل سبيل إلى علم ذلك حقيقة و قد
جرب فبان جهل مدعيه .
و قد تقع الصابة في وقت .و على تقدير الصابة ل فائدة فيه إل تعجيل الغم .
فإن قال قائل :يمكن دفع ذلك فقد سلم أنه ل حقيقة له .
و أبله من هؤلء من يتشاغل بعلم الكيميا فإنه هذيان فارغ .و إذا كان ل يتصور قلب الذهب نحاسا لم
يتصور قلب النحاس ذهبا .
فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس في النقود .هذا إذا صح له مراده .
و ينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده ،إذ فقدان الخلص يمنع قبول العمال .
و ليجتهد في مجالسة العلماء ،و النظر في القوال المختلفة ،و تحصيل الكتب ،فل يخلو كتاب من
فائدة .
و ليجعل همته للحفظ ،و ل ينظر و ل يكتب إل وقت التعب من الحفظ .
و لحيذر صحبة السلطان ،و لينظر في منهاج الرسول صلى ال عليه و سلم و الصحابة و التابعين ،و
ليجتهد في رياضة نفسه و العمل بعلمه ،و من توله الحق وفقه .
طال تعجبي من أقوام لهم أنفة ،و عندهم كبر زائدة في الحد .
خصوصا العرب الذين من كلمة ينفرون ،و يحاربون ،و يرضون بالقتل حتى إن قوما منهم أدركوا
السلم فقالوا :كيف نركع و نسجد فتعلونا أستاهنا ؟
فقال رسول ال صلى ال عليه و سلم :ل خير في دين ليس في ركوع و ل سجود .
و قد كان قوم يعبدون الخيل و البقر ،و إن هؤلء لخس من إبليس ،أنف لدعائه الكمال أن يسجد
لناقص فقال :أنا خير منه و فرعون أنف أن يعبد شيئا أصلً .
فالعجب ذل هؤلء المفتخرين المتعاظمين المتكبرين لحجر أو خشبة .
و إنما ينبغي أن يذل الناقص للكاملين .و قد أشير إلى هذا في ذم الصنام في قوله تعالى :ألهم أرجل
يمشون بها ،أم لهم أيد يبطشون بها ،أم لهم أعين يبصرون بها .
و المعنى :أنتم لكم هذه اللت المدركة و هم ليس لهم فكيف بعد الكامل الناقص ؟
غير أن هوى القوم في متابعة السلف ،و استحلء ما اخترعوه بآرائهم ،غطى على العقول ،فلم
تتأمل حقائق المور .
ثم غطى الحسد على أقوام فتركوا الحق و قد عرفوه .
فأمية بن أبي الصلت ،يقر برسول ال صلى ال عليه و سلم ،و يقصده ليؤمن به ،ثم يعود فيقول :ل
أؤمن برسول ليس من ثقيف .
و أبو جهل يقول :و ال ما كذب محمد قط ،و لكن إذا كانت السدانة و الحجابة في بني هاسم ثم النبوة
فما بقي لنا ؟
و أبو طالب يرى المعجزات و يقول :إن لعلم أنك على الحق و لول أن تعيرني نساء قريش لقررت
بها عينك .
فتعوذ بال من ظلمة حسد ،و غيابة كبر ،و حماقة هوى يغطي على نور العقل .
و نسأله إلهام الرشد ،و العمل بمقتضى الحق .
قد سمعنا بجماعة من الصالحين عاملوا ال عز وجل على طريق السلمة و المحبة و اللطف فعاملهم
كذلك ،لنهم ل يحتمل طبعهم غير ذلك .
ففي الوائل برخ العابد خرج يستسقي فقال :مناجيا ال ما هذا الذي ل نعرفه منك .
اسقنا الساعة ،فسقوا .
و في الصحابة أنس بن النضر يقول :و ال ل تكسر سن الربيع ،فجرى المر كما قال :فقال النبي
صلى ال عليه و سلم :إن من عباد ال من لو قسم على ال لبره
و هؤلء قوم غلب عليهم ملحظة اللطف و الرفق ،فلطف بهم ،و أجروا على ما أعتقدوا .
و هناك أعلى من هؤلء يسألون فل يجابون ،و هم بالمنع راضون .
ليس لحدهم انبساط ،بل قد قيدهم الخوف ،و نكس رؤوسهم الحذر ،و لم يروا ألسنتهم أهلً للنبساط
،فغاية آمالهم العفو .
فإن انبسط أحدهم بسؤال فلم ير الجابة عاد على نفسه بالتوبيخ ،فقال :مثلك ل يجاب ،و ربما قال :
لعل المصلحة في منعي .
و هؤلء الرجال حقا ،البله الذي يرى له من الحق أن يجاب ،فإن لم يجب تذمر في باطنه ،كأنه
يطلب أجرة عمله ،و كأنه قد نفع الخالق بعبادته .
و إنما العبد حقا من يرضى ما يفعله الخالق .
فإن سأل فأجيب ،رأى ذلك فضلً .
و إن منع رأى تصرف مالك ،فلم يجعل في قلبه إعتراض بحال .
رأيت جماعة من العلماء يتفسحون و يظنون أن العلم يدفع عنهم ،و ما يدرون أن العلم خصمهم ،و
أنه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب .
و ذاك لن الجاهل لم يتعرض بالحق ،و العالم لم يتأدب معه .
و رأيت بعض القوم يقول :أنا قد ألقيت منجلي بين الحصادين و نمت .ثم كان يتفسح في أشياء ل
تجوز .
فتفكرت فإذا العلم الذي هو معرفة الحقائق ،و النظر في سير القدماء ،و التأدب بآداب القوم ،و
معرفة الحق و ما يجب له ،ليس عند القوم .
و إنما عندهم صور ألفاظ يعرفون بها ما يحل و ما يحرم ،و ليس ذلك .العلم النافع .
إنما العلم فهم الصول و معرفة المعبود و عظمته و ما يستحقه ،و النظر في سير الرسول صلى ال
عليه و سلم و صحابته ،و التأدب بآدابهم ،و فهم ما نقل عنهم ،هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء
أحقر عند نفسه من أجهل الجهال و رأيت بعض من تعبد مدة ثم فتر ،فبلغني أنه قال :قد عبدته عبادة ما
عبده بها أحد ،و الن قد ضعفت .
فقلت :ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سببا لرد الكل .
لنه قد رأى أنه عمل مع الحق شيئا ،و إنما وقف يسأل النجاة بطلب الدرجات ،ففي حق نفسه فعل .
و ما مثله إل كمثل من وقف يكدي ،فما ينبغي أن يمن على المعطي .
و إنما سبب هذا النبساط الجهل بالحقائق ،و أين هو من كبار العلماء المعاملة الذين كان فيهم مثل
صلة بن أشيم إذا رآه السبع هرب منه و هو يقول إذا انقضى الليل عند صلته :يا رب أجرني من النار .
أو مثلي يسأل الجنة ؟ .
و أبلغ من ذا قول عمر :وددت أن أنجو كفافا ل لي و ل علي .
و قول سفيان عند موته لحماد بن سلمة [ :أترجو لمثلي أن ينجو من النار ] ؟ .و قول أحمد :ل بعد
.
فأنا أحمد ال عز وجل إذا تخلصت من جهل المتسمين بالعلم من هؤلء الذين ذممتهم .و بالزهد من
هؤلء الذين عبتهم ،فإن قد اطلعت من عظمة الخالق و سير المحققين على ما يخرس لسان النبساط ،و
يمحو النظر إلى كل فعل .
و كيف أنظر إلى فعلي المستحسن ،و هو الذي وهبه لي و أطلعني على ما خفى عن غيري .
فهل حصل ذلك بي أو بلطفه ؟ و كيف أشكر توفيقي الشكر !
ثم أي عالم إذا سبر أمور العلماء من القدماء ل يحتقر نفسه ؟
هذا في صورة العلم ،فدع معناه .
و أي عابد يسمع بالعباد و ل يجري في صورة التعبد ،فدع المعنى .
نسأل ال عز وجل معرفة تعرفنا أقدارنا ،حتى ل يبقى للعجب بمحتقر ما عندنا أثر في قلوبنا .و ترغب
إليه في معرفة لعظمته تخرس اللسن أن تنطق بالذلل .
و نرجو من فضله توفيقا نلحظ به آفات العمال التي بها نزهو حتى تثمر الملحظة لعيوبها الخجل من
وجودها ،إنه قريب مجيب .
سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة .و ليس في الدنيا طيب عيش على الدوام إل للعارف الذي
شغله رضى حبيبه و التزود للرحيل إليه .
فإنه إن وجد راحة في الدنيا استعان بها على طلب الخرة .
وإن وجد شدة اغتنم الصبر عليها لثواب الخرة ،فهو راض بكل ما يجري عليه .
يرى ذلك من قضاء الخالق ،و يعلم أنه مراده ،كما قال قائلهم :
فسلم ال على و سني إن كان رضاكم في سهري
فأما من طلب حظه فإنه يقلق لفوات مراده ،و يتنغص لبعد ما يشتهي .فلو إفتقر تغير قلبه ،و لو ذلك
تغير ،و هذا لنه قائم مع غرضه و هواه .
و ما أحسن قول الحصري :إيش علي مني ،و إيش لي في ؟
و هذا كلم عارف ،لنه إن كان ينظر إلى حقيقة الملكية ،فعبد يتصرف فيه موله .
فاعتراضه ل وجه له ،و إرادته أن يقع ما يجب فضول في البين .
و إن نظر أن النفس كالملك له فقد خرجت عن يده من يوم إن ال اشترى .
أفيحسن لمن باع شاة أن يغضب على المشتري إذا ذبحها أو يتغير قلبه ؟
و ال لو قال المالك سبحانه :إنما خلقتكم ليستدل على وجودي ،ثم أنا أفنيكم و ل إعادة .
لكان يجب على النفوس العارفة به أن تقول سمعا لما قلت و طاعة .
و أي شيء لنا فينا حتى نتكلم .
فكيف و قد وعد بالجر الجزيل ،و الخلود في النعيم ،الذي ل ينفد .لكن طريق الوصول تحتاج إلى
صبر على المشقة و ما يبقى لتعب رمل زرود أثر إذا لح الحرم .
فالصبر الصبر يا أقدام المبتدئين ،لح المنزل .و السرور يا متوسطين ،ضرب الخيم .و الفرح الكامل
يا عارفين ،قد تلقيتم بالبشائر .
زالت و ال أثقال المعاملت عنكم ،فكانت معرفتكم بالمبتلي حلوة أعقبت شربة المجاهدة ،فلم يبق في
الفم للمر أثر .
تخايلوا قرب المناجاة و لذة الحضور .و دوار كؤوس الرضى عنكم فقد أخذت شمس الدنيا في الفوال :
تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان :يا سفيان عد منع ال إياك عطاء منة لك ،فإنه لم يمنعك
بخلً ،إنما منعك لطفا .فرأيته كلم من قد عرف الحقائق .
فإن النسان قد يريد المستحسنات الفائقات فل يقدر و عجزه أصلح له ،لنه لو قدر عليهن تشتت
قلبه ،إما بحفظهن ،أو بالكسب عليهن .
فإن قوي عشقه لهن ضاع عمره و انقلب هم الخرة إلى الهتمام بهن .فإن لم يردنه فذاك الهلك
الكبر .و إن طلبن نفقة لم يطقها كان سبب ذهاب مروءته و هلك عرضه .و إن أردن الوطء و هو
عاجز فربما أهلكنه أو فجرن .و إن مات معشوقه هلك هو أسفا .فالذي يطلب الفائق ،يطلب سكينا لذبحه
و ما يعلم .
و كذلك إنقاذ قدر القوت فإنه نعمة ،و في الصحيحين أن رسول ال صلى ال عليه و سلم قال :اللهم
اجعل رزق آل محمد قوتا .
و متى كثر تشتت الهمم ،فالعاقل من علم أن الدنيا لم تخلق للتنعيم ،فقنع بدفع الوقت على كل حال .
رأيت جماعة من الخلق يتعللون بالقدار ،فيقول قائلهم :إن وقفت فعلت ،و هذا تعلل بادر ،و دفع
للمر بالراح .
و هو يشير إلى رد أقوال النبياء و الشرائع جميعها .
فإنه لو قال كافر للرسول :إن وفقتني أسلمت .لم يجبه إل بضرب العنق .
و هذا جنس قول الناس لعلي رضي ال عنه :ندعوك إلى كتاب ال ،فقال :كلمة حق أريد بها باطل .
و كذلك قول الممتنعين عن الصدقة أنطعم من لو يشاء ال أطعمه .
و لعمري إن التوفيق أصل الفعل ،و لكن التوفيق أرم خفي .و الخطاب بالفعل أمر جلي .
فل ينبغي أن يتشاغل عن الجلي بذكر الخفي .
و مما يقطع هذا الحتجاج أن يقال لهذا القائل :إن ال سبحانه لم يكلفك شيئا إل و عندك أدوات ذلك
الفعل ،و لك قدرة عليه .
فإن كانت القدرة عليه معدومة و الدوات غير محلصة فل أمر و ل تكليف ،و إن كنت تسعى بتلك
الدوات في تحصيل غرضك و هوالك ،فاسع بها في إقامة مفروضك .
مثل ذلك :أنك تسافر في طلب الربح ،و تسأل الحج فل تفعل ،و يثقل عليك النتباه بالليل .فلو أردت
الخروج إلى العيد انتبهت سحرا .
و تقف في بعض أغراضك مع صديق تحادثت ساعات ،فإذا وقفت في الصلة استعجلت و ثقل عليك .
فإياك إياك أن تتعلق بأمر ل حجة لك فيه .ثم من نصيبك ينقص ،و من حظك يضيع ،فإنما تحرك لك ،
و إنما تحرض لنفعك ،فبار فإنك مبادر بك .
و مما يزيل كسلك ـ إن تأملته ـ أن تتخايل ثواب المجتهدين و قد فاتك .
و يكفي ذلك في توبيخ المقصر إن كانت له نفس .فأما الميت الهمة ،فما لجرح بميت إيلم .
كيف بك إذا قمت من قبرك و قد قربت نجائب النجاة لقوام و تعثرت ،و أسرعت أقدام الصالحين على
الصراط و تخبطت ؟
هيهات ،ذهبت حلوة البطالة ،و بقيت مرارة السف ،و نضب ماء كأس الكسل ،و بقي رسوب
الندامة !
ما قدر البقاء في الدنيا بالضافة إلى دوام الخرة ؟
ثم ما قدر عمرك في الدنيا و نصفه نوم ،و باقية غفلة ؟
فيا خاطبا حرر الجنة و هو ل يملك فلسا من عزيمة ،افتح عين الفكر في ضوء العبر ،لعلك تبصر
مواقع خطابك .
فإن رأيت تثبيطا من الباطن فاستغث بعون اللطف ،و تنبه في السحار لعلك تتلمح ركب الرباح ،و
تعلق على قطار المستغفرين و لو خطوات ،و انزل في رباع المجتهدين و لو منزلً أي منزل .
نظرت في قول أبي الدرداء رضي ال عنه :ما أعرف شيئا مما كنا عليه اليوم إل القبلة .
فقلت :و اعجبا ،كيف لو رآنا اليوم و ما معنا من الشريعة إل الرسم ؟
الشريعة هي الطريق .و إنما تعرف شريعة رسول ال صلى ال عليه و سلم إما بأفعاله أو أقواله .
و سبب النحراف عن طريقه صلى ال عليه و سلم :إما الجهل بها ،فيجري النسان مع الطبق و
العادات ،و ربما اتخذ ما يضاد الشريعة طريقا ،و قد كانت الصحابة شاهدته و سمعت منه فقل أن ينحرف
أحد منهم عن جادته إل أن أبا الدرداء رضي ال عنه رأى بعض النحراف لميل الطباع فضج فإنه قد
يعرف النسان الصواب ،غير أن طبعه يميل عنه .
و ما زالت الحاديث المنقولة عن الرسول صلى ال عليه و سلم و أصحابه رضي ال عنهم يقل السعاد
بها و النظر فيها إلى أن أعرض عنها بالكلية في زماننا هذا وجهلت إل النادر ،و اتخذت طرائق تضاد
الشريعة ،و صارت عادات ،و كانت أسهل عند الخلق من اتباع الشريعة .
و إذا كان عامة من ينسب إلى العلم قد أعراض عن علوم الشريعة فكيف العوام ؟ و لما أعرض كثير
من العلماء عن المنقولت ابتدعوا في الصول و الفروع .
فالصوليون تشاغلوا بالكلم و أخذوه من الفلسفة و علماء المنطق .
و دخلت أيدي الفروعيين في ذلك فتشاغلوا بالجدل ،و تركوا الحديث الذي يدور عليه الحكم .
ثم رأى القصاص أن النفاق بالنفاق ،فأقبل قوم منهم على التلبيس بالزهد ،و مقصودهم الدنيا .
و رأى جمهورهم أن القلوب تميل إلى الغاني ،فأحضروا المطربين من القراء و أنشدوا أشعار الغزل ،
و تركوا الشتغال بالحديث ،و لم يلتفتوا إلى نهي العوام عن الربا و الزنا ،و أمرهم بأداء الواجبات .
و صار متكلمهم يقطع المجلس بذكر ليلى و المجنون و الطور و موسى و أبي يزيد و الحلج ،و
الهذيان الذي ل محصول له .
و انفرد أقوام بالتزهد و النقطاع ،فامتنعوا عن عيادة المرضى ،و المشي بين الناس ،وأظهروا
التخاشع ،و وضعوا كتبا للرياضيات ،و التقلل من الطعام .و صارت الشريعة عندهم كلم أبي يزيد و
الشبلي و المتصوفة .
و معلوم أن من سبر الشريعة لم ير فيها من ذاك شيئا .
أما المراء فجروا مع العادات ،و سموا ما يفعلونه من القتل و القطع سياسات لم يعملوا فيها بمقتضى
الشريعة ،و تبع الخير في ذلك المتقدم .
فأين الشريعة المحمدية ؟ و من أين تعرف مع العراض عن المنقولت ؟
نسأل ال عز وجل التوفيق للقيام بالشريعة ،و العانة على رد البدع إنه قادر .
كنت أسمع علي بن الحسين الواعظ يقول على المنبر [ :و ال لقد بكيت البارحة من يدي نفسي ] .
فبقيت أنا أتفكر و أقول :أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي ؟
هذا رجل متنعم له الجواري التركيات .و قد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من النساء و ل يطعم إل
الغاية من الدجاج و الحلوى .
و له الدخل الكثير ،و المال الوافر ،و الجاه العريض و الفضال على الناس .
و قد حصل طرفا من العلم ،و استعبد كثيرا من العلماء بمعروفه ،و راحته دائمة الندى .فما الذي
يبكيه ؟
فتفكرت فعلمت أن النفس ل تقف عند حد بل تروم من اللذات ما ل منتهى له ،كلما حصل لها غرض
برد عندها و طلبت سواه ،فيفنى العمر ،و يضعف البدن ،و يقع النقص ،و يرق الجاه ،و ل يحصل
المراد .
و ليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا ،و ليس في الدنيا ،على الحقيقة لذة ،إنما
هي راحة من مؤلم .
فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها و مالت إليه ،و علم سترها و دينها ،أن يعقد
الخنصر على صحبتها .
و أكثر أسباب دوام محبتها أل يطلق بصره ،فمتى أطلق بصره أو أطمع نفسه في غيرها ،فإن الطمع
في الجديد ينغص الخلق و ينقص المخالطة ،و يستر عيوب الخارج ،فتميل النفس إلى المشاهد الغريب ،
و يتكدر العيش مع الحاضر القريب ،كما قال الشاعر :
في أعين الحور موقوف على الخطر و المرء ما دام ذا عين يقلبها
ل مرحبا بسرور عاد بالضرر يسر مقلته ما ضر مهجته
ثم تصير الثانية كالولى ،و تطلب النفس ثالثة و ليس لهذا آخر ،بل الغض عن المشتهيات ،و يأس
النفوس من طلب المستحسنات ،يطيب العيش مع المعاشر .
و من لم يقبل هذا النصح تعثر في طرق الهوى و هلك على البارد ،و ربما سعى لنفسه في الهلك
العاجل ،أو في العار الحاضر ،فإن كثيرا من المستحسنات لسن بصينات و ل يفي التمتع بهن بالعار
الحاصل .
و منهن المبذرات في المال ،و منهن المبغضة للزوج و هو يحبها كعابد صنم .
و أبله البله الشيخ الذي يطلب صبيه ...و لعمري إن كمال المتعة إنما يكون بالصبا ،كما قال القائل :
فقلت بنفسي النساء الصغار
و متى تكن الصبية بالغة لم يكمل الستمتاع ،فإذا بلغت أرادت كثرة الجماع ،و الشيخ ل يقدر .
فإن حمل على نفسه لم يبلغ مرادها ،و هلك سريعا .
و ل ينبغي أن يغتر بشهوته الجماع ،فإن شهوته كالفجر الكاذب .
و قد رأينا شيخنا اشترى جارية فبات معها فانقلب عنها ميتا .
و كان في المارستان شاب قد بقى شهرين بالقيام ،فدخلت عليه زوجته فوطئها فانقلب عنها ميتا .
فبان أن النفس باقية بما عندها من الدم ،و المنى ،فإذا فرغا و لم تجد ما تعتمد عليه ذهبت .
و إن قنع الشيخ بالستمتاع من غير وطء فهي ل تقنع فتصير كالعدو له .
فربما غلبها الهوى ففجرت أو احتالت على قتله ،خصوصا الجواري اللواتي أغلبهن قد جئن من بلد
الشرك ،ففيهن قسوة القلب .
و قبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء ،فإن اتفق معه صاحبة دين قبل ذلك فليرع لها
معاشرتها و ليتم نقصه عندها تارة بالنفاق ،و تارة بحسن الخلق .
و ليزد في تعريفها أحوال الصالحات و الزهدات ،و ليكثر من ذكر القيامة و ذم الدنيا و ليعرض بذكر
محبة العرب ،فإنهم كانوا يعشقون و ل يرون وطء المعشوق ،كما قال قائلهم :
و غمز كف و عضد إنما الحب قبلة
إن نكبح الحب فسد إنما العشق هكذا
فإن قدر أن يشغلها بحمل ،أو ولد عرقلها به ،فاستبقى قوته في مدة اشتغالتها بذلك .
فإن وطىء فليصبر عن النزال حفظا لقوته و قضاء لحقها .
و قد قيل لبشر :لم لم تتزوج ؟ فقال :على ماذا أغر مسلمة ،و قد قال ال عز وجل :و لهن مثل
الذي عليهن بالمعروف .
و المسكين من دخل في أمر لم يتلمح عواقبه قبل الدخول ،و رأى حبة الفخ فبادر طالبا لها ناسيا
تعرقل الجناح و الذبح .
مجموع ما قد بسطته حفظ البصر عن الطلق ،و يأس النفس عن التحصيل ،قنوعا بالحاصل ،
خصوصا من قد علت سنه ،و علم أن الصبية عدوة له متمنية هلكه ،و هو يربيها لغيره .
و في بعض ما ذكرته ما يردع العاقل عن التعرض لهذه الفات .نسأل ال عز وجل توفيقا من فضله و
ل بمقتضى العقل و الشرع ،إنه مجيب قريب .
عم ً
أعجب الشياء اغترار النسان بالسلمة ،و تأميله الصلح فيما بعد و ليس لهذا المل منهى ،و ل
للغترار حد .
فكلما أصبح و أمسى معافى ،زاد الغترار و طال المل .
و أي موعظة أبلغ من أن ترى ديار القران و أحوال الخوان و قبور المحبوبين ،فتعلم أنك بعد أيام
مثلهم ،ثم ل يقع انتباه حتى ينتبه الغير بك ،هذا و ال شأن الحمقى .
حاشا من له عقل أن يسلك هذا المسلك .
بلى و ال إن العاقل ليبادر السلمة ،فيدخر من زمنها للزمن ،و يتزود عند القدرة على الزاد لوقت
العسرة .
خصوصا لمن قد علم أن مراتب الخرة إنما تعلو بمقدار علو العمل لها ،و أن التدارك بعد الفوت ل
يمكن .
و قدر أن العاصي عفى عنه ،أينال مراتب العمال ؟
و من أجال على خاطرة ذكر الجنة التي ل موت فيها و ل مرض و ل نوم و ل غم ،بل لذاتها متصلة
من غير انقطاع ،و زيادتها على قدر زيادة الجد ههنا ،انتهب هذا الزمان فلم ينم إل ضرورة ،و لم يغفل
عن عمارة لحظة .
و من رأى أن ذنبا قد مضت لذته و بقيت آفاته دائمة ،كفاه ذلك زاجرا عن مثله ،خصوصا الذنوب
التي تتصل آثارها مثل أن يزني بذات زوج ،فتحمل منه فتلحق بالزوج فيمنع الميراث أهله و يأخذ من
ليس من أهل ،و تتغير النساب و الفرش ،و يتصل ذلك أبدا ،و كله شؤم لحظة .
فنسأل ال عز وجل توفيقا يلهم الرشادة ،و يمنع الفساد ،إنه قريب مجيب .
تأملت سبب تخليط العقائد ،فإذا هو الميل إلى الحس و قياس الغائبات على الحاضر فإن أقواما غلب
عليهم الحس ،فلما لم يشاهدوا الصانع جحدوا وجوده و نسوا أنه قد ظهر بأفعاله .و أن هذه الفعال ل بد
لها من فاعل .
فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية ثم عاد و فيها غرس و بناء علم أنه ل بد من غارس ،إذ الغرس
ل يكون و ل البناء .
ثم جاء قوم فأثبتوا وجود الصانع ،ثم قاسوه على أحوالهم فشبهوا ،حتى إن قائلهم يقول :في قوله :
ينزل إلى السماء :ينتقل ،و يستدل بأن العرب ل تعرف النزول إل النتقال .
و ضل خلق كثير في صفاته كما ضل خلق في ذاته .فظن أقوام أنه يتأثر حين سمعوا أنه يغضب و
يرضى و نسوا أن صفته تعالى قديمة ل يحدث منها شيء .
و ضل خلق في أفعاله فأخذوا يعللون فلم يقنعوا بشيء فخرج منهم قوم إلى أن نسبوا فعله إلى ضد
الحكمة ،تعالى عن ذلك .
و من رزق التوفيق فليحضر قلبه لما أقول :
إعلم أن ذاته سبحانه ل تشبه الذوات ،و صفاته ليست كالصفات ،و أفعاله ل تقاس بأفعال الخلق .
أما ذاته سبحانه فإنا ل نعرف ذاتا إل أن تكون جسما و ذاك يستدعي سابقة تأليف ،و هو منزه عن
ذلك ،لنه للمؤلف ،أو أن يكون جوهرا فالجوهر متحيز ،و له أمثال ،و قد جل عن ذلك ،أو عرضا ،
فالعرض ل يقوم بنفسه بل بغيره ،و قد تعالى على ذلك .
فإذا أثبتنا ذاتا قديمة خارجة عما يعرف ،فليعلم أن الصفات تابعة لتلك الذات ،فل يجوز لنا أن نقيس
شيئا منها على ما نفعله و نفهمه ،بل نؤمن به و نسلم به .
ل ل يجتلب به نفعا و ل يدفع عنه ضرا عد عابثا .و هو سبحانه
و كذلك أفعاله ،فإن أحدنا لو فعل فع ً
أوجد الخلق ل لنفع يعود إليه ،و ل لرفع ضر ،إذ المنافع ل تصل إليه ،و المضار ل تتطرق عليه .
فإن قال قائل :إنما خلق الخلق لينفعهم .قلنا :يبطله ،أنه خلق خلقا منهم للكفر و عذبهم و نراه يؤلم
الحيوان و الطفال و هو قادر على أل يفعل ذلك .
فإن قال قائل :إنه يثيب على ذلك .
قلنا :و هو قادر أن يثيب بل هذه الشياء ،فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيرا فجرحه ثم أغناه ليم
على ذلك ،لنه قادر أنه يغنيه بل جراح .
ثم من يرى ما جرى لرسول ال صلى ال عليه و سلم و على أصحابه من الجوع و القتل مع قدرة
الناصر ،ثم يسأل في أمه فل يجاب ،و لو كان المسؤول بعضنا قلنا لم تمنع ما ل يضرك .
غير أن الحق سبحانه ل تقاس أفعاله على أفعالنا و ل تعلل .
الذي يوجب علينا التسليم ،أن حكمته فوق العقل ،فهي تقضي على العقول ،و العقول ل تقضي عليها
.
و من قاس فعله على أفعالنا غلط الغلط الفاحش ،وإنما هلكت المعتزلة من هذا الفن .
فإنهم قالوا :كيف يأمر بشيء و يقضي بامتناعه ؟ و لو أن إنسانا دعانا إلى داره ثم أقام من يصد
الداخل لعيب .
و لقد صدقوا فيما يتلعق بالشاهد .فأمل من أفعاله ل تعلل و ل تقاس بشاهد ،فإنا ل نصل إلى معركة
حكمته .
فإن قال قائل :فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه ؟
قلنا :ل منافاة ،لن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم ،و أنه مالك ،و الحكيم ل يفعل شيئا إل
لحكمة ،غير أن تلك الحكمة ،ل يبلغها العقل .
أل ترى أن الخضر خرق سفينة و قتل شخصا ،فأنكر عليه موسى عليهما السلم بحكم العلم ،و لم
يطلع على حكمه فعله ،فلما أزهر له الحكمة أذعن ؟
و ل المثل العلى .
فإياك أن تقيس من أفعاله شيئا من أفعاله على أفعال الخلق ،أو شيئا من صفاته سبحانه و تعالى .فإنك
إن حفظت هذا سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من رأى الستواء اعتمادا ،و النزول نقله ،و نجوت من
العتراض الذي أخرج قوما إلى الكفر حتى طعنوا في الحكمة .
و أول القوم إبليس .فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة ،فنسى أنه إنما علم ذلك بزعمه
بالفهم الذي وهب له ،و العقل الذي منحه فنسى أن الواهب أعلم أولم يروا أن ال الذي خلقهم هو أشد
منهم قوة .
و لقد رأيت لبن الرومي اعتراضا على من يقول بتخليد الكفار في النار قال :إن ذلك التأبيد مزيدا من
النتقام ينكره العقل ،و ينبغي أن يقبل كل ما يقوله العقل ،و ل يرد بعضه إذ ليس رد بعضه بأولى من رد
الكل ،و تخليد الكفار ل غرض فيه للمعذب و ل للمعذب فل يجوز أن يكون .
فقلت :العجب من الذي يدعي وجود العقل و ل عقل عنده .
و أول ما أقول له :أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل النار أم لم يصح ؟
فإن كان ما صح عنه فالكلم إذن في إثبات النبوة و صحة القرآن .
فما وجه ذكر الفرع مع جحد الصل ؟
و إن قال :قد ثبت عندي ،فواجب عليه أن يتمهل لقامة العذر ،ل أن يقف في وجه المعارضة .
و إنما ينكر هذا من يأخذ المر من الشاهد ،و قد بينا أن ذات الحق ل كالذوات ،و أن صفته ل
كالصفات ،و أن أفعاله ل تعلل .
و لو تلمح شيئا من التعليل لخلود الكفار لبان ،إذ من الجائز أن يكون دوام تعذيبهم فظهار صدق الوعيد
.فإنه قال :من كفر بي خلدته في العذاب و ل جناية كالكفر ،و ل عقوبة كدوام الحتراق ،فهو يدوم
ليظهر صدق الوعيد .
و من الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين فإنهم أعداء الكفار .و قد قال سبحانه :و يشف
صدور قوم مؤمنين .
وكم من قلق في صدر ،و حنق على أبي جهل فيما فعل ،و كم من غم في قلب عمار و أمه سمية و
غيرهم من أفعال الكفار بهم .فدوام عذابهم شفاء لقلوب أهل اليمان .
ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام العتراض و ذكر المعذب بما ل يحسن فكلما زاد عذابهم زاد كفرهم و
اعتراضهم فهم يعذبون لذلك .
و دليل كفرهم فيحلفون له كما يحلفون لكم فإذن كفرهم ما زال ،و معرفتهم به ما حصلت ،والشر
كامن في البواطن ،و على ذلك يقع التعذيب و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .
ينبغي للمؤمن بال سبحانه إذا نظر في الفصل الذي قد تقدم هذا أل يعترض على ال سبحانه في شيء
ل في باطنه و ل في ظاهره ،و ل يطلب تعليلت أفعاله كلها .
فإن المتكليمن أعرضوا عن السنن و تكلموا بآرائهم ،فما صفى لهم شرب ،بدليل إختلفهم .
وكذلك إضمار القياس ،فإنهم لما أعلموه جاءت أحاديث تفكر عليهم .
و الصواب التعليل لما يمكن ،و التسليم لما يخفى .
و كذلك سؤال الحق سبحانه ،فإذا دعاه المؤمن و لم ير إجابة سلم و فوض و تأول للمنع .
فيقول :ربما يكون المنع أصلح ،و ربما يكون لجل ذنوبي ،و ربما يكون التأخير أولى ،و ربما لم
يكن هذا مصلحة .
ل لم يختلج في باطنه نوع اعتراض ،بل يرى أنه قد تعبد بالدعاء فإن أنعم عليه
و إذا لم يجد تاوي ً
فيفضلن و إن لم يحب فمالك يفعل ما يشاء .
على أن أكثر السؤال إنما يقع في طلب أغراض الدنيا التي إذا ردت كان أصلح .
فليكن هم العاقل في إقامة حق الحق و الرضى بتدبير و إن أساء .فمتى أقبلت عليه أقبل على إصلح
شأنك .
إذا عرفت أنه كريم فلذ به و ل تسأل .و متى أقبلت على طاعاته فمحال أن يجود صانع و ينصح في
العمل ثم ل يعطي الجرة .
و ال إني لتخايل دخول الجنة و دوام القامة فيها من غير مرض و ل بصاق و ل نوم و ل آفة تطرأ
بل صحة دائمة و أغراض متصلة ل يعترضها منغص ،في نعيم متجدد في كل لحظة ،إلى زيادة ل تتناهى
.فأطيش و يكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك ،لو ل أن الشرع قد ضمنه .
معلوم أن تلك المنازل إنما تكون على قدر الجتهاد ههنا .فوا عجبا من مضيع لحظة فيها .
فتسبيحه تغرس له في الجنة نخلة أكلها دائم و ظلها .
فيا أيها الخائف من فوت ذلك شجع قلبك بالرجاء .
و يا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية .
فإنه من ساعة خروج الروح ،ل بل قبل خروجها تنكشف المنازل لصحابها فيكون سير المجذوب للذة
المنتقل إليه .
ثم الرواح في حواصل طير تعلق في أشجار الجنة .
فكل الفات و المخالفات في نهار الجل ،و قد إصفرت شمس العمر .فالبدار البدار قبل الغروب و ل
معين يرافق على تلك الطريق إل الفكر إذا جلس مع العقل فتذاكرا العواقب .
فإذا فرغ ذلك المجلس ،فالنظر في سير المجدين فإنه يعود مستجلبا للفكر منها للفضائل ،و التوفيق
من وراء ذلك .
و متى أراك لشيء هيأك له .
فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر إل من العاجلة فهو من أكبر أسباب مرض الفهم و علل العقل .و
العزلة عن الشر حمية ،و الحمية سبب العافية .
رأيت سبب الهموم و الغموم العراض عن ال عز وجل ،و القبال على الدنيا .
و كلما فات منها شيء وقع الغم لفواته .
فأما من رزق معرفة ال تعالى استراح لنه يستغني بالرضى بالقضاء ،فمهما قدر له رضي .
و إن دعا فلم ير أثر الجابة لم يختلج في قلبه اعتراض ،لنه مملوك مدبر فتكون همته في خدمة
الخالق .
و من هذه صفته ل يؤثر جمع مال ،و ل مخالطة الخلق و ل اللتذاذ بالشهوات .
لنه إما أن يكون مقصرا في المعرفة فهو مقبل على التعبد المحض ،يزهد في الفاني لينال الباقي .
و إما أن يكون له ذوق في المعرفة ،فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل .
فتراه متأدبا في الخلوة به ،مستأنسا بمناجاته ،مستوحشا من مخالطة خلقه راضيا بما يقدر له .
فعيشه معه كعيش محب قد خل بحبيبه ،ل يريد سواه ،و ل يهتم بغيره .
فأما من لم يرزق هذه الشياء ،فإنه ل يزال في تنغيص متكدر العيش ،لن الذي يطبه من الدنيا ل يقدر
عليه ،فيبقى أبدا في الحسرات مع ما يفوته من الخرة بسوء المعاملة .
نسأل ال عز وجل أن يستصلحنا له ،فإنه ل حول و ل قوة إل به .
ينبغي لمن صحب سلطانا أو محتشما أن يكون ظاهره معه و باطنه سواه ،فإنه قد يدس إليه من يخبره
،فربما افتضح في البتلء .
و قد كان جماعة من الملوك يقصدون تقريب المنادم ،و يجعلون له حجرة في دورهم ،فإذا أرادوا أن
يختصوه اختبروه باطنا و ذاك ل يدري ،فيظهر منه ما ل يصلح فيطرد .
ل من خاصته ،فدس إليه جارية معها ألطاف ،و أمرها أل تقعد عنده فحملها .
و لقد امتحن أبرويز رج ً
ثم أنفذها مرة أخرى و أمرها أن تقعد بعد التسليم هنيهة ففعلت ،فلحظها
الرجل .
ثم بعثها مرة ثالثة و أمرها أن تطيل القعود عنده و تحدثه ،فأطالت الحديث معه ،فأبدى لها شيئا من
الميل إليها ،فقالت ،أخاف أن يطلع علينا ،و لكن دعني أدبر في هذا .
فذهبت فأخبرت الملك بذلك ،فوجه غيرها من خواص جواريه بمثل ذلك ،فلما جاءته قال :ما فعلت
فلنة ؟ قالت :مريضة ،فاربد لونه .
ثم فعلت الجارية الثانية مثل ما فعلت الولى ،فقالت له :إن الملك يمضي إلى بستانه فيقيم هناك .
فإن أرادك على أن تمضي معه فأظهر أنك عليل.
فإن خيرك بين النصراف إلى دور نسائك ،أو المقام هنا ،فاختر المقام ههنا ،و أخبر أنك ل تقدر على
الحركة .
فإن أجابك إلى ذلك جئت كل ليلة ما دام الملك غائبا ،فسكن إلى قولها ،ثم مضت و أخبرت الملك بذلك
.
فلما كان بعد ثلث ،إستدعاه الملك فقال :إني مريض .فعاد لرسول فأخبره فتبسم ،و قال :هذا أول
الشر .
فوجه إليه محفة فيها إليه ،فلما بصر به أبرويز قال :و المحفة الشر الثاني .
فرأى العصابة على رأسه .قال :و العصابة الشر الثالث .
فقال له الملك :أيهما أحب إليك ،النصراف إلى نسائك ليمرضنك أو المقام ههنا إلى وقت رجوعي ؟
قال :المقام ههنا أرفق لي لقلة الحركة ،فتبسم و قال :حركتك ههنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك
.
ثم أمره له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنا .
فأيقن الرجل بالمر ،و أمر أن يكتب ما كان من أمره حرفا حرفا فيقرأ على الناس حرفا حرفا إذا
حضروا ،و أن ينفي إلى أقصى الممكلة ،و تجعل العصا على رأس رمح يكون معه حيث كان ،ليحذر منه
من ل يعرفه .
فلما نفي أخذ من بعض الموكلين مدية فجب بها ذكره و قال :و مات من ساعته .
قلت :و قد كان جماعة من المراء يتنكرون يسألون العوام عن سيرتهم ،فيتكلم العامي بما ل يصح
فيضبطونه و ربما بعثوا دسيسا عليه .
و رب كلمات قالها مسترسل فبلغها فضولي فأهلكت صاحبها .
ل من العمال كثير الصلة ،فدس عليه من قال له :إن أخذت لك الولية
و رأى عمر بن عبد العزيز رج ً
الفلنية فما تعطيني .قال :أعطيك كذا و كذا ،قال له عمر :غررتنا بصلتك .
و قد بلغت أن رجلً كلم امرأة فأجابته فإستدعيته إلى دارها فلما دخل أقامت على قتله .
فقد ينجلي من هذه الحكاية أنه ل ينبغي أن يسكن إلى قول امرأة أو رجل يجوز أنه يكون جاسوسا و
مختبرا .
و كذلك ل يظهر ما ينبغي إخفاؤه من مال أو مذهب ،أو سب رجل ،فربما كان له في الحاضرين قريب
.
و ل يوثق بمودة ل أصل لها ،فربما كانت تحتها آفة تقصده .
و ليحذر من كل أمر يحتمل .و رب كلمة نقلها صديق إلى صديق فتحدث بها من ل يقصد أذى للقائل
فبلغت فتأذى .
و رب مظهر للمحبة مبالغ حتى يستمكن من مراده .
فالحذر الحذر من الطمأنينة إلى أحد ،خصوصا من عدو آذيته أو قتلت له قريبا .
فربما أظهر الجميل شبكة لصطيادك كحديث الزباء .
رأيت النفس بعد علو السن يقوى أملها و يزداد حرصها كما قال النبي صلى ال عليه و سلم :يشيب
أبن آدم و تشيب منه خصلتان :الحرص و المل .
و رأيت أكثر أسباب ذلك فراغ اليد من الدنيا ،و كثرة العائلة ،قوة الحاجة .
فيحتاج النسان إلى التعرض بما يشين العرض ليحصل الغرض .
فقلت :إلهي أبعد رؤية جبال عرفة أضل ؟
و بعد مشارقة الحرم تأخذني أعراب البادية ؟ .
وا أسفا أيطلع فجر النحر و ما وصلت إلى عرفات ؟
و يا ضياع سفر العمر ،و ما حصل المقصود .
و اليوم ل أطلب إل الرضى قد كنت أرجوك لنيل المنى
ثم قلت :يا نفس ما لك ملجأ إل اللجأ و استغاثة الغريق .
فإن رحمت و إل فكم من حسرة تحت التراب .
شكا لي بعض الشياخ فقال :قد علت سني و ضعفت قوتي ،و نفسي تطلب مني شراء الجواري
الصغار .و معلوم أنهن يردن النكاح و ليس في .و ل تقنع مني النفس بربة البيت إذ قد كبرت .
فقلت له :عندي جوابان :أحدهما الجواب العامي ،و هو أن أقول :ينبغي أن تشغل بذكر الموت و ما
قد توجهت إليه ،و تحذر من اشتراه جارية ل تقدر على أيفاء حقها فإنها تبغضك ،فإن أجهدت استعجلت
التلف .وإن استبقيت قوتك غضبت هي ،على أنها ل تريد شيخا كيف كان .
و قد أنشدنا علي بن عبد ال ،قال :أنشدنا محمد التميمي :
مقالة محزون عليك شفيق أفق يا فؤادي من غرامك و استمع
بغيرك فاستوثقت غير و وثيق علقت فتاةً قلبها متعلق
فكم بين موثوق و بين طليق و أصبحت موثوقا و راحت طليقةً
فاعلم أنها تعد عليك اليام ،و تطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك .
و ربما قصدت حنفك ،فاحذر السلمة في الترك ،و لقتناع بما يدفع الزمان .
الجواب الثاني فإني أقول :ل يخلو أن تكون قادرا على الوطء في وقت أو ل تكون .
فإن كنت ل تقدر فالولى مصابرة الترك للكل .و إن كان يمكن الحازم أن يداري المرأة بالنفقة و طيب
الخلق إل أنه يخاطر .
و إن كنت تقدر في أوقات على ذلك ،و رأيت من نفسك توقا شديدا فعليك بالمراهقات فإنهن ما عرفن
النكاح ،و ما طلبن بالوطء ،و اغمرهن بالنفاق و حسن الخلق مع الحتياط عليهن ،و المنع من مخالطة
النسوة .
و إذا اتفق وطء فتصبر عن النزال ريثما تقضي المرأة حاجتها .
و اعتمد وعظها و تذكيرها بالخرة ،و اذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح ،و قبح صورة الفعل ،
و لفت قلبها إلى ذكر الصالحين ،و ل تخل نفسك من الطيب و التزين و الكياسة و المداراة و النفاق
الواسع .
فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلمة .
شكا لي بعض الشياخ فقال :قد علت سني و ضعفت قوتي ،و نفسي تطلب مني شراء الجواري
الصغار .و معلوم أنهن يردن النكاح و ليس في .و ل تقنع مني النفس بربة البيت إذ قد كبرت .
فقلت له :عندي جوابان :أحدهما الجواب العامي ،و هو أن أقول :ينبغي أن تشغل بذكر الموت و ما
قد توجهت إليه ،و تحذر من اشتراه جارية ل تقدر على أيفاء حقها فإنها تبغضك ،فإن أجهدت استعجلت
التلف .وإن استبقيت قوتك غضبت هي ،على أنها ل تريد شيخا كيف كان .
و قد أنشدنا علي بن عبد ال ،قال :أنشدنا محمد التميمي :
مقالة محزون عليك شفيق أفق يا فؤادي من غرامك و استمع
بغيرك فاستوثقت غير و وثيق علقت فتاةً قلبها متعلق
فكم بين موثوق و بين طليق و أصبحت موثوقا و راحت طليقةً
فاعلم أنها تعد عليك اليام ،و تطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك .
و ربما قصدت حنفك ،فاحذر السلمة في الترك ،و لقتناع بما يدفع الزمان .
الجواب الثاني فإني أقول :ل يخلو أن تكون قادرا على الوطء في وقت أو ل تكون .
فإن كنت ل تقدر فالولى مصابرة الترك للكل .و إن كان يمكن الحازم أن يداري المرأة بالنفقة و طيب
الخلق إل أنه يخاطر .
و إن كنت تقدر في أوقات على ذلك ،و رأيت من نفسك توقا شديدا فعليك بالمراهقات فإنهن ما عرفن
النكاح ،و ما طلبن بالوطء ،و اغمرهن بالنفاق و حسن الخلق مع الحتياط عليهن ،و المنع من مخالطة
النسوة .
و إذا اتفق وطء فتصبر عن النزال ريثما تقضي المرأة حاجتها .
و اعتمد وعظها و تذكيرها بالخرة ،و اذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح ،و قبح صورة الفعل ،
و لفت قلبها إلى ذكر الصالحين ،و ل تخل نفسك من الطيب و التزين و الكياسة و المداراة و النفاق
الواسع .
فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلمة .
أبله الناس من عمل على الحال الحاضرة ،و لم يتصور تغيرها و ل وقوع ما يجوز وقوعه .
مثاله أن يغتر بدولة فيعمل بمقتضى ملكه فإذا تغيرت هلك .
و ربما عادى خلقا اغترارا بأنه متسلط أو إنه صاحب سلطان ،فإذا تغيرت حاله أكل كفه ندما عند فوات
التدارك .
و كذلك من له مال يبذره سكونا إلى وجود المال ،و ينسى حاله عند العدم .
و من يتناول الشهوات ،و يكثر من المآكل و المشارب و النكاح ثقة بعافيته ،و ينسى ما يعقب ذلك من
المراض و الفات .
و من أظرف الحوال أن يحب جاريته فيعتقها و يهب لها ،أو امرأة فيسكن إليها و يهب لها فتتمكن ،و
ل تمضي اليام حتى يسلوها أو يطلب غيرها و ل يجد طريقا للخلص .
فإن تخلص منها أخذت منها ما غنمت منه فلقي من الغيظ أضعاف ما يلتذ به .
فل ينبغي أن يوثق بإمرأة و ل بمحبة إنسان ،فإنه قد يحب إمرأة و يظن أنه ل يسلوها أبدا فيسترسل
إليها و السلو يحدث .
و ربما أحب غيرها فينسى الولى فيصعب عليه الخلص من الولى .
فالعاقل ل يدخل في شيء حتى يهيء الخروج منه ،فإن الشياء ل تثبت ،و المحبة ل تدوم ،و التغير
مقرون بكل حال .
و كذلك يعطي ماله ولده ثم يبقى كل عليه فيتمنى الولد هلكه ،و ربما عل به في النفقة .
و كذلك قد يثق بالصديق فيثبت أسراره إليه ،فربما أظهر ذلك فكان منها ما يوجب هلكه .
و كذلك يغتر النسان بالسلمة و ينسى طروق الموت فيأتيه بغتة فيبهته و قد فات الستدراك و لم يبق
إل الندم .
فالعاقل من كانت عينه مراقبة للعواقب ،محترزة مما يجوز وقوعه ،عاملة بالحتياط في كل حال ،
حافظة للمال و السر ،غير واثقة بزوجة و ل ولد و ل صديق ،متأهبة للرحيل ،متهيئة للنقلة .هذه صفة
أهل الحزم .
من أعجب المور طلب الطلع على تحقيق العرفان لذات ال عز وجل و صفاته و أفعاله ،و هيهات ،
ليس إل المعرفة بالجملة .
و لقد أوغل المتكلمون فما وقعوا بشيء ،فرجع عقلؤهم إلى التسليم .
و كذلك أصحاب الرأي ،مالوا إلى القياس ،فإذا أشياء كثيرة بعكس مرادهم ،فلم يجدوا ملجأ إل
التسليم ،فسموا ما خالفهم إستحسانا .
فالفقيه من علل بما يمكن ،فإذا عجز إستطرح للتسليم ،هذا شأن العبيد .
فأما من يقول :لم فعل كذا ،و ما معنى كذا ،فإنه يطلب الطلع على سر الملك ،و ما يجد إلى ذلك
سبيلً لوجهين :
أحدهما :أن ال تعالى ستر كثيرا من حكمه عن الخلق .
و الثاني :أن ليس في قوى البشر إذاراك حكم ال تعالى كلها ،فل يبقى مع المعترض سوى العتراض
المخرج إلى الكفر فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .
و المعنى من رضي بأفعالي و إل فليخنق نفسه فما أفعل إل ما أريد .
من رزقه ال تعالى العلم ،و النظر في سير السلف ،رأى أن هذا العلم ظلمة ،و جمهور العالم على
غير الجادة ،و المخالطة لهم تضر و ل تنفع .
فالعجب لمن يترخص في المخالطة ،و هو يعلم أن الطبع لص يسرق من المخالطة .
و إنما ينبغي أن تقع المخالطة للرفع و العلى في العلم و للعمل ليستفاد منه .
فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي ،إل أن يكون عاميا يقبل من معمله ،فينبغي ،أن يخالط بالحتراز .
و في هذا الزمان إن وقعت المخالطة للعوام فهم ظلمة مستحكمة ،فإذا ابتلى العالم بمخالطتهم فليشمر
ثياب الحذر ،و لتكن مجالسته إياهم للتذاكرة و التأديب فحسب .
و إن وقعت المخالطة للعلماء فأكثرهم على غير الجادة ،مقصودهم صورة العلم ل العمل به .فل تكاد
ترى من تذاكره أمر الخرة ،إنما شغلهم الغيبة ،و قصد الغلبة ،و إجتلب الدنيا .
ثم فيهم من الحسد للنظراء ما ل يوصف .و إن وقعت المخالطة للمراء ،فذاك تعرض لفساد الدين .
لنه إن تولى لهم ولية دنيوية فالظلم من ضروراتها ،لغلبة العادة عليهم و العراض عن الشرع .
و إن كانت ولية دينية كالقضاء ،فإنهم يأمرونه بأشياء ل يكاد يمكنه المراجعة فيها ،و لو راجع لم
يقبلوا .
و أكثر القوم يخاف على منصبه ،فيفعل ما أمر به و إن لم يجبر .
و ربما رأيت في هذا الزمان أقواما يبذلون المال ليكونوا قضاة ،أو شهودا و مقصودهم الرفعة .
ثم أكثر الشهود يشهد على من ل يعرفه ،و يقول إنه معروف و يدري أنه كذاب ،و إنما عرف لجل
حبة يعطاها .
و كم قد وقعت شهادة على غير المشهود عليه ،و على مكره .
و إن وقعت المخالطة للمتزهدين فأكثرهم على غير الجادة ،و على خلف العلم ،قد جعلوا لنفسهم
نواميس ،فل يتنسمون و ل يخرجون إلى سوق ،و يظهرون التخشع الزائد و كله نفاق .
و فيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه ،و ربما لوح بكمه ليرى .و قد حكي عن طاهر بن الحسين أنه
قال لبعض المتزهدين :مد كم قدمت العراق ؟ قال دخلتها منذ عشرين سنة ،و أنا منذ ثلثين سنة صائم .
إذا وقعت في محنة يصعب الخلص منها ،فليس لك إل الدعاء و اللجأ إلى ال بعد أن تقدم التوبة من
الذنوب .
فإن الزلل يوجب العقوبة فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب .
فإذا تبت و دعوت و لم تر للجابة أثرا فتفقد أمرك ،فربما كانت التوبة ما صحت فصححها ثم أدع و ل
تمل من الدعاء .
فربما كانت المصلحة في تأخير الجابة ،و ربما لم تكن المصلحة في الجابة فأنت تثاب و تجاب إلى
منافعك .و من منافعك أل تعطى ما طلبت بل تعوض غيره .
فإذا جاء إبليس فقال :كم تدعوه و ل ترى إجابة ؟ فقل :أنا أتعبد بالدعاء ،و أنا موقن أن الجواب
حاصل .
فقل :أنا أتعبد بالدعاء ،و أنا موقن أن الجواب حاصل .
غير أن ربما كان تأخيره لبعض المصالح على مناسب ،و لو لم يحصل حصل التعبد و الذل .
فإياك أن تسأل شيئا إل و تقرنه بسؤال الخير .
فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سببا للهلك .
و إذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا لجليسك ليبين لك في بعض الراء ما يعجز رأيك و ترى
أن ما و قع لك ل يصلح فكيف ل تسأل الخير ربك و هو أعلم بالمصالح ؟ و الستخارة من حسن المشاورة
.
من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة في صفاء بل كدر ،و لذات بل انقطاع ،و بلوغ كل مطلوب
للنفس ،و الزيادة مما ل عين رأت ـ و ل أذن سمعت ،و ل خطر على قلب بشر ،من غير تغيير و ل
زوال ،إذ ل يقال ألف ألف سنة ،و ل مائة ألف ألف ،بل و لو أن النسان عد ألوف ألوف السنين ل
ينقضي عدده و كان له نهاية ،و بقاء الخرة ل نفاد له .
إل أنه ل يحصل ذلك إل بنقد هذا العمر .
و ما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمسة عشر صبوة و جهل ،و ثلثون بعد السبعين ـ إن حصلت
ـ ضعف و عجز .
و التوسط نصفه نوم ،و بعضه زمان أكل و شرب و كسب ،و المنتحل منه للعبادات يسير .
أفل يشتري ذلك الدائم بهذا القليل ؟ إن العراض عن الشروع في هذا البيع و الشراء ،لغبن فاحش في
العقل ،و خلل داخل في اليمان بالوعد .
[ فإن من يدري كيف يعقد البيع بالعلم ] هو الذي يدل على الطريق و يعرف ما يصلح لها و يحذر من
فظاعتها .
و لقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات أعظمها إن صرفهم عن العلم .فكأنه شرع في إطفاء
المصباح ليسرق في الظلمة ،حتى إنه أخذ قوما من كبار العلماء فسلك بهم من ذلك ما ينهى عنه العلم .
فرأيت أبا أحمد الطوسي يحكي عن نفسه في بعض مصنفاته قال :شاورت متبوعا مقدما من الصوفية
في المواظبة على تلوة القرآن فمنعني منه ،و قال :السبيل أن تقطع علئقك من الدنيا بالكلية ،بحيث ل
يلتفت قلبك إلى أهل و ولد و مال و علم ،بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجود ذلك و عدمه .ثم تخلو
بنفسك في زاوية ،فتقتصر من العبادة على الفرائض و الرواتب ،و تجلس فارغ القلب ،و ل تزال تقول :
ال ال إلى أن تنتهي إلى حالة لو ترك تحريك اللسان رأيت كأن الكلمة جارية على لسانك ،ثم تنظر ما
يفتح عليك مما فتح مثله على النبياء و الولياء .
قلت :و هذا أمر ل أتعجب أنا فيه من الموصي به و إنما أتعجب من الذي قبله مع معرفته و فهمه .
و هل يقطع الطريق بالعراض عن تلوة القرآن ؟ و هل فتح للنبياء ما فتح بمجاهدتهم و رياضيتهم ؟
و هل يوثق بما يظهر من هذه المسالك ؟
ثم ما الذي يفتح ؟ أثم اطلع على علم الغيب أم هو وحي ؟
فهذا كله من تلعب إبليس بالقوم .
و ربما كان ما يتخايل لهم من أثر الماليخوليا أو من إبليس .
فعليك بالعلم .و انظر في سير السلف هل فعل أحد منهم من هذا شيئا ؟ أو أمر به ؟
إنما تشاغلوا بالقرآن و العلم فدلهم على إصلح البواطن و تصفيتها .
نسأل ال عز وجل علما نافعا ،للعدو مانعا ،إنه قادر .
من أراد اصطفاء محبوب ،المحبوب نوعان :امرأة يقصد منها حسن الصورة ،و صديق يقصد منه
حسن المعنى .
فإذا أعجبتك صورة إمرأة فتأمل خللها الباطنة مديدة قبل أن يتعلق القلب بها تعلقا محكما ،فإن رأيتها
كما تحب ـ و أصل ذلك كله الدين كما قال :عليك بذات الدين ـ فمل إليها و استولدها .
و كن في ميلك معتدلً ،فإنه من الغلط أن تظهر لمحبوبك المحبة ،فإنه يشتط عليك ،و تلقى منه الذى
من التجني و الهجران و الدلل و طلب النفاق الكثير ـ و إن كانت تحبك ـ لن هذا إنما يجتلبه حب
الدلل و التسلط على المقهور .
و ثم نكتة عجيبة ،و هو أنك ربما عملت بمقتضى الحال الحاضرة ،و هي تحكم بكمال الحب ،ثم إن
ذلك ل يثبت إليك فتقع و تبقى مقهورا ،و يصعب عليك الخلص .
و ربما تمكنت بمعرفة سرك أو بأخذ كثير من مالك .
و من أحسن ما بلغني في هذا أن جارية لبعض الخلفاء كانت تحبه حبا شديدا ،و ل تظهر له ذلك ،
فسئلت عن هذا ،فقالت :لو أظهرت ما عندي فجفاني هلكت ،قال الشاعر :
فترى بعينك منه كل عجيب ل تظهرن مودة لحبيب
أظهرت يوما للحبيب مودتي فأخذت من هجرانه بنصيبي
و هكذا ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد ،لنه يتسلط عليك ،و يضيع مالك ،و يبالغ في الدلل ،و
يمتنع عن التعلم و التأدب .
و كذلك إذا اصطفيت صديقا و خبرته ،فل تخبره بكل ما عندك ،بل تعاهده بالحسان كما تتعاهد
الشجرة ،فإنها إذا كانت جيدة الصل حسنت ثمرتها بالتعاهد ،ثم كن منه على حذر فقد تتغير الحوال ،و
قد قيل :
صديقك ألف مرة إحذر عدوك مرة و احذر
فلربما انقلب الصديق فكان أدرى بالمضرة
و أما إذا أبغضت شخصا لنه يسوؤك فل تظهرن ذلك ،فإنك تنبهه على أخذ الحذر منك ،و تدعوه إلى
المبارزة ،فيبالغ في حربك و الحتيال عليك ،بل ينبغي أن تظهر له الجميل إن قدرت ،و تبره ما استطعت
حتى تنكسر معاداته بالحياء من بغضك .فإن لم تطق فهجر الجميل ،ل تبين فيه ما يؤذي .
و متى سمعت عنه كلمة قذعة فاجعل جوابها كلمة جميلة .فهي أقوى في كف لسانه .
و كذلك جميع ما يخاف إظهاره ،فل تتكلمن به .فربما وقعت كلمة أسقطت بها عز السلطان ،فنقلت
إليه ،فكانت سبب هلكك .
أو عن صديق فكانت سبب عداوته ،أو صرت رهينا لمن سمعها خائفا أن يظهرها .
فالحزم كتمان الحب و البغض .
و كذا ينبغي أن تكتم سنك فإن كنت كبيرا استهرموك ،و إن كنت صغيرا استحقروك .
و كذلك مقدار مالك ،فأنه إن كان كثيرا نسبوك في نفقتك إلى البخل و إن كان قليلً طلبوا الراحة منك .
و كذلك المذهب ،فإنك إن أظهرته لم تأمن أن يسمعه مخالف فيقطع بكفرك .
و قد أنشدنا محمد بن عبد الباقي البزار :
سن و مال ،ما استطعت و مذهب احفظ لسانك ل تبح بثلثة
بمموه و مخرف و مكذب فعلى ثلثة تبتلى بثلثة
طال تعجبي من مؤمن بال عز وجل ،مؤمن بجزائه ،يؤثر خدمة السلطان مع ما يرى منه من الجور
الظاهر .
فوا عجبا ما الذي يعجبه ؟
إن كان الذي يعجبه دنيونا فليس ثم إل أن يصاح بين يديه بسم ال و أن يتصدر في المجالس و يلوي
عنقه كبرا على النظراء ،و يأخذ السحات و هو يعلم من أين حصل ،و ربما انبسط في البرطيل .
ثم يقابل هذا أن يصادر و يعزل ،فتستخرج منه تلك المرارة منه كل حلوة كانت في الولية .
و ربما كان قريب الحال فإفتقر بالمصادرة جدا ،ثم تنطلق اللسن المادحة بالذم .
ثم لو سلم من هذا فإنه ل يسلم من الرقيب لهو الحذر منه ،فهو كراكب البحر إن سلم بدنه من الغرق
لم يسلم من الخوف .
و إن كان دينا فإنه يعلم أنهم ل يمكنونه في الغالب من العمل بمقتضى الدين فإنهم يأمرونه بترك ما
يجب و فعل ما ل يجوز ،فيذهب دينه على البارد .
و لعقاب الخرة أشق .
العجب من الذي أنف الذل كيف ل يصبر على جلف الخبز ،و ل يتعرض لمنن النذال .
أتراه ما يعلم أنه ما بقي صاحب مروءة ! وأنه إن سأل سأل بخيلً ل يعطي ،فإن أعطى نزرا فإنه
يستعبد المعطي بذلك العمر .
ثم ذاك القدر النزر يذهب عاجلً ،و تبقى المنن و الخجل و رؤية النفس بعين الحتقار ،إذ صارت
سائلة ،و رؤية المعطي بعين التعظيم أبدا .
ثم يوجب ذلك السكوت عن معائب المعطى ،و البدار إلى قضاء حقوقه و خدمته في ما يفي .
و أعجب من هذا من يقدر أن يستعبد الحرار بقليل العطاء الفاني ،و ل يفعل ،فإن الحر ل يشترى إل
بالحسان .قال الشاعر :
فأنت و لو كان المير أميره تفضل على من شئت واعن بأمره
و لو كان سلطانا فأنت نظيره و كن ذا غنى عمن تشاء من الورى
على طمع منه فأنت أسيره و من كنت محتاجا إليه و واقفا
ينبغي للصبي إذا بلغ أن يحذر كثرة الجماع ليبقى جوهره فيفيده ذلك في الكبر .لنه مر الجائزة كبره .
و الستعداد للجائز حزم ،فكيف للغالب ؟ كما ينبغي أن يستعد للشتاء قبل هجومه .
و متى أنفق الحاصل وقت القدرة ،تأذى بالفقر إليه وقت الفاقة .
و ليعلم ذو الدين و الفهم أن المتعة إنما تكون بالقرب من الحبيب ،و القرب يحصل بالتقبيل و الضم ،
و ذلك يقوي المحبة ،و المحبة يلذ و جودها ،و اوطء ينقص المحبة و يعدم تلك اللذة .
و قد كان العرب يعشقون و ل يرون وطء المعشوق .قال قائلهم :إن نكح الحب فسد .فأما اللتذاذ
بنفس الوطء فشأن البهائم .
و لقد تأملت المراد من الوطء فوجدت فيه معنى عجيبا يخفى على كثير من الناس ،و هو أن النفس إذا
عشقت شخصا أحبت القرب منه ،فهي تؤثر الضم و المعانقة ،لنهما غاية في القرب .
ثم تريد قربا يزيد على هذا ،فيقبل الخد .ثم تطلب القرب من الروح ،فيقبل الفم ،لنه منفذ إلى الروح
.
ثم تطلب الزيادة فيمص لسان المحبوب ،و قد كان رسول ال صلى ال عليه و سلم يتوشح عائشة و
يقلبها يمص لسانها .
فإذا طلبت النفس زيادة في القرب إلى النفس ،استعملت الوطء .
فهذا سره المعنوي ،و يحصل منه اللتذاذ الحسي .
أشد الناس جهلً منهوم باللذات .و اللذات على ضربين :مباحة و محظورة فالمباحة ل يكاد يحصل
منها شيء إل بضياع ما هو مهم من الدين .فإذا حصلت منها محبة قارنها قنطار من الهم .ثم ل تكاد
تصفو في نفسها بل مكدراتها ألوف .
فإذا صور عدمها بعد انقضائها و بقاء هذه اللوف المكدرة صار التصوير مغلصما للهوى مجرئا للنفس
.
فإذا أنفت أنفت من السف على الدوام ما ل تحويه صفة ،فهي تغر الغمر و تهدم العمر ،و تديم السى
.
و مع هذا فالمنهوم كلما عب من لذة طلب أختها ،و قد عرف جناية الولى و خيانتها .
و هذا مرض العقل ،و داء الطبع ،فل يزال هذا كذلك ،إلى أن يختطف بالموت ،فيلقى على بساط ندم
ل يستدرك .
فالعجب ممن همته هكذا مع قصر العمر ،ثم ل يهتم بآخرته التي لذتها سليمة من شامت ،منزهة عن
معائب دائمة المد ،باقية ببقاء البد .
و إنما يحصل تقريب هذه بإبعاد تلك ،و عمران هذه بتخريب تلك .
فواعجبا لعاقل حصيف حسن التدبير فاته النظر في هذه الحوال ،و غفل عن التمييز بين هذين المرين
.
و إن كانت اللذة معصية إنضم إلى ما ذكرناه عار الدنيا ،و الفضيحة بين الخلق ،و عقوبة الحدود ،و
عقاب الخرة ،و غضب الحق سبحانه .
بال ،إن المباحات تشغل عن تحصيل الفضائل ،فذم ذلك لبيان الحزم .
فكيف بالمحرمات التي هي غاية الرذائل ؟
نسأل ال عز وجل يقظه تحركنا إلى منافعنا .و تزعجنا عن خوادعنا ،إنه قريب .
نظرت في قول رسول ال صلى ال عليه و سلم ،لما لبس الخاتم ثم رمى به و قال :شغلني نظري
ل جمته خسف به الرض ،فهو يتجلجل فيها
إليكم ،و نظري إليه و قوله :هذا رجل يتبختر في حلته مرج ً
إلى يوم القيامة .فرأيت أنه ل ينبغي لحد أن يلبس ثوبا معجبا و ل شيئا من زينة ،لن ذلك يوجب النظر
إلى النفس بعين العجاب ،و النفس ينبغي أن تكون ذليلة للخالق .
و قد كان قدماء أحبار في بني إسرائيل يمشون على العصي لئل يقع منهم بطر في المشي .
و لبست أم المؤمنين عائشة رضي ال عنها درعا لها فأعجبت به ،فقال لها رسول ال صلى ال عليه
و سلم :إن ال ل ينظر إليك في حالتك هذه .
و لما لبس رسول ال صلى ال عليه و سلم خميصة لها أعلم قال :ألهتني هذه عن صلتي و هذا كله
يوجب العراض عن الزينة و ما يحرك إلى الفخر و الزهو و العجب .
و لهذا حرم الحرير .
و أقول على أسباب هذا :إن المرقعات التي يتتوق فيها المتصوفة بالسوارك و التلميع ،ربما أوجبت
زهو اللبس إما لحسنها في ذاتها ،أو لعمله أنها تنبئ عنه بالتصوف و الزهد .
و كذلك الخاتم في اليد ،و طول الكمام و النعال الصرارة .
و ل أقول :إن هذه الشياء تحرم بل ربما جلبت ما يحرم من الزهو .فينبغي للعاقل أن يتنبه بما قلت
في دفع كل ما يحذر من شره .
و قد ركب ابن عمر نجيبا فأعجبه مشيه فنزل ،و قال يا نافع :أخله في البدن .
من أراد إجتماع همه و إصلح قلبه ،فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان ،فإنه قد كان يقع
الجتماع على ما ينفع ذكره ،فصار الجتماع على ما يضر .
و قد جربت على نفسي مرارا أن أحصرها في بيت العزلة ،فتجتمع هي ،و يضاف إلى ذلك النظر في
سير السلف ،فأرى العزلة ،حمية ،و النظر في سير القوم دواء ،و استعمال الدواء مع الحمية عن
التخليط نافع .
فإذا فسحت لنفسي في مجالسة الناس و لقائهم تشتت القلب المجتمع ،و وقع الذهول عما كنت أراعيه ،
و انتقش في القلب ما قد رأته العين ،و في الضمير ما تسمعه الذن ،و في النفس ما تطمع في تحصيله
من الدنيا .و إذا جمهور المخالطين أرباب غفلة ،و الطبع بمجالستهم يسرق من طباعهم .
فإذا عدت أطلب القلب لم أجده ،و أروم ذاك الحضور فأفقده ،فؤادي في غمار ذلك اللقاء للناس أياما
حتى يسلو الهوى .
و ما فائدة تعريض البناء للنقض ؟
فإن دوام العزلة كالبناء ،و النظر في سير السلف يرفع ،فإذا وقعت المخالطة إنتقض ما بني في مدة ،
في لحظة ،و صعب التلقي ،و ضعف القلب .
و من له فهم يعرف أمراض القلب ،و إعراضه عن صاحبه ،و خروج طائره من قفصه .
و ل يؤمن على هذا المريض أن يكون مرضه هذا سبب التلف ،و ل على هذا الطائر المحصور أن يقع
في الشبكة .
و سبب مرض القلب أنه كان محميا عن التخليط ،مغذوا بالعلم و سير السلف ،فخلط ،فلم يحتمل
مزاجه فوقع المرض .
فالجد الجد فإنما هي أيام و ما نرى من يلقى ،و ل من يؤخذ منه ،و ل من تنفع مجالسته ،إل أن
يكون نادرا ما أعرفه .
حديث نجد و ل خل نجاريه ما في الصحاب أخو وجد نطارحه
فالزم خلوقت ،و راع ـ ما بقيت النفس ـ و إذا قلقت النفس مشتاقة إلى لقاء الخلق فإعلم أنها بعد
كدرة ،فرضها ليصير لقاؤهم عندها مكروها .
و لو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت الزحمة ،كما أن الذي يخلو بحبيبه ل يؤثر حضور غيره .
و لو أنها عشقت طريق اليمن ،لم تلتفت إلى الشام .
تفكرت في سبب هداية من يهتدي ،و إنتباه من يتيقظ من رقاد من رقاد غفلته ،فوجدت السبب الكبر
كاختبار الحق عز وجل لذلك الشخص ،كما قيل :إذا أرادك لمر هيأك له .
فتار تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل ،فيتلمح النسان وجود نفسه ،فيعلم أن لها صانعا ،و قد
طالبه بحقه ،و شكر نعمته ،و خوفه عقاب مخالفته ،و ل يكون ذلك بسبب ظاهر .
و من هذا ما جرى لهل الكهف :إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات و الرض .
و في التفسير :أن كل واحد منهم ألقى في قلبه يقظة ،فقال :ل بد لهذا الخلق من خالق ،فاشتد كرب
بواطنهم من وقود نار الحذر ،فخرجوا إلى الصحراء ،فاجتمعوا عن غير موعد .
فكل واحد يسأل الخر :ما الذي أخرجك . . .؟ فتصادقوا .
و من الناس من يجعل الخالق سبحانه و تعالى لذلك السبب الذي هو الفكر و النظر سببا ظاهرا ،إما من
موعظة يسمعها أو يراها ،فيحرك هذا السبب الظاهر فكرة القلب الباطنة ،ثم ينقسم المتيقظون ،فمنهم
من يغلبه هواه و يقتضيه طبعه ،ما يشتهي مما قد إعتاده فيعود القهقرى ،و ل ينفعه ما حصل له من
النتباه ، ،فإنتباه مثل هذا زيادة في الحجة عليه .
و منهم من هو واقف في مقام المجاهدة بين صفين :العقل المر بالتقوى ،الهوى المتقاضى بالشهوات
.
فمنهم من يغلب بعد المجاهدات الطويلة فيعود إلى الشر و يختم له به .و منهم من يغلب تارة و يغلب
أخرى ،فجراحاته ل في مقتل .
و منهم من يقهر عدوه فيسجنه في حبس ،فل يبقى للعدو من الحيلة إل الوساوس .
و من الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا ،و مذ سلكوا ما وقفوا .فهمهم صعود و ترق .
كلما عبروا مقاما إلى مقام ،رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا .و منهم من يرقى عن الحتياج إلى
مجاهدة ،إما لخسة ما يدعو إليه الطبع عنده و ل وقع له .و إما لشرف مطلوبه فل يلتفت إلى عائق عنه
.
و اعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالقدام ،إنما يقطع بالقلوب .
و الشهوات العاجلة قطاع الطريق ،و السبيل كالليل المدلهم .
غير أن عين الموفق بصر فرس ،لنه يرى في الظلمة ،كما يرى في الضوء .
و الصدق في الطلب منار أين وجد يدل على الجادة ،و إنما يتعثر من لم يخلص .
و إنما يمتنع الخلص ممن ل يراد ،فل حول و ل قوة إل بال .
عجبت لمن يعجب بصورته و يختال في مشيته ،و ينسى مبدأ أمره .
إنما أوله لقمة ضمت إليها جرعة ماء فإن شئت فقل كسيرة خبز معها تمرات ،و قطعة من لحم ،و
مذقة من لبن ،و جرعة من ماء ،و نحو ذلك ،طبخته الكبد فأخرجت منه قطرات مني ،فإستقر في
النثيين فحركتها الشهوة ،فصبت في بطن الم مدة حتى تكاملت صورتها ،فخرجت طفلً تتقلب في خرق
البول .
و أما آخره فإنه يلقى في التراب ،فيأكله الدود ،و يصبر رفاتا تسقيه السواقي .
و كم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر ؟ و يقلب في أحوال إلى أن يعود فيجمع .
هذا خبر البدن .
إنما الروح عليها العمل ،فإن تجوهرت بالدب ،و تقومت بالعلم ،و عرفت الصانع ،و قامت بحقه ،
فما يضرها نقض المركب .
و إن هي بقيت على صفتها من الجهالة شابهت الطين ،بل صارت إلى أخس حالة منه .
هيهات أن يجتمع الهم مع التلبس بأمور الدنيا ،خصوصا الشاب الفقير الذي قد ألف الفقر .
فإنه إذا تزوج و ليس له شيء من الدنيا ،إهتم بالكسب ،أو بالطلب من الناس فتشتتت همته ،و جاءه
الولد فزاد المر عليه .و ل يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام .
و من يفكر فهمته ما يأكل و ما يأكله أهله ،ما ترضى به الزوجة من النفقة و الكسوة ،و ليس له ذلك
،فأي قلب يحضر له ؟ و أي هم يجتمع ؟ هيهات .
و ال ل يجتمع الهم و العين تنظر إلى الناس ،و السمع يسمع حديثهم ،و اللسان يخاطبهم ،و القلب
متوزع في تحصيل ما ل بد منه .
فإن قال قائل :فكيف أصنع ؟
قلت :إن وجدت ما يكفيك من الدنيا ،أو معيشة تكفك فاقنع بها ،و إنفرد في خلوة عن الخلق مهما
قدرت ،و إن تزوجت فبفقيرة تقنع باليسير ،و تصبر أنت على صورتها و فقرها ،و ل تترك نفسك تطمح
إلى من تحتاج إلى فضل نفقته .
فإن رزقت إمرأة صالحة جمعت همك فذاك ،و إن لم تقدر فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة .
و إياك و المستحسنات ،فإن صاحبهن إذا سلم كعابد صنم ،و إذا حصل بيدك شيء فأنفق بعض ،
فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك .
و إحذر كل الحذر من هذا الزمان و أهله فما بقي مواس و ل مؤثر ،و ل من يهتم لسد خلة ،و ل من
لو سئل أعطى ،إل أن يعطي نذرا بتضجر .
و منة يستعبد بها المعطى بقية العمر ،و يستثقله كلما رآه ،أو يستدعي بها خدمته له و التردد إليه .
و إنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يوما على المنبر
:علي ألف دينار ،و قد ضاق صدري .
فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار ،و قال إقض دينك .
فلما عاد و صعد المنبر ،قال :نشكر ال لبي عمرو ،فإنه أراح قلبي و قضى ديني .
فقام أبو عمرو فقال :أيها الشيخ ذلك المال كان لوالدتي و قد شق عليها ما فعلت ،فإن رأيت أن تتقدم
برده فإفعل .
فلما كان في الليل عاد إليه ،و قال له :لماذا شهرتني بين الناس ؟
فأنا ما فعلت لجل الخلق ،فخذه و ل تذكرني :
و النشر مسك و العظام رميم ماتوا و غيب في التراب شخوصهم
فالبعد البعد عن من همته الدنيا ،فإن زادهم اليوم إلى أن يحصل أقرب منه إلى أن يؤثر .
و ل تكاد ترى إل عدوا في الباطن ،صديقا في الظاهر ،شامتا على الضر ،حسودا على النعمة .
فاشتر العزلة بما بيعت ،فإن من له قلب إذا مشى في السواق و عاد إلى منزله تغير قلبه .
فكيف إن عرقله بالميل إلى أسباب الدنيا ،و اجتهد في جمع الهم بالبعد عن الخلق ليخلو القلب بالتفكر
في المآب ،و تتلمح عين البصيرة خيم الرحيل؟
كان المريد في بداية الزمان إذا أظلم قلبه أو مرض لبه قصد زيادة بعض الصالحين ،فانجلى ما أظلم .
و اليوم متى حصلت ذرة من الصدق لمريد فردته في بيت عزلة ،و وجد نسيما من روح العافية و نورا
في باطن قلبه ،و كاد همه يجتمع ،و شتاته ينتظم ،فخرج فلقى من يومئ إليه بعلم أو زهد رأى عند
البطالين يجري معهم في مسلك الهذيان الذي ل ينفع .
و رأى صورته صورة منمس و أهون ما عليه تضييع الوقات في الحديث الفارغ .فما يرجع المريد
عن ذلك الوطن إل و قد إكتسب ظلمة في القلب ،و شتاتا في العزم ،و غفلة عن ذكر الخرة ،فيعود
مريض القلب ،يتعب في معالجته أياما كثيرة حتى يعود إلى ما كان فيه .
ربما لم يعد ،لن المريد فيه ضعف .
فإنه إذا رأى شيخا قد جرب و عرف ثم يؤثر البطالة ،لم يأمن أن يتبعه الطبع .
فالولى للمريد اليوم أل يزور إل المقابر ،و ل يقاوض إل الكتب ،التي قد حوت محاسن القوم .
و ليستعن بال تعالى على التوفيق لمراضيه ،فإنه إن أراده هيأه لما يرضيه .
تأملت الذين يختارهم الحق عز وجل لوليته و القرب منه .فقد سمعنا أوصافهم و من نظنه منهم ،
ممن رأيناه .
فوجدته سبحانه ل يختار إل شخصا كامل الصورة ،ل عيب في صورته ،و ل نقص في خلقته .فتراه
حسن الوجه ،معتدل القامة ،سليما من آفة في بدنه .
ثم يكون كاملً في باطنه ،سخيا جوادا عاقل ،غير خب و ل خادع ،و ل حقود و ل حسود ،و ل فيه
عيب من عيوب الباطن .
فذاك الذي يربيه من صغره ،فتراه في الطفولة معتزلً عن الصبيان ،كأنه في الصبا شيخ ،ينبو عن
الرذائل ،و يفزع من النقائص ،ثم ل تزال شجرة همته تنمو حتى يرى ثمرها متهدلً على أغصان الشباب
،فهو حريص على العلم ،منكمش على العمل ،محافظ للزمان ،مراع للوقات ،ساع في طلب الفضائل
خائف من النقائص .
و لو رأيت التوفيق و اللهام الرباني يحوطه ،لرأيت كيفي أخذ بيده إن عثر ،و يمنعه من الخطأ إن هم
و يستخدمه في الفضائل ،و يستر عمله عنه حتى ل يراه منه .
ثم ينقسم هؤلء .فمنهم من تفقه على قدم الزهد و التعبد ،و منهم من تفقه على العلم إتباع السنة .
و يندر منهم من يجمع له الكل و يرقيه إلى مزاحمة الكاملين .
و علمة إثبات الكمال في العلم و العمل ،القبال بالكلية على معاملة الحق و محبته ،و استيعاب
الفضائل كلها ،و سناء الهمة في نشدان الكمال الممكن .
فلو تصورت النبوة أن تكسب لدخلت في كسبه .
و مراتب هذا ل يحتملها الوصف ،لكونه درة الوجود ،التي ل تكاد تنعقد في الصدف إل في كل ودود .
نسأل ال عز وجل توفيقا لمراضيه و قريبه ،و نعوذ به من طرده و إبعاده .
أكثر الخلئق على طبع ردىء ل تقومه الرياضة .ل يدرون لم خلقوا و ل ما المراد منهم .و غاية
همتهم حصول بغيتهم من أغراضهم .و ل يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم .
يبذلون العرض دون الغرض ،و يؤثرون لذة ساعة ،و إن اجتلبت زمان مرض .
يلبسون عند التجارات ثياب محتال ،في شعار مختال ،و يلبسون في المعاملت ،و يسترون الحال .
إن كسبوا فشبهة و إن أكلوا فشهوة .ينامون الليل و إن كانوا نياما بالنهار في المعنى ،و ل نوم بهذه
الصورة .
فإذا أصبحوا سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير ،و تبصبص كلب ،و افتراس أسد ،و غارة
ذئب ،و روغان ثعلب .
و يتأسفون عند الموت على فقد الهوى ،ل على عدم التقوى .ذلك مبلغهم من العلم .
كيف يفلح من يؤثر ما يراه بعينه على ما يبصره بعقله ،و ما يدركه ببصره أعز عنده مما يراه
ببصيرته .
تال لو فتحوا أسماعهم لسمعوا هاتف الرحيل في زمان القامة يصيح في عرصات الدنيا :تلمحوا
تقويض خيام الوائل .
لكن عمرهم سكر الجهالة ،فلم يفيقوا إل بضرب الحد .
رأيت بعض المتقدمين سئل عمن يكتسب حللً و حراما من السلطين و المراء ،ثم يبنى المساجد و
الربطة :هل له فيها ثواب ؟ فأقتى بما يوجب طيب قلب المنفق ،و أن له في أنفاق ما ل يملكه نوع
سمسرة ،لنه ل يعرف أعيان المغصوبين فيردها .
فقلت :واعجبا ! من المتصدين للفتوى الذين ل يعرفون أصول الشريعة .
ينبغي أن ينظر في حال المنفق أولً ،فإن كان سلطانا فما يخرج من بيت المال قد عرفت وجوه مصارفه
،فكيف يمنع مستحقه و يشغله بما ل يفيد من بناء مدرسة و رباط .
و إن كان المنفق من المراء و نواب السلطين ،فإنه يجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال ،و
ليس له فيه إل ما فرض من إيجاب يليق به .
فإن تصرف في غير ذلك كان مصروفا فيما ليس له ،و لو أذن له كان الذن جائزا .
و إن كان قد أقطع ما ًل يقاوم عمله ،كان ما يأخذه فاضلً من أموال المسلمين ل حق له فيه .و على
من أطلقه في ذلك إثم أيضا .
هذا و إذا كان حرما أو غصبا فكل تصرف فيه حرام ،و الواجب رده على من أخذ منه له على ورثتهم
.
فإن لم يعرف طريق الرد كان في بيت مال المسلمين ،يصرف في مصالحهم أو يصرف في الصدقة ،و
لم يحظ آخذه بغير الثم .
أنبأنا أحمد بن الحسن بن البنا قال :أخبرنا محمد بن علي الزجاجي ،قال :أخبرنا عبد ال بن محمد
السدي ،قال :أخبرنا علي بن الحسن ،قال :حدثنا أبو داوود ،قال :حدثنا محمد بن عون الطائي ،قال
:حدثنا أبو المغيرة ،قال :حدثنا الوزعي ،قال :حدثني موسى بن سليمان ،قال :سمعت القاسم بن
مخيمرة ،يقول :قال رسول ال صلى ال عليه و سلم :من اكتسب مالً من مأثم ،فوصل رحما ،أو
تصدق به ،أو أنفقه في سبيل ال ،جمع ذلك جميعا فقذف بهفي جهنم .
فأما إذا كان الباني تاجرا مكتسبا للحلل ،فبنى مسجدا أو وقف و قفا للمتفقهة ،فهذا مما يثاب عليه .
و يبعد من يكتسب الحلل حتى يفضل عنه هذا المقدار ،أو يخرج الزكاة مستقصاة ،ثم يطيب قلبه بمثل
هذا البناء و النفقة .
إذ مثل هذا البنيان ل يجوز أن يكون من زكاة .
و أين سلمة النية و خلوص المقصد .
و إن بناء المدارس اليوم مخاطرة ،إذ قد انعكف أكثر المتفقهة على علم الجدل ،و أرعضوا عن علوم
الشريعة ،و تركوا التردد إلى المساجد ،و قنعوا بالمدارس و اللقاب .
ل ،لن جمهور المتصوفة جلوس على بساط الجهل و الكسل ،ثم
و أما بناء الربطة فليس بشيء أص ً
يدعي مدعيهم المحبة و القرب ،و يكره التشاغل بالعلم ،و قد تركوه سيرة سري و عادات الجنيد ،و
اقتنعوا بأداء الفرائض ،و رضوا بالمرقعات .
فل تحسن إعانتهم على بطالتهم و راحتهم ،و ل ثواب في ذلك .
عجبت لمن يتصنع للناس بالزهد يرجو بذلك قربه من قلوبهم ،و ينسى أن قلوبهم بيد من يعمل له .
فإن رضي عمله و رآه خالصا لفت القلوب إليه ،و إن لم يره خالصا أعرض بها عنه .
و متى نظر العامل إلى إلتفات القلوب إليه فقد زاحم الشرك لنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له .
و من ضرورة الخلص أل يقصد إلتفات القلوب إليه ،فذاك يحصل ل بقصده بل بكراهته لذلك .
و ليعلم النسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة .و إن لم يطلعوا عليها .
فالقلوب تشهد للصالح بالصلح ،و إن لم يشاهد منه ذلك .
فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله فقد مضى العمل ضائعا ،لنه غير مقبول عند الخالق و ل عند
الخلق ،لن قلوبهم قد ألفتت عنه ،فقد ضاع العمل و ذهب العمر .
و لقد أخبرنا ابن الحصين ،قال :أخبرنا ابن المذهب ،قال :أخبرنا أحمد بن جعفر ،قال :حدثنا حسن
بن موسى ،قال :حدثنا ابن لهيعة ،قال :حدثنا دراج ،عن أبي الهثيم ،عن أبي سعيد الخدري عن
رسول ال صلى ال عليه و سلم أنه قال :لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب و ل كوة
لخرج الناس عمله كائنا ما كان
فليتق ال العبد ،و ليقصد من ينفعه قصده ،و ل يتشاغل بمدح من عن قليل يبتلي هو . . .و هم .
•فصل :سيرة السلف الصالح
قدم علينا بعض الفقهاء من بلد العاجم ،و كان قاضيا ببلده ،فرأيت على دابته الذهب و معه أنوار
الفضة و أشياء كثيرة من المحرمات .
فقلت :أي شيء أفاد هذا العلم ؟ بل و ال قد كثرت عليه الحجج .
و أكبر السباب قلة علم هؤلء بسيرة السلف و ما كان عليه رسول ال صلى ال عليه و سلم ،إنهم
يجهلون الجملة ،ويتشاغلون بعلم الخلف ،و يقصدون التقدم بقشور المعرفة و ليس يعنيهم سماع حديث
و ل نظر في سير السلف .
و يخالطون السلطين فيحتاجون إلى التزيي بزيهم ،و ربما خطر لهم أن هذا قريب ،و إن لم يخطر لهم
فالهوى غالب بل صاد .
و ربما خطر لهم أن :هذا يحتمل و يغفر ،في جانب تشاغلنا بالعلم .ثم يرون العلماء يكرمونهم لنيل
شيء من دنياهم ،و ل ينكرون عليهم .
و لقد رأيت من الذين ينتسبون إلى العلم من يستصحب المردان ،و يشتري المماليك ،و ما كان يفعل
هذا إل من قد يئس من الخرة .
و رأيت من قد بلغ الثمانين من العلماء ،و هو على هذه الحالة .
فال ال من يريد حفظ دينه و يوقن بالخرة ،إياك و التأويلت الفاسدة ،الهواء الغالبة ،فإنك أن
ترخصت بالدخول في بعضها جرك المر إلى الباقي ،و لم تقدر على الخروج لموضع إلف الهوى .
فإقبل نصحي ،و اقنع بالكسرة ،و ابعد عن أرباب الدنيا ،فإذا
ضج الهوى فدعه لهذا .
وربما قال لك :فالمر الفلني قريب ،فل تفعل ،فإنه لو كان قريبا يدعو إلى غيره و يصعب التلفي .
فالصبر الصبر على شظف العيس ،و البعد عن أرباب الهوى ،فما يتمدين إل بذلك .
و متى وقع الترخص حمل إلى غيره ،كالشاطئ إلى اللجة .و إنما هو طعام دون طعام و لباس دون
لباس ،و وجه أصبح من وجه ،و إنما هي أيام يسيرة .
من تفكر في عظمة ال عز وجل ،طاش عقله ،لنه يحتاج أن يثبت موجودا
ل أول لوجوده .هذا شيء ل يعرفه والحس ،و إنما يقربه العقل ضرورة .
و هو متحير بعد القرار ،ثم يرى من أفعاله ما يدل على و جوده ثم تجري في أقداره أمور لول ثبوت
الدليل على وجوده لوجبت الجحد .
فإنه يفرق البحر لبني إسرائيل ،و ذلك شيء ل يقدر عليه سوى الخالق ،و يصير العصا حية ثم يعيدها
تلقف ما صنعوا ول يزيد فيها شيء .
فهل بعد هذا بيان ؟
فإذا آمنت السحرة تركهم مع فرعون يصلبهم و ل يمنع ،و النبياء يبتلون بالجوع و القتل ،و زكريا
ينشر ،و يحيى تقتله زانية ،و نبينا صلى ال عليه و سلم يقول كل عام :من يؤويني ؟ من ينصرني ؟
فيكاد الجاهل بوجود الخالق يقول :لو كان موجودا لنصر أولياءه .
فينبغي للعاقل الذي قد ثبت عنده وجوده بالدلة الظاهرة الجلية أل يمكن عقله من العتراض عليه في
أفعاله ،ل يطلب لها علة .
إذ قد ثبت أنه مالك و حكيم ،فإذا خفي علينا وجه الحكمة في فعله ،نسبنا ذلك العجز إلى فهومنا .
و كيف ل وقد عجز موسى عليه السلم أن يعرف حكمة خرق السفينة ،و قتل الغلم ،فلما بان له
حكمة ذلك الفساد في الظاهرة أقر .
فلو قد بانت الحكمة في أفعال الخالق جحد العقل جحد موسى يوم الخضر .
فمتى رأيت العقل يقول لم فأخرسه بأن تقول له :يا عاجز أنت ل تعرف حقيقة نفسك ،فما لك و
العتراض على المالك ؟
و ربما قال العقل :أي فائدة في البتلء و هو قادر أن يثيب و ل بلء ؟
و أي غرض في تعذيب أهل النار و ليس ثم تشف ؟
قل له حكمته فوق مرتبتك ،فسلم لما ل تعلم ،فإن أول من إعترض بعقله إبليس ،رأى فضل النار على
الطين فأعرض عن السجود .
و قد رأينا خلقا كثيرا و سمعنا عنهم أنهم يقدحون في الحكمة لنهم يحكمون العقول على مقتضاها ،و
ينسون أن حكمة لخالق وراء العقول .
فإياك أن تفسح لعقلك في تعليل ،أو أن تطلب له جواب إعتراض ،و قل له :سلم تسلم ،فإنك ل تدري
غور البحر إل و قد أدركك الغرق قبل ذلك .
هذا أصل عظيم ،متى فات الدمي أخرجه العتراض إلى الكفر .
العجب ممن يقول :أخرج إلى المقابر فاعتبر بأهل البلى .و لو فطن علم أنه مقبرة يغنيه العتبار بما
فيها عن غيرها .
خصوصا من قد أوغل في السن ،فإن شهوته ضعفت ،و قواه قلت ،و الحواس كلت ،و النشاط فتر و
لشعر إبيض .
فليعتبر بما فقد ،و ليستغن عن ذكر من فقد فقد إستغنى بما عنده التطلع إلى غيره .
إذ دعى الطبيعيون أن مادة الموجودات الماء و التراب و النار و الهواء ،فإذا كان في القيامة أذهب
الصول ،ثم أعاد ال الحيوان ليعلم أنها كانت بالقدرة ل عن تأثير الكليات .
أقول :من قدح في البعث فقد بالغ في القدح في الحكمة .
و من قال :الروح عرض ،فقد جحد البعث ،لن العرض ل يبقى و الجساد تصير ترابا ،فإن وجد
شيء ،فهو ابتداء خلق .
كل و ال بل يعيد النفس بعينها روحا و جسدا بدليل إعادة مذكوراتها قال قائل منهم إني كان لي قرين .
سبحان من ظهر لخلقه لم يبق خفاء ،ثم خفى حتى كأنه ل ظهور .
أي ظهور أجلى من هذه المصنوعات التي تنطق كلها بأن لي صانعا صنعني و رتبني على قانون الحكمة
.
خصوصا هذا الدمي الذي أنشأه من قطرة ،و بناه على أعجب فطرة ،و رزفه الفهم و الذهن و اليقظة
و العلم ،و بسط له المهاد ،و أجرى له الماء و الريح ،و أنبت له الزرع ،و رفع له من فوقه السماء ،
فأوقد له مصباح الشمس بالنهار ،و جاء بالظلمة ليسكن ،إلى غير ذلك ،مما ل يخفى .
و كله ينطق بصوت فصيح يدل على خالقه .و قد تجلى الخالق سبحانه بهذه الفعال ،فل خفاء .
ثم بعث الرسل فقراء من الدنيا ،صعاف البدان ،فقهر بهم الجبابرة ،و أظهر على أيديهم من
المعجزات ما ل يدخل تحت مقدور بشر ،و كل ذلك ينطق بالحق ،و قد تجلى سبحانه بذلك .
ثم يأتي موسى عليه السلم إلى البحر فينفرق ،فل يبقى شك في أن الخالق فعل هذا .
و يكلم عيسى عليه السلم ،الميت ،فيقوم .و يبعث طيرا أبابيل تحفظ بيته ،فيهلك قاصديه .
و هذا أمر يطول ذكره .كله يدل على تجلي الخالق سبحانه بغير خفاء .
فإذا ثبت عند العقلء ذلك من غير ارتياب و ل شك ،ثم جاءت أشياء كأنها تستر الظاهر ،مثل ما سبق
من تسليط العداء على الولياء .
إذا ثبت التجلي بأدلة ل تحتمل التأويل ،علمت أن لهذا الخلفاء سرا ل نعلمه ،يفترض على العقل فيه
التسليم للحكيم .
فمن سلم سلم ،و من إعترض هلك .
قد يدعي أهل كل مذهب الجتهاد في طلب الصواب أكثرهم ل يقصد إل الحق ،فترى الراهب يتعبد و
يتجوع ،و اليهودي يذل و يؤدي الجزية .
و صاحب كل مذهب يبالغ فيه و يتحمل الضيم و الذى للهدى و تحصيل الجر ـ في إعتقاده ـ و مع
هذا فيقطع بضلل الكثرين .
و هذا قد يشكل .و إنما كشفه أنه ينبغي أن يطلب الهدى بأسبابه ،و يستعمل الجتهاد بالبانة .
فأما من فاتته السباب ،أو فقد بعض اللت ،فل يقال له مجتهد .
فاليهود و النصارى بين عالم قد عرف صدق كنبينا صلى ال عليه و سلم لكنه يجحد إبقاء لرئاسته فهذا
معاند ،و بين مقلد ل ينظر بعقله فهذا مهمل ،فهو يتعبد مع إهمال الصل ،و ذاك ل ينفع ،و بين ناظر
منهم ل ينظر حق النظر ،فيقول :في التوراة إن ديننا ل ينسخ .و نسخ الشرائع لختلف الزمنة حق ،
و لكنه يقول النسخ بداء و ل ينظر في الفرق بينهما ،فينبغي أن ينظر حق النظر .
و من هذا الجنس تعبد الخوارج مع إقناعهم بعلمهم القاصر ،و هو قولهم :ل حكم إل ل ،و لم
يفهموا أن التحكيم من حكم ال فجعلوا قتال علي رضي ال عنه و قتله مبنيا على ظنهم الفاسد .
و لما نهب مسلم بن عقبة المدينة و قتل الخلق قال :إن دخلت النار بعد هذا إنني لشقي .
فظن بجهله أنهم لما خالفوا بيعة يزيد يجوز استباحتهم و قتلهم .
فالويل لعامي قليل العلم ل يتهم نفسه في واقعة و ل يذاكر من هو أعلم منه ،بل يقطع بظنه و يقدم .
و هذا أصل ينبغي تأمله ،فقد هلك في إهماله خلق ل تحصى .و قد رأينا خلقا من العوام إذا وقع لهم
واقعة لم يقبلوا فتوى وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية .
للنفس ذخائر في البدن ،منها الدم و المني و أشياء تتقوى بها .فإذا فقدت الذخائر و لم يبق منها
شيء ذهبت .
و من ذخائرها بالمال و الجاه و ما يوجب الفرح .فإذا فقدت ذلك و كانت عزيزة ذات أنفة حرجت .
و قد يهجم عليها الخوف فل تجد ذخيرة من الرجاء يقاومه فتذهب .
و يغلب عليها الفرح فل تجد من الحزن ما يقاومه فتذهب .
فاجتهد كفي حفظ ذخائرها و خصوصا الشيخ ،فإنه ينبغي له أل يفرح بإخراج الدم ،و ل بإخراج المني
و إن وجد شبقا ،إل أن يكون الشبق زائدا في الحد فيخرج المؤذي في كل حين .
و علمة أن يكون مؤذيا وجود الرحة عند خروجه ،فمتى وجد ضعفا فقد آذى خروجه .
و ليحفظ ذو النفة على نفسه حشمته ،بأل يقف في موقف يعاب به ،فإنه يتمتع بذخيرة العز و النفة
و يضاد النفس ضد ذلك .
و كذلك ينبغي أن يستعد لخر عمره بالمال مخافة أن يحتاج فيذل أو يسعى و قد كلت اللة .
و لن يخلف لعدوه ،أولى من أن يحتاج إلى صديقه .
و ل يلتفت إلى من يذم المال ،فإنهم الحمقى الجهال ،الذين اتكلوا على خبز الراحة فاستطابوا الكسل و
الدعة ،و لم يأنفوا من تناول الصدقة ،و ل من التعرض للسؤال .
و قد كان لكل نبي معاش ،و لجميع الصحابة ،و خلفوا أموالً كثيرة .
فافهم هذا الصل ،و ل تلتفت إلى كلم الجهال .
رأيت في زهاد زماننا من الكبر و حفظ الناموس ،و رتبة الجاه في قلوب العامة ،ما كدت أقطع به أنهم
أهل رياء و نفاق .
فترى أحدهم يلبس الثوب الذي يرى بعين الزهد ،و يأكل أطايب الطعام ،و يتكبر على أبناء الجنس ،و
يصادق الغنياء ،و يباعد الفقراء ،و يحب الخطاب بمولنا ،و المشي بحاجيه ،و يضيع الزمان في
الهذيان ،و يتفاوت بخدمة الناس له و التسليم عليه .
و لو أنه لبس ثوبا يخلطه بالفقهاء لذهب الجاه و لم يبق له متعلق .و لو أن أفعاله ناسبت ثيابه لهان
المر ،لكنهم بهرجوا على من ل يخفى أمرهم عليه من الخلق ،فكيف الخالق سبحانه و تعالى ؟
•فصل :التشاغل بالمعاش
كثيرا ما أعيد هذا المعنى الذي أنا ذاكره في هذا الكتاب بعبارات.
ينبغي للمؤمن أن يتشاغل بمعاشه و يرفق في نفقته .
فإنه قد كان للعلماء ،شيء من بيت المال و رفق من الخوان ،و معونة من العوام .فانقطع الكل ،و
بقي المتشاغل بالعلم أو التعبد مسكينا ،خصوصا ذو العائلة .
و ما رأينا مثل هذا الزمان القبيح .فما بقي من يومىء إليه بمعونة و ل باستقراض فيحتاج النسان
المؤمن أن يدخل في مداخل ل تليق به ،و آن يتعرض بما ل يصلح .
فينبغي تقليل العائلة ،و تقويت القوت ،و ترقيع الخلق .
و إن أمكن معاش فهو أولى من التشاغل بالتعبد و التعلم لفضول العلم ،و إل ضاع الدين في مداخل ل
تصلح ،أو التعريض لبذل نذل .
ينبغي للعاقل أن يحرز غاية ما يمكنه ،فإذا جرى القدر مع احترازه لم يلم .
و الحتراز ينبغي من كل شيء يمكن و وقوعه ،و أخذ العدة لذلك واجب ،وهذا يكون في كل حال ،
فقد قص رجل ظفره فجار عليه فخبثت يده فمات .
و مر شيخنا أحمد الحربي هو راكب بمكان ضيق فتطأطأ على السرج فإنعصر فؤاده ،فمرض فمات .
و كان يحي بن نزار شيخا يحضر مجلسي قد طرق عليه ثقل الذن ،فاستدعى طرقيا فمص أذنه فجرى
شيء من مخه فمات .
و أنظر إلى إحتراز رسول ال صلى ال عليه و سلم حين مر على حائط مائل فأسرع .
و ينبغي أن يحترز بالكسب في زمن شبابه إدخارا لزمن شيبه .
و ل ينبغي أن يثق بمعامل إل بوثيقة .يبادر بالوصية مخافة أن يطرقه الموت ،و يحتزر من صديقه
ل عن عدوه .
فض ً
و ل يثق بمودة من قد آذاه هو فإن الحقد في القلوب قلما يزول .
و ليحترز من زوجته ،فربما أطلعها على سره ،ثم طلقها فيتأذى بما تفعل به .
و قد كان ابن أفلح الشاعر يكاتب رئيسا في زمن المسترشد فعلم بذلك بوابه ،و أتفق أنه صرف بوابه
فنم عليه و نقضت داره .
فهذه المذكرات أمثلة تنبه على ما لم يذكر .
و أهم الكل أن يحترز بأخذ العدة ،و تحقيق التوبة ،قبل أن يهجم عليه ما ل يؤمن هجومه .
و ليحذر من لص الكسل ،فإنه محتال على سرقة الزمان .
تأملت خصومات الملوك ،و حرص التجار ،و نفاق المتوهدين ،فوجدت جمهور ذلك على لذات الحس
.
و إذا تفكر العاقل في ذلك علم أن أمر الحسيات قريب يندفع بأقل شيء ،و أن الغاية منه ل يمكن نيلها
.
و إن بالغ عاد بالذى على نفسه أضعاف ما ناله من اللذة ،كمن يأكل كثيرا أو
ينكح كثيرا .
فالسعيد من إهتم لحفظ دينه ،و أخذ من ذلك بمقدار الحاجة .
واعجبا ،هذا الملبوس إذا كان وسطا خدم ،و إذا كان مرتفعا خدم .
فإن نظر اللبس إليه معجبا به ،فإن ال ل ينظر إليه حينئذ .
و في الصحيح :بينا رجل يتبختر في بردته خسف به .
و المشروب إن كان حراما ،فعقابه أضعاف لذته .
و هتكه العرض بين الناس عقاب آخر .
و إن كان مباحا ،فالشره فيه يؤذي البدن .
و أما المنكوح فمداراة المستحسن يؤذي كل أذى .
و مقاساة المستقبح أشد أذى .فعليك بالتوسط .
و تفكر في أحوال السلطين كم قتلوا ظلما ،و كم ارتكبوا حراما ؟ و ما نالوا إل يسيرا من لذات الحس
.
فإنقشع غيم العمر عن حسرات الفضائل و حصول العقاب .
فليس في الدنيا أطيب عيشا من منفرد عن العالم بالعلم ،فهو أنيسه و جليسه قد قنع بما سلم به دينه
من المباحات الحاصلة ،ل عن تكلف و ل تضييع دين ،و ارتدى بالعز عن الذل للدنيا و أهلها ،و التحف
بالقناعة بالسير ،إذ لم يقدر على الكثير ،فوجدته يسلم دينه و دنياه .
و إشتغاله بالعلم يدله على الفضائل ،و يفرحه في البساتين ،فهو يسلم من الشيطان و السلطان و
العوام بالعزلة .
و لكن ل يصلح هذا إل للعالم ،فإنه إذا إعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط .
ما إعتمد أحد أمرا إذا هم بشيء مثل التثبت ،فإنه متى عمل بواقعه من غير تأمل للعواقب كان الغالب
عليه الندم .
و لهذا أمر بالمشاورة لن النسان بالتثبت يفتكر فتعرض على نفسه الحوال و كأنه شاور .
و قد قيل :خمير الرأي خير من فطيره .
و أشد الناس تفريطا من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت و ل استشارة .
خصوصا فيما يوجبه الغضب ،فإنه طلب الهلك أو الندم العظيم .
و كم من غضب فقتل و ضرب ،ثم لما سكن غضبه بقي طول دهره في الحزن و البكاء و الندم .
و الغالب في القاتل أنه يقتل فتفوته الدنيا و الخرة .فكذلك من عرضت له شهوة فاستعجل لديها و
نسي عاقبتها .
فكم من ندم يتجرعه في باقي عمره ،وعتاب يستقبله من بعد موته ،و عقاب ل يؤمن وقوعه .
كل ذلك للذة لحظة كانت كبرق .
فال ال ،التثبت التثبت في كل المور ،و النظر في عواقبها .
خصوصا الغضب المثير للخصومة و تعجيل الطلق .
سألني سائل ،قد قال بعض الحكماء :من لم يحترز بعقله هلك بعقله فما معنى هذا ؟ فبقيت مدة ل
ينكشف لي المعنى ،ثم إتضح .
و ذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل فزع إلى الحس فوقع التشبيه .
فالحتراز من العقل بالعقل هو أن ينظر ،فيعلم أنه ل يجوز أن يكون جسما ،و ل شبها لشيء .
و إذا نظر العاقل إلى أفعال الباري سبحانه ،رأى أشياء ل يقتضيها العقل مثل اللم ،و الذبح للحيوان
و تسليط العداء على الولياء ،مع القدرة على المنع ،و البتلء بالمجاعة للصالحين ،و المعاقبة على
الذنب بعد البعد بزلة ،و أشياء كثيرة من هذا الجنس يعرضها العقل على العادات في تدبيره ،فيرى أنه ل
حكمة تظهر له فيها .
أن يقال له :أليس قد ثبت عندي أنه مالك و أنه حكيم و أنه ل يفعل فيقول :بلى .
فيقال :فنحن نحترز من تدبيرك الثاني بما ثبت عندك في الول .
فلم يبق إل أنه خفي عليك وجه الحكمة في فعله .
فيجب التسليم له ،لعلمنا أنه حكيم .
حينئذ يذعن و يقول :قد سلمت .
و كثير من الخلق نظروا لمقتضى واقع العقل الول ،فاعترضوا .
حتى إن العامي يقول :كيف قصى على سوء عاقبتي ؟ و لم ضيق رزقي ؟
و ما وجه الحكمة في إبتلئي بفنون البلء ؟
و لو أنه تلمح أنه مالك حكيم ،لم يبق إل التسليم لما خفي .
و لقد أنس ببديهة العقل خلق من الكابر أولهم إبليس ،فإنه رأى تفضيل النار على الطين ،فاعترض .
و رأينا خلقا ممن نسب إلى العلم قد زلوا في هذا و إعترضوا ،و رأوا أن كثيرا من الفعال ل حكمة
تحتها .
و السبب ما ذكرنا ،و هو النس بنظر العقل في البديهة و العادات ،و القياس على أفعال المخلوقين .
و لو استخرجوا علم العقل الباطن ،و هو أنه قد ثبت الكمال للخالق ،و انتفت عنه النقائض ،و علم
انه حكيم ل يعبث ،لبقي التسليم لما ل يعقل .
و اعتبر هذا بحال الخضر و موسى عليهما السلم ،لما فعل الخضر أشياء تخرج عن العادات ،أنكر
موسى و نسي إعلمه له بأني أنظر فيما ل تعلمه من العواقب .
فإذا خفيت مصلحة العواقب على موسى عليه السلم مع مخلوق ،فأولى أن يخفى علينا كثير من حكمة
الحكيم .
و هذا أصل إن لم يثبت عند النسان أخرجه إلى العتراض و الكفر ،و إن ثبت إستراح عند نزول كل
آفة .
ل سأله فقال :أنا الذي أحسنت إلي يوم كذا و كذا ،فقال :مرحبا بمن
بلغني عن بعض الكرماء أن رج ً
يتوسل إلينا بنا ،ثم قضى حاجته .
فأخذت من ذلك إشارة ،فناجيت بها فقلت :أنت الذي هديته من زمن الطفولة ،و حفظته من الضلل ،
و عصمته عن كثير من الذنوب و ألهمته طلب العلم ل بفهم لشرفه ،لموضع الصغر ،و ل بحب والده ،و
رزقته فهما لتفقهه و تصنيفه ،و هيأت له أسباب جمعه ،و قمت برزقه من غير تعب منه ،و ل ذل
للخلق بالسؤال ،و حاميت عنه العداء ،فلم يقصده جبار ،و جمعت له ما لم تجمع لكثر الخلق من فنون
العلم ،التي ل تكاد تجتمع في شخص ،و أضفت إليها تعلق القلب .بمعرفتك و محبتك ،وحسن العبارة و
لطفها في الدللة عليك ،و وضعت له في القلوب القبول حتى أن الخلق يقبلون عليه و يقبلون ما يقوله ،
و ل يشكون فيه ،و يشتاقون إلى كلمه ،و ل يدركهم الملل منه ،و صنته بالعزلة عن مخاطبة من ل
يصلح ،و آنسته في خلوته بالعلم تارة ،و بمناجاتك أخرى .و إن ذهبت أعد لم أقدر على إحصاء عشير
العشير و إن تعدوا نعمة ال ل تحصوها .
فيا محسنا إلي قبل أن أطلب .ل تخيب أملي فيك و أنا أطلب .
فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك .
سبحان من جعل الخلق بين طرفي نقيض ،و المتوسط منهم يندر .
منهم من يغضب فيقتل و يضرب .
و منهم من هو أبله بقوة الحلم ل يؤثر عنده السب .
و منهم شره يتناول كل ما يشتهي .
و منهم متزهد يتجفف فيمنع النفس حقها .
و كذلك سائر الشياء المحمود منها المتوسط .
فالمنفق كل ما يجد مبذر ،و البخيل يخبىء المال ،و يمنع نفسه حظها .
و معلوم أن المال ل يراد لنفسه ،بل للمصالح ،فإذا بذر النسان فيه إحتاج إلى بذل و جهه و دينه ،و
منه البخلء عليه ،و هذا ل يصلح .
و لن يخلف النسان لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه .
و من الناس من يبخل ،ثم يتفاوتون في البخل حتى ينتهي البلء بهم إلى عشق عين المال .
فربما مات أحدهم هزالً و هو ل ينفقه ،فيأخذه الغير و يندم المخلف .
و لقد بلغني في هذا ما ليس فوقه مزيد ،ذكرته لتعتبر به .
فحدثني شيخنا أبو الفضل بن ناصر ،عن شيخه عبد المحسن الصوري ،قال [ :كان بصور تاجر في
غرفة له يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين و جوزة ،فيدخل إلى غرفته و قت المغرب ،فيضرم النار في
الجوزة فتضيء بمقدار ما ينزل ثوبه .
و في زمان إحراق القشر تكون قد استوت فيمسح بها الرغيفين و يأكلهما .
فبقي على هذا مدة فمات ،فأخذ منه ملك صور ثلثين ألفا ] .
ل من كبار العلماء قد مرض ،فاستلقى عند بعض أصدقائه ،ليس له من يخدمه ،و ل
و رأيت أن رج ً
يرافقه ،و هو مضر فلما مات و جدوا بين كتبه خمسمائة دينار .
و حدثني أبو الحسن الراندسي ،قال [ :مرض رجل عندنا ،فبعث إلي فحضرت ،فقال :قد :ختم
القاضي على مالي ،فقلت :إن شئت قمت و فتحت الختم و أعطيتك الثلث تفرقة و تعمل به ما تشاء .
فقال :ل و ال ما أريد أن أفرقه ،بل أريد مالي أن يكون عندي .فقلت :ما يعطونك بلى أنا آخذ لك
الثلث كي تكون حرا فيه .
فقال :ل أريد ،فمات و أخذ ماله ] .
قال [ :وجاء رجل فحدثني بعجيبة ،قال :مرضت حماتي ،فقالت لي :أريد أن تشتري لي خبيصا ،
فإشتريت لها ،و كانت ملقاة في صفة ،و نحن في صفة أخرى .
فجاءني ولدي الصغير و قال :يا سيدي ،إنها تبلع الذهب ،فقمت .و إذا بها تجعل الدينار في شيء
من الخبيص فتبلعه .
فأمسكت يدها و زجرتها عن هذا .
فقالت :أنا أخاف أن تتزوج على إبنتي ،فقلت :ما أفعل ،فقالت إحلف لي ،فحلفت ،فأعطتني باقي
الذهب ،ثم ماتت فدفنتها .
فلما كان بعد أشهر ،مات لنا طفل ،فحملناه إليها ،و أخذت معي خرقة خام ،و قلت للحفار :إجمع لي
عظام تلك العجوز في الخرقة ،فجئت بها إلى البيت و تركتها ،في أجانة ،و صببت عليها الماء و حركتها
،فأخرت ثمانين دينارا أو نحوها كانت قد إبتلعتها ] .
و حكى لي صديق لنا ،أن رجلً مات و دفن في الدار ،ثم نبش بعد مدة ليخرج فوجد تحت رأسه لبنة
مقيرة .
فسأل أهله عنها فقالوا :هو قير هذه اللبنة و أوصى أن تترك تحت رأسه في قبره و قال :إن اللبن
يبلى سريعا ،و هذه لموضع القار ل تبلى .
فأخذوها فوجدوها رزينة ،فكسروها فوجدوا فيها تسعمائة دينار فتولها أصحاب التركات .
ل كان يكنس المساجد ،و يجمع ترابها ،ثم ضربه لبنا ،فقيل له هذا لي شيء ؟ فقال
و بلغني أن رج ً
:هذا تراب مبارك ،و أريد أن يجعلوه على لحدي ،فلما مات جعل على لحده ،ففضل منه لبنات ،فرموها
في البيت ،فجاء المطر فتفسخت اللبنات فإذا فيها دنانير .
فمضوا وكشفوا اللبن عن لحده و كله مملوء دنانير .
و لقد مات بعض أصدقائنا و كنت أعلم أن له ما ًل كثيرا ،و طال مرضه فما أطلع أهله علىشيء و ل
أكاد أشك أنه من شحه و حرصه على الحياة ،و رجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه ،خوفا أن يؤخذ فيحيا
هو ،و قد أخذ المال .
و ما يكون بعد هذا الخزي شيء .
و حدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا الفن .قال [ :كان فلن له و لدان ذكران و بنت و
له ألف دينار مدفونة .
فمرض مرضا شديدا فاحتوشته أهله ،فقال لحد ابنيه :ل تبرح من عندي .
فلما خل به قال له :إن أخاك مشغول باللعب بالطيور ،و إن أختك لها زوج تركي و متى وصل من
مالي إليهما شيء أنفقوه في اللعب و أنت على سيتي و أخلقي ،ولي في الموضع الفلني ألف دينار ،
فإذا أنا مت فخذها وحدك .فاشتد بالرجل المرض فمضى الولد فأخذ المال فعوفي الب ،فجعل يسأل الولد
أن يرد المال إليه فل يفعل ،فمرض الولد فجعل الب يتضرع إليه و يقول :ويحك خصصتك بالمال
دونهم ،فتموت فيذهب المال ،و يحك ل تفعل ،فما زال به حتى أخبره بمكانه ،فأخذه ثم عوفي الولد ،و
مضت مدة فمرض الب ،فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال ،و بالغ فلم يخبره ،و مات و ضاع المال .
فسبحان من أعدم هؤلء العقول و الفهوم ،إن هم إل كالنعام بل هم أضلوا سبيل .
كان لنا أصدقاء و إخوان أعتد بهم ،فرأيت منهم من الجفاء ،و ترك شروط الصداقة و الخوة
عجائب ،فأخذت أعتب .
ثم إنتبهت لنفسي فقلت :و ما ينفع العتاب ،فإنهم إن صلحوا فللعتاب ل للصفاء .
فهممت بمقاطعتهم ،ثم تفكرت فرأيت الناس بين معارف و أصدقاء في الظاهر وإخوة مباطنين ،فقلت :
ل تصلح مقاطعتهم .
إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الخوة ،إلى ديوان الصداقة الظاهرة .
فإن لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارف ،و عاملتهم معاملة المعارف ،و من الغلط أن تعاتبهم .
فقد قال يحيىبن معاذ :بئس الخ أخ تحتاج أن تقول له أذكرني في دعائك .
و جمهور الناس اليوم معارف ،و يندر فيهم صديق في الظاهر ،فأما الخوة و المصافات فذاك شيء
نسخ ،فل يطمع فيه .
و ما أرى النسان تصفو له أخوة من النسب و ل ولده و ل زوجته .
فدع الطمع في الصفا ،و خذ عن الكل جانبا ،و عاملهم معاملة الغرباء .
و إياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود ،فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره ،و ربما أظهر لك ذلك
لسبب يناله منك .
و قد قال الفضيل بن عياض :إذا أردت أن تصادق صديقا فأغضبه ،فإن رأيته كما ينبغي فصادقه .
و هذا اليوم مخاطرة ،لنك إذا أغضبت أحدا صار عدوا في الحال .
و السبب في نسخ حكم الصفا ،أن السلف كان همتهم الخرة و حدها ،فصفت نياتهم في الخوة و
المخالطة ،فكانت دينا ل دنيا .و الن فقدإستولى حب الدنيا على القلوب ،فإن رأيت متملقا في باب الدين
فأخبره تقله.
رأيت المعافى ل يعرف قدر العافية إل في المرض كما ل يعرف شكر الطلق إل في الحبس .
و تأملت على الدمي حاله عجيبة ،و هو أن تكون معه إمرأة ل بأس بها ،إل أن قلبه ل يتعلق
بمحبتها تعلقا يلتذ به .
و لذلك سببان :أحدهما :أن تكون غير غاية في الحسن .و الثاني :أن كل مملوك مكروه ،و النفس
تطلب ما ل تقدر عليه .
فتراه يضح و يشتهي شيئا يحبه أو امرأة يعشقها ،و ل يدري أنه إنما يطلب قيدا وثيقا ،يمنع القلب
من التصرف في أمور الخرة ،أو في أي علم أو عمل و يخبطه في تصريف الدنيا ،فيبقى ذلك العاشق
أسير المعشوق ،همه كله معه .
فالعجب لمطلق يؤثر القيد ،و مستريح يؤثر التعب .
فإن كانت تلك المرأة تحتاج أن تحفظ ،فالويل له ل قرار ،و ل سكون .
و إن كانت من المتبرجات اللواتي ل يؤمن فسادهن ،فذاك هلكه بمرة .
فل هو إن نام يلتذ بنومه ،ول إن خرج من الدار يأمن من محنه .
و إن كانت تريد نفقة واسعة و ليس له ،فكم يدخل مدخل سوء لجلها .
و إن كانت تؤثر الجماع و قد علت سنة ،فذاك الهلك العظيم .
و إن كانت تبغضه فما بقيت من أسباب تلفه بقية ،فيكون هذا ساعيا في تلف نفسه ،كما قال القائل :
و نعلم أنا نحب المنونا نحب القدود و نهوى الحدود
و هذا على الحقيقة كعابد صنم .
فاليتق ال من عنده إمرأة ل بأس بها ،و ليعرض عن حديث النفس و مناها فما له منتهى .
و لو حصل له غرضه كما يريد ،وقع الملل و طلب ثالثه .
ثم يقع الملل و يطلب رابعة ،و ما لهذا آخر .
إنما يفيده ذلك في العاجلة تعلق قلبه و أسر لبه فيبقى كالمبهوت .
فكره كله في تحصيل ما يريد محبوبه ،فإن جرت فرقة أو آفة ،فتلك الحسرات الدائمة إن يبقى أو
التلف عاجلً .
و أين المستحسن المصون الدين القنوع المحب لمن يحبه هذا أقل من الكبريت الحمر .
فلينظر في تحصيل ما يجمع معظم الهم ،و ل يلتفت إلى سواد الهوى و غاية المنى ،يسلم .
•فصل :إنما يخشى ال من عباده العلماء
ل ،و إنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل الذي يمنع العاقل أن يرى
إذا تم علم النسان لم ير لنفسه عم ً
ل أو يعجب به .
لنفسه عم ً
و ذلك بأشياء :منها أنه وفق لذلك العمل حبب إليكم اليمان و زينه في قلوبكم .
و منها أنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها .
و منها :أنه إذا لوحظت عظمة المخدوم ،إحتقر كل عمل و تعبد .
هذا إذا سلم من شائبه و خلص من غفلة ،فأما و الغفلة تحيط به ،فينبغي أن يغلب الحذر من رده ،و
يخاف العتاب على التقصير فيه ،فيشتغل عن النظر إليه .
و تأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك ،فالملئكة الذي يسبحون الليل و النهار ل يفترون قالوا ما
عبدناك حق عبادتك .
و الخليل عليه السلم يقول :و الذي أطمع أن يغفر لي و ما أدل بتصبره على النار و تسليمه الولد إلى
الذبح .و رسول ال صلى ال عليه و سلم يقول :ما منكم من أحد ينجيه عمله .
قالوا :و ل أنت ؟ قال :و ل أنا إل أن يتغمدني ال برحمته .
و أبو بكر رضي ال عنه يقول [ :و هل أنا و مالي إل لك يا رسول ال ] .
و عمر رضي ال عنه يقول [ :لو أن لي طلع الرض لفتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما
الخبر ] .
و ابن مسعود يقول [ :ليتني إذا مت ل أبعث ] .
و عائشة رضي ال عنها تقول [ :ليتني كنت نسيا منسيا ] .
و هذا شأن جميع العقلء فرضي ال عن الجميع .
و قد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الفهام لما شرحته ،لنهم نظروا إلى
أعمالهم فأدنوا بها .فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة ،و أخرج له كل ليلة رمانة ،
و سأل ال تعالى أن يميته في سجوده ،فإذا حشر قيل له أدخل الجنة برحمتي ،قال :بل بعملي ،فيوزن
جميع عمله بنعمة واحدة فل يفي ،فيقول :يارب برحمتك .
و كذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة ،فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحي من ذكره
،و هو أنه عزم على الزنا ،ثم خاف العقوبة فتركه .
فليت شعري بماذا يدل من خاف أن يعاقب على شيء فتركه تخوف العقوبة .
إنما لو كان مباحا فتركه كان فيه ما فيه .و لو فهم لشغله خجل الهمة عن الدلل ،كما قال يوسف
عليه السلم :و ما أبرئ نفسي .
و الخر ترك صبيانه يتضاغون إلى الفجر ليسقى أبويه اللبن .و في هذا البر أذى للطفال ،و لكن
الفهم عزيز .
و كأنهم لما أحسنوا ،قال لسان الحال كان أعطوهم ما طلبوا ،فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا .
و لول عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه ،و لكان كل كامل خائفا محتقرا لعلمه ،حذرا من التقصير
في شكر ما أنعم عليه .و فهم هذا المشروح ينكس رأس الكبر ،و يوجب مساكنة الذل .
فتأمله فإنه أصل عظيم .
ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه و إن تاب منها و بكى عليها .
و إني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة ،و كأنهم قد قطعوا على ذلك .
و هذا أمر غائب ،ثم لو غفرت بقي الخجل من فعلها .
و يؤيد الخوف بعد التوبة أنه في الصحاح :أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلم فيقولون :إشفع لنا
فيقول :ذنبي .و إلى نوح عليه السلم فيقول :ذنبي .و إلى إبراهيم ،و إلى موسى ،و إلى عيسى
صلوات ال و سلمه عليهم .
فهؤلء إذا اعتبرت ذنوبهم لم يكن أكثرها ذنوبا حقيقة .
ثم إن كانت فقد تابوا منها و اعتذروا ،و هم بعد على خوف منها .
ثم إن الخجل بعد قبول التوبة ل يرتفع .و ما أحسن ما قال الفضيل بن عياض رحمه ال :و اسوأتاه
منك و إن عفوت .فأف و ال لمختار الذنوب و مؤثر لذة لحظة تبقى حسرة ل تزول عن قلب المؤمن و
إن غفر له .
فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلً .
و هذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد ،لنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة .
و ما ذكرته يوجب دوام الحذر و الخجل .
تأملت على متزهدي زماننا أشياء تدل على النفاق و الرياء ،و هم يدعون الخلص .
منها أنهم يلتزمون زاوية فل يزورون صديقا ،و ل يعودون مريضا ،و يدعون أنهم يريدون النقطاع
عن الناس اشتغالً بالعبادة .
و أنما هي إقامة نواميس ليشار إليهم بالنقطاع ،إذ لو مشوا بين الناس زالت هيبتهم .
و ما كان الناس كذلك ،كان رسول ال صلى ال عليه و سلم يعود المريض و يشتري الحاجة من
السوق ،و أبو بكر رضي ال عنه يتجر في البز .و أبو عبيدة بن الجراح يحفر القبور .و أبو طلحة
أيضا ،و ابن سيرين يغسل الموتى .و ما كان عند القوم إقامة ناموس .
و أصحابنا يلزمون الصمت بين الناس و التخشع و التماوت ،و هذا هو النفاق .
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار ،و بين الناس ،و يبكي بالليل .
ل و نهارا ،و قد
و قد رأيت من المتزهدين من يلزم المسجد و يصلي فيجتمع فيصلون الناس بصلته لي ً
شاع هذا له ،فتقوى نفسه عليه بحب المحمدة .
و النبي صلى ال عليه و سلم قال في صلة التطوع :اجعلوا هذه في البيوت .
ل.
و في أصحابنا من يظهر الصوم الدائم ،و يتقوت بقول الناس :فلن ما يفطر أص ً
و هذا البله ما يدري أنه لجل الناس يفعل ذلك ،لول هذا كان يفطر و الناس يرونه يومين أو ثلثة
حتى يذهب عنه ذلك السم ثم يعود إلى الصوم .
و قد كان إبراهيم بن أدهم إذا مرض يترك عنده من الطعام ما يأكله الصحاء .
و رأيت في زهادنا من يصلي الفجر يوم الجمعة بالناس ،و يقرأ المعوذتين و المعنى قد ختمت !
فإن هذه العمال هي صريحة في النفاق و الرياء .
و فيهم من يأخذ الصدقات و هو غني ،و ل يبالي أخذ الظلمة أو من أهل الخير ،و يمشي إلى المراء
يسألهم ،و هو يدري من أين حصلت أموالهم .
فال ال في إصلح النيات ،فإن جمهور هذه العمال مردود .
قال مالك بن دينار [ :و قولوا لمن لم يكن صادقا ل يتعنى ] .
و ليعلم المرائى أن الذي يقصده يفوته ،و هو التفات القلوب إليه .
فأنه متى لم يخلص حرم محبة القلوب ،و لم يلتفت إليه أحد ،و المخلص محبوب .
فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه ،لما فعل .
و كم رأينا من يلبس الصوف و يظهر النسك ل يلتفت إليه ،و آخر يلبس جيد الثياب و يبتسم و القلوب
تحبه .
نسأل ال عز وجل إخلصا يخلصنا و نستعيد به من رياء يبطل أعمالنا إنه قادر .
من الجهل أن يخفى على النسان مراد التكليف ،فإنه موضوع على عكس الغراض .
فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الغراض .فإن دعا و سأل بلوغ غرض تعبد ال بالدعاء .فإن أعطى
مراده شكر ،و إن لم ينل مراده فل ينبغي أن يلح في الطلب ،لن الدنيا ليست لبلوغ الغراض ،و ليقل
لنفسه و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم .
من أعظم الجهل أن يمتعض في باطنه لنعكاس أغراضه ،و ربما إعترض في الباطن ،أو ربما قال :
حصول غرضي ل يضر ،و دعائي لم يستجب .
و هذا كله دليل على جهله و قلة إيمانه و تسليمه للحكمة .
و من الذي حصل له غرض ثم لم يدرك ؟
هذا آدم طاب عيشه في الجنة و أخرج منها .
و نوح سأل في إبنه فلم يعط مراده .و الخليل إبتلى بالنار .و إسماعيل بالذبح و يعقوب بفقد الولد .
ويوسف بمجاهدة الهوى ،و أيوب بالبلء .و داود و سليمان بالفتنة ،وجميع النبياء على هذا .و أما ما
لقي نبينا محمد صلى ال عليه و سلم من الجوع و الذى و كدر العيش فمعلوم .
فالدنيا و ضعت للبلء ،فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر ،و أن يعلم أن ما حصل من المراد
فلطف ،و ما لم يحصل فعلى أصل الخلق و الجبلة للدنيا ،كما قيل :
صفوا من القذاء و الكدار طبعت على كدر و أنت تريدها
متطلب في الماء جذوة نار و مكلف اليام ضد طباعها
و ها هنا تتبين قوة اليمان و ضعفه ،فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض التسليم للمالك ،و
التحكيم لحكمته .
و ليقل .قد قيل لسيد الكل :ليس لك من المر شيء .
ثم ليسل نفسه بأن المنع ليس عن بخل ،و إنما هو لمصلحة ل يعلمها ،و ليؤجر الصابر عن
أغراضه ،و ليعلم ال الذين سلموا و رضوا .
و إن زمن البتلء يسير ،و الغراض مدخر تلقى بعد قليل ،و كأنه بالظلمة قد إنجلت ،و بفجر الجر
قد طلع .و متى إرتقى فهمه إلى أن ما جرى مراد الحق سبحانه ،إقتضى إيمانه أن يريد ما يريد ،و
يرضى بما يقدر ،إذ لو لم يكن كذلك كان خارجا عن حقيقة العبودية في المعنى .
و هذا أصل ينبغي أن يتأمل و يعمل عليه في كل غرض إنعكس .
رأيت خلقا من العلماء و القصاص تضيق عليهم الدنيا فيفزعون إلى مخالطة السلطين ،لينالوا من
أموالهم ،و هم يعلمون أن السلطين ل يكادون يأخذون الدنيا من وجهها و ل يخرجونها في حقها .
فإن أكثرهم إذا حصل له خراج ينبغي أن يصرف إلى المصالح و هبه لشاعر .
و ربما كان معه جندي يصلح أن تكون مشاهرته عشرة دنانير فأعطاه عشرة ألف .
و ربما غزا فأخذ ما ينبغي أن يقسم على الجيش فإصطفاه لنفسه .
هذا غير ما يجري من الظلم في المعاملت .
و أول ما يجري على ذاك العالم أنه قد حرم النفع بعلمه ،و قد رأى بعض الصالحين رجلً عالما يخرج
من دار يحي بن خالد البرمكي ،فقال :أعوذ ال من علم ل ينفع .
ألم ير المنكرات و ل ينكر ،و يتناول ل من طعامهم الذي ل يكاد يحصل إل بظلم فينطمس قلبه و يحرم
لذة المعاملة للحق سبحانه ،ثم ل يقدر لك أن يهتدي بك أحد .بل ربما كان فعل هذا سببا لضلل الناس و
صرفهم عن القتداء به ،فهو يؤذي أميره ،لنه يقول :لول أنني على صواب ما صحبني و لنكر علي .
و يؤذي العوام تارة بأن يروا أن ما فيه لمير صواب ،و تارة بأن الدخول عليه و السكوت عن النكار
جائز .
أو يحبب إليهم الدنيا ،و ل خير و ال في سعة من الدنيا ضيقت طريق الخرة .
و أنا أفتدي أقواما صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى رووا يوم الموت من
شراب الرضى ،و بقيت أذكارهم تروى ،فتروي صدأ القلوب و تجلو صداها .
هذا المام أحمد يحتاج فيخرج إلى اللقاط و ل يقبل مال سلطان .
هذا إبراهيم الحربي يتغذى بالبقل و يرد على المعتصم ألف دينار .
هذا بشر الحافي يشكو الجوع ،فيقال له :يصنع لك حساء من دقيق ؟
فيقول :أخاف أن يقول ال لي :هذا الدقيق من أين لك ؟
بقيت و ال أذكار القوم ،و ما كان الصبر إل غفوة نوم .
و مضت لذات المترخصين و بليت البدان ،و وهن الدين .
فالصبر الصبر يا من و فق ،و ل تغبطن من إتسع له أمر الدنيا .
فإنك إذا تأملت تلك السعة رأيتها ضيقا في باب الدين .
و ل ترخص لنفسك في تأويل ،فعمرك في الدنيا قليل :
في سرور و يوم صابر كسره و سواء إذا انقضى يوم كسرى
و متى ضجت النفس لقلة صبر ،فأتل عليها أخبار الزهاد ،فإنها ترعوي و تستحي و تنكسر ،إن كانت
لها همة أو فيها يقظة .
و مثل لها بين ترخص علي بن المديني و قبوله مال ابن أبي داود ،و صبر أحمد .
و كم بين الرجلين و الذكرين .
و انظر ما يروى عن كل واحد منهما و ما يذكران به .
وسيندم ابن المديني إذا قال أحمد [ :سلم لي ديني ] .
من العجيب سلمة دين ذي العيال إذا ضاق به الكسب ،فما مثله إل كمثل الماء إذا ضرب في وجهه
سكر ،فإنه يعمل باطنا و يبالغ حتى يفتح فتحة .
فكذلك صاحب العيال إذا ضاق به المر ل يزال يحتال ،فإذا لم يقدر على الحلل ،ترخص في تناول
الشهيات ،فإن ضعف دينه مد يده إلى الحرام .
فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب إجتهد في التعفف عن النكاح ،و تقليل النفقة إذا حصل الولد ،و
القناعة باليسير .
فأما من ليس له كسب كالعلماء و المتزهدين ،فسلمتهم ظريفة ،إذ قد إنقطعت موارد السلطين
عنهم ،و مراعاة العوام لهم ،فإذا كثرت عائلتهم لم يؤمن عليهم شر ما يجري على الجهال .
فمن قدر منهم على كسب بالنسخ و غيره فليجتهد فيه مع تقليل النفقة و القناعة باليسير .
فإنه من ترخص منهم اليوم أكل الحرام ،لنه يأخذ من الظلمة خصوصا بحجة التنمس و التزهد .
و من كان له منهم مال فليجتهد في تنميته و حفظه ،فما بقي من يؤثر و ل من يقرض .
و قد صار الجمهور بل الكل كأنهم يعبدون المال ،فمن حفظه حفظ دينه .
و ل يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال ،فما هدا وقته .
و اعلم أنه إذا لم يجتمع الهم ،لم يحصل العلم و ل العمل و ل التشاغل بالفكر في عظمة ال .
و قد كان هم القدماء يجتمع بأشياء جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب في كل عام .
و كان يصلهم فيفضل عنهم .
و فيهم من كان له مال يتجر به كسعيد بن المسيب ،و سفيان ،و ابن المبارك ،و كان همه مجتمعا ،
و قد قال سفيان في ماله [ :لو لك لتمندلوا بي ! ] .
و فقدت بضاعة [ ل بن المبارك ] فبكى و قال [ :هو قوام ديني ] .
و كان جماعة يسكنون إلى عطاء الخوان الذين ل يمنون .
و كان ابن المبارك يبعث إلى الفضل و غيره ،و كان الليث بن سعد يتفقد الكابر ،فبعث إلى مالك ألف
دينار ،و إلى ابن لهيعة ألف دينار ،و أعطى منصور بن عمار ألف دينار و جارية بثلثمائة دينار .
و ما زال الزمان على هذا إلى أن آل المر إلى إنمحاق ذلك ،فقلت عطايا السلطين ،و قل من يؤثر
من الخوان .
إل أنه كان في ذلك القليل ما يدفع الزمان .
فأما زماننا هذا ،فقد إنقبضت اليدي كلها ،حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة ،فكيف يجتمع هم من
ل و نهارا في وجوه الكسب و ليس من شأنه هذا و ل يهتدي له
يريد من العلماء و الزهاد أن يعمل همه لي ً
.
فقد رأينا المر أخرج إلى التعرض للسلطين و الترخص في أخذ ما ل يصلح و أخرج المتزهدين إلى
التصنع لتحصيل الدنيا .
فال ال يا من يريد حفظ دينه ،قد كررت عليك الوصية بتقليل جهدك ،و خفف العلئق مهما أمكنك ،و
إحتفظ بدرهم يكون معك فإنه دينك ،و إفهم ما قد شرحته ،فإن ضجت النفس لمراداتها فقل لها :إن كان
عندك إيمان فأصبري ،و إن أردت التحصيل لما يفنى ببذل الدين فما ينفعك .
فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير و جهه و في المنمسين ذهب دينهم ،و زالت دنياهم .
تفكري في العلماء الصادقين كأحمد و بشر ،إندفعت اليام و بقي لهم حسن الذكر .
و في الجملة و من يتق ال يجعل له مخرجا * و يرزقه من حيث ل يحتسب .
و رزق ال قد يكون بتيسير الصبر على البلء و اليام تندفع .
و عاقبة الصبر الجميل جميلة .
شكا لي رجل من بغضه لزوجته ثم قال :ما أقدر على فراقها لمور ،منها كثرة دينها علي ،و صبري
قليل ،و ل أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى ،و في كلمات تعلم بغضي لها .
فقلت له :هذا ل ينفع و إنما تؤتى البيوت من أبوابها ،فينبغي أن تخلو بنفسك فتعلم أنها إنما سلطت
عليك بذنوبك ،فتبالغ في العتذار و التوبة .
فأما الضجر و الذى لها فما ينفع كما قال الحسن بن الحجاج [ :عقوبة من ال لكم ،فل تقابلوا
عقوبته بالسيف ،و قابلوها بالستغفار ] .
و اعلم أنك في مقام مبتلي ،و لك أجر بالصبر و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم .
فعامل ال سبحانه بالصبر على ما قضى ،و إسأله الفرج .
فإذا جمعت بين الستغفار و بين التوبة من الذنوب ،و الصبر على القضاء ،و سؤال الفرج ،حصلت
ثلثة فنون من العبادة تثاب على كل منها .
و ل تضيع الزمان بشيء ل ينفع ،و ل تحتل ظانا منك أنك تدفع ما قدر ،و إن يمسسك ال بضر فل
كاشف له إل هو .
و قد روينا أن جنديا نزل يوما في دار أبي يزيد ،فجاء أبو يزيد فرآه ،فوقف و قال لبعض أصحابه :
أدخل إلى المكان الفلني ،فاقلع الطين الطري ،فإنه من وجه فيه شبهة ،فقلعه ،فخرج الجندي .
و أما أذاك للمرأة فل وجه له ،لنها مسلطة فليكن شغلك بغير هذا .
و قد روي عن بعض السلف أن رجلً شتمه فوضع خده على الرض و قال [ :اللهم إغفر لي الذنب
الذي سلطت هذا به علي ] .
قال الرجل :و هذه المرأة تحبني زائدا في الحد ،و تبالغ في خدمتي ،غير أن البغض لها مركوز في
طبعي .
قلت له :فعامل ال سبحانه بالصبر عليها ،فإنك تثاب .
و قد قيل لبي عثمان النيسابوري :ما أرجى عملك عندك ؟
قال :كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فأبى .
فجاءتني امرأة فقالت :يا أبا عثمان ،إني قد هويتك ،و أنا أسألك بال أن تتزوجني .
فأحضرت أباها ـ و كان فقيرا ـ فزوجني و فرح بذلك .
فلما دخلت إلي رأيتها عوراء عرجاء مشوهة .
و كانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج ،فأقعد حفظا لقلبها ،و ل أظهر لها من البغض شيئا ،و كأني
على جمر الغضا من بغضها .
فبقيت هكذا خمس عشرة سنة ،حتى ماتت ،فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي قلبها .
قلت له :فهذا عمل الرجال ،و أي شيء ينفع ضجيج المبتلي بالتضجر بإظهار البغض .
و إنما طريقه ما ذكرته لك من التوبة و الصبر ،و سؤال الفرج .
و تذكر ذنوبا كانت هذه عقوبتها .
فإن وقع فرج في الحساب و إل فإستعمال الصبر على القضاء عبادة .
و تكلف إظهار المودة لها و إن لم تكن في قلبك تثبت على هذا .
و ليس للقيد ذنب فيلم ،إنما ينبغي التشاغل مع من قيده و السلم .
ل ريب أن القلب المؤمن بالله سبحانه و بأوامره يحتاج إلى النعكاف على ذكره و طاعته و إمتثال
أوامره ،و هذا يفتقر إلى جمع الهم .
و كفى بما وضع في الطبع من المنازعة إلى الشهوات مشتتا للهم المجتمع .
فينبغي للنسان أن يجتهد في جمع همه لينفرد قلبه بذكر ال سبحانه و تعالى و إنفاذ أوامره و التهيؤ
للقائه .
و ذلك إنما يحصل بقطع القواطع ،و المتناع عن الشواغل .
و ما يمكن قطع القواطع جملة ،فينبغي أن يقطع ما يمكن منها .
و ما رأيت مشتتا للهم ،مبددا للقلب مثل شيئين :
أحدهما :أن تطاع النفس في طلب كل شيء تشتهيه و ذلك ل يوقف على حد فيه ،فيذهب الدين و
الدنيا و ل ينال كل المراد .مثل أن تكون الهمة في المستحسنات أو في جمع المال أو في طلب الرياسة ،
و ما يشبه هذه الشياء .
فيا له من شتات ل جامع له ،يذهب العمر و ل ينال بعض المراد منه .
و الثاني :مخالطة الناس خصوصا العوام و المشي في السواق ،فإن الطبع يتقاضى بالشهوات و
ينسى الرحيل عن الدنيا ،و يحب الكسل عن الطاعة ،و البطالة و الغفلة و الراحة .
فيثقل على من ألف مخالطة الناس و التشاغل بالعلم أو بالعبادة .
و ل يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة و تضيع الساعات في غير شيء .فمن أراد اجتماع همه
فعليه بالعزلة بحيث ل يسمع صوت أحد ،فحينئذ يخلو القلب بمعارفة ،و ل تجد النفس رفيقا مثل الهوى
يذكرها ما تشتهي .
فإذا اضطر إلى المخالطة كان على وفاق ،كما تتهوى الضفدع لحظة ثم تعود إلى الماء فهذه طريق
السلمة .
فتأمل فوائدها تطب لك .
ما رأيت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان ،و عيبهم للدهر .
و قد كان هذا في الجاهلية ،ثم نهى رسول ال صلى ال عليه و سلم عن ذلك فقال :ل تسبوا الدهر ،
فإن ال هو الدهر .
و معناه أنتم تسبون من فرق شملكم ،و أمات أهاليكم ،و تنسبونه إلى الدهر ،و ال تعالى هو الفعل
لذلك .
فتعجبت كيف أعلم أهل السقام بهذه الحال ،و هم على ما كان أهل الجاهلية عليه ما يتغيرون ،حتى
ربما إجتمع الفطناء الدباء الظراف على زعمهم فلم يكن لهم شغل إل ذم الدهر .
و ربما جعلوا ال الدنيا ،و يقولون :فعلت و صنعت ،حتى رأيت لبي القاسم الحريري يقول :
عن الرشد في أنحائه و مقاصده و لما تعامى الدهر و هو أبو الردى
و ل غرو أن يحذر الفتى حذو والده تعاميت حتى قيل إني أخو عمى
و قد رأيت خلقا يعتقدون أنهم فقهاء و فهماء و ل يتاحشون من هذا .
و هؤلء إن أرادوا بالدهر مرور الزمان ،فذاك ل إختيار له و ل مراد و ل يعرف رشدا من ضلل ،و
ل ينبغي أن يلم .
فإنه زمان مدبر ،فيتصرف فيه و ل يتصرف .
و ما يظن بعاقل أن يشير إلى أن المذموم المعرض عن الرشد ،السيء الحكم ،هو الزمان .
فلم يبق إل أن القوم خرجوا عن ربقة السلم ،و نسبوا هذه القبائح إلى الصانع ،فإعتقدوا فيه قصور
الحكمة ،و فعل ما ل يصح ،كما إعتقده إبليس في تفضيل آدم .
و هؤلء ل ينفعهم ،مع هذا الزيغ ،إعتقاد إسلم ،و ل فعل صلة .
بل هم شر من الكفار ،ل أصلح ال لهم شأنا ،و ل هداهم إلى رشاد .
من عجائب ما أرى من نفسي و من الخلق كلهم الميل إلى الغفلة عما في أيدينا ،مع العلم بقصر
العمر ،و أن زيادة الثواب هناك بقدر العمل ههنا .
فيا قصير العمر اغتنم يومي مني ،و انتظر ساعة النفر ،و إياك أن تشغل قلبك بغير ما خلق له .
و احمل نفسك على المر ،و اقمعها إذا أبت ،و ل تسرح لها في الطول ،فما أنت إل في مرعى .
و قبيح بمن كان بين الصفين أن يتشاغل بغير ما هو فيه .
قد كررت هذا المعنى في هذا الكتاب ،و هو المر بحفظ السر ،و الحذر من النبساط فيما ل يصح بين
يدي الناس .
فرب منبسط ـ بين يدي من يظنه صديقا ـ يقول في صديق أو في سلطان ل يهتم في ذلك ،فيكون
سبب هلك ذاك .
فأوصى السليم الصدر الذي يظن في الناس الخير أن يحترز من الناس ،و أل يقول في الخلق كلمة ل
تصلح للخلق .
و ل يغتر بمن يظهر الصداقة أو التدين ،فقد عم الخبث .
ل يصفو التعبد و التزهد و الشتغال بالخرة إل بالنقطاع الكلي عن الخلق ،بحيث ل يبصرهم و ل
يسمع كلمهم إل في وقت ضرورة كصلة جمعة أو جماعة ،و يحترز في تلك الساعات منهم .
و إن كان عالما يريد نفعهم ،و عدهم وقتا معروفا و إحترز في الكلم معهم .
أما من يمشي في السواق اليوم ،و يبيع و يشتري مع هذا العالم المظلم ،و يرى المنكرات و
المستهجنات ،فما يعود إلى البيت إل وقد أظلم القلب .
فل ينبغي للمريد أن يكون خروجه إل إلى الصحراء و المقابر .
وقد كان جماعة من السلف يبيعون و يشترون و يحترزون ،و مع هذا ما صفا لصافيهم وقت حتى
قاطع الخلق .
قال أبو الدرداء [ :زاولت العبادة و التجارة فلم يجتمعا فإخترت العبادة ] .
و قد جاء في الحديث :السواق تلهي و تلغي .
فمن قدر على الحمية النافعة و إضطر إلى المخالطة و الكسب للعائلة ،فليحترز إحتراز الماشي في
الشوك ،و بعيد سلمته .
من رزق قلبا طيبا ،و لذة مناجاة ،فليراع حاله ،و ليحترز من التغيير .
و إنما تدوم له حالة بدوام التقوى .
و كنت قد رزقت قلبا طيبا و مناجاة خلوة فأحضرني بعض أرباب المناصب إلى طعامه فلما أمكن خلفه
.فتناولت وأكلت منه فلقيت الشدائد ،و رأيت العقوبة في الحال ،و استمرت مدة ،و غضبت على قلبي ،
و فقدت كل ما كنت أجده .
فقلت :واعجبا لقد كنت في هذا كالمكره ،فتفكرت و إذا به قد يمكن مداراة المر بالقيمات يسيرة ،إنما
التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمداراة .
فقالت النفس :و من أين لي أن عين هذا الطعام حرام ؟ .
فقالت اليقظة :و أين الورع عن الشبهات ؟ .
فلما تناولت بالتأويل لقمة و أستجلبتها بالطبع لقيت المرين بفقد القلب فاعتبروا يا أولي البصار .
همة المؤمن متعلقة بالخرة ،فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الخرة ،و كل من شغله شيء فهمته
شغله .
أل ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة ،رأيت البزار ينظر إلى الفرش و يحزر قيمة ،و
النجار إلى السقف ،و البناء إلى الحيطان ،و الحائك إلى النسيج المخيط .
و المؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر ،و إن رأى مؤلما ذكر العقاب ،و إن سمع صوتا فظيعا ذكر
نفخة الصور ،و إن رأى الناس نياما ذكر الموتى في القبور ،و إن رأى لذة الجنة ،فهمته متعلقة بمآثم ،
و ذلك يشغله عن كل مأتم .
و أعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة ،و أن بقاءه ل ينقطع و ل يزول و ل يعتريه
منغص ،فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبا في تلك اللذات الدائمة التي ل تفنى يطيش فرحا و يسهل عليه ما في
الطريق إليها من ألم و مرض و ابتلء و فقد محبوب و هجوم الموت و معالجة غصصه .
فأن المشتاق إلى الكعبة يهون عليه رمل زرود ،و التائق إلى العافية ل يبالي بمرارة الدواء .
و يعلم أن جودة الثمر ثم على مقدار جودة البذر ههنا ،فهو يتخير الجود ،و يغتنم الزرع في تشرين
العمر من غير فتور .
ثم يتخايل المؤمن دخول النار و العقوبة ،فينغص عيشه و يقوى قلقه ،فعنده بالحالين شغل عن الدنيا
و ما فيها ،فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة و في صحراء أخرى ،فما يرى البنيان .
فإذا نازله الموت قوى ظنه بالسلمة ،و رجا لنفسه النجاة فيهون عليه .
فإذا نزل إلى القبر و جاءه من يسألونه ،قال بعضهم لبعض :دعوه فما إستراح إل الساعة .
نسأل ال عز وجل يقظة تامة تحركنا إلى طلب الفضائل ،و تمنعنا من إختيار الرذائل ،فإنه إن وفق ،
و إل فل نافع .
لقد إعتبرت على مولي سبحانه و تعالى أمرا عجيبا ،و هو أنه تعالى ل يختار لمحبته و القرب منه إل
الكامل صورة و معنى .
و لست أعني حسن التخاطيط ،و إنما كمال الصورة إعتدالها ،و المعتدلة ما تخلو من حسن ،فيتبعها
حسن الصورة الباطنة ،و هو كمال الخلق ،و زوال الكدار ،و ل يرى في باطنه خبثا و ل كدرا ،بل قد
حسن باطنه كما حسن ظاهره .
و قد كان موسى عليه السلم كل من رآه يحبه ،و كان نبينا صلى ال عليه و سلم كالقمر ليلة البدر .
و قد يكون الولي أسود اللون ،لكنه حسن الصورة لطيف المعاني .
فعلى قدر ما عند النسان من التمام في كمال الخلق و الخلق ،يكون عمله ،و يكون تقريبه إلى
الحضرة بحسب ذلك .
فمنهم كالخادم على الباب ،و منهم حاجب ،و منهم قرب ،و يندر من يتم له الكمال .
و لعله ل يوجد في مائة سنة منهم غير واحد .
و هذه حكاية ما تحصل بالجتهاد ،بل الجتهاد يحصل منها ،لنه إذا وقع تماما حث على الجد على
قدر نقصائه .
و هذا ل حيلة في أصله .إنما هو جبلة ،و إذا أرادك لمر هيأك له .
•فصل :العقل منحة من ال
تأملت على قوم يدعون العقول و يعترضون على حكمة الخالق .
فينبغي أن يقال لهم :هذا الفهم الذي دلكم على رد حكمته أليس هو من منحه ؟
أفأعطاكم الكمال و رضي لنفسه بالنقص هذا هو الكفر المحض ،الذي يزيد في القبح على الجحد .
فأول القوم إبليس ،فإنه رأى بعقله أن جوهر النار أشرف من جوهر الطين ،فرد حكمة الخالق .
و مر على هذا خلق كثير من المعترضين ،مثل ابن الرواندي ،و البقري ،و هذا المعري اللعين يقول
ل منه .
:كيف يعاب ابن الحجاج بالسخف و الدهر أقبح فع ً
أترى يعني به الزمان ! فإن ممر الوقات ل يفعل شيئا ،و إنما هو تعريض بال جل شأنه .و كان
يستعجل الموت ظنا منه أنه يستريح .
و كان يوصي بترك النكاح و النسك ،و ل يرى في اليجاد حكمة إل العناء و التعب و مصير البدان إلى
البلى .
و هذا لو كان كما ظن كان اليجاد عبثا ،و الحق منزه عن العبث .
ل.
قال تعالى : :و ما خلقنا السماء و الرض و ما بينهما باط ً
فإذا كان ما خلق لنا لم يخلق عبثا ،أفنكون نحن ،و نحن مواطن معرفته ،و مجال تكليفه ،قد وجدنا
عبثا ؟
و مثل هذا الجهل إنما يصدر ممن ينظر في قضايا العقول التي يحكم بها على الظواهر ،مثل أن يرى
مبنيا ينقض .
و العقل بمجرده ل يرى ذلك حكمة .و لو كشفت له حكمة ذلك لعلم أنه صواب .
كما كشف لموسى مراد الخضر في خرق السفينة و قتل الغلم .
و معلوم أن ذبح الحيوان ،و تقطيع الرغيف ،و مضغ الطعام ،ل يظهر له فائدة على الطلق .
فإذا علم أنه غذاء لبدن من هو أشرف بدنا من المذبوح ،حسن ذلك الفعل .
و اعجب أو ما تقضي العقول بوجوب طاعة الحكيم الذي تعجز عن معرفة حكمة مخلوقاته .
فكيف تعارضه في أفعاله ؟ نعوذ بال من الخذلن .
ينبغي لمن وعظ سلطانا أن يبالغ في التلطيف ،و ل يواجهه بما يقتضي أنه ظالم .
فإن السلطين حظهم التفرد بالقهر و الغلبة ،فإذا جرى نوع توبيخ لهم كان إذللً ،و هم ل يحتملون
ذلك .
و إما ينبغي أن يمزج وعظه بذكر شرف الولية ،حصول الثواب في رعاية الرعايا ،و ذكر سير
العادلين من أسلفهم .
ثم لينظر الواعظ في حال الموعوظ قبل وعظه .
فإن كانت سيرته حميدة كما كان منصور بن عمار و غيره يعظون الرشيد و هو يبكي ،و ذكر و قصده
الخير ،زاد في وعظه و وصيته .
و إن رآه ظالما ل يلتفت إلى الخير ،و قد غلب عليه الجهل ،اجتهد في أل يراه ،و ل يعظه .
لنه إن وعظه خاطر بنفسه ،و إن مدحه كان مداهنا .
فإن اضطر إلى موعظته كانت كالشارة ،و قد كان أقوام من السلطين يلينون عند الموعظة ،و
يحتملون الواعظين .
حتى أنه قد كان المنصور يواجه بأنك ظالم فيصبر .
و قد تغير الزمان ،و فسد أكثر الولة ،و داهنهم العلماء ،و من ل يداهن ل يجد قبو ًل للصواب ،
فيسكت .
و قد كانت الوليات ل يسألها إل من أحكمته العلوم ،و ثقته التجارب ،فصار أكثر الولة يتساوون في
الجهل ،فتأتي الولية على من ليس من أهلها .
و مثل هؤلء ينبغي الحذر منهم ،و البعد عنهم .
فمن ابتلى بوعظهم فليكن على غاية التحرز فيما يقول ،و ل ينبغي أن يغتر بقولهم :عظنا .فإنه لو
قال كلمة ل توافق أغراضهم ثارت حراراتهم .
و ليحذر مذكر السلطان أن يعرض له بأرباب الوليات ،فإنهم إذا سمعوا بذلك صار الواعظ مقصودا لهم
بالهلك ،خوفا من أن يعتبر السلطان أحوالهم فتفسد أمورهم .
و البعد في هذا الزمان عنهم أصلح ،و السكوت عن المواعظ لهم أسلم .
فمن اضطر تلطف غاية التلطيف ،جعل وعظه للعوام و هم يسمعون و ل يعنيهم منه بشيء .و ال
الموفق .
واعجبا من موجود ل يفهم معنى الوجود ،فإن فهم لم يعمل بمقتضى فهمه .
يعلم أن العمر قصير ،و هو يضيعه بالنوم و البطالة ،و الحديث الفارغ ،و طلب اللذات ،و إنما أيامه
أيام عمل ل زمان فراغ .
و قد كلف يبذل المال بمخالفة الطبع من الشرع فبخل به إلى أن يتضايق الخناق ،فيقول حينئذ :فرقوا
عني بعد موتي وافعلوا كذا .
فأين يقع هذا لو فعل ،و بعيد أن يفعل ،و إنما يراد بإنفاقك في صحتك مخالفة الطبع في تكلف مشاق
الخراج في زمن السلمة .
فأفرق بين الحالتين إن كان لك فهم .
فالسعيد من إنتبه لنفسه و عمل بمقتضى عقله ،و إغتنم زمنا نهايته الزمن و إنتهب عمرا بأقرب
إنقطاعه .
ويحك ما تصنع بادخار مال ل يؤثر حسنة في صحيفة و ل مكرمة في تاريخ ؟
أما سمعت بإنفاق أبي بكر و بخل ثعلبة ؟
أما رأيت تأثير مدح حاتم و بخل الحباحب ؟
ويحك لو إبتلك فيمالك لستغثت ،أو في بدنك ليلة بمرض لشكوت .
فأنت تسؤفي مطلوباتك منه ،و ل تستوفي حقه عليك ويل للمطففين .
و لتعلم أن هذا القدر المفرط فيه يحل الخلود الدائم في ثواب العمل فيه .
فسبحان من من على أقوام فهموا المراد فأتعبوا الجساد ،و غطى على قلوب آخرين فوجودهم كالعدم .
إني أعجب من عاقل يرى إستيلء الموت على أقرانه و جيرانه كيف يطيب عيشه ،خصوصا إذا غلت
سنه .
و اعجبا لمن يرى الفاعي تدب إليه و هو ل ينزعج .أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه ،قد
أخرج سكين القوى و أنزل متغشرم الضعف ،و قلب السواد بياضا ،ثم في كل يوم يزيد الناقص .
ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا و فراق الخوان ،إن كان ذلك مزعجا .
و لكن شغل من إحترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران .
إنه لمما يسلي عن الدنيا و يهون فراقها إستبدال المعارف بمن تكره .
فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون ،و فقراء كانوا يصبرون ،و محاسبين لنفسهم يتورعون فاستبدل
السفهاء عن العقلء ،و البخلء عن الكرماء .
فيا سهولة الرحيل ،لعل النفس تلقى من فقدت ،فتلحق بمن أحبت .
ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من ل يصلح ،فإن الطبع يسرق .
فإن لم يتشبه بهم و لم يسرق منهم فتر عن عمله .
فإن رؤية الدنيا تحث على طلبها ،و قد رأى رسول ال صلى ال عليه و سلم سترا على بابه فهتكه و
قال مالي و للدنيا .و لبس ثوبا له طراز فرماه و قال :شغلتني أعلمه .و لبس خاتما ثم رماه و قال :
نظرت إليكم و نظرت إليه .
و كذلك رؤية أرباب الدنيا و دورهم و أحوالهم ،خصوصا لمن له نفس تطلب الرفعة .
و كذا سماع الغاني و مخالطة الصوفية الذين ل نظر لهم اليوم إل في لرزق الحاصل .
لو كان من أي مكان قبلوه ،و ل يتورعون أن يأخذوا من ظالم ،و ليس عندهم خوف كما كان أوائلهم
.
فقد كان سري السقطي يبكي طول الليل ،و كان يبالغ في الورع ،و هم ليس لهم ورع سري ،و ل
لهم تعبد الجنيد .
و إنما ثم أكل و رقص و بطالة و سماع أغاني من المردان ،حتى قال بعض من يعتبر قوله :حضرت
مع رجل كبير يومىء إليه من مشايخ الربط و مغنيهم أمرد ،فقام الشيخ و نقطه بدينار على خده .
و ادعاؤهم أن سماع هذه الشياء يدعو إلى الخرة فوق الكذب ،و ليس العجب منهم ،إنما العجب من
جهال ينفقون عليهم فيفقون عليهم .
و لقد كان جماعة من القدماء يورن أوائل الصوفية يتعبدون و يتورعون فيعجبهم حالهم ،و هم
معذورون في إعجابهم بهم .
و إن كان أكثر القوم في تعبدهم على غير الجادة ،كما ذكرت في كتابي المسمى بتلبيس إبليس .
فأما اليوم فقد برح الخفاء ،أحدهم يتردد إلى الظلمة و يأكل أموالهم ،و يصافحهم بقميص ليس فيه
طراز ،و هذا هو التصوف فحسب .
أو ل يستحي من ال من زهد في رفيع الثواب لجل الخلئق ل لجل الحق .
و ل يزهد في مطعم و ل شبهة .فالبعد عن هؤلء لزم .
و ينبغي للمنفرد لطاعة ال تعالى عن الخلق أل يخرج إلى سوق جهده ،فإن خرج ضرورة غض بصره
،و أل يزور صاحب منصب و ل يلقاه ،فإن إضطر دارى المر .
و ل يخالط عاميا إل لضررة مع التحرز .و ليفتح على نفسه باب التزوج ،بل يقنع بامرأة فيها دين .
فقد قال الشاعر :
في أعين العين موقوف على الخطر و المرء ما دام ذا عين يقلبها
ل مرحبا بسرور عاد بالضرر يسر مقلته ما ضر مهجته
فإن كان يغلب عليه العلم انفرد بدراسته و احترز من التباع المتعلمين ،و إن غلبت عليه العبادة ،زاد
في إحترازه .و ليجعل خلوته أنيسه ،و النظر في سير السلف جليسه .
و ليكن له وظيفة من زيارة قبور الصالحين و الخلوة بها .
و ل ينبغي أن يفوته ورد قيام الليل ،و ليكن بعد النصف الول ،فليطل مهما قدر ،فإنه زمان بعيد
المثل .
و ليمثل رحيله عن قرب ليقصر أمله ،و ليتزود في الطريق على قدر طول السفر .
نسأل ال عز وجل يقظه من فضله ،و إقبالً على خدمته ،و أل يخذلنا باللتفات عنه ،إنه قريب مجيب
.
كلما نظرت في تواصل النعم علي تحيرت في شكرها ،و أعلم أن الشكر من النعم فكيف أشكر .
لكن معترف بالتقصير ،و أرجو أن يكون اعترافي قائما ببعض الحقوق .
و عندي خلة أرجو بها كل خير ،و هي أن من يصوم أو يصلي يرى أنه تعبد و يخدم كأنه يقضي حق
المخدوم .
و أنا أرى أني إذا صليت ركعتين فإنما قمت أكدي فلنفسي أعمل ،إذ المخدوم غني عن طاعتي .
و كان بعض المشايخ يقول :جاء في الحديث :الدعاء عبادة ،و أنا أقول [ :العبادة دعاء ] .
فالعجب ممن يقف للخدمة يسأل حظ نفسه .كيف يرى أنه قد فعل شيئا .
إنما أنت في حابتك ،و منة من أيقظك ل تقاومها خدمتك .
فأنا أقول كما قال الول :
ت كفلتني و حفظتني يا منتهى المال أن
و عدا الزمان علي كي يحتاجني فمنعتني
لما رآك نصرتني فانقاد لي متخشعا
و كسوتني ثوب الغني و من المغالب صنتني
و إذا سألت أجبتني فإذا سكت بدأتني
فمنحتني و بهرتني فإذا شكرتك زدتني
لموال أنت أفدتني أو إن أجد بالمال فا
رأيت أكثر العلماء يتشاغلون بصورة العلم ،فهم الفقيه التدريس ،و هم الواعظ الوعظ .
فهذا يرعى درسه فيفرج بكثرة من يسمعه ،و يقدح في كلم من يخالفه و يمضي زمانه في التفكر في
المناقضات ،ليقهر من يجادله ،و عينه إلى التصدر و الرتفاع في المجالس .
و ربما كانت همته جمع الحطام ،و مخالطة السلطين .
و الواعظ همته ما يزوق به كلمه ،و يكثر جمعه ،و يجلب به قلوب الناس إلى تعظيمه ،فإن كان له
نظير في شغله أخذ يطعن فيه .
و هذه قلوب غافلة عن ال عز وجل ،إذ لو كانت لها به معرفة لشتغلت به ،و كان أنسها بمناجاته ،
و إيثارها لطاعته ،و إقبالها على الخلوة به .
لكنها لما خلت من هذا تشاغلت بالدنيا و ذاك دنيا مثلها .
فإذا خلت بخدمة ال تعالى لم تجد لها طعما ،و كان جمع الناس أحب إليها ،و زيارة الخلق لها آثر
عندما و هذه علمة الخذلن .
ل على ال سبحانه مشغولً بطاعته ،كان أصعب الشياء عنده لقاء
و على ضد هذا متى كان العالم مقب ً
الخلق و محادثتهم ،و أحب الشياء إليه الخلوة .
و كان عنده شغل من القدح في النظراء ،أو عن طلب الرياسة .
فإن ما علق به همته من الخرة أعلى من ذلك .
و النفس ل بد لها مما تشاغل به .فمن إشتغل لخدمة الخلق أعرض عن الحق ،فإنما يربي رياسته .
و ذلك يوجب العراض عن الحق ،و ما جعل ال لرجل من قلبين في جوفه .
قد جاء في الثر :اللهم أرنا الشياء كما هي ،و هذا كلم حسن غاية و أكثر الناس ل يرون الشياء
بعينها ،فإنها يرون الفاني كأنه باق ،و ل يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه و إن علما ذلك .
إل أن عين الحس مشغولة بالنظر إلى الحاضر .
ترى زوال اللذة و بقاء إثمها ،و لو رأى اللص قطع يده هان عنده المسروق .فمن جمع الموال و لم
ينفقها فما رآها بعينها ،إذ هي آلة لتحصيل العراض ،ل تراد لذاتها .
و من رأى المعصية بعيني الشهوة فما رآها إذ فيها من العيوب ما شئت ،ثم ثمرتها عقوبة آجلة ،و
فضيحة عاجلة .
و انظر إلى أكبر شهوات الحس ،و هو الوطء ،فإنه الماء ل يحصل إل بعد مطعم و مشرب .
و من تفكر في المطعم نظر إلى حرث الرض ،و أنها تفتقر إلى بقر للحراثة عليهن المحراث ،و هو
حديد و معه خشب و يتعلق به حبال .
فمن تفكر في عمل الحبال نظر في زرع القنب ،و تسريحه و فتله ،و الحديد و جلبه و ضربه ،و
الخشب و نباته و نجارته ،و دوران الدولب و عمله ،ثم إستحصاد الزرع و حصده ،و تذريته و طحنه ،
و عجنه و خبزه ،و من عمل التنور و جلب الشوك .
و من هذا الجنس إذا نظر فيه كثر جدا حتى قالوا ل تنال لقمة إل وقد عمل فيها ثلثمائة نفس أو نحوهم
.
فإذا أكل تلك اللقمة فليفكر في خلق النسان لقطعها ،و الضراس لطحنها ،و عذوبة ماء الفم لخلطها ،
و اللسان ليقلبها ،و عضلت الفم يصعد منها شيء و يبقي شيء حتى يصلح البلع .
ثم يتناولها المعي فيوصلها إلى الكبد فيقوم طابخا لها ،فإذا صارت دما نفت رسوبها إلى الطحال ،و
مائتيها إلى المثانة ،و استخلصت من أخلص الدم و أصفاه للكبد و الدماغ و القلب .
و أخذت أجود ذلك فحدرته إل الثنيين معدا لخلق آدمي .
فإذا تحركت نيران الشهوة تدفقت تلك النطفة ،و قد حكم الشرع بطهارتها ،و حكم لها بطهارة الرحم و
المحل الذي يباشره الذكر ،فيخلق منها الدمي الموحد .
فما جاء هذا لشخص إل بأعلى الغلء ،و بعد عجائب أشرنا إليها ،لننا عددناها .
أفمن فهم هذا يحسن منه أن يبدد تلك النطفة في حرام ،أو أن يطأ في محل نجس فتضيع ؟
فكم يتعلق بالزنا من ل يفي معشار عشرها بلذة لحظة ،منها هتك العرض بين الناس ،و كشف
العورات كالمحرمة ،و خيانة الخ المسلم في زوجته ،إن كانت متزوجة ،و فضيحة المزني بها و هي
كأخت له أو بنت .
فإن علقت منه و لها زوج ألحقته بذلك الزوج ،و كان هذا الزاني سببا في ميراث من ل يستحق ،و
منع من يستحق .
ثم يتسلسل ذلك من ولد إلى ولد .
و أما سخط الحق سبحانه فمعلوم قال تعالى :ول تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيل .
و قال صلى ال عليه و سلم :ما من ذنب ـ بعد الشرك ـ أعظم عند ال تعالى من نطفة وضعها رجل
في رحم ل تحل له .
و من له فهو يعلم أن المراد من النطفة إيجاد الموحدين .
و لول تركيب الشهوة لم يقع الوطء ،لنه إلتقاء عضوين غير مستحسنين و ل صورتهما حسنة و ل
ريحهما طيب .
و إنما الشهوة تغطي عين الناظر ليحصل الولد أصل ،فهي عارض .
فمن طلب الشهوة و نسي جنايته بالزنا فما رأى الشياء على ما هي .
و قس على هذا المطعم و المشرب و جمع المال و غير ذلك .
إن قال قائل :أي فائدة في خلق ما يؤذي ؟ فالجواب أنه قد ثبتت حكمة الخالق ،فإذ خفيت في بعض
المور وجب التسليم .
ثم إن المستحسنات في الجملة أنموذج ما أعد من الثواب .و المؤذيات أنموذج ما أعد من العقاب .
و ما خلق شيء يضر إل و فيه منفعة .
قيل لبعض الطباء :إن فلنا يقول :أنا كالعقرب أضر ل أنفع .
فقال :ما أقل علمه .إنها لتنفع إذا شق بطنها ثم شد على موضع اللسعة .
و قد تجعل في جوف فخار مسدود الرأس مطبق الجوانب ،ثم يوضع الفخار في تنور فإذا صارت رمادا
سقى من ذلك الرماد مقدار نصف دانق أو أكثر من به الحصاة فيفتها من غير أن يضر بشيء من سائر
العضاء .
ل مفلوجا فزال عنه الفالج .
و قد تلسع العقرب من به حمى عتيقة فتزول .و لسعت رج ً
و قد تلقى في الدهن حتى يجتذب قواها ،فيزيل ذلك الدهن الورام الغليظة ،و مثل هذا كثير .
فالجاهل عدو لما جهله ،و أكبر الحماقة رد الجاهل على العالم .
كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق فشاهدت عظمته و لطفه و رفعته ،تاهت في محبته ،فخرجت
عن حد الثبوت .
و قد كان خلق من الناس غلبت عليهم محبته ،فلم يقدروا على مخالطة الخلق .
و منهم من لم يقدر على السكوت عن الذكر .
و فيهم من لم ينم إل غلبة ،و فيهم من هام في البراري ،و فيهم من إحتراق في بدنه .
فيا حسن مخمورهم ما ألذ سكره ،و يا عيش قلقهم ما أحسن وجده ! ! . . .
كان أبو عبيدة الخواص قد غلبه الوجد فكان يمشي في السواق يقول [ :وا شوقاه إلى من يراني و ل
أراه ] .
و كان فتح بن سخرف يقول :قد طال شوقي إليك ،فعجل قدومي عليك .
و كان قيس بن الربيع كأنه مخمور من غير شراب .
و كان ابن عقيل يقول إن التبذل فيه سبحانه أحسن من التجمل في غيره .
هل رأيت قط عراة أحسن من المحرمين ؟
هل رأيت للمتزينين برياش الدنيا سمتا كأثواب الصالحين ؟
هل رأيت خمارا أحسن من نعاس المتهجدين ؟
هل رأيت سكرا أحسن من صعق الواجدين ؟
هل شاهدت ماء صافيا أصفى من دموع المتأسفين ؟
هل رأيت رؤوسا مائلة كرؤوس المنكسرين ؟
هل لصق بالرض شيء أحسن من جباه المصلين ؟
هل حرك نسيم السحار أوراق الشجار فبلغ مبلغ تحريكه أذيال المتهجدين ؟
هل ارتفعت أكف و إنبسطت أيد فضاهت أكف الراغبين ؟
هل حرك القلوب صوت ترجيع لحن أو رنة و تر كما حرك حنين المشتاقين ؟
و إنما يحسن التبذل في تحصيل أو في الغراض .
فلذلك حسن التبذل في خدمة المنعم .
أكثرهم ل يعرف الدين و ل يتأدب بآدابه [ بمرة يتفق له قلة العقل في أصل الوضع ،ثم ذلك القليل ل
يعاون ،بل يعان عليه ،و ذاك أن الجارحة إذا دام تعطلها عن عملها الذي هيئت له تعطلت و خمدت ،و
لهذا تنقص أبصار النساخ و الرفائين و تحتد أبصار أهل البوادي ،لنه ل صاد لبصارهم ] .
و شغل العقل التفكر ،و النظر في عواقب كالحوال ،و الستدلل بالشاهد على الغائب ،و هم يمتلئون
من الطعام دائما ،و ذلك يؤذي العقل .
ثم يطلبون النوم ،فإذا انتبهوا شربوا المسكر ،فاتقق للعقل و تغطية ،فساء التدبير .
من المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما ل تحتمله قلوبهم ،أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده .
مثاله أن قوما قد رسخ في قلوبهم التشبيه ،و أن ذات الخالق سبحانه ملصقة للعرش ،و هي بقدر
العرش ،و يفضل من العرش أربعة أصابع .
و سمعوا مثل هذا من أشياخهم ،و ثبت عندهم أنه إذا نزل و انتقل إلى السماء الدنيا فخلت منه ست
سموات .
فإذا دعى أحدهم إلى التنزيه و قيل له ليس كما خطر لك ،إنما ينبغي أن تمر الحاديث كما جاءت من
غير مساكنة ما توهمته ،صعب هذا عليه لوجهين :
أحدهما :لغلبة الحس عليه ،و الحس على العوام أغلب .
و الثاني :لما قد سمعه من ذلك من الشياخ الذين كانوا أجهل منه .
فالمخاطب لهذا مخاطر بنفسه ،و لقد بلغني عن بعض من كان يتدين ممن قد رسخ في قلبه التشبيه أنه
سمع من بعض العلماء شيئا من التنزيه ،فقال :و ال لو قدرت عليه لقتلته .
فال ال أن تحدث مخلوقا من العوام بما ل يحتمله دون إحتيال و تلطف ،فإنه ل يزول ما في نفسه ،و
يخاطر المحدث له بنفسه .
فكذلك كل ما يتعلق بالصول .
ل يغرك من الرجل طنطنته و ما تراه يفعل من صلة و صوم و صدقة و عزلة عن الخلق .
إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين :حفظ الحدود ،و إخلص العمل .
فكم قد رأينا متعبدا يحرق الحدود بالغيبة ،و فعل ما ل يجوز مما يوافق هواه ! و كم قد اعتبرنا على
صاحب دين أنه يقصد بفعله غير ال تعالى .
و هذه الفة تزيد و تنقص في الخلق .
فالجل كل الرجل هو الذي يراعي حدود ال ،و هي ما فرض عليه و ألزم به .
و الذي يحسن القصد ،فيكون عمله و قوله خالصا ل تعالى ،ل يريد به الخلق و ل تعظيمهم له .
فرب خاشع ليقال ناسك ،و صامت ليقال خائف ،و تارك للدنيا ليقال زاهد .
و علمة المخلص أن يكون في جلوته كخلوته ،و ربما تكلف بين الناس التبسم و النبساط لينمحي عنه
إسم زاهد .
فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار ،فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية .
و اعلم أن المعمول معه ل يريد الشركاء ،فالمخلص مفرد له بالقصد ،و المرائي قد أشرك ليحصل له
مدح الناس .
و ذلك ينقلب ،لن قلوبهم بيد من أشرك معه ،فهو يقلبها عليه ل إليه .
فالموفق من كانت معاملته باطنة و أعماله خالصة .
و ذاك الذي تحبه الناس و إن لم يبالهم ،كما يمقتون المرائي و إن زاد تعبده .
ثم إن الرجل الموصوف بهذه الخصال ل يتناهى عن كمال العلوم و ل يقصر عن طلب الفضائل .
فمل الزمان أكثر ما يسعه من الخير ،و قلبه ل يفتر عن العمل القلبي إلى أن يصير شغله بالحق
سبحانه و تعالى .
رأيت خلقا يفرطون في أديانهم ثم يقولون :إحملونا إذا متنا إلى مقبرة أحمد .
أتراهم ما سمعوا أن رسول ال صلى ال عليه و سلم إمتنع من الصلة على من عليه دين و على الغال
و قال :ما ينفعه صلتي عليه .
و لقد رأيت أقواما من العلماء حملهم حب الصيت على أن إستخرجوا إذنا من السلطان ،فدفنوا في دكة
أحمد بن حنبل ،و هم يعلمون أن هناك خلقا رفات بعضهم على بعض .
و ما فيهم إل من يعلم أنه ما يستحق القرب من مثل ذلك .
فأين إحتقار النفوس ؟ أما سمعوا أن عمر بن عبد العزيز ،قيل له :تدفن في الحجرة ؟ فقال :لن ألقى
ال بكل ذنب ما خل الشرك أحب إلي من أرى نفسي أهلً لذلك .
لكن العادات ،و حب الرياسة غلبت على هؤلء ،فبقي العلم يجري على اللسن عادة ل للعمل به .
ثم آل المر إلى جماعة خالطوا السلطين و باشروا الظلم ،يزاحمون على الدفن بمقبرة أحمد و يوصون
بذلك .
فليتهم أوصوا بالدفن في موضع فارغ ،إنما يدفنون على موتي .
و يخرج عظام أولئك فيحشون على ما ألقوا من الظلم حتى في موتهم ،و ينسون أنهم كانوا من أعوان
الظلمة .
أترى ما علموا أن مساعد الظالم ظالم ،و في الحديث :كفي بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة .
قال السجان لحمد بن حنبل :هل أنا من أعوان الظلمة ؟ فقال [ :ل ،أنت من الظلمة ،إنما أعوان
الظلمة من أعانك في أمره ] .
رأيت الناس يذمون الحاسد و يبالغون و يقولون :ل يحسد إل شرير يعادي نعمة ال ،و ل يرضى
بقضائه ،و يبخل على أخيه المسلم .
فنظرت في هذا فما رأيته كما يقولون ،و ذاك أن النسان ل يحب أن يرتفع عليه أحد ،فإذا رأى صديقه
قد عل عليه تأثر هو و لم يحب أن يرتفع عليه ،و ود لو لم ينل صديقه ما ينال ،أو أن ينال هو ما نال
ذاك لئل يرتفع عليه و هذا معجون في الطين ،و ل لوم على ذلك .
إنما اللوم أن يعمل بمقتضاه من قول أو فعل .و كنت أظن أن هذا قد وقع لي عن سري و فحصي ،
فرأيت الحديث عن الحسن البصري قد سبقني إليه .
قال :أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد ،قال :أخبرنا ابن النقود ،قال :أخبرنا المخلص ،قال :حدثنا
البغوي ،قال :حدثنا أبو روح ،قال :حدثنا مخلد بن الحسين ،عن هشام عن الحسن ،قال [ :ليس من
ولد آدم إل و قد خلق معه الحسد . ] ! ! . . .
فمن لم يجاوز ذلك بقول و ل بفعل لم يتبعه شيء ! !
ينبغي الحتراز من كل ما يجوز أن يكون ،و ل ينبغي أن يقال :الغالب السلمة .
قد رأينا من نزل مع الخيل في سفينة فاضطربت ،فغرق من في السفينة و إن كان الغالب في هذه
الحالة السلمة .
و كذا ينبغي أن يقدر النسان في نفقته و إن رأى الدنيا مقبلة ،لجواز أن تنقطع تلك الدنيا .
و حاجة النفس ل بد من قضائها ،فإذا بذر وقت السعة فجاء وقت الضيق لم يأمن أن يدخل في مداخل
سوء ،و أن يتعرض بالطلب من الناس .
و كذلك ينبغي للمعافى أن يعد للمرض ،و للقوي أن يتهيأ للهرم .
و في الجملة فالنظر في العواقب و فيما يجوز أن يقع شأن العقلء .
فأما النظر في الحالة الراهنة فحسب ،فحالة الجهلة الحمقى ،مثل أن يرى نفسه معافى و ينسى
المرض ،أو غنيا و ينسى الفقر ،أو لذة عاجلة و ينسى ما تجني عواقبها و ليس للعقل شغل إل النظر في
العواقب ،و هو يشير بالصواب من أين يقبل ؟ . .
يبين إيمان المؤمن عند البتلء ،فهو يبالغ في الدعاء و ل يرى أثرا للجابة ،و ل يتغير أمله و
رجاؤه و لو قويت أسباب اليأس ،لعلمه أن الحق أعلم بالمصالح .
أو لن المراد منه الصبر أو اليمان ،فإنه لم يحكم عليه بذلك إل و هو يريد من القلب التسليم لينظر
كيف صبره أو يريد كثرة اللجأ و الدعاء .
فأما من يريد تعجيل الجاية و يتذمر إن لم تتعجل ،فذاك ضعيف اليمان ،يرى أن له حقا في الجابة ،
كأنه يتقاضى أجرة عمله .
أما سمعت قصة يعقوب عليه السلم :بقي ثمانين سنة في البلء و رجاؤه ل يتغير ،فلما ضم إلى فقد
يوسف بنيامين لم يتغير أمله و قال [ :عسى ال أن يأتيني بهم جميعا ] .
و قد كشف هذا المعنى قوله تعالى :أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم
مستهم البأساء و الضراء و زلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر ال أل إن نصر ال
قريب .
و معلوم أن هذا ل يصدر من الرسول و المؤمنين إل بعد طول البلء و قرب اليأس من الفرج .
و من هذا قول رسول ال صلى ال عليه و سلم :ل يزال العبد بخير ما لم يستعجل ،قيل له :و ما
يستعجل ؟ قال :يقول :دعوت فلم يستجب لي .
فإياك إياك أن تستطيل زمان البلء ،و تضجر من كثرة الدعاء ،فإنك مبتلى بالبلء ،متعبد بالصبر و
الدعاء ،و ل تيأس من روح ال و إن طال البلء .
من وقف على موجب الحس هلك .و من تبع العقل سلم ،لن مجرد الحس ل يرى إل الحاضر و هو
الدنيا .و أما العقل فإنه ينظر إلى المخلوقات ،فيعلم وجود خالق منح و أباح ،و أطلق و حظر .و أخبر
:أني سائلكم و مبتليكم ليظهر دليل وجودي عندكم بترك ما تشتهون طاعة لي .
و إني قد بنيت لكم دارا غير هذه ،لثابة من يطيع ،و عقوبة من يخالف .
ثم لو ترك الحس و ما يشتهي مع أغراضه قرب المر ،إنما يزني فيجلد ،و يشرب الخمر فيعاقب ،و
يسرق فيقطع ،و يفعل زلة فيفضح بين الخلق .
و يعرض عن العلم إلى البطالة فيقع الندم عند حصول الجهل .
ثم إنا نرى الكثير ممن عمل بمقتضى عقله ،قد سلمت دنياه و آخرته ،و ميز بين الخلق بالتعظيم ،و
كان عيشه في لذات غالبا خيرا من عيش موافق لهوى .
فليعتبر ذو الفهم بما قلت ،و ليعمل بمقتضى الدليل و قد سلم .
العجب لمؤثر شهوات الدنيا .أل يتدبر أمرها بالعقل قبل أن يصير إلى منقولت الشرع ؟
إن أعظم لذات الحس الوطء ،فالمرأة المستحسنة إنما يكون حال كمالها من وقت بلوغها إلى الثلثين ،
فإذا بلغتها أثر فيها .
و ربما إبيضت شعرات من رأسها فينفر النسان منها .و قد يقع الملل قبل ذلك ،و طول الصحبة
يكشف العيوب .
و ما عيب نساء الدنيا بأبلغ من قوله :و لهم فيها أزواج مطهرة .
فلو تفكر النسان في جسد مملوء بالنجاسة ما طاب له ضمه ،غير أن الشهوة تغطي عين الفكر .
فالعاقل من حفظ دينه و مروءته بترك الحرام ،و حفظ قوته في الحلل فأنفقها في طلب الفضائل ،من
علن أو عمل .
و لم يسع في إفناء عمره و تشتيت قلبه في شيء ل تحسن عاقبته :
إن مت شوقا و ل فيها لها ثمن ما في هوادجكم من مهجتي عوض
و عموم من رأينا من الكبار غلبت عليهم شهوة الوطء فإنهدمت أعمارهم ،و رحلوا سريعا .
و قد رأينا من العقلء من زجر نفسه عن هذه المحنة ،و لم يستعملها إل وقت الحاجة ،فبقى لهم
سواد شعورهم و قوتهم ،حتى تمتعوا بها في الحياة و حصلوا المناقب ،و عرفت منهم النفوس قوة
العزيمة ،فلم تطالبهم بما يؤذي .
قد أشكل على الناس رؤية النبي صلى ال عليه و سلم و قوله :من رآني في المنام فقد رآني .فقال :
ظاهر الحديث أنه يراه حقيقة .
و في الناس من يراه شيخا و شابا و مريضا و معافى .
فالجواب أنه من ظن أن جسد رسول ال صلى ال عليه و سلم المودع في المدينة خرج من القبر ،و
حضر في المكان الذي رآه فيه ،فهذا جهل ل جهل يشبهه .
فقد يراه في وقت واحد ألف شخص ،في ألف مكان ،على صور مختلفة .
فكيف يتصور هذا في شخص واحد ؟ و إنما الذي يرى مثاله ل شخصه .
فيبقى من رآني فقد رآني معناه :قد رأى مثالي الذي يعرفه الصواب ،و تحصل به الفائدة المطلوبة .
فإن قيل :فما تقولون في رؤية الحق سبحانه ؟ .
ل ،و المثال ل يفتقر إلى المساواة و المشابهة ،كما قال تعالى :أنزل من
فنقول :يرى مثا ًل ل مث ً
السماء ماء فسالت أودية بقدرها .
فضربه مثالً للقرآن و انتفاع الخلق به .
و يوضح هذا أنه إنما يرى من رأى الحق سبحانه و تعالى على هيئة مخصوصة ،و الحق سبحانه و
تعالى منزه ،قد توحد ،فوضح ما قلنا .
فينبغي للنسان أن يقتصر من القراءات إذا حفظ القرآن على العشر .
و من الحديث على الصحاح ،و السنن و المسانيد المصنفة .فإن علوم الحديث قد انبسطت زائدة في
الحد و ما في هذا الجزاء و إنما الطرق تختلف .
و علم الحديث يتعلق بعضه ببعض ،و هو مشتهى ،و الفقهاء يسمونه علم الكسالى ،لنهم يتشاغلون
بكتابته و سماعه ،و ل يكادون يعانون حفظه ،و يفوتهم المهم و هو الفقه .
و قد كان المحدثون قديما هم الفقهاء ،ثم صار الفقهاء ل يعرفون الحديث ،و المحدثون ل يعرفون
الفقه .
فمن كان ذا همة و نصح نفسه تشاغل بالمهم من كل علم ،و جعل جل شغله الفقه ،فهو أعظم العلوم
و أهمها .
ل عن رسول ال
و قد قال أبو زرعة :كتب إلي أبو ثور :فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية و تسعون رج ً
صلى ال عليه و سلم ،و الذي صح منه طرق يسيرة .
فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم .
و لو إتسع العمر إستيفاء كل الطرق في كل الحاديث غاية في الجودة ،و لكن العمر قصير .
و لما تشاغل بالطرق مثل يحي بن معين فاته من الفقه كثير ،حتى أنه سئل عن الحائض أيجوز أن
تغسل الموتى! فلم يعلم ،حتى جاء أبو ثور فقال :يجوز ،لن عائشة رضي ال عنها قالت [ :كنت أرجل
رأس رسول ال صلى ال عليه و سلم و أنا حائض ] .
فيحي أعلم بالحديث منه ،و لكن لم يتشاغل بفهمه .
فأنا أنهي أهل الحديث أن تشغلهم ككثرة الطرق .
و من أقبح الشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ قد كتب الحديث ستين سنة فل يعرف حكم ال عز
وجل فيها .
و كذلك أنهي من يتشاغل بالتزهد و النقطاع عن الناس أن يعرض عن العلم ،بل ينبغي أن يجعل لنفسه
منه حظا ليعلم إن زل كيف يتخلص .
معرفة ال سبحانه ل تحصل إل لكامل العقل ،صحيح المزاج ،و الترقي إلى محبته بذلك يكون .
و إن أقواما قلت عقولهم ،و فسدت أمزجتهم ،فساءت مطاعمهم ،و قلت ،فتخايلت لهم الخيالت
الفاسدة ،فإدعوا معرفة الحق و محبته ،و لم يكن عندهم من العلم ما يصدهم عما ادعوا فهلكوا .
و ليعلم أن في المأكولت ما يسبب إفساد العقل و فيها ما يزيد في السوداء فيوجب المالخوليا ،فترى
صاحبها يحب الخلوة ،و يهرب من الناس ،و قد يقلل المطعم ،فيقوى مرضه فيتخايل خيالت يظنها حقا
.
فمنهم من يقول :إني رأيت الملئكة ،و فيهم من يخرجه المر إلى دعوى محبة الحق و الولد فيه ،و
ل يكون ذلك عن أصل معتمد عليه .
و إنما العاقل العالم يسير في الطريق بين الرفيقين :العلم و العقل .
فإن تقلل من الطعام فبعقل ،وحد التقلل ترك فضول المطعم و ما يخاف شره من شهبة أو شهوة يحذر
تعودا .
و أما زيادة التقلل مع القدرة فليس لعقل و ل شرع ،إل أن يكون الفقر عم ،فيتقلل ضرورة .
و من تأمل حال رسول ال صلى ال عليه و سلم و أصحابه ،و جدهم يأخذون بمقدار و ل يتركون
حظوظ النفس التي تصلحها .
و ما أحسن المر و أعدله قول رسول ال صلى ال عليه و سلم :ثلث طعام ،و ثلث شراب ،و ثلث
نفس .
و قد قال لعلي بن أبي طالب رضي ال عنه و هو مريض :أصب من هذا الطعام فهو أوفق لك من هذا
.
و كان صلى ال عليه و سلم يشاور الطباء ،و يحتجم ،و يحث على التداوي و يقول :ما أنزل ال
داء إل و أنزل له شفاء فتداووا .
فجاء أقوام جهلوا العلم و الحكمة في بنيان البدان .
فمنهم من أقام في الجبال يأكل البلوط ،فأصابه القولنج ،و منهم من قلل المطعم إلى أن ضعفت قواه ،
و منهم من اقتصر على نبات الصحراء ،و منهم من كان ل يقوت إل الباقلء و الشعير .فأوجبت هذه
الفعال أمراضا في البدن ،و ترقت إلى إفساد العقل .
و إتفق لهم قلة العلم ،إذ لو علموا لفهموا أن الحكمة تنهي عن مثل هذا ،فإن البدن مبني على أخلط
إذا اعتدلت وقعت السلمة ،و إذا زاد بعضها وقع المرض .
و أكثر هؤلء مرضوا و تعجل لهم الموت ،و فيهم من خرج إلى التسودن ،و فيهم من لحت له
لوائح ،فإدعى رؤية الملئكة إلى غير ذلك .
فأما أهل العلم و العقل فهربهم من الخلق لخوف المعاصي و رؤية المنكر .
و فيهم من قويت معرفته فشغلته معرفة الحق و محبته على ملقاة الخلق .
فهذه هي الخلوات الصافية ،لنها تصدر عن علم و عقل فتحفظ البدن ،لنه ناقة توصل .
و ل ينبغي أن يتهاون بالمأكولت ،خصوصا من لم يعتد التقشف ،و ل يلبس الصوف على البدن من
لم يعتده .
و لينظر في طريق رسول ال صلى ال عليه و سلم و صحابته ،فإنهم القدوة .و ل يلتفت إلى بنيات
الطريق ،فيقال :فلن الزاهد قد أكل الطين .و فلن كان يمشي حافيا ،و فلن بقي شهرا ما أكل .
فإن المحققين من هؤلء المخلصين ل تعالى على غير الجادة لن الجادة إتباع رسول ال صلى ال
عليه و سلم و أصحابه و ما كانوا يفعلون .
و هذا لعمري أنه قد كان فيهم من يقنع بالمذقة من اللبن ،و يصبر اليام عن الطعام .و لكن إما
لضرورة ،أو لنه معتاد لذلك كما يعتاد البدوي شرب اللبن وحده و ل يؤذيه ذلك .
و في الحديث :عودوا كل بدن ما إعتاد و في المتزهدين من أخرج ماله كله عن يده زهدا ،و معلوم
أن الحاجات ل تنقضي ،فلما إحتاج تعرض للطلب ،و إفتقر إلى أخذ مال من يد من يعلم أنه ظالم و بذل
وجهه .
و قد كانت الصحابة تنجر و تحفظ المال ،و جهال المتزهدين يرون جمع المال ينافي الزهد .
فمخضة هذا الفصل أن أقول :ينبغي لمن رزق فهما أن يسعى في صلح بدنه و ل يحمل عليه ما يؤذيه
،و ل يناوله من القوت ما ل يوافقه ،و ل يضيع ماله ،و ليجتهد في إشتثماره لئل يحتاج ،فإنه ما نافق
زاهد إل لهل الدنيا .
و لينظر في سير الكاملين من السلف .و ليتشاغل بالعلم ،فإنه الدليل .فحينئذ يحمله المر على الخلوة
بربه ،و الشتغال بحبه ،فيكون ما ظهر منه ثمرة نضجة ل فجة ،و ال الموفق .
ما رأيت أظرف من لعب الدنيا بالعقول ،و قد سمعنا و رأينا جماعة من الفطناء الكاملي العقل لعبت بهم
الدنيا حتى صاروا كالمجانين .فولوا الوليات فخرجوا إلى القتل و الضرب و الحبس و الشتم و ذهاب
الدين ،و المباشرة للظلم كله لجل دنيا تذهب سريعا .
و هي في مدة إقامتها معجونة بالنغص .
فيا أيها المرزوق عقلً ل تبخسه حقه ،و ل تطفئ نوره ،و اسمع ما نشير به ،و ل تلتفت إلى بكاء
طفل الطبع لفوات غرضه .
فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه ،و لم يمكنك تأديبه ،فيبلغ جاهلً فقيرا :
ير و لو شكا ألم التعب ل تسه عن أدب الصغ
كبر الكبير عن الدب و دع الكبير لشأنه
و اعلم أن زمان البتلء ضيف قراه الصبر ،كما قال أحمد بن حنبل [ :إنما هو طعام دون طعام و
لباس دون لباس ،و أنها أيام قلئل ،فل تنظر إلى لذة المترفين ،و تلمح عواقبهم ،و ل تضق صدرا
بضيق المعاش ،و علل الناقة بالحدو تسير :
و ما طل النوم ضن الجفن أم سمحا طاول بها الليل مال النجم أم جنحا
ضوء الصباح و عدها بالرواح ضحى فإن تشكت فعللها المجرة من
و قد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل هدية فردها ،ثم قال بعد سنة لولده [ :لو كنا قبلناها كانت قد
ذهبت ] .
و مر بشر على بئر ،فقال له صاحبه :أنا عطشان ،فقال :البئر الخرى ،فمر عليها فقال له :
الخرى ،ثم قال :كذا تقطع الدنيا .
و دخلوا إلى بشر الحافي و ليس في داره حصير ،فقيل له :أل بذا تؤذى ؟ فقال :هذا أمر ينقضي .
و كان لداود الطائي دار يأوي إليها ،فوقع سقف ،فانتقل إلى سقف ،إلى أن مات في الدهليز .
فهؤلء الذين نظروا في عواقب المور ،و بعد هذا فل أطالبك بهذه الرتبة ،بل أقول لك :إن حصل لك
شيء من المباح ل من فيه و ل أذى و ل نلته بسؤال و ل من يد ظالم تعلم أن ماله حرام أو فيه شبهة ،
فإفسح لنفسك في مباحاتها بمقدار ما تحتاج إليه ،و كن مقدرا للنفقة غير مبذر .
فإن الحلل ل يحتمل السرف ،و متى أسرفت إحتجت إلى التعرض للخلق .و التناول من الكدار .
و إن ضاق بك أمر فأصبر ،فإن ضعف الصبر فسل فاتح البواب .فهو الكريم و عنده مفاتح الغيب .
و إياك أن تبذل دينك بتصنع للخلق أو يتقرب إلى المراء و تستعطي أموالهم .
و أذكر طريق السلف :كان ابن سمعون له ثياب يجلس فيها للناس ثم يطويها إلى المجلس الخر ورثها
عن أبيه بقيت أربعين سنة .
و كانت ميمونة بنت شاقولة تعظ الناس و لها ثياب قد بقيت أربعين سنة .
و من صفا نظره و تهذب لفظه نفع وعظه ،و من كدر كدر عليه .
و الحالة العالية في هذا إقبال القلب على ال عز وجل ،و التوكل عليه ،و النظر إليه ،و إلتفات القلب
عن الخلق .
فإن إحتجت فإسأله ،و إن ضعفت فإرغب إليه .
و متى ساكنت السباب إنقطعت عنه ،و متى إستقام باطنك إستقامت لك المور .
•فصل :فلينظر أحدكم من يخالل
رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء ،فبحثت بالتجارب عنهم ،فإذا أكثرهم حساد على النعم ،و
أعداء ل يسترون زلة ،و ل يعرفون لجليس حقا ،و ل يواسون من مالهم صديقا .
فتأملت المر ،فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئا يأنس به ،فهو يكدر عليه
الدنيا و أهلها ليكون أنسه به .
ينبغي أن يعد الخلق كلهم معارف ،ليس فيهم صديق ،بل تحسبهم أعداء .
و ل تظهر سرك لمخلوق منهم ،و ل تعدن من يصلح لشدة ل ولدا و ل أخا و ل صديقا .
بل عاملهم بالظاهر ،و ل تخالطهم إل حالة الضرورة بالتوقي لحظة .
ثم أنفر عنهم ،و أقبل على شأنك ،متوكلً على خالقك .
فإنه ل يجلب الخير سواه ،و ل يصرف السوء إل إياه .
فليكن جليسك و أنيسك ،و موضع توكلك و شكواك .
فإن ضعف بصرك فإستغث به ،و إن قل يقينك فسله القوة .
و إياك أن تميل إلى غيره ،فإنه غيور ،و أن تشكو من أقداره ،فربما غضب و لم يعتب .
أوحى ال عز وجل إلى يوسف عليه السلم [ :من خلصك من الجب ؟ من فعل ؟ من فعل ؟ قال :أنت ]
.
قال :فلم ذكرت غيري ؟ فلطيلن حسبك ،أو كما قال .
هذا و إنما تعرض يوسف عليه السلم بسبب مباح اذكرني عند ربك و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم .
و ما أعرف العيش إل لمن يعرفه و يعيش معه ،و يتأدب بين يديه في حركاته و كلماته كأنه يراه .
و يقف على باب طرفه حارسا من نظرة ل تصلح ،و على باب لسانه حافظا له من كلمة ل تحسن ،و
على باب قلبه حماية لمسكنه من دخول الغيار .
و يستوحش من الخلق شغلً به ،و هذا يكون على سيرة الروحانيين .
فأما المخلط فالكدر غالب عليه ،و المحق ل يطلب إل الرفع .
قال القائل :
و ل البرق إل أن يكون يمانيا أل ل أحب السير إل مصاعدا
رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته و مقصوده .
فالقارىء مشغول بالروايات ،عاكف على الشواذ ،يرى أن المقصود نفس التلوة ،و ل يتلمح عظمة
المتكلم ،و ل زجر القرآن و وعده .
و ربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه . .فتراه يترخص فبالذنوب ،و لو فهم لعلم أن الحجة عليه أقوى
ممن لم يقرأ .
و المحدث يجمع الطرق ،و يحفظ السانيد ،و ل يتأمل مقصود المنقول ،و يرى أنه قد حفظ على
الناس الحاديث ،فهو يرجوا بذلك السلمة .
و ربما ترخص في الخطايا ظنا منه أن ما فعل في الشريعة يدفع عنه .
الفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال الذي يقوي به خصامه ،و المسائل التي قد عرف فيها
المذهب قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره ،و يمحو ذنبه .
ربما هجم على الخطايا ظنا منه أن ذلك يدفع عنه .
و ربما لم يحفظ القرآن و لم يعرف الحديث ،و أنهما ينهيان عن الفواحش بزجر و رفق .
و ينضاف إليه مع الجهل بهما حب الرياسة ،و إيثار الغلبة في الجدل ،فتزيد قسوة قلبه .
و على هذا أكثر الناس ،صور العلم عندهم صناعة ،فهي تكسبهم الكبر و الحماقة .
و قد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة ،أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر
عليه ،و بارز ال به .
و كانت حالة تعطي بمضمونها أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه و ل يبقى له اثر .
و كان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة ،فل يرى عنده أثر لخوف و ل ندم على ذنب .
قال :فتغير في آخر عمره و لزمه الفقر ،فكان يلقي الشدائد و ل ينتهي عن قبح حاله .
إلى أن جمعت له يوما قراريط على وجه الكدية فاستحى من ذلك و قال :يارب إلى هذا الحد ؟
قال الحاكي :فتعجبت من غفلته كيف نسي ال عز وجل ،و أراد منه حسن التدبير له و الصيانة و
سعة الرزق ،و كأنه ما سمع قوله تعالى :و ألو استقاموا على الطريقة لسقيناهم ماء غدقا و ل علم أن
المعاصي تسد أبواب الرزق ،و أن من ضيع أمر ال ضيعه ال .
فلما رأيت علما ما أفاد كعلم هذا ،لن العالم إذا زل انكسر ،و هذا مصر ل تؤلمه معصيته و كأن يجوز
له ما يفعل ،أو كأن له التصرف في الدين تحليلً و تحريما .
ل ،و مات على أقبح حال .
فمرض عاج ً
قال الحاكي :و رأيت شيخا آخر حصل صور علم ،فما أفادته .
كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه ،و أي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالعتراض على المقدر و
اللوم .
فعاش أكدر عيش ،و على أقبح اعتقاد حتى درج .
و هؤلء لم يفهموا معنى العلم ،و ليس العلم صور اللفاظ ،إنما المقصود فهم المراد منه ،و ذاك
يورث الخشية و الخوف ،و يرى المنة للمنعم بالعلم ،و قوة الحجة له على المتعلم .
نسأل ال عز وجل يقظة تفهمنا المقصود ،و تعرفنا المعبود .
و نعوذ بال من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء ،ل ينهاهم ما يحملون ،و يعلمون و ل يعلمون ،و
يتكبرون على الناس بما ل يعلمون .
و يأخذون عرض الدنى و قد نهوا عما يأخذون .
غلبتهم طباعهم ،و ما راضتهم علومهم ،التي يدرسون .
فهم أحسن حالً من العوام الذين يجهلون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الخرة هم غافلون
.
و علي للفقيه أن يطالع من كل فن طرفا من تاريخ و حديث و لغة و غير ذلك ،فإن الفقه يحتاج إلى
جميع العلوم ،فليأخذ من كل شيء منها مهما و لقد رأيت بعض الفقهاء يقول كان إجتمع الشبلي ،وشريك
القاضي ،فاستعجبت له كيف ل يدري بعد ما بينهما .
و قال آخر في مناظره :كانت الزوجية بين فاطمة و علي رضي ال عنه غير منقطعة الحكم ،فلهذا
غسلها .
فقلت له :و يحك فقد تزوج أمامه بنت زينب ،و هي بنت أختها فإنقطع.
و رأيت في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي من هذا ما يدهش من التخليط في الحاديث و التواريخ ،
فجمعت من أغاليطه في كتاب .
و قد ذكر في كتاب له سماه المستظهري و عرضه على المستظهر بال ،أن سليمان بن عبد الملك بعث
إلى أبي حازم فقال له :ابعث لي من فطورك ،فبعث إليه نخالة مقلوة فأفطر عليها ،ثم جامع زوجته
فجاءت بعبد العزيز ،ثم و لد له عمر .و هذا تخليط قبيح ،فإنه جعل عمر بن عبد العزيز ابن سليمان بن
عبد الملك فجعل سليمان جده ،و إنما هو ابن عمه .
و قد ذكر أبو المعالي الجويني في أواخر كتاب الشامل في الصول قال :قد ذكرت طائفة من الثقاب
المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلج ،و الجبائي القرمطي ،و ابن المقفع تواصوا على قلب الدول و
إفساد المملكة و استعطاف القلوب ،و ارتاد كل منهم قطرا ،فقطن الجباري في الحساء ،و توغل ابن
المقفع في أطراف بلد الترك ،و قطن الحلج ببغداد ،فحكم عليه صاحباه بالهلكة و القصور عن بلوغ
المنية لبعد أهل بغداد عن النخداع ،و توفر فطنتهم ،و صدق فراستهم .
قلت :و لو أن هذا الرجل أو من حكى عنه عرف التاريخ لعلم أن الحلج لم يدرك ابن المقفع ،فإن ابن
المقفع أمر بقتله المنصور ،فقتل في سنة أربع و أربعين و مائة .
و أبو سعيد الجبائي القرمطي ظهر في سنة ست و ثمانين و مائتين .
و الحلج قتل سنة تسع و ثلثمائة .
فزمان القرمطي و الحلج متقاربان ،فأما ابن المقفع فكل .
فينبغي لكل ذي علم أن يلم بباقي العلوم ،فيطالع منها طرفا ،إذ لكل علم بعلم تعلق .
و أقبح بمحدث يسأل عن حادثة فل يدري ،و قد شغله منها جمع طرق الحاديث .
و قبيح بالفقه أن يقال له :ما معنى قول رسول ال صلى ال عليه و سلم كذا ،فل يدري صحة الحديث
و ل معناه .نسأل ال عز وجل همة عالية ل ترضى بالنقائض بمنه و لطفه .
كانت همم القدماء من العلماء عالية ،تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم .
إل أن أكثر تصانيفهم دثرت ،لن همم الطلب ضعفت ،فصاروا يطلبون المختصرات و ل ينشطون
للمطولت .
ثم إقتصروا على ما يدرسون به من بعضها ،فدثرت الكتب و لم تنسخ .
فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الطلع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات ،فليكثر من
المطالعة ،فإنه يرى من علوم القوم و علو هممهم ما يشحذ خاطره و يحرك عزيمته للجد ،و ما يخلو
كتاب من فائدة .
و أعوذ بال من سير هؤلء الذين نعاشرهم ،ل نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي ،و ل
صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد .
فال ال و عليكم بملحظة سير السلف ،و مطالعة تصانيفهم ،و أخبارهم ،فالستكثار من مطالعة
كتبهم رؤية لهم ،كما قال :
فلعلي أرى الديار بسمعي فاتني أن أرى الديار بطرفي
و إني أخبر عن حالي ،ما أشبع من مطالعة الكتب ،و إذا رأيت كتابا لم أره ،فكأني وقعت على كنز .
و لقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية ،فإذا به يحتوي على نحو ستة آلف
مجلد ،و في ثبت كتب أبي حنيفة ،و كتب الحميدي ،و كتب شيخنا عبد الوهاب و ابن ناصر و كتب أبي
محمد بن الخشاب و كانت أحمال ،و غير ذلك من كل كتاب أقدر عليه .
و لو قلت أني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر و أنا بعد في الطلب .
فاستفدت بالنظر فيها من ملحظة سير القوم ،و قدر هممهم ،و حفظهم ،و عباداتهم ،و غرائب
علومهم ،ما ل يعرفه من لم يطالع .
فصرت أستزري ما الناس فيه و أحتقر همم الطلب و ال الحمد .
ليس للدمي أعز من نفسه ،و قد عجبت ممن يخاطر بها و يعرضها للهلك .
و السبب في ذلك :قلة العقل ،و سوء النظر فمنهم من يعرضها للتلف ليمدح بزعمه ،مثل قوم
يخرجون إلى قتل السبع ،و منهم من يصعد إلى إيوان كسرى ،ليقال شاطر ،و ساع يمشي ثلثين فرسخا
،و هؤلء إذا تلفوا حملوا إلى النار .
فأن هلك ذهبت النفس التي يراد المال لجلها .
و أعجب من الكل من يخاطر بنفسه في الهلك و ل يدري ،مثل أن يغضب فيقتل المسلم فيشفي غيظه
بالتعذيب في جهنم .
و أظرف من هذا اليهود و النصارى ،فإن أحدهم يبلغ فيجب عليه أن ينظر في نبوة نبينا صلى ال عليه
و سلم ،فإذا فرط فمات فله الخلود في جهنم .و لقد قلت لبعضهم :و يحك تخاطر بنفسك في عذاب البد ،
نحن نؤمن بنبيكم فنقول :لو أن مسلما آمن بنبينا و كذب بنبيكم أو بالتوراة خلد في النار ،فما بيننا
ل و قال .هل قمتم
وبينكم خلف ،إذ نحن مؤمنون بصدقه و كتابه ،فل لقيناه لم نحجل و لو عاتبنا مث ً
بسبت بالسبت ،و السبت من الفروع و الفروع ل يعاقب عليها بالخلود .
فقال لي رئيس القوم :ما نطالبكم بهذا ،لن السبت إنما يلزم بني إسرائيل .
فقلت :فقد سلمنا بإجماعكم و أنتم هالكون ،لنكم تخاطرون بأرواحكم في العذاب الدائم .
و العجب بمن يهمل النظر فيما إذا توانى فيه أوجب الخلود في العقاب الدائم .
و أعجب من الكل جاحد الخالق ،و هو يرى إحكام الصنعة ،و يقول :ل صانع .
و السبب في هذه الشياء كلها قلة العقل ،و ترك إعماله في النظر و الستدلل.
ل ينبغي للعاقل أن يظهر سرا حتى يعلم أنه إذا ظهر ل يتأذى بظهوره .
و معلوم أن السبب في بث السر طلب الستراحة ببثه ،و ذلك ألم قريب فليصبر عليه .
فرب مظهر سرا لزوجته ،فإذا طلقت بثته ،و هلك .
أو لصديقه فيظهره عليه حسدا له إذا كان مماثلً ،و إن كان عاميا فالعامي أحمق .و رب سر أظهر
فكان سبب الهلك .
ما يتناهى في طلب العلم إل عاشق العلم .و العاشق ينبغي أن يصبر على المكاره .
و من ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب ،و مذ فقد التفقد لهم من المراء و من الخوان لزمهم
الفقر ضرورة .
و الفضائل تنادي هنالك ابتلي المؤمنون و زلزلوا زلزالً شديدا .
فكلما خافت من ابتلء قالت :
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا ل تحسب المجد تمرا أنت آكله
و لما آثر أحمد بن حنبل رضي ال عنه طلب العلم و كان فقيرا ،أبقي أربعين سنة يتشاغل به و ل
يتزوج ،فينبغي للفقير أن يصابر فقره كما فعل أحمد .
و من يطيق ما أطاق ؟ فقد رد من المال خمسين ألفا و كان يأكل الكامخ و يتأدم بالملح .
فما شاع له الذكر الجميل جزافا ،و ل ترددت القدام إلى قبره إل لمعنى عجيب .
فيا له ثناء مل الفاق ،و جما ًل زين الوجود ،و عزا نسخ كل ذل .
هذا في العاجل ،و ثواب الجل ل يوصف .
و تلمح قبور أكثر العلماء ل تعرف و ل تزار .ترخصوا و تأولوا و خالطوا السلطين ،فذهبت بركة
العلم ،و محى الجاه ،و وردوا عند الموت حياض الندم .
فيا لها حسرات ل تتلفى ،و خسرانا ل ينجبر ،و كانت صحبة اللذات طرفة عين ،و لزم السف دائما
.
فالصبر الصبر أيها الطالب للفضائل ،فإن لذة الراحة بالهوى أو بالبطالة تذهب و يبقى السى ،و قال
الشافعي رضي ال تعالى عنه :
كأن مدتها أضغاث أحلم يا نفس ما هو إل صبر أيام
و خل عنها فإن العيش قدامي يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة
ثم أيها العالم الفقير ،أيسرك ملك سلطان من السلطين ،و أن ما تعلمه من العلم ل تعلمه ؟
كل ،ما أظن بالمتيقظ أن يؤثر هذا .
ثم أنت إذا وقع لك مستحسن ،أو معنى عجيب ،تجد لذة ل يجدها ملتذ باللذات الحسية .
فقد حرم من رزق الشهوات ما قد رزقت ،و قد شاركتهم في قوام العيش ،و لم يبق إل الفضول الذي
إذا أخذ لم يكد يضر .
ثم هم على المخاطرة في باب الخرة غالبا ،و أنت على السلمة في الغلب .
فتلمح يا أخي عواقب الحوال ،و اقمع الكسل المثبط عن الفضائل .
فإن كثير من العلماء الذين ماتوا مفرطين يتقلبون في حسرات و أسف .
رأى رجل شيخنا ابن الزغواني في المنام ،فقال له الشيخ :أكثر ما عندكم الغفلة ،و أكثر ما عندنا
الندامة .
فأهرب وفقك ال قبل الحبس ،و فسخ عقد الهوى على الغبن الفاحش .
و اعلم أن الفضائل ل تنال بالهوينا ،و أن يسير التفريط يشين وجه المحاسن .
فالبدار البدار و نفس النفس يتردد ،و ملك الموت غائب ما قدم بعد ،و انهض بعزيمة عازم .
و نكب عن ذكر العاقب جانبا إذا هم ألقى بين عينيه عزمة
و لم يرض إل قائم السيف صاحبا و لم يستشر في أمره غير نفسه
و ارفض في هذه العزيمة الدنيا و أربابها ،فبارك ال لهل الدنيا في دنياهم ،فنحن الغنياء ،و هم
الفقراء .
كما قال إبراهيم بن أدهم [ :و لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ] .
فأبناء الدنيا أحدهم ل يكاد يأكل لقمة إل حراما أو شبهة .
و هو و إن لم يؤثر فوكيله يفعله ،و ل يبالي هو بقلة دين وكيله .
وإن عمروا دارا سخروا الفعلة ،و إن جمعوا مالً فمن وجوه ل تصلح .ثم كل منهم خائف أن يقتل أو
يعزل أو يشتم ،فعيبهم نقص .
و نحن نأكل ما ظاهر الشرع يشهد له بالباحة ،و ل نخاف من عدو ،و ل وليتنا تقبل العزل .
و العز في الدنيا لنا ل لهم ،و إقبال الخلق ،علينا ،و تقبيل أيدينا و تعظيمنا عندهم كثير .
و في الخرة بيننا و بينهم تفاوت إن شاء ال تعالى .
فإن لفت أرباب الدنيا أعناقهم يعلمون قدر مزيتنا .
و إن غلت أيديهم عن إعطائنا فلذة العفاف أطيب ،و مرارة المنن ل تفي بالمأخوذ ،و إنما هو طعام
دون طعام ،و لباس دون لباس ،و إنها أيام قلئل .
و العجب لمن شرقت نفسه حتى طلب العلم إذ ل يطلبه إل ذو نفس شريفة ،كيف بذل لبذل من ل عزة
إل بالددنانير ،و ل مفخرة له إل بالمكنة ،و لقد أنشدني أبو يعلى العلوي :
عرر قد صيروا غررا رب قوم في خلئقهم
سترى ـ إن زال ـ ما سترا ستر المال القبيح لهم
أيقظنا ال من رقدة الغافلين ،و رزقنا فكر المتيقظين .
و وفقنا للعمل بمقتضى العلم و العقل ،إنه قريب مجيب .
ل ينبغي للنسان أن يحمل على بدنه ما ل يطيق ،فإن البدن كالراحلة إن لم يرفق لها لم تصل بالراكب
.
فترى في الناس من يتزهد و قد ربى جسده على الترف ،فيعرض عما ألفه ،فتتجدد له المراض ،
فتقطعه عن كثير من العبادات .
و قد قيل [ :عودوا كل بدن ما إعتاد ] .و قد قرب إلى رسول ال صلى ال عليه و سلم ضب فقال :
أجدني أعافه ،لنه ليس بأرض قومي .
و في حديث الهجرة :أن أبا بكر رضي ال عنه طلب لرسول ال صلى ال عليه و سلم الظل ،و فرش
له فروة و صب على القدح الذي فيه اللبن ماء حتى برد .
جاء رسول ال صلى ال عليه و سلم على قوم فقال :إن كان عندكم ماء بات في شن و إل كرعنا .
و كان صلى ال عليه و سلم يأكل لحم الدجاج .و في الصحيح :أنه كان يحب الحلوى و العسل ،و
كان إذا لم يقدر أكل ما حضر .
و لعمري إن في العرب و أهل السواد من ل يؤثر عنده التخشن في المطعم و الملبس ،و ذاك إذا جرى
بعد نوبته على عادته لم يستضر .
فأما من قد ألف اللطف ،فإنه إذا غير حالته تغير بدنه ،و قلت عبادته .
و قد كان الحسن يديم أكل اللحم و يقول [ :ل رغيفي مالك ،و ل صحني فرقد ] .
و كان ابن سيرين ل يخلي منزله من حلوى .
و كان سفيان الثوري يسافر و في سفرته الحمل المشوي ،و الفالوذج .
و قالت :رابعة [ :ما أرى لبدن يراد به العمل ل إذا أكل الفالوذج عيبا ] .
فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمنكنه .
و قد عرفت هذا من نفسي ،فإني ربيت في ترف فلما إبتدأت في التقلل و هجر المشتهي ،أثر معي
مرضا قطعني عن كثير من التعبد .
حتى أني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن ،فتتاولت يوما ما ل يصلح ،فلم أقدر في ذلك
اليوم على قراءتها.
فقلت :إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء بكل حرف عشر حسنات ،إن تناولها
لطاعة عظيمة .
و إن مطعما يؤذي البدن فيفوته فعل خير ،ينبغي أن يهجر .
و قد رأى رسول ال صلى ال عليه و سلم رجلً من أصحابه حضر عنده و قد تغير من التقشف فقال له
:من أمرك بهذا ؟ .
فالعاقل يعطى بدنه من الغذاء ما يوافقه عن ما ينقي الغازي شعير الدابة .
و ل تظنن أني آمر بأكل الشهوات ،ول بالكثار من الملذوذ ،إنما آمر بتناول ما يحفظ النفس ،و
أنهيع ما يؤذي البدن .
فأما التوسع في المطاعم ،فإنه سبب النوم و الشبع يعمي القلب ،و يهزل البدن و يضعفه .
فإفهم ما أشرت أليه ،فالطريق هي الوسطى .
الدمي موضوع على مطلوبات تشتت الهم ،العين تطلب المنظور ،و اللسان يطلب الكلم ،و البطن
يطلب المأكول ،و الفرج المنكوح ،و الطبع يحب جمع المال .
و قد أمرنا بجمع الهم لذكر الخرة ،و الهوى يشتته .
فكيف إذا اجتمعت إليه حاجات لزمة من طلب قوت البدن و قوت العيال .
و هذا يبكر إلى دكانه و يتفكر في التحصيل ،و يستعمل مالة الفهم في نيل ما ل بد منه .
فأي هم يجتمع منه خصوصا إن أخذه الشره في صورة فيمضي العمر ،فينهض من الدكان إلى القبر .
فكيف يحصل العلم أو العمل أو إخلص القصد أو طلب الفضائل .
فمن رزق يقظه ،فينبغي أن يصابر لنيل الفضائل .
فإن كان متزهدا بغير عائلة اكتفى بسعي قليل ،فقد كان السبتي يعمل يوم السبت فيكتفي به طول
السبوع .
فإن كان له مال باضع به من يكفيه بدينه ،و ثقته من أن يهتم هو .
و إن كان له عائلة جمع همه في نية الكسب عليهم فيكون متعبدا .
أو أن يكون قنية تنال كعقار ناصفه في نفقته ليكفيه دخله .
و ليقلل الهم على مقدار ما يمكنه من حذف العلئق جهده ليجمع الهم في ذكر الخرة .
فإن لم يفعل أخذ في غفلته و ندم في حفرته .
و أقبح الحوال حال عالم فقيه كلما جمع همه لذكر الخرة شتته طلب القوت للعائلة .
و ربما إحتاج إلى التعرض للظلمة و أخذ الشبهات و بذل الوجه ،فيلزم هذا التقدير في النفقة .
و إذا حصل له شيء من وجه دبر فيه .
و ل ينبغي أن يحمله قصر المل على إخراج ما في يده ،فقد قال صلى ال عليه و سلم :لن تترك و
رثتك أغنياء خير من أن تتركها عالة يتكففون الناس
و أذل من كل ذل التعرض للبخلء و المراء .
فليدبر أمره ،و يقلل العلئق ،يحفظ جاهه .فاليام قلئل .
و قد بعث إلى أحمد بن حنبل فسأله ابنه قبوله فقال [ :يا صالح صنى ،ثم قال :أستخير ال ،فأصبح
فقال :يا بني قد عزم لي أل أقبله ] .
هذا و كان العطاء هنيا ،و جاءه من وجوه .فانعكس المر اليوم .
من سار مع العقل ،و خالف طريق الهوى ،و نظر إلى العواقب ،أمكنه أن يتمتع من الدنيا و الذكر
الجميل ،و يكون ذلك سببا لفوات مراده من اللذات .
و بيان هذا من وجهين :
أحدهما :إن مال إلى شهوات النكاح ،و أكثر منها قل إلتذاذه و فنيت حرارته ،و كان ذلك سببا في
عدم مطلوبه منها .
و من إستعمل ذلك بمقدار ما يجيزه العقل ،و يحتمله ،كان إلتذاذه أكثر ،لبعد ما بين الجماعين ،و
أمكنه التردد لبقاء الحرارة .
و كذلك من غش في معاملته أو خان ،فإنه ل يعامل فيفوته ربح المعاملة الدائمة لخيانته مرة .
و لو عرف بالثقة دامت معاملة الناس له فزاد ربحه .
الثاني :أنه من إتقى ال ،و تشاغل بالعلم ،أو تحقيق الزهد فتح له من المباحات ما يلتز به كثيرا .
و من تعاقد به الكسل عن العلم أو الهوى عن تحقيق الزهد لم يحصل له إل اليسير من مراده .
قال عز وجل :و ألو استقاموا على الطريقة لسقيناهم ماء غدقا .
نظرت في حكمة المطعم و المشرب و الملبس و المنكح ،فرأيت أن الدمي لما خلق من أصول تتحلل ،
و هي الماء ،و التراب ،و الهواء .و بقاؤه إنما يكون بالحارة و الرطوبة [ و الحرارة تحلل الرطوبة
دائما ] فلم يكن له بد من شيء يخلف ما بطل .
و لما كان اللحم ل ينوب عنه إل اللحم ،أباح الشرع ذبح الحيوان ،ليتقوى به من هو أشرف منه .
و لما كان بدنه يحتاج إلى كسوة ،و له قدرة تمييز ،و قدرة يصنع بها ما يقيه الذى من القطن و
الصوف ،لم يجعل على جلده ما يقيه خلقه ،بخلف الحيوان البهيم ،فإنه لما لم يكن له قدرة على ما
يغطى جلده ،عوضه بالريش و الشعر و الوبر .
و لما لم يكن بد من فناء الدمي و الحيوان ،هيج شهوة الجماع لتخلف النسل .
فمقتضى العقل الذي حرك على طلب هذه المصالح أن يكون التناول للمطعم و المشرب مقدار الحاجة و
المصلحة ،ليقع اللتذاذ بالعافية .
و من البلية طلب اللتذاذ بالمطعم و إن كان غير صالح و الشره في تناوله ،و كذلك الكسوة و النكاح .
العجب ممن له مسكة من عقل ،أو عنده قليل من دين ،كيف يؤثر مخالطتهم .
فإنه بالمخالطة لهم أو العمل معهم يكون قطعا خائفا من عزل أو قتل أو سم ،و ل يمكنه أن يعمل إل
بمقتضى أوامرهم .
فإن أمروا بما ل يجوز لم يقدر أن يراجع ،فقد باع قطعا بدنياه فمنعه بالخوف من القيام بأمر ال و
ضاعت عليه آخرته .
و لم يبق بيده إل عاجل التعظيم و أن يقال بين يديه [ بسم ال ] و أن ينفذ أوامره .
و ذلك بعيد من السلمة في باب الدين و ما يلتذ به منه في الدنيا ممزوج بخوف العزل و القتل .
من الغلط العظيم أن يتكلم في حق معزول بما ل يصلح ،فإنه ل يؤمن أن يلي فينتقم .
و في الجملة ل ينبغي أن يظهر العداوة لحد أصلً ،فقد يرفع المحتقر ،و قد يتمكن من ل يعد .بل
ينبغي أن يكتم ما في النفوس من ضغن على العداء .
فأن أمكن النتقام منهم كان العفو انتقاما لنه يذلهم .
و ينبغي أن يحسن إلى كل أحد ،خصوصا من يجوز أن يكون له ولية ،و أن يخدم المعزول ،فربما
نفع في وليته .
ل إستأذن على قاضي القضاة ابن أبي داؤد و قال :قولوا له :أبو جعفر بالباب .
و قد روينا أن رج ً
فلما سمع هش لذلك و قال :ائذنوا له .
فدخل ،فقام ،و تلقاه و أكرمه و أعطاه خمسة آلف ،و ودعه .
فقيل له :رجل من العوام فعلت به هذا ؟
قال :إني كنت فقيرا ،و كان هذا صديقا ،فجئته يوما فقلت له :أنا جائع .
فقال :اجلس ،و خرج ،فجاء بشواء و حلوى و خبز فقال :كل .
فقلت :كل معي .قال :ل قلت :و ال ل آكل حتى تأكل معي ،فأكل فجعل الدم يجري من فمه .
فقلت :ما هذا فقال :مرض .
فقلت :و ال ل بد أن تخبرني .
فقال :إنك لما جئتني لم أكن أملك شيئا .
و كانت أسناني مضببة بشريط من ذهب ،فنزعنه و اشتريت به .
فهل أكافئ مثل هذا ؟
و على عكس هذه الشياء كان ابن الزيات وزير الواثق ،و كان يضع من المتوكل ،فلما ولي عذبه
بأنواع العذاب .
و كذلك ابن الجزري كان ل يوقر المسترشد قبل الولية ،فجرت عليه الفات لما ولي .فالعاقل من تأمل
العواقب و رعاها .
و صور كل ما يجوز أن يقع فعمل بمقتضى الحزم .
ل ،لنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض .
و أبلغ من هذا تصوير وجود الموت عاج ً
فالحازم من إستعد له و عمل عمل من ل يندم إذا جاءه .
و حذر من الذنوب فإنها كعدو مراصد بالجزاء .
و إدخر لنفسه صالح العمال ،فإنها كصديق صديق ينفع وقت الشدة .
و أبلغ من كل شيء أن يعلم المؤمن أنه كلما زاد عمله في الفضائل علت مرتبته في الجنة ،و إن نقص
نقصت .
فهو و أن دخل الجنة في نقص بالضافة إلى كمال غيره ،غير أنه قد رضي به و ل يشعر بذلك .
فرحم ال من تلمح العواقب ،و عمل بمقتضى التلمح ،و ال تعالى الموفق .
لما جمعت كتابي المسمى بالمنتظم في تاريخ الملوك و المم ،إطلعت على سير الخلق من الملوك و
الوزراء و العلماء و الدباء و الفقهاء و المحدثين و الزهاد و غيرهم ،فرأيت الدنيا قد تلعبت بالكثرين
تلعبا أذهب أديانهم ،حتى كانوا ل يؤمنون بالعقاب .
فمن المراء من يقتل و يصادر ،و يقطع و يحبس ،بغير حق ،ثم ينخرط في سلك المعاصي ،كأن
المر إليه ،أو قد جاءه المن من العقاب .
فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني ،و ينسي أنه قد قيل لرسول ال صلى ال عليه و سلم :قل
إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .
و قد انخرط جماعة ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي ،لتحصيل أغراضهم العاجلة فما نفعهم العلم .
و رأينا خلقا من المتزهدين خالفوا لنيل أغراضهم ،و هذا لن الدنيا فخ و الناس كعصافير ،و العصفور
يريد الحبة و ينسى الخنق .
ل إلى عاجل لذاتهم ،فأقبلوا يسامرون الهوى و ل يلتفتون إلى مشاورة
قد نسي أكثر الخلق مآلهم مي ً
العقل .
فلقد باعوا بلدة يسيرة خيرا كثيرا ،و إستحقوا بشهوات مرذولة عذابا عظيما .
فإذا نزل بأحدهم الموت قال :ليتني لم أكن ،ليتني كنت ترابا ،فيقال له :الن ؟
فوا أسفي لفائت ل يمكن استدراكه ،و لمرتهن ل يصح فكاكه ،و لندم ل ينقطع زمانه ،و لمعذب عز
عليه إيمانه بال .
ما نفعت العقول إل لمن يلتفت إليها و يعول عليها .
و ل يمكن قبول مشاورها إل بعزيمة الصبر عما يشتهي .
فتأمل في المراء عمر بن الخطاب و ابن عبد العزيز رضي ال عنهما ،و في العلماء أحمد بن حنبل
رحمة ال عليه ،و في الزهاد أويس القرني .
لقد أعطوا الجد حقه و فهموا مقصود الوجود .
و ما هلك الهالكون إل لقلة الصبر عن المشتهى .
و ربما كان فيهم من ل يؤمن بالبعث و العقاب .
و ليس العجب من ذاك ،إنما العجب من مؤمن يوقن ،و ل ينفعه يقينه ،و يعقل العواقب و ل ينفعه
عقله .
من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها ،كما قال الشاعر :
تعبت في مرادها الجسام و إذا كانت النفوس كبارا
و قال الخر :
و بلء جسمي من تفاوت همتي و لكل جسم في النحول بلية
و بيان هذا أن من علت همته طلب العلوم كلها ،و لم يقتصر على بعضها ،و طلب من كل علم
نهايته ،و هذا ل يحتمله البدن .
ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل و صيام النهار ،و الجمع بين ذلك و بين العلم صعب .
ثم يرى ترك الدنيا و يحتاج إلى ما ل بد منه .
و يحب اليثار و ل يقدر على البخل ،و يتقاضاه الكرم البذل ،و يمنعه عز النفس عن الكسب من وجوه
التبذل .
فإن هو جرى على طبعه من الكرم ،احتاج و افتقر و تأثر بدنه و عائلته .و إن أمسك فطبعه يأبى ذلك
.
و في الجملة يحتاج إلى معاناة و جمع بين أضداد ،فهو أبدا في نصب ل ينقضي ،و تعب ل يفرغ .
ثم إذا حقق الخلص في العمال زاد تعبه ،و قوى وصبه ،فأين هو و من دنت همته؟ إن كان فقيها
فسئل عن حديث قال :ما أعرفه ،و إن كان محدثا عن مسألة فقيهة قال :ما أدري ،و ل يبالي إن قيل
عنه مقصر .
و العالي الهمة يرى التقصير في بعض العلوم فضيحة ،قد كشفت عيبه ،قد أرت الناس عورته .
و القصير الهمة ل يبالي بمنن الناس ،و ل يستقبح سؤالهم ،و ل يأنف من رد ،و العالي الهمة ل
يحمل ذلك .
و لكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى ،و راحة القصير الهمة تعب و شين إن كان ثم فهم .
و الدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي ،فينبغي لذي الهمة أل يقصر في شوطه .
فإن سبق فهو المقصود ،و إن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم .
المصيبة العظمى رضى النسان عن نفسه و اقتناعه بعلمه ،و هذه محنة قد عمت أكثر الخلق .
فترى اليهودي أو النصراني يرى أنه على الصواب ،و ل يبحث و ل ينظر في دليل نبوة نبينا صلى ال
عليه و سلم .
و إذا سمع ما يلين قلبه مثل القرآن المعجز هرب لئل يسمع .
و كذلك كل ذي هوى يثبت عليه ،إما لنه مذهب أبيه و أهله ،أو لنه نظر نظرا أول فرآه صوابا ،و
لم ينظر فيما يناقضه ،و لم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه .
و من هذا حال الخوارج على أمير المؤمنين علي رضي ال تعالى عنه ،فإنهم إستحسنوا ما وقع لهم و
لم يرجعوا إلى من يعلم .
و لما لقيهم عبد ال بن عباس رضي ال عنهما فبين لهم خطأهم رجع عن مذهبه منهم ألفان .
و ممن لم يرجع عن هواه ابن ملحم ،فرأى مذهبه هو الحق فإستحل قتل أمير المؤمنين رضي ال
تعالى عنه ،و رآه دينا حتى أنه لما قطعت أعضاؤه لم يمانع .
فلما طلب لسانه ليقطع إنزعج و قال :كيف أبقى ساعة في الدنيا ل أذكر ال .
و مثل هذا ما له دواء .
و كذلك كان الحجاج يقول [ :و ال ما أرجو الخير إل بعد الموت ] .
هذا قوله و كم قتل من ل يحل قتله ،منهم سعيد بن جبير .
و قد أخبرنا عبد الوهاب و ابن ناصر الحافظ قال :أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال :أخبرنا الحسين
بن محمد النصيبي قال :أخبرنا إسماعيل بن سعيد :قال :حدثنا أبو بكر بن النباري قال :حدثنا أبو
عيسى الختلي قال :حدثنا أبو يعلى قال :حدثنا الصمعي قال :حدثنا أبو عاصم ،عن عباد بن كثير ،عن
قحدم ،قال :وجد في سجن الحجاج ثلثة و ثلثون ألفا ،ما يجب على واحد منهم قطع و ل قتل و ل
صلب .
قلت :و عموم السلطين يقتلون و يقطعون ظنا منهم جواز ذلك ،و لو سألوا العلماء يبنوا لهم .
و عموم العوام يبارزون بالذنوب اعتمادا على العفو و ينسون العقاب .
و منهم من يعتمد أني من أهل السنة ،أو أن لي حسنات قد تنفع ،و كل هذا لقوة الجهل .
فينبغي للنسان أن يبالغ في معرفة الدليل و ل يساكن شبهته ،و ل يثق بعلم نفسه .نسأل ال السلمة
من جميع الفات . ! . . .
تفكرت في نفسي يوما تفكر محقق ،فحاسبتها قبل أن تحاسب ،و وزنتها قبل أن توزن ،فرأيت اللطف
الرباني فمنذ الطفولة و إلى الن أرى لطفا بعد لطف ،و سترا على قبيح ،و عفوا عما يوجب عقوبة .
و ما أرى لذلك سكرا إل باللسان .
و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعا .
و لو كشف للناس بعضها لستحييت .
و ل يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ،حتى يظن في ما يظن في الفساق .
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ،و وقعت بتأويلت فاسدة .
فصرت إذ دعوت أقول :اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي .
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي .
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و ل أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ،و ل بشكر على نعمة .
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ،و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به .
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ،فذهب العمر و ما حصل المقصود .
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما تحت فأعجبتني نياحته ،فكتبتها ههنا .
قال لنفسه :يا رعناء تقومين اللفاظ ليقال مناظر .و ثمرة هذا أن يقال :يا مناظر .
كما يقال للمصارع الفاره .
ضيعت أعز الشياء و أنفسها عند العقلء ،و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غدا اسم
مناظر .
ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب .
هذا إن تأخر المر إلى موتك ،بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار السم له .
و العقلء عن ال تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ،و هو العمل بالعلم ،و النظر الخالص لنفوسهم
.
أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ،و ما عبق بها فضيلة .
إن نوظرت شمخت ،و إن نوصحت تعجرفت ،و إن لحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ،و سقطت
عليها الغراب على الجيف .
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوبا تبلي و ل تحتشم نظر الحق إليها .
و إن إنكسر لها غرض تضجرت ،فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
أف و ال مني اليوم على وجه الرض و غدا تحتها .
و ال إن نتن جسدي بعد ثلث تحت التراب أقل من نتن خلئقي و أنا
بين الصحاب .
و ال إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ،و يجمعني و أنا أتشتت .
و غدا يقال :مات الحبر العالم الصالح ،و لو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
و ال لنادين على نفسي نداء المكشفين معائب العداء .
و لنوحن نوح الثاكلين للبناء إذ ل نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ،و الخلل المغطاة
التي قد سترها من خبرها ،و غطاها من علمها .
و ال ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلً بها :اللهم اغفر لي كذا بكذا .
و ال ما ألتفت قط إل وجدت منه سبحانه برا يكفيني ،و وقاية تحميني ،مع تسلط العداء .
و ل عرضت حاجة فمددت يدي إل قضاها .هذا فعله معي ،و هو رب غني عني ،و هذا فعلي و أنا
عبد فقير إليه .
و ل عذر لي فأقول :ما دريت أو سهوت .
و ال لقد خلقني خلقا صحيحا سليما ،و نور قلبي بالفطنة ،حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف
لفهمي .
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما ل يطابق الرضى .
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء .يا حسرتي على ما فرطت في جنب ال ،و شماتة العدو بي .
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
وا خذلني عند إقامة الحجة ،سخر و ال مني الشيطان و أنا الفطن .
اللهم توبة خالصة من هذه القذار ،و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الكدار .
و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع .
و أبى العلم إل أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ،و ليس لي وسيلة إل التأسف و الندم .
فو ال ما عصيتك جاهلً بمقادر نعمك ،و ل ناسيا لما أسلفت من كرمك ،فاغفر لي سالف فعلي .
تفكرت في نفسي يوما تفكر محقق ،فحاسبتها قبل أن تحاسب ،و وزنتها قبل أن توزن ،فرأيت اللطف
الرباني فمنذ الطفولة و إلى الن أرى لطفا بعد لطف ،و سترا على قبيح ،و عفوا عما يوجب عقوبة .
و ما أرى لذلك سكرا إل باللسان .
و لقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعا .
و لو كشف للناس بعضها لستحييت .
و ل يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ،حتى يظن في ما يظن في الفساق .
بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ،و وقعت بتأويلت فاسدة .
فصرت إذ دعوت أقول :اللهم بحمدك و سترك علي إغفر لي .
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي .
ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي و ل أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ،و ل بشكر على نعمة .
فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ،و كوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به .
و قد كنت أرجو مقامات الكبار ،فذهب العمر و ما حصل المقصود .
فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما تحت فأعجبتني نياحته ،فكتبتها ههنا .
قال لنفسه :يا رعناء تقومين اللفاظ ليقال مناظر .و ثمرة هذا أن يقال :يا مناظر .
كما يقال للمصارع الفاره .
ضيعت أعز الشياء و أنفسها عند العقلء ،و هي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غدا اسم
مناظر .
ثم ينسى الذاكر و المذكور إذا درست القلوب .
هذا إن تأخر المر إلى موتك ،بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له و صار السم له .
و العقلء عن ال تشاغلوا بما ـ إذا انطووا ـ نشرهم ،و هو العمل بالعلم ،و النظر الخالص لنفوسهم
.
أف لنفسي و قد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم ،و ما عبق بها فضيلة .
إن نوظرت شمخت ،و إن نوصحت تعجرفت ،و إن لحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ،و سقطت
عليها الغراب على الجيف .
فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.
توفر في المخالطة عيوبا تبلي و ل تحتشم نظر الحق إليها .
و إن إنكسر لها غرض تضجرت ،فإن أمدت لك بالنعم اشتغلت عن المنعم .
أف و ال مني اليوم على وجه الرض و غدا تحتها .
و ال إن نتن جسدي بعد ثلث تحت التراب أقل من نتن خلئقي و أنا
بين الصحاب .
و ال إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني كيف يسترني و أنا أتهتك ،و يجمعني و أنا أتشتت .
و غدا يقال :مات الحبر العالم الصالح ،و لو عرفوني حتى معرفتي بنفسي ما دفنوني .
و ال لنادين على نفسي نداء المكشفين معائب العداء .
و لنوحن نوح الثاكلين للبناء إذ ل نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المتكومة ،و الخلل المغطاة
التي قد سترها من خبرها ،و غطاها من علمها .
و ال ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلً بها :اللهم اغفر لي كذا بكذا .
و ال ما ألتفت قط إل وجدت منه سبحانه برا يكفيني ،و وقاية تحميني ،مع تسلط العداء .
و ل عرضت حاجة فمددت يدي إل قضاها .هذا فعله معي ،و هو رب غني عني ،و هذا فعلي و أنا
عبد فقير إليه .
و ل عذر لي فأقول :ما دريت أو سهوت .
و ال لقد خلقني خلقا صحيحا سليما ،و نور قلبي بالفطنة ،حتى أن الغائبات و المكتومات تنكشف
لفهمي .
فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما ل يطابق الرضى .
وا حرماني لمقامات الرجال الفطناء .يا حسرتي على ما فرطت في جنب ال ،و شماتة العدو بي .
وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي .
وا خذلني عند إقامة الحجة ،سخر و ال مني الشيطان و أنا الفطن .
اللهم توبة خالصة من هذه القذار ،و نهضة صادقة لتصفية ما بقي من الكدار .
و قد جئتك بعد الخمسين و أنا من خلق المتاع .
و أبى العلم إل أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ،و ليس لي وسيلة إل التأسف و الندم .
فو ال ما عصيتك جاهلً بمقادر نعمك ،و ل ناسيا لما أسلفت من كرمك ،فاغفر لي سالف فعلي .
عداوة القارب صعبة ،و ربما دامت كحرب بكر و تغلب ابني وائل ،و عبس و ذبيان ابني بغيض ،و
الوس و الخزرج ابني قيلة .
قال الجاحظ [ :ركدت هذه الحرب أربعين عاما ] .
و السبب في هذا أن كل واحد من القارب يكره أن يفوقه قريبه ،فيقع التحاسد .
فينبغي لمن فضل على أقاربه أن يتواضع لهم ،و يرفعهم جهده ،و يرفق بهم ،لعله يسلم .
قال رجل لرسول ال صلى ال عليه و سلم :لي أقارب أصلهم فيقطعوني ؟
فقال :فكأنما تسفهم المل ،و لن يزال معك من ال ظهير ما دمت على ذلك .
رأيت كلب الصيد إذا مرت بكلب المحلة نبحتها هذه ،و بالغت و أسرعت خلفها ،و كأنها تراها
مكرمة مجللة فتحسدها على ذلك .
و رأيت كلب الصيد حينئذ ل تلتفت إليها و ل تعيرها الطرف و ل تعد نباحها شيئا ،فرأيت أن كلب
الصيد كأنها ليست من جنس تلك الكلب .
لن تلك غليظة البدن كشيفة العضاء ل أمانة لها ،و هذه لطيفة دقيقة الخلقة و معها آداب قد ناسبت
خلقتها اللطيفة .
و أنها تحبس الصيد على مالكها خوفا من عقابه ،أو مراعاة لشكر نعمته عليها .
فرأيت أن الدب و حسن العشرة يتبع لطافة البدن و صفاء الروح .
و هكذا المؤمن العاقل ل يلتفت إلى حاسده و ل يعده شيئا ،إذ هو في واد و ذاك في واد .
ذاك يحسده على الدنيا ،و هذا همته الخرة ،فيا بعد ما بين الواديين .
رأيت الناس يوم العيد فشبهت الحال بالقيامة .فإنهم لما انتبهوا من نومهم خرجوا إلى عيدهم كخروج
الموتى من قبورهم إلى حشرهم ،فمنهم من زينته الغاية و مركبه انهاية ،و منهم المتوسط ،و منهم
المرذول .و على هذا أحوال الناس يوم القيامة .
قال تعالى :يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي ركبانا و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا أي
عطاشا .
و قال عليه الصلة السلم :يحشرون ركبانا و مشاة و على وجوههم .
و من الناس من يداس في زحمة العيد ،و كذلك الظلمة يطأهم الناس بأقدامهم في القيامة .
و من الناس يوم العيد الغني المتصدق .كذلك يوم القيامة أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في
الخرة .
و منهم الفقير السائل الذي يطلب أن يعطى .كذلك يوم الجزاء أعددت شفاعتي لهل الكبار .
و منهم من ل يعطف عليه فما لنا من شافعين * و ل صديق حميم .
و العلم منشورة في العيد .كذلك أعلم المتقين في القيامة ،و البوق يضرب .
كذلك يخبر بحال العبد فيقال :يا أهل الموقف ،إن فلنا قد سعد سعادة ل شقاوة بعدها ،و إن فلنا قد
شقي شقاوة ل سعادة بعدها .
ثم يرجعون من العيد بالخواص إلى باب الحجرة يخبرون بإمتثال الوامر أولئك المقربون فيخرج التوقيع
إليهم كان سعيكم مشكورا .
و من هو دونهم يختلف حاله .فمنهم من يرجع إلى بيت عامر بما أسلفتم في اليام الخالية .
و منهم متوسط ،و منهم من يعود إلى بيت قفر فاعتبروا يا أولي البصار .
يتضمن نصيحة للعلماء و الزهاد .يا قوم قد علمتم ،أن العمال بالنيات ،و قد فهمتم قوله تعالى :أل
ل الدين الخالص و قد سمعتم عن السلف أنهم كانوا ل يعملون و ل يقولون حتى تتقدم النية و تصح .
أيذهب زمانكم يا فقهاء في الجدل و الصياح ؟ و ترفع أصواتكم عند إجتماع العوام تقصدون المغالبة .
أو ما سمعتم [ من طلب العلم ليباهي به العلماء ،أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس ،
لم يرح رائحة الجنة ] .
ثم يقدم أحدكم على الفتوى و ليس من أهلها ،و قد كان السلف يتدافعونها .
و يا معشر المتزهدين إنه يعلم السر و أخفى .أتظهرون الفقر في لباسكم و أنتم تستوفون شهوات
النفوس .
و تظهرون التخاشع و البكاء في الجلوات دون الخلوات .
كان ابن سيرين يضحك و يقهقه فإذا خل بكى أكثر الليل .
و قال سفيان لصاحبه [ :ما أوقحك تصلي و الناس يرونك ؟ ]
مضغ الكلم و ل صبغ الحواجيب أفدي ظباء فلة ما عرفن بها
آه للمرائي من يوم و حصل ما في الصدور و هي النيات .
فأفيقوا من سكركم ،و توبوا من زللكم ،و استقيموا على الجادة أن تقول نفس يا حسرتى على ما
فرطت في جنب ال .
رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة ،جارين على ما ألفوا من العادة .
و قد يخلص منهم فريقان :علماء و عباد .
فتأملت جمهور العلماء فرأيتم في تخليط ،منهم من يقتصر على علم معاملت الدنيا و يعرض عن
معاملت الخرة .
و إما لجهله بها ،أو لثقل أمرها عليه ،فهو ل يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم ،و يتبع في
الباقي العادات .
و ربما تخايل أنه يسامح في الخطايا لكونه عالما ،و قد نسي أن العلم حجة عليه .
و منهم من هو واقف مع صورة العلم ،غافل عن المقصود بالعلم ،و فيهم من يخالط السلطان ،فيتأذى
المخالط بما يرى من الذنوب و الظلم و ل يمكنه النكار .
و ربما مدح هو ،و يتأذى السلطان بصحبته فيقول :لو ل أني على صواب ما جالسني هذا .
و يتأذى العوام فيقولون :لو ل أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العلم .
و رأيت الشراف يثقون بشفاعة آبائهم ،و ينسون أن اليهود من بني إسرائيل .
و أما الفريق الثاني و هم العباد فرأيت أكثرهم في تخليط .أما الصحيحو القصد منهم فعلى غير الجادة
في أكثر عملهم ،قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتبا فيها دقائن قبيحة ،و أحاديث غير صحيحة ،و
يأمرون فيها بأشياء تخالف الشريعة .
مثل كتب الحارث المحاسب ي ،و أبي عبد ال الترمذي ،و قوت القلوب لبي طالب المكي و كتاب
الحياء لبي حامد الطوسي .
فإذا فتح المبتدئ عينه ،و هم بسلوك الطريق بهذه الكتب ،حملته إلى الخطايا ،لنهم قد بنوا على
أحاديث محالة .
و يذمون الدنيا ،و ل يدرون ما المذموم منها .
فيتصور المبتدئ ذم ذات الدنيا ،فيهرب المنقطع إلى الجبل ،و ربما فاتته الجماعة و الجمعة ،و
يقتصر على البلوط و الكمثري فيورثه القولنج .
و يقنع بعضهم بشرب اللبن فينحل الطبع ،أو يأكل الباقلء و العدس فيحدث له قراقر .
و إنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أولً بالناقة ليصل .
أل ترى للفطن من التراك يهتم بفرسه قبل تحصيل قوت نفسه .
و ربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف و المتزهدين فبتبعهم المريد فيتأذى بذلك .
و متى رددنا ذلك المنقول و بينا خطأ فاعله قال الجهال :أترد على الزهاد ؟
و إنما ينبغي اتباع الصواب و ل ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس .
فإنا نقول :قال أبو حنيفة ،ثم يخالفه الشافعي ،و إنما ينبغي أن يتبع الدليل .
قال المروذي ؟ :مدح أحمد بن حنبل النكاح ،فقلت له :قد قال إبراهيم بن أدهم ،فصاح و قال :وقعنا
في بينات الطريق ،عليك بما كان عليه رسول ال صلى ال عليه و سلم و أصحابه .
و تكلم أحمد في الحارث المحاسبي و رد على سري السقطي حين قال :لما خلق ال الحروف وقف
اللف و سجدت الباء ،فقال :نفروا الناس عنه ،فالحق ل ينبغي أن يحابى ،فإنه جد .
و إني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة ،و صار كلم المتزهدين كأنه شريعة لهم .
فيقال :قال أبو طالب المكي [ :كان من السلف من يزن قوته بكرية فينقص كل يوم ! ] .
و هذا شيء ما عرفه رسول ال صلى ال عليه و سلم و ل أصحابه و إنما كانوا يأكلون دون الشبع .
فأما الحمل على النفس بالجوع فمنهي عنه .
و يقول :قال داود الطائي لسفيان [ :إذا كنت تشرب الماء البارد متى تحب الموت ؟ و كان ماؤه في
دن ] .
و ما علم أن للنفس حظا ،و أن شرب الماء الحار يرهل المعدة و يؤذي ،و أن رسول ال صلى ال
عليه و سلم كان يبرد الماء .
و يقول آخر منهم :منذ خمسين سنة أشتهي الشواء ما صفا لي درهمه .
و يقول آخر :أشتهي أن أغمس جزرة في دبس فما صح لي .
أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن ما دخلت في شبهة ؟
و هذا ما نظر فيه رسول ال صلى ال عليه و سلم و إن كان الورع حسنا ،و لكن ل على حمل المشاق
الشديدة .
و هذا بشر الحافي يقول :ل أحدث لني أشتهي أن أحدث ،و هذا تعليل ل يصلح ،لن النسان مأمور
بالنكاح ،و هو من أكبر المشتهي .
و كان بشر حافيا حتى قيل له الحافي ،و لو ستر أمره بنعلين كان أصلح .
و الحفاء يؤذي العين ،و ليس من أمر الدنيا في شيء .فقد كان رسول ال صلى ال عليه و سلم
نعلن .
و ما كانت سيرة رسول ال صلى ال عليه و سلم و أصحابه على ما المتزهدون عليه اليوم .
فقد كان رسول ال صلى ال عليه و سلم يضحك و يمزح و يختار المستحسنات و يسابق عائشة رضي
ال عنه ،و كان يأكل اللحم ،و يحب الحلوى ،و يستعذب له الماء .
و على هذا كان طريقه أصحابه ،فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعة ،و كلها على غير
الجادة .
و يحتجون بقول المحاسبي و المكي ،و ل يحتج أحد منهم بصحابي و ل تابعي و ل بإمام من أئمة
السلم .
ل ،أو تزوج مستحسنة ،أو أفطر بالنهار ،أو ضحك ،عابوه .
فإن رأوا عالما لبس ثوبا جمي ً
فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة لقلة علمهم .
حتى أن بعضهم يقول :منذ ثمانين سنة ما اضطجعت .
و يقول آخر :حلفت ل أشرب الماء سنة .
و هؤلء على غير الصواب ،فإن للنفس حقا .
فأما من ساء قصده ممن نافق و راءى لجتلب الدنيا و تقبيل اليدي فل كلم معه ،و هم جمهور
المتصوفة ،فإنهم رفعوا الثياب الملونة ليراهم الناس بعين الترك للزينة ،و ما معهم أحسن من
السفلطون .و إنما رفع القدماء للفقر .
فهم في اللذات و جمع المال و أخذ الشبهات و استعمال الراحة و اللعب و مخالطة السلطين .
و هؤلء قد كشفوا القناع ،و باينوا زهد أوائلهم .
بلى :أعجب منهم من ينفق عليهم !!
إنما فضل العقل بتأمل العواقب ،فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة ،و ل ينظر إلى عاقبتها .
فإن اللص يرى أخذ المال و ينسى قطع اليد .و البطال يرى لذة الراحة و ينسى ما تجنى من فوات العلم
و كسب المال .
فإذا كبر فسئل عن علم لم يدر ،و إذا احتاج سأل فذل ،فقد أربى ما حصل له من على لذة البطالة .ثم
يفوته ثواب الخرة بترك العمل في الدنيا .
و كذلك شارب الخمر ،يلتذ تلك الساعة و ينسى ما يجني من الفات في الدنيا و الخرة .
و كذلك الزنا ،فإن النسان يرى قضاء الشهوة ،و سنى ما يجني منه من فضيحة الدنيا و الحد .
و ربما كان للمرأة زوج فألحقت الحمل من هذا به و تسلسل المر .
فقس على هذه و انتبه للعواقب ،و ل تؤثر لذة تفوت خيرا كثيرا ،و صابر المشقة تحصل ربحا وافرا .
من تأمل الدنيا علم أنه ليس فيها لذة أصلً ،فإن وجدت لذة شيبت بالنغص التي تزيد على اللذة أضعافا
.
فمن اللذات النساء .فربما يثبت المستحسنة ،و ربما لم تحب الزوج ،فمتى علم ذلك يعزل عنها ،و
ربما خانت ،و ذلك الهلك .
فإن تمت المرادات فذكر الفراق زائد في التألم على اللذاذ .
و من اللذات الولد و مقاساة البنت إلى أن تتزوج ،و ما تلفى من زوجها وخوف عارها محن قبيحة .
و البن إن مرض ذاب الفؤاد و إن خرج عن حد الصلح زاد السف ،و إن كان عدوا فمراده هلك
الب ،ثم إن تم المراد فذكر فراقه يذيب القلوب .
و لو أن فاسقا أحب بعض المردان انهتك عرضه في الدنيا وذهب دينه .
ثم ل يلبث أن تتغير حيلته ،فيصبر مبغوضا مع ما سبق الهتكة و الثم .
و كم قد غلبت شهوة رجل وطىء الجواري السود فجاء الولد أسود ،فبقي عارا عليه .
و من هذا الجنس اللتذاذ بالمال ،و في تحصيله آثام ،و فراقه حسرة ،و ذهاب العمر فيه غبن .
و هذا أنموذج لما لم يذكر فينبغي لمن وفقه ال سبحانه أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلمة الدين
و البدن و العافية ،و يهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته .
و من صبر على ما يكره قصد النفع في العافية إلتذ أضعافا ،كطالب العلم فإنه بتعب يسيرا و ينال خير
الدارين مع سلمة العاقبة .
و لذة البطالة تعقب عدم العلم و العمل ،فيزيد السى على اللذة أضعافا .
فال ال أن يغلبك هواك العاجل ،و متى هم الهوى بالتوبة فامنعه وزن عاجله بآجله .و ما يتذكر إل
أولو اللباب .
رأيت إبليس قد إحتال بفنون الحيل على الخلق ،و أمال أكثرهم عن العلم الذي هو مصباح السالك ،
فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل ،و شغلهم بأمور الحس ،و ل يلتفتون إلى مشورة العقل .
فإذا ضاق بأحدهم عيشه أو نكب ،إعترض فكفر .
فمنهم من ينسب ذلك إلى الدهر ،و منهم من يسب الدنيا .
و هذا إسفاف ،لن الدهر و الدنيا ل يفعلن ،و إنما هو عيب للمقدر .
و منهم من يخرجه المر إلى جحد الحكمة ،فيقول :أي فائدة في نقض المبني ؟
و زعم بعضهم أنه ل يتصور عود المنقوض ،و أنكروا البعث ،و يقولون :ما جاء من ثم أحد .
و نسوا أن الوجود ما انتهى بعد ،و لو خلفنا لصار اليمان بالغيب عيانا .و ل يصلح أن يستدل على
الحياء بالحياء .
ثم نظر إبليس فرأى في المسلمين قوما فيهم فطنة فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة
يشاركهم فيها العوام .فحسن لهم علوم الكلم و صاروا يحتجون بقول أبقراط و جالينوس و فيثاغورس .
و هؤلء ليسوا بمتشرعين و ل تبعوا نبينا صلى ال عليه و سلم ،إنما قالوا بمقتضى ما سولت لهم
أنفسهم .
و قد كان السلف إذا نشأ لحدهم ولد شغلوه بحفظ القرآن و سماع الحديث ،فيثبت اليمان في قلبه .
فقد توانى الناس عن هذا فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الوائل ،و ينبذ أحاديث الرسول صلى ال
عليه و سلم ،و يقول :أخبار آحاد .
و أصحاب الحديث عندهم يسمون حشوية .
و يعتقد هؤلء أن العلم الدقيق علم الطفرة و الهيولى و الجزء الذي ل يتجزأ .
ثم يتصاعدون إلى الكلم في صفات الخالق ،فيدفعون ما صح عن رسول ال صلى ال عليه و سلم
بواقعاتهم .
فيقول المعتزلة [ :إن ال ل يرى لن المرئي يكون في جهة ] و يخالفون قول رسول ال صلى ال
عليه و سلم أنكم ترون ربكم كما ترون القمر ل تضامون في رؤيته فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته ،و إن
عجزنا عن فهم كيفيتها .
و قد عزل هؤلء الغبياء عن التشاغل بالقرآن ،و قالوا ،مخلوق ،فزالت حرمته من القلوب .
و عن السنة و قالوا أخبار آحاد .و إنما مذاهبهم السرقة من أبقراط و جالينوس .
و قد إستفاد من تبع الفلسفة أنه يرفه نقسه عن تعب الصلة و الصوم ،و قد كان كبار العلماء يذمون
علم الكلم ،حتى قال الشافعي [ :حكمي فيهم أن يركبوا على البغال و يشهروا و يقال :هذا جزاء من
ترك الكتاب و السنة و إشتغل بالكلم ] .
وقد آل بهم المر إلى أن إعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم .
فا ال ال من مخالطة المبتدعة .و عليكم بالكتاب و السنة ترشدوا .
رايت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان ،و كان القدماء يحذرون من ذلك .
قال الفضيل :أعرف من يعد كلمه من الجمعة إلى الجمعة .
و دخلوا على رجل من السلف فقالوا :لعلنا شغلناك ،فقال :أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لجلكم .
و جاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي ،فرأى عنده جماعة ،فقال :صرت مناخ البطالين ثم
مضى و لم يجلس .
و متى لن المزور طمع فيه الزائر ،فأطال الجلوس ،فلم يسلم من أذى .
و قد كان جماعة قعودا عند معروف فأطالوا فقال :إن ملك الشمس ل يفتر في سوقها أفما تريدون
القيام ؟ .
و ممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس ،قال له رجل :قف أكلمك ،قال :فأمسك الشمس .
و قيل لكرز بن وبرة :لو خرجت إلى الصحراء ،فقال :يبطل الزوجار .
و كان داود الطائي يستف الفتيت و يقول :بين سف الفتيت و أكل الخبز قراءة خمسين آية .
و كان عثمان الباقلني دائم الذكر ل تعالى ،فقال إني و قت الفطار أحس بروحي كأنها تخرج لجل
اشتغالي بالكل عن الذكر .و أوصى بعض السلف أصحابه فقال :إذا خرجتم من عندي فتفرقوا ،لعل
أحدكم يقرأ القرآن في طريقه .و متى إجتمعتم تحدثتم .
و أعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة ،فإن في الصحيح عن رسول ال صلى ال عليه و
سلم أنه قال من قال سبحان ال العظيم و بحمده ،غرست له بها نخلة في الجنة .
فكم يضيع الدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل ،و هذه اليام مثل المزرعة ،فكأنه قيل
للنسان .كلما بذرت حبة خرجنا لك ألف كر ،فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر و يتوانى ؟
و الذي يعين على إغتنام الزمان النغراد و العزلةمهما أمكن ،و الختصار علىالسلم أو حاجة مهمة
لمن يلقى .
و قلة الكل ،فإن كثرته سبب النوم الطويل و ضاع الليل .
و من نظر في سير السلف و آمن بالجزاء بان له ما ذكرته .
ينبغي للعاقل أن يتخير إمرأة صالحة ،من بيت صالح ،يغلب عليها الفقر لترى ما يأتيها به كثيرا ،و
ليتزوج من يقاربه في السن .
فأما الشيخ فإنه إذا تزوج صبية آذاها ،و ربما فجرت ،أو قتلته ،أو طلب الطلق و هو يحبها فيتأذى
.
و ليتمم نقصه بحسن الخلق و كثرة النفقة .
و ل ينبغي للمرأة أن تقرب من زوجها كثيرا فتمل ،و ل تبعد عنه فينساها .
و لتكن وقت قربها إليه كاملة النظامة متحسنة ،و لتحذر أن يرى فرجها أو جسمها كله ،فإن جسم
النسان ليس بمستحسن .
و كذلك ينبغي أل يريها جسمه ،و إنما الجماع في الفراش .
و رأى كسرى يوما كيف يسلخ الحيوان و يطبخ ،فتقلبت نفسه ،و نفي اللحم ،فذكر ذلك لوزيره ،
فقال :أيها الملك ،الطبيخ على المائدة و المرأة في الفراش ،و معناه ل تفتش على ذلك .
فقالت عائشة رضي ال عنها :ما رأيته من رسول ال صلى ال عليه و سلم و ل رآه مني ،و قام ليلة
عريانا فما رأيت جسمه قبلها .
و هذا الحزم ،و بذلك ل يعيب الرجل المرأة لنه ير عيوبها .
و ليكن للمرأة فراش و له فراش ،فل يجتمعان إل في حال الكمال .
و من الناس من يستهين بهذه الشياء فيرى المرأة متبذلة تقول :هذا أبو أولدي ،و يتبذل هو فيرى
كل واحد من الخر ما ل يشتهي ،فبنظر القلب و تبقى المعاشرة بغير المحبة .
و هذا فضل ينبغي تأمله و العمل به فإنه أصل عظيم .
ل عيش في الدنيا إل للقنوع بالسير ،فإنه كلما زاد الحرص على فضول زاد الهم ،و تشتت القلب ،و
استعبد العبد .
و أما القنوع فل يحتاج إلى مخالطة من فوقه ،و ل يبالي بمن هو مثل ،إذ عنده ما عنده .
و إن أقواما لم يقنعوا و طلبوا لذيذ العيش فأزروا بدينهم ،و ذلوا لغيرهم .
و خصوصا أرباب العلم فإنهم ترددوا إلى المراء فإستعبدوهم ،و رأوا المنكرات ،فلم يقدروا على
إنكارها ،و ربما مدحوا الظالم اتقاء لشره .
فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا من الدنيا .
و من أقبح الناس حال من تعرض للقضاء و الشهادة ،و لقد كانتا مرتبتين حسنتين .
و كان عبد الحميد القاضي ل يحابي ،فبعث إلى المعتضد و قال له [ :قد إستأجرت وقوفا فأد أجرتها ،
ففعل ] .
و قال له المعتضد [ :قد مات فلن و لنا عليه مال ،فقال :أنت تذكر لما وليتني قلت لي :قد أخرجت
هذا المر من عنقي و وضعته في عنفك ،و ل أقبل هذا الذي تقول إل بشاهدين ].
و كذلك كان الشهود ،دخل جماعة على بعض الخلفاء فقال الخادم [ :إشهدوا على مولنا بكذا ،
فشهدوا ،فتقدم المجزوعي إلى الستر فقال :يا أمير المؤمنين ،أشهد عليك بما في هذا الكتاب ،فقال :
أشهد ]
قال :إنه يكتفي في ذلك ،ل أشهد حتى تقول نعم ،قال :نعم .
فأما في زماننا فتغيرت تلك القواعد من الكل ،خصوصا من يتقرب .إليه بالمال ليستشهد فتراه يسحب
ليشهد على ما ل يرى .
قال لي أبو المعالي بن شافع [ :كنت أحمل إلى بعض أهل السواد ،و هو محبوس و أشهد عليه .و أنا
أستغفر ال من ذلك ] .
و ليس للشهود جراية فيحملون ذلك لجلها ،و إنما الذي يحصل جر الطيلسان ،و طرق الباب ،و قول
المعرف :حرس ال نعمتك ،شهادة .
و لما قيل لبراهيم النخعي [ :تكون قاضيا .ليس قميصا أحمر و جلس في السوق .فقالوا كان هذا ل
يصلح ] .
و دخل بعض الكبار على الرشيد ـ و قد أحضره ليوليه القضاء ـ فسلم و قال له [ :كيف أنت و كيف
الصبيان ؟ ]
فقيل :هذا مجنون ،فيا ل جنون هو العقل .
و ما أظن اليمان بالخرة إل متزلز ًل في أكثر القلوب .
نسأله ال سبحانه و سلمة الدين فإنه قادر .
قد تكرر معناه في هذا الكتاب ،إل أن إعادته على النفوس مهمة لئل يغفل عن مثله .
ينبغي للمؤمن أن يعلم أن ال سبحانه مالك حكيم ل يعبث ،و هذا العلم يوجب نفي العتراض على القدر
.
و قد لهج خلق بالعتراض قدحا في الحكمة ،و ذلك كفر .
و أولهم إبليس في قوله :خلقتني من نار و خلقته من طين .
و معنى قوله :أن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة .
و قد رأيت من كان فقيها دأبه العتراض .
و هذا لن المعترض ينظر إلى صورة الفعل ،و لو أن صورة الفعل صدرت من مخلوق مثلنا حسن أن
يعترض عليه .
فأما من نقصت الفهام عن مطالعة حكمته ،فإعتراض الناقص الجاهل عليه جنون .
فأما إعتراض الخلعاء فدائم ،لنهم يريدون جريان المور على أغراضهم ،فمتى إنكسر لحدهم
إعتراض .
و فيهم من يتعدى إلى ذكر الموت فيقول :بنى و نقض .
و كان لنا رفيق قرأ القرآن و القراءات و سمع الحديث الكثير ،ثم وقع في الذنوب و عاش أكثر من
سبعين سنة ،فلما نزل به الموت ذكر لي انه قال [ :قد ضاقت الدنيا إل من روحي ] .
و من هذا الجنس سمعت شخصا يقول عند الموت :ربي يظلمني .و هذا كثير .
و يكره أن يحكى كلم الخلعاء في جنونهم و إعتراضاتهم الباردة .
و لو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة و مارستان صبر ليبين بذلك أثر الخالق ،لما إعترضوا .
و الذي طلبوه من السلمة و بلوغ الغراض أمامهم لو فهموا .
فهم كالزور جاري يتلوث بالطين ،فإذا فرغ لبس ثياب النظافة .
و لما أريد نقض هذا البدن الذي ل يصلح للبقاء نحيت عنه النفس الشريفة و بني بناء يقبل الدوام .
و بعد هذا فقل للمعترض :فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ .
قل له :إن إعترض لم يمنع ذلك جريان القدر ،و إن سلم جرى القدر .فلن يجري و هو مأجور ،خير
من أن يجري و هو مأزور .
و ما أحسن سكوت وضاح اليمن لما إختبأ في صندوق ،فقال السلطان [ :أيها الصندوق ،إن كان فيك
ما نظن فقد محونا أثرك ] .
و إن لم يكن فليس بدفن خشب من جناح .
فلو أنه صاح ما إنتفع بشيء ،و لربما أخرج فقتل أقبح قتلة .
من تلمح أحوال الدنيا ،علم أن مراد الحق سبحانه إجتنابها .
فمن مال إلى مباحها ليلتذ وجد مع كل فرحة ترحة ،و إلى جانب كل راحة تعبا ،و آخر كل لذة نقصا
يزيد عليها .
و ما رفع شيء من الدنيا إل و وضع .
أحب الرسول صلى ال عليه و سلم عائشة رضي ال عنها ،فجاء حديث الفك .
و مال إلى زينب ،فجاء :فلما قضى زيد منها وطرا .
ثم يكفي أنه إذا حصل محبوبه فعين العقل ترى فراقه فيتنغص عند وجوده ،كما قال الشاعر :
تيقن عنه صاحبه انتقال أتم الحزن عندي في سرور
فيعلم العاقل أن مراد الحق بهذا التكدير التنفير عن الدنيا ،فيبقى أخذ البلغة منها ضرورة و ترك
الشواغل ،فيجتمع الهم في خدمة الحق .
و من عدل عن ذلك ندم على الفوات .