You are on page 1of 228

‫تيسير اللطيف المنان في خلصة‬

‫تفسير القرآن‬
‫عبد الرحمن بن ناصر السعدي‬
‫تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة‬
‫)اضغط هنا للنتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على النترنت(‬

‫الكتاب ‪ :‬تيسير اللطيف المنان في خلصة تفسير القرآن‬


‫المؤلف ‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‬
‫الطبعة ‪ :‬الولى‬
‫الناشر ‪ :‬وزارة الشئون السلمية والوقاف والدعوة والرشاد ‪-‬‬
‫المملكة العربية السعودية‬
‫تاريخ النشر ‪1422 :‬هـ‬
‫عدد الصفحات ‪368 :‬‬
‫عدد الجزاء ‪1 :‬‬
‫مصدر الكتاب ‪ :‬موقع السلم‬
‫‪http://www.al-islam.com‬‬
‫] ضمن مجموعة كتب من موقع السلم ‪ ،‬ترقيمها غير مطابق‬
‫للمطبوع ‪ ،‬وغالبها مذيلة بالحواشي [‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫الحمد لله ‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ‪ ،‬ونعوذ بالله من شرور‬
‫أنفسنا وسيئات أعمالنا ‪ ،‬من يهد الله فل مضل له ‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له ‪،‬‬
‫وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له ‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده ورسوله‬
‫صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا ‪.‬‬

‫) ‪(1/1‬‬

‫أما بعد ‪ ،‬فقد كنت كتبت كتابا في تفسير القرآن مبسوطا مطول ‪ ،‬يمنع‬
‫القراء من الستمرار بقراءته ‪ ،‬ويفتر العزم عن نشره ‪ ،‬فأشار علي بعض‬
‫العارفين الناصحين أن أكتب كتابا غير مطول ‪ ،‬يحتوي على خلصة ذلك‬
‫التفسير ‪ ،‬ونقتصر فيه على الكلم على بعض اليات التي نختارها وننتقيها من‬
‫جميع مواضيع علوم القرآن ومقاصده ‪ ،‬فاستعنت الله على العمل على هذا‬
‫الرأي الميمون ‪ ،‬لمور كثيرة منها ‪ :‬أنه بذلك يكون متيسرا على المشتغلين ‪،‬‬
‫معينا للقارئين ‪ ،‬ومنها ‪ :‬أن القرآن العظيم ليس كغيره من الكتب في‬
‫الترتيب والتبويب ‪ ،‬لنه بلغ في البلغة نهايتها ‪ ،‬وفي الحسن غايته ‪ ،‬وفي‬
‫السلوب البديع ‪ ،‬والتأثير العجيب ما هو أكبر الدلة على أنه كلم الله ‪،‬‬
‫وتنزيل من حكيم حميد ‪ ،‬فتجده في آية واحدة يجمع بين الوسائل والمقاصد ‪،‬‬
‫وبين الدليل والمدلول ‪ ،‬وبين الترغيب والترهيب ‪ ،‬وبين العلوم الصولية‬
‫والفروعية ‪ ،‬وبين العلوم الدينية والدنيوية والخروية ‪ ،‬وبين الغراض المتعددة‬
‫والمقاصد النافعة ‪ ،‬ويعيد المعاني النافعة على العباد ‪ ،‬ليتم علمهم ‪ ،‬وتكمل‬
‫هدايتهم ‪ ،‬ويستقيم سيرهم على الصراط المستقيم ‪ ،‬علما وعمل ‪.‬‬

‫) ‪(1/2‬‬

‫فالوقوف على تفسير بعض القرآن يعين أعظم عون على معرفة باقيه ‪،‬‬
‫والله جعله مثاني تثنى فيه العلوم النافعة ‪ ،‬والمعاني الجليلة الكاملة ‪ ،‬وهذا‬
‫من تيسيره تعالى لكتابه ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫مد ّك ِرٍ { ]القمر ‪. [17 :‬‬
‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ن ِللذ ّك ْرِ فَهَ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫سْرَنا ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫قد ْ ي َ ّ‬
‫ومما يدعو إلى هذا ما تحتوي عليه هذه المقدمة المذكورة بقولنا ‪:‬‬

‫) ‪(1/3‬‬

‫مقدمة‬
‫في ذكر أوصاف القرآن العامة الجامعة‬
‫قد وصف الله كتابه بأوصاف جليلة عظيمة تنطبق على جميعه ‪ ،‬وتدل أكبر‬
‫دللة على أنه الصل والساس لجميع العلوم النافعة ‪ ،‬والفنون المرشدة‬
‫لخير الدنيا والخرة ‪:‬‬
‫وصفه بالهدى والرشد ‪ ،‬والفرقان ‪ ،‬وأنه مبين وتبيان لكل شيء ; فهو في‬
‫نفسه هدى ‪ ،‬ويهدي الخلق لجميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم ‪،‬‬
‫ويرشدهم إلى كل طريق نافع ‪ ،‬ويفرق لهم بين الحق والباطل ‪ ،‬والهدى‬
‫والضلل ‪ ،‬وبين أهل السعادة والشقاوة بذكر أوصاف الفريقين ‪ ،‬وفيه بيان‬
‫الصول والفروع بذكر أدلتها النقلية والعقلية ‪ ،‬فوصفه بهذه الوصاف‬
‫المطلقة العامة التي ل يشذ عنها شيء في آيات كثيرة ‪.‬‬

‫) ‪(1/4‬‬

‫وقيد هدايته في بعض اليات بعدة قيود ‪ :‬قيد هدايته بأنه هدى للمؤمنين‬
‫المتقين ; لقوم يعقلون ‪ ،‬ويتفكرون ‪ ،‬ولمن قصده الحق ‪ ،‬وهذا بيان منه‬
‫تعالى لشرط هدايته ; وهو أن المحل ل بد أن يكون قابل وعامل ‪ ،‬فل بد‬
‫لهدايته من عقل وتفكير وتدبر لياته ; فالمعرض الذي ل يتفكر ول يتدبر آياته‬
‫ل ينتفع به ‪ ،‬ومن ليس قصده الحق ول غرض له في الرشاد ‪ ،‬بل قصده‬
‫فاسد ‪ ،‬وقد وطن نفسه على مقاومته ومعارضته ‪ ،‬ليس له من هدايته نصيب‬
‫; فالول حرم هدايته لفقد الشرط ‪ ،‬والثاني لوجود المانع ; فأما من أقبل‬
‫عليه ‪ ،‬وتفكر في معانيه وتدبرها بحسن فهم ‪ ،‬وحسن قصد ‪ ،‬وسلم من‬
‫الهوى ‪ ،‬فإنه يهتدي به إلى كل مطلوب ‪ ،‬وينال به كل غاية جليلة ومرغوب ‪.‬‬
‫ووصفه بأنه رحمة ‪ ،‬وهي الخير الديني والدنيوي والخروي المترتب على‬
‫الهتداء بالقرآن ‪ ،‬فكل من كان أعظم اهتداء به فله من الرحمة والخير‬
‫والسعادة والفلح بحسب ذلك ‪.‬‬
‫ووصفه بأنه نور ‪ ،‬وذلك لبيانه وتوضيحه العلوم النافعة ‪ ،‬والمعاني الكاملة ‪،‬‬
‫وأن به يخرج العبد من جميع الظلمات ‪ :‬ظلمات الجهل والكفر والمعاصي‬
‫والشقاء ‪ ،‬إلى نور العلم واليقين واليمان والطاعة والرشاد المتنوع ‪.‬‬
‫) ‪(1/5‬‬

‫ووصفه بأنه شفاء لما في الصدور ‪ ،‬وذلك يشمل جميع أمراض القلوب ; فهو‬
‫يوضح أمراض القلوب ويشخصها ‪ ،‬ويرشد العباد إلى كل وسيلة يحصل بها‬
‫زوالها وشفاؤها ‪ ،‬فيذكر لهم أمراض الجهل والشكوك والحيرة وأسباب ذلك ‪،‬‬
‫ويرشدهم إلى قلعها بالعلوم النافعة واليقين الصادق ‪ ،‬وسلوك الطرق‬
‫الصحيحة المزيلة لهذه العلل ‪ ،‬ويذكر لهم أمراض الشهوات والغي ‪ ،‬ويبين‬
‫لهم أسبابها وعلماتها وآثارها الضارة ‪ ،‬ويذكر لهم ما به تعالج من المواعظ‬
‫والتذكر والترغيب والترهيب ‪ ،‬والمقابلة بين المور ‪ ،‬وترجيح ما ترجحت‬
‫مصلحته العاجلة والجلة ‪.‬‬
‫ووصفه بأنه كله محكم ‪ ،‬وكله متشابه في الحسن ‪ ،‬وبعضه متشابه من وجه ‪،‬‬
‫محكم من وجه آخر ‪.‬‬
‫فأما وصفه في عدة آيات أنه كله محكم ‪ ،‬فلبلغته وبيانه التام ‪ ،‬واشتماله‬
‫على غاية الحكمة في تنزيل المور منازلها ‪ ،‬ووضعها مواضعها ‪ ،‬وأنه متفق‬
‫غير مختلف ‪ ،‬ليس فيه اختلف ول تناقض بوجه من الوجوه ‪.‬‬

‫) ‪(1/6‬‬

‫وأما حسنه فلما فيه من البيان التام لجميع الحقائق ‪ ،‬ولنه بين أحسن‬
‫المعاني النافعة في العقائد والخلق والداب والعمال ‪ ،‬فهي في غاية‬
‫الحسن لفظا ومعنى ‪ ،‬وآثارها أحسن الثار ‪ ،‬وكل هذه المعاني المثناة في‬
‫القرآن يشهد بعضها لبعض في الحسن والكمال ‪ ،‬ويصدق بعضها بعضا ‪.‬‬
‫وأما وصفه بأن منه آيات محكمات هن أم الكتاب ‪ ،‬وأخر متشابهات ‪،‬‬
‫فالمتشابهات هي التي يقع الشكال في دللتها لسبب من السباب اللفظية‬
‫والعبارات المركبة ‪ ،‬فأمر الله بردها إلى المحكمات الواضحة ‪ ،‬بينة المعاني ‪،‬‬
‫التي هي نص في المراد ; فإذا ردت المتشابهات إلى المحكمات صارت كلها‬
‫محكمات ‪ ،‬وزال الشك والشكال ‪ ،‬وحصل البيان للهدى من الضلل ‪.‬‬

‫) ‪(1/7‬‬

‫ووصفه بأنه كله صلح ‪ ،‬ويهدي إلى الصلح ‪ ،‬وإلى أقوم المور وأرشدها‬
‫وأنفعها في كل شيء من دون استثناء ‪ ،‬وهذا الوصف المحيط ل يخرج عنه‬
‫شيء ‪ ،‬فهو إصلح للعقائد والقلوب ‪ ،‬وللخلق والعمال ‪ ،‬ويهدي إلى كل‬
‫صلح ديني ودنيوي بحيث تقوم به المور ‪ ،‬وتعتدل به الحوال ‪ ،‬ويحصل به‬
‫الكمال المتنوع من كل وجه بالرشاد إلى كل وسيلة نافعة تؤدي إلى‬
‫المقاصد والغايات المطلوبة ‪ ،‬فل سبيل إلى الهداية والصلح والصلح لجميع‬
‫المور إل بسلوك الطرق التي أرشد إليها القرآن ‪ ،‬وحث العباد عليها ‪.‬‬
‫فمتى عرفت أن القرآن العظيم موصوف كله بهذه الوصاف التي هي أعلى‬
‫الوصاف وأكملها وأتمها وأنفعها للعباد ‪ ،‬وأنه أعيدت فيه هذه المعاني الجليلة‬
‫‪ ،‬ومزجت فيه مزجا عجيبا غريبا في كماله وحسنه ‪ ،‬فهمت أن طالب العلم‬
‫إذا وقف على تفسير بعض اليات تدرب بها ‪ ،‬وتوسل بها إلى معرفة بقية‬
‫اليات ‪.‬‬
‫) ‪(1/8‬‬

‫لهذه السباب وغيرها رأينا أن المصلحة تدعو إلى القتصار على خلصة ذلك‬
‫التفسير ; راجين من الرب أن يتم نعمته ‪ ،‬وأن يحصل به المقصود ; ورأينا أن‬
‫الحسن أن نذكر كل موضوع على حدته ‪ ،‬لما فيه من التقريب والسهولة‬
‫وجمع المعاني التي من فن واحد في موضع واحد ; مع أنه ‪ -‬كما تقدم ‪ -‬ل بد‬
‫أن يدخل في آيات الصول كثير من الفروع ‪ ،‬وفي آيات الفروع كثير من‬
‫الصول ‪ ،‬ويدخل فيها من الترغيب والترهيب والقصص شيء كثير ; وهذا‬
‫المزج العجيب من كمال القرآن وعظم تأثيره ‪ ،‬فإنه كتاب تعليم يزيل‬
‫الجهالت المتنوعة ‪ ،‬وكتاب تربية يقوم الخلق والعمال ‪ ،‬فهو يعلم ويقوم‬
‫ويهذب ويؤدب بأعلى ما يكون من الطرق ‪ ،‬التي ل يمكن للحكماء والعقلء‬
‫أن يقترحوا مثلها ‪ ،‬ول ما يقاربها ‪.‬‬

‫) ‪(1/9‬‬

‫علوم التوحيد والعقائد والصول‬


‫ن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬
‫م ِ‬‫ح َ‬
‫ن {} الّر ْ‬ ‫مي َ‬
‫ب الَعال ِ‬ ‫مد ُ ل ِلهِ َر ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫حيم ِ {} ال َ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬ ‫‪ } - 1‬بِ ْ‬
‫صَراطَ‬‫ن {} اهْدَِنا ال ّ‬ ‫ست َِعي ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن {} إ ِّياك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّياك ن َ ْ‬
‫َ‬ ‫دي ِ‬
‫ك ي َوْم ِ ال ّ‬ ‫مال ِ ِ‬
‫حيم ِ {} َ‬ ‫الّر ِ‬
‫م وَلَ‬ ‫َ‬
‫ب عَلي ْهِ ْ‬ ‫ضو ِ‬ ‫مغْ ُ‬ ‫ْ‬
‫م غَي ْرِ ال َ‬ ‫َ‬
‫ت عَلي ْهِ ْ‬‫م َ‬ ‫ن أن ْعَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫صَراط ال ِ‬ ‫م {} ِ‬ ‫قي َ‬‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫ن { ]سورة الفاتحة[ ‪.‬‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫ال ّ‬
‫أي ‪ :‬أبتدئ بكل اسم لله تعالى ‪ ،‬لن لفظ " اسم " مفرد مضاف ‪ ،‬فيعم‬
‫جميع أسماء الله الحسنى ; فيكون العبد مستعينا بربه ‪ ،‬وبكل اسم من‬
‫أسمائه على ما يناسبه من المطالب ‪ ،‬وأجل ما يستعان به على عبادة الله ;‬
‫وأجل ذلك الستعانة على قراءة كلم الله ‪ ،‬وتفهم معانيه ‪ ،‬والهتداء بهديه ‪.‬‬
‫) الله ( هو المألوه المستحق لفراده بالمحبة والخوف والرجاء وأنواع العبادة‬
‫كلها ‪ ،‬لما اتصف به من صفات الكمال ‪ ،‬وهي التي تدعو الخلق إلى عبادته‬
‫والتأله له ‪.‬‬

‫) ‪(1/10‬‬

‫حيم ِ { ‪ :‬اسمان دالن على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة‬ ‫ن الّر ِ‬


‫م ِ‬
‫ح َ‬‫} الّر ْ‬
‫العظيمة التي وسعت كل شيء ‪ ،‬وعمت كل مخلوق ‪ ،‬وكتب الرحمة الكاملة‬
‫للمتقين المتبعين لنبيائه ورسله ; فهؤلء لهم الرحمة المطلقة المتصلة‬
‫بالسعادة البدية ‪ ،‬ومن عداهم محروم من هذه الرحمة الكاملة ‪ ،‬لنه الذي‬
‫دفع هذه الرحمة وأباها بتكذيبه للخبر ‪ ،‬وتوليه عن المر ‪ ،‬فل يلومن إل‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف المة وأئمتها ما دل عليه‬
‫الكتاب والسنة من اليمان بأسماء الله كلها ‪ ،‬وصفاته جميعها ‪ ،‬وبأحكام تلك‬
‫الصفات ; فيؤمنون ‪ -‬مثل ‪ -‬بأنه رحمن رحيم ‪ :‬ذو الرحمة العظيمة التي‬
‫اتصف بها ‪ ،‬المتعلقة بالمرحوم ‪ ،‬فالنعم كلها من آثار رحمته ‪ ،‬وهكذا يقال‬
‫في سائر السماء الحسنى ; فيقال عليم ‪ :‬ذو علم عظيم ‪ ،‬يعلم به كل‬
‫شيء ‪ ،‬قدير ‪ :‬ذو قدرة يقدر على كل شيء ‪ ،‬فإن الله قد أثبت لنفسه‬
‫السماء الحسنى ‪ ،‬والصفات العليا ‪ ،‬وأحكام تلك الصفات ‪ ،‬فمن أثبت شيئا‬
‫منها ونفى الخر كان مع مخالفته للنقل والعقل متناقضا مبطل ‪.‬‬

‫) ‪(1/11‬‬

‫مد ُ ل ِل ّهِ { ‪ :‬الحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال ‪ ،‬وبأفعاله الدائرة‬
‫ح ْ‬‫} ال ْ َ‬
‫بين الفضل والعدل ‪ ،‬المشتملة على الحكمة التامة ; ول بد في تمام حمد‬
‫الحامد من اقتران محبة الحامد لربه وخضوعه له ‪ ،‬فالثناء المجرد من محبة‬
‫وخضوع ليس حمدا كامل ‪.‬‬
‫ن { ‪ :‬الرب هو المربي جميع العالمين بكل أنواع التربية ‪ ،‬فهو‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫} َر ّ‬
‫الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ‪ ،‬وهذه التربية‬
‫العامة لجميع الخلق ‪ ،‬برهم وفاجرهم ‪ ،‬بل المكلفون منهم وغيرهم ‪.‬‬
‫وأما التربية الخاصة لنبيائه وأوليائه ‪ ،‬فإنه مع ذلك يربي إيمانهم فيكمله لهم ‪،‬‬
‫ويدفع عنهم الصوارف والعوائق التي تحول بينهم وبين صلحهم وسعادتهم‬
‫البدية ‪ ،‬وتيسيرهم لليسرى وحفظهم من جميع المكاره ‪ ،‬وكما دل ذلك على‬
‫انفراد الرب بالخلق والتدبير والهداية وكمال الغنى ‪ ،‬فإنه يدل على تمام فقر‬
‫العالمين إليه بكل وجه واعتبار ‪ ،‬فيسأله من في السماوات والرض ‪ -‬بلسان‬
‫المقال والحال ‪ -‬جميع حاجاتهم ‪ ،‬ويفزعون إليه في مهماتهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/12‬‬

‫ن { ‪ :‬المالك هو من اتصف بالصفات العظيمة الكاملة التي‬ ‫دي ِ‬


‫ك ي َوْم ِ ال ّ‬
‫مال ِ ِ‬
‫} َ‬
‫يتحقق بها الملك ‪ ،‬التي من آثارها أنه يأمر وينهى ‪ ،‬ويثيب ويعاقب ‪ ،‬ويتصرف‬
‫في العالم العلوي والسفلي التصرف التام المطلق بالحكام القدرية والحكام‬
‫الشرعية ‪ ،‬وأحكام الجزاء ‪ ،‬فلهذا أضاف ملكه ليوم الدين مع أنه المالك‬
‫المطلق في الدنيا والخرة ; فإنه يوم القيامة الذي يدين الله فيه العباد‬
‫بأعمالهم خيرها وشرها ‪ ،‬ويرتب عليها جزاءها ‪ ،‬وتشاهد الخليقة ‪ -‬من آثار‬
‫ملكه وعظمته وسعته ‪ ،‬وخضوع الخلئق كلها لعظمته وكبريائه ‪ ،‬واستواء‬
‫الخلق في ذلك اليوم على اختلف طبقاتهم في نفوذ أحكامه عليهم ‪ -‬ما‬
‫يعرفون به كمال ملكه ‪ ،‬وعظمة سلطانه ‪.‬‬

‫) ‪(1/13‬‬

‫ن { أي ‪ :‬نخصك يا ربنا وحدك بالعبادة والستعانة ‪،‬‬ ‫ست َِعي ُ‬ ‫ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫} إ ِّيا َ‬
‫فل نعبد غيرك ‪ ،‬ول نستعين بسواك ; فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله‬
‫ويرضاه من العمال والقوال ‪ ،‬الظاهرة والباطنة ‪ ،‬فهي القيام بعقائد اليمان‬
‫وأخلقه وأعماله محبة لله وخضوعا له ‪ ،‬والستعانة هي العتماد على الله في‬
‫جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به في حصول ذلك ‪ ،‬وهذا التزام من‬
‫العبد بعبودية ربه ‪ ،‬وطلب من ربه أن يعينه على القيام بذلك ‪ ،‬وبذلك يتوسل‬
‫إلى السعادة البدية والنجاة من جميع الشرور ‪ ،‬فل سبيل لذلك إل بالقيام‬
‫بعبادة الله والستعانة به ‪ ،‬وعلم بذلك شدة افتقار العبد لعبادة الله‬
‫والستعانة به ‪.‬‬
‫) ‪(1/14‬‬

‫م { ‪ :‬أي ‪ :‬دلنا وأرشدنا ‪ ،‬ووفقنا للعلم بالحق‬ ‫قي َ‬


‫ست َ ِ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا َ‬
‫} اهْدَِنا ال ّ‬
‫والعمل به ‪ ،‬الذي هو الصراط المستقيم ‪ ،‬المعتدل الموصل إلى الله وإلى‬
‫جنته وكرامته ‪ ،‬وهذا يشمل الهداية إلى الصراط ‪ ،‬وهي التوفيق للزوم دين‬
‫السلم ‪ ،‬وترك ما سواه من الديان الباطلة ‪ ،‬ويشمل الهداية في الصراط‬
‫وقت سلوكه علما وعمل ; فهذا الدعاء من أجمع الدعية وأنفعها للعبد ‪ ،‬ولهذا‬
‫ت‬ ‫ط ال ّذي َ‬
‫صَرا َ‬
‫م َ‬
‫ن أن ْعَ ْ‬
‫ِ َ‬ ‫أوجبه الله ويسره ‪ ،‬وهذا الصراط هو طريق و } ِ‬
‫م { ‪ :‬بالنعمة التامة المتصلة بالسعادة البدية ‪ ،‬وهم النبياء والصديقون‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫م { ‪ :‬وهم الذين عرفوا الحق‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬
‫ضو ِ‬ ‫والشهداء والصالحون ‪ } ،‬غَي ْرِ ال ْ َ‬
‫مغْ ُ‬
‫ن { ‪ :‬الذين ضلوا عن الحق كالنصارى‬ ‫ضاّلي َ‬‫وتركوه كاليهود ونحوهم ‪ } ،‬وََل ال ّ‬
‫ونحوهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/15‬‬

‫فهذه السورة على إيجازها قد جمعت علوما جمة ‪ ،‬تضمنت أنواع التوحيد‬
‫ن { ‪ ،‬وتوحيد اللوهية‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫الثلثة ‪ :‬توحيد الربوبية يؤخذ من قوله ‪َ } :‬ر ّ‬
‫ن { ‪ ،‬فهو المألوه بعبادته والستعانة به ‪،‬‬ ‫ست َِعي ُ‬
‫ك نَ ْ‬ ‫ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ‬ ‫من قوله ‪ } :‬إ ِّيا َ‬
‫وتوحيد السماء والصفات بأن يثبت لله صفات الكمال كلها التي أثبتها‬
‫لنفسه ‪ ،‬وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫وقد دل على ذلك إثبات الحمد لله ; فإن السماء الحسنى والصفات العليا‬
‫وأحكامها كلها محامد ومدائح لله تعالى ‪ ،‬وتضمنت إثبات الرسالة في قوله ‪:‬‬
‫م { ‪ ،‬لنه الطريق الذي عليه النبي صلى الله عليه‬ ‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫صَرا َ‬ ‫} اهْدَِنا ال ّ‬
‫وسلم ‪ ،‬وذلك فرع عن اليمان بنبوته ورسالته ‪ ،‬وتضمنت إثبات الجزاء ‪ ،‬وأنه‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي ِ‬‫ك ي َوْم ِ ال ّ‬
‫مال ِ ِ‬‫بالعدل ‪ ،‬وذلك مأخوذ من قوله ‪َ } :‬‬
‫وتضمنت إثبات مذهب أهل السنة والجماعة في القدر ‪ ،‬وأن جميع الشياء‬
‫بقضاء الله وقدره ‪ ،‬وأن العبد فاعل حقيقة ‪ ،‬ليس مجبورا على أفعاله ‪ ،‬وهذا‬
‫ن { ‪ ،‬فلول أن مشيئة العبد مضطر‬ ‫ست َِعي ُ‬
‫ك نَ ْ‬‫ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ‬‫يفهم من قوله ‪ } :‬إ ِّيا َ‬
‫فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه لم يسأل الستعانة ‪.‬‬

‫) ‪(1/16‬‬

‫وتضمنت أصل الخير ومادته ‪ ،‬وهو الخلص الكامل لله في قول العبد ‪ :‬إياك‬
‫نعبد وإياك نستعين ‪.‬‬
‫ولما كانت هذه السورة بهذه العظمة والجللة أوجبها الشارع على المكلفين‬
‫في كل ركعة من صلتهم فرضا ونفل ; وفيها تعليم الله لعباده كيف يحمدونه‬
‫ويثنون عليه ‪ ،‬ويمجدونه بمحامده ‪ ،‬ثم يسألون ربهم جميع مطالبهم ‪.‬‬
‫ففيها دليل على افتقارهم إلى ربهم في المرين ‪ :‬مفتقرين إليه في أن يمل‬
‫قلوبهم من محبته ومعرفته ‪ ،‬ومفتقرين إليه في أن يقوم بمصالحهم يوفقهم‬
‫لخدمته ‪ ،‬والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫حاقَ‬
‫س َ‬ ‫عي َ‬
‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫ما ِ‬
‫س َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬
‫هي َ‬
‫ل عَلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫ل عَل َي َْنا وَ َ‬
‫ما أن ْزِ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫‪ } - 2‬قُ ْ‬
‫لآ َ‬
‫م َل ن ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫فّرقُ ب َي ْ َ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫سى َوالن ّب ِّيو َ‬
‫عي َ‬
‫سى وَ ِ‬
‫مو َ‬
‫ي ُ‬‫ما أوت ِ َ‬ ‫ط وَ َ‬ ‫ب َواْل ْ‬
‫سَبا ِ‬ ‫قو َ‬ ‫وَي َعْ ُ‬
‫ن { ]آل عمران ‪. [84 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ه ُ‬‫نل ُ‬‫ح ُ‬‫م وَن َ ْ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫حد ٍ ِ‬ ‫أ َ‬

‫) ‪(1/17‬‬

‫هذه الية الكريمة لها شأن كبير ; كان ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬يقرؤها كثيرا‬
‫في الركعة الولى من سنة الصبح ‪ ،‬وقد اشتملت على جميع ما يجب اليمان‬
‫به ‪ ،‬فإن اليمان الشرعي هو تصديق القلب التام وإقراره بهذه الصول ‪،‬‬
‫المتضمن لعمال الجوارح ولعمال القلوب ; وهو بهذا العتبار يدخل فيه‬
‫السلم ‪ ،‬وتدخل فيه العمال الصالحة كلها ; فهي إيمان ‪ ،‬وهي من آثار‬
‫اليمان ‪ ،‬فإذا أطلق اليمان دخل فيه ما ذكر ‪ ،‬وكذلك إذا أطلق السلم فإنه‬
‫يدخل فيه اليمان ‪ ،‬فإذا قرن بين السلم واليمان فسر اليمان بما في‬
‫القلب من العقائد الصحيحة والرادات الصالحة ‪ ،‬وفسر السلم بالعمال‬
‫الظاهرة ‪.‬‬
‫وكذلك إذا جمع بين اليمان والعمل الصالح ‪ ،‬اليمان لما في الباطن ‪ ،‬والعمل‬
‫الصالح هو الظاهر ‪ ،‬ومع إطلق اليمان يدخل فيه العمل الصالح ‪ ،‬كما في‬
‫مّنا ِبالل ّهِ { ‪ ( . . .‬إلخ ‪ ،‬أي ‪ :‬قولوا‬ ‫كثير من اليات ; فقوله تعالى ‪ } :‬قُ ْ‬
‫لآ َ‬
‫ذلك بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم ‪ ،‬وهذا هو القول التام الذي يترتب عليه‬
‫الثواب والجزاء ; فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب ليس بإيمان ‪،‬‬
‫بل هو نفاق ‪ ،‬فكذلك القول الخالي من عمل القلب عديم التأثير قليل الفائدة‬
‫‪.‬‬

‫) ‪(1/18‬‬

‫ل ( إشارة إلى العلن بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها ; إذ‬ ‫وفي قوله ‪ ) :‬قُ ْ‬
‫هي أصل الدين وأساسه ‪ ،‬وفي مثل قوله ‪ ) :‬آمنا ( ‪ -‬وما أشبهها من اليات‬
‫التي يضاف الفعل فيها إلى ضمير الجمع ‪ -‬إشارة إلى أنه يجب على المة‬
‫العتصام بحبل الله جميعا ‪ ،‬والحث على الئتلف ‪ ،‬والنهي عن الفتراق ‪ ،‬وأن‬
‫المؤمنين كالجسد الواحد ‪ ،‬عليهم السعي لمصالحهم كلها جميعا ‪ ،‬والتناصح‬
‫التام ‪.‬‬
‫وفيه دللة على جواز إضافة النسان إلى نفسه اليمان على وجه التقييد ‪،‬‬
‫بأن يقول ‪ :‬أنا مؤمن بالله ; كما يقول ‪ :‬آمنت بالله ‪ ،‬بل هذا الخير من أوجب‬
‫الواجبات ‪ ،‬كما أمر الله به أمرا حتما ‪ ،‬بخلف قول العبد ‪ :‬أنا مؤمن ‪،‬‬
‫ونحوه ‪ ،‬فإنه ل يقال إل مقرونا بالمشيئة لما فيه من تزكية النفس ; لن‬
‫اليمان المطلق يشمل القيام بالواجبات وترك المحرمات ‪ ،‬فهو كقوله ‪ :‬أنا‬
‫متق أو ولي أو من أهل الجنة ‪ ،‬وهذا التفريق هو مذهب محققي أهل السنة‬
‫والجماعة ‪.‬‬
‫ّ‬
‫مّنا ِباللهِ { أي ‪ :‬بأنه واجب الوجود ‪ ،‬واحد أحد فرد صمد ‪ ،‬متصف‬ ‫فقوله ‪ } :‬آ َ‬
‫بكل صفة كمال ‪ ،‬منزه عن كل نقص ‪ ،‬مستحق لفراده بالعبودية كلها ‪ ،‬وهو‬
‫يتضمن الخلص التام ‪.‬‬

‫) ‪(1/19‬‬
‫ل عَل َي َْنا { يدخل فيه ‪ :‬اليمان بألفاظ الكتاب والسنة ومعانيهما ‪،‬‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫ة { ]النساء ‪، [113 :‬‬
‫م َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حك َ‬‫ب َوال ِ‬ ‫ه عَلي ْك الك َِتا َ‬
‫كما قال تعالى ‪ } :‬وَأن َْزل الل ُ‬
‫م { ]النحل ‪. [44 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ن ُّزل إ ِلي ْهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن ِللّنا ِ‬ ‫} وَأ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ك الذ ّك َْر ل ِت ُب َي ّ َ‬
‫فيدخل في هذا اليمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله ‪ :‬من أسماء الله‬
‫وصفاته وأفعاله ‪ ،‬وصفات رسله ‪ ،‬واليوم الخر والغيوب كلها ‪ ،‬واليمان بما‬
‫تضمنه الكتاب والسنة أيضا ‪ :‬من الحكام الشرعية ‪ :‬المر والنهي وأحكام‬
‫الجزاء ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬

‫) ‪(1/20‬‬

‫م { ]البقرة ‪ . . [136 :‬إلخ ‪ :‬فيه اليمان بجميع الكتب‬


‫هي َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫المنزلة على جميع النبياء ‪ ،‬واليمان بالنبياء عموما ‪ ،‬وخصوصا ما نص عليهم‬
‫منهم في الية الكريمة وغيرها ‪ ،‬لشرفهم ولكونهم أتوا بالشرائع الكبار ‪ ،‬فمن‬
‫براهين السلم ومحاسنه ‪ ،‬وأنه دين الله الحق ‪ :‬المر باليمان بكل كتاب‬
‫أنزله الله ‪ ،‬وكل رسول أرسله الله مجمل ومفصل ; فكل من ادعى أنه على‬
‫دين حق كاليهود والنصارى ونحوهم فإنهم يتناقضون ‪ ،‬فيؤمنون ببعض‬
‫ويكفرون ببعض ‪ ،‬فيبطل كفرهم وتكذيبهم تصديقهم ‪ ،‬ولهذا أخبر عنهم أنهم‬
‫الكافرون حقا ‪ ،‬وأنه ل سبيل يسلك إلى الله إل سبيل اليمان بجميع الرسل ‪،‬‬
‫وبجميع الكتب المنزلة على الرسل ‪.‬‬

‫) ‪(1/21‬‬

‫م { ]البقرة ‪ [136 :‬برهان‬ ‫ُ‬


‫ن َرب ّهِ ْ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫ي الن ّب ِّيو َ‬‫ما أوت ِ َ‬
‫وفي قوله تعالى ‪ } :‬وَ َ‬
‫على أن النبياء وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه ‪ ،‬وأنه ليس لهم من‬
‫المر شيء ; وفي الخبار بأنه من ربهم بيان أن من كمال ربوبيته لعباده‬
‫التربية التامة أنه أرسل إليهم رسله ‪ ،‬وأنزل عليهم كتبه ‪ ،‬ليعلموهم ويزكوهم‬
‫ويخرجوهم من الظلمات إلى النور ‪ ،‬وأنه ل يليق بربوبيته وحكمته أن يتركهم‬
‫سدى ‪ ،‬ل يؤمرون ول ينهون ‪ ،‬ول يثابون ول يعاقبون ‪.‬‬
‫ويفهم من الية الكريمة الفرق بين النبياء الصادقين ‪ ،‬وبين من يدعي النبوة‬
‫من الكاذبين ; فإن النبياء يصدق بعضهم بعضا ‪ ،‬ويشهد بعضهم لبعض ‪،‬‬
‫ويكون كل ما جاءوا به متفقا ل يتناقض ‪ ،‬لنه من عند الله ‪ ،‬محكم منتظم ‪،‬‬
‫وأما الكذبة فإنهم ل بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم ‪ ،‬ويعلم‬
‫كذبهم بمخالفته لما يدعو إليه النبياء الصادقون ‪.‬‬
‫فلما بين تعالى جميع ما يجب اليمان به ‪ ،‬عموما وخصوصا ‪ ،‬وكان القول ل‬
‫ن { أي ‪ :‬خاضعون لعظمته ‪،‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫ح ُ‬‫يغني عن العمل ‪ ،‬قال ‪ } :‬وَن َ ْ‬
‫منقادون لعبادته بباطننا وظاهرنا ‪ ،‬مخلصون له بذلك ; فإن تقديم المعمول‬
‫على العامل يدل على الحصر ‪.‬‬

‫) ‪(1/22‬‬

‫فهذه الصول المذكورة في هذه الية قد أمر الله بها في كتابه في عدة آيات‬
‫من القرآن إجمال وتفصيل ‪ ،‬وأثنى على القائمين بها ‪ ،‬وأخبر بما يترتب عليها‬
‫من الخير والثواب ; وأنها تكمل العبد وترقيه في عقائده وأخلقه وآدابه ‪،‬‬
‫وتجعله عدل معتبرا في معاملته ‪ ،‬وتوجب له خير الدنيا والخرة ‪ ،‬ويحيا بها‬
‫الحياة الطيبة في الدارين ‪ ،‬وتجلب له السعادتين ‪ ،‬وتدفع عنه شرور الدنيا‬
‫والخرة ‪ ،‬وقد أخبر في هذه السورة أن الرسول والمؤمنين قاموا بهذه‬
‫الصول علما وتصديقا وإقرارا ‪ ،‬وعمل ودعوة وهداية وإرشادا ‪ ،‬فكتب أهل‬
‫العلم المصنفة في العقائد كلها تفصيل لما في هذه الية الكريمة ‪.‬‬

‫) ‪(1/23‬‬

‫ْ‬
‫ما ِفي‬ ‫ه َ‬ ‫م لَ ُ‬‫ة وََل ن َوْ ٌ‬ ‫خذ ُه ُ ِ‬
‫سن َ ٌ‬ ‫م َل ت َأ ُ‬ ‫قّيو ُ‬‫ي ال ْ َ‬‫ح ّ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ ال ْ َ‬‫ه َل إ ِل َ َ‬ ‫‪ } - 3‬الل ّ ُ‬
‫َْ‬
‫ن‬‫ما ب َي ْ َ‬ ‫عن ْد َه ُ إ ِّل ب ِإ ِذ ْن ِهِ ي َعْل َ ُ‬
‫م َ‬ ‫فع ُ ِ‬ ‫ش َ‬‫ذي ي َ ْ‬ ‫ن َذا ال ّ ِ‬ ‫م ْ‬‫ض َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سي ّ ُ‬‫سعَ كْر ِ‬ ‫شاَء وَ ِ‬ ‫مهِ إ ِل ب ِ َ‬ ‫عل ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫حيطو َ‬ ‫م وَل ي ُ ِ‬‫فهُ ْ‬ ‫خل َ‬ ‫ما َ‬ ‫م وَ َ‬
‫ديهِ ْ‬ ‫أي ْ ِ‬
‫ي ال ْعَ ِ‬ ‫َ‬
‫م { ]البقرة ‪. [255 :‬‬ ‫ظي ُ‬ ‫ما وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ‬ ‫فظ ُهُ َ‬ ‫ض وََل ي َُئود ُه ُ ِ‬
‫ح ْ‬ ‫ت َواْلْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الية أعظم آيات القرآن على‬
‫الطلق ‪ ،‬وأنها تحفظ قارئها من الشياطين والشرور كلها ‪ ،‬لما احتوت عليه‬
‫من معاني التوحيد والعظمة ‪ ،‬وسعة صفات الكمال لله تعالى ; فأخبر أنه الله‬
‫الذي له جميع معاني اللوهية ‪ ،‬وأنه ل يستحق اللوهية غيره ‪ ،‬فألوهية غيره‬
‫وعبادة غيره باطلة ضارة في الحال والمآل ; وعبادته وحده ل شريك له هي‬
‫الحق الموصلة إلى كل كمال ; وأنه الحي كامل الحياة ‪ ،‬فمن كمال حياته أنه‬
‫السميع البصير القدير ‪ ،‬المحيط علمه بكل شيء ‪ ،‬الكامل من كل وجه ‪.‬‬

‫) ‪(1/24‬‬

‫م { ‪ :‬الذي قام‬ ‫ي { ‪ :‬يتضمن جميع الصفات الذاتية ‪ ،‬و } ال ْ َ‬


‫قّيو ُ‬ ‫ف } ال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫بنفسه ‪ ،‬واستغنى عن جميع المخلوقات ‪ ،‬وقام بها فأوجدها وأبقاها ‪ ،‬وأمدها‬
‫م { ‪ :‬يتضمن جميع صفات الفعال ‪،‬‬ ‫قّيو ُ‬‫بكل ما تحتاج إليه في بقائها ; ف } ال ْ َ‬
‫ولهذا ورد أن اسم الله العظم الذي إذا دعي به أجاب ‪ ،‬وإذا سئل به‬
‫م { ‪ ،‬فإن هذين السمين الكريمين‬ ‫قّيو ُ‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ ال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ه َل إ ِل َ َ‬
‫أعطى ‪ } :‬الل ّ ُ‬
‫يدخل فيهما جميع الكمالت الذاتية والفعلية ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫م{‪،‬‬ ‫ة { أي ‪ :‬نعاس ‪ } ،‬وَل ن َوْ ٌ‬ ‫خذ ُه ُ ِ‬
‫سن َ ٌ‬ ‫ومن كمال حياته وقيوميته أنه } َل ت َأ ُ‬
‫لنهما يعرضان للمخلوق الذي يعتريه الضعف والعجز والنحلل ‪ ،‬وينزه عنهما‬
‫ذو العظمة والكبرياء والجلل ‪.‬‬
‫وأخبر أنه مالك لجميع ما في السماوات وما في الرض ‪ ،‬فكلهم عبيده‬
‫ومماليكه ‪ ،‬ل يخرج أحد منهم عن هذا الوصف اللزم ; فهو المالك لجميع‬
‫الممالك ‪ ،‬وهو الذي اتصف بصفات الملك الكامل ‪ ،‬والتصرف التام النافذ ‪،‬‬
‫والسلطان والكبرياء ‪.‬‬

‫) ‪(1/25‬‬

‫ومن تمام ملكه أنه ل يشفع عنده أحد إل بإذنه ; فكل الوجهاء والشفعاء عبيد‬
‫ل ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫له ‪ ،‬مماليك ل يقدمون على الشفاعة لحد حتى يأذن لهم ‪ } :‬قُ ْ‬
‫َْ‬ ‫مل ْ ُ‬
‫ض { ]الزمر ‪. [44 :‬‬
‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ك ال ّ‬ ‫ميًعا ل َ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫ج ِ‬
‫ة َ‬
‫فاعَ ُ‬ ‫ال ّ‬
‫ش َ‬
‫ول يشفعون إل لمن ارتضاه الله ‪ ،‬ول يرضى إل عمن قام بتوحيده واتباع‬
‫رسله ‪ ،‬فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب ‪ ،‬وأسعد الناس‬
‫بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال ‪ » :‬ل إله إل الله خالصا من‬
‫قلبه « ‪.‬‬

‫) ‪(1/26‬‬

‫ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط ‪ ،‬وأنه يعلم ما بين أيدي الخلئق من المور‬
‫م { ]البقرة ‪ ، [255 :‬من المور‬ ‫فهُ ْ‬‫خل ْ َ‬‫ما َ‬ ‫المستقبلة التي ل نهاية لها } وَ َ‬
‫الماضية التي ل حد لها ‪ ،‬وأنه ل تخفى عليه خافية ‪ ،‬يعلم خائنة العين وما‬
‫ما ِفي ال ْب َّر‬
‫م َ‬ ‫مَها إ ِّل هُوَ وَي َعْل َ ُ‬
‫ب َل ي َعْل َ ُ‬ ‫ح ال ْغَي ْ ِ‬ ‫فات ِ ُ‬
‫م َ‬‫عن ْد َه ُ َ‬‫تخفي الصدور ‪ } ،‬وَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ق ُ‬ ‫َوال ْب َ ْ‬
‫ب‬
‫ض وَل َرط ٍ‬ ‫ت الْر ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫حب ّةٍ ِفي ظل َ‬ ‫مَها وَل َ‬ ‫ن وََرقَةٍ إ ِل ي َعْل ُ‬ ‫م ْ‬‫ط ِ‬ ‫س ُ‬
‫ما ت َ ْ‬
‫حرِ وَ َ‬
‫ن { ‪ ،‬وأن الخلق ل يحيط أحد منهم بشيء من‬ ‫مِبي ٍ‬‫ب ُ‬ ‫س إ ِّل ِفي ك َِتا ٍ‬‫وَل يا ب ِ ٍ‬
‫َ‬
‫علم الله ‪ ،‬ول معلوماته إل بما شاء منهما ‪ ،‬وهو ما أطلعهم عليه من المور‬
‫الشرعية والقدرية ‪ ،‬وهو جزء يسير جدا بالنسبة إلى علم الباري ‪ ،‬تضمحل‬
‫العلوم كلها في علم الباري ومعلوماته ‪ ،‬كما قال أعلم المخلوقات ‪ ،‬وهم‬
‫مت ََنا { ]البقرة ‪. [32 :‬‬ ‫ما عَل ّ ْ‬‫م ل ََنا إ ِّل َ‬ ‫عل ْ َ‬ ‫ك َل ِ‬ ‫حان َ َ‬
‫سب ْ َ‬‫الرسل والملئكة ‪ُ } :‬‬

‫) ‪(1/27‬‬

‫ثم أخبر عن عظمته وجلله ‪ ،‬وأن كرسيه وسع السماوات والرض ‪ ،‬وأنه قد‬
‫حفظهما بما فيهما من العوالم بالسباب والنظامات التي جعلها الله في‬
‫مخلوقاته مع ذلك فل يؤوده ‪ -‬أي ‪ :‬يثقله ‪ -‬حفظهما ‪ ،‬لكمال عظمته وقوة‬
‫اقتداره وسعة حكمته في أحكامه ‪.‬‬
‫ي { بذاته على جميع مخلوقاته ‪ ،‬فهو الرفيع الذي باين جميع‬ ‫} وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ‬
‫مخلوقاته ; وهو العلي بعظمة صفاته ‪ ،‬الذي له كل صفة كمال ‪ ،‬ومن تلك‬
‫ي الذي قهر جميع المخلوقات ‪ ،‬ودانت له‬ ‫الصفات أكملها ومنتهاها ‪ ،‬وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ‬
‫كل الموجودات ‪ ،‬وخضعت له الصعاب ‪ ،‬وذلت له الرقاب ‪.‬‬
‫م { ‪ :‬الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء والمجد ‪ ،‬الذي تحبه‬ ‫ظي ُ‬ ‫} ال ْعَ ِ‬
‫القلوب ‪ ،‬وتعظمه الرواح ‪ ،‬ويعرف العارفون أن عظمة كل موجود ‪ -‬وإن‬
‫جلت عن الصفة ‪ -‬فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم ‪ ،‬فتبارك‬
‫الله ذو الجلل والكرام ‪.‬‬
‫فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني وأفرضها على العباد ‪،‬‬
‫يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ‪ ،‬ويحق لمن قرأها متدبرا متفقها أن يمتلئ‬
‫قلبه أن اليقين والعرفان واليمان ‪ ،‬وأن يكون بذلك محفوظا من شرور‬
‫الشيطان ‪ ،‬وقد نعت الباري نفسه الكريمة بهذه الوصاف في عدة آيات من‬
‫كتابه ‪.‬‬

‫) ‪(1/28‬‬

‫ه إ ِّل‬ ‫شهد الل ّه أ َنه َل إل َه إّل هُو وال ْمَلئ ِك َ ُ ُ‬


‫ط َل إ ِل َ َ‬
‫س ِ‬ ‫ما ِبال ْ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫ة وَأوُلو ال ْعِل ْم ِ َقائ ِ ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ُ ّ ُ‬ ‫‪َ ِ َ }-4‬‬
‫م { ]آل عمران ‪. [18 :‬‬ ‫كي ُ‬
‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫زيُز ال َ‬‫هُوَ ال ْعَ ِ‬
‫هذه أجل الشهادات على الطلق ; فإنها صدرت من الملك العظيم ‪ ،‬ومن‬
‫ملئكته وأنبيائه وأهل العلم على أجل مشهود عليه ; وهو توحيد الله وقيامه‬
‫بالقسط ‪ ،‬وذلك يتضمن الشهادة على جميع أحكام الشرع ‪ ،‬وأحكام الجزاء ;‬
‫فإن الدين أصله وقاعدته توحيد الله ‪ ،‬وإفراده بالعبادة ‪ ،‬والعتراف بانفراده‬
‫بصفات العظمة والكبرياء والمجد والعز والجلل ‪ ،‬وبنعوت الجود والبر‬
‫والرحمة والحسان والجمال ‪ ،‬وبكماله المطلق الذي ل يحصي أحد من الخلق‬
‫أن يحيطوا بشيء منه ‪ ،‬أو يبلغوه ‪ ،‬أو يصلوا إلى الثناء عليه ‪ ،‬بل هو كما أثنى‬
‫على نفسه ‪ ،‬وفوق ما يثني عليه عباده ‪.‬‬

‫) ‪(1/29‬‬

‫وأما القسط فهو العدل الكامل ; والله تعالى هو القائم بالعدل في شرعه‬
‫وخلقه وجزائه ; فإن العبادات الشرعية والمعاملت وتوابعها ‪ ،‬والمر والنهي‬
‫كله عدل وقسط ‪ ،‬ل ظلم فيه بوجه من الوجوه ‪ ،‬بل هو في غاية الحكام‬
‫والنتظام ‪ ،‬في غاية الحكمة ‪ ،‬والجزاء على العمال كله دائر بين فضل الله‬
‫وإحسانه على الموحدين المؤمنين به ‪ ،‬وبين عدله في عقوبة الكافرين‬
‫والعاصين ‪ ،‬فإنه لم يهضمهم شيئا من حسناتهم ‪ ،‬ولم يعذبهم بغير ما كسبوا ‪:‬‬
‫خَرى { ]النعام ‪. [164 :‬‬ ‫} وََل ت َزُِر َوازَِرة ٌ وِْزَر أ ُ ْ‬
‫ل الل ّ ُ‬
‫ه { ]النعام ‪ ، [19 :‬فتوحيد‬ ‫يٍء أ َك ْب َُر َ‬
‫شَهاد َةً قُ ِ‬ ‫ل أ َيّ َ‬
‫ش ْ‬ ‫قال تعالى ‪ } :‬قُ ْ‬
‫الله ودينه قد ثبت ثبوتا ل ريب فيه ‪ ،‬وهو أعظم الحقائق وأوضحها ; وقد شهد‬
‫الله له بذلك بما أقام من اليات والبراهين والحجج المتنوعة عليه ‪ ،‬ومن‬
‫شهادته تعالى أنه أقام أهل العلم العارفين بهذه الشهادة ‪ ،‬فإنهم المرجع‬
‫للعباد في تحقيق كل حق ‪ ،‬وإبطال كل باطل ‪ ،‬لما خصهم الله به من العلم‬
‫الصحيح ‪ ،‬واليقين التام ‪ ،‬والمعرفة الراسخة ‪.‬‬

‫) ‪(1/30‬‬

‫وهذا من جملة فضائل العلم وأهله ‪ ،‬فإن الله جعلهم وسائط بينه وبين‬
‫عباده ‪ ،‬يبلغونهم توحيده ودينه ‪ ،‬وشرائعه الظاهرة والباطنة ; وأمر الناس‬
‫بسؤالهم والرجوع إلى قولهم ‪ ،‬وأنهم هم الئمة المتبوعون ‪ ،‬وغيرهم تابع لهم‬
‫في الدنيا والخرة ‪ ،‬ولهذا لهم الكلمة الرفيعة حتى في الخرة ‪ ،‬لما ذكر‬
‫تعالى اختصام الخلق واختلفهم ذكر القول الفصل في ذلك ‪ ،‬الصادر من أهل‬
‫ّ َ‬ ‫ل ال ّذي ُ‬
‫ب اللهِ إ ِلى ي َوْم ِ‬ ‫قد ْ ل َب ِث ْت ُ ْ‬
‫م ِفي ك َِتا ِ‬ ‫ن لَ َ‬‫ما َ‬ ‫م َوا ْ ِ‬
‫لي َ‬ ‫ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫العلم ‪ } :‬وََقا َ‬
‫ن { ]الروم ‪. [56 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫م َل ت َعْل َ ُ‬ ‫م ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ث وَل َك ِن ّك ُ ْ‬
‫م ال ْب َعْ ِ‬ ‫ال ْب َعْ ِ‬
‫ث فَهَ َ‬
‫ذا ي َوْ ُ‬
‫وفي هذا دليل على كمال عدل أهل العلم ; فإن الله استشهد بهم على عباده‬
‫‪ ،‬وذلك تعديل منه لهم ‪ ،‬وفي هذا من الشرف وعلو المكانة ما ل يخفى ‪.‬‬

‫) ‪(1/31‬‬

‫‪َ } - 5‬فاعْل َ َ‬
‫ت َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ك وَل ِل ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫فْر ل ِذ َن ْب ِ َ‬
‫ست َغْ ِ‬ ‫ه إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه َوا ْ‬ ‫ه َل إ ِل َ َ‬ ‫م أن ّ ُ‬‫ْ‬
‫م { ]محمد ‪. [19 :‬‬ ‫ُ‬
‫واك ْ‬ ‫مث ْ َ‬
‫م وَ َ‬ ‫قل ّب َك ُ ْ‬
‫مت َ َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫م ُ‬
‫العلم ل بد فيه من إقرار القلب ‪ ،‬ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه ‪ ،‬ول يتم‬
‫ذلك إل بالعمل بمقتضى ذلك العلم في كل مقام بحسبه ; وهذا العلم الذي‬
‫أمر الله به فرض عين على كل إنسان ‪ ،‬ل يسقط عن أحد كائنا من كان ‪.‬‬
‫والضرورة إلى هذا العلم والعمل بمقتضاه ‪ -‬من تمام التأله لله ‪ -‬فوق كل‬
‫ضرورة ‪ ،‬والعلم بالشيء يتوقف على معرفة الطريق المفضي إلى معرفته‬
‫وسلوكها ‪.‬‬
‫ه إ ِّل هُوَ { ]البقرة ‪ [163 :‬على وجه الجمال‬
‫والطريق إلى العلم بأنه } َل إ ِل َ َ‬
‫والعموم أمور ‪:‬‬
‫أحدها ‪ - :‬وهو أعظمها وأوضحها وأقواها ‪ -‬تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله‬
‫الدالة على كماله وعظمته وجلله ; فإن معرفتها توجب العلم بأنه ل يستحق‬
‫اللوهية سواه ‪ ،‬وتوجب بذل الجهد في التأله والتعبد لله الكامل ‪ ،‬الذي له‬
‫كل حمد ومجد وجلل وجمال ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬العلم بأنه الرب المنفرد بالخلق والرزق والتدبير ‪ ،‬فبذلك يعلم أنه‬
‫المنفرد باللوهية ‪.‬‬

‫) ‪(1/32‬‬

‫الثالث ‪ :‬العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية ‪ ،‬فإن‬
‫ذلك يوجب تعلق القلب به محبة وإنابة ‪ ،‬والتأله له وحده ل شريك له ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬ما يراه العباد ويسمعونه من الثواب لوليائه القائمين بتوحيده من‬
‫النصر لرسله وأتباعهم ‪ ،‬ومن النعم العاجلة المشاهدة ‪ ،‬ومن عقوبته لعدائه‬
‫المشركين به ‪ ،‬فإن هذا برهان على أنه وحده المستحق لللوهية ‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬معرفة أوصاف الوثان والنداد التي عبدت مع الله ‪ ،‬واتخذت‬
‫آلهة ‪ ،‬وأنها فقيرة إلى الله من كل وجه ‪ ،‬ناقصة من كل وجه ‪ ،‬ل تملك‬
‫لنفسها ‪ ،‬ول لمن عبدها نفعا ول ضرا ‪ ،‬ول موتا ول حياة ول نشورا ; فالعلم‬
‫بذلك يعلم به بطلن إلهيتها ‪ ،‬وأن ما يدعون من دون الله هو الباطل ‪ ،‬وأن‬
‫الله هو الله الحق المبين ‪.‬‬
‫السادس ‪ :‬اتفاق كتب الله على ذلك ‪ ،‬وتواطؤها عليه ‪.‬‬
‫السابع ‪ :‬اتفاق النبياء والرسل والعلماء الربانيين على ذلك ‪ ،‬وشهادتهم به ‪،‬‬
‫وهم خواص الخلق ‪ ،‬وأكملهم أخلقا وعقول وعلما ويقينا ‪.‬‬

‫) ‪(1/33‬‬

‫الثامن ‪ :‬ما أقامه الله من الدلة واليات الفقية والنفسية ‪ ،‬التي تدل على‬
‫التوحيد أعظم دللة وأوضحها ‪ ،‬وتنادي عليه بلسان المقال ولسان الحال ‪،‬‬
‫بما أودعها من لطائف صنعته وبديع حكمته وغرائب خلقه ‪.‬‬
‫التاسع ‪ :‬ما أودعه الله في شرعه من اليات المحكمة والحكام الحسنة‬
‫والحقوق العادلة والخير الكثير ‪ ،‬وجلب المنافع كلها ودفع المضار ‪ ،‬ومن‬
‫الحسان المتنوع ‪ ،‬وذلك يدل أكبر دللة أنه الله الذي ل يستحق العبادة سواه‬
‫‪ ،‬وأن شريعته التي نزلت على ألسنة رسله شاهدة بذلك ‪.‬‬
‫فهذه الطرق التي ل تحصى أنواعها وأفرادها قد أبدأها الله في كتابه‬
‫وأعادها ‪ ،‬ونبه بها العباد على هذا المطلوب الذي هو أعظم المطالب وأجل‬
‫الغايات ‪ ،‬فمن سلك طريقا من هذه الطرق أفضت به إلى العلم واليقين بأنه‬
‫ل إله إل هو ‪ ،‬وكلما ازداد العبد سلوكا لهذه الطرق ‪ ،‬ورغبة فيها ومعرفة‬
‫ازداد يقينه ورسخ إيمانه ‪ ،‬وكان اليمان في قلبه أرسخ من الجبال ‪ ،‬وأحلى‬
‫من كل لذيذ وأنفس من كل نفيس ‪.‬‬
‫والطريق العظم الجامع لذلك كله تدبر القرآن العظيم والتأمل في آياته ‪،‬‬
‫فإنه الباب العظم إلى العلم بالتوحيد ‪ ،‬ويحصل به من تفاصيله وجمله ما ل‬
‫يحصل من غيره ‪.‬‬

‫) ‪(1/34‬‬

‫ك { ]محمد ‪ [19 :‬أي ‪ :‬اطلب من ربك المغفرة‬ ‫فْر ل ِذ َن ْب ِ َ‬


‫ست َغْ ِ‬
‫وقوله ‪َ } :‬وا ْ‬
‫لذنبك بأن تفعل السباب التي تحصل بها المغفرة ‪ :‬من الدعاء بالمغفرة‬
‫والتوبة النصوح ‪ ،‬وفعل الحسنات الماحية ‪ ،‬وترك الذنوب ‪ ،‬والعفو عن الخلق‬
‫ن‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫والحسان إليهم ‪ ،‬ومن ذلك الستغفار لهم ‪ ،‬فلهذا قال ‪ } :‬وَل ِل ْ ُ‬
‫ت { فهذا من ثمرات اليمان بسبب إيمانهم كان لهم حق على كل‬ ‫مَنا ِ‬ ‫َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫مسلم أن يدعو لهم بالمغفرة ‪.‬‬
‫وإذا كان العبد مأمورا بالستغفار للمؤمنين والمؤمنات فمن لوازم ذلك أن‬
‫يكون ناصحا لهم ‪ ،‬يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه ‪ ،‬ويكره لهم من الشر‬
‫ما يكره لنفسه ‪ ،‬ويحثهم على الخير ‪ ،‬وينهاهم عن الشر ‪ ،‬ويعفو عن معايبهم‬
‫ومساويهم ‪ ،‬ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم ‪ ،‬ويزول ما‬
‫بينهم من الحقاد المفضية للمعاداة والشقاق ‪ ،‬فإنه بالئتلف تقل الذنوب ‪،‬‬
‫م { أي ‪:‬‬‫واك ُ ْ‬ ‫مث ْ َ‬‫م وَ َ‬ ‫قل ّب َك ُ ْ‬
‫مت َ َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م ُ‬ ‫وبالفتراق تكثر الشرور والمعاصي ‪َ } ،‬والل ّ ُ‬
‫تصرفاتكم وحركاتكم وذهابكم ومجيئكم ‪ ،‬وما إليه تنتهون وبه تستقرون ‪ ،‬فهو‬
‫المحيط بكم في كل أحوالكم ; وهذا فيه التخويف والترغيب من الجزاء على‬
‫العمال حسنها وسيئها ‪.‬‬

‫) ‪(1/35‬‬

‫م {}‬ ‫حي ُ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫شَهاد َةِ هُوَ الّر ْ‬ ‫ب َوال ّ‬‫م ال ْغَي ْ ِ‬
‫عال ِ ُ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ َ‬ ‫ذي َل إ ِل َ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫‪ } - 6‬هُوَ الل ّ ُ‬
‫زيُز‬‫ن ال ْعَ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مهَي ْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫م ال ْ ُ‬
‫سَل ُ‬‫س ال ّ‬ ‫دو ُ‬ ‫ق ّ‬‫ك ال ْ ُ‬
‫مل ِ ُ‬‫ه إ ِّل هُوَ ال ْ َ‬ ‫ذي َل إ ِل َ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫هُوَ الل ّ ُ‬
‫صوُّر‬ ‫م َ‬ ‫خال ِقُ ال َْبارِئُ ال ْ ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬‫ن {} هُوَ الل ّ ُ‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ن الل ّهِ عَ ّ‬
‫ما ي ُ ْ‬ ‫حا َ‬
‫سب ْ َ‬ ‫مت َك َب ُّر ُ‬ ‫جّباُر ال ْ ُ‬‫ال ْ َ‬
‫زيُز ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م{‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ض وَهُوَ ال ْعَ ِ‬ ‫ت َوالْر ِ‬
‫ْ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ح لَ ُ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫سَنى ي ُ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ماُء ال ْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ه اْل ْ‬ ‫لَ ُ‬
‫]الحشر ‪. [24 - 22 :‬‬
‫هذه اليات الكريمة قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى التي عليها‬
‫مدار التوحيد والعتقاد ‪ ،‬فأخبر أنه المألوه الذي ل يستحق العبادة سواه ;‬
‫وذلك لكماله العظيم وإحسانه الشامل ‪ ،‬وتدبيره العام وحكمه الشاملة ‪ ،‬فهو‬
‫الله الحق ‪ ،‬وما سواه فعبوديته باطلة ‪ ،‬لنه خال من الكمال ‪ ،‬ومن الفعال‬
‫التي فيها النفع والضر ‪.‬‬
‫ووصف نفسه بالعلم المحيط بما حضر وغاب ‪ ،‬وما مضى وما يستقبل وما هو‬
‫حاضر ‪ ،‬وما في العالم العلوي وما في العالم السفلي ‪ ،‬وما ظهر وما بطن ‪،‬‬
‫فل تخفى عليه خافية في مكان من المكنة ‪ ،‬ول زمان من الزمنة ‪.‬‬

‫) ‪(1/36‬‬
‫ومن كمال علمه وقدرته أنه يعلم ما تنقص الرض من الموات ‪ ،‬وما تفرق‬
‫من أجزائهم ‪ ،‬وما استحال من حال إلى حال ; أحاط علما بذلك على وجه‬
‫التفصيل ‪ ،‬فل يعجزه إعادتهم للبعث والجزاء ‪.‬‬
‫م { الذي وسعت رحمته الخليقة بأسرها ‪،‬‬ ‫حي ُ‬
‫ن الّر ِ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ووصف نفسه بأنه } الّر ْ‬
‫ك { ‪ ،‬وهو الذي له الملك التام‬ ‫وملت الوجود كله ; ووصف نفسه بأنه } ال ْ َ‬
‫مل ِ ُ‬
‫المطلق ‪ ،‬له صفات الملك التي هي نعوت العظمة والكبرياء والعز‬
‫والسلطان ‪ ،‬وله التصرف المطلق في جميع الممالك ‪ ،‬الذي ل ينازعه فيه‬
‫منازع ‪ ،‬والموجودات كلها عبيده وملكه ‪ ،‬ليس لهم من المر شيء ‪.‬‬

‫) ‪(1/37‬‬

‫م { أي ‪ :‬المقدس المعظم ‪ ،‬السالم من جميع‬ ‫سَل ُ‬


‫س ال ّ‬‫دو ُ‬ ‫وأخبر أنه } ال ْ ُ‬
‫ق ّ‬
‫ن { ‪ :‬المصدق لرسله وأنبيائه بما‬ ‫م ُ‬‫مؤ ْ ِ‬‫العيوب والنقائص المنافية لكماله ‪ } ،‬ال ْ ُ‬
‫جاؤوا به من اليات البينات والبراهين القاطعات والحجج الواضحات ‪ ،‬الذي‬
‫له العلم كله ‪ ،‬ويعلم من أوصافه المقدسة ونعوته العظيمة ما ل يعلمه بشر‬
‫زيُز { ‪ :‬الذي‬ ‫ول ملك ‪ ،‬ويحب نفسه وما هو عليه من الجلل والجمال ‪ } ،‬ال ْعَ ِ‬
‫له العزة كلها ‪ ،‬عزة القوة والقدرة ‪ ،‬فهو القوي المتين ‪ ،‬وعزة القهر والغلبة‬
‫لكل مخلوق ‪ ،‬فكلهم نواصيهم بيده ‪ ،‬وليس لهم من المر شيء ‪ ،‬وعزة‬
‫المتناع الذي تمنع بعزته عن كل مخلوق ‪ ،‬فل يعارض ول يمانع ‪ ،‬وليس له‬
‫جّباُر { ‪ :‬الذي قهر جميع المخلوقات ‪ ،‬ودانت له‬ ‫نديد ول ضديد ‪ } ،‬ال ْ َ‬
‫الموجودات ‪ ،‬واعتلى على الكائنات ‪ ،‬وجبر بلطفه وإحسانه القلوب‬
‫مت َك َب ُّر { ‪ :‬عن النقائص والعيوب ‪ ،‬وعن مشابهة أحد من‬ ‫المنكسرات ‪ } ،‬ال ْ ُ‬
‫ن { ‪ :‬وهذا‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ن الل ّهِ عَ ّ‬
‫ما ي ُ ْ‬ ‫حا َ‬‫سب ْ َ‬‫خلقه ‪ ،‬ومماثلتهم لعظمته وكبريائه ‪ُ } ،‬‬
‫تنزيه عام عن كل ما وصفه به من أشرك به ولم يقدره حق قدره ‪.‬‬

‫) ‪(1/38‬‬

‫خال ِقُ { ‪ :‬لجميع المخلوقات ‪ } ،‬ال َْبارِئُ { ‪ :‬بحكمته ولطفه لجميع‬ ‫ه ال ْ َ‬


‫} هُوَ الل ّ ُ‬
‫صوُّر { ‪ :‬بحسن خلقه لجميع الموجودات ‪ ،‬أعطى كل شيء‬ ‫م َ‬‫البريات ‪ } ،‬ال ْ ُ‬
‫خلقه ‪ ،‬ثم هدى كل مخلوق وكل عضو لما خلق له وهيئ له ‪.‬‬
‫فالله تعالى قد تفرد بهذه الوصاف المتعلقة بخلقه ‪ ،‬لم يشاركه في ذلك‬
‫مشارك ‪ ،‬وهذا من براهين توحيده ‪ ،‬وأن من تفرد بالخلق والبرء والتصوير‬
‫َ‬
‫ماُء‬
‫س َ‬‫ه اْل ْ‬ ‫فهو المستحق للعبودية ونهاية الحب وغاية الخضوع ‪ } ،‬ل َ ُ‬
‫سَنى { ‪ :‬وقد ورد في الحديث الصحيح ‪ » :‬إن لله تسعة وتسعين اسما ;‬ ‫ح ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مائة إل واحدا ‪ ،‬من أحصاها دخل الجنة « ‪ -‬يعني ‪ :‬أحصى ألفاظها وحفظها‬
‫وعقلها وتعبد لله بها ‪ ، -‬فهو تعالى الذي له كل اسم حسن ‪ ،‬وكل صفة جلل‬
‫ما‬
‫ه َ‬ ‫ح لَ ُ‬‫سب ّ ُ‬‫وكمال ‪ ،‬فيستحق من عباده كل إجلل وتعظيم وحب وخضوع ‪ } ،‬ي ُ َ‬
‫ض { ‪ :‬يعني ‪ :‬من المكلفين والحيوانات والشجار‬ ‫َْ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫ه‬
‫م إ ِن ّ ُ‬
‫حهُ ْ‬ ‫سِبي َ‬‫ن تَ ْ‬‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ن ل تَ ْ‬ ‫َ‬
‫مدِهِ وَلك ِ ْ‬ ‫ح ْ‬
‫ح بِ َ‬
‫سب ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫يٍء إ ِل ي ُ َ‬ ‫ن َ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫والجمادات ‪ } ،‬وَإ ِ ْ‬
‫م { ‪ :‬في خلقه‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫زيُز ال َ‬ ‫ْ‬
‫فوًرا { ]السراء ‪ } ، [44 :‬وَهُوَ العَ ِ‬ ‫ما غَ ُ‬ ‫حِلي ً‬
‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫وشرعه ‪.‬‬

‫) ‪(1/39‬‬
‫ل هُو الل ّ َ‬
‫مد ُ {} ل َ ْ‬
‫م ي َل ِد ْ‬ ‫ص َ‬ ‫حد ٌ {} الل ّ ُ‬
‫ه ال ّ‬ ‫هأ َ‬ ‫ُ‬ ‫‪ - 7‬بسم الله الرحمن الرحيم } قُ ْ َ‬
‫َ‬
‫حد ٌ { ]سورة الخلص[ ‪.‬‬ ‫وا أ َ‬ ‫ه كُ ُ‬
‫ف ً‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫م ُيول َد ْ {} وَل َ ْ‬
‫وَل َ ْ‬
‫أي ‪ ) :‬قل ( قول جازما فيه ‪ ،‬معتقدا له ‪ ،‬عارفا بمعناه ‪ ،‬عامل بمقتضاه من‬
‫حد ٌ { أي ‪ :‬الذي انحصرت فيه‬ ‫اليمان بالله والتعظيم والخضوع ‪ } ،‬هُو الل ّ َ‬
‫هأ َ‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫الحدية ‪ ،‬وهي التفرد بكل صفة كمال ‪ ،‬الذي ل يشاركه في ذلك مشارك ;‬
‫الذي له السماء الحسنى والصفات العلى والفعال المقدسة والتصرف‬
‫مد ُ { أي ‪ :‬السيد الذي قد انتهى سؤدده ; العليم الذي‬ ‫ص َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫المطلق ‪ } ،‬الل ّ ُ‬
‫قد كمل علمه ‪ ،‬الحليم الذي قد كمل في حلمه ‪ ،‬وفي قدرته وفي جميع‬
‫أوصاف كماله ‪ ،‬ولجل هذا صمدت له المخلوقات كلها ‪ ،‬وقصدته في كل‬
‫حاجاتها ‪ ،‬وفزعت إليه الخليقة في مهماتها وملماتها ‪.‬‬
‫فالصمد هو الذي صمدت له المخلوقات لما اتصف به من جميع الكمالت ‪،‬‬
‫م ُيول َد ْ { ‪ ،‬لنه الغني المالك ‪ ،‬فاتخاذ الولد ينافي‬ ‫م ي َل ِد ْ وَل َ ْ‬ ‫ومن كماله أنه } ل َ ْ‬
‫َ‬
‫حد ٌ { أي ‪ :‬ليس له مكافئ ول مثيل في‬ ‫وا أ َ‬‫ف ً‬‫ه كُ ُ‬ ‫ن لَ ُ‬‫م ي َك ُ ْ‬ ‫ملكه وغناه ‪ } ،‬وَل َ ْ‬
‫أسمائه وصفاته وأفعاله ‪ ،‬تبارك وتعالى ‪.‬‬

‫) ‪(1/40‬‬

‫فهذه السورة أصل عظيم من أصول اليمان ‪ ،‬وقد تضمنت توحيد السماء‬
‫والصفات ‪ ،‬ومن لوازم ذلك توحيد اللهية ‪ ،‬وأن المتفرد بالوحدانية من كل‬
‫وجه ‪ ،‬الذي ليس له مثيل بوجه من الوجوه ‪ ،‬هو الذي ل تنبغي العبادة إل له ‪،‬‬
‫ل إله إل هو ‪.‬‬
‫م { ]البقرة ‪ ، [163 :‬يخبر‬ ‫حي ُ‬
‫ن الّر ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ّ‬
‫ه إ ِل هُوَ الّر ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حد ٌ ل إ ِل َ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫َ‬ ‫‪ } - 8‬وَإ ِل َهُك ُ ْ‬
‫م إ ِل ٌ‬
‫حد ٌ { أي ‪ :‬متوحد منفرد في‬ ‫ه َوا ِ‬‫الله تعالى ‪ ،‬وهو أصدق القائلين ‪ ،‬أنه } إ ِل َ ٌ‬
‫ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ; فليس له شريك ‪ ،‬ول سمي له ‪ ،‬ول كفو ول‬
‫مثل ول نظير ول خالق ول مدبر غيره ‪.‬‬
‫فإذا تقرر أنه كذلك فهو المستحق لن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ‪ ،‬ول‬
‫م { ‪ :‬المتصف بالرحمة‬ ‫حي ُ‬‫ن الّر ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬
‫يشرك به أحد من خلقه ‪ ،‬لنه } الّر ْ‬
‫العظيمة التي ل يماثلها رحمة أحد ‪ ،‬فقد وسعت كل شيء ‪ ،‬وعمت كل حي ‪.‬‬
‫فبرحمته وجدت المخلوقات ‪ ،‬وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالت ‪ ،‬وبرحمته‬
‫اندفع عن العباد كل نقمة ‪ ،‬وبرحمته عرف عباده نفسه بصفاته وآلئه ‪ ،‬وبين‬
‫لهم كل ما يحتاجونه من أمور دينهم ومصالح دنياهم بإرسال الرسل وإنزال‬
‫الكتب ‪.‬‬

‫) ‪(1/41‬‬

‫فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة دقت أو جلت فمن الله ‪ ،‬وأن أحدا من‬
‫المخلوقين ل ينفع أحدا ‪ ،‬علم أنه ل يستحق العبادة إل المتفرد بالنعم ‪ ،‬الدافع‬
‫للمكاره ‪ ،‬وتعين على العباد أن يفردوه بالمحبة ‪ ،‬والخوف والرجاء والتعظيم‬
‫والتوكل ‪ ،‬وغير ذلك من أنواع الطاقات ‪ ،‬وإن من أظلم الظلم وأقبح القبيح‬
‫وأعظم الضلل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد ‪ ،‬وأن يشرك المخلوقين‬
‫من تراب بالرب العظيم ‪ ،‬وأن يسوى المخلوق العاجز القاصر الناقص من‬
‫كل وجه بالرب الخالق المدبر القوي ‪ ،‬الذي قهر كل شيء ‪ ،‬وخضعت له‬
‫الرقاب ‪.‬‬
‫ففي هذه الية إثبات وحدانية البارئ وإلهيته ‪ ،‬وتقريرها بنفيها عن غيره من‬
‫المخلوقين ‪ ،‬والستدلل على ذلك بتفرده بالرحمة ‪ ،‬التي من آثارها جميع البر‬
‫والحسان في الدنيا والخرة ‪ ،‬ثم ذكر الدلة التفصيلية بقوله ‪:‬‬

‫) ‪(1/42‬‬

‫ك ال ِّتي‬ ‫فل ْ ِ‬
‫ل َوالن َّهارِ َوال ْ ُ‬ ‫َْ‬
‫َ‬ ‫ف الل ّي ْ ِ‬‫خت َِل ِ‬ ‫ض َوا ْ‬ ‫ت َوالْر َ ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ق ال ّ‬ ‫خل ِ‬
‫ن ِفي َ ْ‬ ‫‪ } - 9‬إِ ّ‬
‫ماٍء فَأ ْ‬
‫حَيا ب ِهِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ماِء ِ‬‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫فعُ الّنا َ‬ ‫ما ي َن ْ َ‬‫حرِ ب ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ري ِفي الب َ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ر‬
‫خ ِ‬‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ف الّرَياِح َوال ّ‬ ‫ري ِ‬‫ص ِ‬ ‫ل َداب ّةٍ وَت َ ْ‬ ‫نك ّ‬‫ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ث ِفيَها ِ‬ ‫موْت َِها وَب َ ّ‬ ‫اْلْر َ‬
‫ض ب َعْد َ َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [164 :‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َعْ ِ‬ ‫ض َلَيا ٍ‬
‫ت لِ َ‬ ‫َْ‬
‫ماِء َوالْر ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬‫ب َي ْ َ‬
‫أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات ‪ ،‬أي ‪ :‬أدلة ‪ ،‬على وحدانية‬
‫الباري وإلهيته ‪ ،‬وعظيم سلطانه ورحمته ‪ ،‬وسائر صفاته ‪ ،‬وآية على البعث‬
‫والجزاء لقوم يعقلون ; أي ‪ :‬لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ; فعلى‬
‫حساب ما من الله على عبده من العقل ‪ ،‬وصرفه في التفكر في اليات‬
‫ينتفع بها ويعرفها ويعقلها بعقله وفكره وتدبره ; ففي خلق السماوات ‪ ،‬في‬
‫ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها ‪ ،‬وما جعل الله فيها من الشمس والقمر‬
‫والنجوم وجريانها بانتظام عجيب ‪ ،‬لمصالح العباد ‪.‬‬

‫) ‪(1/43‬‬

‫وفي خلق الرض ; وجعلها مهادا للخلق يمكنهم القرار عليها ‪ ،‬والنتفاع بما‬
‫عليها والعتبار ; ما يدل ذلك على انفراد الله بالخلق والتدبير ‪ ،‬وبيان قدرته‬
‫العظيمة التي بها خلقها ‪ ،‬وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها ‪ ،‬وعلمه‬
‫ورحمته التي بها أودع ما أودع فيها من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم‬
‫وحاجاتهم ; وفي ذلك أبلغ دليل وبرهان على كماله من كل وجه ‪ ،‬وأن يفرد‬
‫بالعبادة لنفراده بالخلق والتدبير والقيام بشؤون عباده ‪.‬‬
‫وفي ) اختلف الليل والنهار ( وهو ‪ :‬تعاقبهما على الدوام إذا ذهب أحدهما‬
‫خلفه الخر ; وفي اختلفهما في الحر والبرد والتوسط ‪ ،‬وفي الطول والقصر‬
‫والتوسط ‪ ،‬وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح الدميين‬
‫وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم والنوابت كلها ‪ ،‬كل ذلك بتدبير وتسخير تحير‬
‫في حسنه العقول ‪ ،‬ويعجز عن إدراك كنهه الرجال الفحول ‪ ،‬وذلك يدل على‬
‫قدرة مصرفها وسعة علمه وشمول حكمته ‪ ،‬وعموم رحمته ولطفه الشامل ‪،‬‬
‫وعظمته وكبريائه وسلطانه العظيم ‪ ،‬يضطر العباد إلى معرفة ربهم ‪،‬‬
‫وإخلص العبادة له وحده ل شريك له ‪.‬‬

‫) ‪(1/44‬‬

‫وفي ) الفلك التي تجري في البحر ( وهي ‪ :‬السفن والمراكب ونحوها مما‬
‫ألهم الله عباده صنعتها ‪ ،‬وأقدرهم عليها بتيسير أسبابها ‪ ،‬ثم سخر لها هذا‬
‫البحر العظيم والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والموال والبضائع‬
‫التي هي من منافع الناس ‪ ،‬وبها تنتظم معايشهم ‪.‬‬
‫فمن الذي ألهمهم صنعتها وأقدرهم عليها ‪ ،‬وخلق لهم من اللت المتنوعة ما‬
‫به يعملونها ؟ أم من الذي سخر لها هذا البحر تجري فيه ‪ -‬بإذنه وتسخيره ‪-‬‬
‫الرياح ؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية والهوائية النار والمعادن‬
‫المتنوعة المعينة على حملها وحمل ما فيها من الموال الثقيلة جدا ؟‬

‫) ‪(1/45‬‬

‫فهل هذه المور حصلت صدفة واتفاقا ؟ أم استقل بعملها وخلق أسبابها هذا‬
‫المخلوق الضعيف العاجز الذي خرج من بطن أمه ل يعلم شيئا ‪ ،‬وليس له‬
‫قدرة على شيء ‪ ،‬ثم أعطاه خالقه القدرة وعلمه ما لم يكن يعلم ؟ أم تقول‬
‫‪ - :‬والحق تقول ‪ : -‬بل المسخر لذلك الرب الواحد ‪ ،‬العظيم العليم الحكيم‬
‫القدير ; الذي ل يعجزه شيء ‪ ،‬ول يمتنع عليه شيء ‪ ،‬بل الشياء كلها قد‬
‫دانت لربوبيته ‪ ،‬واستكانت لعظمته ‪ ،‬وخضعت لجبروته ; وغاية العبد الضعيف‬
‫أن جعله الله جزءا من أجزاء السباب التي بها وجدت هذه المور العظام ‪،‬‬
‫فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بعباده ‪ ،‬ويدعو العباد إلى أن يعبدوه وحده‬
‫ل شريك له ‪ ،‬وينيبوا إليه في كل حال ‪.‬‬
‫ماٍء { ‪ :‬وهو المطر النازل من السحاب ‪،‬‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ماِء ِ‬
‫س َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫موْت َِها { ‪ :‬فأظهرت أنواع القوات وأصناف الشجار‬ ‫ض ب َعْد َ َ‬‫حَيا ب ِهِ اْلْر َ‬ ‫} فَأ ْ‬
‫والنباتات التي ل يمكن للعباد أن يعيشوا بدونها ‪.‬‬

‫) ‪(1/46‬‬

‫أليس ذلك برهانا على قدرة من أنزله وأخرج به ما أخرج ‪ ،‬وعلى رحمته‬
‫ولطفه بعباده ‪ ،‬وشدة افتقار الخليقة إليه في كل أحوالهم ‪ ،‬وهو يحدوهم إلى‬
‫إخلص الدين له والنابة إليه ‪ ،‬والقيام بعبوديته ظاهرا وباطنا ؟‬
‫ن آَيات ِهِ أ َن ّكَ‬‫م ْ‬‫وكذلك هو دليل على إحياء الله للموتى كما قال تعالى ‪ } :‬وَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫حَيا َ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ت إِ ّ‬
‫ت وََرب َ ْ‬ ‫ة فَإ َِذا أن َْزل َْنا عَل َي َْها ال ْ َ‬
‫ماَء اهْت َّز ْ‬ ‫شعَ ً‬ ‫خا ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ت ََرى اْلْر َ‬
‫ديٌر { ]فصلت ‪. [39 :‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫موَْتى إ ِن ّ ُ‬ ‫حِيي ال ْ َ‬ ‫لَ ُ‬
‫م ْ‬
‫وقد ذكر الله هذا البرهان على البعث في عدة آيات ‪ ،‬كما ذكر ابتداء الخلق‬
‫برهانا على إعادته ‪ ،‬وكما ذكر كمال علمه وقدرته ‪ ،‬وخلق السماوات والرض‬
‫‪ ،‬وأنه جعل للعباد من الشجر الخضر نارا برهانا بينا على البعث ‪.‬‬
‫ل َداب ّةٍ { أي ‪ :‬نشر في أقطار الرض من الدواب‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ث ِفيَها ِ‬ ‫وقوله ‪ } :‬وَب َ ّ‬
‫المتنوعة ‪ ،‬وسخرها للدميين ينتفعون بها من وجوه كثيرة ‪ ،‬ومع هذا فهو قائم‬
‫بأرزاقها ‪ ،‬متكفل بأقواتها ‪ ،‬فما من دابة في الرض إل على الله رزقها ‪،‬‬
‫ويعلم مستقرها ومستودعها ‪.‬‬

‫) ‪(1/47‬‬

‫وفي تصريف الرياح آيات عظيمة على وحدانية الله وتفرده بالكمال‬
‫المطلق ‪ ،‬فتارة تكون باردة وحارة وبين ذلك ‪ ،‬وجنوبا وشمال ‪ ،‬ودبورا ) أي ‪:‬‬
‫غربية ( ‪ ،‬وبين ذلك ‪ ،‬وتارة تثير السحاب ‪ ،‬وتارة تؤلف بينه ‪ ،‬وتارة تلقحه‬
‫وتدره ‪ ،‬وتارة تمزقه وتزيل ضرره ‪ ،‬وتارة ترسل بالرحمة ‪ ،‬وتارة ترسل‬
‫بالعذاب ‪ ،‬فمن الذي صرفها هذا التصريف ‪ ،‬ورتب عليها من المنافع للعباد‬
‫كثيرا إل العزيز الحكيم ‪ ،‬الرحيم اللطيف بعباده ‪ ،‬المستحق للمحبة والثناء‬
‫والشكر والحمد من الحقيقة ؟‬
‫وفي تسخير السحاب بين السماء والرض على خفته ولطافته يحمل الماء‬
‫الكثير ‪ ،‬فيسوقه الله إلى حيث يشاء ‪ ،‬ويجعله حياة للبلد والعباد ‪ ،‬ويروي به‬
‫التلول والوهاد ‪ ،‬وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه ‪ ،‬ويصرف عنهم‬
‫ضرره ‪ ،‬فينزله رحمة ولطفا ‪ ،‬ويصرفه عناية وعطفا ‪.‬‬
‫فما أعظم سلطانه وأغزر إحسانه وألطف امتنانه ‪ ،‬أليس من أقبح القبيح‬
‫وأظلم الظلم أن يتمتع العباد برزقه ويعيشوا ببره ‪ ،‬وهم يستعينون بذلك على‬
‫مساخطه ومعاصيه ؟ ومع ذلك من كمال حلمه وعفوه وصفحه يوالي عليهم‬
‫الحسان ‪ ،‬خيره إليهم على الدوام نازل ‪ ،‬وشرهم إليه في كل وقت صاعد ‪.‬‬

‫) ‪(1/48‬‬

‫والحاصل أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات ‪ ،‬وتغلغل فكره في بدائع‬
‫الكائنات ‪ ،‬علم أنها خلقت للحق وبالحق ‪ ،‬وأنها صحائف آيات ‪ ،‬وكتب براهين‬
‫ودللت على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته ‪ ،‬وما أخبرت به الرسل‬
‫من اليوم الخر ‪ ،‬وأنها مدبرات مسخرات ‪ ،‬ليس لها تدبير ول استعصاء على‬
‫مدبرها ومصرفها ‪ ،‬فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون ‪،‬‬
‫وإليه صامدون ‪ ،‬وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات ‪ ،‬فل إله إل هو ‪ ،‬ول‬
‫رب سواه ‪.‬‬
‫ولنقتصر على هذا النموذج من اليات المتعلقة بالتوحيد ‪ ،‬مع ما دخل في‬
‫ضمنها من اليمان بالجزاء والبعث ‪ ،‬وبالرسل والكتب ‪ ،‬وقد قرن الله ذلك‬
‫بأدلته وبراهينه الموصلة إلى العلم التام ‪ ،‬واليقين الراسخ ‪ ،‬وبذلك يعلم أن‬
‫هذه الصول الثلثة متلزمة ‪ :‬التوحيد والرسالة والمعاد ‪ ،‬كما أن في ضمن‬
‫اليات المتعلقة بالجزاء شيئا كثيرا من متعلقات التوحيد والرسالة ‪ ،‬فسبحان‬
‫من جعل في كلمه الهدى والرشاد ‪ ،‬وإصلح العباد ‪.‬‬

‫) ‪(1/49‬‬

‫فصل‬
‫م ي َت ُْلو‬ ‫َ‬
‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن أن ْ ُ‬‫م ْ‬‫سوًل ِ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫ن إ ِذ ْ ب َعَ َ‬‫مِني َ‬ ‫ه عََلى ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫م ّ‬ ‫قد ْ َ‬‫‪ } - 10‬ل َ َ‬
‫ل‬‫ضَل ٍ‬
‫في َ‬ ‫ل لَ ِ‬‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬
‫كاُنوا ِ‬ ‫ة وَإ ِ ْ‬
‫م َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬‫مهُ ُ‬‫م وَي ُعَل ّ ُ‬‫كيهِ ْ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫م آَيات ِهِ وَي َُز ّ‬
‫ن { ]آل عمران ‪. [164 :‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ُ‬
‫هذه المنة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين أكبر المنن ‪ ،‬بل هي‬
‫أصلها ; وهي المتنان عليهم بهذا الرسول الكريم ‪ ،‬الذي جمع الله به جميع‬
‫المحاسن الموجودة في الرسل ; ومن كماله العظيم هذه الثار التي جعلها‬
‫الله نتيجة رسالته ‪ ،‬التي بها كمال المؤمنين علما وعمل ‪ ،‬وأخلقا وآدابا ‪ ،‬وبها‬
‫زال عنهم كل شر وضرر ‪ ،‬فبعثه الله من أنفسهم وأنفسهم وقبيلتهم ‪،‬‬
‫يعرفون نسبه أشرف النساب ‪ ،‬وصدقه وأمانته وكماله الذي فاق به الولين‬
‫والخرين ‪ ،‬ناصحا لهم مشفقا ‪ ،‬حريصا على هدايتهم ‪.‬‬
‫) ‪(1/50‬‬

‫م{‬ ‫م آَيات ِهِ { ‪ :‬فيعلمهم ألفاظها ‪ ،‬ويشرح لهم معانيها ‪ } ،‬وَي َُز ّ‬
‫كيهِ ْ‬ ‫} ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ‬
‫أي ‪ :‬يطهرهم من الشرك والمعاصي والرذائل وسائر الخصال الذميمة ‪،‬‬
‫ويزكيهم أيضا أي ‪ :‬ينميهم ‪ ،‬فيحثهم على الخلق الجميلة ‪ ،‬فإن التزكية‬
‫تتضمن هذين المرين ‪ :‬التطهير من المساوئ ‪ ،‬والتنمية بالمحاسن ;‬
‫ة { ‪ :‬وهي السنة ‪.‬‬ ‫ب { ‪ :‬وهو القرآن ‪َ } ،‬وال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬
‫م َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬‫مهُ ُ‬ ‫} وَي ُعَل ّ ُ‬
‫فالكتاب والسنة بهما أكمل الله للرسول وأمته الدين ‪ ،‬وبهما حصل العلم‬
‫بأصول الدين وفروعه ‪ ،‬وبهما حصلت جميع العلوم النافعة ‪ ،‬وما يترتب عليها‬
‫من الخيرات ‪ ،‬وزوال الشرور ‪ ،‬وبهما حصل العلم اليقيني بجميع الحقائق‬
‫النافعة ‪ ،‬وبهما الهداية والصلح للبشر ‪.‬‬

‫) ‪(1/51‬‬

‫فمحمد صلى الله عليه وسلم هو المام العظم المعلم لهذين المرين ‪،‬‬
‫اللذين ينابيع العلوم كلها تتفجر من معينهما ‪ ،‬فعلم صلى الله عليه وسلم أمته‬
‫الكتاب والحكمة ‪ ،‬وأوقفهم على حكم الحكام وأسرارها ‪ ،‬فكانت حياته كلها ‪-‬‬
‫أقواله وأفعاله وتقريراته وهديه ‪ ،‬وأخلقه الظاهرة والباطنة ‪ ،‬وسيرته الكاملة‬
‫المتنوعة في كل فن من الفنون ‪ -‬تعليما منه للمؤمنين ‪ ،‬وشرحا للكتاب‬
‫والحكمة ‪ ،‬فجمع لهم بين تعليم الحكام الصولية والفروعية ‪ ،‬وما به تدرك‬
‫وتنال ‪ ،‬والطرق التي تفضي إليها عقل ونقل وتفكيرا وتدبرا ‪ ،‬واستخراجا‬
‫للعلوم الكونية من مظانها وينابيعها ‪ ،‬وبين لهم فوائد ذلك كله وثمراته ‪،‬‬
‫وشرح لهم الصراط المستقيم ‪ ،‬اعتقاداته وأخلقه وأعماله ‪ ،‬وما لسالكه عند‬
‫الله من الخير العاجل والجل ‪ ،‬وما على المنحرف عنه من العقاب والضرر‬
‫العاجل والجل ‪.‬‬

‫) ‪(1/52‬‬

‫فكان خيار المؤمنين بهذا التعليم الصادر من النبي الكريم مباشرة ‪ ،‬وتبليغا‬
‫من العلماء الربانيين الراسخين في العلم ‪ ،‬ومن الهداة المهديين ‪ ،‬ومن أكابر‬
‫الصديقين ‪ ،‬وحصل لسائر المؤمنين من هذا التعليم نصيب وافر من الخير‬
‫العظيم على حسب طبقاتهم ومنازلهم ‪ ،‬وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‪،‬‬
‫والله ذو الفضل العظيم ‪ ،‬فخرجوا بهذا التعليم من جميع الضللت ‪ ،‬وانجالت‬
‫عنهم الشرور المتنوعة والجهالت ‪ ،‬وتم لهم النور الكامل ‪ ،‬وانقشعت عنهم‬
‫الظلمات ‪.‬‬
‫فيا لها من نعمة ل يقدر قدرها ‪ ،‬ول يحصي المؤمنون كنه شكرها ‪.‬‬

‫) ‪(1/53‬‬

‫ن فَ َ‬
‫قد ْ‬ ‫خُرو َ‬ ‫مآ َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ قَوْ ٌ‬ ‫ك افْت ََراه ُ وَأ َ َ‬
‫عان َ ُ‬ ‫ذا إ ِّل إ ِفْ ٌ‬
‫ن هَ َ‬ ‫ن كَ َ‬
‫فُروا إ ِ ْ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫‪ } - 11‬وََقا َ‬
‫مَلى عَل َي ْهِ ب ُك َْرةً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي تُ ْ‬ ‫طيُر اْلوِّلي َ‬
‫ن اك ْت َت َب ََها فَهِ َ‬ ‫سا ِ‬ ‫ما وَُزوًرا {} وََقاُلوا أ َ‬ ‫جاُءوا ظ ُل ْ ً‬
‫َ‬
‫َْ‬ ‫وأ َصيًل {} قُ ْ َ‬
‫ن غَ ُ‬
‫فوًرا‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ض إ ِن ّ ُ‬
‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫سّر ِفي ال ّ‬ ‫ذي ي َعْل َ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ل أن َْزل َ ُ‬ ‫َ ِ‬
‫ما { ]الفرقان ‪. [6 - 4 :‬‬ ‫حي ً‬
‫َر ِ‬
‫ذكر الله تعالى في هذا قدح المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫وإدلءهم بهذه الشبه التي يعلمون ويعلم الناس بطلنها ‪ ،‬فزعموا أنه افترى‬
‫هذا القرآن ‪ ،‬وأنه ساعده على ذلك قوم آخرون ‪ ،‬فرد الله عليهم هذه المقالة‬
‫المنتهية في القبح بأن هذا ظلم عظيم ‪ ،‬وجراءة يعجب السامع كيف سولت‬
‫لهم أنفسهم هذا القول الهراء ‪ ،‬وأنه من الزور والظلم ; فإنهم قد كانوا‬
‫يعرفون بل شك صدقه وأمانته التي ل يلحقه فيها أحد ‪ ،‬وأنه لم يجتمع بأحد‬
‫من أهل العلم ‪ ،‬ول رحل في طلبه ‪ ،‬وقد نشأ بين أمة أمية في غاية الجهل‬
‫والضلل ‪ ،‬وقد جاءهم بهذا الكتاب العظيم الذي لم يطرق العالم أعظم منه ‪،‬‬
‫ول أعلى معاني وأغزر علما ‪ ،‬ول أبلغ من ألفاظه ومعانيه ‪ ،‬وأتم من حكمه‬
‫وحكمه ومبانيه ‪.‬‬

‫) ‪(1/54‬‬

‫وقد تحدى أقصاهم وأدناهم ‪ ،‬وأفرادهم وجماعتهم ‪ ،‬وأولهم وآخرهم أن يأتي‬


‫بمثله أو بعشر سور من مثله ‪ ،‬أو بسورة واحدة من مثله ; وصرح لهم أنهم‬
‫إن أتوا بشيء من مثله فهم صادقون ‪ ،‬وهم أهل الفصاحة والبلغة في الكلم‬
‫‪ ،‬فعجزوا غاية العجز عن معارضته والتيان بمثله ‪ ،‬واتضح لهم ولغيرهم عيهم‬
‫وعجزهم ‪ ،‬وتبين بطلن دعواهم ‪.‬‬
‫وكل من حاول أن يأتي بكلم يعارض به ما جاء به الرسول صار كلمه ضحكة‬
‫للصبيان فضل عن أهل النظر والعقول ‪ ،‬وكل شبهة يدلون بها في معارضة‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫ل كا َ‬‫ن ال َْباط ِ َ‬
‫الرسول من حين يوجه لها النظر الصحيح تضمحل وتزهق ‪ } ،‬إ ِ ّ‬
‫هوًقا { ]السراء ‪. [81 :‬‬
‫َز ُ‬
‫ومن جراءتهم أنهم قالوا ‪ :‬إن هذا القرآن الذي جاء به محمد أساطير‬
‫الولين ‪ ،‬اكتتبها من كتب الولين المسطورة ‪ ،‬فهي تملى عليه بكرة وأصيل ‪،‬‬
‫فيا ويحهم ! من الذي عندهم في بطن مكة يمليها ؟ وهل يوجد في ذلك‬
‫الوقت في مكة أو ما حولها كتب تملى ؟ ولو فرض وقدر أنه يوجد أحد ‪ ،‬لم‬
‫يختص محمد وحده بالخذ عنه ؟‬

‫) ‪(1/55‬‬

‫ولما كانت هذه مقالة زور وافتراء ‪ ،‬ل يخفى كذبها على أحد ‪ ،‬تشبثوا وقالوا ‪:‬‬
‫كان محمد يجلس إلى قين حداد في مكة فارسي فيتعلم منه ‪ ،‬فلهذا قال‬
‫قد نعل َ َ‬
‫ن إ ِل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫دو َ‬ ‫ذي ي ُل ْ ِ‬
‫ح ُ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫سا ُ‬ ‫ه بَ َ‬
‫شٌر ل ِ َ‬ ‫ما ي ُعَل ّ ُ‬
‫م ُ‬ ‫قوُلو َ‬
‫ن إ ِن ّ َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫عنهم ‪ } :‬وَل َ َ ْ َ ْ ُ‬
‫م أن ّهُ ْ‬
‫ن { ]النحل ‪ : [103 :‬بالغ في البيان والبلغة‬ ‫ي وَهَ َ‬ ‫َ‬
‫مِبي ٌ‬
‫ي ُ‬ ‫ن عََرب ِ ّ‬ ‫سا ٌ‬
‫ذا ل ِ َ‬ ‫م ّ‬
‫ج ِ‬
‫أعْ َ‬
‫نهايتها وغايتها ‪.‬‬
‫فل يمكن الجمع بين النقيضين ‪ :‬أن يتعلمه من هذا البكم أعجمي اللسان ‪،‬‬
‫الذي لم يعرف عنه علم يرجع إليه ‪ ،‬ول معرفة يتميز بها ‪ ،‬وهذا القرآن الذي‬
‫جاء به مع كمال بلغته حوى علوم الولين والخرين ‪.‬‬

‫) ‪(1/56‬‬
‫ولما كان هذا القول الذي قالوه ‪ ،‬والمكابرة التي تجرءوا عليها قد علم‬
‫الموافق والمخالف كذبها وافتراءها ‪ ،‬وكان جميع أعداء الرسول لهم ورثة ‪،‬‬
‫يقومون بالعداوة للرسول والدين ‪ ،‬ويعطونها حقها ولو جلبت عليهم ما جلبت‬
‫من الدخول في الكذب والفتراء والمكابرة ‪ ،‬وقد عرف هؤلء العداء‬
‫المتأخرون مكابرة إخوانهم الذين باشروا تكذيب الرسول ‪ ،‬ورأوا أن مقالتهم‬
‫قد بطلت واضمحلت ‪ ،‬وبان زورها لكل أحد ‪ ،‬صاغها هؤلء المكذبون بعبارة‬
‫موهوها ‪ ،‬وظنوا أنها بهذا التمويه تروج ‪ ،‬فزعموا ‪ -‬وما أسمجه وأكذبه من‬
‫زعم ‪ -‬أن محمدا كان يتعلم من نفسه ; وأنه كان يخلو بالطبيعة ‪ :‬السماء‬
‫والرض والشمس والقمر والنجوم ‪ ،‬فيعطيها لبه ‪ ،‬ويناجيها بقلبه ‪ ،‬فيخيل إليه‬
‫أصناف التخاييل ‪ ،‬فيأتي بها إلى الناس زاعما أنها من وحي الله على يد‬
‫جبريل ‪ ،‬وأن هذه التخيلت من المور العالية التي يعتاد التيان بها أهل الرأي‬
‫والحجى ‪.‬‬

‫) ‪(1/57‬‬

‫ولما رأوا آثارها الجليلة في السلم وأهله ‪ ،‬وتعاليمه وتقويمه للمم ‪ ،‬وبهرهم‬
‫هذا النور العظيم لجأوا إلى هذا التحذلق الذي منتهاه وغايته أنهم صوروا‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم ورقوه إلى رجل من الطبيعيين ‪ ،‬كما قال هذا‬
‫القول الباطل أحد ملحدة الفرنسيين ‪ ،‬وتلقاها عنه بعض الملحدة العصريين‬
‫‪ ،‬وهو مبني على إنكار وجود رب العالمين ‪ ،‬وأنه ما ثم إل عمل الطبيعة ‪ ،‬وقد‬
‫علم الناس أن هذا القول المزور أعظم مكابرة ومباهتة من قول الولين ‪،‬‬
‫وأن هذا الفتراء الذي ولدوه بعد مئات السنين أوضح ضلل وظلما وجراءة‬
‫ووقاحة من زور الولين ‪ ،‬وأن هؤلء الراذل الذين أعجبوا بآرائهم وتاهوا‬
‫بعقولهم قد بين الله كذبهم فيما قالوه ‪ ،‬وأن عقول ولدت هذه القوال‬
‫المؤتفكة والخيالت الفاسدة والمقالت الفاسدة لعقول سافلة وآراء ساقطة‬
‫‪ ،‬يعرف فسادها بنتائجها ومكابرتها ‪ ،‬وإنكارها أجلى الحقائق ‪ ،‬ولهذا قال‬
‫َْ‬ ‫تعالى ‪ } :‬قُ ْ َ‬
‫ض { ]الفرقان ‪:‬‬ ‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫سّر ِفي ال ّ‬ ‫ذي ي َعْل َ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ل أن َْزل َ ُ‬
‫‪. [6‬‬

‫) ‪(1/58‬‬

‫فالرب القادر العظيم ‪ ،‬الذي أحاط علمه بجميع السرار ‪ ،‬وعلم أحوال العباد‬
‫حاضرها ومستقبلها ‪ ،‬فأنزله لهدايتهم ‪ ،‬وجعله منارا وعلما يهتدي به المهتدون‬
‫في كل وقت وحين ‪.‬‬
‫فجميع الحقائق التي دعا إليها هذا الرسول وهذا القرآن حقائق ثابتة نافعة‬
‫للعباد ‪ ،‬ل يأتي من الحقائق ما يغيرها ‪ ،‬ومحال أن يأتي شيء أصلح منها أو‬
‫مثلها أو يقاربها ‪ } :‬وم َ‬
‫ن { ]المائدة ‪:‬‬
‫قوْم ٍ ُيوقُِنو َ‬
‫ما ل ِ َ‬ ‫ن الل ّهِ ُ‬
‫حك ْ ً‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫نأ ْ‬‫َ َ ْ‬
‫‪. [50‬‬
‫ومن كمال علمه وقدرته أنه لو تقول عليه أحد بمثل هذه المقالة لعاجله‬
‫بالعقوبة ‪ ،‬فلما أيد من جاء بها بنصره وحججه ‪ ،‬ورأى العباد آياته في الفاق‬
‫وفي أنفسهم ‪ ،‬التي يتبين بها أنه الحق ‪ ،‬وما سواه ضلل ‪ ،‬علم بذلك أن هذا‬
‫الرسول أصدق الخلق وأنصحهم وأبرهم وأعلمهم وأخشاهم وأتقاهم لربه ‪،‬‬
‫وأن أعداءه المكذبين له أكذب الخلق وأغشهم ‪ ،‬وأعظمهم جهل وضلل وغيا‬
‫وفسادا في كل زمان ومكان ‪.‬‬

‫) ‪(1/59‬‬

‫ومن مكابرة أعداء الرسول أنهم جعلوا يتناقضون في مقالتهم ‪ ،‬ويتفننون‬


‫في إفكهم المكشوف كذبه ‪ ،‬فمنهم من قال ‪ :‬إنه مجنون ‪ ،‬ومنهم من قال ‪:‬‬
‫ساحر وكاهن ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬مسحور ‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬لو كان صادقا‬
‫لجاءت الملئكة تؤيده ‪ ،‬ولو كان صادقا لغناه الله عن المشي في السواق ‪،‬‬
‫وجعل له جنات وأنهارا وأموال كثيرة ‪ . .‬وكل يعلم أن هذه القوال ‪ -‬مع‬
‫تناقضها ‪ -‬ليست من الشبه فضل عن كونها من الحجج ‪ ،‬ولهذا قال تعالى‬
‫سِبيًل {‬ ‫ضرُبوا ل َ َ َ‬
‫ن َ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬‫ضّلوا فََل ي َ ْ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫ك اْل ْ‬
‫مَثا َ‬ ‫ف َ َ‬ ‫معجبا ‪ } :‬ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬
‫]السراء ‪. [48 :‬‬
‫ومثل هذه القوال التي يذكرها الله عن المكذبين للرسول هي بنفسها تدل‬
‫على كذبهم ومكابرتهم قبل أن يعرف بطلنها من الدلة الخرى ‪ ،‬وإذا وزنت‬
‫هذه القوال الجارية من الولين رأيت نظيرها وأقبح منها جارية من الملحدة‬
‫َ‬
‫س َ‬
‫ل‬ ‫ذي أْر َ‬ ‫المتأخرين ; ويأبى الله إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون ‪ } :‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫ن{‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫م ْ‬‫ن ك ُل ّهِ وَل َوْ ك َرِهَ ال ْ ُ‬
‫دي ِ‬‫حقّ ل ِي ُظ ْهَِره ُ عََلى ال ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫دى وَِدي ِ‬ ‫ه ِبال ْهُ َ‬
‫سول َ ُ‬
‫َر ُ‬
‫]التوبة ‪. [33 :‬‬

‫) ‪(1/60‬‬

‫فما جاء به الرسول من الهدى في جميع أبواب العلوم النافعة ‪ ،‬والدين الحق‬
‫الذي هو الصلح المطلق ‪ ،‬أكبر الدلة على أنه رسول الله حقا ‪ ،‬وأكبر الدلة‬
‫على إبطال كل ما ناقضه من أقوال المؤتفكين ; والحمد لله رب العالمين ‪.‬‬
‫ن لَ َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ن {} وَإ ِ ّ‬ ‫جُنو ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫مةِ َرب ّ َ‬
‫ك بِ َ‬ ‫ت ب ِن ِعْ َ‬‫ما أن ْ َ‬
‫ن {} َ‬ ‫سط ُُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫قل َم ِ وَ َ‬
‫‪ } - 12‬ن َوال ْ َ‬
‫ن{‬ ‫صُرو َ‬‫صُر وَي ُب ْ ِ‬ ‫ظيم ٍ {} فَ َ‬
‫ست ُب ْ ِ‬ ‫ق عَ ِ‬ ‫ٍ‬
‫خل ُ‬ ‫ك ل ََعلى ُ‬ ‫ن {} وَإ ِن ّ َ‬ ‫مُنو ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫جًرا غَي َْر َ‬ ‫َل َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سِبيل ِهِ وَهُوَ أعْل َ ُ‬
‫م‬ ‫ن َ‬ ‫ل عَ ْ‬‫ض ّ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك هُوَ أعْل َ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ن {} إ ِ ّ‬ ‫فُتو ُ‬ ‫م ْ‬‫م ال ْ َ‬‫} ب ِأّييك ُ ُ‬
‫ن { ]القلم ‪. [7 - 1 :‬‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬ ‫ِبال ْ ُ‬
‫يقسم تعالى بالقلم ‪ ،‬وهو اسم جنس شامل للقلم التي تكتب بها أنواع‬
‫العلوم ‪ ،‬ويسطر بها المنثور والمنظوم ‪ ،‬وذلك أن القلم ‪ ،‬وما يسطر به من‬
‫أنواع الكلم من آياته العظيمة التي تستحق أن يقسم بها على براءة نبيه‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون ‪ ،‬فنفى عنه‬
‫ذلك بنعمة ربه عليه وإحسانه ‪ ،‬إذ من عليه بالعقل الكامل والرأي السديد ‪،‬‬
‫والكلم الفصل الذي هو من أحسن ما جرت به القلم وسطره النام ‪ ،‬وهذا‬
‫هو السعادة في الدنيا ‪.‬‬

‫) ‪(1/61‬‬

‫ن { أي ‪ :‬لجرا‬
‫مُنو ٍ‬
‫م ْ‬ ‫ك َل َ ْ‬
‫جًرا غَي َْر َ‬ ‫ن لَ َ‬
‫ثم ذكر سعادته في الخرة فقال ‪ } :‬وَإ ِ ّ‬
‫عظيما ‪ -‬كما يفيده التنكير ‪ -‬غير مقطوع ‪ ،‬بل هو دائم متتابع مستمر ‪ ،‬وذلك‬
‫لما أسلفه صلى الله عليه وسلم من المقامات العالية في الدين والخلق‬
‫ظيم ٍ { فعل صلى الله عليه وسلم‬ ‫ق عَ ِ‬ ‫ك ل ََعلى ُ ُ‬ ‫الرفيعة ; ولهذا قال ‪ } :‬وَإ ِن ّ َ‬
‫خل ٍ‬
‫بخلقه العظيم على جميع الخلق ‪ ،‬وفاق الولين والخرين ‪ ،‬وكان خلقه‬
‫العظيم ‪ -‬كما فسرته به عائشة رضي الله عنها ‪ -‬هذا القرآن الكريم ‪ ،‬وذلك‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن{‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ض عَ ِ‬‫ف وَأعْرِ ْ‬ ‫مْر ِبال ْعُْر ِ‬‫فوَ وَأ ُ‬ ‫خذِ ال ْعَ ْ‬ ‫نحو قوله تعالى ‪ُ } :‬‬
‫م { ]آل عمران ‪} ، [159 :‬‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ل ِن ْ َ‬‫م َ‬‫مةٍ ِ‬ ‫ح َ‬‫ما َر ْ‬ ‫]العراف ‪ } ، [199 :‬فَب ِ َ‬
‫ن‬
‫مِني َ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ص عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ري ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫م َ‬‫ما عَن ِت ّ ْ‬ ‫زيٌز عَل َي ْهِ َ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫سو ٌ‬
‫ل ِ‬ ‫م َر ُ‬‫جاَءك ُ ْ‬ ‫لَ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫م { ]التوبة ‪. [128 :‬‬ ‫حي ٌ‬‫ف َر ِ‬‫َرُءو ٌ‬

‫) ‪(1/62‬‬

‫وما أشبهها من اليات الدالت على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم‬
‫الخلق ‪ ،‬واليات التي فيها الحث على كل خلق جميل ‪ ،‬فكان أول الخلق‬
‫امتثال لها وسبقا إليها وإلى تكميلها ‪ ،‬فكان له منها أكملها وأجلها وأعلها ‪،‬‬
‫وهو في كل خصلة منها في الذروة العليا ‪ ،‬فكان سهل لينا قريبا من الناس ‪،‬‬
‫مجيبا لدعوة من دعاه ‪ ،‬قاضيا لحاجة من استقضاه ‪ ،‬جابرا لقلب من سأله ‪،‬‬
‫ل يحرمه ول يرده خائبا ‪ ،‬وإذا أراد أصحابه أمرا وافقهم عليه ‪ ،‬وتابعهم فيه إذا‬
‫لم يكن في ذلك محذور ‪ ،‬وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ‪ ،‬بل‬
‫يشاورهم ويؤامرهم ‪ ،‬وكان يقبل من محسنهم ‪ ،‬ويعفو عن مسيئهم ‪ ،‬ولم‬
‫يكن يعاشر جليسا إل أتم عشرة وأحسنها ‪ ،‬فكان ل يعبس في وجهه ‪ ،‬ول‬
‫يغلظ له في كلمه ‪ ،‬ول يطوي عنه بشره ‪ ،‬ول يمسك عليه فلتات لسانه ‪ ،‬ول‬
‫يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ‪ ،‬بل يحسن إليه غاية الحسان ‪ ،‬ويحتمله‬
‫غاية الحتمال صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬

‫) ‪(1/63‬‬

‫فلما أنزله الله بأعلى المنازل ‪ ،‬وكان أعداؤه يقولون ‪ :‬إنه مجنون مفتون قال‬
‫َ‬
‫ن { ‪ ،‬وقد تبين أنه كان أهدى الناس‬ ‫فُتو ُ‬
‫م ْ‬‫م ال ْ َ‬‫ن {} ب ِأّييك ُ ُ‬‫صُرو َ‬
‫صُر وَي ُب ْ ِ‬ ‫‪ } :‬فَ َ‬
‫ست ُب ْ ِ‬
‫وأكملهم وأنفعهم لنفسه ولغيره ‪ ،‬وأن أعداءه أضل الناس للناس ‪ ،‬وأنهم هم‬
‫الذين فتنوا عباد الله ‪ ،‬وأضلوهم عن سبيله ‪ ،‬وكفى بعلم الله بذلك ‪ ،‬فإنه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سِبيل ِهِ وَهُوَ أعْل َ ُ‬
‫م‬ ‫ن َ‬
‫ل عَ ْ‬‫ض ّ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م بِ َ‬‫المحاسب المجازي و } هُوَ أعْل َ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫ِبال ْ ُ‬
‫مهْت َ ِ‬
‫وفيه تهديد للضالين ‪ ،‬ووعد للمهتدين ‪ ،‬وبيان لحكمة الله في هدايته من‬
‫يصلح للهداية دون غيره ‪.‬‬

‫) ‪(1/64‬‬

‫فصل‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫ض إ ِل َ‬
‫ن ِفي الْر ِ‬
‫م ْ‬
‫ت وَ َ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫صعِقَ َ‬ ‫صورِ فَ َ‬ ‫خ ِفي ال ّ‬ ‫ف َ‬‫‪ } - 13‬وَن ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن { ‪ -‬إلى آخر السورة‬ ‫م ي َن ْظُرو َ‬
‫م قَِيا ٌ‬ ‫خَرى فَإ َِذا هُ ْ‬ ‫ف َ‬
‫خ ِفيهِ أ ْ‬ ‫م نُ ِ‬‫ه ثُ ّ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫الكريمة ‪] -‬الزمر ‪ 68 :‬وما بعدها[ ‪.‬‬
‫من أهم أصول اليمان ‪ :‬اليمان باليوم الخر ‪ ،‬وهو اليمان بكل ما أخبر الله‬
‫به ورسوله بعد الموت من فتنة القبر ونعيمه وعذابه ‪ ،‬وأحوال يوم القيامة‬
‫وما يكون فيه ‪ ،‬ومن صفات الجنة والنار ‪ ،‬وصفات أهلهما ‪.‬‬

‫) ‪(1/65‬‬

‫فاليمان باليوم الخر هو اليمان بذلك كله جملة وتفصيل ‪ ،‬أما أحوال القبر‬
‫وفتنته وعذابه ونعيمه وتفاصيل ذلك ‪ ،‬فقد تواترت به الحاديث الصحيحة‬
‫والحسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف ‪ ،‬والقرآن‬
‫أشار إليه في عدة آيات ‪ ،‬وأما ما يكون بعد ذلك فإذا أراد الملك القادر بعث‬
‫صورِ ( وهو ‪ :‬قرن عظيم ل يعلم عظمه‬ ‫ف َ‬
‫خ ِفي ال ّ‬ ‫العباد وحشرهم وجزاءهم ) ن ُ ِ‬
‫إل الذي خلقه ‪ ،‬كما ورد في حديث الصور المشهور ‪ ،‬أو نفخ في الصور على‬
‫وجه ل يعلم كنهه إل الله نفخة الصعق والفزع ‪ ،‬انزعج لهذا أهل السماوات‬
‫خ ِفيهِ أ ُ ْ‬
‫خَرى { ‪ :‬نفخة‬ ‫ف َ‬ ‫والرض وصعقوا إل من شاء الله من خلقه ‪ } ،‬ث ُ ّ‬
‫م نُ ِ‬
‫م { من أجداثهم كاملي الخلقة ‪ ،‬ينظرون ما يستقبلهم‬ ‫البعث ‪ } ،‬فَإ َِذا هُ ْ‬
‫م قَِيا ٌ‬
‫من هذه الحياة الخروية التي يجازى فيها العباد بأعمالهم ‪ ،‬حسنها وسيئها ‪.‬‬
‫أما المؤمنون الطائعون فيقومون مطمئنين طامعين في فضل ربهم‬
‫ورحمته ‪ ،‬مستبشرين بثوابه وعفوه ومغفرته ‪ ،‬يحشرون إلى موقف القيامة‬
‫وفدا مكرمين ‪ ،‬وأما المجرمون فيقومون فزعين خائفين متحسرين ‪ ،‬يدعون‬
‫بالويل والثبور ‪ ،‬يقولون ‪ :‬يا ويلنا ‪ ،‬من بعثنا من مرقدنا ؟ فيساقون إلى جهنم‬
‫وردا ‪.‬‬

‫) ‪(1/66‬‬

‫فحينئذ تكثر القلقل والهوال ‪ ،‬ويشيب الولدان من هول ذلك اليوم‬


‫ضع ُ ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ل كُ ّ‬ ‫م ت ََروْن ََها ت َذ ْهَ ُ‬
‫ل‬
‫م ٍ‬‫ح ْ‬
‫ت َ‬ ‫ل َذا ِ‬ ‫ت وَت َ َ‬ ‫ضعَ ْ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫ضعَةٍ عَ ّ‬ ‫مْر ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫وفظاعته ‪ } :‬ي َوْ َ‬
‫ديد ٌ {‬ ‫ش ِ‬ ‫ب اللهِ َ‬ ‫ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫َ‬
‫سكاَرى وَلك ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫م بِ ُ‬ ‫ما هُ ْ‬ ‫سكاَرى وَ َ‬ ‫َ‬ ‫س ُ‬ ‫مل ََها وَت ََرى الّنا َ‬ ‫ح ْ‬‫َ‬
‫]الحج ‪. [2 :‬‬
‫ئ‬ ‫ُ‬
‫حب َت ِهِ وَب َِنيهِ {} ل ِك ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مرِ ٍ‬ ‫لا ْ‬ ‫صا ِ‬ ‫مهِ وَأِبيهِ {} وَ َ‬ ‫خيهِ {} وَأ ّ‬ ‫نأ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مْرُء ِ‬
‫ْ‬
‫فّر ال َ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫} ي َوْ َ‬
‫شَرة ٌ {‬ ‫ست َب ْ ِ‬‫م ْ‬ ‫ة ُ‬ ‫َ‬
‫حك ٌ‬ ‫ضا ِ‬
‫فَرة ٌ {} َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مئ ِذ ٍ ُ‬ ‫جوه ٌ ي َوْ َ‬ ‫ن ي ُغِْنيهِ {} وُ ُ‬ ‫شأ ٌ‬ ‫مئ ِذ ٍ َ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ِ‬
‫جَرة ُ {‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف َ‬‫فَرةُ ال َ‬ ‫م الك َ‬ ‫قَها قت ََرة ٌ {} أولئ ِك هُ ُ‬ ‫مئ ِذ ٍ عَلي َْها غب ََرة ٌ {} ت َْرهَ ُ‬ ‫جوه ٌ ي َوْ َ‬ ‫} وَوُ ُ‬
‫]عبس ‪. [42 - 34 :‬‬
‫ق‬
‫ح ّ‬‫مئ ِذٍ ال ْ َ‬ ‫ك ي َوْ َ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫زيًل {} ال ْ ُ‬ ‫ة ت َن ْ ِ‬‫مَلئ ِك َ ُ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫مام ِ وَن ُّز َ‬ ‫ماُء ِبال ْغَ َ‬ ‫س َ‬
‫ققُ ال ّ‬ ‫ش ّ‬ ‫م تَ َ‬ ‫} وَي َوْ َ‬
‫سيًرا { ]الفرقان ‪. [26 - 25 :‬‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫ما عََلى ال ْ َ‬ ‫ن ي َوْ ً‬ ‫كا َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ِللّر ْ‬
‫وتكور الشمس والقمر ‪ ،‬وتنثر النجوم ‪ ،‬فتذهب هذه النوار المشاهدة ‪،‬‬
‫وتشرق الرض بنور ربها ‪ ،‬وينزل الله لفصل القضاء بين عباده ‪ ،‬ومحاسبتهم‬
‫على أعمالهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/67‬‬

‫أما المؤمنون ‪ :‬فيحاسبهم حسابا يسيرا يقرهم بذنوبهم ‪ ،‬ثم يغفرها ويسترها‬
‫عن الخلئق ‪ ،‬ويضاعف لهم الحسنات ‪ ،‬ويعطيهم من فضله وإحسانه ما ل‬
‫تبلغه أعمالهم ‪ ،‬ويعطون كتبهم بأيمانهم إكراما واحتراما ‪ ،‬كما تبيض وجوههم‬
‫‪ ،‬وتثقل موازينهم ; ويغتبطون بذلك ‪ ،‬ويستبشرون به ‪ ،‬فيقولون لخوانهم‬
‫ت { ]أي ‪ :‬أيقنت[‬‫ه {} إ ِّني ظ َن َن ْ ُ‬‫م اقَْرُءوا ك َِتاب ِي َ ْ‬
‫هاؤُ ُ‬‫ومعارفهم ومحبيهم ‪َ } :‬‬
‫َ‬
‫ضي َةٍ { ‪ . .‬اليات ]الحاقة ‪- 19 :‬‬ ‫عيشةٍ َرا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه {} فهُوَ ِفي ِ‬ ‫ساب ِي َ ْ‬
‫ح َ‬ ‫مَل ٍ‬
‫ق ِ‬ ‫} أّني ُ‬
‫‪ 21‬وما بعدها[ ‪.‬‬
‫ويساقون إلى الجنة زمرا ‪ ،‬كل طائفة منهم مع نظرائهم في الخير بحسب‬
‫طبقاتهم وسبقهم ‪ ،‬كما يردون في عرصات القيامة حوض نبيهم ‪ ،‬فيشربون‬
‫منه شربة هنيئة ل يظمأون بعدها ‪ ،‬ويمرون على الصراط على قدر أعمالهم‬
‫كلمح البصر ‪ ،‬وكالبرق الخاطف ‪ ،‬وكأجاويد الخيل والبل ‪ ،‬وكسعي الرجال ‪،‬‬
‫وكمشيهم ‪ ،‬ودون ذلك ‪.‬‬

‫) ‪(1/68‬‬

‫فإذا عبروا على الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ‪ ،‬فيقتص بعضهم‬
‫من بعض مظالم وتبعات كانت بينهم في الدنيا ‪ ،‬حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم‬
‫في دخول الجنة ‪ ،‬حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها بشفاعة محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم فتلقاهم خزنة الجنة ‪ ،‬يسلمون عليهم ‪ ،‬ويهنونهم بالنجاة من‬
‫العذاب وحصول الخير والثواب والخلود البدي بسبب طيبهم ‪ ،‬ولهذا قالوا ‪} :‬‬
‫م { ]الزمر ‪ [73 :‬أي ‪ :‬طابت قلوبكم بالعقائد الصحيحة‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ط ِب ْت ُ ْ‬ ‫سَل ٌ‬
‫َ‬
‫الصادقة ‪ ،‬والخلق الجميلة ‪ ،‬وألسنتكم بذكر الله والثناء عليه ‪ ،‬وجوارحكم‬
‫ن { ]الزمر ‪. [73 :‬‬
‫دي َ‬
‫خال ِ ِ‬ ‫خُلو َ‬
‫ها َ‬ ‫بخدمته والقيام بطاعته ‪َ } :‬فاد ْ ُ‬

‫) ‪(1/69‬‬

‫فإذا دخلوها ورأوا ما فيها من النعيم المقيم ‪ ،‬مما ل عين رأت ‪ ،‬ول أذن‬
‫سمعت ‪ ،‬ول خطر على قلب بشر ‪ ،‬حمدوا الله على منته عليهم بالسوابق‬
‫واليمان والعمال الصالحة ‪ ،‬وبإنجاز ما وعدهم به على ألسنة رسله ‪ ،‬وعلى‬
‫أن الله أورثهم الجنة يتبوءون من خيراتها حيث يشاءون وأنى يشاءون مما‬
‫تشتهيه النفس وتلذ العين من نعيم القلوب والرواح ‪ ،‬ومن نعيم البدان‬
‫ف‬
‫طو ُ‬ ‫ن {} ي َ ُ‬ ‫قاب ِِلي َ‬ ‫ن عَل َي َْها ُ‬
‫مت َ َ‬ ‫مت ّك ِِئي َ‬‫ضون َةٍ {} ُ‬ ‫مو ْ ُ‬ ‫سُررٍ َ‬‫والجسام ‪ } :‬عََلى ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫عو َ‬
‫صد ّ ُ‬‫ن {} َل ي ُ َ‬ ‫مِعي ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫س ِ‬ ‫ب وَأَباِريقَ وَك َأ ٍ‬ ‫وا ٍ‬‫ن {} ب ِأك ْ َ‬ ‫دو َ‬ ‫خل ّ ُ‬
‫م َ‬‫ن ُ‬‫دا ٌ‬‫م وِل ْ َ‬‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن{‬ ‫شت َُهو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬‫م ّ‬‫حم ِ ط َي ْرٍ ِ‬ ‫ن {} وَل َ ْ‬ ‫خي ُّرو َ‬ ‫ما ي َت َ َ‬
‫م ّ‬ ‫ن {} وََفاك ِهَةٍ ِ‬ ‫عَن َْها وََل ي ُن ْزُِفو َ‬
‫َ‬
‫ن { ]الواقعة ‪ ، [23 - 15 :‬خيرات‬ ‫مك ُْنو ِ‬‫ل الل ّؤْل ُؤِ ال ْ َ‬‫مَثا ِ‬‫ن {} ك َأ ْ‬ ‫عي ٌ‬ ‫حوٌر ِ‬ ‫} وَ ُ‬
‫الخلق ‪ ،‬حسان الوجوه ‪ ،‬قد جمع الله لهن حسن البواطن والظواهر ‪ ،‬فهن‬
‫سرور النفس ‪ ،‬وقرة النواظر ‪.‬‬

‫) ‪(1/70‬‬

‫وتمام ذلك أن الله يحل عليهم رضوانه فل يسخط عليهم أبدا ‪ ،‬وأنه يقال لهم‬
‫‪ ) :‬إن لكم أن تشبوا فل تهرموا أبدا ‪ ،‬وإن لكم أن تصحوا فل تمرضوا أبدا ‪،‬‬
‫وإن لكم أن تنعموا فل تبأسوا أبدا ‪ ،‬وإن لكم أن تحيوا فل تموتوا أبدا ( ‪ ،‬فلهم‬
‫كل ما يشاءون فيها وتتعلق به أمانيهم ‪ ،‬ولهم فوق ذلك مما لم تبلغه‬
‫أمانيهم ‪ ،‬ولهم نعيم أعلى من ذلك كله ‪ ،‬وهو التمتع بالنظر إلى وجهه‬
‫الكريم ‪ ،‬وسماع خطابه ‪ ،‬والبتهاج برضاه وقربه ‪ ،‬والسرور بمحبته ‪ ،‬وذكره‬
‫وحمده ‪ ،‬والثناء عليه وشكره ‪ ،‬مما يشاهدون من كثرة الخيرات ‪ ،‬وسوابغ‬
‫النعم والهبات ‪ ،‬وزيادة النعيم وتواصله ‪ ،‬ومما يزدادون من معرفته والنس به‬
‫‪ ،‬فتبارك الله ذو الجلل والكرام ‪.‬‬

‫) ‪(1/71‬‬

‫وأما الكافرون المجرمون ‪ :‬فيحاسبهم الله على ما أسلفوه من الجرائم ‪،‬‬


‫ويقرعهم ويخزيهم بين الخلئق ‪ ،‬ويعطون كتبهم من وراء ظهورهم بشمائلهم‬
‫‪ ،‬وتسود منهم الوجوه ‪ ،‬وتخف موازينهم ‪ ،‬ويساقون إلى جهنم جياعا عطاشا‬
‫منزعجين مرعوبين زمرا ‪ ،‬كل طائفة تحشر مع نظيرها من أهل الشر ‪:‬‬
‫َ‬
‫واب َُها { ]الزمر ‪ [71 :‬في وجوههم ‪ ،‬ففاجأهم‬ ‫ت أب ْ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ها فُت ِ َ‬ ‫حّتى إ َِذا َ‬
‫جاُءو َ‬ ‫} َ‬
‫حرها المفظع ‪ ،‬وحل بهم الفزع الكبر الذي ل يشبهه فزع ‪ ،‬وتلقتهم خزنة‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫من ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬
‫م ُر ُ‬‫م ي َأت ِك ُ ْ‬‫الجحيم ‪ ،‬يوبخونهم على ما قدموه ‪ ،‬وقالوا لهم ‪ } :‬أل َ ْ‬
‫ذا َقاُلوا ب ََلى { ]الزمر ‪[71 :‬‬ ‫مك ُ ْ‬
‫م هَ َ‬ ‫قاَء ي َوْ ِ‬ ‫م وَي ُن ْذُِرون َك ُ ْ‬
‫م لِ َ‬ ‫ت َرب ّك ُ ْ‬‫م آَيا ِ‬‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ي َت ُْلو َ‬
‫قد جاءتنا الرسل ‪ ،‬وبلغتنا النذر ‪ ،‬فما كان منا إليهم إل الستهزاء بهم‬
‫والتكذيب ‪ ،‬فلو كان لنا أسماع واعية ‪ ،‬وعقول نافعة ما وصلنا إلى هذه‬
‫ح ً َ‬
‫ب‬
‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫قا ِل ْ‬ ‫س ْ‬‫م فَ ُ‬ ‫الدار ‪ ،‬بل خالفنا المنقول والمعقول ‪َ } :‬فاعْت ََرُفوا ب ِذ َن ْب ِهِ ْ‬
‫سِعيرِ { ]الملك ‪. [11 :‬‬ ‫ال ّ‬

‫) ‪(1/72‬‬

‫ما أشد شقاءهم وعناءهم ؛ ينوع عليهم العذاب أنواعا ‪ ،‬فتارة يعذبون بالسعير‬
‫المحرق لظواهرهم وبواطنهم ‪ ،‬كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ‪،‬‬
‫وتارة بالزمهرير الذي قد بلغ برده أن يهري اللحوم ويكسر العظام ‪ ،‬وتارة‬
‫بالجوع المفرط والعطش المفظع ‪ ،‬وإذا استغاثوا لذلك أغيثوا بعذاب آخر ‪،‬‬
‫ولون من الشقاء ينسي ما سبقه ‪ ،‬فيغاثون بطعام ذي غصة ; بشجرة الزقوم‬
‫التي تخرج في أصل الجحيم ‪ ،‬وثمرها في غاية المرارة والنتن والحرارة ‪ ،‬إذا‬
‫وصلت بطونهم غلت فيها كغلي الحميم الذي يوقد عليه في النار ‪.‬‬

‫) ‪(1/73‬‬

‫جوه َ {‬ ‫وي ال ْوُ ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ل يَ ْ‬‫مهْ ِ‬ ‫كال ْ ُ‬


‫ماٍء َ‬‫ست َِغيُثوا { ]للشراب[ } ي َُغاُثوا ب ِ َ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫} وَإ ِ ْ‬
‫]الكهف ‪ [29 :‬إذا قرب إليها فل يدعهم العطش مع ذلك أن يتناولوها ‪ ،‬فإذا‬
‫وصلت إلى بطونهم قطعت أمعاءهم ‪ ،‬ول يزالون في عذاب متنوع شديد ‪ ،‬ل‬
‫يفتر عنهم العذاب ساعة ‪ ،‬ول يرجون رحمة ول فرجا ‪ ،‬يتمنون الممات‬
‫ض عَل َي َْنا‬‫ق ِ‬ ‫مال ِ ُ‬
‫ك ل ِي َ ْ‬ ‫ليستريحوا ‪ ،‬فينادون مالكا ) رئيس خزنة النار ( ‪ } :‬يا َ‬
‫ن { ‪ ،‬فل تلوموا إل أنفسكم لما‬ ‫ماك ُِثو َ‬
‫م َ‬ ‫ك { ‪ ،‬فيقول لهم ‪ } :‬إ ِن ّك ُ ْ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫هو َ‬ ‫حقّ كارِ ُ‬ ‫ن أكث ََرك ْ‬
‫م ل ِل َ‬ ‫حقّ وَلك ِ ّ‬ ‫م ِبال َ‬ ‫جئ َْناك ْ‬
‫قد ْ ِ‬
‫أسلفتموه من الجرائم ‪ } :‬ل َ‬
‫]الزخرف ‪. [78 :‬‬

‫) ‪(1/74‬‬
‫َ‬ ‫وينادون أهل الجنة مستغيثين بهم ‪ } :‬أ َ َ‬
‫ما‬
‫م ّ‬‫ماِء أوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬‫ضوا عَل َي َْنا ِ‬ ‫ن أِفي ُ‬ ‫ْ‬
‫ن{‪،‬‬ ‫ري‬
‫ِ ِ َ‬ ‫ف‬‫كا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ما‬ ‫ه‬‫م‬
‫َ َ ّ َ ُ َ َ‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫}‬ ‫ه { ‪ ،‬فيقول لهم أهل الجنة ‪:‬‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫َرَزقَك ُ ُ‬
‫ن {} َرب َّنا‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫ما َ‬ ‫قوَت َُنا وَك ُّنا قَوْ ً‬ ‫ش ْ‬‫ت عَل َي َْنا ِ‬‫وينادون ربهم فيقولون ‪َ } :‬رب َّنا غَل َب َ ْ‬
‫ن { ]المؤمنون ‪ ، [107 - 106 :‬فيجيبهم‬ ‫مو َ‬ ‫ن عُد َْنا فَإّنا َ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫ِ‬ ‫من َْها فَإ ِ ْ‬
‫جَنا ِ‬ ‫أَ ْ‬
‫خرِ ْ‬
‫ن { ]المؤمنون ‪ ، [108 :‬فحينئذ ييأسون من‬ ‫مو ِ‬ ‫سُئوا ِفيَها وََل ت ُك َل ّ ُ‬ ‫خ َ‬‫الله ‪ } :‬ا ْ‬
‫كل خير ‪ ،‬ومن كل فرج وراحة ‪ ،‬ويتيقنون أنه الخلود الدائم والعذاب البدي‬
‫والشقاء المستمر ‪ . .‬فنسأل الله الجنة ‪ ،‬وما قرب إليها من قول وعمل ‪،‬‬
‫ونعوذ به من النار ‪ ،‬وما قرب إليها من قول وعمل ‪.‬‬

‫) ‪(1/75‬‬

‫فصل‬
‫ه‬
‫عَباد َت ِ ِ‬
‫ن ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن عَ ْ‬
‫ست َكب ُِرو َ‬
‫عن ْد َه ُ ل ي َ ْ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫ض وَ َ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬‫م ْ‬‫ه َ‬‫‪ } - 14‬وَل ُ‬
‫ن { ]النبياء ‪. [20 - 19 :‬‬ ‫فت ُُرو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللي ْل َوالن َّهاَر ل ي َ ْ‬ ‫حو َ‬ ‫سب ّ ُ‬
‫ن {} ي ُ َ‬‫سُرو َ‬‫ح ِ‬ ‫وََل ي َ ْ‬
‫ست َ ْ‬
‫اليمان بالملئكة أحد أصول اليمان ‪ ،‬ول يتم اليمان بالله وكتبه ورسله إل‬
‫باليمان بالملئكة ‪ ،‬وقد وصفهم الله بأكمل الصفات ‪ ،‬وأنهم في غاية القوة‬
‫على عبادة الله والرغبة العظيمة فيها ‪ ،‬وأنهم يسبحون الليل والنهار ل‬
‫يفترون ‪ ،‬وأنهم ل يستكبرون عن عبادته ‪ ،‬بل يرونها من أعظم نعمه عليهم ‪،‬‬
‫وأنهم ل يعصون الله ما أمرهم ‪ ،‬ويفعلون ما يؤمرون ‪.‬‬

‫) ‪(1/76‬‬

‫ففي هذا بيان كمال محبتهم لربهم ‪ ،‬وقوة إنابتهم إليه ‪ ،‬ونشاطهم التام في‬
‫طاعته ‪ ،‬وأنهم ل يعصونه طرفة عين ‪ ،‬وهم الوسائط بينه وبين رسله ‪،‬‬
‫وخصوصا جبريل أفضلهم وأعظمهم وأقواهم وأرفعهم عند الله منزلة ; فإنه‬
‫طاع ث َ َ‬
‫ن { ]التكوير ‪- 20 :‬‬ ‫مي ٍ‬‫مأ ِ‬ ‫م َ ٍ ّ‬ ‫ن {} ُ‬ ‫كي ٍ‬
‫م ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ْ‬
‫عن ْد َ ِذي العَْر ِ‬ ‫ذو ‪ } :‬قُوّةٍ ِ‬
‫ب‬‫ل َر ّ‬‫زي ُ‬ ‫َ‬
‫ه لت َن ْ ِ‬ ‫ن { ]التكوير ‪ } ، [24 :‬وَإ ِن ّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضِني ٍ‬
‫ب بِ َ‬
‫َ‬
‫ما هُوَ عَلى الغَي ْ ِ‬ ‫‪ } ، [21‬وَ َ‬
‫ن{‬ ‫من ْذِِري َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن {} عَلى قلب ِك ل ِت َكو َ‬ ‫مي ُ‬ ‫ْ‬
‫ح ال ِ‬ ‫َ‬
‫ن {} ن ََزل ب ِهِ الّرو ُ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬
‫]الشعراء ‪. [194 - 192 :‬‬

‫) ‪(1/77‬‬

‫وكما أنهم الوسائط بينه وبين عباده في تبليغ الوحي والشرائع إلى النبياء ‪،‬‬
‫فهم الوسائط في التدبيرات القدرية ; فإن الله وصفهم بأنهم المدبرات‬
‫أمرا ‪ ،‬فكل طائفة منهم قد وكله على عمل هو قائم به بإذن الله ‪ ،‬فمنهم ‪:‬‬
‫الموكلون بالغيث والنبات ‪ ،‬والموكلون بحفظ العباد مما يضرهم ‪ ،‬وبحفظ‬
‫أعمالهم وكتابتها ; والموكلون بقبض الرواح ‪ ،‬وبتصوير الجنة في الرحام ‪،‬‬
‫وكتابة ما يجري عليها في الحال والمآل ‪ ،‬والموكلون على الجنة والنار ‪،‬‬
‫ومنهم حملة العرش ومن حوله من الملئكة المقربين ‪ ،‬إلى غير ذلك مما‬
‫وصفوا به في الكتاب والسنة ‪.‬‬
‫) ‪(1/78‬‬

‫فيجب اليمان بهم إجمال وتفصيل ‪ ،‬وكثير من سور القرآن فيها ذكر الملئكة‬
‫والخبر عنهم ‪ ،‬فعلينا أن نؤمن بذلك كله ‪ ،‬ول تكاد تجد أحدا ينكر وجود‬
‫الملئكة إل الزنادقة المنكرين لوجود ربهم ‪ ،‬ومن تستر بالسلم منهم فإنه‬
‫ينكر الملئكة حقيقة ‪ ،‬وينكر خبر الله ورسوله عنهم ‪ ،‬ويفسر الملئكة تفسيرا‬
‫وتحريفا خبيثا ‪ ،‬فيزعم أن الملئكة هي القوى الخيرية والصفات الحسنة‬
‫الموجودة في النسان ‪ ،‬وأن الشياطين هي القوى الشريرة فيه ‪ ،‬وغرضهم‬
‫من هذا التحريف دفع الشنعة عنهم ‪ ،‬وقد ازدادوا بهذا التحريف شرا إلى‬
‫شرهم ‪ ،‬وراج هذا التحريف الخبيث على بعض الذين يحسنون الظن بهؤلء‬
‫الزنادقة ‪ ،‬وليس عندهم بصيرة في أديان الرسل وإن أظهروا تعظيمهم ‪ ،‬فإن‬
‫زنادقة الفلسفة أعظم في قلوبهم من الرسل ‪ ،‬وكفى بالعبد ضلل وغيا أن‬
‫يصل إلى هذه الحال ‪ ،‬ونعوذ بالله من مضلت الفتن ‪.‬‬

‫) ‪(1/79‬‬

‫ولم تزل بهم هذه الجرأة والخضوع لقوال جهلة الزنادقة حتى فسروا‬
‫الملئكة بذلك التحريف ‪ ،‬وحتى زعم بعضهم أن سجود الملئكة لدم ليس‬
‫حقيقة ‪ ،‬وإنما ذلك تسخير الله للدميين جميع ما في الرض من القوى‬
‫والمعادن وغيرها ‪ ،‬فأنكر ما هو معلوم بالضرورة بخبر الله الصريح في كتابه‬
‫وخبر رسوله ‪ ،‬وقال هذه المقالة التي فيها ‪ -‬مع تكذيب الله ورسوله ‪ -‬تسوية‬
‫كفار الدميين وفجرتهم وأولهم وآخرهم بآدم ‪ ،‬ومضمون ذلك بل صريح‬
‫قولهم ‪ :‬إن الملئكة سجدت لجميع الدميين برهم وفاجرهم ; فأين قول‬
‫الناس في موقف القيامة ‪ :‬يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ‪ ،‬ونفخ فيك من‬
‫روحه ‪ ،‬وأسجد لك ملئكته ‪ . .‬؟‬
‫ولول أن مثل هذه التحريفات والتكذيب لله ورسوله موجود في كتب من‬
‫يشار إليهم بالعلم لم يكن بنا حاجة إلى دفع هذا القول الجريء ‪ ،‬الذي يعلم‬
‫كل مسلم لم تغيره العقائد الباطلة بطلنه ‪.‬‬

‫) ‪(1/80‬‬

‫ولنقتصر على هذا المقدار من الشارة إلى العقائد المتعلقة بالتوحيد‬


‫والرسالة واليوم الخر والجزاء ‪ -‬وإن كان القرآن معظمه في تقرير هذه‬
‫الصول العظيمة ‪ -‬لشدة الحاجة والضرورة إليها في كل وقت وحال ‪ ،‬ولكن‬
‫حصل ‪ -‬ولله الحمد ‪ -‬التنبيه الذي يحصل به المقصود ‪ ،‬ويعين على غيره ‪،‬‬
‫والله أعلم ‪.‬‬
‫فصل‬
‫في ذكر الفوائد والثمرات المترتبة على التحقق بهذه العقائد الجليلة‬
‫اعلم أن خير الدنيا والخرة من ثمرات اليمان الصحيح ‪ ،‬وبه يحيا العبد حياة‬
‫طيبة في الدارين ‪ ،‬وبه ينجو من المكاره والشرور ‪ ،‬وبه تخف الشدائد ‪،‬‬
‫وتدرك جميع المطالب ‪ ،‬ولنشر إلى هذه الثمرات على وجه التفصيل ‪ ،‬فإن‬
‫معرفة فوائد اليمان وثمراته من أكبر الدواعي إلى التزود منه ‪.‬‬
‫فمن ثمرات اليمان ‪ :‬أنه سبب رضا الله الذي هو أكبر شيء ‪ ،‬فما نال أحد‬
‫رضا الله في الدنيا والخرة إل باليمان وثمراته ‪ ،‬بل صرح الله به في كتابه‬
‫في مواضع كثيرة ‪ ،‬وإذا رضي الله عن العبد قبل اليسير من عمله ونماه ‪،‬‬
‫وغفر الكثير من زل َِله ومحاه ‪.‬‬

‫) ‪(1/81‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن ثواب الخرة ودخول الجنة والتنعم بنعيمها ‪ ،‬والنجاة من النار‬
‫وعقابها ‪ ،‬إنما يكون باليمان ‪ ،‬فأهل اليمان هم أهل الثواب المطلق ‪ ،‬وهم‬
‫الناجون من جميع الشرور ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الله يدفع ويدافع عن الذين آمنوا شرور الدنيا والخرة ‪ ،‬فيدفع‬
‫سل ْطا ٌ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ه ُ‬ ‫س لَ ُ‬‫ه ل َي ْ َ‬‫عنهم كيد شياطين النس والجن ‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ } :‬إ ِن ّ ُ‬
‫ن { ]النحل ‪. [99 :‬‬ ‫م ي َت َوَك ُّلو َ‬
‫مُنوا وَعََلى َرب ّهِ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن { ]النبياء ‪ [88 :‬أي‬ ‫مِني َ‬ ‫جي ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ولما ذكر إنجاءه ذا النون قال ‪ } :‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫ك ن ُن ْ ِ‬
‫‪ :‬من الشدائد والمكاره إذا وقعوا فيها ‪ ،‬واليمان بنفسه وطبيعته يدفع القدام‬
‫على المعاصي ‪ ،‬وإذا وقعت من العبد دفع عقوباتها بالمبادرة إلى التوبة ‪ ،‬كما‬
‫قال صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن « ‪( . .‬‬
‫إلى آخر الحديث ‪.‬‬
‫وا إ َِذا‬
‫ق ْ‬
‫ن ات ّ َ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬
‫فبين أن اليمان يدفع وقوع الفواحش ‪ ،‬وقال تعالى ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ن { ]العراف ‪. [201 :‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫مب ْ ِ‬
‫م ُ‬ ‫ن ت َذ َك ُّروا فَإ َِذا هُ ْ‬ ‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫ف ِ‬ ‫م َ‬
‫طائ ِ ٌ‬ ‫سهُ ْ‬
‫م ّ‬
‫َ‬

‫) ‪(1/82‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الله وعد المؤمنين القائمين باليمان حقيقة بالنصر ‪ ،‬وأحقه على‬
‫نفسه ‪ ،‬فمن قام باليمان ولوازمه ومتمماته فله النصر في الدنيا والخرة ‪،‬‬
‫وإنما ينتصر أعداء المؤمنين عليهم إذا ضيعوا اليمان ‪ ،‬وضيعوا حقوقه‬
‫وواجباته المتنوعة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الهداية من الله للعلم والعمل ولمعرفة الحق وسلوكه هي بحسب‬
‫سب ُ َ‬
‫ل‬ ‫ه ُ‬
‫وان َ ُ‬
‫ض َ‬‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬ ‫م ِ‬‫ه َ‬ ‫دي ب ِهِ الل ّ ُ‬ ‫اليمان والقيام بحقوقه ‪ ،‬قال تعالى ‪ } :‬ي َهْ ِ‬
‫سَلم ِ { ]المائدة ‪. [16 :‬‬
‫ال ّ‬
‫ومعلوم أن اتباع رضوان الله ‪ -‬الذي هو حقيقة الخلص ‪ -‬هو روح اليمان‬
‫ه { ]التغابن‬ ‫ن ِبالل ّهِ ي َهْد ِ قَل ْب َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬
‫م ْ‬
‫وساقه الذي يقوم عليه ‪ ،‬وقال تعالى ‪ } :‬وَ َ‬
‫‪ ، [11 :‬فهذه هداية عملية ‪ ،‬هداية توفيق وإعانة على القيام بوظيفة الصبر‬
‫عند حلول المصائب إذا علم أنها من عند الله فرضي وسلم وانقاد ‪.‬‬

‫) ‪(1/83‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن اليمان يدعو إلى الزيادة من علومه وأعماله الظاهرة والباطنة ;‬
‫فالمؤمن بحسب إيمانه ل يزال يطلب الزيادة من العلوم النافعة ‪ ،‬ومن‬
‫العمال النافعة ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وبحسب قوة إيمانه يزيد إيمانه ورغبته وعمله‬
‫م لَ ْ‬
‫م ي َْرَتاُبوا {‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ‬
‫سول ِهِ ث ُ ّ‬ ‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫; كما قال تعالى ‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫]الحجرات ‪. [15 :‬‬
‫ه‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬
‫م آَيات ُ ُ‬ ‫م وَإ َِذا ت ُل ِي َ ْ‬ ‫ت قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫جل َ ْ‬
‫ه وَ ِ‬‫ن إ َِذا ذ ُك َِر الل ّ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫مُنو َ‬‫مؤ ْ ِ‬ ‫ما ال ْ ُ‬ ‫} إ ِن ّ َ‬
‫ن { ]النفال ‪. [2 :‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫م ي َت َوَكلو َ‬ ‫َ‬
‫ماًنا وَعَلى َرب ّهِ ْ‬ ‫م ِإي َ‬ ‫َزاد َت ْهُ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن { ]التوبة ‪. [124 :‬‬ ‫شُرو َ‬ ‫ست َب ْ ِ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ماًنا وَهُ ْ‬ ‫م ِإي َ‬ ‫مُنوا فَزاد َت ْهُ ْ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ما ال ِ‬ ‫} فَأ ّ‬
‫ومنها ‪ :‬أن المؤمنين بالله وبكماله وعظمته وكبريائه ومجده أعظم الناس‬
‫يقينا وطمأنينة وتوكل على الله ‪ ،‬وثقة بوعده الصادق ‪ ،‬ورجاء لرحمته ‪،‬‬
‫وخوفا من عقابه ‪ ،‬وأعظمهم إجلل لله ومراقبة ‪ ،‬وأعظمهم إخلصا وصدقا ‪،‬‬
‫وهذا هو صلح القلوب ‪ ،‬ل سبيل إليه إل باليمان ‪.‬‬

‫) ‪(1/84‬‬

‫ومنها ‪ :‬أنه ل يمكن للعبد أن يقوم بالخلص لله ولعباد الله ونصيحتهم على‬
‫وجه الكمال إل باليمان ‪ ،‬فإن المؤمن تحمله عبودية الله ‪ ،‬وطلب التقرب‬
‫إلى الله ‪ ،‬ورجاء ثوابه ‪ ،‬والخشية من عقابه على القيام بالواجبات التي لله ‪،‬‬
‫والتي لعباد الله ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن المعاملت بين الخلق ل تتم وتقوم إل على الصدق والنصح وعدم‬
‫الغش بوجه من الوجوه ‪ ،‬وهل يقوم بها على الحقيقة إل المؤمنون ؟‬
‫ومنها ‪ :‬أن اليمان أكبر عون على تحمل المشقات ‪ ،‬والقيام بأعباء‬
‫الطاعات ‪ ،‬وترك الفواحش التي في النفوس داع قوي إلى فعلها ‪ ،‬فل تتم‬
‫هذه المور إل بقوة اليمان ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن العبد ل بد أن يصاب بشيء من الخوف والجوع ‪ ،‬ونقص من‬
‫الموال والنفس والثمرات ‪ ،‬وهو بين أمرين ‪ :‬إما أن يجزع ويضعف صبره ‪،‬‬
‫فيفوته الخير والثواب ‪ ،‬ويستحق على ذلك العقاب ‪ ،‬ومصيبته لم تقلع ولم‬
‫تخف ‪ ،‬بل الجزع يزيدها ‪ .‬وإما أن يصبر فيحظى بثوابها ‪ ،‬والصبر ل يقوم إل‬
‫على اليمان ; وأما الصبر الذي ل يقوم على اليمان كالتجلد ونحوه فما أقل‬
‫فائدته ‪ ،‬وما أسرع ما يعقبه الجزع ‪ ،‬فالمؤمنون أعظم الناس صبرا ويقينا‬
‫وثباتا في مواضع الشدة ‪.‬‬

‫) ‪(1/85‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن اليمان يوجب للعبد قوة التوكل على الله ‪ ،‬لعلمه وإيمانه أن‬
‫المور كلها راجعة إلى الله ومندرجة في قضائه وقدره ‪ ،‬وأن من اعتمد عليه‬
‫كفاه ‪ ،‬ومن توكل على الله فقد توكل على القوي العزيز القهار ‪ ،‬ومع أنه‬
‫يوجب قوة التوكل فإنه يوجب السعي والجد في كل سبب نافع ‪ ،‬لن‬
‫السباب النافعة نوعان ‪ :‬دينية ودنيوية ‪ ،‬فالسباب الدينية ‪ :‬هي إيمان ‪ ،‬وهي‬
‫من لوازم اليمان ‪.‬‬
‫والسباب الدنيوية قسمان ‪ :‬سبب ‪ :‬معين على الدين ‪ ،‬ويحتاج إليه الدين ‪،‬‬
‫فهو أيضا من الدين كالسعي في القوة المعنوية والمادية التي فيها قوة‬
‫المؤمنين ‪.‬‬

‫) ‪(1/86‬‬
‫وسبب ‪ :‬لم يوضع في الصل معينا على الدين ‪ ،‬ولكن المؤمن لقوة إيمانه‬
‫ورغبته فيما عند الله من الخير يسلك إلى ربه ‪ ،‬وينفذ إليه مع كل سبب‬
‫وطريق ‪ ،‬فيستخرج من المباحات بنيته وصدق معرفته ولطف علمه بابا يكون‬
‫به معينا على الخير ‪ ،‬مجما للنفس ‪ ،‬مساعدا لها على القيام بحقوق الله‬
‫وحقوق عباده الواجبة والمستحبة ‪ ،‬فيكون هذا المباح حسنا في حقه ‪ ،‬عبادة‬
‫لله ‪ ،‬لما صحبه من النية الصادقة ‪ ،‬حتى أن بعض المؤمنين الصادقين في‬
‫إيمانهم ومعرفتهم ربما نوى في نومه وراحاته ولذاته التقوي على الخير ‪،‬‬
‫وتربية البدن لفعل العبادات ‪ ،‬وتقويته على الخير ‪ ،‬وكذلك في أدويته‬
‫وعلجاته التي يحتاجها ; وربما نوى في اشتغاله في المباحات أو بعضها‬
‫الشتغال عن الشر ‪ ،‬وربما نوى بذلك جذب من خالطه وعاشره بمثل المور‬
‫على فعل خير أو انكفاف عن شر ‪.‬‬
‫وربما نوى بمعاشرته الحسنة إدخال السرور والنبساط على قلوب‬
‫المؤمنين ‪ ،‬ول ريب أن ذلك كله من اليمان ولوازمه ‪ ،‬ولما كان اليمان بهذا‬
‫الوصف قال تعالى في عدة آيات من كتابه ‪ } :‬وَعََلى الل ّهِ فَت َوَك ُّلوا إ ِ ْ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬
‫ن { ]المائدة ‪. [23 :‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ُ‬

‫) ‪(1/87‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن اليمان يشجع العبد ‪ ،‬ويزيد الشجاع شجاعة ‪ ،‬فإنه لعتماده على‬
‫الله العزيز الحكيم ولقوة رجائه وطمعه فيما عنده تهون عليه المشقات ‪،‬‬
‫ويقدم على المخاوف واثقا بربه ‪ ،‬راجيا له ‪ ،‬راهبا من نزوله من عينه لخوفه‬
‫من المخلوقين ; ومن السباب لقوة الشجاعة أن المؤمن يعرف ربه حقا ‪،‬‬
‫ويعرف الخلق حقا ‪ ،‬فيعرف أن الله هو النافع الضار ‪ ،‬المعطي المانع ‪ ،‬الذي‬
‫ل يأتي بالحسنات إل هو ‪ ،‬ول يدفع السيئات إل هو ‪ ،‬وأنه الغني من جميع‬
‫الوجوه ‪ ،‬وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها ‪ ،‬وألطف به من كل أحد ‪ ،‬وأن‬
‫الخلق بخلف ذلك كله ; ول ريب أن هذا داع قوي عظيم يدعو إلى قوة‬
‫الشجاعة ‪ ،‬وقصر خوف العبد ورجائه على ربه ‪ ،‬وأن ينتزع من قلبه خوف‬
‫الخلق ورجاءهم وهيبتهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/88‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن اليمان هو السبب العظم لتعلق القلب بالله في جميع مطالبه‬
‫الدينية والدنيوية ; واليمان القوي يدعو إلى هذا المطلب الذي هو أعلى‬
‫المور على الطلق ‪ ،‬وهو غاية سعادة العبد ; وفي مقابلة هذا يدعو إلى‬
‫التحرر من رق القلب للمخلوقين ‪ ،‬ومن التعلق بهم ; ومن تعلق بالخالق دون‬
‫المخلوق في كل أحواله حصلت له الحياة الطيبة ‪ ،‬والراحة الحاضرة ‪،‬‬
‫والتوحيد الكامل ‪ ،‬كما أن من عكس القضية نقص إيمانه وتوحيده ‪ ،‬وانفتحت‬
‫عليه الهموم والغموم والحسرات ‪.‬‬
‫ول ريب أن هذين المرين تبع لقوة اليمان وضعفه ‪ ،‬وصدقه وكذبه ‪ ،‬وتحققه‬
‫حقيقة أو دعواه والقلب خال منه ‪.‬‬

‫) ‪(1/89‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن اليمان يدعو إلى حسن الخلق مع جميع طبقات الناس ‪ ،‬كما فال‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا « ‪،‬‬
‫وجماع حسن الخلق ‪ :‬أن يتحمل العبد الذى منهم ‪ ،‬ويبذل إليهم ما استطاع‬
‫من المعروف القولي والبدني والمالي ‪ ،‬وأن يخالقهم بحسب أحوالهم بما‬
‫يحبون إذا لم يكن في ذلك محذور شرعي ‪ ،‬وأن يدفع السيئة بالتي هي‬
‫ها‬ ‫ما ي ُل َ ّ‬
‫قا َ‬ ‫أحسن ‪ ،‬ول يقوم بهذا المر إل المؤمنون الكمل ; قال تعالى ‪ } :‬وَ َ‬
‫ظيم ٍ { ]فصلت ‪. [35 :‬‬ ‫ح ّ‬
‫ظ عَ ِ‬ ‫ها إ ِّل ُذو َ‬ ‫ما ي ُل َ ّ‬
‫قا َ‬ ‫صب َُروا وَ َ‬
‫ن َ‬ ‫إ ِّل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫وإذا ضعف اليمان أو نقص أو انحرف أثر ذلك في أخلق العبد انحرافا‬
‫بحسب بعده عن اليمان ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن اليمان الكامل يمنع من دخول النار بالكلية ‪ ،‬كما منع صاحبه في‬
‫الدنيا من عمل المعاصي ‪ ،‬ومن الصرار على ما وقع منه منها ‪ ،‬واليمان‬
‫الناقص يمنع الخلود في النار وإن دخلها كما تواترت بذلك النصوص بأنه يخرج‬
‫من النار من كان معه مثقال حبة خردل من إيمان ‪.‬‬

‫) ‪(1/90‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن اليمان يوجب لصاحبه أن يكون معتبرا عند الخلق أمينا ‪ ،‬ويوجب‬
‫للعبد العفة عن دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ; وفي الحديث » المؤمن‬
‫من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم « ; وأي شرف دنيوي أبلغ من هذا‬
‫الشرف الذي يبلغ بصاحبه أن يكون من الطبقة العالية من الناس ‪ ،‬لقوة‬
‫إيمانه ‪ ،‬وتمام أمانته ‪ ،‬ويكون محل الثقة عندهم ‪ ،‬وإليه المرجع في أمورهم ‪،‬‬
‫وهذا من ثمرات اليمان الجليلة الحاضرة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن قوي اليمان يجد في قلبه من ذوق حلوته ولذة طعمه واستحلء‬
‫آثاره ‪ ،‬والتلذذ بخدمة ربه ‪ ،‬وأداء حقوقه وحقوق عباده ‪ -‬التي هي موجب‬
‫اليمان وأثره ‪ -‬ما يزري بلذات الدنيا كلها بأسرها ‪ ،‬فإنه مسرور وقت قيامه‬
‫بواجبات اليمان ومستحباته ‪ ،‬ومسرور بما يرجوه ويؤمله من ربه من ثوابه‬
‫وجزائه العاجل والجل ‪ ،‬ومسرور بأنه ربح وقته الذي هو زهرة عمره وأصل‬
‫مكسبه ‪ ،‬ومحشو قلبه أيضا من لذة معرفته بربه ومعرفته بكماله وكمال‬
‫بره ‪ ،‬وسعة جوده وإحسانه ولذة محبته والنابة إليه الناشئة عن معرفته‬
‫بأوصافه ‪ ،‬وعن مشاهدة إحسانه ومننه ‪.‬‬

‫) ‪(1/91‬‬

‫فالمؤمن يتقلب في لذات اليمان وحلوته المتنوعة ‪ ،‬ولهذا كان اليمان‬


‫مسليا عن المصيبات مهونا للطاعات ‪ ،‬ومانعا من وقوع المخالفات ‪ ،‬جاعل‬
‫إرادة العبد وهواه تبعا لما يحبه الله ويرضاه ‪ ،‬كما قال النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ » :‬ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به « ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن اليمان هو السبب الوحيد للقيام بذروة سنام الدين ‪ ،‬وهو ‪ :‬الجهاد‬
‫البدني والمالي والقولي ‪ ،‬جهاد الكفار بالسيف والسنان ‪ ،‬وجهاد الكفار‬
‫والمنافقين والمنحرفين في أصول الدين وفروعه بالحكمة والحجة والبرهان ‪،‬‬
‫فكلما قوي إيمان العبد علما ومعرفة وإرادة وعزيمة قوي جهاده ‪ ،‬وقام بكل‬
‫ما يقدر عليه بحسب حاله ومرتبته ‪ ،‬فنال الدرجة العالية والمنزلة الرفيعة ‪،‬‬
‫وإذا ضعف اليمان ترك العبد مقدوره من الجهاد القولي بالعلم والحجة‬
‫والنصيحة والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬وضعف جهاده البدني لعدم‬
‫مُنوا ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ما ال ْ ُ‬
‫الحامل له على ذلك ‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫م وَأ َن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ُ ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬‫أو‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫َ ِ ِ‬‫س‬ ‫في‬ ‫ف ِ ِ ْ ِ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫وال ِهِ ْ‬
‫م َ‬
‫دوا ب ِأ ْ‬
‫جاهَ ُ‬ ‫م لَ ْ‬
‫م ي َْرَتاُبوا وَ َ‬ ‫سول ِهِ ث ُ ّ‬
‫وََر ُ‬
‫ن { ]الحجرات ‪. [15 :‬‬ ‫صادُِقو َ‬ ‫ال ّ‬

‫) ‪(1/92‬‬

‫فصادق اليمان يحمله صدقه على القيام بهذه المرتبة التي هي مرتبة‬
‫الطبقتين العاليتين بعد النبيين ‪ :‬طبقة الصديقين المجاهدين بالعلم والحجة‬
‫والتعليم والنصيحة ‪ ،‬وطبقة الشهداء الذين قاتلوا في سبيل الله ثم قتلوا أو‬
‫ماتوا من دون قتل ; وهذا كله من ثمرات اليمان ومن تمامه وكماله ;‬
‫وبالجملة فخير الدنيا والخرة كله فرع عن اليمان ومترتب عليه ‪ ،‬والهلك‬
‫والنقص إنما يكون بفقد اليمان ونقصه ; والله المستعان ‪.‬‬

‫) ‪(1/93‬‬

‫فصل‬
‫في ذكر بعض اليات الحاثة على القيام بحقوق الله وحقوق الخلق‬
‫ذي‬ ‫ساًنا وَب ِ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫شي ًْئا وَِبال ْ َ‬ ‫كوا ب ِهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه وََل ت ُ ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫قال تعالى ‪َ } :‬واعْب ُ ُ‬
‫ب‬
‫ح ِ‬ ‫صا ِ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫جن ُ ِ‬ ‫جارِ ال ْ ُ‬ ‫قْرَبى َوال ْ َ‬ ‫جارِ ِذي ال ْ ُ‬ ‫ن َوال ْ َ‬ ‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫مى َوال ْ َ‬ ‫قْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خوًرا‬‫خَتال فَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫ملك َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ب َواب ْ ِ‬ ‫جن ْ ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫{ ]النساء ‪. [36 :‬‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ضى َرب ّ َ‬
‫ن‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬‫دوا إ ِل إ ِّياه ُ وَِبال َ‬ ‫ك أل ت َعْب ُ ُ‬ ‫واليات التي في سورة السراء ‪ } :‬وَقَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫ف وَل ت َن ْهَْرهُ َ‬ ‫ما أ ّ‬ ‫ل لهُ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما فَل ت َ ُ‬ ‫ما أوْ ك ِلهُ َ‬ ‫حد ُهُ َ‬ ‫ك ال ْك ِب ََر أ َ‬ ‫عن ْد َ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ي َب ْل ُغَ ّ‬‫ساًنا إ ِ ّ‬‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫حى إ ِل َي ْكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ما أوْ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ما { ]السراء ‪ [23 :‬إلى قوله ‪ } :‬ذ َل ِك ِ‬ ‫ري ً‬ ‫ما قَوْل ك ِ‬ ‫ل لهُ َ‬ ‫وَقُ ْ‬
‫حوًرا {‬ ‫مد ْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ملو ً‬ ‫ُ‬ ‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫قى ِفي َ‬ ‫ْ‬
‫خَر فَت ُل َ‬ ‫َ‬
‫معَ اللهِ إ ِلًها آ َ‬ ‫ّ‬ ‫ل َ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫َ‬
‫مةِ وَل ت َ ْ‬ ‫ْ‬
‫حك َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫]السراء ‪. [39 :‬‬

‫) ‪(1/94‬‬

‫هذه اليات الكريمة فيها المر بعبادة الله وحده ل شريك له ‪ ،‬والدخول تحت‬
‫رق عبوديته التي هي غاية شرف العبد ‪ ،‬والنقياد لوامره واجتناب نواهيه‬
‫محبة له وذل له ‪ ،‬وإخلصا لله وإنابة له في جميع الحالت وفي جميع‬
‫العبادات الظاهرة والباطنة ‪ ،‬وفيها النهي عن الشرك به شيئا ‪ ،‬سواء كان‬
‫شركا أكبر ‪ :‬بأن يصرف نوعا من أنواع العبادة لغير الله ‪ ،‬أو شركا أصغر ‪:‬‬
‫مثل وسائل الشرك كالحلف بغير الله والرياء ‪ ،‬ونحو ذلك مما يتذرع به إلى‬
‫الشرك ‪ ،‬بل الواجب المتعين إخلص العبادة لمن له الكمال المطلق من‬
‫جميع الوجوه ‪ ،‬والتدبير الكامل الشامل الذي ل يشركه ول يعينه عليه أحد ‪.‬‬
‫ثم بعدما أمر بالقيام بحق الله المقدم على كل حق أمر بالقيام بحقوق ذوي‬
‫ساًنا { ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫ح َ‬
‫ن إِ ْ‬ ‫الحقوق من الخلق ‪ :‬الهم فالهم ‪ ،‬فقال ‪ } :‬وَِبال ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬
‫أحسنوا إليهم بالقول الكريم ‪ ،‬والخطاب اللطيف ‪ ،‬وبالفعل ‪ :‬بالقيام‬
‫بطاعتهما ‪ ،‬واجتناب معصيتهما ‪ ،‬والحذر من عقوقهما ‪ ،‬والنفاق عليهما ‪،‬‬
‫وإكرام من له تعلق بهما ‪ ،‬وصلة الرحم التي ل رحم لك إل من جهتهما ‪.‬‬

‫) ‪(1/95‬‬

‫ف وََل ت َن ْهَْرهُ َ‬
‫ما وَقُ ْ‬
‫ل‬ ‫ما أ ُ ّ‬‫ل ل َهُ َ‬ ‫ما فََل ت َ ُ‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫ما أوْ ك َِلهُ َ‬
‫حد ُهُ َ‬
‫َ‬
‫ك ال ْك ِب ََر أ َ‬
‫عن ْد َ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ي َب ْل ُغَ ّ‬
‫} إِ ّ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ري ً‬ ‫ما قَوًْل ك َ ِ‬ ‫ل َهُ َ‬
‫ما َرب َّياِني‬ ‫ما ك َ َ‬
‫مهُ َ‬‫ح ْ‬ ‫ل َرّبي اْر َ‬ ‫مةِ وَقُ ْ‬‫ح َ‬‫ن الّر ْ‬‫م َ‬‫ل ِ‬ ‫ح الذ ّ ّ‬ ‫جَنا َ‬‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ض لهُ َ‬ ‫ف ْ‬ ‫خ ِ‬‫} َوا ْ‬
‫صِغيًرا { ]السراء ‪ ، [24 :‬والمر بالحسان إلى الوالدين وإطلقه يدخل فيه‬ ‫َ‬
‫كل ما عده الناس إحسانا ‪ ،‬وذلك يختلف باختلف الوقات والحوال‬
‫والشخاص ‪.‬‬
‫وفيه النهي عن ضد الحسان إليهما ‪ ،‬وهو أمران ‪ :‬الساءة والعقوق الذي هو‬
‫إيصال الذى القولي والفعلي إليهما ‪ ،‬وترك القيام ببعض حقوقهما الواجبة ‪،‬‬
‫والمر الثاني ‪ :‬ترك الحسان وترك الساءة ‪ ،‬فإن ذلك داخل في العقوق ‪،‬‬
‫فل يسع الولد أن يقول إذا قمت بواجب والدي وتركت معصيتهما فقد قمت‬
‫بحقهما ‪ ،‬فيقال ‪ :‬بل عليك أن تبذل لهما من الحسان الذي تقدر عليه ما‬
‫يجعلك في مرتبة البرار البارين بوالديهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/96‬‬

‫صِغيًرا { ‪ :‬بيان لبعض السباب الموجبة للبر ‪ ،‬وأن‬


‫ما َرب َّياِني َ‬‫وقوله ‪ } :‬ك َ َ‬
‫الوالدين اشتركا في تربية بدنك وروحك بالتغذية والكسوة والحضانة والقيام‬
‫بكل المؤن ‪ ،‬وبالتعليم والرشاد واللزام بطاعة الله والداب والخلق الجميلة‬
‫‪ ،‬وفي هذا دليل على أن كل من له عليك حق تربية ‪ -‬بقيام بمؤنة نفقة‬
‫وكسوة وغيرها ‪ -‬أن له حقا عليك بالحسان والبر والدعاء ; وأعلى من ذلك‬
‫من له حق عليك بتربية عقلك وروحك تربية علمية تهذيبية أن له الحق الكبر‬
‫عليك ; وهذا من جملة فضائل أهل العلم المعلمين العاملين ‪ ،‬ومن حقوقهم‬
‫على الناس ‪ ،‬فإنهم ربما فاقوا في هذه التربية تربية الوالدين بأضعاف‬
‫مضاعفة ‪ ،‬وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‪.‬‬
‫قْرَبى { أي ‪ :‬أحسنوا إلى أقاربكم القريب منهم والبعيد‬‫ذي ال ْ ُ‬‫وقوله ‪ } :‬وَب ِ ِ‬
‫بالقول والفعل ‪ ،‬وأوصلوا لهم من الهدايا والصدقات والبر والحسان المتنوع‬
‫ما يشرح صدورهم ‪ ،‬وتتيسر به أمورهم ‪ ،‬وتكونوا بذلك واصلين ‪ ،‬وللجر من‬
‫الله حائزين ‪.‬‬

‫) ‪(1/97‬‬

‫مى { ‪ :‬هم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار ‪ ،‬فمن رحمة أرحم‬ ‫} َوال ْي ََتا َ‬
‫الراحمين أمر الناس برحمتهم والحنو عليهم والحسان إليهم ‪ ،‬وكفالتهم وجبر‬
‫خواطرهم وتأديبهم ‪ ،‬وأن يربوهم أحسن تربية كما يربون أولدهم ‪ ،‬سواء كان‬
‫اليتيم ذكرا أو أنثى ‪ ،‬قريبا أو غير قريب ‪.‬‬
‫ن { ‪ :‬وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر فلم يحصلوا على‬ ‫كي ِ‬
‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫كفايتهم ول كفاية من يمونون ‪ ،‬فأمر تعالى بسد خلتهم ‪ ،‬ودفع فاقتهم ‪،‬‬
‫والحض على ذلك ‪ ،‬وقيام العبد بما أمكنه من ذلك من غير ضرر عليه ‪.‬‬
‫قْرَبى { أي ‪ :‬الجار القريب الذي له حق الجوار وحق القرابة ‪.‬‬ ‫جارِ ِذي ال ْ ُ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫ب { ‪ :‬الذي ليس بقريب ‪ ،‬فعلى العبد القيام بحق جاره‬ ‫جارِ ال ْ ُ‬
‫جن ُ ِ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫مطلقا ‪ ،‬مسلما كان أو كافرا ‪ ،‬قريبا أو بعيدا ‪ ،‬بكف أذاه عنه ‪ ،‬وتحمل أذاه ‪،‬‬
‫وبذل ما يهون عليه ويستطيعه من الحسان ‪ ،‬وتمكينه من النتفاع بجداره ‪،‬‬
‫أو طريق ماء على وجه ل يضر الجار ‪ ،‬وتقديم الحسان إليه على الحسان‬
‫على من ليس بجار ‪ ،‬وكلما كان الجار أقرب بابا كان آكد لحقه ‪ ،‬فينبغي للجار‬
‫أن يتعاهد جاره ‪ :‬بالصدقة والهدية والدعوة واللطافة بالقوال والفعال ؛‬
‫تقربا إلى الله وإحسانا إلى أخيه صاحب الحق ‪.‬‬

‫) ‪(1/98‬‬

‫ب { قيل ‪ :‬هو الرفيق في السفر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هو الزوجة ‪،‬‬ ‫ب ِبال ْ َ‬


‫جن ْ ِ‬ ‫ح ِ‬‫صا ِ‬
‫} َوال ّ‬
‫وقيل ‪ :‬هو الرفيق مطلقا في الحضر والسفر ‪ ،‬وهذا أشمل ‪ ،‬فإنه يشمل‬
‫القولين الولين ‪ ،‬فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلمه من‬
‫مساعدته على أمور دينه ودنياه ‪ ،‬والنصح له والوفاء معه في العسر واليسر ‪،‬‬
‫والمنشط والمكره ‪ ،‬وأن يحب له ما يحب لنفسه ‪ ،‬ويكره له ما يكره‬
‫لنفسه ; وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد ‪.‬‬
‫ل { ‪ :‬وهو الغريب في غير بلده ‪ ،‬سواء كان محتاجا أو غير‬ ‫سِبي ِ‬‫ن ال ّ‬‫} َواب ْ ِ‬
‫محتاج ‪ ،‬فحث الله على الحسان إلى الغرباء ‪ ،‬لكونهم في مظنة الوحشة‬
‫والحاجة ‪ ،‬وتعذر ما يتمكنون عليه في أوطانهم ‪ ،‬فيتصدق على محتاجهم ‪،‬‬
‫ويجبر خاطر غير المحتاج بالكرام والهدية والدعوة والمعاونة على سفره ‪.‬‬

‫) ‪(1/99‬‬

‫َ‬
‫مان ُك ُ ْ‬
‫م { أي ‪ :‬من الرقيق والبهائم بالقيام بكفايتهم ‪ ،‬وأن ل‬ ‫مل َك َ ْ‬
‫ت أي ْ َ‬ ‫ما َ‬
‫} وَ َ‬
‫يحملوا ما ل يطيقون ‪ ،‬وأن يعاونوا على مهماتهم ‪ ،‬وأن يقام بتقويمهم‬
‫وتأديبهم النافع ; فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه المتواضع لعباد‬
‫الله المنقاد لمر الله وشرعه ‪ ،‬الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل ;‬
‫ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه ‪ ،‬عات على الله ‪ ،‬متكبر على‬
‫عباد الله ‪ ،‬معجب بنفسه ‪ ،‬فخور بأقواله على وجه الكبر والعجب واحتقار‬
‫الخلق ‪ ،‬وهو في الحقيقة السافل المحتقر ‪.‬‬

‫) ‪(1/100‬‬

‫خوًرا { فهؤلء ما بهم من‬ ‫خَتاًل فَ ُ‬‫م ْ‬‫ن ُ‬ ‫ن َ‬


‫كا َ‬ ‫م ْ‬‫ب َ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ولهذا قال ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫الوصاف القبيحة تحملهم على البخل بالحقوق الواجبة ‪ ،‬ويأمرون الناس‬
‫ن فَ ْ‬
‫ضل ِهِ { ]النساء ‪:‬‬ ‫م ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬‫ن َ‬‫مو َ‬ ‫بأقوالهم وأفعالهم بالبخل ‪ } ،‬وَي َك ْت ُ ُ‬
‫‪ ، [37‬أي ‪ :‬من العلم الذي يهتدي به الضالون ‪ ،‬ويسترشد به الجاهلون ‪،‬‬
‫فيكتمونه عنهم ‪ ،‬ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق ;‬
‫فهؤلء جمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم ‪ ،‬وبين السعي في خسارة‬
‫أنفسهم والسعي في خسارة غيرهم ‪ ،‬وهذه هي صفات الكافرين ‪ ،‬ولهذا قال‬
‫مِهيًنا { ]النساء ‪ [37 :‬أي ‪ :‬كما استهانوا بالحق ‪،‬‬ ‫ن عَ َ‬
‫ذاًبا ُ‬ ‫ري َ‬ ‫‪ } :‬وَأ َعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬
‫كافِ ِ‬
‫وتكبروا على الخلق ‪ ،‬واستهانوا بالقيام بالحقوق ‪ ،‬أهانهم الله بالعذاب الليم‬
‫والخزي الدائم ‪.‬‬

‫) ‪(1/101‬‬

‫ط‬
‫س ِ‬‫ل ال ْب َ ْ‬‫سط َْها ك ُ ّ‬
‫ك وََل ت َب ْ ُ‬ ‫ة إ َِلى عُن ُ ِ‬
‫ق َ‬ ‫مغُْلول َ ً‬ ‫ل ي َد َ َ‬
‫ك َ‬ ‫وقال تعالى ‪ } :‬وََل ت َ ْ‬
‫جعَ ْ‬
‫سوًرا { ]السراء ‪ [29 :‬أي ‪ :‬احذر هذين الخلقين الرذيلين ‪:‬‬ ‫ح ُ‬‫م ْ‬ ‫مُلو ً‬
‫ما َ‬ ‫قعُد َ َ‬‫فَت َ ْ‬
‫البخل بالواجبات وفي بذل المال فيما ينبغي بذله فيه ‪ ،‬والتبذير بالنفقة فيما‬
‫ما { أي ‪:‬‬ ‫مُلو ً‬ ‫قعُد َ { ‪ :‬إن فعلت ذلك } َ‬ ‫ل ينبغي أو زيادة على ما ينبغي ‪ } ،‬فَت َ ْ‬
‫تلم على ما فعلت من السراف ‪ ،‬لن كل عاقل يعرف أن السراف مناف‬
‫للعقل الصحيح ; كما أنه مناف للشرع ‪ ،‬فإن الله جعل الموال قياما لمصالح‬
‫الخلق ; فكما أن منعها وإمساكها عن وضعها فيما جعلت له مذموم فكذلك‬
‫بذلها في المور الضارة ‪ ،‬أو الزيادة غير اللئقة في المور العادية وغيرها‬
‫مذموم ‪ ،‬لنه إتلف للمال بغير مصلحة ‪ ،‬وانحراف في حسن التصرف‬
‫والتدبير ‪ ،‬وضعف التدبير وعدم انتظامه مذموم في كل شيء ‪ ،‬كما أن حسن‬
‫التدبير محمود ونافع لفاعله وغيره ‪.‬‬
‫سوًرا { أي ‪ :‬فارغ اليد ‪ ،‬فل بقي ما في يدك من المال ‪ ،‬ول خلفه مدح‬ ‫ح ُ‬‫م ْ‬‫} َ‬
‫وثناء ‪.‬‬

‫) ‪(1/102‬‬

‫وهذا المر بإيتاء ذي القربى وغيرهم مع القدرة ‪ ،‬فأما مع العدم أو تعذر‬


‫م‬
‫ن عَن ْهُ ُ‬ ‫ض ّ‬
‫ما ت ُعْرِ َ‬‫النفقة الحاضرة فأمر تعالى أن يردوا ردا جميل ‪ ،‬فقال ‪ } :‬وَإ ِ ّ‬
‫سوًرا { ]السراء ‪ [28 :‬أي ‪:‬‬ ‫م قَوًْل َ‬
‫مي ْ ُ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ها فَ ُ‬
‫ق ْ‬ ‫جو َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬
‫ك ت َْر ُ‬ ‫م ْ‬‫مةٍ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫اب ْت َِغاَء َر ْ‬
‫تعرضن عن إعطائهم حاضرا ‪ ،‬ولكنك ترجو فيما بعد ذلك تيسير المر من الله‬
‫سوًرا { أي ‪ :‬لطيفا برفق ووعد بالجميل عند الوجود ‪،‬‬ ‫مي ْ ُ‬‫م قَوًْل َ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ق ْ‬‫‪ } ،‬فَ ُ‬
‫واعتذار بعدم المكان في الوقت الحاضر ‪ ،‬لينقلبوا عنك مطمئنة قلوبهم ‪،‬‬
‫صد َقَةٍ ي َت ْب َعَُها‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫خي ٌْر ِ‬ ‫فَرةٌ َ‬
‫مغْ ِ‬
‫ف وَ َ‬
‫معُْرو ٌ‬ ‫ل َ‬‫عاذرين راجين كما قال تعالى ‪ } :‬قَوْ ٌ‬
‫َ‬
‫م { ]البقرة ‪. [263 :‬‬ ‫حِلي ٌ‬‫ي َ‬‫ه غَن ِ ّ‬ ‫أًذى َوالل ّ ُ‬
‫وهذا من لطف الله بالعباد ‪ ،‬أمرهم بانتظار الرحمة والرزق منه ؛ لن انتظار‬
‫ذلك عبادة ‪ ،‬وسبب لحصوله ‪ ،‬فإن الله عند ظن عبده به ‪ ،‬وكذلك وعدهم أن‬
‫يعطوهم إذا وجدوا عبادة حاضرة لمن وعدوا ‪ ،‬لن الهم بفعل الخير والحسنة‬
‫خير ‪ ،‬ولهذا ينبغي للعبد أن يفعل ما يقدر عليه من الخير ‪ ،‬وينوي فعل ما لم‬
‫يقدر عليه إذا قدر ‪ ،‬ليثاب على ذلك ‪ ،‬ولعل الله ييسره له ‪.‬‬

‫) ‪(1/103‬‬

‫ها { فيه ‪ :‬الحث على تعليق القلب‬ ‫جو َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬


‫ك ت َْر ُ‬ ‫م ْ‬
‫مةٍ ِ‬
‫ح َ‬
‫وفي قوله ‪ } :‬اب ْت َِغاَء َر ْ‬
‫والرجاء والطمع بالله ‪ ،‬وصرف التعلق بالمخلوقين ‪ ،‬فالموفق ‪ :‬في حال‬
‫الوجود والغنى قلبه متعلق بحمد الله وشكره والثناء عليه ‪ ،‬ل ينسى ول يبطر‬
‫النعمة ‪ ،‬وفي حال الفقد والفقر صابر راض راج من الله فضله وخيره‬
‫ورحمته ‪ ،‬وهذا من أجل عبادات القلوب المقربة إلى علم الغيوب ‪.‬‬
‫َ‬
‫ق { ]السراء ‪ ، [31 :‬وذلك أن الله أرحم‬ ‫مَل ٍ‬
‫ة إِ ْ‬ ‫خ ْ‬
‫شي َ َ‬ ‫قت ُُلوا أوَْلد َك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫} وََل ت َ ْ‬
‫بعباده من الوالدة بولدها ‪ ،‬فنهى الوالدين عن هذا الخلق الذي هو من أرذل‬
‫الخلق وأسقطها ‪ :‬قتل أولدهم خشية من الفقر والملق ‪ ،‬ففيه عدة جنايات‬
‫‪ :‬قتل النفس الذي هو من أعظم الفساد ‪ ،‬وأشنع من ذلك قتل الولد الذين‬
‫هم فلذ الكباد ‪ ،‬وسوء الظن برب العالمين ‪ ،‬وجهلهم وضللهم البليغ ‪ ،‬إذ‬
‫ظنوا أن وجودهم يضيق عليهم الرزاق ‪ ،‬فتكفل لهم بقيامه برزق الجميع ‪.‬‬

‫) ‪(1/104‬‬

‫فأين هذا الخلق الشنيع من أخلق خواص المؤمنين الذين كلما كثرت أولدهم‬
‫وعوائلهم قوي ظنهم بالله ‪ ،‬ورجوا زيادة فضله وقاموا بمؤنتهم مطمئنة‬
‫نفوسهم ‪ ،‬حامدين ربهم أن جعل رزقهم على أيديهم ‪ ،‬ومثنين على ربهم إذ‬
‫أقدرهم على ذلك ‪ ،‬وراجين ثواب ذلك عنده ‪ ،‬ومشاهدين لمنة الله عليهم‬
‫بذلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬هل تنصرون وترزقون إل بضعفائكم‬
‫بدعائهم ورغبتهم إلى الله « ‪.‬‬
‫سِبيًل { ]السراء ‪ ، [32 :‬والنهي عن‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫ن َفا ِ ً َ َ‬
‫سا‬ ‫و‬ ‫ة‬‫ش‬‫َ‬ ‫ح‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫} وََل ت َ ْ‬
‫قَرُبوا الّزَنا إ ِن ّ ُ‬
‫قربان الزنا يشمل النهي عنه وعن جميع دواعيه ومقدماته ‪ ،‬كالنظر المحرم ‪،‬‬
‫والخلوة بالجنبية ‪ ،‬وخطاب من يخشى الفتنة بخطابه ونحو ذلك ; ووصف‬
‫الزنا بأقبح الوصاف ‪ :‬بأنه فاحشة ‪ ،‬أي ‪ :‬جريمة عظيمة تستفحش شرعا‬
‫وعقل ‪ ،‬لن فيها انتهاك حرمة الشرع والتهاون به ‪ ،‬وفيه إفساد المرأة ‪،‬‬
‫وإفساد النساب ‪ ،‬واختلط المياه ‪ ،‬وفيه إضرار بأهلها وبزوجها وبكل من‬
‫يتصل بها ‪ ،‬وفيه من المفاسد شيء كثير ‪.‬‬

‫) ‪(1/105‬‬

‫وأمر تعالى بإيفاء المكاييل والموازين والمعاملت كلها بالقسط من غير‬


‫بخس ول نقص ول غش ول كتمان ‪ ،‬وفي ضمن ذلك المر بالصدق والنصح‬
‫في جميع المعاملت ‪ ،‬فإنه بذلك يصلح الدين والدنيا ‪ ،‬ولذلك قال ‪ } :‬ذ َل ِ َ‬
‫ك‬
‫ن ت َأ ِْويًل { ]السراء ‪ [35 :‬أي ‪ :‬هو خير في الحاضر ‪ ،‬وأحسن‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬
‫َ‬
‫خي ٌْر وَأ ْ‬
‫َ‬
‫عاقبة في الجل ‪ ،‬يسلم به العبد من التبعات ‪ ،‬وتحل البركة في هذه‬
‫المعاملة ‪.‬‬
‫م { ]السراء ‪ [36 :‬أي ‪ :‬ول تتبع ما‬ ‫عل ْ ٌ‬ ‫س لَ َ‬
‫ك ب ِهِ ِ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬
‫ف َ‬ ‫وقوله ‪ } :‬وََل ت َ ْ‬
‫ق ُ‬
‫ليس لك به علم ‪ ،‬بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله ‪ ،‬فإن التثبت في المور‬
‫كلها دليل على حسن الرأي وقوة العقل ‪ ،‬وبه تتوضح المور ‪ ،‬ويعرف بعد‬
‫ذلك هل القدام خير أم الحجام ؟ لن المتثبت ل بد أن يعمل فكره ويشاور‬
‫في المور التي عليه أن يتثبت فيها ; والفكر والمشاورة اكبر السباب لصابة‬
‫الصواب والسلمة من التبعة ‪ ،‬ومن الندم الصادر من العجلة ‪ ،‬ومن عدم‬
‫استدراك الفارط ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬

‫) ‪(1/106‬‬
‫سُئوًل { ]السراء ‪ [36 :‬أي‬‫م ْ‬
‫ه َ‬‫ن عَن ْ ُ‬
‫كا َ‬ ‫ل ُأول َئ ِ َ‬
‫ك َ‬ ‫ؤاد َ ك ُ ّ‬ ‫صَر َوال ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫معَ َوال ْب َ َ‬
‫س ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫} إِ ّ‬
‫‪ :‬ل بد أن تسأل عن حركة هذه الجوارح ‪ ،‬وهل هي حركات نافعة بأن وضعت‬
‫فيما يقرب إلى الله ‪ ،‬أم ضارة بأن وجهت إلى معصية الله ؟ فليتعاهد العبد‬
‫بحفظها عن المور الضارة ليعد لهذا السؤال جوابا ‪ ،‬فمن استعملها بطاعة‬
‫الله فقد زكاها ونماها ‪ ،‬وأثمرت له النعيم المقيم ‪ ،‬ومن استعملها في ضد‬
‫ذلك فقد دساها وأسقطها وأوصلته إلى العذاب الليم ‪.‬‬

‫) ‪(1/107‬‬

‫َْ‬
‫حا { ]السراء ‪ [37 :‬أي ‪ :‬ل تتكبر على‬ ‫مَر ً‬
‫ض َ‬
‫ش ِفي الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫وقوله ‪ } :‬وََل ت َ ْ‬
‫الحق ‪ ،‬ول على الخلق ‪ ،‬فإن التكبر من أرذل الخلق ‪ ،‬والمتكبر المعجب‬
‫بنفسه لن يبلغ ما يظنه وتطمح له نفسه من الخيالت الفاسدة أنه في مقام‬
‫رفيع على الخلق ‪ ،‬بل هو ممقوت عند الله وعند خلقه ‪ ،‬مبغوض محتقر قد‬
‫نزل بخلقه هذا إلى أسفل سافلين ‪ ،‬ففاته مطلوبه من كبره وعجبه ‪ ،‬وحصل‬
‫على نقيضه ‪ ،‬ومن مضار الكبر أنه صح الحديث عن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم أنه ‪ » :‬ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر « ‪،‬‬
‫والنار مثوى المتكبرين ‪ ،‬والكبر هو بطر الحق ‪ ،‬وغمط الناس ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫احتقارهم وازدراؤهم ‪ ،‬وهذه الوامر الحسنة والرشادات في هذه اليات من‬
‫الحكمة العالية التي أوحاها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ; وهي من‬
‫أعظم محاسن الدين ‪ ،‬فالدين هو دين الحكمة التي هي معرفة الصواب‬
‫والعمل بالصواب ‪ ،‬ومعرفة الحق والعمل بالحق في كل شيء ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫ن َقالوا‬
‫جاهِلو َ‬
‫م ال َ‬ ‫خاط َب َهُ ُ‬
‫ض هَوًْنا وَإ َِذا َ‬ ‫شو َ َ‬
‫ن عَلى الْر ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬
‫عَباد ُ الّر ْ‬
‫} وَ ِ‬
‫ما { ]الفرقان ‪ 63 :‬وما بعدها[ ‪.‬‬ ‫سَل ً‬
‫َ‬

‫) ‪(1/108‬‬

‫العبودية لله نوعان ‪ :‬عبودية لربوبية الله وملكه ‪ ،‬فهذه يشترك فيها سائر‬
‫الخلق مسلمهم وكافرهم ‪ ،‬فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون ‪ ،‬وعبودية‬
‫للوهيته ورحمته ‪ ،‬وهي عبودية أنبيائه وأوليائه ‪ ،‬وهي المراد هنا ‪ ،‬ولهذا‬
‫ن ( تنبيها على أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬
‫أضافها إلى اسمه ) الّر ْ‬
‫برحمته بهم ولطفه وإحسانه ‪ ،‬فذكر صفاتهم ‪ ،‬أكمل الصفات ‪ ،‬وبالتصاف بها‬
‫يكون العبد متحققا بعبوديته الخاصة النافعة المثمرة للسعادة البدية ‪،‬‬
‫ض هَوًْنا { أي ‪ :‬ساكنين متواضعين لله‬ ‫َْ‬ ‫شو َ َ‬ ‫م ُ‬
‫ن عَلى الْر ِ‬ ‫فوصفهم بأنهم } ي َ ْ‬
‫وللخلق ‪ ،‬فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده ‪ } ،‬وَإ َِذا‬
‫ن { أي ‪ :‬خطاب جهل ‪ ،‬فإنه أضاف الخطاب لهذا الوصف ‪،‬‬ ‫جاهُِلو َ‬‫م ال ْ َ‬
‫خاط َب َهُ ُ‬
‫َ‬
‫ما { أي ‪ :‬خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الثم ‪ ،‬ول يقابلون‬ ‫َ‬
‫سل ً‬ ‫ُ‬
‫} َقالوا َ‬
‫الجاهل بجهله ‪ ،‬وهذا ثناء عليهم بالرزانة والحلم العظيم والعفو عن الجاهل‬
‫ومقابلة المسيء بالحسان ‪.‬‬

‫) ‪(1/109‬‬
‫ما { ]الفرقان ‪ [64 :‬أي ‪ :‬يكثرون من‬ ‫دا وَقَِيا ً‬ ‫ج ً‬ ‫س ّ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ل َِرب ّهِ ْ‬‫ن ي َِبيُتو َ‬ ‫ذي َ‬‫} َوال ّ ِ‬
‫جاَفى‬ ‫صلة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له كما قال تعالى ‪ } :‬ت َت َ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫مًعا { ]السجدة ‪َ } ، [16 :‬وال ِ‬ ‫خوًْفا وَط َ َ‬
‫م َ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫جِع ي َد ْ ُ‬ ‫ضا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م عَ ِ‬ ‫جُنوب ُهُ ْ‬ ‫ُ‬
‫م { ]الفرقان ‪ [65 :‬أي ‪ :‬ادفعه عنا‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ج‬
‫َ َ َّ َ‬ ‫ب‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫نا‬ ‫ع‬
‫ْ ِ ْ َّ َ‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫ا‬ ‫نا‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫َ َ َّ‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫قو‬‫ُ‬ ‫يَ‬
‫ن‬
‫بالعصمة من أسبابه ‪ ،‬ومغفرة ما وقع منا مما هو مقتض للعذاب ‪ } ،‬إ ِ ّ‬
‫ما { ]الفرقان ‪ [65 :‬أي ‪ :‬ملزما لهلها ملزمة الغريم لغريمه‬ ‫ن غََرا ً‬ ‫كا َ‬ ‫ذاب ََها َ‬ ‫عَ َ‬
‫ما { ]الفرقان ‪ [66 :‬وهذا منهم على وجه‬ ‫قا ً‬‫م َ‬ ‫قّرا وَ ُ‬ ‫ست َ َ‬‫م ْ‬ ‫ت ُ‬ ‫ساَء ْ‬ ‫‪ } ،‬إ ِن َّها َ‬
‫التضرع لربهم ‪ ،‬وبيان شدة حاجتهم إليه ‪ ،‬وأنه ليس في طاقتهم احتمال هذا‬
‫العذاب ‪ ،‬وليتذكروا منة الله عليهم ‪ ،‬فإن صرف الشدة يعظم وقعه بحسب‬
‫شدتها وفظاعتها ‪.‬‬

‫) ‪(1/110‬‬

‫ما { ]الفرقان ‪:‬‬ ‫وا ً‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬


‫ك قَ َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬ ‫قت ُُروا وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫سرُِفوا وَل َ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫قوا ل َ ْ‬
‫م يُ ْ‬ ‫ن إ َِذا أ َن ْ َ‬
‫ف ُ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫سرُِفوا { أي ‪ :‬يزيدوا على‬ ‫م يُ ْ‬‫‪ [67‬أي ‪ :‬النفقات الواجبة والمستحبة ‪ } ،‬ل َ ْ‬
‫قت ُُروا { ‪:‬‬ ‫الحد فيدخلوا في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة ‪ } ،‬وَل َ ْ‬
‫م يَ ْ‬
‫ما‬ ‫فيدخلوا في باب الشح والبخل ‪ ،‬وكان إنفاقهم بين السراف والتقتير } قَ َ‬
‫وا ً‬
‫{ ‪ :‬تقوم به الحوال ; فإنهم يبذلون في الواجبات من الزكوات والكفارات‬
‫والنفقات الواجبة ‪ ،‬وفيما ينبغي من المور النافعة على المحتاجين ‪ ،‬وفي‬
‫المشاريع الخيرية ‪ ،‬وفي المور الضرورية والكمالية الدينية والدنيوية من غير‬
‫ضرر ول إضرار ‪ ،‬وهذا من اقتصادهم وعقلهم وحسن تدبيرهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/111‬‬

‫خَر { ]الفرقان ‪ : [68 :‬ل دعاء عبادة ول‬ ‫معَ الل ّهِ إ ِل ًَها آ َ‬‫ن َ‬ ‫عو َ‬‫ن َل ي َد ْ ُ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫دعاء مسألة ‪ ،‬بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء ‪ ،‬مقبلين عليه‬
‫ه { ]الفرقان ‪: [68 :‬‬ ‫م الل ّ ُ‬‫حّر َ‬‫س ال ِّتي َ‬ ‫ف َ‬ ‫ن الن ّ ْ‬ ‫قت ُُلو َ‬
‫معرضين عما سواه ‪ } ،‬وََل ي َ ْ‬
‫حقّ { ]الفرقان ‪ : [68 :‬كقتل‬ ‫وهي نفس المسلم والكافر المعاهد ‪ } ،‬إ ِّل ِبال ْ َ‬
‫النفس بالنفس ‪ ،‬والزاني المحصن ‪ ،‬والتارك لدينه المفارق للجماعة ‪ } ،‬وََل‬
‫ك { ]الفرقان ‪ [68 :‬المذكور من الشرك بالله وقتل‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬
‫فعَ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬‫ن وَ َ‬‫ي َْزُنو َ‬
‫ة‬ ‫م‬ ‫يا‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ع‬ ‫ضا‬ ‫ي‬ ‫{}‬ ‫ما‬ ‫َ‬
‫ثا‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫}‬ ‫‪،‬‬ ‫والزنا‬ ‫الله‬ ‫حرم‬ ‫التي‬ ‫النفس‬
‫ُ َ ْ َ ِ َ َ ِ‬ ‫ُ َ َ ْ ُ َ‬ ‫ً‬ ‫َ َ‬
‫مَهاًنا { ]الفرقان ‪. [69 :‬‬ ‫ُ‬ ‫}‬ ‫‪،‬‬ ‫العذاب‬ ‫‪:‬‬ ‫أي‬ ‫خل ُد ْ ِفيهِ { ]الفرقان ‪[69 - 68 :‬‬ ‫وَي َ ْ‬

‫) ‪(1/112‬‬

‫فالوعيد بالخلود لمن فعلها كلها ثابت في الكتاب والسنة وإجماع المة ‪،‬‬
‫كذلك لمن أشرك بالله ‪ ،‬وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من‬
‫هذه الثلثة ؛ لكونها كلها من أكبر الكبائر ‪ ،‬وأما خلود القاتل بغير حق والزاني‬
‫‪ ،‬فقد دلت النصوص القرآنية وتواترت الحاديث النبوية أن جميع المؤمنين‬
‫وإن دخلوا النار فسيخرجون منها ‪ ،‬ول يخلد فيها مؤمن ‪ ،‬فإن اليمان الكامل‬
‫يمنع من دخولها ‪ ،‬ومطلق اليمان ولو مثقال ذرة يمنع من الخلود فيها كما‬
‫تقدم ‪.‬‬
‫ونص الله على ثلثة هذه الشياء لنها أكبر الكبائر ‪ ،‬وفسادها كبير ‪ ،‬فالشرك‬
‫فيه فساد الديان بالكلية ‪ ،‬والقتل فيه فساد البدان ‪ ،‬والزنا فيه فساد‬
‫ب { ]الفرقان ‪ : [70 :‬عن هذه المعاصي وغيرها بأن‬ ‫ن َتا َ‬‫م ْ‬‫العراض } إ ِّل َ‬
‫أقلع عنها في الحال ‪ ،‬وندم على فعلها ‪ ،‬وعزم عزما جازما أن ل يعود ‪،‬‬
‫ن { ]الفرقان ‪ : [70 :‬بالله إيمانا صحيحا يقتضي فعل الواجبات ‪ ،‬وترك‬ ‫م َ‬
‫} َوآ َ‬
‫حا { ]الفرقان ‪ : [70 :‬فيدخل فيه جميع‬ ‫مًل َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫ل عَ َ‬‫م َ‬‫المحرمات ‪ } ،‬وَعَ ِ‬
‫الصالحات من واجب ومستحب ‪.‬‬

‫) ‪(1/113‬‬

‫ت { ]الفرقان ‪ : [70 :‬بأن يوفقهم للخير ‪،‬‬ ‫سَنا ٍ‬‫ح َ‬ ‫م َ‬‫سي َّئات ِهِ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫} فَُأول َئ ِ َ‬
‫ك ي ُب َد ّ ُ‬
‫فتبدل أقوالهم وأفعالهم التي كانت مستعدة لفعل السيئات تتبدل حسنات ‪،‬‬
‫فيتبدل شركهم إيمانا ‪ ،‬ومعصيتهم طاعة ‪ ،‬وتتبدل نفس السيئات التي عملوها‬
‫‪ ،‬ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وندما وإنابة وطاعة ‪ ،‬تبدل حسنات كما هو‬
‫ظاهر الية ‪ ،‬وورد فيه حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه ‪ ،‬فعددها‬
‫عليه ; ثم أبدل مكان كل سيئة حسنة إلى آخر الحديث ‪.‬‬
‫ما‬ ‫حي‬
‫َ ِ ً‬ ‫ر‬ ‫}‬ ‫‪،‬‬ ‫كلها‬ ‫ذنوبه‬ ‫فوًرا { ]الفرقان ‪ : [70 :‬لمن تاب ‪ ،‬يغفر‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬‫} وَ َ‬
‫{ ]الفرقان ‪ : [70 :‬بعباده إذ دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم ; ثم‬
‫ب إ َِلى الل ّهِ َ‬
‫مَتاًبا‬ ‫حا فَإ ِن ّ ُ‬
‫ه ي َُتو ُ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫م َ‬
‫ل َ‬ ‫ب وَعَ ِ‬
‫ن َتا َ‬
‫م ْ‬‫وفقهم لها ثم قبلها منهم ‪ } ،‬وَ َ‬
‫{ أي ‪ :‬فليعلم أن توبته في غاية الكمال ؛ لنها رجوع إلى الطريق الموصل‬
‫إلى الله ‪ ،‬الذي هو عين سعادة العبد وفلحه ‪ ،‬فليخلص فيها ‪ ،‬وليخلصها من‬
‫شوائب الغراض الفاسدة ‪.‬‬
‫والمقصود من هذا الحث على تكميل التوبة ‪ ،‬وأن تكون على أكمل الوجوه‬
‫وأجلها ؛ لتحصل له ثمراتها الجليلة ‪.‬‬

‫) ‪(1/114‬‬

‫ن الّزوَر { ]الفرقان ‪ [72 :‬أي ‪ :‬ل يحضرون الزور ‪ ،‬أي ‪:‬‬ ‫دو َ‬
‫شهَ ُ‬ ‫ن َل ي َ ْ‬
‫ذي َ‬‫} َوال ّ ِ‬
‫القول المحرم والفعل المحرم ‪ ،‬فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على كل‬
‫قول وفعل محرم ‪ ،‬كالخوض في آيات الله بالباطل ‪ ،‬والجدل الباطل ‪،‬‬
‫والغيبة والنميمة ‪ ،‬والسب والقذف ‪ ،‬والستهزاء وشرب الخمر ‪ ،‬والغناء‬
‫المحرم ‪ ،‬وفرش الحرير والصور ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬وإذا كانوا ل يشهدون الزور‬
‫فإنهم من باب أولى ل يفعلونه ول يقولونه ; وشهادة الزور داخلة في قول‬
‫الزور ‪.‬‬
‫ّ‬
‫مّروا ِباللغْوِ { ]الفرقان ‪ : [72 :‬وهو الكلم الذي ل فائدة فيه ‪ ،‬دينية‬ ‫} وَإ َِذا َ‬
‫ما { ]الفرقان ‪ [72 :‬أي ‪:‬‬ ‫مّروا ك َِرا ً‬
‫ول دنيوية ‪ ،‬ككلم السفهاء ونحوهم ‪َ } ،‬‬
‫نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ‪ ،‬ورأوه سفها منافيا لمكارم الخلق‬
‫‪.‬‬
‫ّ‬
‫مّروا ِباللغْوِ { إشارة إلى أنهم ل يقصدون حضوره ‪ ،‬ول‬ ‫وفي قوله ‪ } :‬وَإ َِذا َ‬
‫سماعه ‪ ،‬ولكن يحصل ذلك بغير قصد ‪ ،‬فيكرمون أنفسهم عنه ‪.‬‬

‫) ‪(1/115‬‬
‫م { ]الفرقان ‪ : [73 :‬التي أمروا بالستماع لها‬ ‫ت َرب ّهِ ْ‬ ‫ن إ َِذا ذ ُك ُّروا ِبآَيا ِ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫مَياًنا { ]الفرقان ‪ [73 :‬أي ‪ :‬لم‬ ‫ما وَعُ ْ‬ ‫ص ّ‬‫خّروا عَل َي َْها ُ‬ ‫م يَ ِ‬‫والهتداء بها } ل َ ْ‬
‫يقابلوها بالعراض عنها ‪ ،‬والصمم عن سماعها ‪ ،‬وصرف القلب عنها كما‬
‫يفعله من لم يؤمن بها ويصدق ‪ ،‬وإنما حال هؤلء الخيار عند سماعها كما‬
‫مد ِ‬‫ح ْ‬
‫حوا ب ِ َ‬
‫سب ّ ُ‬
‫دا وَ َ‬
‫ج ً‬
‫س ّ‬ ‫ن إ َِذا ذ ُك ُّروا ب َِها َ‬
‫خّروا ُ‬ ‫ن ِبآَيات َِنا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م ُ‬ ‫ما ي ُؤْ ِ‬
‫قال تعالى ‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫ن { ]السجدة ‪. [15 :‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫م َل ي َ ْ‬
‫م وَهُ ْ‬ ‫َرب ّهِ ْ‬
‫يقابلونها بالقبول والفتقار إليها والنقياد والتسليم لها ; وتجد عندهم آذانا‬
‫سامعة ‪ ،‬وقلوبا واعية ‪ ،‬فيزداد بها إيمانهم ‪ ،‬ويتم بها يقينهم ‪ ،‬وتحدث لهم‬
‫فرحا ونشاطا واغتباطا ‪ ،‬لما يعلمون أنها أفضل المنن الواصلة إليهم من‬
‫ربهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/116‬‬

‫قوُلون ربنا هَب ل َنا م َ‬


‫جَنا { ]الفرقان ‪ [74 :‬أي ‪ :‬قرنائنا من‬ ‫ن أْزَوا ِ‬
‫ْ َ ِ ْ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ن يَ ُ‬‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن { ]الفرقان ‪[74 :‬‬ ‫أصحاب وأخلء وأقران وزوجات ‪ } ،‬وَذ ُّرّيات َِنا قُّرة َ أعْي ُ ٍ‬
‫أي ‪ :‬تقر بهم أعيننا ‪ ،‬وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من علو هممهم‬
‫ومراتبهم أن مقصودهم بهذا الدعاء لذرياتهم أن يطلبوا منه صلحهم ; فإن‬
‫صلح الذرية عائد إليهم وإلى والديهم ؛ لن النفع يعود على الجميع ‪ ،‬بل‬
‫صلحهم يعود إلى نفع المسلمين عموما ؛ لن بصلح المذكورين صلحا لكل‬
‫من له تعلق بهم ‪ ،‬ثم يتسلسل الصلح والخير ‪.‬‬
‫ما { ]الفرقان ‪ [74 :‬أي ‪ :‬أوصلنا يا ربنا إلى هذه‬ ‫ما ً‬
‫ن إِ َ‬
‫قي َ‬ ‫جعَل َْنا ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫} َوا ْ‬
‫الدرجة العالية ‪ ،‬درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين ‪ ،‬وهي درجة‬
‫المامة في الدين ‪ ،‬وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم ‪ ،‬يقتدي‬
‫بأقوالهم وأفعالهم ‪ ،‬ويطمأن إليها لثقة المتقين بعلمهم ودينهم ‪ ،‬ويهتدي‬
‫المهتدون بهم ‪ ،‬ومن المعلوم أن الدعاء بحصول شيء دعاء به ‪ ،‬وبما ل يتم‬
‫إل به ‪ ،‬وهذه الدرجة درجة المامة في الدين التي ل تتم إل بالصبر واليقين ‪.‬‬

‫) ‪(1/117‬‬

‫َ‬ ‫كما قال تعالى ‪ } :‬وجعل ْنا منه َ‬


‫صب َُروا وَ َ‬
‫كاُنوا ِبآَيات َِنا‬ ‫ما َ‬ ‫مرَِنا ل َ ّ‬ ‫ن ب ِأ ْ‬
‫دو َ‬ ‫ة ي َهْ ُ‬‫م ً‬ ‫م أئ ِ ّ‬ ‫َ َ َ َ ِ ُْ ْ‬
‫ن { ]السجدة ‪ [24 :‬فهذا الدعاء يستلزم من حصول العمال الصالحة ‪،‬‬ ‫ُيوقُِنو َ‬
‫والصبر على طاعة الله ‪ ،‬وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة ‪ ،‬ومن العلم‬
‫النافع التام الراسخ الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين خيرا كثيرا وعطاء‬
‫جزيل ‪.‬‬
‫ولما كانت هممهم وأعمالهم عالية كان الجزاء من جنس العمل ‪ ،‬فجازاهم‬
‫ة { ]الفرقان ‪ [75 :‬أي ‪:‬‬ ‫ن ال ْغُْرفَ َ‬ ‫جَزوْ َ‬ ‫ك يُ ْ‬ ‫من جنس عملهم فقال ‪ُ } :‬أول َئ ِ َ‬
‫المنازل العالية الرفيعة الجامعة لكل نعيم روحي وبدني بسبب صبرهم على‬
‫ما { ]الفرقان ‪[75 :‬‬ ‫سَل ً‬
‫ة وَ َ‬ ‫حي ّ ً‬
‫ن ِفيَها ت َ ِ‬ ‫قو ْ َ‬ ‫القيام بهذه العمال الجليلة ‪ } ،‬وَي ُل َ ّ‬
‫من ربهم ‪ ،‬ومن الملئكة الكرام ‪ ،‬ومن بعضهم على بعض ‪ ،‬ويسلمون من‬
‫جميع المنغضات والمكدرات ‪.‬‬

‫) ‪(1/118‬‬
‫والحاصل أن الله وصفهم بالوقار والسكينة ‪ ،‬والتواضع له ولعباده ‪ ،‬وحسن‬
‫الدب ‪ ،‬والحلم وسعة الخلق ‪ ،‬والعفو عن الجاهلين والعراض عنهم ‪،‬‬
‫ومقابلة إساءتهم بالحسان ‪ ،‬وقيام الليل والخلص فيه ‪ ،‬والخوف من النار ‪،‬‬
‫والتضرع لربهم أن ينجيهم منها ‪ ،‬وأنهم يخرجون الواجبات والمستحبات في‬
‫النفقات على وجه القتصاد ‪ ،‬وإذا كانوا مقتصدين في النفقات التي جرت‬
‫عادة أكثر الخلق بالتفريط فيها أو الفراط ‪ ،‬فاقتصادهم وتوسطهم في غيرها‬
‫من باب أولى ‪ ،‬ووصفهم بالسلمة من كبائر الذنوب وفواحشها ‪ ،‬وبالتوبة مما‬
‫يصدر منهم منها ‪.‬‬

‫) ‪(1/119‬‬

‫ومنها الخلص لله في عبادته ; وأنهم ل يحضرون مجالس المنكر والفسوق‬


‫القولية والفعلية ‪ ،‬ول يفعلونها ; وأنهم يتنزهون عن اللغو والقوال الرديئة‬
‫التي ل خير فيها ول نفع ‪ ،‬وذلك يستلزم كمال إنسانيتهم ومروءتهم ‪ ،‬وكمالهم‬
‫ورفعة نفوسهم عن كل أمر رذيل ‪ ،‬وأنهم يقابلون آيات الله بالقبول لها ‪،‬‬
‫والتفهم لمعانيها ‪ ،‬والعمل بها ‪ ،‬والجتهاد في تنفيذ أحكامها ‪ ،‬وأنهم يدعون‬
‫ربهم بأكمل دعاء ينتفعون به ‪ ،‬وينتفع به من يتعلق بهم ‪ ،‬وينتفع به المسلمون‬
‫من صلح أزواجهم وذريتهم ‪ ،‬ومن لوازم ذلك سعيهم في تعليمهم ‪ ،‬ووعظهم‬
‫ونصحهم ‪ ،‬لن من حرص على شيء ودعا الله في حصوله ل بد أن يكون‬
‫مجتهدا في تحصيله بكل طريق ; مستعينا بربه في تسهيل ذلك ‪ ،‬وأنهم دعوا‬
‫الله في حصول أعلى الدرجات الممكنة لهم ‪ ،‬وهي درجة المامة‬
‫والصديقية ‪.‬‬
‫فلله ما أعلى هذه الصفات ‪ ،‬وأرفع هذه الهمم ‪ ،‬وأجل هذه المطالب ‪ ،‬وأزكى‬
‫تلك النفوس ‪ ،‬ولله فضل الله عليهم ‪ ،‬ولطفه بهم الذي أوصلهم إلى هذه‬
‫المقامات والمنازل ‪ ،‬ولله الحمد من جميع عباده ؛ إذ بين لهم أوصافهم‬
‫وحثهم عليها ‪ ،‬وأعان السالكين ويسر الطريق لمن سلك رضوانه ‪ ،‬والله‬
‫الموفق المعين ‪.‬‬

‫) ‪(1/120‬‬

‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن { ]العراف ‪ : [199 :‬هذه‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫جاهِِلي َ‬ ‫ض عَ ِ‬ ‫مْر ِبال ْعُْر ِ‬
‫ف وَأعْرِ ْ‬ ‫خذِ ال ْعَ ْ‬
‫فوَ وَأ ُ‬ ‫} ُ‬
‫الية الكريمة جامعة لمعاني حسن الخلق مع الناس ‪ ،‬وما ينبغي للعبد سلوكه‬
‫فوَ { ‪ :‬وهو ما سمحت به‬ ‫في معاملتهم ومعاشرتهم ‪ ،‬فأمر تعالى بأخذ } ال ْعَ ْ‬
‫أنفسهم ‪ ،‬وسهلت به أخلقهم من العمال والخلق ‪ ،‬بل يقبل ما سهل ‪ ،‬ول‬
‫يكلفهم ما ل تسمح به طبائعهم ‪ ،‬ول ما ل يطيقونه ‪ ،‬بل عليه أن يشكر من‬
‫كل أحد ما قابله به من قول وعمل وخلق جميل ‪ ،‬وما هو دون ذلك ‪ ،‬ويتجاوز‬
‫عن تقصيرهم ‪ ،‬ويغض طرفه عن نقصهم ‪ ،‬وعما أتوا به وعاملوه به من‬
‫النقص ‪ ،‬ول يتكبر على صغير لصغره ‪ ،‬ول ناقص العقل لنقصه ‪ ،‬ول الفقير‬
‫لفقره ‪ ،‬بل يعامل الجميع باللطف ‪ ،‬وما تقتضيه الحال الحاضرة ‪ ،‬وبما تنشرح‬
‫له صدورهم ‪ ،‬ويوقر الكبير ‪ ،‬ويحنو على الصغير ‪ ،‬ويجامل النظير ‪.‬‬

‫) ‪(1/121‬‬
‫ْ‬
‫ف { ‪ :‬وهو كل قول حسن وفعل جميل وخلق كامل للقريب‬ ‫مْر ِبال ْعُْر ِ‬ ‫} وَأ ُ‬
‫والبعيد ‪ ،‬فاجعل ما يأتي إلى الناس منك ‪ :‬إما تعليم علم ديني أو دنيوي ‪ ،‬أو‬
‫نصيحة أو حث لهم على خير من عبادة الله ‪ ،‬وصلة رحم ‪ ،‬وبر الوالدين ‪،‬‬
‫وإصلح بين الناس ‪ ،‬أو رأي مصيب ‪ ،‬أو معاونة على بر وتقوى ‪ ،‬أو زجر عن‬
‫قبيح ‪ ،‬أو إرشاد إلى مصلحة دينية أو دنيوية ‪ ،‬أو تحذير من ضد ذلك ‪.‬‬
‫ولما كان ل بد للعبد من أذية الجاهلين له بالقول أو بالفعل أمر الله بالعراض‬
‫عنهم ‪ ،‬وعدم مقابلة الجاهلين بجهلهم ‪ ،‬فمن آذاك بقوله أو فعله فل تؤذه ‪،‬‬
‫ومن حرمك فل تحرمه ‪ ،‬ومن قطعك فصله ‪ ،‬ومن ظلمك فاعدل فيه ‪ ،‬فبذلك‬
‫يحصل لك من الثواب من الله ‪ ،‬ومن راحة القلب وسكونه ‪ ،‬ومن السلمة‬
‫من الجاهلين ‪ ،‬ومن انقلب العدو صديقا ‪ ،‬ومن التبوء من مكارم الخلق‬
‫َ‬
‫ن فَإ َِذا‬‫س ُ‬‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬‫أعلها ‪ ،‬أكبر حظ وأوفر َنصيب ‪ ،‬قال تعالى ‪ } :‬اد ْفَعْ ِبال ِّتي هِ َ‬
‫ما‬ ‫صب َُروا وَ َ‬‫ن َ‬ ‫ها إ ِّل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما ي ُل َ ّ‬
‫قا َ‬ ‫م {} وَ َ‬
‫مي ٌ‬
‫ح ِ‬
‫ي َ‬ ‫داوَة ٌ ك َأن ّ ُ‬
‫ه وَل ِ ّ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫ذي ب َي ْن َ َ‬
‫ك وَب َي ْن َ ُ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ظيم ٍ { ]فصلت ‪. [35 - 34 :‬‬ ‫ظ عَ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ها إ ِّل ُذو َ‬ ‫قا َ‬‫ي ُل َ ّ‬

‫) ‪(1/122‬‬

‫ولنقتصر في هذا الموضوع على هذه اليات ‪ ،‬ففيها الهدى والشفاء والخير‬
‫كله ‪.‬‬

‫) ‪(1/123‬‬

‫فصل‬
‫في أحكام الشرع الفروعية المتنوعة في الصلة والزكاة مع ما ينضم إليهما‬
‫من المعاني الخرى‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫جرِ إ ِ ّ‬ ‫ف ْ‬‫ن ال َ‬ ‫ل وَقُْرآ َ‬‫ق اللي ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫س‬‫س إ ِلى غَ َ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ش ْ‬ ‫ك ال ّ‬‫صلة َ ل ِد ُلو ِ‬‫قال تعالى ‪ } :‬أقِم ِ ال ّ‬
‫َ‬ ‫ة لَ َ‬ ‫جد ْ ب ِهِ َنافِل َ ً‬
‫ن ي َب ْعَث َ َ‬
‫ك‬ ‫سى أ ْ‬ ‫ك عَ َ‬ ‫ن الل ّي ْ ِ‬
‫ل فَت َهَ ّ‬ ‫م َ‬‫شُهوًدا {} وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬‫كا َ‬ ‫جرِ َ‬‫ف ْ‬‫ن ال ْ َ‬‫قُْرآ َ‬
‫موًدا { ]السراء ‪ 78 :‬و ‪. [79‬‬ ‫ح ُ‬‫م ْ‬
‫ما َ‬
‫قا ً‬ ‫م َ‬
‫ك َ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫هذا المر من الله لعباده بالصلة التي أمر بها في آيات متعددة ‪ ،‬ويأتي المر‬
‫صَلة َ {‬ ‫َ‬
‫موا ال ّ‬ ‫بها في القرآن بلفظ القامة كهذه الية ‪ ،‬ومثل ‪ } :‬وَأِقي ُ‬
‫]البقرة ‪ ، [43 :‬ونحوها ‪ ،‬وهو أبلغ من قوله ‪ ) :‬افعلوها ( ‪ ،‬فإن هذا أمر‬
‫بفعلها ‪ ،‬وبتكميل أركانها وشروطها ومكملتها ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وبجعلها شريعة‬
‫ظاهرة قائمة من أعظم شعائر الدين ‪.‬‬

‫) ‪(1/124‬‬

‫وفي هذه الية زيادة عن بقية اليات ‪ ،‬وهي المر بها لوقاتها الخمسة أو‬
‫الثلثة ‪ ،‬وهذه هي الفرائض ‪ ،‬وإضافتها إلى أوقاتها من باب إضافة الشيء‬
‫س { أي ‪ :‬زوالها واندفاعها من‬
‫م ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ك ال ّ‬‫إلى سببه الموجب له ف } ل ِد ُُلو ِ‬
‫المشرق نحو المغرب ‪ ،‬فيدخل في هذا صلة الظهر وهو أول الدلوك ‪ ،‬وصلة‬
‫ل { أي ‪ :‬ظلمته ; فدخل في ذلك‬ ‫ق الل ّي ْ ِ‬ ‫العصر وهو آخر الدلوك } إ َِلى غَ َ‬
‫س ِ‬
‫صلة المغرب وهو ابتداء الغسق ‪ ،‬وصلة العشاء الخرة ‪ ،‬وبها يتم الغسق‬
‫جرِ { أي ‪ :‬صلة الفجر ‪ ،‬وسماها قرآنا لمشروعية‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ف ْ‬ ‫والظلمة ‪ } ،‬وَقُْرآ َ‬
‫إطالة القراءة فيها ‪ ،‬ولفضل قراءتها لكونها مشهودة ‪ ،‬يشهدها الله ‪،‬‬
‫وتشهدها ملئكة الليل وملئكة النهار ‪.‬‬
‫* ففي هذه الية الكريمة فوائد ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬ذكر الوقات الخمسة صريحا ; ولم يصرح بها في القرآن في غير هذه‬
‫ن‬
‫حي َ‬
‫ن وَ ِ‬
‫سو َ‬
‫م ُ‬
‫ن تُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ِ‬
‫حي َ‬ ‫حا َ‬ ‫الية ‪ ،‬وأتت ظاهرة في قوله ‪ } :‬فَ ُ‬
‫سب ْ َ‬
‫ن { ]الروم ‪ ، [17 :‬وفيها أن هذه المأمورات كلها فرائض ‪ ،‬لن المر‬ ‫حو َ‬
‫صب ِ ُ‬
‫تُ ْ‬
‫بها مقيد في أوقاتها ‪ ،‬وهذه هي الصلوات الخمس وقد تستتبع ما يتبعها من‬
‫الرواتب ونحوها ‪.‬‬

‫) ‪(1/125‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الوقت شرط لصحة الصلة ‪ ،‬وسبب لوجوبها ; ويرجع في مقادير‬
‫الوقات إلى تقدير النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬كما يرجع إليه في تقدير‬
‫ركعات الصلة وسجداتها وهيئاتها ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬أن العصر والظهر يجمعان للعذر ‪ ،‬وكذلك المغرب والعشاء ‪ ،‬لن الله‬
‫جمع وقتهما في وقت واحد للمعذور ‪ ،‬ووقتان لغير المعذور ‪.‬‬
‫وفيها ‪ :‬فضيلة صلة الفجر ‪ ،‬وفضيلة إطالة القرآن فيها ‪ ،‬وأن القراءة فيها‬
‫ركن ‪ ،‬لن العبادة إذا سميت ببعض أجزائها دل ذلك على فضيلته وركنيته ‪،‬‬
‫وقد عبر الله عن الصلة بالقراءة وبالركوع وبالسجود وبالقيام ‪ ،‬وهذه كلها‬
‫أركانها المهمة ‪.‬‬
‫ك { أي ‪:‬‬ ‫َ‬
‫ةل َ‬ ‫َ‬ ‫ل فَت َهَ ّ‬
‫جد ْ ب ِهِ { أي ‪ :‬صل به في أوقاته } َنافِل ً‬ ‫ّ‬
‫ن اللي ْ ِ‬
‫م َ‬
‫قوله ‪ } :‬وَ ِ‬
‫لتكون صلة الليل زيادة لك في علو المقامات ورفع الدرجات ‪ ،‬بخلف غيرك‬
‫فإنها تكون كفارة لسيئاته ‪.‬‬

‫) ‪(1/126‬‬

‫ويحتمل أن يكون المعنى أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين ‪،‬‬
‫وأما صلة الليل فإنها فرض عليك وحدك دون المؤمنين لكرامتك على الله ‪،‬‬
‫إذ جعل وظيفتك أكثر من غيرك ‪ ،‬ومن عليك بالقيام بها ؛ ليكثر ثوابك ‪،‬‬
‫ويرتفع مقامك ‪ ،‬وتنال بذلك المقام المحمود ‪ ،‬وهو المقام الذي يحمده فيه‬
‫الولون والخرون ; مقام الشفاعة العظمى حين يستشفع الخلئق بأكابر‬
‫النبياء ‪ ،‬آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ‪ -‬عليهم السلم ‪ ، -‬وكلهم يعتذر‬
‫ويتأخر عنها حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم ؛ ليرحمهم الله من هم الموقف‬
‫وكربه ‪ ،‬ويفصل بينهم ‪ ،‬فيشفعه الله ‪ ،‬ويقيمه مقاما يغبطه به الولون‬
‫والخرون ‪ ،‬وتكون له اليد البيضاء على جميع الخلق ‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‬
‫تسليما كثيرا ‪ ،‬وأدخلنا في شفاعته ‪ ،‬ومن علينا بالسعي في أسباب شفاعته‬
‫التي أهمها إخلص العمال لله ‪ ،‬وتحقيق متابعته في هديه وقوله وعمله ‪.‬‬

‫) ‪(1/127‬‬

‫ْ‬ ‫َ‬
‫ميًعا‬
‫ج ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ت ب ِك ُ ُ‬ ‫ما ت َ ُ‬
‫كوُنوا ي َأ ِ‬ ‫ت أي ْن َ َ‬ ‫قوا ال ْ َ‬
‫خي َْرا ِ‬ ‫موَّليَها َفا ْ‬
‫ست َب ِ ُ‬ ‫ة هُوَ ُ‬‫جهَ ٌ‬ ‫} وَل ِك ُ ّ‬
‫ل وِ ْ‬
‫ديٌر { ]البقرة ‪ : [148 :‬لما أمر الله تعالى رسوله‬ ‫يٍء قَ ِ‬
‫ش ْ‬‫ل َ‬‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫إِ ّ‬
‫خصوصا والمؤمنين عموما باستقبال بيته الحرام ‪ ،‬أخبر أن كل أهل دين لهم‬
‫وجهة يتوجهون إليها في عباداتهم ‪ ،‬وليس الشأن في القبل والوجهات المعينة‬
‫‪ ،‬فإنها من الشرائع التي تختلف باختلف الزمنة ‪ ،‬ويدخلها النسخ والنقل من‬
‫جهة إلى أخرى ‪ ،‬ولكن الشأن كل الشأن في امتثال طاعة الله على‬
‫الطلق ‪ ،‬والتقرب إليه ‪ ،‬وطلب الزلفى عنده ‪.‬‬
‫فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولية ‪ ،‬وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس‬
‫حصلت لها الخسارة في الدنيا والخرة ‪ ،‬كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة‬
‫على الحقيقة ‪ ،‬وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع ‪ ،‬وهو الذي خلق الله‬
‫له الخلق وأمرهم به ‪.‬‬

‫) ‪(1/128‬‬

‫والمر بالستباق إلى الخيرات قدر زائد على المر بفعلها ; فإن الستباق إليها‬
‫يتضمن ‪ :‬المر بفعلها ‪ ،‬وتكميلها ‪ ،‬وإيقاعها على أكمل الحوال ‪ ،‬والمبادرة‬
‫إليها ‪ ،‬ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الخرة إلى‬
‫ت { ‪ :‬تشمل جميع‬ ‫الجنات ‪ ،‬فالسابقون أعلى الخلق درجة ‪ ،‬و } ال ْ َ‬
‫خي َْرا ِ‬
‫الفرائض والنوافل من صلة وصيام وزكاة وصدقة وحج وعمرة وجهاد ‪ ،‬ونفع‬
‫متعد وقاصر ‪.‬‬
‫فهذه الية تحث على التيان بكل ما يكمل هذه العبادات من ركن وواجب‬
‫وشرط ومستحب ‪ ،‬ومكمل ومتمم ظاهرا وباطنا ‪ :‬كالمبادرة في أول‬
‫الوقت ‪ ،‬وفعل السنن المكملت ‪ ،‬والمبادرة إلى إبراء الذمم من الواجبات ‪،‬‬
‫وفعل جميع الداب المتعلقة بالعبادات ‪ . . .‬فلله ما أجمعها من آية وأنفعها ‪.‬‬
‫ولما كان أقوى ما يحث النفوس إلى المسارعة إلى الخيرات ما رتب الله‬
‫ما‬ ‫َ‬
‫عليها من الثواب ‪ ،‬وما يخشى بتفويتها من الحرمان والعقاب قال ‪ } :‬أي ْن َ َ‬
‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ْ‬
‫ديٌر { ؛ فيجمع الله العباد‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ميًعا إ ِ ّ‬
‫ج ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ت ب ِك ُ ُ‬ ‫تَ ُ‬
‫كوُنوا ي َأ ِ‬
‫يوم القيامة بقدرته ‪ ،‬ويجازيهم بما أسلفوه من العمال خيرها وشرها ‪.‬‬

‫) ‪(1/129‬‬

‫م‬
‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ‬
‫ن {} فَإ ِ ْ‬ ‫طى وَُقو ُ‬ ‫س َ‬‫صَلةِ ال ْوُ ْ‬
‫ت َوال ّ‬ ‫صل َ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ظوا عََلى ال ّ‬
‫حافِ ُ‬‫} َ‬
‫جاًل أ َوْ ُرك َْباًنا { ]البقرة ‪ 238 :‬و ‪ . . [239‬إلى آخر الية ‪ :‬يأمر تعالى‬ ‫فَرِ َ‬
‫بالمحافظة على الصلوات عموما ‪ ،‬وعلى الصلة الوسطى وهي صلة العصر‬
‫خصوصا ‪ ،‬لفضلها وشرفها وحضور ملئكة الليل والنهار فيها ‪ ،‬ولكونها ختام‬
‫النهار ‪ ،‬والمحافظة على الصلوات عناية العبد بها من جميع الوجوه التي أمر‬
‫الشارع بها وحث عليها من ‪ :‬مراعاة الوقت ‪ ،‬وصلة الجماعة ‪ ،‬والقيام بكل‬
‫ما به تكمل وتتم ‪ ،‬وأن تكون صلة كاملة تنهى صاحبها عن الفحشاء‬
‫والمنكر ‪ ،‬ويزداد بها إيمانه ‪ ،‬وذلك إذا حصل فيها حضور القلب وخشوعه‬
‫ن { أي ‪ :‬مخلصين‬ ‫موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ‬
‫الذي هو لبها وروحها ‪ ،‬ولهذا قال ‪ } :‬وَُقو ُ‬
‫خاشعين لله ‪ ،‬فإن القنوت هو دوام الطاعة مع الخشوع ; ومن تمام ذلك‬
‫سكون العضاء عن كل كلم ل تعلق له بالصلة ‪.‬‬
‫وفيها أن القيام في صلة الفريضة ركن إن كان المراد بالقيام هنا الوقوف ‪،‬‬
‫فإن أريد به القيام بأفعال الصلة عموما دل على المر بإقامتها كلها ‪ ،‬وأن‬
‫تكون قائمة تامة غير ناقصة ‪.‬‬

‫) ‪(1/130‬‬

‫جاًل أ َوْ ُرك َْباًنا { أي ‪ :‬فصلوا الصلة رجال ‪ ،‬أي ‪ :‬ماشين على‬ ‫م فَرِ َ‬‫فت ُ ْ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫أرجلكم أو ساعين عليها ‪ ،‬أو ركبانا على البل وغيرها من المركوبات ‪ ،‬وحذف‬
‫المتعلق ليعم الخوف من العدو والسبع ‪ ،‬ومن فوات ما يتضرر بفواته أو‬
‫تفويته ‪ ،‬وفي هذه الحال ل يلزمه استقبال القبلة ‪ ،‬بل قبلته حيثما كان‬
‫وجهه ‪.‬‬
‫ومثل ذلك إذا اشتبهت القبلة في السفر ‪ ،‬ومثل ذلك صلة النافلة في السفر‬
‫َ‬
‫ما‬‫ب فَأي ْن َ َ‬ ‫شرِقُ َوال ْ َ‬
‫مغْرِ ُ‬ ‫على الراحلة ‪ ،‬وكل هذا داخل في قوله ‪ } :‬وَل ِل ّهِ ال ْ َ‬
‫م ْ‬
‫م { ]البقرة ‪ : [115 :‬فهذه صلة‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫ه الل ّهِ إ ِ ّ‬‫ج ُ‬
‫م وَ ْ‬ ‫ت ُوَّلوا فَث َ ّ‬
‫المعذور بالخوف ‪ ،‬فإذا حصل المن صلى صلة كاملة ‪ ،‬ويدخل في قوله ‪:‬‬
‫َ‬
‫ه { ]البقرة ‪ : [239 :‬تكميل الصلوات ; ويدخل فيه‬ ‫م َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ‬ ‫من ْت ُ ْ‬ ‫} فَإ َِذا أ ِ‬
‫أيضا الكثار من ذكر الله شكرا له على نعمة المن ‪ ،‬وعلى نعمة التعليم ‪.‬‬

‫) ‪(1/131‬‬

‫وفي الية الكريمة فضيلة العلم ‪ ،‬وأن على من علمه الله ما لم يكن يعلم‬
‫الكثار من ذكر الله ; وفيه تنبيه على أن الكثار من ذكر الله سبب لنيل علوم‬
‫أخر لم يكن العبد ليعرفها ‪ ،‬فإن الشكر مقرون بالمزيد ‪ ،‬وقد ذكر الله صلة‬
‫صَلة َ {‬ ‫َ‬
‫ت ل َهُ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫م فَأقَ ْ‬
‫م َ‬ ‫الخوف في سورة النساء في قوله ‪ } :‬وَإ َِذا ك ُن ْ َ‬
‫ت ِفيهِ ْ‬
‫]النساء ‪ ، [102 :‬فأمر بها على تلك الصفة تحصيل للجماعة لها ‪ ،‬وقياما‬
‫لللفة ‪ ،‬وجمعا بين القيام بالصلة والجهاد حسب المكان ‪ ،‬وبالقيام بالواجبات‬
‫مع التحرز من شرور العداء ; فسبحان من جعل في كتابه الهدى والنور‬
‫والرشاد ‪ ،‬وإصلح المور كلها ‪.‬‬

‫) ‪(1/132‬‬

‫فصل‬
‫خذ ْ‬ ‫ُ‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫[‬ ‫‪43‬‬ ‫‪:‬‬ ‫]البقرة‬ ‫{‬ ‫ة‬
‫ّ َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫توا‬ ‫وآ‬ ‫ة‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫موا‬ ‫قي‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫تعالى‬ ‫قال‬
‫ّ َ َ ُ‬ ‫َ ِ ُ‬
‫َ‬
‫ن ل َهُ ْ‬
‫م‬ ‫سك َ ٌ‬ ‫ك َ‬ ‫صَلت َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ص ّ‬‫م ب َِها وَ َ‬ ‫كيهِ ْ‬ ‫م وَت َُز ّ‬ ‫ة ت ُط َهُّرهُ ْ‬ ‫صد َقَ ً‬ ‫م َ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫ِ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫نوا‬ ‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫يا‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬ ‫[‬ ‫‪103‬‬ ‫‪:‬‬ ‫]التوبة‬ ‫{‬ ‫م‬ ‫لي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ع‬ ‫مي‬ ‫س‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وال‬
‫ِ ْ‬ ‫ِْ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ َ ِ ٌ‬
‫ن‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ث‬‫َ‬ ‫بي‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫موا‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫ط َيبات ما ك َسبتم ومما أ َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ ْ َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ِ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ميد ٌ { ]البقرة ‪:‬‬ ‫ح ِ‬‫ي َ‬ ‫ه غَن ِ ّ‬ ‫ن الل َ‬‫موا أ ّ‬ ‫ضوا ِفيهِ َواعْل ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ت ُغْ ِ‬ ‫ذيهِ إ ِل أ ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫م ِبآ ِ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫وَل َ ْ‬
‫صادِهِ { ]النعام ‪. [141 :‬‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َوْ َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫‪ ، [267‬وقال ‪َ } :‬وآُتوا َ‬

‫) ‪(1/133‬‬
‫قد جمع الله في كتابه في آيات كثيرة بين المر بإقام الصلة وإيتاء الزكاة ؛‬
‫لنهما مشتركتان في أنهما من أهم فروض الدين ‪ ،‬ومباني السلم العظيمة ‪،‬‬
‫واليمان ل يتم إل بهما ‪ ،‬ومن قام بالصلة وبالزكاة كان مقيما لدينه ‪ ،‬ومن‬
‫ضيعهما كان لما سواهما من دينه أضيع ‪ ،‬فالصلة فيها الخلص التام‬
‫للمعبود ‪ ،‬وهي ميزان اليمان ‪ ،‬والزكاة فيها الحسان إلى المخلوقين ‪ ،‬وهي‬
‫برهان اليمان ‪ ،‬ولهذا اتفق الصحابة على قتال مانعي الزكاة ‪ ،‬وقال أبو بكر‬
‫رضي الله عنه ‪ " :‬لقاتلن من فرق بين الصلة والزكاة " ‪.‬‬
‫ة { ‪ :‬هذا المر موجه للنبي صلى الله‬ ‫صد َقَ ً‬ ‫خذ ْ م َ‬
‫م َ‬
‫وال ِهِ ْ‬
‫م َ‬
‫نأ ْ‬‫فقوله تعالى ‪ْ ِ ُ } :‬‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ومن قام مقامه أن يأخذ من أموال المسلمين صدقة ‪ ،‬وهي‬
‫الزكاة ‪ ،‬وهذا شامل لجميع الموال المتمولة من أنعام وحروث ونقود‬
‫م { ‪ :‬من‬ ‫سب ْت ُ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫ت َ‬ ‫ن ط َي َّبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وعروض ‪ ،‬كما صرح به في الية الخرى ‪ِ } :‬‬
‫ض { ‪ :‬من‬‫ن الْر ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬
‫م ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫جَنا لك ْ‬ ‫خَر ْ‬‫ما أ َ ْ‬
‫م ّ‬
‫النقود والعروض والماشية المنماة ‪ } ،‬وَ ِ‬
‫الحبوب والثمار ‪.‬‬

‫) ‪(1/134‬‬

‫وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم النصب في هذه النواع كلها ‪ ،‬وبين‬
‫مقدار الواجب منها ‪ ،‬وأنها عشر الخارج من الرض مما يسقى بل مؤنة ‪،‬‬
‫ونصف عشره فيما سقي بمؤنة ‪ ،‬وربع العشر من أموال التجارة ‪ ،‬وذلك إذا‬
‫حال الحول في أموال التجارة ‪ ،‬وحصل الحصاد والجذاذ وقت حصول الثمار ‪،‬‬
‫كما هو صريح الية المذكورة ‪.‬‬
‫وأمر تعالى بإخراج الوسط ‪ ،‬فل يظلم رب المال فيؤخذ العالي من ماله ‪ -‬إل‬
‫أن يختار هو ذلك ‪ -‬ول يحل له أن يتيمم الخبيث ‪ -‬وهو الرديء من ماله ‪-‬‬
‫فيخرجه ‪ ،‬ول تبرأ بذلك ذمته إن كانت فرضا ‪ ،‬ول يتم له الجر والثواب إن‬
‫كانت نفل ; وبين تعالى الحكمة في ذلك ‪ ،‬وأنها حكمة معقولة ‪ :‬فكما أنكم ل‬
‫ترضون ممن عليه حق لكم أن يعطيكم الرديء من ماله الذي هو دون حقكم‬
‫إل أن تقبلوه على وجه الكراهة والغماض ‪ ،‬فكيف ترضون لربكم ولخوانكم‬
‫ما ل ترضونه لنفسكم ؟ فليس هذا من النصاف والعدل ‪.‬‬

‫) ‪(1/135‬‬

‫وبين تعالى الحكمة في الزكاة وبيان مصالحها العظيمة ‪ ،‬فقال ‪ } :‬ت ُط َهُّرهُ ْ‬
‫م‬
‫طى‬‫معْ َ‬ ‫طي وال ْ ُ‬ ‫معْ ِ‬‫م ب َِها { فهذه كلمة جامعة ‪ ،‬يدخل فيها من المنافع لل ُ‬ ‫وَت َُز ّ‬
‫كيهِ ْ‬
‫م { أي ‪:‬‬ ‫والمال والمور العمومية والخصوصية شيء كثير ‪ ،‬فقوله ‪ } :‬ت ُط َهُّرهُ ْ‬
‫من الذنوب ومن الخلق الرذيلة ‪ ،‬فإن من أعظم الذنوب وأكبرها منع‬
‫الزكاة ‪ ،‬وأيضا إعطاؤها سبب لمغفرة ذنوب أخرى ‪ ،‬فإنها من أكبر‬
‫الحسنات ‪ ،‬والحسنات يذهبن السيئات ‪.‬‬

‫) ‪(1/136‬‬

‫ومن أشنع الخلق الرذيلة البخل ‪ ،‬والزكاة تطهره من هذا الخلق الرذيل ‪،‬‬
‫ويتصف صاحبها بالرحمة والحسان ‪ ،‬والشفقة على الخلق ‪ ،‬وتطهر المال من‬
‫الوساخ والفات ‪ ،‬فإن للموال آفات مثل آفات البدان ‪ ،‬وأعظم آفاتها أن‬
‫تخالطها الموال المحرمة ; فهي للموال مثل الجرب تسحته ‪ ،‬وتحل به‬
‫النكبات والنوائب المزعجة ‪ ،‬فإخراج الزكاة تطهير له من هذه الفة المانعة‬
‫له من البركة والنماء ‪ ،‬فيستعد بذلك للنماء والبركة ‪ ،‬وتوجيهه للمور‬
‫م ب َِها { فالزكاة هي النماء والزيادة ‪ ،‬فهي‬ ‫النافعة ‪ ،‬وأما قوله ‪ } :‬وَت َُز ّ‬
‫كيهِ ْ‬
‫تنمي المؤتي للزكاة ‪ ،‬تنمي أخلقه ‪ ،‬وتحل البركة في أعماله ‪ ،‬ويزداد بالزكاة‬
‫ترقيا في مكارم الخلق ومحاسن الشيم ; وتنمي المال بزوال ما به ضرره‬
‫وحصول ما فيه خيره ‪ ،‬وتحل فيه البركة من الله ‪.‬‬

‫) ‪(1/137‬‬

‫ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬ما نقصت صدقة من مال « ‪ ،‬بل‬
‫تزيده ‪ ،‬وتنمي أيضا المخرج إليه فتسد حاجته ‪ ،‬وتقوم المصلحة الدينية التي‬
‫تصرف فيها الزكاة كالجهاد والعلم والصلح بين الناس والتأليف ونحوها ‪،‬‬
‫وأيضا تدفع عادية الفقر والفقراء ‪ ،‬فإن أرباب الموال إذا احتكروها‬
‫واحتجزوها ‪ ،‬ولم يؤدوا منها شيئا للفقراء ‪ ،‬اضطر الفقراء وهم جمهور الخلق‬
‫وثاروا بالشر والفساد على أرباب الموال ‪ ،‬وبهذا ونحوه تسلطت البلشفة‬
‫على الخلق ; فالقيام بالدين السلمي على وجهه بعقائده وحقائقه وأخلقه‬
‫وأداء حقوقه هو السد المانع شرعا وقدرا لهذه الطائفة التي بها فساد الديان‬
‫والدنيا والخرة ‪ ،‬وأمر تعالى الخذ منهم الزكاة أن يصلي عليهم فيدعو لهم‬
‫بالبركة ‪ ،‬فإن في ذلك تطمينا لخواطرهم ‪ ،‬وتسكينا لقلوبهم ‪ ،‬وتنشيطا لهم ‪،‬‬
‫وتشجيعا على هذا العمل الفاضل ‪ ،‬وكما أن المام والساعي مأمور بالدعاء‬
‫للمزكي عند أخذها فالفقير المحتاج إذا أعطيها من باب أولى أن يشرع له‬
‫الدعاء للمعطي تسكينا لقلبه ‪ ،‬وفي هذا إعانة على الخير ‪.‬‬

‫) ‪(1/138‬‬

‫ودل تعليل الية الكريمة أن كل ما أعان على فعل الخير ‪ ،‬ونشط عليه ‪،‬‬
‫وسكن قلب صاحبه أنه مطلوب ومحبوب لله ‪ ،‬وأنه ينبغي للعبد مراعاته‬
‫وملحظته في كل شأن من شؤونه ‪ ،‬فإن من تفطن له فتح له أبوابا نافعة له‬
‫ولغيره بل تعب ول مشقة ‪ ،‬وأنه ينبغي إدخال السرور على المؤمنين ‪.‬‬
‫َ‬
‫ميد ٌ { ‪:‬‬
‫ح ِ‬
‫ي َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه غَن ِ ّ‬ ‫ولما أمر في آية البقرة بالنفقات قال ‪َ } :‬واعْل َ ُ‬
‫موا أ ّ‬
‫غني بذاته عن جميع المخلوقين ‪ ،‬وهو الغني عن نفقات المنفقين وطاعات‬
‫الطائعين ‪ ،‬وإنما أمرهم بها وحثهم عليها لمحض مصلحتهم ونفعهم ‪ ،‬وبمحض‬
‫فضله وكرمه عليهم ‪ ،‬إذ تفضل عليهم بالمر بهذه العمال ‪ ،‬والتوفيق لفعلها ‪،‬‬
‫التي توصل أصحابها إلى أعلى المقامات ‪ ،‬وأفضل الكرامات ‪.‬‬

‫) ‪(1/139‬‬

‫ومع كمال غناه وسعة عطاياه فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الحكام‬
‫الموصلة لهم إلى دار السلم ‪ ،‬وحميد في أفعاله التي ل تخرج عن الفضل‬
‫والعدل والحكمة ‪ ،‬وحميد الوصاف ؛ لن أوصافه كلها محاسن وكمالت ‪ ،‬ل‬
‫يدرك العباد كنهها ‪ ،‬ول يقدرونها حق قدرها ‪ ،‬فلما حثهم على النفاق النافع‬
‫نهاهم عن المساك الضار ! وبين لهم أنهم بين داعيين ‪ :‬داعي الرحمن‬
‫يدعوهم إلى الخير ‪ ،‬ويعدهم عليه الفضل ‪ ،‬والثواب العاجل والجل ‪ ،‬وخلف‬
‫ما أنفقوا ; وداعي الشيطان الذي يحثهم على المساك ‪ ،‬ويخوفهم إن أنفقوا‬
‫افتقروا ; فمن كان مجيبا لداعي الرحمن وأنفق مما رزقه الله فليبشر‬
‫بمغفرة الذنوب ‪ ،‬وحصول كل مطلوب ; ومن كان مجيبا لداعي الشيطان‬
‫فإنه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ; فليختر العبد أي المرين‬
‫أليق به ‪ ،‬وختم الية بالخبار بأنه " واسع عليم " أي ‪ :‬واسع الصفات ‪ ،‬كثير‬
‫الهبات ‪ ،‬عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين المخلصين الصادقين ‪،‬‬
‫وعليم بمن هو أهل لذلك ‪ ،‬فيوفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات ‪.‬‬

‫) ‪(1/140‬‬

‫م وَِفي‬ ‫فةِ قُُلوب ُهُ ْ‬


‫مؤَل ّ َ‬
‫ن عَل َي َْها َوال ْ ُ‬ ‫ن َوال َْعا ِ‬
‫مِلي َ‬ ‫كي ِ‬
‫سا ِ‬‫م َ‬‫قَراِء َوال ْ َ‬ ‫ت ل ِل ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫صد ََقا ُ‬ ‫ما ال ّ‬‫} إ ِن ّ َ‬
‫م‬
‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ َوالل ُ‬ ‫م َ‬‫ة ِ‬ ‫ض ً‬‫ري َ‬‫لف ِ‬ ‫َ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫الّرَقا ِ‬
‫ل اللهِ وَا ِب ْ ِ‬‫سِبي ِ‬ ‫ن وَِفي َ‬ ‫مي َ‬
‫ب َوالَغارِ ِ‬
‫م { ]التوبة ‪. [60 :‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫َ‬
‫المراد بالصدقات هنا الزكاة ‪ ،‬فهؤلء الثمانية هم أهلها ‪ ،‬إذا دفعت إلى جهة‬
‫من هذه الجهات أجزأت ووقعت موقعها ‪ ،‬وإن دفعت في غير هذه الجهات لم‬
‫تجز ; وهؤلء المذكورون فيها قسمان ‪ :‬قسم يأخذ لحاجته كالفقراء‬
‫والمساكين والرقاب وابن السبيل والغارم لنفسه ‪ ،‬وقسم يأخذ لنفعه‬
‫العمومي والحاجة إليه ‪ ،‬وهم البقية ‪.‬‬

‫) ‪(1/141‬‬

‫فأما الفقراء والمساكين فهم خلف الغنياء ‪ ،‬والفقير أشد حاجة من‬
‫المسكين ‪ ،‬لن الله بدأ به ‪ ،‬والهم مقدم في الذكر غالبا ‪ ،‬ولكن الحاجة‬
‫ن عَل َي َْها { ‪ :‬وهم السعاة الذين يجبونها ويكتبونها‬ ‫مِلي َ‬ ‫تجمع الصنفين ‪َ } ،‬وال َْعا ِ‬
‫ويحفظونها ‪ ،‬ويقسمونها على أهلها ‪ ،‬فهم يعطون ولو كانوا أغنياء لنها بمنزلة‬
‫م { ‪ :‬وهم سادات العشائر والرؤساء‬ ‫فةِ قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫مؤَل ّ َ‬
‫الجرة في حقهم ‪َ } ،‬وال ْ ُ‬
‫الذين إذا أعطوا حصل في إعطائهم مصلحة للسلم والمسلمين ‪ ،‬إما دفع‬
‫شرهم عن المسلمين ‪ ،‬وإما رجاء إسلمهم وإسلم نظرائهم ‪ ،‬أو جبايتها ممن‬
‫ب { أي ‪ :‬في فكها من الرق‬ ‫ل يعطيها أو يرجى قوة إيمانهم ‪ } ،‬وَِفي الّرَقا ِ‬
‫كإعانة المكاتبين ‪ ،‬وكبذلها في شراء الرقاب لعتقها ‪ ،‬وفي فك السارى من‬
‫ن { ‪ :‬للصلح بين الناس إذا كان الصلح‬ ‫مي َ‬‫المسلمين عند العداء ‪َ } ،‬وال َْغارِ ِ‬
‫يتوقف على بذل مال ‪ ،‬فيعانون على القيام بهذه المهمة والمصلحة‬
‫العظيمة ‪ ،‬وهي الصلح بين الناس ‪ ،‬ولو أغنياء ‪ ،‬ومن الغارمين من ركبتهم‬
‫ل‬‫سِبي ِ‬
‫ديون للناس وعجزوا عن وفائها ‪ ،‬فيعانون من الزكاة لوفائها ‪ } ،‬وَِفي َ‬
‫الل ّهِ { أي ‪ :‬بذلها في إعانة المجاهدين بالزاد والمزاد والمركوب والسلح‬

‫) ‪(1/142‬‬
‫ونحوها مما فيه إعانة المجاهدين ‪ ،‬ومن الجهاد التخلي لطلب العلم الشرعي‬
‫ل { ‪ :‬وهو الغريب المنقطع به في غير‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫والتجرد للشتغال به ‪ } ،‬وَا ِب ْ ِ‬
‫بلده ‪ ،‬فيعان على سفره من الزكاة ‪.‬‬
‫فالله تعالى فرضها لهؤلء الصناف بحسب حكمته وعلمه ‪ ،‬ووضعه الشياء‬
‫مواضعها ‪ ،‬فإن سد الكفايات وقيام المصالح العمومية النافعة من الفروض‬
‫على المسلمين ‪ ،‬وهي على أهل الموال شكر منهم لله تعالى على نعمته‬
‫بالمال ‪ ،‬وتطهير لهم ولها ‪ ،‬ونماء وبركة ‪ ،‬واتصاف بصفات الخيار ‪ ،‬وسلمة‬
‫من نعوت الشرار ‪.‬‬

‫) ‪(1/143‬‬

‫فصل‬
‫في الطهارة بالماء والتيمم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫جوهَك ْ‬ ‫سلوا وُ ُ‬ ‫صلةِ فاغ ِ‬ ‫م إ ِلى ال ّ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫مُنوا إ َِذا ق ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قال الله تعالى ‪ } :‬يا أي َّها ال ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫م إ َِلى ال ْك َعْب َي ْ‬ ‫جل َك ُ ْ‬ ‫م وَأْر ُ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫حوا ب ُِرُءو ِ‬ ‫س ُ‬ ‫م َ‬‫ق َوا ْ‬ ‫ِ‬ ‫مَرافِ‬ ‫م إ َِلى ال ْ َ‬ ‫وَأي ْدِي َك ُ ْ‬
‫ط أ َْو‬ ‫ن ال َْغائ ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫حد ٌ ِ‬
‫َ‬
‫جاَء أ َ‬
‫جنبا َفاط ّهروا وإن ك ُنتم مرضى أ َو عََلى س َ َ‬
‫فرٍ أوْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َِ ْ ُْ ْ َ ْ َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ ًُ‬
‫جوهِك ُْ‬
‫م‬ ‫ِ ُ ُ‬‫و‬ ‫ب‬ ‫حوا‬ ‫س‬
‫ْ َ ُ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫فا‬ ‫با‬
‫ًّ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫دا‬ ‫عي‬
‫َ ِ ً‬ ‫ص‬ ‫موا‬ ‫م‬
‫ََ ّ ُ‬ ‫ي‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ً‬ ‫ء‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫دوا‬ ‫ج‬
‫ْ َ ِ ُ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫سا‬
‫م ْ ُ ُ ّ َ‬
‫ن‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫َل َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫م وَل ِي ُت ِ ّ‬ ‫ريد ُ ل ِي ُط َهَّرك ُ ْ‬ ‫ن يُ ِ‬‫حَرٍج وَل َك ِ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ه ل ِي َ ْ‬‫ريد ُ الل ّ ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫وَأي ْ ِ‬
‫ن { ]المائدة ‪. [6 :‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫مت َ ُ‬‫ن ِعْ َ‬
‫هذه اليات جمع الله فيها أحكام طهارة الماء وطهارة التيمم ‪ ،‬والتنبيه على‬
‫شروطهما ‪ ،‬وبيان كيفياتهما ‪ ،‬وذكر فوائد ذلك ‪ ،‬وثمراته الطيبة ‪ ،‬فبين فيها‬
‫الحكام وحكمها وأسرارها ‪ ،‬وهي أحكام كثيرة تستفاد من هذا الموضع ‪.‬‬

‫) ‪(1/144‬‬

‫م إ َِلى‬‫مت ُ ْ‬ ‫منها ‪ :‬أن الطهارة من الحدثين شرط لصحة الصلة ؛ لقوله ‪ } :‬إ َِذا قُ ْ‬
‫سُلوا { ‪ . .‬إلخ ‪ ،‬ومنها ‪ :‬أن ذلك عام للفرائض من الصلوات‬ ‫صَلةِ َفاغْ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫والنوافل ‪ ،‬فكل ما يسمى صلة فل بد فيه من هذه الطهارة ‪.‬‬
‫سلوا‬‫ُ‬ ‫صَلةِ فاغ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م إ َِلى ال ّ‬ ‫ومنها ‪ :‬اشتراط النية للطهارة ؛ لقوله ‪ } :‬إ َِذا قُ ْ‬
‫مت ُ ْ‬
‫م { أي ‪ :‬لجل الصلة ‪ ،‬فإن المتطهر إما أن ينوي رفع ما عليه من‬ ‫جوهَك ُ ْ‬
‫وُ ُ‬
‫الحداث ‪ ،‬أو ينوي الصلة ونحوها مما يحتاج إلى الطهارة ‪ ،‬أو ينويهما ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن غسل هذه العضاء ل بد منه في الحدث الصغر ‪ ،‬فحد الوجه ما‬
‫يدخل في مسماه ‪ ،‬وما تحصل به المواجهة ‪ ،‬وذلك من الذن إلى الذن‬
‫عرضا ‪ ،‬ومن منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طول مع‬
‫مسترسل اللحية ‪ ،‬لن هذا هو الذي تحصل به المواجهة ‪ ،‬وأما اليدان فقد‬
‫حدهما الله إلى المرفقين ‪ ،‬فقال العلماء ‪ :‬إن ) إ َِلى ( بمعنى مع المرفقين ‪،‬‬
‫وأيدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ‪ ،‬وكذلك‬
‫يقال في الرجلين إلى الكعبين ‪ ،‬وأما الرأس فإنه يتعين استيعاب مسحه ‪،‬‬
‫فإن الله أمر بمسحه ‪ ،‬والباء لللصاق الذي يقتضي إلصاق المسح بهذا‬
‫الممسوح ‪ ،‬وليست للتبعيض ‪.‬‬

‫) ‪(1/145‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الترتيب بين هذه العضاء الربعة شرط ‪ ،‬لن الله رتبها ‪ ،‬وأدخل‬
‫عضوا ممسوحا بين العضاء المغسولة ‪ ،‬ول يعلم لهذا فائدة سوى الترتيب‬
‫وعموم قوله صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬ابدأ بما بدأ الله به « ‪ ،‬فهو وإن كان‬
‫واردا في الحج فإنه يعم كل شيء ‪ ،‬مع أن جميع الواصفين لوضوئه صلى الله‬
‫عليه وسلم ذكروه مرتبا ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الموالة شرط أيضا ‪ ،‬ووجه ذلك أن الله تعالى ذكر الوضوء مقترنا‬
‫بعض العضاء ببعض بالواو الدالة على اجتماع هذه العبادة بوقت واحد ‪ ،‬فإذا‬
‫فرقها في وقتين لم تكن عبادة واحدة كما لو فرق الصلة ‪ ،‬وبفعل النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم الدائم الذي كأنك تشاهده أنه كان يوالي بين أعضاء‬
‫وضوئه ‪ ،‬وهذا أولى من استدلل كثير من أهل العلم بقصة صاحب اللمعة‬
‫الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء كله ‪ ،‬فهو وإن كان‬
‫فيه بعض الدللة على هذه المسألة ‪ ،‬لكن يحتمل أن أمره بالعادة كأمر‬
‫المسيء في صلته أن يعيد ‪ ،‬لنه رآه مخل بوضوئه غير متمم له ‪.‬‬

‫) ‪(1/146‬‬

‫ومنها ‪ :‬بيان الطهارة الكبرى ‪ ،‬كيفيتها وذكر سببها ‪ ،‬فكيفيتها ‪ :‬أن يطهر العبد‬
‫جن ًُبا َفاط ّهُّروا { ‪ :‬فلم يخصه‬ ‫م ُ‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫جميع ظاهر بدنه بالماء ؛ لقوله ‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫بعضو أو بأعضاء معينة ‪ ،‬بل جعل الله التطهير لجميع البدن ‪ ،‬فعلى المتطهر‬
‫أن يعمم التطهير لجميع ظاهر بدنه وما تحت الشعور ‪ ،‬خفيفة أو كثيفة ‪ ،‬وأن‬
‫يكون ذلك غسل ل مسحا ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن طهارة الحدث الكبر ل ترتيب فيها ول موالة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من أسبابها الجنابة ‪ ،‬والجنابة قد عرفها المسلمون عن نبيهم صلى‬
‫الله عليه وسلم أنها ‪ :‬إنزال المني يقظة أو مناما ‪ -‬وإن لم يكن جماع ‪ ، -‬أو‬
‫الجماع ‪ -‬وإن لم يحصل إنزال ‪ ، -‬أو وجود المرين كليهما ‪.‬‬
‫وقد بين الله أيضا في سورة البقرة سببا آخر للغتسال وهو الحيض في قوله‬
‫قربوهُن حتى يط ْهرن فَإَذا تط َهرن فَأ ْتوهُن من حي ُ َ‬
‫ه{‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫مَرك ُ ُ‬
‫ثأ َ‬ ‫ّ ِ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ َ ّ َ ُ ْ َ ِ َ ّ ْ َ‬ ‫‪ } :‬وََل ت َ ْ َ ُ‬
‫]البقرة ‪ [222 :‬فأضاف التطهير فيها إلى البدن كله كالجنابة ‪ ،‬ويشمل ذلك‬
‫النفاس ‪ ،‬وأما التطهير من إسلم الكافر وتطهير الميت فإنه يؤخذ من‬
‫السنة ‪.‬‬

‫) ‪(1/147‬‬

‫ومنها ‪ :‬ما استدل به كثير من أهل العلم في قراءة الجر في قوله ‪:‬‬
‫َ‬
‫م { أنها تدل على مسح الخفين الذي بينته‬ ‫جل َك ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م وَأْر ُ‬ ‫حوا ب ُِرُءو ِ‬‫س ُ‬ ‫م َ‬‫} َوا ْ‬
‫َ‬
‫م( فإنها معطوفة على‬ ‫جل ِك ُ ْ‬
‫السنة وصرحت به ‪ ،‬وأما قراءة النصب في ) أْر ُ‬
‫المغسولت ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬مشروعية التيمم ‪ ،‬وأن سببه أحد أمرين ‪ :‬إما عدم الماء لقوله ‪:‬‬
‫ضى { ‪،‬‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ماًء { ‪ ،‬أو التضرر باستعماله لقوله ‪ } :‬وَإ ِ ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫ج ُ‬ ‫} فَل َ ْ‬
‫م تَ ِ‬
‫فكل ضرر يعتري العبد إذا استعمل الماء فإنه يسوغ له العدول إلى التيمم ;‬
‫وأنواع الضرر كثيرة ; وأما ذكر السفر فلنه مظنة الحاجة إلى التيمم لفقد‬
‫الماء كتقييد الرهن في السفر ‪ ،‬ل لن السفر وحده مسوغ للتيمم كما ظنه‬
‫ماًء { ‪.‬‬
‫دوا َ‬
‫ج ُ‬ ‫بعض الناس ‪ ،‬وهو مناف لقوله ‪ } :‬فَل َ ْ‬
‫م تَ ِ‬
‫ومنها ‪ :‬أن التيمم بكل ما تصاعد على وجه الرض سواء كان له غبار أم ل ‪،‬‬
‫إذا كان طيبا غير خبيث ‪ ،‬والخبيث هو النجس في هذا الموضع ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن التيمم خاص بعضوين ‪ :‬بالوجه واليدين ‪ ،‬وأن اليدين عند الطلق‬
‫وعدم التقييد هما الكفان كما في آية السرقة ‪ ،‬وإذا قيدت كما في آية‬
‫الوضوء إلى المرفقين تقيدت بذلك ‪.‬‬

‫) ‪(1/148‬‬

‫ومنها ‪ :‬التنبيه على ما يوجب الطهارة الصغرى ‪ ،‬وهو التيان من الغائط ‪،‬‬
‫يعني ‪ :‬خروج الخارج من أحد السبيلين ‪ ،‬وملمسة النساء لشهوة ‪ ،‬والسنة‬
‫بينت الوضوء من النوم الكثير ‪ ،‬ولمس الفرج ‪ ،‬وأكل لحوم البل على اختلف‬
‫من أهل العلم في ذلك ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن التيمم كما أنه مشروع في الحدث الصغر ‪ ،‬فكذلك في الحدث‬
‫الكبر ؛ لن الله تعالى ذكره بعد سبب الطهارتين ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه في طهارة التيمم تستوي فيه الطهارة الصغرى بالكبرى في مسح‬
‫العضوين فقط ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الية الكريمة تدل على أن طهارة التيمم تنوب وتقوم مقام طهارة‬
‫الماء عند عدمه ‪ ،‬أو التضرر باستعماله ؛ لن الله أنابه منابه ‪ ،‬وسماه‬
‫طهارة ‪.‬‬
‫وكذلك الحاديث الكثيرة تدل على هذا ‪ ،‬وبهذا يعرف أن الصحيح أن طهارة‬
‫التيمم ل تبطل بخروج وقت ول دخوله ‪ ،‬ول غير ذلك مما قاله كثير من أهل‬
‫العلم ‪ ،‬بل إنها تبطل بأحد أمرين ‪ :‬إما حصول ناقض من نواقض الطهارة ‪،‬‬
‫وإما وجود الماء أو زوال الضرر المانع من استعمال الماء ‪.‬‬

‫) ‪(1/149‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الماء المتغير بالطاهرات ‪ -‬ولو تغيرا كثيرا ‪ -‬أنه يجب تقديمه على‬
‫ماًء { نكرة في سياق النفي ‪ ،‬فيعم‬ ‫دوا َ‬
‫ج ُ‬ ‫طهارة التيمم ‪ ،‬لن قوله ‪ } :‬فَل َ ْ‬
‫م تَ ِ‬
‫أي ماء سوى الماء النجس ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ما استدل به كثير من أهل العلم أن من كان في موضع ليس فيه ماء‬
‫‪ ،‬وهو يشك في وجوده فيما يقاربه أن عليه أن يطلبه ‪ ،‬ويفتش فيما حوله‬
‫دوا { ل يقال إل بعد طلب ما‬ ‫ج ُ‬ ‫قبل أن يعدل إلى التيمم ‪ ،‬لن قوله ‪ } :‬فَل َ ْ‬
‫م تَ ِ‬
‫يمكن طلبه من دون مشقة ‪ ،‬وهو استدلل لطيف ‪.‬‬
‫م‬ ‫ومنها ‪ :‬أنه ل بد في الطهارة من النية ؛ لقوله في طهارة الماء ‪ } :‬إ َِذا قُ ْ‬
‫مت ُ ْ‬
‫موا {‬ ‫م ُ‬‫سُلوا { ‪ ( . . .‬إلى آخره ‪ ،‬وفي طهارة التيمم ‪ } :‬فَت َي َ ّ‬ ‫صَلةِ َفاغْ ِ‬
‫إ َِلى ال ّ‬
‫دا ط َي ًّبا { ومن لزم ذلك النية ‪.‬‬ ‫صِعي ً‬
‫أي ‪ :‬اقصدوا } َ‬
‫ومنها ‪ :‬أن هذه الحكام التي شرعها الله لعباده إنما ذلك رحمة منه بعباده ؛‬
‫ليقوموا بالعبادات التي تتوقف سعادتهم وفلحهم عليها ‪ ،‬وأنه يريد إتمام‬
‫نعمته عليهم بالوامر الشرعية التي ل مشقة فيها ول حرج ؛ لينالوا الفضل‬
‫العظيم من ربهم ‪ ،‬فمنه التفضل على عباده بالسبب والمسبب ‪.‬‬

‫) ‪(1/150‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن طهارة التيمم ‪ -‬وإن لم يشاهد فيها نظافة حسية ‪ -‬فإن فيها‬
‫طهارة معنوية ناشئة عن امتثال العبد لمر الله ورسوله ‪.‬‬
‫حَرٍج { ‪،‬‬‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه ل ِي َ ْ‬ ‫ما ي ُ ِ‬
‫ومنها ‪ :‬القاعدة الكلية في قوله ‪َ } :‬‬
‫وأن الحرج منفي شرعا في جميع ما شرعه الله لعباده ‪ ،‬فأصل العبادات في‬
‫غاية السهولة على المكلفين ‪ ،‬ثم إذا عرضت فيها عوارض عجز أو مرض أو‬
‫تعذر لبعض شروطها فإن الشارع يخففها تخفيفا يناسب ذلك العارض ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن هذه الحكام وغيرها من محاسن الدين السلمي ‪ ،‬لما فيها من‬
‫المنافع للعباد في قلوبهم وأبدانهم وأخلقهم ‪ ،‬والتقرب بها إلى الله ‪،‬‬
‫والتوسل بها إلى ثوابه العاجل والجل ‪ ،‬فجميع الحكام من أكبر الدلة على‬
‫حسن دين السلم ‪ ،‬وأنه الدين الحق الذي فيه الصلح والصلح ‪ ،‬وأن سعادة‬
‫الدنيا والخرة منوطة به ‪ ،‬مترتبة عليه ‪ ،‬فتأمل أحكام الله وما فيها من الحكم‬
‫والسرار والمنافع ودفع المضار ‪ ،‬تجد هذا مشاهدا فيها ‪.‬‬

‫) ‪(1/151‬‬

‫فصل‬
‫في صلة الجمعة والسفر والذان‬
‫َ‬
‫وا‬‫سعَ ْ‬ ‫معَةِ َفا ْ‬‫ج ُ‬ ‫ن ي َوْم ِ ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صَلةِ ِ‬ ‫مُنوا إ َِذا ُنودِيَ ِلل ّ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قال تعالى ‪ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ت‬ ‫ن {} فَإ َِذا قُ ِ‬
‫ضي َ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫م إِ ْ‬‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬‫م َ‬ ‫إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ وَذ َُروا ال ْب َي ْعَ ذ َل ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه ك َِثيًرا لعَلك ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ل اللهِ َواذ ْك ُُروا الل َ‬ ‫ّ‬ ‫ض ِ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ض َواب ْت َُغوا ِ‬ ‫ِ‬ ‫شُروا ِفي اْل َْر‬ ‫صَلة ُ َفان ْت َ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫هّ‬ ‫ما قُ ْ‬ ‫كو َ‬ ‫َ‬
‫ضوا إ ِلي َْها وَت ََر ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عن ْد َ الل ِ‬‫ما ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ك َقائ ِ ً‬ ‫ف ّ‬ ‫وا ان ْ َ‬‫جاَرة ً أوْ لهْ ً‬ ‫ن {} وَإ َِذا َرأْوا ت ِ َ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫تُ ْ‬
‫ن { ]الجمعة ‪. [11 - 9 :‬‬ ‫خي ُْر الّرازِِقي َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫جاَرةِ َوالل ُ‬ ‫ن الت ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهْوِ وَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫خي ٌْر ِ‬ ‫َ‬

‫) ‪(1/152‬‬

‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلة الجمعة ‪ ،‬والمبادرة إليها من حين‬
‫ينادى لها ; والمراد بالسعي هنا ‪ :‬الهتمام بها وعدم الشتغال بغيرها ‪ ،‬ل‬
‫المراد به العدو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند المضي إلى‬
‫الصلة ‪ ،‬فالمشي إلى الصلة بسكينة ووقار هو المراد بالسعي هنا } وَذ َُروا‬
‫ال ْب َي ْعَ { أي ‪ :‬اتركوه في هذه الحالة التي أمرتم بالمضي فيها إلى الصلة ;‬
‫وإذا أمر بترك البيع الذي ترغب فيه النفوس ‪ ،‬وتحرص عليه ‪ ،‬فترك غيره من‬
‫الشواغل من باب أولى ‪ ،‬كالصناعات وغيرها ‪.‬‬
‫ن { ‪ :‬حقائق المور وثمراتها ‪ ،‬وذلك الخير هو‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫} ذ َل ِك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫امتثال أمر الله ورسوله ‪ ،‬والشتغال بهذه الفريضة ‪ ،‬التي هي من أهم‬
‫الفرائض ‪ ،‬واكتساب خيرها وثوابها ‪ ،‬وما رتب الشارع على السعي لها ‪،‬‬
‫والمبادرة والتقدم والوسائل ‪ ،‬والمتممات لها من الخير والثواب ‪ ،‬ولما في‬
‫ذلك من اكتساب الفضائل ‪ ،‬واجتناب الرذائل ‪ ،‬فإن من أرذل الخصال‬
‫الحرص والجشع الذي يحمل العبد على تقديم الكسب الدنيء على الخير‬
‫الضروري ‪.‬‬

‫) ‪(1/153‬‬
‫ومن الخير أن من قدم أمر الله ‪ ،‬وآثر طاعته على هوى نفسه ‪ ،‬كان ذلك‬
‫برهان إيمانه ‪ ،‬ودليل رغبته ‪ ،‬وإنابته إلى ربه ‪ ،‬ومن ترك شيئا لله عوضه الله‬
‫خيرا منه ‪ ،‬ومن قدم هواه على طاعة موله فقد خسر دينه ‪ ،‬وتبع ذلك‬
‫خسارة دنياه ‪.‬‬
‫صَلةُ‬
‫ت ال ّ‬ ‫وهذا المر بترك البيع مؤقت إلى انقضاء الصلة } فَإ َِذا قُ ِ‬
‫ضي َ ِ‬
‫ل الل ّهِ {‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َفان ْت َ ِ‬
‫ض ِ‬ ‫م ْ‬
‫ض { لطلب المكاسب المباحة ‪َ } ،‬واب ْت َُغوا ِ‬ ‫شُروا ِفي الْر ِ‬
‫أي ‪ :‬ينبغي للمؤمن الموفق وقت اشتغاله في مكاسب الدنيا أن يقصد بذلك‬
‫الستعانة على قيامه بالواجبات ‪ ،‬وأن يكون مستعينا بالله في ذلك ‪ ،‬طالبا‬
‫لفضله جاعل الرجاء والطمع في فضل الله نصب عينيه ‪ ،‬فإن التعلق بالله‬
‫والطمع في فضله من اليمان ومن العبادات ‪.‬‬

‫) ‪(1/154‬‬

‫ولما كان الشتغال بالتجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله وطاعته أمر الله‬
‫ن { أي ‪ :‬في‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫ه ك َِثيًرا ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م تُ ْ‬ ‫بالكثار من ذكره ‪ ،‬فقال ‪َ } :‬واذ ْك ُُروا الل ّ َ‬
‫حال قيامكم وقعودكم ‪ ،‬وفي تصرفاتكم وأحوالكم كلها ‪ ،‬فإن ذكر الله طريق‬
‫الفلح الذي هو الفوز بالمطلوب ‪ ،‬والنجاة من المرهوب ‪ ،‬ومن المناسب في‬
‫هذا أن يجعل المعاملة الحسنة والحسان إلى الخلق نصب عينيه ‪ ،‬فإن هذا‬
‫من ذكر الله ‪ ،‬فكل ما قرب إلى الله فإنه من ذكره ‪ ،‬وكل أمر يحتسبه العبد‬
‫فإنه من ذكره ‪ ،‬فإذا نصح في معاملته وترك الغش تقرب في هذه المعاملة‬
‫إلى الله ؛ لن الله يحبها ‪ ،‬ولنها تمنع العبد من المعاملة الضارة ‪ ،‬وكلما‬
‫سامح أحدا أو حاباه في ثمن أو مثمن أو تيسير أو إنظار أو نحوه فإنه من‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ل ب َي ْن َك ْ‬‫ض َ‬ ‫وا ال ْ َ‬
‫ف ْ‬ ‫س ُ‬‫الحسان والفضل ‪ ،‬وهو من ذكر الله ‪ ،‬قال تعالى ‪ } :‬وََل ت َن ْ َ‬
‫{ ]البقرة ‪. [237 :‬‬

‫) ‪(1/155‬‬

‫ضوا إ ِل َي َْها وَت ََر ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ما { أي ‪ :‬خرجوا من‬ ‫كو َ‬
‫ك َقائ ِ ً‬ ‫ف ّ‬ ‫جاَرة ً أوْ ل َهْ ً‬
‫وا ان ْ َ‬ ‫} وَإ َِذا َرأْوا ت ِ َ‬
‫المسجد حرصا على تلك التجارة واللهو ‪ ،‬وتركوا ذلك الخير الحاضر ‪ ،‬حتى‬
‫إنهم تركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما يخطب ‪ ،‬وذلك لحاجتهم لتلك‬
‫العير التي قدمت المدينة ‪ ،‬وقبل أن يعلموا حق العلم ما في ذلك من الذم‬
‫وسوء الدب ‪ ،‬فاجتماع المرين حملهم على ما ذكر ; وإل فهم رضي الله‬
‫عنهم كانوا أرغب الناس في الخير ‪ ،‬وأعظمهم حرصا على الخذ عن الرسول‬
‫‪ ،‬وعلى توقيره وتبجيله ‪.‬‬
‫وحالهم المعلومة في ذلك أكبر شاهد ‪ ،‬ولكن لكل جواد كبوة ‪ ،‬ثم إن الكبوة‬
‫التي عوتب عليها العبد ‪ ،‬وتاب منها وأناب ‪ ،‬وغفرها الله ‪ ،‬وأبدل مكانها حسنة‬
‫‪ ،‬ل يحل لحد اللوم عليها ‪ ،‬قل لمن قدم اللهو والتجارة على الطاعة ‪ :‬ما عند‬
‫الله خير من اللهو ومن التجارة ‪ ،‬التي وإن حصل منها بعض المقاصد فإن‬
‫ذلك قليل منغص مفوت لخير الخرة ‪.‬‬

‫) ‪(1/156‬‬
‫وليس الصبر على طاعة الله مفوتا للرزق ; فإن الله خير الرازقين ‪ ،‬فمن‬
‫اتقى الله رزقه من حيث ل يحتسب ‪ ،‬ومن قدم الشتغال بالتجارة على طاعة‬
‫الله لم يبارك له في ذلك ‪ ،‬وكان هذا دليل على خلو قلبه من ابتغاء الفضل‬
‫من الله ‪ ،‬وانقطاع قلبه عن ربه ‪ ،‬وتعلقه بالسباب ‪ ،‬وهذا ضرر محض يعقب‬
‫الخسران ‪.‬‬
‫* وفي هذه اليات فوائد عديدة ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن الجمعة فريضة على المؤمنين يجب عليهم السعي لها والهتمام‬
‫بشأنها ‪ ،‬وأن الخيرات المترتبة عليها ل يقابلها شيء ‪.‬‬
‫ومنها مشروعية الخطبتين ‪ ،‬وأنهما فريضتان ‪ ،‬وأن المشروع أن يكون‬
‫وا إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ { ]الجمعة ‪ [9 :‬يشمل‬ ‫الخطيب قائما ؛ لن قوله ‪َ } :‬فا ْ‬
‫سعَ ْ‬
‫السعي إلى الصلة وإلى الخطبتين ‪ ،‬وأيضا فإن الله ذم من ترك استماع‬
‫الخطبة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬مشروعية النداء يوم الجمعة وغيرها ‪ ،‬لن التقييد بيوم الجمعة دليل‬
‫م‬‫على أن هناك نداء لبقية الصلوات الخمس ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ } :‬وَإ َِذا َناد َي ْت ُ ْ‬
‫ها هُُزًوا وَل َعًِبا { ]المائدة ‪. [58 :‬‬ ‫صَلةِ ات ّ َ‬
‫خ ُ‬
‫ذو َ‬ ‫إ َِلى ال ّ‬
‫ومنها ‪ :‬النهي عن البيع والشراء بعد نداء الجمعة ‪ ،‬وذلك يدل على التحريم‬
‫وعدم النفوذ ‪.‬‬

‫) ‪(1/157‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الوسائل لها أحكام المقاصد ‪ ،‬فإن البيع في الصل مباح ‪ ،‬ولكن‬
‫لما كان وسيلة لترك الواجب نهى الله عنه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬تحريم الكلم والمام يخطب ‪ ،‬لنه إذا كان الشتغال بالبيع ونحوه ‪-‬‬
‫ولو كان المشتغل بعيدا عن سماع الخطبة ‪ -‬محرما فمن كان حاضرا تعين‬
‫عليه أن ل يشتغل بغير الستماع ‪ ،‬كما أيد هذا الستنباط الحاديث الكثيرة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن المشتغل بعبادة الله وطاعته إذا رأى من نفسه الطموح إلى ما‬
‫يلهيها عن هذا الخير من اللذات الدنيوية والحظوظ النفسية شرع أن يذكرها‬
‫ما عند الله من الخيرات ‪ ،‬وما لمؤثر الدين على الهوى ‪ ،‬وما يترتب من‬
‫الضرر والخسران على ضده ‪.‬‬

‫) ‪(1/158‬‬

‫} وإَذا ضربتم في اْل َرض فَل َيس عَل َيك ُم جنا َ‬


‫م‬
‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬ ‫صَلةِ إ ِ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫صُروا ِ‬
‫ق ُ‬‫ن تَ ْ‬‫حأ ْ‬ ‫ْ ْ ُ َ ٌ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ َ ُْ ْ ِ‬ ‫َ َِ‬
‫مِبيًنا { ]النساء ‪. [101 :‬‬ ‫وا‬
‫ُ ّ ُ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نوا‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ن‬ ‫ري‬
‫ِ ِ َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬
‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫روا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬
‫ِ َ‬‫ذي‬‫ّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ن يَ َ ُ‬
‫ك‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫أ ْ‬
‫أي ‪ :‬إذا سافرتم في الرض لتجارة أو عبادة أو غيرهما فقد خفف الله عنكم ‪،‬‬
‫ورفع عنكم الجناح ‪ ،‬وأباح لكم ‪ ،‬بل أحب لكم أن تقصروا الصلة الرباعية إلى‬
‫ركعتين ‪ ،‬فإن حصل مع ذلك خوف فل حرج في قصر كيفية الصلوات كلها ؛‬
‫وهذا والله أعلم الحكمة في تقييد القصر بالخوف ؛ لنه من المعلوم المتواتر‬
‫عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز القصر في السفر ‪ ،‬ولو كان ليس فيه‬
‫خوف ‪ ،‬ولكن إذا اجتمع السفر والخوف كان رخصة في قصر العدد للرباعية‬
‫والهيئة لغيرها ‪ ،‬فإن وجد الخوف وحده ‪ ،‬ترتب عليه قصر الهيئات على‬
‫الصفة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وإن وجد السفر وحده لم‬
‫يكن فيه إل قصر العدد ‪.‬‬
‫ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا القيد قال ‪ » :‬صدقة‬
‫تصدق الله عليكم بها ; فاقبلوا صدقته « ‪ ،‬أو يقال ‪ :‬هذا القصر المذكور في‬
‫الية الكريمة مطلق ‪ ،‬والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقيده وتبين‬
‫المراد به ‪.‬‬

‫) ‪(1/159‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫فُروا ِبالل ّهِ‬‫م كَ َ‬ ‫م عََلى قَب ْرِهِ إ ِن ّهُ ْ‬
‫ق ْ‬ ‫دا وََل ت َ ُ‬ ‫ت أب َ ً‬
‫ما َ‬‫م َ‬‫من ْهُ ْ‬
‫حد ٍ ِ‬‫ل عََلى أ َ‬ ‫} وََل ت ُ َ‬
‫ص ّ‬
‫ن { ]التوبة ‪. [84 :‬‬ ‫قو َ‬‫س ُ‬‫م َفا ِ‬ ‫ماُتوا وَهُ ْ‬
‫سول ِهِ وَ َ‬‫وََر ُ‬
‫أي ‪ :‬ول تصل على أحد مات من المنافقين ‪ ،‬ول تقم على قبره بعد الدفن‬
‫لتدعو له ‪ ،‬فإن الصلة عليهم والوقوف على قبورهم للدعاء لهم شفاعة‬
‫م‬
‫ماُتوا وَهُ ْ‬ ‫سول ِهِ وَ َ‬ ‫فُروا ِبالل ّهِ وََر ُ‬ ‫م كَ َ‬ ‫لهم ‪ ،‬وهم ل تنفع فيهم الشفاعة } إ ِن ّهُ ْ‬
‫ن { ‪ :‬خارجون عن دين الله بالكلية ; ومن كان كافرا ومات على ذلك‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬‫َفا ِ‬
‫فما تنفعه شفاعة الشافعين ‪ ،‬وفي ذلك عبرة لغيرهم وزجر ونكال لهم ‪،‬‬
‫وهكذا كل من علم منه الكفر والنفاق فإنه ل يصلى عليه ‪ ،‬ول يدعى له‬
‫بالمغفرة ‪.‬‬
‫وفي هذه الية مشروعية الصلة على المؤمنين ‪ ،‬والوقوف على قبورهم‬
‫خصوصا وقت دفنهم للدعاء لهم ‪ ،‬وإن هذا كان عادته صلى الله عليه وسلم‬
‫مع المؤمنين ‪ ،‬وقد بينت السنة وجوب تجهيز الميت المسلم بالتغسيل‬
‫والتكفين والصلة عليه وحمله ودفنه كما هو معلوم ‪.‬‬

‫) ‪(1/160‬‬

‫فصل‬
‫في الصيام وتوابعه‬
‫َ‬
‫ب عَلى‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما كت ِ َ‬ ‫مك َ‬ ‫صَيا ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫ب عَلي ْك ُ‬
‫مُنوا كت ِ َ‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬‫قال الله تعالى ‪ } :‬يا أي َّها ال ِ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ملوا العِد ّة َ وَل ِت ُكب ُّروا الل َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ن { إلى قوله ‪ } :‬وَل ِت ُك ِ‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [185 - 183 :‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م وَل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫داك ُ ْ‬ ‫عََلى َ‬
‫ما هَ َ‬
‫يخبر تعالى بمنته على عباده المؤمنين بفرضه عليهم الصيام كما فرضه على‬
‫المم السابقة ‪ ،‬لنه من الشرائع الكبار التي هي مصلحة للخلق في كل زمان‬
‫‪ ،‬وفي هذا حث للمة أن ينافسوا المم في المسارعة إليه وتكميله ‪ ،‬وبيان‬
‫عموم مصلحته ‪ ،‬وثمراته التي ل تستغني عنها جميع المم ; ثم ذكر حكمته‬
‫ن { ‪ ،‬فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى ؛ لن فيه‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬ ‫بقوله ‪ } :‬ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫امتثال أمر الله واجتناب نهيه ‪.‬‬
‫فالصيام هو الطريق العظم للوصول إلى هذه الغاية التي فيها سعادة العبد‬
‫في دينه ودنياه وآخرته ‪ ،‬فالصائم يتقرب إلى الله بترك المشتهيات ؛ تقديما‬
‫لمحبة ربه على محبة نفسه ‪ ،‬ولهذا اختصه الله من بين العمال حيث أضافه‬
‫إلى نفسه في الحديث الصحيح ‪ ،‬وهو من أعظم أصول التقوى ‪ ،‬فإن السلم‬
‫واليمان ل يتم بدونه ‪.‬‬

‫) ‪(1/161‬‬
‫وفيه من حصول زيادة اليمان ‪ ،‬والتمرن على الصبر والمشقات المقربة إلى‬
‫رب العالمين ‪ ،‬وأنه سبب لكثرة الطاعات من صلة وقراءة وذكر وصدقة‬
‫وغيرها ما يحقق التقوى ‪ ،‬وفيه من ردع النفس عن المور المحرمة من‬
‫أقوال وأفعال ما هو من أصول التقوى ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن في الصيام من مراقبة الله بترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه ‪-‬‬
‫لعلمه باطلع ربه عليه ‪ -‬ما ليس في غيره ‪ ،‬ول ريب أن هذا من أعظم عون‬
‫على التقوى ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الصيام يضيق مجاري الشيطان » فإنه يجري من ابن آدم مجرى‬
‫الدم « ‪ ،‬فبالصيام يضعف نفوذه ‪ ،‬وتقل معاصي العبد ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك ‪ ،‬وحمله على مواساة‬
‫الفقراء المعدمين ‪ ،‬وهذا كله من خصال التقوى ‪.‬‬
‫ت { أي ‪ :‬قليلة‬ ‫َ‬
‫دوَدا ٍ‬‫معْ ُ‬‫ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام أخبر أنها } أّيام ٍ َ‬
‫سهلة ‪ ،‬ومن سهولتها أنها في شهر معين يشترك فيه جميع المسلمين ; ول‬
‫ريب أن الشتراك هذا من المهونات المسهلت ‪ ،‬ومن ألطاف المولى‬
‫كان منك ُم مريضا أوَ‬
‫ن َ َ ِ ْ ْ َ ِ ً ْ‬ ‫م ْ‬‫ومعونته للصائمين ‪ ،‬ثم سهل تسهيل آخر فقال ‪ } :‬فَ َ‬
‫خَر { وذلك للمشقة ‪ -‬غالبا ‪ -‬رخص الله لهما في‬ ‫ن أ َّيام ٍ أ ُ َ‬ ‫فرٍ فَعِد ّة ٌ ِ‬
‫م ْ‬ ‫س َ‬‫عََلى َ‬
‫الفطر ‪.‬‬

‫) ‪(1/162‬‬

‫ولما كان ل بد من تحصيل العبد لمصلحة الصيام أمرهما أن يقضياه في أيام‬


‫أخر ‪ ،‬إذا زال المرض ‪ ،‬وانقضى السفر ‪ ،‬وحصلت الراحة ‪.‬‬
‫خَر { دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان‬ ‫ن أ َّيام ٍ أ ُ َ‬
‫م ْ‬‫وفي قوله ‪ } :‬فَعِد ّة ٌ ِ‬
‫كامل كان أو ناقصا ‪ ،‬وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة عن أيام‬
‫طويلة حارة كالعكس ‪.‬‬
‫وبهذا أجبنا عن سؤال ورد علينا ‪ :‬أنه يوجد مسلمون في بعض البلد التي‬
‫يكون في بعض الوقات ليلها نحو أربع ساعات أو تنقص ‪ ،‬فيوافق ذلك‬
‫رمضان ‪ ،‬فهل لهم رخصة في الطعام إذا كانوا يعجزون عن تتميمها ؟‬
‫فأجبنا ‪ :‬إن العاجز منهم في هذا الوقت يؤخره إلى وقت آخر ‪ ،‬يقصر فيه‬
‫النهار ‪ ،‬ويتمكن فيه من الصيام كما أمر الله بذلك المريض ‪ ،‬بل هذا أولى ‪،‬‬
‫وأن الذي يقدر على الصيام في هذه اليام الطوال يلزمه ول يحل له تأخيره‬
‫إذا كان صحيحا مقيما ‪ ،‬هذا حاصل الجواب ‪.‬‬

‫) ‪(1/163‬‬

‫ن { قيل ‪ :‬هذا في أول‬ ‫كي ٍ‬


‫س ِ‬
‫م ْ‬ ‫ة ط ََعا ُ‬
‫م ِ‬ ‫ه فِد ْي َ ٌ‬
‫قون َ ُ‬
‫طي ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫وقوله ‪ } :‬وَعََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫المر وفي ابتداء فرض الصيام لما كانوا غير معتادين للصيام ‪ ،‬وكان ابتداء‬
‫فرضه حتما فيه مشقة عليهم ‪ ،‬درجهم الرب الحكيم بأسهل ما يكون ‪ ،‬وخير‬
‫المطيق للصوم بين أن يصوم ‪ ،‬وهو الفضل الكمل ‪ ،‬أو يطعم ويجزيه ‪ ،‬ثم‬
‫لما تمرنوا على الصيام ‪ ،‬وكان ضروريا على المطيقين فرضه عليهم حتما ‪.‬‬
‫ه { أي ‪ :‬يتكلفون الصيام ‪ ،‬ويشق‬ ‫قون َ ُ‬‫طي ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ذي َ‬‫وقيل إن قوله ‪ } :‬وَعََلى ال ّ ِ‬
‫عليهم مشقة ل تحتمل كالكبير والمريض الميئوس من برئه ‪ ،‬فدية طعام‬
‫مسكين عن كل يوم يفطره ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن { أي ‪ :‬الصوم المفروض‬ ‫َ‬
‫ذي أن ْزِل ِفيهِ القُْرآ ُ‬‫ن ال ّ ِ‬
‫ضا َ‬
‫م َ‬ ‫وقوله ‪َ } :‬‬
‫شهُْر َر َ‬
‫عليكم هو شهر رمضان ‪ ،‬الشهر العظيم الذي حصل لكم من الله فيه الفضل‬
‫العظيم ‪ ،‬وهو إنزال القرآن الذي فيه هدايتكم لجميع مصالحكم الدينية‬
‫والدنيوية ‪ ،‬وفيه بيان الحق وتوضيحه ‪ ،‬والفرقان بين الحق والباطل ‪ ،‬والهدى‬
‫والضلل ‪ ،‬وأهل السعادة من أهل الشقاوة ‪ ،‬فحقيق بشهر هذا فضله ‪ ،‬وهذا‬
‫إحسان الله العظيم فيه عليكم أن يكون معظما محترما ‪ ،‬موسما للعباد‬
‫مفروضا فيه الصيام ‪.‬‬

‫) ‪(1/164‬‬

‫شهِد َ‬‫ن َ‬ ‫فلما قرر فرضيته ‪ ،‬وبين حكمته في ذلك وفي تخصيصه قال ‪ } :‬فَ َ‬
‫م ْ‬
‫ه { أي ‪ :‬من حضر الشهر وهو قادر تحتم عليه صيامه ‪} ،‬‬ ‫م ُ‬‫ص ْ‬ ‫شهَْر فَل ْي َ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫من ْك ُ ُ‬
‫ِ‬
‫خَر { ‪ :‬أعاد ذلك تأكيدا له ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن أّيام ٍ أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬
‫فرٍ فعِد ّة ٌ ِ‬
‫س َ‬
‫ضا أوْ عَلى َ‬ ‫ري ً‬ ‫م ِ‬‫ن َ‬ ‫ن كا َ‬ ‫م ْ‬‫وَ َ‬
‫ولئل يظن أنه أيضا منسوخ مع ما نسخ من التخيير للقادر ‪.‬‬
‫سَر { أي ‪ :‬يريد الله أن ييسر ويسهل عليكم الطرق‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬ ‫ه ب ِك ُ ُ‬‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫} يُ ِ‬
‫الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ليسهل سلوكها ‪ ،‬ويعين عليها بكل‬
‫وسيلة ؛ ليرغب فيها العباد ‪ ،‬وهذا أصل عظيم من أصول الشريعة ‪ ،‬بل كلها‬
‫تدور على هذا الصل ‪ ،‬فإن جميع الوامر ل تشق على المكلفين ‪ ،‬وإذا حصل‬
‫بعض المشاق والعجز خفف الشارع من الواجبات بحسب ما يناسب ذلك ‪،‬‬
‫فيدخل في هذا جميع التخفيفات في جواز الفطر ‪ ،‬وتخفيفات السفر ‪،‬‬
‫والعذار لترك الجمعة والجماعة ‪.‬‬

‫) ‪(1/165‬‬

‫مُلوا ال ْعِد ّة َ { وذلك لئل يتوهم متوهم أن صيام رمضان يحصل‬ ‫وقوله ‪ } :‬وَل ِت ُك ْ ِ‬
‫مُلوا ال ْعِد ّةَ { وأمر بشكره‬
‫المقصود ببعضه دفع هذا الوهم بقوله ‪ } :‬وَل ِت ُك ْ ِ‬
‫على إتمامه ؛ لن من أكبر منن الله على عبده توفيقه لتمامه وتكميله وتبيين‬
‫م { هداية التعليم وهداية‬ ‫داك ُ ْ‬ ‫ه عََلى َ‬
‫ما هَ َ‬ ‫أحكامه للعبيد ‪ } ،‬وَل ِت ُك َب ُّروا الل ّ َ‬
‫التوفيق والرشاد ‪.‬‬

‫) ‪(1/166‬‬

‫جيُبوا‬ ‫ن فَل ْي َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫داِع إ َِذا د َ َ‬
‫عا ِ‬ ‫ب د َعْوَةَ ال ّ‬
‫جي ُ‬
‫ُ‬
‫بأ ِ‬ ‫عَباِدي عَّني فَإ ِّني قَ ِ‬
‫ري ٌ‬ ‫ك ِ‬ ‫سأ َل َ َ‬‫} وَإ َِذا َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [186 :‬‬ ‫دو َ‬
‫ش ُ‬ ‫م ي َْر ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مُنوا ِبي لعَلهُ ْ‬ ‫ِلي وَل ْي ُؤْ ِ‬
‫هذا سؤال وجواب ‪ ،‬أي ‪ :‬إذا سألك العباد عن ربهم ‪ ،‬وبأي طريق يدركون منه‬
‫مطالبهم ‪ ،‬فأجبهم بهذا الجواب الذي يأخذ بمجامع القلوب ‪ ،‬ويوجب أن يعلق‬
‫العبد بربه بكل مطلوب ديني ودنيوي ‪ ،‬فأخبرهم أن الله قريب من الداعين ‪،‬‬
‫ليس على بابه حجاب ول بواب ‪ ،‬ول دونه مانع في أي وقت وأي حال ‪ ،‬فإذا‬
‫أتى العبد بالسبب والوسيلة ‪ ،‬وهو الدعاء لله المقرون بالستجابة له باليمان‬
‫به والنقياد لطاعته ‪ ،‬فليبشر بالجابة في دعاء الطلب والمسألة ‪ ،‬وبالثواب‬
‫والجر والرشد إذا دعا دعاء العبادة ‪ ،‬وكل القربات الظاهرة والباطنة تدخل‬
‫في دعاء العبادة ‪ ،‬لن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله من ربه‬
‫قبول تلك العبادة والثابة عليها ‪.‬‬

‫) ‪(1/167‬‬

‫وفي هذه الية تنبيه على السباب الموجبة لجابة الدعاء التي مدارها على‬
‫اليمان بالله ‪ ،‬وتحقيقه بالنقياد لله امتثال لمره واجتنابا لنهيه ; وتنبيه أيضا‬
‫على أن موانع الجابة ترك تحقيق اليمان وترك النقياد ‪ ،‬فأكل الحرام وعمل‬
‫المعاصي من موانع الجابة ‪ ،‬وهي تنافي الستجابة لله ‪ ،‬وفيه تنبيه على أن‬
‫اليمان بالله والستجابة له سبب إلى حصول العلم ‪ ،‬لن الرشد هو الهدى‬
‫التام علما وعمل ‪ ،‬ونظير هذا قوله تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫م فُْرَقاًنا { ]النفال ‪ [29 :‬أي ‪:‬‬ ‫ل ل َك ْ‬
‫ُ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫ن ت َت ّ ُ‬‫مُنوا إ ِ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫علما تفرقون به بين الحق والباطل ‪ ،‬وبين كل ما يحتاج إلى تفصيله ‪.‬‬
‫هّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫م { إلى قوله ‪ } :‬ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫ث إ َِلى ن ِ َ‬
‫سائ ِك ُ ْ‬ ‫صَيام ِ الّرفَ ُ‬ ‫ة ال ّ‬ ‫م ل َي ْل َ َ‬‫ل ل َك ُ ْ‬
‫ح ّ‬ ‫} أُ ِ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [187 : :‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م ي َت ّ ُ‬ ‫آَيات ِهِ ِللّنا ِ‬
‫) ‪(1/168‬‬

‫كان أول ما فرض الصيام منع المسلمون من الكل والشرب في الليل إذا‬
‫ناموا ‪ ،‬فحصلت المشقة لكثير منهم ‪ ،‬فخفف الله ذلك ‪ ،‬وأباح في ليالي‬
‫الصيام كلها الكل والشرب والجماع ‪ ،‬سواء نام أو لم ينم ؛ لكونهم يختانون‬
‫أنفسهم بترك بعض ما أمروا به لو بقي المر على ما كان أول ‪ ،‬فتاب الله‬
‫عليكم بأن وسع لكم أمرا لول توسعته لكان داعيا إلى الثم والقدام على‬
‫المعاصي ‪ ،‬وعفا عنكم ما سلف من التخون ‪.‬‬
‫ن { ‪ :‬وطئا وقبلة‬ ‫شُروهُ ّ‬
‫ن { بعد هذه الرخصة والسعة من الله } َبا ِ‬ ‫} َفاْل َ‬
‫م { أي ‪ :‬اقصدوا في مباشرتكم لزوجاتكم‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ب الل ّ ُ‬
‫ما ك َت َ َ‬
‫ولمسا ‪َ } ،‬واب ْت َُغوا َ‬
‫التقرب إلى الله بذلك ‪ ،‬واقصدوا أيضا حصول الذرية وإعفاف الفرج وحصول‬
‫جميع مقاصد النكاح ; وابتغوا أيضا ليلة القدر ‪ ،‬فإياكم أن تشتغلوا بهذه اللذة‬
‫وتوابعها وتضيعوا ليلة القدر ‪ ،‬وهي مما كتبه الله لهذه المة ‪ ،‬وفيها من الخير‬
‫العظيم ما يعد تفويته من أعظم الخسران ‪ ،‬فاللذة مدركة ‪ ،‬وليلة القدر إذا‬
‫فاتت لم تدرك ‪ ،‬ولم يعوض عنها شيء ‪.‬‬

‫) ‪(1/169‬‬

‫خي ْ ِ َ‬ ‫خي ْ ُ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ط اْل ْ‬
‫سوَد ِ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ط اْلب ْي َ ُ‬
‫ض ِ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫ن ل َك ُ ُ‬
‫حّتى ي َت َب َي ّ َ‬ ‫} وَك ُُلوا َوا ْ‬
‫شَرُبوا َ‬
‫جرِ { ‪ :‬هذا غاية جواز الكل والشرب والجماع في ليالي الصيام ; وفيه أن‬ ‫ف ْ‬‫ال ْ َ‬
‫هذه الثلثة إذا وقعت وصاحبها شاك في طلوع الفجر فل حرج عليه ‪ ،‬ودليل‬
‫على استحباب السحور ‪ ،‬وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله‬
‫وتسهيله على العباد ‪ ،‬ودليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من‬
‫الجماع قبل أن يغتسل ؛ لن من لزم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر أن‬
‫يدركه الفجر وهو جنب ‪ ،‬ولزم الحق حق ‪ ،‬ثم إذا طلع الفجر أتموا الصيام ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬أمسكوا عن المفطرات إلى الليل ‪ ،‬وهو غروب الشمس ‪.‬‬
‫ولما كانت إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحة عامة لكل أحد ‪،‬‬
‫َ‬
‫ن ِفي‬
‫فو َ‬
‫عاك ِ ُ‬
‫م َ‬
‫ن وَأن ْت ُ ْ‬ ‫استثنى تعالى المعتكف بقوله ‪ } :‬وََل ت َُبا ِ‬
‫شُروهُ ّ‬
‫جد ِ { أي ‪ :‬وأنتم متصفون بذلك ; ودلت الية على مشروعية‬ ‫سا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫العتكاف ؛ وهو لزوم المساجد لطاعة الله ‪ ،‬وأن العتكاف ل يصح إل بمسجد‬
‫; ويستفاد من تعريف المساجد باللف واللم أنها المساجد التي يعرفها‬
‫المسلمون ‪ ،‬وأنها التي تقام فيها الصلوات الخمس ‪.‬‬

‫) ‪(1/170‬‬

‫وفيه أن الوطء من مفسدات العتكاف تلك المذكورات ‪ ،‬وهي تحريم الكل‬


‫والشرب والجماع ونحوها من مفطرات الصيام ‪ ،‬وتحريم الوطء على‬
‫المعتكف ‪ ،‬ونحو ذلك من المحرمات التي حدها لعباده ‪ ،‬ونهاهم عنها ‪ } :‬فَلَ‬
‫ها { أي ‪ :‬ل تفعلوها ‪ ،‬ول تحوموا حولها ‪ ،‬وتفعلوا وسائلها ‪ ،‬والعبد‬ ‫قَرُبو َ‬
‫تَ ْ‬
‫مأمور بترك المحرمات ‪ ،‬والبعد عنها بترك كل وسيلة تدعو إليها ‪.‬‬
‫ها { ‪ ،‬كما ينهى عن‬ ‫دود ُ الل ّهِ فََل ت َ ْ‬
‫قَرُبو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ك ُ‬‫وأما الوامر فيقول الله فيها ‪ } :‬ت ِل ْ َ‬
‫ها { ‪ ،‬كذلك البيان السابق والتوضيح التام من الله‬ ‫مجاوزتها ‪ } :‬فََل ت َعْت َ ُ‬
‫دو َ‬
‫ن { ‪ :‬فإن العلم الصحيح‬ ‫قو َ‬ ‫س ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م ي َت ّ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه آَيات ِهِ ِللّنا ِ‬ ‫لعباده ‪ } :‬ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬
‫سبب للتقوى ؛ لنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه ‪ ،‬وإذا بان لهم الباطل اجتنبوه ‪،‬‬
‫ومن علم الحق فتركه والباطل فاتبعه كان أعظم لجرمه وأشد لثمه ‪.‬‬

‫) ‪(1/171‬‬

‫فصل‬
‫في الحج وتوابعه‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ً‬
‫سِبيل وَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ست َطاع َ إ ِلي ْهِ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م ِ‬‫ت َ‬ ‫ج الب َي ْ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫س ِ‬ ‫قال الله تعالى ‪ } :‬وَل ِلهِ عَلى الّنا ِ‬
‫ن { ]آل عمران ‪. [97 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال َْعال َ ِ‬ ‫ي عَ ِ‬ ‫ه غَن ِ ّ‬‫ن الل ّ َ‬
‫فَر فَإ ِ ّ‬ ‫كَ َ‬
‫مَرةَ ل ِل ّهِ { ]البقرة ‪ [196 :‬إلى آخر اليات‬ ‫َ‬
‫ج َوال ْعُ ْ‬ ‫ح ّ‬‫موا ال ْ َ‬ ‫وقال ‪ } :‬وَأت ِ ّ‬
‫المتعلقة بالحج ‪.‬‬
‫دى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مَباَركا وَهُ ً‬ ‫ة ُ‬ ‫ذي ب ِب َك َ‬ ‫س لل ِ‬ ‫ضعَ ِللّنا ِ‬ ‫ت وُ ِ‬ ‫ن أوّل ب َي ْ ٍ‬ ‫لما قال الله تعالى ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫مًنا { ]آل‬ ‫نآ ِ‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫َ‬
‫خل ُ‬ ‫ن دَ َ‬ ‫م ْ‬‫م وَ َ‬ ‫هي َ‬‫م إ ِب َْرا ِ‬‫قا ُ‬ ‫م َ‬‫ت َ‬ ‫ت ب َي َّنا ٌ‬ ‫ن {} ِفيهِ آَيا ٌ‬ ‫مي َ‬ ‫ل ِل َْعال َ ِ‬
‫عمران ‪ 96 :‬و ‪. [97‬‬
‫وكان في ذلك تنبيه على الحكم والسرار والمصالح والبركات المتنوعة‬
‫المحتوي هذا البيت العظيم عليها ‪ ،‬وكان ذلك داعيا إلى تعظيمه بغاية ما‬
‫يمكن من التعظيم ‪ ،‬أوجب الله على العباد حجه وقصده لداء المناسك التي‬
‫فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وعلمها أمته ‪ ،‬وأمرهم أن يأخذوا‬
‫عنه مناسكهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/172‬‬

‫فأوجبه على من استطاع إليه سبيل بأن قدر على الوصول إليه بأي مركوب‬
‫متيسر ‪ ،‬وبزاد يتزوده ويتم به السبيل ‪ ،‬وهذا هو الشرط العظم لوجوب‬
‫الحج ‪ ،‬وهذه الية صريحة في فرضية الحج ‪ ،‬وأنه ل يتم للعبد إسلم ول إيمان‬
‫وهو مستطيع إل بحجه ‪ ،‬وأن الله إنما أمر به العباد رحمة منه بهم ‪ ،‬وإيصال‬
‫لهم إلى أجل مصالحهم وأعلى مطالبهم ‪ ،‬وإل فالله غني عن العالمين‬
‫وطاعتهم ‪ ،‬فمن كفر فلم يلتزم لشرع الله فهو كافر ‪ ،‬ولن يضر إل نفسه ‪.‬‬
‫وأما آية البقرة فإن الله أمر فيها بإتمام الحج والعمرة بأركانهما وشروطهما‬
‫وجميع متمماتهما ; ول فرق في ذلك بين الفرض والنفل ‪ ،‬وبهذا تميز الحج‬
‫والعمرة عن غيرهما من العبادات ; وإن من شرع فيهما وجب عليه إتمامهما‬
‫لله مخلصا ‪ ،‬ويدخل في المر بإتمامهما أنه ينبغي للعبد أن يجتهد غاية‬
‫الجتهاد في فعل كل قول وفعل ووصف وحالة بها تمام الحج والعمرة ‪ ،‬وذلك‬
‫شيء كثير مفصل في كتب أهل العلم ‪ ،‬وأن من دخل فيهما فل يخرج منهما‬
‫إل بإتمامهما والتحلل منهما إل بما استثناه الله وهو الحصر ‪.‬‬

‫) ‪(1/173‬‬

‫م { ]البقرة ‪ [196 :‬أي ‪ :‬منعتم من الوصول إلى‬ ‫ولهذا قال ‪ } :‬فَإ ُ‬


‫صْرت ُ ْ‬
‫ح ِ‬
‫نأ ْ‬‫ِ ْ‬
‫البيت ‪ ،‬ومن تتميم المناسك بمرض أو عدو أو ذهاب نفقة أو ضللتم الطريق‬
‫م{‪،‬‬ ‫ُ‬
‫صْرت ُ ْ‬
‫ح ِ‬
‫أو غير ذلك من أنواع الحصر الداخلة في عموم قوله ‪ } :‬أ ْ‬
‫فاذبحوا ما تيسر من الهدي وهو شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة يذبحها‬
‫المحصر ويحلق رأسه ويحل من إحرامه بسبب الحصر ‪ ،‬كما فعل النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم وأصحابه لما صدهم المشركون عن البيت وهم محرمون عام‬
‫الحديبية ‪ ،‬فإن لم يتيسر الهدي على المحصر فهل يكفيه الحلق وحده ويحل ‪،‬‬
‫كما فعله الصحابة الذين لم يكن معهم هدي ‪ -‬وهو الصحيح ‪ -‬أو ينوب عن‬
‫الهدي صيام عشرة أيام قياسا على هدي التمتع كما قاله آخرون ثم يحل ؟‬

‫) ‪(1/174‬‬

‫ه { ‪ ،‬وفي هذا أن‬‫حل ّ ُ‬ ‫حّتى ي َب ْل ُغَ ال ْهَد ْيُ َ‬


‫م ِ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫قوا ُرُءو َ‬ ‫ثم قال تعالى ‪ } :‬وََل ت َ ْ‬
‫حل ِ ُ‬
‫المحرم يحرم عليه إزالة شيء من شعر بدنه تعظيما لهذا النسك ‪ ،‬وقاس‬
‫عليه أهل العلم إزالة الظفار بجامع الترفه ‪ ،‬ويستمر المنع من ذلك حتى يبلغ‬
‫الهدي محله ‪ ،‬وهو وقت ذبحه يوم النحر ‪ ،‬والفضل أن يكون الحلق بعد النحر‬
‫‪ ،‬ويجوز أن يقدم الحلق على النحر كما رخص في ذلك النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم حين سئل عمن قدم الحلق أو الرمي أو الذبح أو الطواف بعضها على‬
‫بعض ‪ ،‬فقال ‪ » :‬افعل ول حرج « ‪.‬‬

‫) ‪(1/175‬‬

‫ويستدل بالية الكريمة على أن المتمتع كالقارن والمفرد ل يحل من عمرته‬


‫إذا كان سائقا للهدي حتى يبلغ الهدي محله ‪ ،‬فقيل ‪ :‬إنه إذا حل من عمرته‬
‫بأن فرغ من الطواف والسعي بادر بالدخول بالحج بالنية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إنه بسوقه‬
‫للهدي صار قارنا ‪ ،‬وأن الهدي الذي استصحبه ‪ -‬حيث إنه كان للنسكين كليهما‬
‫‪ -‬مزج بين النسكين وصار صاحبه قارنا ‪ ،‬وهذا هو القول الصواب ‪ ،‬وإنما منع‬
‫تعالى من الحل لمن ساق الهدي قبل محله لما في سوق الهدي ‪ ،‬وما يتبعه‬
‫من كشف الرأس ‪ ،‬وترك أخذ الشعور ونحوها من الذل والخضوع لله‬
‫والنكسار له ‪ ،‬والتواضع الذي هو روح النسك وعين صلح العبد وكماله ‪،‬‬
‫وليس عليه في ذلك ضرر ; فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من رأسه من‬
‫مرض ينتفع بحلق رأسه أو قروح أو قمل أو نحو ذلك ‪ ،‬فإنه يحل له أن يحلق‬
‫رأسه ‪ ،‬ولكن يكون عليه فدية تخيير ‪ ،‬يخير بين صيام ثلثة أيام ‪ ،‬أو إطعام‬
‫ستة مساكين ‪ ،‬أو ذبح شاة ‪ ،‬وهذه تسمى فدية الذى ‪ ،‬وألحق بذلك إذا قلم‬
‫أظفاره ‪ ،‬أو لبس الذكر المخيط ‪ ،‬أو غطى رأسه ‪ ،‬أو تطيب المحرم من ذكر‬
‫وأنثى ‪ ،‬فكل هذا فديته فدية تخيير بين الصيام أو الطعام أو النسك ‪.‬‬

‫) ‪(1/176‬‬

‫وأما فدية قتل الصيد فقد ذكر الله التخيير فيها بين ذبح المثل من النعم ‪ ،‬أو‬
‫تقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدبر أو نصف صاع من غيره ‪ ،‬أو يصوم‬
‫عن إطعام كل مسكين يوما ; فهذه النواع فديتها تخيير ‪.‬‬
‫وأما المتمتع والقارن فإن هديهما هدي نسك ‪ ،‬غير هدي جبران ‪ ،‬وهو على‬
‫الترتيب ‪ ،‬إن تيسر الهدي وجب الهدي ‪ ،‬فإن لم يتيسر فعليه صيام عشرة‬
‫أيام ‪ ،‬ثلثة في الحج ‪ -‬ول يؤخرها عن أيام التشريق ‪ ، -‬وسبعة إذا رجع ‪ -‬أي ‪:‬‬
‫فرغ من جميع شؤون النسك ‪ ، -‬ودل إطلق إيجاب الصيام على أنه يجوز‬
‫فيها التتابع والتفريق ‪.‬‬
‫ك ( أي ‪ :‬وجوب الهدي على المتمتع والقارن ; أو بدله لمن لم يجد من‬ ‫) ذ َل ِ َ‬
‫َ‬
‫جدِ ال ْ َ‬
‫حَرام ِ { ‪ :‬وهم الفقية ؛ لن‬ ‫س ِ‬ ‫ري ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ض ِ‬
‫حا ِ‬ ‫ن أهْل ُ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫م ي َك ُ ْ‬ ‫م ْ‬
‫الصيام ‪ } ،‬ل ِ َ‬
‫من الحكمة في إيجاب الهدي على الفقي أنه لما حصل نسكين في سفرة‬
‫واحدة كان هذا من أعظم نعم الله ‪ ،‬فكان عليه أن يشكر الله على هذه‬
‫النعمة الجليلة ‪ ،‬ومن جملة الشكر إيجاب الهدي عليه ‪.‬‬

‫) ‪(1/177‬‬

‫وأما المقيمون في مكة أو كانوا في قربها ‪ -‬بحيث ل يقال لهم مسافرون ‪-‬‬
‫ه ‪ :‬في جميع‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫فليس عليهم هدي ول بدله لما ذكرنا من الحكمة َوات ّ ُ‬
‫أموركم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ‪ ،‬ومن ذلك امتثالكم لهذه المأمورات‬
‫َ‬
‫ديد ُ‬
‫ش ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫في هذه العبادة الجليلة ‪ ،‬واجتنابكم لمحظوراتها ‪َ } ،‬واعْل َ ُ‬
‫ب { أي ‪ :‬لمن عصاه ‪ ،‬وذلك موجب للتقوى ‪ ،‬فإن من خاف عقاب الله‬ ‫ال ْعِ َ‬
‫قا ِ‬
‫انكف عن السيئات ‪ ،‬كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب ‪،‬‬
‫وأما من لم يخف الله فإنه ل بد أن يتجرأ على المحارم ‪ ،‬ويتهاون بالفرائض ‪.‬‬

‫) ‪(1/178‬‬

‫ثم أخبر تعالى أن الحج واقع في أشهر معلومات عند المخاطبين ‪ ،‬بحيث ل‬
‫تحتاج إلى تعيين كما احتاج الصيام لتعيين شهره ‪ ،‬وكما بين تعالى أوقات‬
‫الصلوات الخمس ‪ ،‬وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم التي لم تزل‬
‫مستمرة في ذريته ‪ ،‬معروفة بينهم ‪ ،‬والمراد بالشهر المعلومات عند‬
‫الجمهور ‪ :‬شوال وذو القعدة ‪ ،‬وعشر أو ثلثة عشر من ذي الحجة ‪ ،‬فهي‬
‫التي يقع فيها الحرام بالحج غالبا ‪ ،‬وهي التي تقع فيها أفعال الحج ‪ :‬أركانه‬
‫ج { أي ‪ :‬عقده وأحرم به ؛ لن‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ن فََر َ‬
‫ض ِفيهِ ّ‬ ‫وواجباته ومكملته ‪ } ،‬فَ َ‬
‫م ْ‬
‫الشروع فيه يصيره فرضا ولو كان قبل ذلك نفل ‪.‬‬

‫) ‪(1/179‬‬

‫واستدل بهذه الية الشافعي ‪ ،‬ومن قال بقوله ‪ :‬إنه ل يجوز الحرام بالحج‬
‫قبل أشهره ‪ ،‬ولو قيل ‪ :‬إن الية فيها دللة لقول الجمهور بصحة الحرام‬
‫ج { دليل‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ن فََر َ‬
‫ض ِفيهِ ّ‬ ‫بالحج قبل أشهره لكان قريبا ‪ ،‬لن قوله ‪ } :‬فَ َ‬
‫م ْ‬
‫على أنه يقع الفرض فيهن وفي غيرهن ‪ ،‬وإل لما كان في القيد فائدة } فَلَ‬
‫ج { أي ‪ :‬يجب عليكم أن تعظموا حرمة‬ ‫ح ّ‬‫ل ِفي ال ْ َ‬
‫دا َ‬ ‫سوقَ وََل ِ‬
‫ج َ‬ ‫ث وََل فُ ُ‬
‫َرفَ َ‬
‫الحرام بالحج ‪ ،‬وخصوصا الواقع في أشهره ‪ ،‬وتصونوه عن كل ما يفسده أو‬
‫ينقضه من الرفث ‪ ،‬وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ‪ ،‬خصوصا التكلم‬
‫سوقَ { ‪ :‬وهو جميع المعاصي ‪،‬‬ ‫في أمور النكاح بحضرة النساء ‪ } ،‬وََل فُ ُ‬
‫ل { والجدال هو المماراة والمنازعة‬ ‫دا َ‬‫ج َ‬‫ومنها محظورات الحرام ‪ } ،‬وََل ِ‬
‫والمخاصمة ؛ لكونها تثير الشر وتوقع العداوة ‪ ،‬والمقصود من الحج الذل‬
‫والنكسار لله ‪ ،‬والتقرب إليه بما أمكن من القربات ‪ ،‬والتنزه عن مقارفة‬
‫السيئات ‪ ،‬فإنه يكون بذلك مبرورا ‪ ،‬والحج المبرور ليس له جزاء إل الجنة ‪،‬‬
‫وهذه الشياء ‪ -‬وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان ‪ -‬فإنه يتأكد المنع‬
‫منها في الحج ‪.‬‬

‫) ‪(1/180‬‬

‫واعلم أنه ل يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الوامر ‪ ،‬فلهذا‬
‫ن ( المفيدة‬‫م ْ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه { أتى ) ب ِ َ‬ ‫خي ْرٍ ي َعْل َ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ن َ‬ ‫فعَُلوا ِ‬
‫م ْ‬ ‫ما ت َ ْ‬
‫أتبعه بقوله ‪ } :‬وَ َ‬
‫لتنصيص العموم ؛ فكل عبادة وقربة فإنها تدخل في هذا ‪ ،‬والخبار بعلمه‬
‫يتضمن الحث على أفعال الخير خصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات‬
‫المنيفة فإنه ينبغي اغتنام الخيرات والمنافسة فيها من صلة وصيام وصدقة‬
‫وقراءة وطواف وإحسان قولي وفعلي ‪ } ،‬وَت ََزوُّدوا { ‪ :‬لهذا السفر المبارك ؛‬
‫فإن التزود فيه الستغناء عن الخلق وعدم التشوف لما عندهم ‪ ،‬وإعانة‬
‫المسافرين ‪ ،‬والتوسعة على الرفقة ‪ ،‬والنبساط والسرور في هذا السفر ‪،‬‬
‫وزيادة التقرب إلى الله تعالى ‪ ،‬وهذا الزاد المراد به إقامة البنية بلغة ومتاع ‪،‬‬
‫وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى‬
‫الذي هو زاد إلى دار القرار ‪ ،‬وهو الموصل لكمل لذة وأجل نعيم دائما أبدا ;‬
‫ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر وممنوع من‬
‫الوصول إلى دار المتقين ‪.‬‬

‫) ‪(1/181‬‬

‫وقد يتمكن الموفق من جعل الزاد الحسي يجمع الزادين ‪ :‬بأن يقصد به وجه‬
‫الله ‪ ،‬والقيام بواجب النفس والرفقة ومن يتصل به ‪ ،‬والقيام بالحسان‬
‫المستحب ‪ ،‬وقصد امتثال أمر الله ‪ ،‬فالنية هي الساس لكل خير ‪ ،‬التي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب{‬ ‫ن يا أوِلي اْلل َْبا ِ‬
‫قو ِ‬
‫تجعل الناقص كامل والعادة عبادة ‪ ،‬ثم قال ‪َ } :‬وات ّ ُ‬
‫أي ‪ :‬يا أهل العقول الرزينة اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ‪،‬‬
‫وتركها دليل على فساد العقل والرأي ‪.‬‬
‫ولما أمر بتقواه أخبر أن ابتغاء فضله بالشتغال بالتكسب في التجارة في‬
‫مواسم الحج وغيرها ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود‬
‫هو الحج ‪ ،‬وكان الكسب حلل منسوبا إلى فضل الله معترفا فيه بنعمة الله ‪،‬‬
‫ل منسوبا إلى حذق العبد والوقوف مع السبب ونسيان المسبب ‪ ،‬فإن هذا هو‬
‫الحرج بعينه في كل وقت ‪ ،‬فكيف إذا قارن النسك الفاضل ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫حَرام ِ {‬ ‫م ْ‬
‫شعَرِ ال َ‬ ‫عن ْد َ ال ْ َ‬ ‫ت َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ‬
‫ه ِ‬ ‫ن عََرَفا ٍ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫وفي قوله ‪ } :‬فَإ َِذا أفَ ْ‬
‫ضت ُ ْ‬
‫دللة على أمور ‪:‬‬
‫* أحدها ‪ :‬أن الوقوف بعرفة من المشاعر الجليلة ‪ ،‬ومن أركان الحج ‪ ،‬فإن‬
‫الفاضة من عرفات ل تكون إل بعد الوقوف الذي هو ركن الحج العظم بعد‬
‫الطواف ‪.‬‬

‫) ‪(1/182‬‬

‫* الثاني ‪ :‬المر بذكر الله عند المشعر الحرام ‪ ،‬وهو المزدلفة ‪ ،‬وذلك أيضا‬
‫معروف ‪ ،‬يكون الحاج ليلة النحر بائنا بها ‪ ،‬وبعد صلة الفجر يقف في‬
‫المزدلفة داعيا حتى يسفر جدا ‪ ،‬ويدخل في ذكر الله عند المشعر الحرام ما‬
‫يقع في المشعر من الصلوات فرضها ونفلها ‪.‬‬
‫* الثالث ‪ :‬أن الوقوف بمزدلفة متأخر عن الوقوف بعرفة ‪ ،‬كما تدل عليه‬
‫) الفاء ( المفيدة للترتيب ‪.‬‬
‫* الرابع والخامس ‪ :‬أن عرفات ومزدلفة كليهما من مشاعر الحج المقصود‬
‫فعلها وإظهارها ‪.‬‬
‫* السادس ‪ :‬أن مزدلفة في الحرم ‪ ،‬كما قيده بالمشعر الحرام ‪.‬‬
‫* السابع ‪ :‬أن عرفة بالحل كما هو مفهوم التقييد بمزدلفة ‪.‬‬

‫) ‪(1/183‬‬

‫ن { أي ‪ :‬اذكروا الله‬ ‫ضاّلي َ‬


‫ن ال ّ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ل َ ِ‬
‫م َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫داك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫} َواذ ْك ُُروهُ ك َ َ‬
‫ما هَ َ‬
‫كما من عليكم بالهداية بعد الضللة ‪ ،‬وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ‪،‬‬
‫فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها ومقابلتها بالكثار من ذكر المنعم‬
‫بالقلب واللسان ‪ } ،‬ث ُم أ َفيضوا { أي ‪ :‬من مزدلفة } من حي ُ َ‬
‫ث أَفا َ‬
‫ض‬ ‫ِ ْ َ ْ‬ ‫ّ ِ ُ‬
‫س { ‪ :‬من لدن إبراهيم إلى هذا الوقت ‪ ،‬والمقصود من هذه الفاضة كان‬ ‫الّنا ُ‬
‫معروفا عندهم ‪ ،‬وهو رمي الجمار ‪ ،‬وذبح الهدايا ‪ ،‬والطواف ‪ ،‬والسعي ‪،‬‬
‫والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق ‪ ،‬وتكميل بقية المناسك ‪.‬‬

‫) ‪(1/184‬‬

‫ولما كانت هذه الفاضة يقصد بها ما ذكر ‪ ،‬والمذكورات آخر المناسك ‪ ،‬أمر‬
‫تعالى بعد الفراغ منها باستغفاره ؛ خشية الخلل الواقع من العبد في أداء‬
‫العبادة وتقصيره فيها ‪ ،‬وبالكثار من ذكره ؛ شكرا له على نعمة التوفيق لهذه‬
‫العبادة العظيمة وتكميلها ‪ ،‬وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة أن يستغفر‬
‫الله عن التقصير ‪ ،‬ويشكره على التوفيق ‪ ،‬فهذا حقيق بأن الله يجبر له ما‬
‫نقص منها ويتقبلها ‪ ،‬ويزيده نعما أخرى ‪ ،‬لن من جهل حق ربه فرأى نفسه‬
‫أنه قد كمل حقوق العبادة فأعجب بنفسه ‪ ،‬ومن بعبادته على ربه ‪ ،‬وتراءى له‬
‫أنه قد جعلت له محل ومنزلة رفيعة ‪ ،‬فهذا حقيق بالمقت ‪ ،‬ويخشى عليه من‬
‫رد العمل ‪.‬‬

‫) ‪(1/185‬‬

‫ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ‪ ،‬وأن الجميع يسألونه مطالبهم ‪،‬‬
‫ويستدفعونه ما يضرهم ; ولكن هممهم ومقاصدهم متباينة ‪ ،‬فمنهم من‬
‫يقول ‪َ } :‬رب َّنا آت َِنا ِفي الد ّن َْيا { أي ‪ :‬يسأل ربه من مطالب دنياه وشهواته‬
‫ق { ل رغبة له فيها ‪ ،‬ول حظ له منها ‪،‬‬‫خَل ٍ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫ه ِفي اْل ِ‬
‫خَرةِ ِ‬ ‫ما ل َ ُ‬
‫فقط ‪ } ،‬وَ َ‬
‫ومنهم عالي الهمة من يدعو الله لمصلحة الدارين ‪ ،‬ويفتقر إلى ربه في‬
‫مهمات دينه ودنياه ‪ ،‬وكل من هؤلء وهؤلء له نصيب من كسبهم وعملهم ‪،‬‬
‫وسيجازيهم الله على حسب أعمالهم ونياتهم ‪ ،‬جزاء دائرا بين الفضل‬
‫والحسان والكرم للمقبولين ‪ ،‬وبين العدل والحكمة لغيرهم ‪ ،‬وفي هذه الية‬
‫دليل على أن الله تعالى يقبل دعوة كل داع ‪ ،‬مسلما كان أو كافرا ‪ ،‬برا أو‬
‫فاجرا ‪ ،‬ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليل على محبته وقربه منه إل في‬
‫مطالب الخرة ومهمات الدين ‪ ،‬فمن أجيبت دعوته في هذه المور الدائم‬
‫نفعها كان من البشرى ‪ ،‬وكان أكبر دليل على بره وقربه من ربه ‪.‬‬

‫) ‪(1/186‬‬

‫والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ‪ ،‬وما‬
‫به تكمل حياته ‪ ،‬من رزق هنيء واسع حلل ‪ ،‬وزوجة صالحة ‪ ،‬وولد تقر به‬
‫العين ‪ ،‬ومن راحة وعلم نافع وعمل صالح ‪ ،‬وما يتبع ذلك من المطالب‬
‫النافعة المحبوبة والمباحة ‪.‬‬
‫وأما حسنة الخرة فهي السلمة من العقوبات التي يستقبلها العباد من عذاب‬
‫القبر والموقف وعذاب النار ‪ ،‬وحصول رضا الله ‪ ،‬والفوز بالنعيم المقيم ‪،‬‬
‫والقرب من الرب الرحيم ‪ ،‬فهذا الدعاء أجمع الدعية وأكملها وأولها باليثار ‪،‬‬
‫ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ‪ ،‬ويحث عليه ‪.‬‬

‫) ‪(1/187‬‬

‫ولما أكمل الله تعالى أحكام النسك أمر بالكثار من ذكره في اليام‬
‫المعدودات ‪ ،‬وهي أيام التشريق في قول جمهور المفسرين ‪ ،‬وذلك لمزيتها‬
‫وشرفها وكون بقية المناسك تفعل بها ‪ ،‬ولكون الناس فيها أضيافا لله ‪ ،‬ولهذا‬
‫حرم صيامها ‪ ،‬فللذكر فيها مزية ليست لغيرها ; ولهذا قال النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ » :‬أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله « ‪ ،‬ويدخل في ذكر‬
‫الله رمي الجمار ‪ ،‬والتكبير عند رميها ‪ ،‬والدعاء بين الجمرتين ‪ ،‬والذبح‬
‫والتسمية فيه ‪ ،‬والصلوات التي تفعل فيها من فرائض ونوافل ‪ ،‬والذكر المقيد‬
‫بعد الفرائض فيها ‪ ،‬وعند كثير من أهل العلم أنه يستحب فيها التكبير المطلق‬
‫ن{‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫ج َ‬
‫ل ِفي ي َوْ َ‬ ‫ن ت َعَ ّ‬ ‫كالعشر ‪ ،‬فجميع ما يقرب إلى الله داخل بذكره ‪ } :‬فَ َ‬
‫م ْ‬
‫أي ‪ :‬خرج من منى ‪ ،‬ونفر منها قبل غروب الشمس فل إثم عليه ‪ ،‬ومن تأخر‬
‫بأن بات بها ليلة الثالث من أيام التشريق ؛ ليرمي من غده فل إثم عليه ‪،‬‬
‫وهذا تخفيف من الله على عباده حين أباح المرين ‪ ،‬مع أن التأخر أرجح‬
‫ن‬‫م ِ‬‫لموافقته فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة العبادات ‪ ،‬وقوله ‪ } :‬ل ِ َ‬
‫قى { هذا من الحتراز العالي ‪ ،‬لن نفي الحرج يوهم العموم ‪ ،‬فقيل ذلك‬ ‫ات ّ َ‬
‫بهذا الشرط الذي هو‬

‫) ‪(1/188‬‬

‫ه { ‪ :‬بامتثال أوامره ‪،‬‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫شرط لنفي الحرج في كل شيء ‪َ } ،‬وات ّ ُ‬
‫َ‬
‫ن { فمجازيكم بأعمالكم ‪ ،‬فمن‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ‬ ‫موا أن ّك ُ ْ‬ ‫واجتناب نواهيه ‪َ } ،‬واعْل َ ُ‬
‫اتقاه وجد عنده جزاء المتقين ‪ ،‬ومن لم يتقه عاقبه عقوبة تارك التقوى ‪ ،‬فإن‬
‫التقوى هي ميزان الثواب والعقاب في القائم بها والمضيع لها ‪ ،‬فالعلم‬
‫بالجزاء واليمان به هو أعظم الدواعي للقيام بالتقوى ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ن َل ت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫في َ‬
‫ي ِللطائ ِ ِ‬ ‫شي ًْئا وَطهّْر ب َي ْت ِ َ‬
‫ك ِبي َ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ن ال ْب َي ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫كا َ‬ ‫م َ‬ ‫} وَإ ِذ ْ ب َوّأَنا ِل ِب َْرا ِ‬
‫هي َ‬
‫جود ِ { الية ‪ -‬وما تلها ‪] -‬الحج ‪. [29 - 26 :‬‬ ‫ن َوالّرك ِّع ال ّ‬
‫س ُ‬ ‫مي َ‬ ‫قائ ِ ِ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫يذكر الله تعالى عظمة البيت الحرام وجللته ‪ ،‬وعظمة بانيه ‪ ،‬وهو خليل‬
‫ْ‬
‫ت { أي ‪ :‬هيأناه له وأنزلناه إياه‬ ‫ن ال ْب َي ْ ِ‬‫كا َ‬‫م َ‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫الرحمن فقال ‪ } :‬وَإ ِذ ْ ب َوّأَنا ِل ِب َْرا ِ‬
‫‪ ،‬بحيث جعل قسما من ذريته هم سكانه ‪ ،‬وأمره الله ببنيانه ‪ ،‬فبناه وأسسه‬
‫على تقوى الله ورضوانه هو وابنه إسماعيل بنية صادقة وخضوع لله وإخلص‬
‫ودعاء منهما أن يتقبل منهما هذا العمل الجليل ‪ ،‬فتقبله الله ‪.‬‬

‫) ‪(1/189‬‬

‫فهذه آثار القبول لهذا البيت في كل وقت وجيل متواصلة ‪ ،‬ووصاه بأن ل‬
‫يشرك به شيئا ‪ ،‬بأن ينفي الشرك عنه ‪ ،‬وعن ذريته ‪ ،‬وعمن وصلت إليه‬
‫ي { أي ‪ :‬من الشرك والمعاصي ‪ ،‬ومن النجاس‬ ‫دعوته ‪ } ،‬وَط َهّْر ب َي ْت ِ َ‬
‫والدناس ‪ ،‬وأضافه إلى نفسه ليكتسب شرفا إلى شرفه ‪ ،‬ولتعظم محبته في‬
‫القلوب ‪ ،‬لكونه بيت محبوبها العظم ‪ ،‬وتنصب وتهوي إليه الفئدة من كل‬
‫جانب ‪ ،‬وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه للطائفين به ; والقائمين عنده‬
‫جودِ { أي ‪ :‬المصلين ‪ ،‬أي ‪ :‬طهره لهؤلء‬ ‫للعبادات المتنوعة ‪َ } ،‬والّرك ِّع ال ّ‬
‫س ُ‬
‫الفضلء الذين ليس لهم هم إل طاعة مولهم وما يقربهم إليه ‪ ،‬فهؤلء لهم‬
‫الحق ‪ ،‬ومن إكرامهم تطهير هذا البيت لهم ‪ ،‬وتهيئته لما يريدونه عنده ‪،‬‬
‫ويدخل في تطهيره تطهيره من الصوات اللغية المرتفعة التي تشوش على‬
‫المتعبدين بالصلة والطواف والقراءة وغيرها ‪ ،‬وقدم الطواف لختصاصه بهذا‬
‫َ‬
‫ج{‬ ‫س ِبال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫البيت ‪ ،‬ثم العتكاف لختصاصه بجنس المساجد ‪ } ،‬وَأذ ّ ْ‬
‫ن ِفي الّنا ِ‬
‫أي ‪ :‬أعلمهم به وادعهم إليه ‪ ،‬وبلغ دانيهم وقاصيهم فرضه وفضيلته ‪ ،‬فإنك‬
‫جاًل { أي ‪ :‬مشاة على‬ ‫إذا دعوتهم عن أمر الله أتوك حجاجا وعمارا } رِ َ‬
‫أرجلهم من الشوق ‪ } ،‬وَعََلى ك ُ ّ‬
‫ل‬

‫) ‪(1/190‬‬
‫مرٍ { أي ‪ :‬ناقة ضامر تقطع المهامه والمفاوز ‪ ،‬وتواصل السير حتى تأتي‬ ‫ضا ِ‬‫َ‬
‫ق { أي ‪ :‬مكان وبلد بعيد ‪ ،‬وقد فعل‬ ‫مي ٍ‬‫ج عَ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن كل ف ّ‬‫م ْ‬
‫إلى أشرف الماكن } ِ‬
‫الخليل صلى الله عليه وسلم ذلك ‪ ،‬ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فدعيا الناس إلى حج هذا البيت ‪ ،‬وأبديا وأعادا فيه فحصل ما وعد‬
‫الله به ‪ ،‬أتاه الناس رجال وركبانا من مشارق الرض ومغاربها ‪.‬‬
‫ع‬
‫مَنافِ َ‬
‫دوا َ‬ ‫ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام مرغبا فيه فقال ‪ } :‬ل ِي َ ْ‬
‫شهَ ُ‬
‫م { أي ‪ :‬لينالوا بوصولهم لبيت الله في النساك منافع متنوعة دينية ‪،‬‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫ومنافع دنيوية كالتكسب وحصول الرباح ‪ ،‬وهذا أمر مشاهد يعرفه كل أحد ‪،‬‬
‫فجميع العلوم والعبادات الدينية التي تفعل في تلك البقاع الفاضلة ‪ ،‬وما جعل‬
‫الله لها من التضعيف داخل في هذه المنافع ‪ ،‬وجميع المنافع الدنيوية التي ل‬
‫تعد ول تحصى داخلة في ذلك ; فصدق الله وعده ‪ ،‬وأنجز ما قاله ‪ ،‬وكان ذلك‬
‫آية وبرهانا على توحيده وصدق رسله ‪.‬‬

‫) ‪(1/191‬‬

‫َ‬
‫مةِ‬
‫ن ب َِهي َ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ت عََلى َ‬
‫ما َرَزقَهُ ْ‬ ‫معُْلو َ‬
‫ما ٍ‬ ‫م الل ّهِ ِفي أّيام ٍ َ‬ ‫وقوله ‪ } :‬وَي َذ ْك ُُروا ا ْ‬
‫س َ‬
‫اْل َن َْعام ِ { ‪ ،‬وهذه تجمع المرين ‪ :‬الدينية والدنيوية ; أي ‪ :‬ليذكروا اسم الله‬
‫عند ذبح الهدايا ؛ شكرا لله على ما رزقهم منها ويسرها لهم ‪ ،‬فإذا ذبحتموها‬
‫س ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫قيَر { أي ‪ :‬شديد الفقر ‪.‬‬ ‫ف ِ‬ ‫موا ال َْبائ ِ َ‬
‫من َْها وَأط ْعِ ُ‬‫} فَك ُُلوا ِ‬

‫) ‪(1/192‬‬

‫معْت َّر { ]الحج ‪ } . [36 :‬ال ْ َ‬ ‫َ‬


‫قان ِعَ { وهو‬ ‫قان ِعَ َوال ْ ُ‬
‫موا ال ْ َ‬ ‫والية الخرى ‪ } :‬وَأط ْعِ ُ‬
‫معْت َّر { الفقير السائل ‪ ،‬وفي هذا المر‬ ‫الفقير الذي ل يسأل الناس ‪َ } ،‬وال ْ ُ‬
‫بالكل والهداء والصدقة ‪ ،‬فإن المر يشمل أكل أهلها منها وإهداءهم‬
‫م { أي ‪ :‬يستكملوا بقية أنساكهم ‪ ،‬ويزيلوا عنهم‬ ‫فث َهُ ْ‬
‫ضوا ت َ َ‬ ‫م ل ْي َ ْ‬
‫ق ُ‬ ‫للغنياء ‪ } ،‬ث ُ ّ‬
‫م{‬‫ذوَرهُ ْ‬ ‫ْ‬
‫محظورات الحرام ‪ ،‬وما ترتب عليها من الشعث ونحوه } وَلُيوُفوا ن ُ ُ‬
‫التي أوجبوها على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا ‪ ،‬فنفس عقد العبد‬
‫ق { أي ‪ :‬القديم‬ ‫للحرام إيجاب منه على نفسه ‪ } ،‬وَل ْي َط ّوُّفوا ِبال ْب َي ْ ِ ْ‬
‫ت العَِتي ِ‬
‫أقدم المساجد على الطلق ‪ ،‬المعتق من تسلط الجبابرة عليه ‪ ،‬وتخصيص‬
‫الطواف به دون غيره من المناسك لفضله وشرفه ‪ ،‬ولكونه المقصود وما‬
‫قبله وما بعده وسائل وتوابع ‪ ،‬ولنه يتعبد به لله مع النساك ووحده ‪ ،‬وأما‬
‫بقية النساك فل تكون عبادة إل إذا كانت تابعة لنسك ‪.‬‬

‫) ‪(1/193‬‬

‫فصل‬
‫في آيات تتعلق بالجهاد وتوابعه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ديٌر {‬
‫ق ِ‬
‫مل َ‬‫صرِهِ ْ‬
‫ه عَلى ن َ ْ‬
‫ن الل َ‬
‫موا وَإ ِ ّ‬
‫م ظل ِ ُ‬ ‫قات َُلو َ‬
‫ن ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قال تعالى ‪ } :‬أذِ َ‬
‫‪] ...‬الحج ‪ 39 :‬و ‪. [40‬‬
‫كان المسلمون في أول المر مأمورين بكف اليدي عن قتال الكفار ‪ ،‬وإنما‬
‫جهادهم بالدعوة لحكمة ظاهرة ‪ ،‬فلما اضطهدوا واضطرهم العداء إلى ترك‬
‫بلدهم وأوطانهم ‪ ،‬وقتلوا من قتلوا ‪ ،‬وحبسوا من حبسوا ‪ ،‬وجدوا في العداوة‬
‫البليغة بكل طريق ‪ ،‬وهاجر المسلمون بسبب ذلك إلى المدينة ‪ ،‬وقواهم الله‬
‫على قتال العداء ‪ ،‬وقد رماهم العداء عن قوس واحدة ‪ ،‬فحينئذ أذن الله‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫موا { لمنعهم من‬ ‫م ظ ُل ِ ُ‬ ‫قات َُلو َ‬
‫ن ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫لهم في القتال ‪ ،‬ولهذا قال ‪ } :‬أذِ َ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫دينهم ‪ ،‬وإخراجهم من ديارهم ‪ ،‬ومطاردتهم لهم في كل مكان ‪ } ،‬وَإ ِ ّ‬
‫ديٌر { ‪ ،‬وهذا مع أمره لهم بفعل السباب ‪ ،‬ومقاومة العداء‬ ‫م لَ َ‬
‫ق ِ‬ ‫عََلى ن َ ْ‬
‫صرِهِ ْ‬
‫بكل مستطاع أمر لهم بالتوكل عليه ‪ ،‬واستنصاره ‪ ،‬والطلب منه ‪.‬‬

‫) ‪(1/194‬‬

‫م { بالذية والفتنة‬‫ن دَِيارِهِ ْ‬


‫م ْ‬
‫جوا ِ‬ ‫خرِ ُ‬‫ن أُ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ثم ذكر صفة عدوانهم ‪ ،‬فقال ‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫بغير حق إل أن ذنبهم إيمانهم بالله ‪ ،‬واعترافهم بأنه ربهم وإلههم ‪ ،‬وأنهم‬
‫أخلصوا له الدين ‪ ،‬وتبرءوا من عبادة المخلوقين ‪ ،‬وهذا كما قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫ميدِ { ]البروج ‪. [8 :‬‬ ‫ح ِ‬‫زيزِ ال ْ َ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ ال ْعَ ِ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬‫م إ ِّل أ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫موا ِ‬‫ق ُ‬
‫ما ن َ َ‬
‫} وَ َ‬
‫وهذا ظاهر في حكمة الجهاد ‪ ،‬وعظم مصلحته ‪ ،‬وأنه من الضروريات في‬
‫الدين ; فإن المقصود به إقامة دين الله ‪ ،‬والدعوة إلى عبادته التي خلق الله‬
‫المكلفين لها ‪ ،‬وأوجبها عليهم ‪ ،‬ودفع كل من قاوم المر الضروري ‪ ،‬ومقاومة‬
‫الظالمين المعتدين على دين الله وعلى المؤمنين من عباده كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ه ل ِل ّهِ { ]النفال ‪. [39 :‬‬ ‫ن ك ُل ّ ُ‬‫دي ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫كو َ‬ ‫ة وَي َ ُ‬
‫ن فِت ْن َ ٌ‬‫كو َ‬ ‫حّتى َل ت َ ُ‬ ‫} وََقات ُِلوهُ ْ‬
‫م َ‬

‫) ‪(1/195‬‬

‫معُ وَب ِي َعٌ‬


‫وا ِ‬
‫ص َ‬
‫ت َ‬ ‫ض ل َهُد ّ َ‬
‫م ْ‬ ‫م ب ِب َعْ ٍ‬
‫ضهُ ْ‬ ‫ولهذا قال ‪ } :‬وَل َوَْل د َفْعُ الل ّهِ الّنا َ‬
‫س ب َعْ َ‬
‫م الل ّهِ ك َِثيًرا { ‪ :‬فلول مدافعة الله الناس‬ ‫جد ُ ي ُذ ْك َُر ِفيَها ا ْ‬
‫س ُ‬ ‫سا ِ‬‫م َ‬
‫ت وَ َ‬ ‫صل َ َ‬
‫وا ٌ‬ ‫وَ َ‬
‫بعضهم ببعض بأسباب متعددة ‪ ،‬وطرق متنوعة قدرية وشرعية ‪ ،‬وأعظمها‬
‫وأجلها وأزكاها الجهاد في سبيله لستولى الكفار الظالمون ‪ ،‬ومحقوا أديان‬
‫الرسل ‪ ،‬فقتلوا المؤمنين بهم ‪ ،‬وهدموا معابدهم ‪ ،‬ولكن ألطاف الله‬
‫عظيمة ‪ ،‬وأياديه جسيمة ‪ ،‬وبهذا وشبهه يعرف حكمة الجهاد الديني ‪ ،‬وأنه من‬
‫الضروريات ل كقتال الظلمة المبني على العداوات والجشع والظلم‬
‫والستعباد للخلق ‪ ،‬بل الجهاد السلمي مرماه وغرضه الوحيد إقامة العدل ‪،‬‬
‫وحصول الرحمة ‪ ،‬واستعباد الخلق لخالقهم ‪ ،‬وأداء الحقوق كلها ‪ ،‬ونصر‬
‫المظلومين ‪ ،‬وقمع الظالمين ‪ ،‬ونشر الصلح والصلح المطلق بكل وجه‬
‫واعتبار ‪ ،‬وهو من أعظم محاسن دين السلم ‪.‬‬

‫) ‪(1/196‬‬

‫َ‬
‫ن{‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫ه ك َِثيًرا ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م تُ ْ‬ ‫ة َفاث ْب ُُتوا َواذ ْك ُُروا الل ّ َ‬ ‫م فِئ َ ً‬ ‫مُنوا إ َِذا ل َ ِ‬
‫قيت ُ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫صب ُِروا إ ِ ّ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫حك ُ ْ‬‫ب ِري ُ‬ ‫شُلوا وَت َذ ْهَ َ‬ ‫ف َ‬ ‫عوا فَت َ ْ‬ ‫ه وََل ت ََناَز ُ‬ ‫سول َ ُ‬‫ه وََر ُ‬‫طيُعوا الل ّ َ‬ ‫} وَأ ِ‬
‫َ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫كوُنوا َ‬ ‫ن {} وََل ت َ ُ‬
‫س‬‫م ب َطًرا وَرَِئاَء الّنا ِ‬ ‫ن دَِيارِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خَر ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬
‫معَ ال ّ‬ ‫َ‬
‫حيط { ]النفال ‪. [47 - 45 :‬‬ ‫ٌ‬ ‫م ِ‬‫ن ُ‬
‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫ل اللهِ َوالل ُ‬ ‫ّ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ص ّ‬ ‫وَي َ ُ‬
‫هذه اليات تضمنت المر بجهاد العداء ‪ ،‬والرشاد إلى السباب التي ينبغي‬
‫للجيوش والمجاهدين الخذ بها ‪ ،‬فمن أعظمها وأهمها أمران ‪ :‬الصبر ‪ ،‬وهو‬
‫الثبات التام وإبداء كل مجهود في تحصيل ذلك ‪ ،‬والثاني ‪ :‬التوكل على الله ‪،‬‬
‫والتضرع إليه ‪ ،‬والكثار من ذكره ‪ ،‬فمتى اجتمع المران على وجه الكمال‬
‫والتكميل فقد أتى المجاهدون بالسباب الوحيدة للنصر والفلح ‪ ،‬فليبشروا‬
‫بنصر الله وليثقوا بوعده ‪.‬‬

‫) ‪(1/197‬‬

‫فيدخل بالمر بالصبر والثبات تمرين النفوس على ذلك ‪ ،‬فإنه من يتصبر‬
‫يصبره الله ‪ ،‬وتعلم الرمي والركوب والفنون العسكرية المناسبة للزمان ‪،‬‬
‫فإن التعليم وتعلم أمور الجهاد من أكبر العون على الثبات والصبر ; ومن ذلك‬
‫الحث على الشجاعة ‪ ،‬والسعي في أسبابها ‪ ،‬والترغيب في فضائل الجهاد ‪،‬‬
‫وما فيه من الثمرات العاجلة والجلة ‪ ،‬وما في تضييعه من ضياع الدين والدنيا‬
‫‪ ،‬واستيلء العداء ‪ ،‬والذل والدمار ‪ ،‬فإن النفوس البية والهمم العلية ل‬
‫ترضى لنفسها بغير هذا الخلق الفاضل الذي هو أعلى الخلق وأنفعها ‪ ،‬قال‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫ما لَ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن اللهِ َ‬
‫م َ‬
‫ن ِ‬‫جو َ‬
‫ن وَت َْر ُ‬
‫مو َ‬
‫ما ت َأل ُ‬
‫نك َ‬ ‫مو َ‬
‫م ي َأل ُ‬
‫ن فإ ِن ّهُ ْ‬
‫مو َ‬
‫ن ت َكوُنوا ت َأل ُ‬
‫} إِ ْ‬
‫ن { ]النساء ‪ ، [104 :‬فحثهم على الصبر بتأملهم وطمعهم في الجر‬ ‫ي َْر ُ َ‬
‫جو‬
‫والثواب وإدراك المقامات العالية ‪.‬‬
‫وقال أيضا في ذم الناكلين ‪ ،‬وترغيب التائبين الصابرين ‪:‬‬

‫) ‪(1/198‬‬

‫ك بأ َنهم َل يصيبهم ظ َ ٌ‬
‫ل الل ّهِ وََل ي َط َُئو َ‬
‫ن‬ ‫سِبي ِ‬‫ة ِفي َ‬ ‫ص ٌ‬
‫م َ‬ ‫خ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب وََل َ‬ ‫ص ٌ‬ ‫مأ وََل ن َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِ ُُ ْ‬ ‫} ذ َل ِ َ ِ ّ ُ ْ‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ح إِ ّ‬
‫صال ِ ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫م ٌ‬ ‫م ب ِهِ عَ َ‬ ‫َ‬
‫ب لهُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ن عَد ُوّ ن َي ْل إ ِل كت ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فاَر وَل ي ََنالو َ‬ ‫ُ‬
‫ظ الك ّ‬ ‫ْ‬ ‫موْط ًِئا ي َِغي ُ‬ ‫َ‬
‫َل يضيع أ َ‬
‫قط َُعو َ‬
‫ن‬ ‫صِغيَرة ً وََل ك َِبيَرة ً وََل ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫{}‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ني‬
‫ِ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ج‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫واديا إّل ك ُت ِب ل َهم ل ِيجزيهم الل ّه أ َ‬
‫ن { ]التوبة ‪ 120 :‬و‬ ‫مُلو َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫س‬‫َ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ًِ ِ‬
‫‪. [121‬‬
‫حّر‬ ‫ْ‬
‫فُروا ِفي ال َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وقال عن المنافقين ونكولهم عن مشقة الجهاد ‪ } :‬وَقالوا ل ت َن ْ ِ‬
‫ن { ]التوبة ‪ [81 :‬أي ‪ :‬لو كان عندهم‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫حّرا ل َوْ َ‬ ‫شد ّ َ‬ ‫م أَ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ل َناُر َ‬ ‫قُ ْ‬
‫فقه نافع في تنزيل الشياء منازلها ‪ ،‬وتقديم ما ينبغي تقديمه لثروا مشقة‬
‫الجهاد على راحة القعود الضار عاجل وآجل ‪.‬‬
‫وفي هذا أنه بحسب فقه العبد وعلمه ويقينه يكون قيامه بالجهاد ‪ ،‬وصبره‬
‫عليه وثباته ‪ ،‬ومن دواعي الصبر وهو من الفقه أيضا أنه إذا علم المجاهد أنه‬
‫على الحق ويجاهد أهل الباطل أن هذا أعلى الغايات وأشرفها وأحقها ‪ ،‬وأن‬
‫الحق منصور وعاقبته حميدة ‪.‬‬

‫) ‪(1/199‬‬

‫ومن دواعي الصبر الثقة بالله وبوعده ؛ فإن الله وعد الصابرين العون والنصر‬
‫‪ ،‬وأنه معهم في كل أحوالهم ‪ ،‬ومن كان الله معه فلو اجتمع عليه من‬
‫بأقطارها لم يخف إل الله ‪ ،‬ومما يعين على الصبر والثبات ) المر الثاني (‬
‫وهو التوكل على الله ‪ ،‬وقوة العتماد عليه ‪ ،‬والتضرع إليه في طلب النصر ‪،‬‬
‫والكثار من ذكره ‪ ،‬كما قال تعالى هنا حيث رتب على هذا الفلح ‪َ } :‬واذ ْك ُُروا‬
‫ة ك َِثيَرةً‬ ‫ت فِئ َ ً‬ ‫ن فِئ َةٍ قَِليل َةٍ غَل َب َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن { وقال تعالى ‪ } :‬ك َ ْ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬ ‫ه ك َِثيًرا ل َعَل ّك ُ ْ‬‫الل ّ َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [249 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫معَ َال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫َ‬
‫م‬
‫صاب َهُ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ما وَهَُنوا ل ِ َ‬ ‫ن ك َِثيٌر فَ َ‬ ‫ه رِب ّّيو َ‬ ‫معَ ُ‬
‫ل َ‬ ‫ي َقات َ َ‬‫ن ن َب ِ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫وقال تعالى ‪ } :‬وَك َأي ّ ْ‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن {} وَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫كاُنوا َوالل ّ ُ‬ ‫ست َ َ‬‫ما ا ْ‬ ‫فوا وَ َ‬ ‫ضعُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ل الل ّهِ وَ َ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ِفي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مَنا‬‫دا َ‬ ‫ت أقْ َ‬ ‫مرَِنا وَث َب ّ ْ‬ ‫سَرافََنا ِفي أ ْ‬ ‫فْر ل ََنا ذ ُُنوب ََنا وَإ ِ ْ‬ ‫ن َقاُلوا َرب َّنا اغْ ِ‬ ‫م إ ِّل أ ْ‬ ‫قَوْل َهُ ْ‬
‫ة‬
‫خَر ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ن ثَ َ‬ ‫س َ‬‫ح ْ‬ ‫ب الد ّن َْيا وَ ُ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ثَ َ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ن {} َفآَتاهُ ُ‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫ْ‬
‫قوْم ِ ال َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صْرَنا عَلى ال َ‬ ‫َوان ْ ُ‬
‫{ ]آل عمران ‪. [148 - 146 :‬‬

‫) ‪(1/200‬‬

‫َ‬
‫ه { ‪] . . .‬محمد ‪ [6 :‬أي ‪:‬‬ ‫صُروا الل ّ َ‬ ‫ن ت َن ْ ُ‬‫مُنوا إ ِ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫وقال تعالى ‪ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫تقوموا بدينه وبالحق الذي جاء به رسوله مخلصين لله ‪ ،‬قاصدين أن تكون‬
‫كلمة الله هي العليا ينصركم ‪ ،‬ويثبت أقدامكم ‪ ،‬وقال تعالى ‪:‬‬
‫ه‬
‫ن ب َعْدِ ِ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫صُرك ْ‬ ‫ن َذا ال ّ ِ‬
‫ذي ي َن ْ ُ‬ ‫م ْ‬‫م فَ َ‬ ‫خذ ُل ْك ُ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫غال ِ َ‬ ‫ه فََل َ‬ ‫م الل ّ ُ‬‫صْرك ُ ُ‬‫ن ي َن ْ ُ‬‫} إِ ْ‬
‫ن { ]آل عمران ‪. [160 :‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫وَعََلى اللهِ فلي َت َوَك ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫فإخباره بأنه المتفرد بنصرهم ‪ ،‬وأن غيره ل يملك من النصر شيئا ‪ ،‬وأمرهم‬
‫بالتوكل عليه أمر لهم بأقوى السباب النافعة في هذا المقام العظيم ; وقال‬
‫َ‬
‫س الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ه { ]الطلق ‪ } ، [3 :‬أل َي ْ َ‬ ‫سب ُ ُ‬‫ح ْ‬ ‫ل عََلى الل ّهِ فَهُوَ َ‬ ‫ن ي َت َوَك ّ ْ‬
‫م ْ‬ ‫تعالى ‪ } :‬وَ َ‬
‫ف عَب ْد َهُ { ]الزمر ‪. [36 :‬‬ ‫كا ٍ‬ ‫بِ َ‬
‫أي ‪ :‬الذي قام بعبوديته ‪ ،‬فبحسب توكلهم عليه ‪ ،‬وقيامهم بعبوديته يحصل لهم‬
‫النصر ‪ ،‬والكفاية التامة ‪.‬‬

‫) ‪(1/201‬‬

‫ومن أسباب النصر والصبر والثبات ‪ :‬اتفاق القلوب ‪ ،‬وعدم التفرق والتنازع ‪،‬‬
‫فإن ذلك محلل للقوة ‪ ،‬موجب للفشل ‪ ،‬وأما اجتماع الكلمة ‪ ،‬وقيام اللفة‬
‫بين المؤمنين ‪ ،‬واتفاقهم على إقامة دينهم وعلى نصره فهذا أقوى القوى‬
‫المعنوية التي هي الصل ‪ ،‬والقوة المادية تبع لها ‪ ،‬والكمال ‪ :‬الجمع بين‬
‫المرين كما أمر الله بذلك في هذه الية ‪ ،‬وفي قوله ‪:‬‬
‫ن ب ِهِ عَد ُوّ الل ِّ‬
‫ه‬ ‫ل ُْ ُِ َ‬
‫بو‬ ‫ه‬‫ر‬‫ت‬ ‫ط ال ْ َ‬
‫خي ْ ِ‬ ‫ن رَِبا ِ‬
‫م ْ‬‫ن قُوّةٍ وَ ِ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬‫ست َط َعْت ُ ْ‬‫ما ا ْ‬
‫م َ‬‫دوا ل َهُ ْ‬‫ع ّ‬‫} وَأ َ ِ‬
‫م { ]النفال ‪. [60 :‬‬ ‫م َل ت َعْل َ ُ‬
‫مون َهُ ُ‬ ‫ن ُدون ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬
‫ري َ‬
‫خ ِ‬‫م َوآ َ‬‫وَعَد ُوّك ُ ْ‬
‫ومن أسباب الثبات والنصر ‪ :‬حسن النية ‪ ،‬وكمال الخلص في إعلء كلمة‬
‫الحق ; فلهذا حذر تعالى من مشابهة الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء‬
‫الناس ‪ ،‬ويصدون عن سبيل الله ‪ ،‬فهؤلء لما لم يعتمدوا على ربهم ‪ ،‬وأعجبوا‬
‫بأنفسهم ‪ ،‬وخرجوا أشرين بطرين ‪ ،‬وكان قتالهم لنصر الباطل باءوا بالخيبة‬
‫والفشل والخذلن ‪ ،‬ولهذا أدب خيار الخلق لما حصل من بعضهم العجاب‬
‫بالكثرة في غزوة حنين حيث قال القائل ‪ :‬لن نغلب اليوم عن قلة ‪ .‬فقال ‪:‬‬

‫) ‪(1/202‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م اْلْر ُ‬
‫ض‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ُ‬‫ضاقَ ْ‬ ‫شي ًْئا وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَن ْك ُ ْ‬ ‫م ت ُغْ ِ‬ ‫م فَل َ ْ‬ ‫م ك َث َْرت ُك ُ ْ‬‫جب َت ْك ُ ْ‬‫ن إ ِذ ْ أعْ َ‬ ‫حن َي ْ ٍ‬
‫م ُ‬ ‫} وَي َوْ َ‬
‫ن { ]التوبة ‪ ، [25 :‬فلما زال هذا المر عنهم ‪،‬‬ ‫ري َ‬‫مد ْب ِ ِ‬‫م ُ‬ ‫ّ‬
‫م وَلي ْت ُ ْ‬ ‫تث ّ‬ ‫ُ‬ ‫حب َ ْ‬
‫ما َر ُ‬ ‫بِ َ‬
‫َ‬
‫سول ِهِ وَعَلى‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه عَلى َر ُ‬ ‫كين َت َ ُ‬
‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫وعرفوا ضعفهم وعاقبة العجاب ‪ } :‬أن َْزل الل ُ‬
‫ها { ]التوبة ‪. [26 :‬‬ ‫م ت ََروْ َ‬ ‫جُنوًدا ل َ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫ن وَأ َن َْز َ‬ ‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫ومن السباب التي أرشد الله إليها في القتال ‪ :‬الثبات والصبر وحسن‬
‫التدبير ‪ ،‬والنظام الكامل في جميع الحركات العسكرية ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫م { ]آل‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫ل َوالل ّ ُ‬ ‫عد َ ل ِل ْ ِ‬
‫قَتا ِ‬ ‫قا ِ‬ ‫م َ‬
‫ن َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫ك ت ُب َوّئُ ال ْ ُ‬ ‫ن أ َهْل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫} وَإ ِذ ْ غَد َوْ َ‬
‫عمران ‪. [121 :‬‬

‫) ‪(1/203‬‬

‫وكان صلى الله عليه وسلم يرتب الجيش ‪ ،‬وينزلهم منازلهم ‪ ،‬ويجعل في كل‬
‫جنبة كفئها ‪ ،‬ويسد الثغرات التي يخشى أن يتسرب منها العدو ‪ ،‬يحفظ‬
‫المكامن ‪ ،‬ويبعث العيون لتعرف أحوال العدو ‪ ،‬ويستعين بمشاورة أصحابه‬
‫كما أمر الله بذلك ‪ ،‬خصوصا في هذا المر المهم ‪ ،‬وتعرف أسرار العدو ‪،‬‬
‫وبث العيون ‪ ،‬ووضع الجواسيس السريين الذين ل يكاد يشعر بهم ‪ ،‬كما أن‬
‫من المهم التحرز من جواسيس العدو ‪ ،‬وعمل السباب لخذ الحذر من ذلك‬
‫بحسب ما يليق ‪ ،‬ويناسب الزمان والمكان ‪.‬‬
‫ومن المهم أيضا أن تفعل جميع السباب الممكنة في إخلص الجيوش ‪،‬‬
‫وقتالها عن الحق ‪ ،‬وأن تكون غايتها كلها واحدة ل يزعزعها عن هذا الغرض‬
‫السامي فقد رئيس ‪ ،‬أو انحراف كبير ‪ ،‬أو تزعزع مركز قائد ‪ ،‬أو توقف في‬
‫صمودها في طريقها النافع على أمور خارجية ‪ ،‬فإنه متى كانت هذه الغاية‬
‫العالية هي التي يسعى لها أهل الحل والعقد ‪ ،‬ويعملون لها التعليمات القولية‬
‫والفعلية ‪ ،‬كانت الجيوش التي على هذا الوصف مضرب المثل في الكمال‬
‫وسداد الحوال ‪ ،‬وحصول المقاصد الجليلة ; ولهذا أرشد الله المؤمنين يوم‬
‫أحد إلى هذا النظام العجيب ‪ ،‬فقال تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(1/204‬‬

‫قل َب ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ت أ َوْ قُت ِ َ‬
‫ل ان ْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬
‫خل َت من قَبل ِه الرس ُ َ‬
‫ل أفَإ ِ ْ‬ ‫ل قَد ْ َ ْ ِ ْ ْ ِ ّ ُ‬ ‫سو ٌ‬ ‫مد ٌ إ ِّل َر ُ‬‫ح ّ‬ ‫م َ‬‫ما ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫زي الل ُّ‬
‫ه‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫و‬ ‫ً‬
‫ئا‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫ض‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ه‬‫ي‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫لى‬ ‫عََلى ْ ِ ْ َ َ ْ َ ْ ِ ْ َ‬
‫ع‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫ن‬‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫قا‬
‫َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫أ‬
‫ْ َ َ َ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُ ّ‬ ‫َ ِ َْ ِ‬
‫ن { ]آل عمران ‪. [144 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫فنبههم على أنه وإن كان محمد هو المام العظم ‪ ،‬والرسول المعظم ‪ ،‬فإنه‬
‫ل ينبغي لكم أن يفت فقده في عزيمتكم ‪ ،‬وانحلل قوتكم ‪ ،‬بل أنتم تقاتلون‬
‫لله ‪ ،‬وعلى الحق الذي بعث به رسوله ‪ ،‬ولدفع الباطل والشرور ‪ ،‬فاجعلوا‬
‫هذه الغاية نصب أعينكم ‪ ،‬وأساس عملكم ‪ ،‬وامضوا قدما في سبيل الله غير‬
‫هائبين ‪ ،‬ول متأثرين إذا أتت المور على خلف مرادكم ‪ ،‬فإن المور هكذا‬
‫تكون ‪ :‬تارة لك ‪ ،‬وتارة عليك ‪ ،‬والكمال كل الكمال أن يكون العبد عبدا لله‬
‫في الحالين ‪ ،‬في السراء والضراء ‪ ،‬في حال إتيان المور على ما يحب ‪ ،‬أو‬
‫ضد ذلك ‪ ،‬وهذا الوصف هو كمال الفرد ‪ ،‬وكمال الجماعات ‪ ،‬والله الموفق ‪.‬‬

‫) ‪(1/205‬‬
‫ومن المور المهمة جدا أن يكون الرئيس رحيما برعيته ‪ ،‬ناصحا محبا للخير ‪،‬‬
‫ساعيا فيه جهده ‪ ،‬كثير المراودة والمشاورة لهم ‪ ،‬خصوصا لهل الرأي‬
‫والحجا منهم ; وأن تكون الرعية مطيعة منقادة ‪ ،‬ليس عندهم منازعات ول‬
‫مشاغبات ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م فَإ ِ ْ‬ ‫ل وَأوِلي اْل ْ‬
‫مرِ ِ‬ ‫سو َ‬
‫طيُعوا الّر ُ‬
‫ه وَأ ِ‬ ‫طيُعوا الل ّ َ‬
‫مُنوا أ ِ‬‫نآ َ‬ ‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ل { ]النساء ‪ [59 :‬أي ‪ :‬إذا حصل‬ ‫سو ِ‬‫يٍء فَُرّدوهُ إ َِلى الل ّهِ َوالّر ُ‬‫ش ْ‬‫م ِفي َ‬ ‫ت ََناَزعْت ُ ْ‬
‫النزاع في أي أمر من المور ‪ ،‬خصوصا في المور المتعلقة في سياسة‬
‫الحرب ‪ ،‬ردت إلى هذا الصل الذي يطمئن إليه المؤمنون ‪ ،‬ويلجأ إليه كبارهم‬
‫وصغارهم ‪ ،‬لعلمهم أنه فرض على جميعهم ‪ ،‬ولعلمهم أن حكم الله ورسوله‬
‫هو الخير والصلح ‪ ،‬وأن الله يعلم من مصالحهم ما ل يعلمون ‪ ،‬ويرشدهم‬
‫إلى كل ما به ينتفعون ‪.‬‬

‫) ‪(1/206‬‬

‫ومن المور المهمة جدا سلوك طريق الحق ‪ ،‬والعدل في قسمة الغنائم ‪،‬‬
‫وأن ل تكون ظالمة مستبدا بها القوياء ‪ ،‬محروما منها الضعفاء ‪ ،‬أو تكون‬
‫فوضى ‪ ،‬فإن هذين المرين مع ضررهما في الدين ‪ -‬وإن هذا ل يحل ول يجوز‬
‫‪ ،‬وهو من أعظم المحرمات ‪ -‬فإنهما يضران غاية الضرر في الجيوش في‬
‫وقوع العداوات ‪ ،‬وحصول الجشع والطمع ‪ ،‬وكون وجهتها تكون متباينة ‪،‬‬
‫فبذلك ينحل النظام ‪ ،‬ويقع الفشل ‪ ،‬ويكون هذا المر أعظم سلح للعداء‬
‫على المسلمين ‪.‬‬
‫ومن المور المهمة جدا أيضا ‪ -‬وهي عون كبير في الحروب ‪ -‬السعي بقدر‬
‫الستطاعة في إيقاع النشقاق في صفوف العداء ‪ ،‬وفعل كل سبب يحصل‬
‫به تفريق شملهم وتفريق وحدتهم ‪ ،‬ومهادنة من يمكن مهادنته منهم ‪ ،‬وبذل‬
‫الموال للرؤساء إذا غلب على الظن أن ينكف شرهم عن المسلمين ‪ ،‬فكم‬
‫حصل بهذا الطريق من نكاية العدو ما ل يحصل بالجيوش الكثيرة ‪ ،‬ولهذا قال‬
‫‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫م‬
‫دوُرهُ ْ‬‫ص ُ‬
‫ت ُ‬ ‫صَر ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬‫جاُءوك ْ‬ ‫ميَثاقٌ أوْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫م وَب َي ْن َهُ ْ‬
‫ن إ ِلى قوْم ٍ ب َي ْن َك ْ‬ ‫صلو َ‬ ‫ن يَ ِ‬‫ذي َ‬
‫} إ ِل ال ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م{‬ ‫ُ‬
‫قات َلوك ْ‬ ‫َ‬
‫م فل َ‬ ‫ُ‬
‫م عَلي ْك ْ‬‫سلطهُ ْ‬ ‫هل َ‬ ‫شاَء الل ُ‬ ‫م وَلوْ َ‬ ‫مهُ ْ‬ ‫َ‬
‫قات ِلوا قوْ َ‬‫م أوْ ي ُ َ‬‫قات ُِلوك ْ‬
‫ُ‬ ‫ن يُ َ‬
‫أ ْ‬
‫]النساء ‪. [90 :‬‬

‫) ‪(1/207‬‬

‫فذكر الله هذه المصلحة العظيمة في الكف عن أمثال هؤلء الموصوفين ‪.‬‬
‫وللموفقين من الرؤساء وقواد الجيوش في هذه المور مقامات معروفة صار‬
‫لهم فيها اليد البيضاء على المسلمين ‪.‬‬
‫فانظر إلى هذه التعاليم اللهية التي هي النظام الكامل الوحيد في جميع‬
‫الزمنة والمكنة ‪ ،‬واستدل بذلك على أن السلم الحقيقي هو الدين الحق‬
‫الذي إليه ملجأ الخليقة ‪ ،‬وبه سعادتها وسلمتها من الشرور ‪ ،‬وأن النقص‬
‫والهبوط بتضييع تعاليم هذا الدين الذي أكمله الله ‪ ،‬وأتم به النعمة على‬
‫المؤمنين ‪.‬‬

‫) ‪(1/208‬‬
‫فصل‬
‫في البيوع وأنواع المعاملت‬
‫َ‬
‫م الّرَبا { ]البقرة ‪. [275 :‬‬ ‫حّر َ‬ ‫ه ال ْب َي ْعَ وَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫قال الله تعالى ‪ } :‬وَأ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ة { ]آل عمران ‪. [130 :‬‬ ‫ف ً‬‫ضاعَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ضَعاًفا ُ‬ ‫مُنوا َل ت َأك ُُلوا الّرَبا أ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫كو َ‬ ‫ل إ ِّل أ ْ‬
‫ن تَ ُ‬ ‫م ِبال َْباط ِ ِ‬‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬‫وال َك ُ ْ‬ ‫مُنوا َل ت َأك ُُلوا أ ْ‬
‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫وقال ‪ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫م { ]النساء ‪. [29 :‬‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ض ِ‬ ‫ن ت ََرا ٍ‬ ‫جاَرة ً عَ ْ‬ ‫تِ َ‬
‫مى َفاك ْت ُُبوه ُ { إلى قوله ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ج ٍ‬‫ن إ ِلى أ َ‬ ‫م ب ِد َي ْ ٍ‬ ‫مُنوا إ َِذا ت َ َ‬
‫داي َن ْت ُ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} يا أي َّها ال ِ‬
‫م { ]البقرة ‪. [282 :‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ه ب ِك ّ‬ ‫ّ‬
‫ه َوالل ُ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫مك ُ‬‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ه وَي ُعَل ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫} َوات ّ ُ‬

‫) ‪(1/209‬‬

‫اشتملت هذه اليات الكريمات على أحكام جمة وفوائد مهمة ‪ ،‬منها أن‬
‫الصل في البيوع والمعاملت والتجارات كلها الحل والطلق ‪ ،‬كما هو صريح‬
‫هذه اليات ‪ ،‬ل فرق بين تجارة الدارة التي يديرها التجار بينهم ‪ ،‬هذا يأخذ‬
‫العوض ‪ ،‬وهذا يعطي المعوض ‪ ،‬ول بين التجارة في الديون الحال ثمنها ‪،‬‬
‫المؤجل مثمنها كالسلم ‪ ،‬وبيع السلع بأثمان مؤجلة لعموم قوله ‪ } :‬إ َِذا‬
‫ن { ‪ ،‬ول بين تجارة التربص والنتظار ‪ ،‬بأن يشتري السلع في‬ ‫م ب ِد َي ْ ٍ‬
‫داي َن ْت ُ ْ‬
‫تَ َ‬
‫أوقات رخصها ‪ ،‬وينتظر بها الفرص من مواسم وغيرها ‪ ،‬ول بين التجارة‬
‫بالتصدير والتوريد من محل إلى آخر ‪ ،‬ول بين التجارة والتكسب أفرادا‬
‫ومشتركين ‪ ،‬فكل هذه النواع وما يتبعها قد أباحها الشارع وأطلقها لعباده ؛‬
‫رحمة بهم ‪ ،‬وقياما لمصالحهم ‪ ،‬ودفعا للضرار عنهم ‪ ،‬وكلها جائزة بما يقترن‬
‫بها ويتبعها من شروط ووثائق ونحوها إذا سلمت من المحاذير الشرعية التي‬
‫نبه الله عليها ورسوله ‪ ،‬يدخل في هذا العموم جميع أجناس المبيعات‬
‫وأنواعها وأفرادها من عقارات وحيوانات وأمتعة وأطعمة وأوان وأشربة‬
‫وأكسية وفرش وغيرها ‪ ،‬وكلها ل بد أن تقترن بهذا الشرط الذي ذكره الله ‪،‬‬
‫وهو التراضي بين المتعاوضين ‪ ،‬الرضا‬

‫) ‪(1/210‬‬

‫الصادر عن معرفة ‪ ،‬وأما السفيه والمجنون ومن ل يعتبر كلمه فوليه يقوم‬
‫مقامه في معاملته ‪.‬‬
‫وأعظم المحاذير المانعة من صحة المعاملت ‪ :‬الربا والغرر والظلم ‪.‬‬
‫فالربا الذي حرمه الله ورسوله يدخل فيه ربا الفضل ‪ ،‬وهو بيع المكيل‬
‫بالمكيل من جنسه متفاضل ‪ ،‬وبيع الموزون بالموزون من جنسه متفاضل ‪،‬‬
‫ويشترط في هذا النوع في حله ما شرط الشارع ‪ ،‬وهو التماثل بين المبيعين‬
‫بمعياره الشرعي ‪ ،‬مكيل كان أو موزونا ‪ ،‬والقبض للعوضين قبل التفرق ‪،‬‬
‫وربا النسيئة ‪ :‬وهو بيع المكيل بالمكيل إلى أجل ‪ ،‬أو غير مقبوض ‪ -‬ولو من‬
‫غير جنسه ‪ -‬وبيع الموزون بالموزون إلى أجل أو بل قبض ‪ ،‬ويستثنى من هذا‬
‫السلم ‪.‬‬

‫) ‪(1/211‬‬
‫وأشد أنواع هذا النوع قلب الديون في الذمم ‪ ،‬وهو الذي ذكره بقوله ‪َ } :‬ل‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ة { ]آل عمران ‪. [130 :‬‬ ‫ف ً‬‫ضاعَ َ‬
‫م َ‬ ‫ت َأك ُُلوا الّرَبا أ ْ‬
‫ضَعاًفا ُ‬
‫وذلك إذا حل ما في ذمة المدين ‪ ،‬قال له الغريم ‪ " :‬إما أن تقضيني ديني ‪،‬‬
‫وإما أن تزيد في ذمتك " ‪ ،‬فيتضاعف ما في ذمة المعسر أضعافا مضاعفة بل‬
‫نفع ول انتفاع ‪ ،‬وذلك أن المعسر قد أوجب الله على غريمه إنظاره كما قال‬
‫سَرةٍ { ]البقرة ‪. [280 :‬‬ ‫سَرةٍ فَن َظ َِرة ٌ إ َِلى َ‬
‫مي ْ َ‬ ‫ن ُذو عُ ْ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫تعالى ‪ } :‬وَإ ِ ْ‬

‫) ‪(1/212‬‬

‫وسواء كان قلب الدين المذكور صريحا أو يتحيل عليه بحيلة ليست مقصودة ‪،‬‬
‫وإنما يراد بها التوصل إلى مضاعفة ما في ذمة الغريم ‪ ،‬فهذا الذي قد توعده‬
‫الله بهذا الوعيد الشديد ‪ ،‬وأن الذين يأكلون الربا ل يقومون من قبورهم إلى‬
‫بعثهم ونشورهم إل كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ‪ ،‬أي ‪ :‬من‬
‫الجنون ‪ ،‬فيقومون مرعوبين منزعجين قد اختلت حركاتهم لما يعلمون ما‬
‫أمامهم من القلقل والهوال المزعجة والعقوبات لكلة الربا ‪ ،‬وقد آذنهم الله‬
‫بمحاربته ومحاربة رسوله إذا لم يتوبوا ‪ ،‬ومن كان محاربا لله ورسوله فإنه‬
‫مخذول ‪ ،‬وإن عواقبه وخيمة ‪ ،‬وإن استدرج في وقت فآخر أمره المحق‬
‫ت { ]البقرة ‪، [276 :‬‬ ‫صد ََقا ِ‬ ‫حقُ الل ّ ُ‬
‫ه الّرَبا وَي ُْرِبي ال ّ‬ ‫م َ‬‫والبوار ‪ ،‬قال تعالى ‪ } :‬ي َ ْ‬
‫عن ْد َ الل ّهِ { ]الروم ‪. [39 :‬‬
‫س فََل ي َْرُبو ِ‬ ‫َ‬
‫ل الّنا ِ‬‫وا ِ‬ ‫م َ‬
‫ن رًِبا ل ِي َْرب ُوَ ِفي أ ْ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫ما آت َي ْت ُ ْ‬
‫} وَ َ‬

‫) ‪(1/213‬‬

‫فالمرابي يأخذه المن والغرور الحاضر ‪ ،‬ول يدري ما خبئ له في مستقبل‬


‫أمره ‪ ،‬وأن الله سيجمع له بين عقوبات الدنيا والخرة ‪ ،‬إل إن تاب وأناب ‪،‬‬
‫فإذا تاب فله ما سلف ‪ ،‬وأما العقود الحاضرة فالزيادة ل تحل ‪ ،‬وعليه أن‬
‫م لَ‬ ‫َ‬
‫وال ِك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫سأ ْ‬‫م ُرُءو ُ‬ ‫م فَل َك ُ ْ‬
‫ن ت ُب ْت ُ ْ‬
‫ينزل على رأس ماله ‪ ،‬كما قال تعالى ‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫ن { بأخذ بعض‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن { ]البقرة ‪ : [279 :‬بأخذ الزيادة ‪ } ،‬وَل ت ُظل ُ‬ ‫ت َظ ْل ِ ُ‬
‫مو َ‬
‫رؤوس أموالكم ‪.‬‬
‫ومن أنواع الربا ‪ :‬القرض الذي يجر نفعا ; فإن القرض من الحسان‬
‫والمرافق بين العباد ‪ ،‬فإذا دخلته المعاوضة وشرط المقرض على المقترض‬
‫رد خير منه بالصفة أو المقدار ‪ ،‬أو شرط نفعا أو محاباة في معاوضة أخرى ‪،‬‬
‫فهو من الربا ؛ لنه في الحقيقة دراهم بدراهم مؤخرة ‪ ،‬والربح ذلك النفع‬
‫المشروط ‪ ،‬فالله تعالى وعظ المؤمنين عن تعاطي الربا كله والمعاملة به ‪،‬‬
‫وأن يكتفوا بالمكاسب الطيبة التي فيها البركة وصلح الدين والدنيا ‪ ،‬وفيها‬
‫تزكو الخلق ‪ ،‬ويحصل العتبار وحسن المعاملة والصدق والعدل وأداء‬
‫الحقوق والسلمة من جميع التبعات ‪.‬‬

‫) ‪(1/214‬‬

‫ومن المحاذير في المعاملت محذور الميسر والغرر ‪ ،‬فإن الله حرم في‬
‫كتابه الميسر ‪ ،‬وقرنه بالخمر ‪ ،‬وذكر مضار ذلك ومفاسده ‪ ،‬والميسر يدخل‬
‫في المعاملت كما يدخل في المغالبات ‪ ،‬فكما أن المراهنات والمقامرات‬
‫وتوابعها من الميسر ‪ ،‬فالبيوع التي فيها غرر ومخاطرات وجهالت داخلة في‬
‫الميسر ‪ ،‬ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة » نهى عن بيع الغرر‬
‫« ‪ ،‬فيدخل في ذلك بيع الحمل في البطن ‪ ،‬وبيع البق والشارد ‪ ،‬والشيء‬
‫الذي لم ير ولم يوصف ‪ ،‬ودخل فيه بيع الملمسة والمنابذة ‪ ،‬وجميع العقود‬
‫التي فيها جهالة بينة ؛ وذلك لن أحد المتعاملين إما أن يغنم ‪ ،‬وإما أن يغرم ‪،‬‬
‫وهذا مخالف لمقاصد المعاوضات التي يقصد أن يكون العوض في مقابلة‬
‫المعوض على وجه يستوي فيه علم المتعاوضين ‪ ،‬فإذا جهل الثمن أو‬
‫المثمن ‪ ،‬أو كان الجل في الديون غير مسمى ول معلوم دخل هذا في بيع‬
‫الغرر والميسر الذي زجر الله عنه ‪.‬‬

‫) ‪(1/215‬‬

‫ومن المحاذير المنهي عنها في المعاملت ‪ :‬الظلم والغش والتدليس وبخس‬


‫المكاييل والموازين وبخس الحقوق أخذا وإعطاء ‪ ،‬بأن يأخذ أكثر مما له ‪ ،‬أو‬
‫يعطي أقل مما عليه ‪ ،‬فهذا من أعظم المحرمات ‪ ،‬وقد توعد الله عليه‬
‫بالعقوبات في الدنيا والخرة ‪ ،‬وأهلك أمة عظيمة بسبب هذه المعاملة‬
‫وال َك ُْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م‬ ‫الخبيثة ‪ ،‬وهذه المعاملت المحرمة تدخل في قوله ‪َ } :‬ل ت َأك ُُلوا أ ْ‬
‫م َ‬
‫ل { ]النساء ‪ ، [29 :‬كما يدخل فيه الغضب والسرقة ونحوهما ‪.‬‬ ‫م ِبال َْباط ِ ِ‬
‫ب َي ْن َك ُ ْ‬

‫) ‪(1/216‬‬

‫وفي آية الدين من الفوائد سوى ما تقدم ‪ :‬المر بكتابة المعاملت ‪ ،‬والشهاد‬
‫عليها ‪ ،‬وأن يكون الكاتب عدل عارفا بالكتابة وبما ينبغي أن يكتب ; وهذا‬
‫المر للندب والستحباب عند جمهور العلماء ‪ ،‬إل إذا وجب حفظ المال ‪،‬‬
‫وكان على دين مؤجل أو غير مقبوض ‪ ،‬فإنه ل يتم حفظه إل بذلك ‪ ،‬وما ل‬
‫يتم الواجب إل به فهو واجب ‪ ،‬وفيها أن الكاتب ل يكتب إل ما أمله من عليه‬
‫الحق إن كان رشيدا ‪ ،‬ووليه إن كان عاجزا ضعيفا كالمجنون والصغير‬
‫والسفيه ‪ ،‬وأن على صاحب الحق أن يقر بالحق كله من غير بخس ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫نقص لعدده أو صفته ‪.‬‬
‫وتدل الية أن القرار من أعظم الطرق التي تثبت بها الحقوق في الذمم ‪،‬‬
‫كما يثبت فيها براءة الذمم المشتغلة بالحقوق إذا أقر من له الحق بالقباض‬
‫أو البراء المعتبر ‪ ،‬وأنه ل يعذر من أقر لو ادعى الغلط أو الكذب ونحوه ‪.‬‬
‫وفيها الرشاد إلى حفظ الحقوق بالشهاد والكتابة والرهن إذا احتيج إليه في‬
‫سفر أو غيره ‪ ،‬وأن نصاب الشهادة في المعاملت كلها من عقود وفسوخ‬
‫وثبوت وشروط وابراء ونحوها رجلن مرضيان إن أمكن ‪ ،‬وإل فرجل واحد‬
‫وامرأتان ‪ ،‬وثبت في السنة قبول شهادة الواحد مع يمين صاحب الحق ‪.‬‬

‫) ‪(1/217‬‬

‫وفيها أن شهادة الفساق والمجهولين غير مقبولة ‪ ،‬وأن العتبار بمن يرضاه‬
‫الناس ويعتبرونه ‪.‬‬
‫وفيها أن شهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل لكمال حفظ الرجل وقوة‬
‫ما اْل ُ ْ‬ ‫َ‬
‫خَرى {‬ ‫داهُ َ‬ ‫ما فَت ُذ َك َّر إ ِ ْ‬
‫ح َ‬ ‫داهُ َ‬
‫ح َ‬ ‫ض ّ‬
‫ل إِ ْ‬ ‫ن تَ ِ‬
‫ذاكرته ‪ ،‬كما نبه عليه بقوله ‪ } :‬أ ْ‬
‫]البقرة ‪. [282 :‬‬
‫وفيها دللة أن من نسي شهادة فتذكرها ‪ ،‬أو ذكرها فذكرها أن شهادته‬
‫صحيحة ‪.‬‬
‫وفيها أنه ل يحل أن يشهد إل بما علمه وتيقنه ‪ ،‬فإن شك فيه لم يحل له أن‬
‫يشهد ‪.‬‬
‫وفيها بيان الحكمة العظيمة في هذه الرشادات من الرب في حفظ‬
‫المعاملت ‪ ،‬وأن ذلك صلح للعباد في معاملتهم ‪ ،‬وأن تكون جارية على‬
‫القسط ‪ ،‬وأنها تقطع الخصومات والمنازعات ‪ ،‬وتبرئ الذمم ‪ ،‬وتمنع الظالم‬
‫من ظلمه ‪ ،‬فلهذا قال ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫} ذ َل ِك ُ َ‬
‫شَهاد َةِ وَأد َْنى أل ت َْرَتاُبوا { ]البقرة ‪. [282 :‬‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ وَأقْوَ ُ‬
‫م ِلل ّ‬ ‫ط ِ‬‫س ُ‬
‫م أقْ َ‬‫ْ‬
‫فكم حصل بهذه الوثائق التي أرشد الله إليها من مصالح عظيمة ‪ ،‬وكم اندفع‬
‫بها من مفاسد وشرور كثيرة ‪ ،‬فسبحان من جعل شرعه صلحا لدين العباد‬
‫ودنياهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/218‬‬

‫وفيها أن التجارة الحاضرة ل بأس بترك كتابتها لكون التقابض يغني غالبا عن‬
‫ذلك ‪ ،‬ولمشقة كثرة ذلك ‪ ،‬وأما الشهادة فل ينبغي تركها خصوصا في المور‬
‫المهمة وقوله ‪:‬‬
‫َ‬
‫ب وَل َ‬
‫شِهيد ٌ { ]البقرة ‪. [282 :‬‬ ‫ضاّر َ‬
‫كات ِ ٌ‬ ‫} وََل ي ُ َ‬
‫يحتمل أنه مبني للفاعل أو للمفعول ‪ ،‬والمعنى يشمل المرين ; فالكاتب‬
‫والشهيد يجب عليه أن يعدل في كتابته وشهادته ‪ ،‬ول يحل له أن يميل مع‬
‫أحدهما لغرض من أغراضه ‪ ،‬ول يضارهما بأخذ أجرة ل تحل له على شهادته ‪،‬‬
‫أو يماطل في شهادته وكتابته مماطلة تضرهما أو أحدهما ‪ ،‬وكذلك المعاملن‬
‫ل يحل أن يضارا الكاتب والشهيد بأن يكلفاه ما ل يطيقه ‪ ،‬أو يتضرر به ‪ ،‬لن‬
‫الشاهد والكاتب محسنان ‪ ،‬حقهما أن يشكرا على ذلك ‪ ،‬فمضارتهما تنافي‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفيها أن تعلم الكتابة من المور المحبوبة لله ‪ ،‬وأنه نعمة من الله على من‬
‫علمه الله الكتابة ‪ ،‬فمن شكر هذه النعمة ‪ -‬أن ل يأبى كاتب أن يكتب كما‬
‫علمه الله ‪.‬‬

‫) ‪(1/219‬‬

‫ويستفاد من المعنى المقصود أن الله شرع هذه المور حفظا للحقوق ‪ ،‬وأنه‬
‫ينبغي تعلم كتابة الوثائق والصطلحات الجارية بين الناس في المعاملت ؛‬
‫حتى يكون الكاتب بهذه الصفة التي يحرر فيها المعاملت ‪ ،‬فينتفع الناس‬
‫بحفظ حقوقهم ‪ ،‬فل يكفي مجرد الكتابة من غير معرفة بهذه المور ‪ ،‬كما أنه‬
‫ل بد أن يكون الكاتب معتبرا ثقة ؛ ليحصل العتماد على كتابته والطمأنينة‬
‫إليها ‪.‬‬
‫ويستفاد من هذا أن الخط المعروف صاحبه وثقته أنه معتبر معمول به ؛ ليتم‬
‫المقصود من الكتابة في حياة الكاتب وبعد موته ‪.‬‬
‫وفيها وجوب أداء الشهادة وتعينها على من تحملها ‪ ،‬وأن كتمان الشهادة من‬
‫كبائر الذنوب ‪ ،‬وكما أن شهادة الزور بأن يشهد بثبوت ما ليس بثابت ‪ ،‬أو‬
‫بالبراءة من الحق الثابت وهو كاذب من أكبر الكبائر ‪ ،‬فكذلك السكوت عن‬
‫أداء الشهادة ‪ ،‬وكل المرين ظلم لصاحب الحق بتفويت حقه ‪ ،‬وظلم أيضا‬
‫للنفس بوقوع الثم ‪ ،‬وظلم للظالم لعانته على الثم والعدوان ‪.‬‬
‫وفيها مشروعية الوثائق بالحقوق ‪ ،‬وهي أربعة ‪ :‬الشهادة والرهن ‪ -‬كما هو‬
‫مذكور في هذا الموضع ‪ -‬والضمان والكفالة ‪ ،‬يؤخذ من العتبار على هذا‬
‫م { ]يوسف ‪. [72 :‬‬ ‫المعنى ‪ ،‬ومن قوله ‪ } :‬وَأ ََنا ب ِهِ َز ِ‬
‫عي ٌ‬

‫) ‪(1/220‬‬

‫أي ‪ :‬كفيل وضامن ‪ ،‬وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلفه ‪،‬‬
‫وتقييد الرهن بالسفر ل يدل على أنه ل يكون رهن في الحضر ‪ ،‬بل قيد لجل‬
‫الحاجة إليه لعدم الكاتب غالبا ‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫وفيها ثبوت الولية على القاصرين ‪ -‬لجنون أو صغر أو سفه ‪ -‬لقوله ‪ } :‬فإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫كان ال ّذي عَل َيه ال ْحق سفيها أ َو ضِعي ً َ‬
‫ه‬
‫ل وَل ِي ّ ُ‬ ‫ل هُوَ فَل ْي ُ ْ‬
‫مل ِ ْ‬ ‫م ّ‬‫ن يُ ِ‬
‫طيعُ أ ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫فا أوْ َل ي َ ْ‬ ‫ْ ِ َ ّ َ ِ ً ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬
‫ل { ]البقرة ‪. [282 :‬‬ ‫ِبال ْعَد ْ ِ‬
‫فأقامه في التصرفات في ماله مقام المالك الرشيد ‪ ،‬وعليه أن يفعل في‬
‫ل ال ْي َِتيم ِ إ ِّل ِبال ِّتي هِ َ‬
‫ي‬ ‫ما َ‬ ‫قَرُبوا َ‬ ‫أموالهم ما هو الصلح ‪ ،‬قال تعالى ‪ } :‬وََل ت َ ْ‬
‫ن { ]النعام ‪. [152 :‬‬ ‫َ‬
‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬
‫ول يدفع إليهم حتى يرشدوا ‪ ،‬ويعرف ذلك بالختبار والتجربة كما قال تعالى ‪:‬‬
‫م‬‫دا َفاد ْفَُعوا إ ِل َي ْهِ ْ‬ ‫ش ً‬‫م ُر ْ‬‫من ْهُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ست ُ ْ‬
‫ن آن َ ْ‬ ‫ح فَإ ِ ْ‬ ‫حّتى إ َِذا ب َل َُغوا الن ّ َ‬
‫كا َ‬ ‫} َواب ْت َُلوا ال ْي ََتا َ‬
‫مى َ‬
‫َ‬
‫م { ]النساء ‪. [6 :‬‬ ‫وال َهُ ْ‬ ‫م َ‬‫أ ْ‬

‫) ‪(1/221‬‬

‫شِهيد ٌ { ]البقرة ‪ [282 :‬من الفوائد ‪:‬‬ ‫ب وََل َ‬ ‫ضاّر َ‬


‫كات ِ ٌ‬ ‫وفيها في قوله ‪ } :‬وََل ي ُ َ‬
‫التنبيه على أن كل من فعل إحسانا ومعروفا أن عليه أن يتممه ويكمله‬
‫بالتسهيل والتيسير وعدم المضارة ‪ ،‬وأن للمحسنين على الناس أن يشكروا‬
‫لهم معروفهم ‪ ،‬وأن ل يكلفوهم الضرر والمشقة جزاء لهم على إحسانهم ‪،‬‬
‫وترغيبا في الحسان ‪.‬‬
‫ه { ]البقرة ‪ [282 :‬أن‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫مك ُ ُ‬‫ه وَي ُعَل ّ ُ‬
‫قوا الل ّ َ‬ ‫واستدل بقوله تعالى ‪َ } :‬وات ّ ُ‬
‫تقوى الله وسيلة إلى حصول العلم ‪ ،‬كما أن العلم سبب للتقوى ‪ ،‬وأوضح من‬
‫هذا قوله تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م فُْرَقاًنا { ]النفال ‪ [29 :‬أي ‪:‬‬ ‫ل لك ُ ْ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫ن ت َت ّ ُ‬
‫مُنوا إ ِ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫علما تفرقون به بين الحق والباطل ‪ ،‬وبين الحقائق المحتاج إليها ‪.‬‬
‫وفيها أنه كما أنه من العلوم النافعة تعليم المور الدينية المتعلقة بالعبادات‬
‫والمعاملت ‪ ،‬فمنه أيضا تعليم المور الدنيوية المتعلقة بالمعاملت ‪ ،‬فإن الله‬
‫حفظ على العباد أمور دينهم ودنياهم ‪ ،‬وكتابه العظيم فيه تبيان كل شيء ‪.‬‬

‫) ‪(1/222‬‬
‫ن‬ ‫وفيها أنه يجوز التعامل بغير وثيقة ‪ ،‬بل بمجرد الستئمان لقوله ‪ } :‬فَإ َ‬
‫م َ‬‫نأ ِ‬ ‫ِ ْ‬
‫ه { ]البقرة ‪. [283 :‬‬ ‫بعضك ُم بعضا فَل ْيؤَد ال ّذي اؤْتم َ‬
‫مان َت َ ُ‬‫نأ َ‬‫ُ ِ َ‬ ‫ُ ّ ِ‬ ‫َْ ُ ْ َْ ً‬
‫ولكن في هذه الحال تتوقف الثقة على التقوى والخوف من الله ‪ ،‬وإل‬
‫فصاحب الحق مخاطر ‪ ،‬فلهذا وعظ الله من عليه الحق أن يؤدي أمانته ‪،‬‬
‫ويؤخذ من هذا أن من عاملك ورضي بأمانتك ووثق فيك أنه قد فعل معك‬
‫معروفا ‪ ،‬ورآك موضع الثقة والمانة ; فيتأكد عليك أداء المانة من الجهتين ‪:‬‬
‫أداء لحق الله ‪ ،‬ووفاء بحق من وثق فيك ومكافأة له ‪.‬‬
‫فصل‬
‫ن { ]القصص ‪، [26 :‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫مي ُ‬
‫قوِيّ ال ِ‬‫ت ال َ‬‫جْر َ‬‫ست َأ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬‫خي َْر َ‬ ‫ن َ‬‫قال الله تعالى ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫وقال يوسف ‪:‬‬
‫م { ]يوسف ‪. [55 :‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫جعَل ِْني عََلى َ‬
‫فيظ عَِلي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫ض إ ِّني َ‬‫ن الْر ِ‬ ‫خَزائ ِ ِ‬ ‫}ا ْ‬

‫) ‪(1/223‬‬

‫يؤخذ من هاتين اليتين أنه ينبغي أن يتخير في الجارات والجعالت والمانات‬


‫والوليات كلها ‪ -‬كبيرة كانت أو صغيرة ‪ -‬من جمع الوصفين ‪ :‬القوة على ذلك‬
‫العمل ‪ ،‬والكفاءة والحفظ وتوابع ذلك من جميع ما تقوم به العمال ‪ ،‬والمر‬
‫الثاني ‪ :‬المانة ‪ ،‬فبالمانة تتم به الثقة ‪ ،‬ويعلم نصحه وبذله الواجب ‪،‬‬
‫وبالكفاءة والقوة يحصل العمل ويتم ويتقن ‪ ،‬فإن وجد الجامع للوصفين على‬
‫وجه الكمال فليستمسك بغرزه ‪ ،‬وإل اكتفى بالمثل فالمثل ‪ ،‬ونقص العمال‬
‫كلها من الخلل بالوصفين أو أحدهما ‪.‬‬

‫) ‪(1/224‬‬

‫فصل في آيات المواريث‬


‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن { إلى‬ ‫حظ الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ُ‬
‫م ِللذ ّكرِ ِ‬ ‫ه ِفي أوْلدِك ْ‬ ‫م الل ُ‬‫صيك ُ‬ ‫قال الله تعالى ‪ُ } :‬يو ِ‬
‫ت { ]النساء ‪11 :‬‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ه َ‬ ‫ْ‬
‫خل ُ‬ ‫ه ي ُد ْ ِ‬ ‫َ‬
‫سول ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ّ‬
‫ن ي ُط ِِع الل َ‬
‫م ْ‬ ‫دود ُ الل ّهِ وَ َ‬ ‫ح ُ‬‫ك ُ‬‫قوله ‪ } :‬ت ِل ْ َ‬
‫‪. [13 -‬‬
‫والتي في آخر السورة ‪:‬‬
‫م ِفي الكللةِ { إلى آخرها ]النساء ‪. [176 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫فِتيك ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه يُ ْ‬ ‫ك قُ ِ‬‫فُتون َ َ‬
‫ست َ ْ‬
‫} يَ ْ‬
‫تضمنت هذه اليات الكريمة أحكام المواريث في غاية البيان والتفصيل‬
‫واليضاح ‪ ،‬وفي غاية الحكمة ‪ ،‬فتوصيته للعباد بأولدهم من كمال رحمته‬
‫وعنايته ‪ ،‬وأنه أرحم بهم من والديهم ‪ ،‬ولذلك وصى الوالدين بالولد ‪ ،‬فالولد‬
‫عند والديهم وصايا من الله وأمانات عندهم ; على الوالدين أن يربوهم تربية‬
‫نافعة لدينهم ودنياهم ‪ ،‬فإن فعلوا فقد قاموا بهذه المانة ‪ ،‬وإل فقد ضيعوها ‪،‬‬
‫وباءوا بإثمها وخسرانها ‪ ،‬فذكر الله ميراث الولد ‪ ،‬وأن لهم ثلث حالت ‪:‬‬
‫الحالة الولى ‪ :‬إما أن يجتمع الذكور والناث ‪ ،‬فحينئذ يتقاسمون المال ‪ ،‬أو ما‬
‫ل َ ّ ُْ‬ ‫أبقت الفروض على عدد رؤوسهم ‪ِ } :‬للذ ّك َرِ ِ‬
‫ن { ]النساء ‪:‬‬ ‫حظ الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫مث ْ ُ‬
‫‪ [11‬سواء كانوا أولد صلب أو أولد ابن ‪ ،‬ويؤخذ من هذا ‪:‬‬

‫) ‪(1/225‬‬
‫الحالة الثانية ‪ :‬أن يكون الولد ذكورا فقط ‪ ،‬فإنهم يتقاسمونه متساوين ‪،‬‬
‫ومن ارتفعت درجته حجب من دونه من الولد إذا كان الرفيع من الذكور ‪.‬‬
‫الحالة الثالثة ‪ :‬إذا كن إناثا ‪ ،‬فإن كانت واحدة فلها النصف ‪ ،‬سواء كانت بنت‬
‫صلب أو بنت ابن ‪ ،‬وإن كانتا اثنتين فأكثر فلهما الثلثان ‪ ،‬ومن الحكمة في‬
‫ن { ]النساء ‪ [11 :‬التنبيه على أنه ل يزيد الفرض‬ ‫التيان بقوله ‪ } :‬فَوْقَ اث ْن َت َي ْ ِ‬
‫وهو الثلثان بزيادتهن على الثنتين ‪ ،‬كما زاد فرض النصف لما صرن أكثر من‬
‫واحدة ‪ ،‬وقد نص الله على أن الختين فرضهما الثلثان ‪ ،‬فالبنتان من باب‬
‫أولى وأحرى ‪ ،‬فإن كان البنتان بنات صلب لم يبق لبنات البن شيء ‪ ،‬وصار‬
‫البقية بعد فرض البنات للعاصب ‪ ،‬وإن كانت العالية واحدة أخذت النصف ‪،‬‬
‫وباقي الثلثين وهو السدس لبنت أو بنات البن ‪.‬‬
‫هذا ميراث الولد قد استوعبته الية استيعابا ‪ ،‬وقد علمنا من ذلك أن لفظ‬
‫الولد يشمل الذكر والنثى من أولد الصلب وأولد البن وإن نزل ‪ ،‬وأما أولد‬
‫البنات فل يدخلون في إطلق اسم الولد في المواريث ‪.‬‬

‫) ‪(1/226‬‬

‫ثم ذكر الله ميراث البوين ‪ :‬الم والب ‪ ،‬فجعل الله للم سدسا وثلثا ‪ ،‬جعل‬
‫لها السدس مع وجود أحد من الولد مطلقا ‪ ،‬منفردين أو متعددين ‪ ،‬أولد‬
‫صلب أو أولد ابن ‪ ،‬وكذلك جعل لها السدس بوجود جمع من الخوة‬
‫والخوات اثنين فأكثر ‪ ،‬وجعل لها الثلث إذا فقد الشرطان المذكوران ‪.‬‬
‫وأما ثلث الباقي في زوج أو زوجة وأبوين فقيل إنه يؤخذ من قوله ‪ } :‬وَوَرِث َ ُ‬
‫ه‬
‫واه ُ { ]النساء ‪ ، [11 :‬فإذا كان معهما أحد الزوجين خرجت عن هذا فلم‬ ‫َ‬
‫أب َ َ‬
‫يكن لها ثلث كامل ‪ ،‬أو يقال ‪ :‬إن الله أضاف الميراث للبوين ‪ -‬وهو الب‬
‫والم ‪ -‬فيكون لها ثلث ما ورثه البوان ‪ ،‬ويكون ما يأخذه الزوج أو الزوجة‬
‫بمنزلة ما يأخذه الغريم ‪ . .‬فالله أعلم ‪.‬‬
‫وأما الب فقد فرض الله له السدس مع وجود أحد من الولد ‪ ،‬فإن كان‬
‫الولد ذكورا لم يزد الب على السدس ‪ ،‬وصار البناء أحق بالتقديم من الب‬
‫بالتعصيب بالجماع ‪.‬‬

‫) ‪(1/227‬‬

‫وإن كان الولد إناثا واحدة أو متعددات فرض له السدس ولهن أو لها الفرض‬
‫‪ ،‬فإن بقي شيء فهو لولى رجل ‪ ،‬وهو الب هنا ; لنه أقرب من الخوة‬
‫وبنيهم ومن العمام وبنيهم ‪ ،‬فجمع له في هذه الحال بين الفرض‬
‫والتعصيب ‪ ،‬وإن استغرقت الفروض التركة لم يبق للب زيادة عن السدس ‪،‬‬
‫كما لو خلف أبوين وابنتين ; فلكل واحد من البوين السدس ‪ ،‬وللبنتين الثلثان‬
‫‪.‬‬
‫ومفهوم الية الكريمة أنه إذا لم يكن أولد ذكور ول إناث ‪ ،‬أن الب يرث بغير‬
‫تقدير ‪ ،‬بل بالعصب ‪ ،‬بأن يأخذ المال كله إذا انفرد ‪ ،‬أو ما أبقت الفروض إن‬
‫كان معه أصحاب فروض ‪ ،‬وهو إجماع ‪ ،‬وحكم الجد حكم الب في هذه‬
‫الحكام إل في العمريتين ; فإن الم ترث ثلثا كامل مع الجد ; وأما ميراث‬
‫الجدة السدس عند عدم الم فهو في السنة ‪.‬‬
‫ثم ذكر الله ميراث الزوجين ‪ ،‬وأن الزوج له نصف ما تركت زوجته إن لم‬
‫يكن لها ولد ‪ ،‬فإن كان لها ولد فله الربع ‪ ،‬وأن الزوجة واحدة أو متعددات لها‬
‫الربع مما ترك الزوج إن لم يكن له ولد ‪ ،‬فإن كان للزوج ولد منها أو من‬
‫غيرها ذكر أو أنثى ‪ ،‬ولد صلب أو ولد ابن فلها أو لهن الثمن ‪.‬‬

‫) ‪(1/228‬‬

‫ثم ذكر الله ميراث الخوة من الم ‪ ،‬وأنهم ل يرثون إل إذا كانت الورثة كللة‬
‫ليس فيهم أحد من الفروع ول الب والجد ‪ ،‬فللواحد من الخوة من الم أو‬
‫الخوات السدس ‪ ،‬وللنثيين فأكثر الثلث ‪ ،‬يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم ‪ ،‬وهذه‬
‫الفروض كلها ذكر الله أنها من بعد الوصية إذا حصل اليصاء بها ‪ ،‬ومن بعد‬
‫الدين ‪ ،‬وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم ‪ :‬أن الدين قبل الوصية ‪ ،‬وقد‬
‫اتفق العلماء على ذلك ‪ ،‬وشرط الله في الوصية أن ل تكون على وجه‬
‫المضارة بالورثة ‪ ،‬فإن كانت كذلك فإنها وصية إثم وجنف يجب تعديلها ورد‬
‫الظلم الواقع فيها ‪.‬‬
‫وأخبر تعالى أن هذه التقديرات والفرائض حدود الله قدرها وحددها ‪ ،‬فل يحل‬
‫مجاوزتها ‪ ،‬ول الزيادة فيها والنقصان ‪ ،‬بأن يعطى وارث فوق حقه ‪ ،‬أو يحرم‬
‫وارث ‪ ،‬أو ينقص عن حقه ‪.‬‬

‫) ‪(1/229‬‬

‫ثم ذكر في آخر السورة ميراث الخوة لغير أم وأخواتهم بأن النثى الواحدة‬
‫لها النصف ‪ ،‬وللثنتين فأكثر الثلثان ‪ ،‬وإن اجتمع رجال ونساء فللذكر مثل حظ‬
‫النثيين ‪ ،‬ويقال فيهم كما يقال في الولد إذا كانوا ذكورا تساووا إذا كانوا‬
‫أشقاء أو لب ‪ ،‬فإن وجد هؤلء وهؤلء حجب الشقاء الخوة للب ‪ ،‬وإن كن‬
‫نساء شقيقات وأخوات لب ‪ ،‬واستغرق الشقيقات الثلثين لم يبق للخوات‬
‫للب شيء ; فإن كانت الشقيقة واحدة أخذت نصفها ‪ ،‬وأعطيت الخت للب‬
‫أو الخوات السدس تكملة الثلثين ‪.‬‬
‫وما سوى هذه الفروض فإن الورثة من إخوة لغير أم وبنيهم وأعمام وبنيهم‬
‫وولء يدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الصحيح ‪:‬‬
‫» ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لولى رجل ذكر « ‪ .‬رواه مسلم ‪،‬‬
‫فيقدم الخوة ثم بنوهم ثم العمام ثم بنوهم ثم الولء ; ويقدم منهم القرب‬
‫منزلة ‪ ،‬فإن استوت منزلتهم قدم القوى وهو الشقيق على الذي لب ‪ .‬والله‬
‫أعلم ‪.‬‬

‫) ‪(1/230‬‬

‫فصول تتعلق بالنكاح وتوابعه من الحكام‬


‫م‬ ‫ُ‬
‫ب لك ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما طا َ‬ ‫حوا َ‬ ‫مى َفان ْك ِ ُ‬ ‫ْ‬
‫طوا ِفي الي ََتا َ‬ ‫س ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫م أ َّل ت ُ ْ‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬ ‫ن ِ‬
‫قال الله تعالى ‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫مث َْنى وَث َُل َ‬
‫ت‬
‫ملك ْ‬ ‫ما َ‬ ‫حد َة ً أوْ َ‬ ‫وا ِ‬‫م أل ت َعْدِلوا فَ َ‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬‫ن ِ‬ ‫ث وَُرَباع َ فَإ ِ ْ‬ ‫ساِء َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ن لك ْ‬ ‫ن ط ِب ْ َ‬ ‫ة فَإ ِ ْ‬ ‫حل ً‬‫ن نِ ْ‬‫صد َُقات ِهِ ّ‬ ‫ساَء َ‬ ‫م ذ َل ِك أد َْنى أل ت َُعولوا {} َوآُتوا الن ّ َ‬ ‫مان ُك ْ‬‫أي ْ َ‬
‫ريًئا { ]النساء ‪ 3 :‬و ‪. [4‬‬ ‫م ِ‬ ‫سا فَك ُُلوه ُ هَِنيًئا َ‬ ‫ف ً‬
‫ه نَ ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫يٍء ِ‬‫ش ْ‬ ‫ن َ‬
‫عَ ْ‬
‫) ‪(1/231‬‬

‫لما من الباري على عباده بالنكاح قدرا وأباحه شرعا ‪ ،‬بل أحبه ورضيه وحث‬
‫عليه ؛ لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة ‪ ،‬رتب عليه أحكاما كثيرة وحقوقا‬
‫متنوعة تدور كلها على الصلح وإصلح أحوال الزوجين ‪ ،‬ودفع الضرر والفساد‬
‫‪ ،‬وهي من محاسن الشريعة ‪ ،‬والشريعة كلها محاسن ‪ ،‬وجلب للمصالح ‪،‬‬
‫س ُ‬
‫طوا { أي ‪ :‬تقوموا‬ ‫ق ِ‬ ‫م أ َّل ت ُ ْ‬
‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ودرء للمفاسد ‪ ،‬يقول تعالى هنا ‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫بحق النساء اليتامى اللتي تحت حجوركم ووليتكم لعدم محبتكم إياهن‬
‫ساِء { أي ‪ :‬ينبغي أن‬‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬‫طا َ‬ ‫ما َ‬‫حوا َ‬‫فاعدلوا إلى غيرهن } َفان ْك ِ ُ‬
‫تختاروا منهن الطيبات في أنفسهن اللتي تطيب لكم الحياة بالتصال بهن ‪،‬‬
‫الجامعات للدين والحسب والعقل والداب الحسنة وغير ذلك من الوصاف‬
‫الداعية لنكاحهن ‪.‬‬
‫وفي هذه الية الحث على الختيار قبل الخطبة ‪ ،‬وأنه ينبغي أن ل يتزوج إل‬
‫الجامعة للصفات المقصودة بالنكاح ‪ ،‬فإن النكاح يقصد لمور كثيرة من أهمها‬
‫كفاءة البيت والعائلة وحسن التدبير وحسن التربية ‪ ،‬وأهم صفة هذا النوع‬
‫الدين والعقل ‪.‬‬
‫ويقصد به إحصان الفرج ‪ ،‬والسرور في الحياة ‪ ،‬وعمدة هذا حسن الخلق‬
‫الظاهرة ‪ ،‬وحسن الخلئق الباطنة ‪.‬‬

‫) ‪(1/232‬‬

‫ويقصد به نجابة الولد وشرفهم ‪ ،‬وأساسه الحسب والنسب الرفيع ‪ ،‬ولهذا‬


‫أباح الشارع بل أمر بالنظر لمن يخطبها ؛ ليكون على بصيرة من أمره ‪.‬‬
‫ث وَُرَباعَ { أي ‪ :‬من أحب أن يتزوج اثنتين فليفعل ‪ ،‬أو ثلثا أو‬ ‫مث َْنى وَث َُل َ‬
‫} َ‬
‫أربعا فليفعل ‪ ،‬ول يزيد على الربع ؛ لن الية سيقت للمتنان ‪ ،‬فل يجوز‬
‫الزيادة على غير ما سمى الله إجماعا ‪ ،‬وذلك أن الرجل قد ل تندفع شهوته‬
‫بالواحدة ‪ ،‬أو ل يحصل مقصوده أو مقاصده بها ‪ ،‬كما تقدم أن النكاح له عدة‬
‫مقاصد ‪ ،‬فلهذا أباح الله له هذا العدد ؛ لن في الربع غنية لكل أحد إل ما‬
‫ندر ‪ ،‬ومع هذا فإذا خاف من نفسه الجور والظلم بالزيادة على الواحدة‬
‫فليقتصر على الواحدة ‪ ،‬أو على ملك يمينه التي ل يجب عليه لها قسم‬
‫ك أي ‪ :‬القتصار على واحدة من الزوجات ‪ ،‬أو ما ملكت‬ ‫كالزوجات ‪ ،‬ذ َل ِ َ‬
‫اليمين ‪ ،‬أدنى أن ل تعولوا أي ‪ :‬تظلموا وتجوروا ‪.‬‬

‫) ‪(1/233‬‬

‫ويستفاد من هذا المعنى أن تعرض العبد للمر الذي يخاف منه الجور والظلم‬
‫وعدم القيام بالواجب ‪ -‬ولو كان مباحا ‪ -‬ل ينبغي له أن يتعرض له ‪ ،‬بل يلزم‬
‫السعة والعافية ‪ ،‬فإن العافية خير ما أعطي العبد ‪ ،‬ولما كان كثير من الناس‬
‫يظلمون النساء ويهضمونهن حقوقهن ‪ ،‬وخصوصا الصداق الذي يكون شيئا‬
‫كثيرا دفعة واحدة يشق عليهم ‪ ،‬حثهم على إيتاء النساء صدقاتهن أي ‪:‬‬
‫ة { أي ‪ :‬عن حال طمأنينة وطيب نفس من غير مطل ول‬ ‫حل َ ً‬
‫مهورهن } ن ِ ْ‬
‫بخس منه شيئا ‪.‬‬
‫) ‪(1/234‬‬

‫وفيه أن المهر للمرأة ‪ ،‬وأنه يدفع إليها أو إلى وكيلها إن كانت رشيدة ‪ ،‬أو‬
‫إلى وليها إن لم تكن رشيدة ‪ ،‬وأنها تملكه بالعقد لنه أضافه إليها وأمر‬
‫ه { أي ‪:‬‬ ‫من ْ ُ‬
‫يٍء ِ‬ ‫ن َ‬
‫ش ْ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬
‫م عَ ْ‬ ‫بإعطائه لها ‪ ،‬وذلك يقتضي الملك ‪ } ،‬فَإ ِ ْ‬
‫ن ط ِب ْ َ‬
‫سا { بإسقاط شيء منه ‪ ،‬أو تأخيره ‪ ،‬أو المحاباة في‬ ‫ف ً‬ ‫من الصداق ‪ } ،‬ن َ ْ‬
‫ريئا { ل تبعة عليكم فيه ول حرج ; وهذا دليل‬ ‫ً‬ ‫م ِ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫التعوض عنه } فَك ُلوه ُ هَِنيئا َ‬
‫على أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها ‪ ،‬ولو بالتبرع ‪ ،‬وأنه ليس لوليها‬
‫من الصداق شيء إل ما طابت نفسها به إذا كانت رشيدة ‪ ،‬ويؤخذ من المر‬
‫بنكاح ما طاب من النساء تحريم نكاح الخبيثة التي ل يحل للمسلم نكاحها ‪،‬‬
‫وهي الكافرة غير الكتابية ‪ ،‬وكذلك الزانية حتى تتوب كما نص الله على‬
‫الثنتين ‪.‬‬
‫وفي هذه الية دليل على أنه ل بد في النكاح من صداق ‪ ،‬وأنه يجوز في‬
‫الكثير واليسير للعموم ‪ ،‬وأنه ل يباح لحد أن يتزوج بدون صداق ‪ ،‬وإن لم‬
‫يسم فمهر المثل ‪ ،‬إل النبي صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك خاصة ‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(1/235‬‬

‫ة لَ َ‬ ‫َ‬ ‫فسها ِللنبي إ َ‬ ‫} وا َ‬


‫ك‬ ‫ص ً‬‫خال ِ َ‬ ‫حَها َ‬‫ست َن ْك ِ َ‬
‫ن يَ ْ‬‫يأ ْ‬ ‫ن أَراد َ الن ّب ِ ّ‬ ‫ِّ ّ ِ ْ‬ ‫ت نَ ْ َ َ‬ ‫ن وَهَب َ ْ‬ ‫ة إِ ْ‬ ‫من َ ً‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫مَرأة ً ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ن { ]الحزاب ‪. [50 :‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ن ُدو ِ‬ ‫م ْ‬‫ِ‬
‫ن { ]البقرة ‪ [232 :‬دليل على‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جهُ ّ‬ ‫ن أْزَوا َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ي َن ْك ِ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ضلوهُ ّ‬ ‫وفي قوله ‪ } :‬فل ت َعْ ُ‬
‫اعتبار الولي في النكاح ‪ ،‬وهو العاصب ‪ ،‬ويقدم منهم القرب فالقرب ‪ ،‬فإن‬
‫تعذر الولي القريب والبعيد لعدم أو جهل أو غيبة طويلة قام الحاكم مقام‬
‫الولي ‪ ،‬فالسلطان والحاكم ولي من ل ولي لها من النساء ‪.‬‬
‫ل ل َك ُ َ‬ ‫َ‬
‫ضُلوهُ ّ‬
‫ن ل ِت َذ ْهَُبوا‬ ‫ها وََل ت َعْ ُ‬ ‫ساَء ك َْر ً‬ ‫ن ت َرُِثوا الن ّ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬
‫ْ‬
‫ح ّ‬‫مُنوا َل ي َ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ف فَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫شُروهُ ّ‬ ‫عا ِ‬ ‫مب َي ّن َةٍ وَ َ‬‫شةٍ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ن ي َأِتي َ‬ ‫ن إ ِّل أ ْ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ما آت َي ْت ُ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ب ِب َعْ ِ‬
‫خي ًْرا ك َِثيًرا { إلى قوله ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ن ت َك َْر ُ‬ ‫َ‬
‫ه ِفيهِ َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫جعَ َ‬‫شي ًْئا وَي َ ْ‬ ‫هوا َ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫ن فَعَ َ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ك َرِهْت ُ ُ‬
‫ميَثاًقا غَِليظا { ]النساء ‪. [21 - 19 :‬‬ ‫ً‬ ‫} ِ‬

‫) ‪(1/236‬‬

‫كان أهل الجاهلية إذا مات أحدهم ورثت زوجته عنه كما يورث ماله ‪ ،‬فرأى‬
‫قريبه كأخيه وابن عمه أنه أحق بها من نفسها ‪ ،‬ويحجرها عن غيره ‪ ،‬فإن‬
‫رضي بها تزوجها على غير صداق ‪ ،‬أو على صداق يحبه هو دونها ‪ ،‬وإن لم‬
‫يرض بزواجها عضلها ومنعها من الزواج إل بعوض من الزوج أو منها ‪ ،‬وكان‬
‫منهم أيضا من يعضل زوجته التي هي في حباله ‪ ،‬فيمنعها من حقوقها ‪ ،‬ومن‬
‫التوسعة لها لتفتدي منه ‪ ،‬فنهى الله المؤمنين عن هذه الحوال القبيحة‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫مب َي ّن َةٍ { كالزنا والكلم الفاحش وأذيتها لزوجها‬ ‫ح َ‬
‫شةٍ ُ‬ ‫فا ِ‬
‫ن بِ َ‬ ‫الجائرة } إ ِّل أ ْ‬
‫ن ي َأِتي َ‬
‫ومن يتصل به ‪ ،‬فيجوز في هذه الحال أن يعضلها مقابلة لها على فعلها‬
‫ن‬
‫شُروهُ ّ‬
‫عا ِ‬
‫لتفتدي منه ; فإن هذا الفتداء بحق ل بظلم ‪ ،‬ثم قال ‪ } :‬وَ َ‬
‫ف { ‪ ،‬وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية ‪ ،‬فعلى الزوج أن‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬
‫يعاشر زوجته ببذل النفقة والكسوة والمسكن اللئق بحاله ‪ ،‬ويصاحبها صحبة‬
‫جميلة بكف الذى ‪ ،‬وبذل الحسان ‪ ،‬وحسن المعاملة والخلق ‪ ،‬وأن ل يمطلها‬
‫بحقها ‪ ،‬وهي كذلك عليها ما عليه من العشرة ‪ ،‬وكل ذلك يتبع العرف في كل‬
‫زمان ومكان وحال ما يليق به ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(1/237‬‬

‫ه َل ي ُك َل ّ ُ‬
‫ف‬ ‫ما آَتاهُ الل ّ ُ‬ ‫م ّ‬
‫فق ْ ِ‬‫ه فَل ْي ُن ْ ِ‬
‫ن قُدَِر عَل َي ْهِ رِْزقُ ُ‬
‫م ْ‬
‫سعَت ِهِ وَ َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫سعَةٍ ِ‬ ‫فقْ ُذو َ‬ ‫} ل ِي ُن ْ ِ‬
‫ها { ]الطلق ‪. [7 :‬‬ ‫ما آَتا َ‬ ‫ّ‬
‫سا إ ِل َ‬ ‫ف ً‬
‫ه نَ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫خي ًْرا‬‫ه ِفيهِ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫شي ًْئا وَي َ ْ‬
‫جعَ َ‬ ‫هوا َ‬ ‫ن ت َك َْر ُ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫ن فَعَ َ‬ ‫موهُ ّ‬‫ن ك َرِهْت ُ ُ‬‫وقوله ‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫ك َِثيًرا { أي ‪ :‬ينبغي لكم يا معشر الزواج أن تمسكوا زوجاتكم ولو كرهتموهن‬
‫‪ ،‬فإن في ذلك خيرا كثيرا ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬امتثال أمر الله ورسوله الذي فيه سعادة الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫) ‪(1/238‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن إجباره نفسه ‪ ،‬ومجاهدته إياها مع عدم محبة زوجته تمرين على‬
‫التخلق بالخلق الجميلة ‪ ،‬وربما زالت الكراهة وخلفتها المحبة ‪ ،‬وربما زالت‬
‫السباب التي كرهها لجلها ‪ ،‬وربما رزق منها ولدا صالحا نفع الله به والديه‬
‫في الدنيا والخرة ‪ ،‬ول بد لهذه الكراهة من أسباب من الزوجة ‪ ،‬فينبغي إذا‬
‫كره منها خلقا لحظ بقية أخلقها ‪ ،‬وما فيها من المقاصد الخر ‪ ،‬ويجعل هذا‬
‫في مقابلة هذا ‪ ،‬وهذا عنوان النصاف والرأي الصيل ‪ ،‬فإن النزق الطائش‬
‫الذي ليس عنده إنصاف يلحظ بعض أغراضه النفسية ‪ ،‬فإذا لم يأت على ما‬
‫يريد أهدر المحاسن والمناقب الخر ‪ ،‬وهذا ل يكاد يصفو له خل في حياته ‪ ،‬ل‬
‫زوجة ول صاحب ول حبيب ‪ ،‬بل هو سريع التقلب ‪.‬‬
‫أما الرجل الحازم الوفي الذكي فإنه يوازن بين المور ‪ ،‬ويقدم الحق‬
‫السابق ‪ ،‬ويفي بالسوابق ‪ ،‬ويكون نظره للمحاسن أرجح من نظره للمساوئ‬
‫‪.‬‬

‫) ‪(1/239‬‬

‫فإن وصل إلى الدرجة العالية التي ل يصل إليها إل أفراد من كمل الرجال‬
‫جعل المحاسن نصب عينيه ‪ ،‬وأغضى عن المساوئ بالكلية ‪ ،‬وعفا عنها لله‬
‫ولحق صاحب الحق ‪ ،‬فهذا قد كسب الجر والراحة والخلق الذي ل يلحق ‪،‬‬
‫وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‪ ،‬وهذا الصبر المأمور به إنما هو مع المكان ‪،‬‬
‫فإن كان ل بد من الفراق ‪ ،‬ولم يبق للصبر والمساك موضع ‪ ،‬فالله قد أباح‬
‫ن َزوٍْج { أي ‪ :‬فل حرج‬ ‫م َ‬ ‫دا َ‬ ‫الفراق ‪ ،‬فلهذا قال ‪ } :‬وإ َ‬
‫كا َ‬ ‫ل َزوٍْج َ‬ ‫ست ِب ْ َ‬
‫ما ْ‬ ‫ن أَرد ْت ُ ُ‬‫َِ ْ‬
‫َ‬
‫عليكم ‪ ،‬ولكن إذا آتيتم إحداهن أي ‪ :‬الزوجة السابقة أو اللحقة ) قِن ْطاًرا (‬
‫ْ‬
‫شي ًْئا { ‪ ،‬بل وفروه لهن ول تمطلوهن ‪،‬‬ ‫ه َ‬‫من ْ ُ‬‫ذوا ِ‬ ‫وهو المال الكثير ‪ } ،‬فََل ت َأ ُ‬
‫خ ُ‬
‫وهذا يدل على جواز إعطاء النساء من المهور وغيرها المال الكثير ‪ ،‬وأنها‬
‫بذلك تملكه ‪ ،‬ولكن الكمل والفضل التساهل في المهور اقتداء بالنبي صلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬وتسهيل للنكاح ولطرقه وبراءة للذمم ‪.‬‬
‫) ‪(1/240‬‬

‫ْ‬
‫ه‬ ‫خ ُ‬
‫ذون َ ُ‬ ‫ثم ذكر الحكمة في تحريم أخذ الزوج ما أعطاه لزوجته ‪ ،‬فقال ‪ } :‬أ َت َأ ُ‬
‫ْ‬
‫خذ ْ َ‬
‫ن‬ ‫ض وَأ َ َ‬ ‫ضك ُ ْ َ‬
‫م إ ِلى ب َعْ ٍ‬ ‫ضى ب َعْ ُ‬
‫َ‬
‫ه وَقَد ْ أفْ َ‬ ‫خ ُ‬
‫ذون َ ُ‬ ‫ف ت َأ ُ‬ ‫مِبيًنا {} وَك َي ْ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً‬
‫ميَثاًقا غَِليظا { ‪ ،‬وبيان ذلك أن النثى قبل عقد النكاح محرمة على‬ ‫ً‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ِ‬
‫الزوج ‪ ،‬وهي لم ترض بهذا الحل إل بالعقد والميثاق الغليظ الذي عقد على‬
‫ذلك العوض المشروط ‪ ،‬فإذا دخل عليها وباشرها ‪ ،‬وأفضى إليها وأفضت إليه‬
‫‪ ،‬وباشرها المباشرة التي كانت قبل هذه المور حراما فقد استوفى المعوض‬
‫‪ ،‬فثبت عليه العوض تاما ‪ ،‬فكيف يستوفي المعوض ثم يرجع على العوض ؟ ل‬
‫ريب أن هذا من المنكرات القبيحة شرعا وعقل وفطرة ‪.‬‬
‫ساِء { ]النساء ‪. [22 :‬‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ح آَباؤُك ُ ْ‬ ‫ما ن َك َ َ‬‫حوا َ‬ ‫} وََل ت َن ْك ِ ُ‬
‫ثم عدد المحرمات إلى أن قال ‪:‬‬
‫م { ]النساء ‪. [24 :‬‬ ‫ما وََراَء ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬‫} وَأ ُ ِ‬

‫) ‪(1/241‬‬

‫قد استوفى الباري المحرمات في النكاح في هذه اليات في النسب والرضاع‬


‫والمصاهرة ‪ ،‬أما المحرمات بالمصاهرة فإن تزوج الرجل امرأة ترتب على‬
‫هذا الزواج أربعة أحكام ‪ :‬تحريم هذه الزوجة على أولده وإن نزلوا نسبا‬
‫ورضاعا ‪ ،‬وتحريمها على آبائه وإن علوا نسبا ورضاعا ‪ ،‬وحرمت عليه أمها في‬
‫الحال ‪ ،‬وأما بنتها فإن كان قد دخل بزوجته حرمت أيضا ‪ ،‬وصارت ربيبة ‪ ،‬ل‬
‫فرق بين بنتها من زوج سابق له ‪ ،‬أو من زوج خلفه عليها ‪.‬‬

‫) ‪(1/242‬‬

‫وأما المحرمات بالنسب فتحرم المهات ‪ ،‬وهن كل أنثى لها عليك ولدة ‪،‬‬
‫وهي التي تخاطبها بالم والجدة وإن علت من كل جهة ‪ ،‬وتحرم البنات ‪ ،‬وهن‬
‫كل أنثى تخاطبك بالبوة أو بالجدودة من بنات البن وبنات البنات وإن نزلن ‪،‬‬
‫وتحرم الخوات شقيقات كن أو لب أو لم ‪ ،‬وبنات الخوة وبنات الخوات‬
‫مطلقا ‪ ،‬وتحرم العمات والخالت ‪ ،‬وهن كل أخت لحد آبائك وإن عل ‪ ،‬أو أحد‬
‫أمهاتك وإن علون ‪ ،‬وما سوى ذلك من القارب حلل كبنات العمام ‪ ،‬وبنات‬
‫العمات ‪ ،‬وبنات الخوال ‪ ،‬وبنات الخالت ‪ ،‬ولهذا ذكر الله هذا الحل والتحريم‬
‫المهم في موضعين ‪ :‬في هذا الموضع صرح بالمحرمات السبع وقال ‪:‬‬
‫م { ‪ ،‬وفي سورة الحزاب أتى بها بأسلوب آخر ‪،‬‬ ‫ما وََراَء ذ َل ِك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫} وَأ ُ ِ‬
‫ح ّ‬
‫خاَلت ِ َ‬
‫ك‬ ‫ت َ‬ ‫خال ِ َ‬
‫ك وَب ََنا ِ‬ ‫ت َ‬ ‫مات ِ َ‬
‫ك وَب ََنا ِ‬ ‫ت عَ ّ‬ ‫م َ‬
‫ك وَب ََنا ِ‬ ‫ت عَ ّ‬ ‫فقال في الحل ‪ } :‬وَب ََنا ِ‬
‫ك { ]سورة الحزاب ‪ :‬الية ‪ [50‬أي ‪ :‬فهن حلل ‪ ،‬ومن‬ ‫معَ َ‬‫ن َ‬‫جْر َ‬ ‫ها َ‬‫الّلِتي َ‬
‫عداهن من القارب حرام ‪.‬‬

‫) ‪(1/243‬‬
‫وأما المحرمات بالرضاع فإنهن نظير المحرمات بالنسب من جهة المرضعة‬
‫وصاحب اللبن ‪ ،‬فالمرضعة أم للرضيع ‪ ،‬وأمهاتها جداته ‪ ،‬وإخوتها وأخواتها‬
‫أخواله وخالته ‪ ،‬وأولدها إخوته وأخواته ‪ ،‬وهو عم لولدهم أو خال ‪ ،‬وكذلك‬
‫صاحب اللبن ‪.‬‬
‫وأما النتشار من جهة الطفل الراضع فل ينتشر التحريم لحد من أقاربه إل‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫م ِ‬‫جورِك ُ ْ‬
‫ح ُ‬ ‫لذريته فقط ‪ ،‬وتقييد الية في الربيبة بقوله ‪ } :‬الّلِتي ِفي ُ‬
‫م { بيان لغلب أحوالها ‪ ،‬ولبيان أعلى حكمة تناسب حكمة التحريم ‪،‬‬ ‫سائ ِك ُ ُ‬
‫نِ َ‬
‫وأنها إذا كانت في حجرك بمنزلة بناتك ل يليق إل أن تكون من محارمك ‪.‬‬
‫ل أ َبنائ ِك ُم ال ّذين م َ‬
‫م { يخرج ابن‬ ‫صَلب ِك ُ ْ‬
‫نأ ْ‬‫ِ َ ِ ْ‬ ‫ُ‬ ‫حَلئ ِ ُ ْ َ‬
‫وتقييدها الخر بقوله ‪ } :‬وَ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ت ِ‬‫صَنا ُ‬ ‫ح َ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫التبني ل يخرج ابن الرضاع في قول جمهور العلماء ‪َ } ،‬وال ُ‬
‫ساِء { أي ‪ :‬ذوات الزواج ‪ ،‬فكل أنثى في عصمة زوج أو في بقية عدته ل‬ ‫الن ّ َ‬
‫تحل لغيره ؛ لن البضاع ليست محل اشتراك ‪ ،‬بل قصد تمييزها التام ‪ ،‬ولهذا‬
‫شرعت العدة والستبراء ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬

‫) ‪(1/244‬‬

‫َ‬
‫م { ‪ :‬المراد بهذا الملك ملك السبي ‪ ،‬إذا سبيت‬ ‫مان ُك ُ ْ‬
‫ت أي ْ َ‬‫مل َك َ ْ‬
‫ما َ‬ ‫وقوله ‪ } :‬إ ِّل َ‬
‫المرأة ذات الزوج من الكفار في القتال الشرعي حلت للمسلمين ‪ ،‬ولكن‬
‫بعد الستبراء أو العدة ‪ ،‬فزوجها الحربي الذي في دار الحرب لم يبق له فيها‬
‫حق ‪ ،‬ول له حرمة ‪ ،‬فلهذا حلت للمسلمين كما حل لهم ماله ودمه ‪ ،‬لنه‬
‫ليس له عهد ول مهادنة ‪.‬‬
‫م { أي ‪ :‬ما سوى ما نص الله على‬ ‫ما وََراَء ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫م َ‬‫ل ل َك ُ ْ‬
‫ح ّ‬‫وقوله ‪ } :‬وَأ ُ ِ‬
‫تحريمه ‪ :‬سبع بالنسب ‪ ،‬وسبع بالرضاع ‪ ،‬وأربع بالصهر ‪ ،‬فما عداهن فإنه‬
‫حلل ‪ ،‬إل أنه حرم تعالى الجمع بين الختين ‪ ،‬وحرم النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم الجمع بين المرأة وعمتها ‪ ،‬وحرم على الحرار نكاح المملوكات لما‬
‫فيه من إرقاق الولد ‪ ،‬ولما فيه من الدناءة والضرر العائد للولد ؛ لتنازع‬
‫الملك ‪ ،‬وتنقلت الرقاء ‪ ،‬لكن إذا رجحت مصلحة الباحة فقد أباحه الله‬
‫بشرط المشقة لحاجة متعة أو خدمة ‪ ،‬وأن ل يقدر على الطول للحرة ‪ ،‬وأن‬
‫تكون المة مؤمنة بإذن أهلها ‪ ،‬فعند اجتماع هذه الشروط كلها يحل للحر‬
‫نكاح الماء ‪.‬‬

‫) ‪(1/245‬‬

‫ما‬‫ض وَب ِ َ‬ ‫ضهُ ْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫ض َ‬‫ما فَ ّ‬ ‫ن عََلى الن ّ َ‬ ‫ل قَ ّ‬‫جا ُ‬


‫م عَلى ب َعْ ٍ‬ ‫ه ب َعْ َ‬ ‫ساِء ب ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫وا ُ‬ ‫وقوله ‪ } :‬الّر َ‬
‫قوا م َ‬
‫ّ‬
‫ه َواللِتي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫فظ الل ُ‬ ‫ح ِ‬
‫ما َ‬‫ب بِ َ‬ ‫ْ‬
‫ت ل ِلغَي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫حافِظا ٌ‬ ‫ت َ‬‫ت َقان َِتا ٌ‬ ‫حا ُ‬ ‫صال ِ َ‬‫م َفال ّ‬ ‫وال ِهِ ْ‬ ‫م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬ ‫أ َن ْ َ‬
‫ف ُ‬
‫ظوهُن واهْجروهُن في ال ْمضاجع واضربوهُن فَإ َ‬
‫ن أط َعْن َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ّ ِ ْ‬ ‫َ َ ِ ِ َ ْ ُِ‬ ‫ّ ِ‬ ‫ّ َ ُ ُ‬ ‫ن فَعِ ُ‬ ‫شوَزهُ ّ‬ ‫ن نُ ُ‬‫خاُفو َ‬ ‫تَ َ‬
‫َ‬
‫ن عَل ِّيا كِبيًرا { ]النساء ‪. [34 :‬‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ً‬
‫سِبيل إ ِ ّ‬‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فَل ت َب ُْغوا عَلي ْهِ ّ‬
‫) ‪(1/246‬‬

‫هذا خبر وأمر ‪ ،‬أي ‪ :‬الرجال قوامون على النساء في أمور الدين والدنيا ‪،‬‬
‫يلزمونهن بحقوق الله ‪ ،‬والمحافظة على فرائضه ‪ ،‬ويكفونهن عن جميع‬
‫المعاصي والمفاسد ‪ ،‬وبتقويمهن بالخلق الجميلة والداب الطيبة ‪ ،‬وقوامون‬
‫ما‬
‫أيضا عليهن بواجباتهن من النفقة والكسوة والمسكن وتوابع ذلك ‪ } ،‬ب ِ َ‬
‫قوا م َ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬ ‫ضهُ ْ َ‬
‫م { أي ‪ :‬ذلك بسبب‬ ‫وال ِهِ ْ‬ ‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ض وَب ِ َ‬
‫م عَلى ب َعْ ٍ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه ب َعْ َ‬ ‫فَ ّ‬
‫ض َ‬
‫فضل الرجال عليهن وإفضالهم عليهن ‪ ،‬فتفضيل الرجال على النساء من‬
‫وجوه متعددة ‪ :‬من كون الوليات كلها مختصة بالرجال والنبوة والرسالة ‪،‬‬
‫وباختصاصهم بالجهاد البدني ‪ ،‬ووجوب الجماعة والجمعة ونحو ذلك ‪ ،‬وبما‬
‫تميزوا به عن النساء من العقل والرزانة والحفظ والصبر والجلد والقوة التي‬
‫ليست للنساء ‪ ،‬وكذلك يده هي العليا عليها بالنفقات المتنوعة ‪ ،‬بل وكثير من‬
‫النفقات الخر والمشاريع الخيرية ‪ ،‬فإن الرجال يفضلون النساء بذلك كما هو‬
‫م { ليدل‬ ‫قوا م َ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬
‫وال ِهِ ْ‬
‫م َ‬
‫نأ ْ‬‫ِ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫مشاهد ‪ ،‬ولهذا حذف المتعلق في قوله ‪ } :‬وَب ِ َ‬
‫على هذا التعميم ‪ ،‬فعلم من ذلك أن الرجل كالوالي والسيد على امرأته ‪،‬‬
‫وهي عنده أسيرة عانية تحت أمره وطاعته ‪ ،‬فليتق الله في أمرها ‪ ،‬وليقومها‬

‫) ‪(1/247‬‬

‫تقويما ينفعه في دينه ودنياه ‪ ،‬وفي بيته وعائلته يجد ثمرات ذلك عاجل وآجل ‪،‬‬
‫وإل يفعل فل يلومن إل نفسه ; وهن قسمان ‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬قسم هن أعلى طبقات النساء ‪ ،‬وخير ما حازه الرجال ‪ ،‬وهن‬
‫ه{‬ ‫ظ الل ّ ُ‬
‫ف َ‬‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ب بِ َ‬‫ت ل ِل ْغَي ْ ِ‬ ‫حافِ َ‬
‫ظا ٌ‬ ‫ت َ‬‫ت َقان َِتا ٌ‬
‫حا ُ‬ ‫المذكورات في قوله ‪َ } :‬فال ّ‬
‫صال ِ َ‬
‫أي ‪ :‬مطيعات لله ولزواجهن ‪ ،‬قد أدت الحقين ‪ ،‬وفازت بكفلين من الثواب ‪،‬‬
‫حافظات أنفسهن من جميع الريب ‪ ،‬وحافظات لمانتهن ورعاية بيوتهن ‪،‬‬
‫وحافظات للعائلة بالتربية الحسنة ‪ ،‬والدب النافع في الدين والدنيا ‪ ،‬وعليهن‬
‫ه { أي ‪:‬‬ ‫ظ الل ّ ُ‬‫ف َ‬‫ح ِ‬‫ما َ‬ ‫بذل الجهد والستعانة بالله على ذلك ؛ فلهذا قال ‪ } :‬ب ِ َ‬
‫إذا وفقن لهذا المر الجليل فليحمدن الله على ذلك ‪ ،‬ويعلمن أن هذا من‬
‫حفظه وتوفيقه وتيسيره لها ‪ ،‬فإن من وكل إلى نفسه فالنفس أمارة‬
‫بالسوء ‪ ،‬ومن شاهد منة الله ‪ ،‬وتوكل على الله ‪ ،‬وبذل مقدوره في العمال‬
‫النافعة ‪ ،‬كفاه الله ما أهمه ‪ ،‬وأصلح له أموره ‪ ،‬ويسر له الخير ‪ ،‬وأجراه على‬
‫عوائده الجميلة ‪.‬‬

‫) ‪(1/248‬‬

‫والقسم الثاني ‪ :‬هن الطبقة النازلة من النساء ‪ ،‬وهن بضد السابقات في كل‬
‫خصلة ‪ ،‬اللتي من سوء أخلقهن وقبح تربيتهن تترفع على زوجها ‪ ،‬وتعصيه‬
‫في المور الواجبة والمستحبة ‪ ،‬فأمر الله بتقويمهن بالسهل فالسهل ‪ ،‬فقال‬
‫ن { أي ‪ :‬بينوا لهن حكم الله ورسوله‬ ‫ن فَعِ ُ‬
‫ظوهُ ّ‬ ‫ن نُ ُ‬
‫شوَزهُ ّ‬ ‫‪َ } :‬والّلِتي ت َ َ‬
‫خاُفو َ‬
‫في وجوب طاعة الزواج ‪ ،‬ورغبوهن في ذلك بما يترتب عليه من الثواب ‪،‬‬
‫وخوفوهن معصية الزواج ‪ ،‬وذكروهن ما في ذلك من العقاب ‪ ،‬وما يترتب‬
‫عليه من قطع حقوقها ‪ ،‬وإباحة هجرها وضربها ‪ ،‬فإن تقومن بالوعظ والتذكير‬
‫فذلك المطلوب ‪ ،‬وحصل التفاق الذي ل يشوبه مكدر ‪ ،‬فإن لم يفد التذكير‬
‫فاهجروهن في المضاجع ‪ ،‬بأن ل ينام عندها ‪ ،‬ول يباشرها بجماع ول غيره ؛‬
‫لعل الهجر ينجع فيها ‪ ،‬ذلك بمقدار ما يحصل به المقصود فقط ‪ ،‬فإن القصد‬
‫بالهجر نفع المهجور وأدبه ‪ ،‬ليس الغرض منه شفاء النفس كما يفعله من ل‬
‫رأي له إذا خالفته زوجته أو غيرها ‪ ،‬ولم يحصل مقصوده ‪ ،‬هجر هجرا مستمرا‬
‫‪ ،‬أي ‪ :‬بقي متأثرا بذلك ‪ ،‬عاتبا على من لم يواته على ما يحب ‪ ،‬ووصلت به‬
‫الحال إلى الحقد الذي هو من الخصال الذميمة ‪ ،‬فهذا ليس من الهجر‬
‫الجميل النافع ‪ ،‬وإنما هو من‬

‫) ‪(1/249‬‬

‫الحقد الضار بصاحبه ‪ ،‬الذي ل يحصل به تقويم ول مصلحة ‪ ،‬فإن نفع الهجر‬
‫للزوجة وإل انتقل إلى ضربها ضربا خفيفا غير مبرح ‪ ،‬فإن حصل المقصود ‪،‬‬
‫ورجعت إلى الطاعة ‪ ،‬وتركت المعصية ‪ ،‬عاد الزوج إلى عشرتها الجميلة ‪ ،‬ول‬
‫سبيل له إلى غير ذلك من أذيتها ؛ لنها رجعت إلى الحق ‪.‬‬
‫وهذا الدواء لكل عاص ومجرم ‪ ،‬إن الشارع رغبه إذا ترك إجرامه عاد حقه‬
‫الخاص والعام كما في حق التائب من الظلم وقطع الطريق وغيرها ‪ ،‬فكيف‬
‫الزوج مع زوجته ‪.‬‬
‫وفي هذه الية ونحوها فائدة نافعة ‪ ،‬وهي أنه ينبغي لمن عاد إلى الحق أن ل‬
‫يذكر المور السالفة ‪ ،‬فإن ذلك أحرى للثبات على المطلوب ‪ ،‬فإن تذكير‬
‫المور الماضية ربما أثار الشر ‪ ،‬فانتكس المرض ‪ ،‬وعادت الحال إلى أشد‬
‫من الولى ‪.‬‬

‫) ‪(1/250‬‬

‫دا‬ ‫قاقَ بين ِهما َفابعُثوا حك َما من أ َهْل ِه وحك َما م َ‬


‫ري َ‬
‫ن يُ ِ‬
‫ن أهْل َِها إ ِ ْ‬
‫ِ َ َ ً ِ ْ‬ ‫َ ً ِ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َْ ِ َ‬ ‫ش َ‬‫م ِ‬‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬
‫ن ِ‬‫} وَإ ِ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫صَل ً‬
‫خِبيًرا { ]النساء ‪. [35 :‬‬ ‫ما َ‬‫ن عَِلي ً‬
‫كا َ‬ ‫ن الل َ‬‫ما إ ِ ّ‬‫ه ب َي ْن َهُ َ‬
‫ق الل ُ‬‫حا ي ُوَفّ ِ‬ ‫إِ ْ‬

‫) ‪(1/251‬‬

‫هذه حالة أخرى غير الحالة السابقة التي يمكن للزوج معالجتها ‪ ،‬وهذه إذا‬
‫استطار الشر بين الزوجين ‪ ،‬وبلغت الحال إلى الخصام وعدم اللتئام ‪ ،‬ولم‬
‫ن أ َهْل َِها {‬
‫م ْ‬ ‫حك َ ً‬
‫ما ِ‬
‫ينفع في ذلك وعظ ول كلم } َفابعُثوا حك َما م َ‬
‫ن أهْل ِهِ وَ َ‬
‫َ ً ِ ْ‬ ‫َْ‬
‫عدلين عاقلين يعرفان الجمع والتفريق ‪ ،‬ويفهمان المور كما ينبغي ‪ ،‬فإن‬
‫الحكم ل بد أن يتصف بهذه الوصاف ‪ ،‬فيبحثان في السباب التي أدت بهما‬
‫إلى هذه الحال ‪ ،‬ويسألن كل منهما ما ينقم على صاحبه ‪ ،‬ويزيلن ما يقدران‬
‫عليه من المعتبة بترغيب الناقم على الخر بالغضاء عن الهفوات واحتمال‬
‫الزلت ‪ ،‬وإرشاد الخر إلى الوعد بالرجوع ‪ ،‬وإرشاد كل منهما إلى الرضى‬
‫والنزول عن بعض حقه ‪ ،‬فكم حصل بهذا الطريق من المصالح شيء كثير ‪،‬‬
‫وإن أمكنهما إلزام المتعصب على الباطل منهما بالحق فَعََل ‪ ،‬ومهما وجدا‬
‫طريقا إلى الصلح والتفاق والملءمة بينهما لم يعدل عنها ‪ ،‬إما بتنازل عن‬
‫بعض الحقوق ‪ ،‬أو ببذل مال ‪ ،‬أو غير ذلك ‪ ،‬فإن تعذرت الطرق كلها ‪ ،‬ورأيا‬
‫أن التفريق بينهما أصلح لتعذر الملءمة فرقا بينهما بما تقتضيه الحال بعوض‬
‫أو بغير عوض ‪ ،‬ول يشترط في هذا رضى الزوج ؛ لن الله سماهما حكمين ل‬
‫وكيلين ‪ ،‬ومن‬
‫) ‪(1/252‬‬

‫قال إنهما وكيلن اشترط في التفريق رضى الزوج ‪ ،‬ولكن هذا القول‬
‫دا‬
‫ري َ‬‫ن يُ ِ‬ ‫ضعيف ‪ ،‬ولمحبة الباري للتفاق بينهما وترجيحه على الخر قال ‪ } :‬إ ِ ْ‬
‫ما { أي ‪ :‬بسبب الرأي الميمون ‪ ،‬والكلم اللطيف ‪،‬‬ ‫ه ب َي ْن َهُ َ‬ ‫ق الل ّ ُ‬
‫حا ي ُوَفّ ِ‬ ‫صَل ً‬ ‫إِ ْ‬
‫ما { ‪:‬‬ ‫ن عَِلي ً‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫والوعد الجميل الذي يجذب القلوب ‪ ،‬ويؤثر فيها ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫بالسرائر والظواهر مطلعا على الخفايا ‪ ،‬فمن كمال علمه وحكمته شرع لكم‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫هذه الحكام الجليلة التي هي الطريق الوحيد إلى القيام بالحقوق ‪ } :‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ن { ]المائدة ‪. [50 :‬‬ ‫قوْم ٍ ُيوقُِنو َ‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫حك ْ ً‬ ‫ن الل ّهِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫مَرأ َة ٌ َ‬
‫حا‬ ‫صل ِ َ‬‫ن يُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ح عَل َي ْهِ َ‬‫جَنا َ‬ ‫ضا فََل ُ‬ ‫شوًزا أوْ إ ِعَْرا ً‬ ‫ن ب َعْل َِها ن ُ ُ‬‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫خافَ ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫} وَإ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫قوا فَإ ِ ّ‬ ‫سُنوا وَت َت ّ ُ‬ ‫ح ِ‬‫ن تُ ْ‬ ‫ح وَإ ِ ْ‬ ‫س ال ّ‬
‫ش ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫ت اْلن ْ ُ‬‫ضَر ِ‬‫ح ِ‬ ‫خي ٌْر وَأ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫صل ْ ُ‬‫حا َوال ّ‬ ‫صل ْ ً‬ ‫ما ُ‬ ‫ب َي ْن َهُ َ‬
‫خِبيًرا { ]النساء ‪. [128 :‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬

‫) ‪(1/253‬‬

‫هذه حالة من أحوال الزوجين غير الحوال السابقة ؛ لن الحالتين السابقتين ‪:‬‬
‫حالة نشوز الزوجة ‪ ،‬وحالة وقوع الخصام واستطارة الشر بينهما ‪ ،‬وهذه إذا‬
‫كان الزوج هو الراغب عن زوجته ‪ ،‬إما عدم محبة وإما طمعا ‪ ،‬فأرشد الله‬
‫في هذه الحال إلى الطريق الذي تستقيم به المور ‪ ،‬وهو طريق الصلح من‬
‫المرأة أو وليها ليعود الزوج إلى الستقامة ‪ ،‬بأن تسمح المرأة عن بعض حقها‬
‫اللزم لزوجها على شرط البقاء معه ‪ ،‬وأن يعود إلى مقاصد النكاح أو‬
‫بعضها ‪ ،‬كأن ترضى ببعض النفقة أو الكسوة أو المسكن ‪ ،‬أو تسقط حقها‬
‫من القسم ‪ ،‬أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها بإذنه ‪ ،‬فمتى اتفقا على‬
‫شيء من ذلك فل حرج ول بأس ‪ ،‬وهو أحسن من المقاضاة في الحقوق‬
‫خي ٌْر { ‪.‬‬ ‫صل ْ ُ‬
‫ح َ‬ ‫المؤدية إلى الجفاء أو إلى الفراق ‪ ،‬ولهذا قال ‪َ } :‬وال ّ‬
‫وهذا أصل عظيم في جميع الشياء ‪ ،‬وخصوصا في الحقوق المتنازع فيها أن‬
‫المصالحة فيها خير من استقصاء كل منهما على حقه كله ؛ لما في الصلح‬
‫من بقاء اللفة ‪ ،‬والتصاف بصفة السماح ‪ ،‬وهو جائز بين المسلمين في كل‬
‫البواب ‪ -‬إل صلحا أحل حراما أو حرم حلل ‪. -‬‬

‫) ‪(1/254‬‬

‫واعلم أن كل حكم من الحكام ل يتم ول يكمل إل بوجود مقتضيه وانتفاء‬


‫موانعه ‪ ،‬فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح ‪ ،‬فذكر تعالى المقتضى‬
‫خي ٌْر { والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه ‪ ،‬فإن‬ ‫ح َ‬ ‫صل ْ ُ‬
‫لذلك ‪ ،‬فقال ‪َ } :‬وال ّ‬
‫كان مع ذلك قد أمر الله به وحث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه ‪،‬‬
‫ح { أي ‪ :‬جبلت النفوس على‬ ‫س ال ّ‬ ‫ت اْل َن ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ش ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫ضَر ِ‬
‫ح ِ‬‫وذكر المانع بقوله ‪ } :‬وَأ ْ‬
‫الشح ‪ ،‬وهو الستئثار والتفرد في الحقوق ‪ ،‬وعدم الرغبة في بذل ما على‬
‫النسان ‪ ،‬والحرص على الحق الذي له ‪ ،‬فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخلق الدنيء من نفوسكم ‪،‬‬
‫وتقليله وتلطيفه وتستبدلوا به ضده ‪ ،‬وهو السماحة ببذل جميع الحقوق التي‬
‫عليك ‪ ،‬والقتناع ببعض الحق الذي لك ‪ ،‬والغضاء عن التقصير ‪ ،‬فمتى وفق‬
‫العبد لهذا الخلق الطيب سهل عليه الصلح بينه وبين كل من بينه وبينه‬
‫منازعة ومعاملة ‪ ،‬وتسهلت الطريق الموصلة إلى المطلوب ‪ ،‬ومن لم يكن‬
‫بهذا الوصف تعسر الصلح أو تعذر ؛ لنه ل يرضيه إل جميع ما له كامل مكمل ‪،‬‬
‫ول يهون عليه أن يؤدي ما عليه ‪ ،‬فإن كان خصمه مثله اشتد المر ‪.‬‬

‫) ‪(1/255‬‬

‫قوا { أي ‪ :‬تحسنوا في عبادة الخالق ‪ ،‬والحسان‬ ‫سُنوا وَت َت ّ ُ‬‫ح ِ‬ ‫ن تُ ْ‬‫ثم قال ‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫أن تعبد الله كأنك تراه ‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك ‪ ،‬وتحسنوا إلى‬
‫المخلوقين بكل إحسان قولي أو فعلي ‪ ،‬وتتقوا الله بفعل جميع المأمورات ‪،‬‬
‫وترك جميع المحظورات ‪ ،‬أو تحسنوا بفعل المأمور ‪ ،‬وتتقوا بترك المحظور }‬
‫خِبيًرا { فيجازيكم على قيامكم بالحسان والتقوى ‪،‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬‫ما ت َعْ َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫فَإ ِ ّ‬
‫أو على عدم ذلك بالجزاء بالفضل والعدل ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬
‫مي ْ ِ‬
‫ل ال َ‬ ‫ُ‬
‫ميلوا ك ّ‬ ‫َ‬
‫م فل ت َ ِ‬ ‫صت ُ ْ‬
‫حَر ْ‬ ‫ساِء وَل َوْ َ‬‫ن الن ّ َ‬ ‫ن ت َعْدُِلوا ب َي ْ َ‬ ‫طيُعوا أ ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫} وَل َ ْ‬
‫ما { ]النساء ‪:‬‬ ‫حي ً‬
‫فوًرا َر ِ‬ ‫ن غَ ُ‬‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫قوا فَإ ِ ّ‬‫حوا وَت َت ّ ُ‬ ‫صل ِ ُ‬ ‫ن تُ ْ‬
‫قةِ وَإ ِ ْ‬ ‫معَل ّ َ‬‫كال ْ ُ‬
‫ها َ‬ ‫فَت َذ َُرو َ‬
‫‪. [129‬‬

‫) ‪(1/256‬‬

‫يخبر تعالى أنه ليس في قدرة الزواج العدل التام بين زوجاتهم ‪ ،‬فإن العدل‬
‫التام يقتضي أن يكون الداعي والحب على السواء ‪ ،‬والميل القلبي على‬
‫السواء ‪ ،‬ويقتضي مع ذلك اليمان الصادق ‪ ،‬والرغبة في مكارم الخلق‬
‫للعمل بمقتضى ذلك ‪ ،‬وهذا متعذر غير ممكن ‪ ،‬فلذلك عذر الله الزواج ‪،‬‬
‫وعفا عنهم عما ل يقدرون عليه ‪ ،‬ولكنه أمرهم بالعدل الممكن فقال ‪ } :‬فَلَ‬
‫قةِ { أي ‪ :‬ل تميلوا إلى إحداهن عن الخرى‬ ‫معَل ّ َ‬
‫كال ْ ُ‬
‫ها َ‬
‫ل فَت َذ َُرو َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫ميُلوا ك ُ ّ‬
‫تَ ِ‬
‫ميل كثيرا ‪ ،‬بحيث ل تؤدون حقوقهن الواجبة ‪ ،‬بل افعلوا مستطاعكم من‬
‫العدل ‪ ،‬فالنفقة والكسوة والقسم في المبيت والفراش ونحو ذلك مقدور ‪،‬‬
‫فعليكم العدل فيها بينهن ‪ ،‬بخلف الحب والوطء وتوابع ذلك ‪ ،‬فالعبد ل يملك‬
‫معَل ّ َ‬
‫قةِ { يعني ‪ :‬أن الزوج إذا مال‬ ‫كال ْ ُ‬
‫ها َ‬
‫نفسه فعذره الله ‪ ،‬وقوله ‪ } :‬فَت َذ َُرو َ‬
‫عن زوجته وزهد فيها ولم يقم بحقوقها الواجبة ‪ ،‬وهي في حباله أسيرة عنده‬
‫صارت كالمعلقة التي ل زوج لها فتستريح ‪ ،‬ول ذات زوج يقوم بحقوقها ‪ ،‬وإن‬
‫تصلحوا فيما بينكم وبين زوجاتكم بوجه من وجوه الصلح كما تقدم ‪،‬‬
‫وبمجاهدة أنفسكم على فعل ما ل تهواه النفس احتسابا وقياما بحق الزوجة ‪،‬‬
‫وتصلحوا‬

‫) ‪(1/257‬‬

‫أيضا فيما بينكم وبين الناس فيما تنازعتم به من الحقوق ‪ ،‬وتتقوا الله بامتثال‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬‫ن غَ ُ‬‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫أمره واجتناب نهيه } فَإ ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ه ك ُّل ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ما { ]النساء ‪:‬‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬
‫سًعا َ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫سعَت ِهِ وَكا َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫فّرَقا ي ُغْ ِ‬
‫ن ي َت َ َ‬
‫} وَإ ِ ْ‬
‫‪. [130‬‬
‫َ‬
‫فّرقا {‬‫ن ي َت َ َ‬
‫يعني ‪ :‬إذا تعذر التفاق واللتئام فل بأس بالفراق ‪ ،‬فقال ‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ه ك ُّل { من الزوجين } ِ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫أي ‪ :‬بفسخ أو طلق أو خلع أو غير ذلك } ي ُغْ ِ‬
‫سعَت ِهِ { أي ‪ :‬من فضله وإحسانه العام الشامل ‪ ،‬فيغني الزوج بزوجة خير له‬ ‫َ‬
‫منها ‪ ،‬ويغنيها من فضله برزق من غير طريقه ‪ ،‬فإنها وإن توهمت أنه إذا‬
‫فارقها زوجها المنفق عليها القائم بمؤنتها ينقطع عنها الرزق ‪ ،‬فسوف يغنيها‬
‫الله من فضله ‪ ،‬فإن رزقها ليس على الزوج ول على غيره ‪ ،‬بل على‬
‫المتكفل القائم بأرزاق الخليقة كلها ‪ ،‬وخصوصا من تعلق قلبه به ورجاه رجاء‬
‫قلبيا طامعا في فضله كل وقت ‪ ،‬فإن الله عند ظن عبده به ‪ ،‬ولعل الله‬
‫سًعا { أي ‪ :‬واسع الرحمة كثير‬ ‫ه َوا ِ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫يرزقها زوجا خيرا لها منه وأنفع } وَ َ‬
‫كا َ‬
‫ما { في وضعه المور مواضعها ‪.‬‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬
‫الحسان } َ‬

‫) ‪(1/258‬‬

‫وفي الية تنبيه على أنه ينبغي للعبد أن يعلق رجاءه بالله وحده ‪ ،‬وأن الله إذا‬
‫قدر له سببا من أسباب الرزق والراحة أن يحمده على ذلك ‪ ،‬ويسأله أن‬
‫يبارك فيه له ‪ ،‬فإن انقطع أو تعذر ذلك السبب فل يتشوش قلبه ‪ ،‬فإن هذا‬
‫السبب من جملة أسباب ل تحصى ول يتوقف رزق العبد على ذلك السبب‬
‫المعين ‪ ،‬بل يفتح له سببا غيره أحسن منه وأنفع ‪ ،‬وربما فتح له عدة أسباب ‪،‬‬
‫فعليه في أحواله كلها أن يجعل فضل ربه ‪ ،‬والطمع في بره نصب عينيه‬
‫وقبلة قلبه ‪ ،‬ويكثر من الدعاء المقرون بالرجاء ; فإن الله يقول على لسان‬
‫نبيه ‪ » :‬أنا عند ظن عبدي بي ‪ ،‬فإن ظن بي خيرا فله ‪ ،‬وإن ظن بي شرا فله‬
‫« ‪ ،‬وقال ‪ » :‬إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ول أبالي‬
‫«‪.‬‬

‫) ‪(1/259‬‬

‫فصل‬
‫قال الله تعالى في أحكام الطلق والعدد ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫م { ]البقرة ‪:‬‬‫يٍء عَِلي ٌ‬
‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ه ب ِك ّ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ن { إلى قوله ‪َ } :‬واعْل َ ُ‬ ‫مّرَتا ِ‬ ‫} الط َّلقُ َ‬
‫‪. [231 - 229‬‬
‫ن { ‪ . .‬اليات‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ي إ َِذا طل ْ‬ ‫َ‬
‫ن ل ِعِد ّت ِهِ ّ‬
‫قوهُ ّ‬ ‫ساَء فطل ُ‬ ‫م الن ّ َ‬ ‫قت ُ ُ‬ ‫وقال ‪ } :‬يا أي َّها الن ّب ِ ّ‬
‫]الطلق ‪ 1 :‬وما بعدها[ ‪.‬‬
‫ذكر الله أحكام الفراق كما ذكر أحكام النكاح والدخول فيه ‪ ،‬تقدم أنه تعالى‬
‫حث الزوج على الصبر على زوجته ما دام متمكنا من الصبر ‪ ،‬وفي هذا ذكر‬
‫الله أنه إذا كان ل بد له من الطلق ‪ ،‬فعليه أن يطلق زوجته لعدتها ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫لتستقبل عدتها ‪ ،‬وذلك أن يطلقها مرة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ‪ ،‬أو‬
‫يطلقها وهي حامل قد تبين حملها ‪ ،‬أو وهي آيسة أو صغيرة ؛ لنها في هذه‬
‫الحوال كلها تبتدئ بالعدة البينة الواضحة ‪ ،‬فمن طلقها أكثر من واحدة ‪ ،‬أو‬
‫وهي حائض أو نفساء ‪ ،‬أو في طهر قد وطئ فيه ولم يتبين حملها فإنه آثم‬
‫متعد لحدود الله ‪ ،‬وإذا طلقها هذا الطلق المشروع فله أن يراجعها ما دامت‬
‫في العدة كما قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫} وبعول َته َ‬
‫حا { ]البقرة ‪. [228 :‬‬ ‫صل ً‬ ‫ن أَراُدوا إ ِ ْ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِك إ ِ ْ‬ ‫حقّ ب َِرد ّهِ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫َُُ ُُ ّ‬
‫وسواء رضيت أو كرهت ‪.‬‬
‫) ‪(1/260‬‬

‫وهذا الطلق الذي يتمكن فيه العبد من الرجعة هو الطلق بواحدة إلى ثنتين‬
‫بل عوض ‪ ،‬فإن طلقها الطلقة الثالثة فل تحل له حتى تنقضي عدتها ‪ ،‬وتنكح‬
‫زوجا غيره نكاح رغبة ل نكاح تحليل ‪ ،‬ويطأها ويطلقها رغبة في طلقها ‪،‬‬
‫وتنقضي عدتها منه فله أن ينكحها برضاها ‪ ،‬وببقية شروط النكاح من الولي‬
‫ومن الصداق وغيره ‪ ،‬فإن طلقها بعوض بلفظ الطلق أو الخلع أو الفداء ‪ ،‬أو‬
‫غيرها من اللفاظ ‪ ،‬فقد أباح الله هذا الفداء عند الحاجة ‪ ،‬وهي التي نص‬
‫فت َ‬
‫ت‬‫ما افْت َد َ ْ‬ ‫ح عَل َي ْهِ َ‬
‫ما ِفي َ‬ ‫دود َ الل ّهِ فََل ُ‬
‫جَنا َ‬ ‫ح ُ‬
‫ما ُ‬ ‫م أّل ي ُ ِ‬
‫قي َ‬ ‫خ ْ ُ ْ‬ ‫عليها بقوله ‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫ن ِ‬
‫ب ِهِ { ]البقرة ‪ [229 :‬سواء كان العوض بقليل أو كثير لعموم الية ‪ ،‬فإذا‬
‫فارقها على هذا الوجه حصل لها الفكاك منه ‪ ،‬ولم يكن له عليها رجعة إل إذا‬
‫شاءت بنكاح جديد ‪ ،‬وعند التراجع بين الزوجين إذا رغب كل منهما في‬
‫الخر ‪ ،‬فليس لولي النثى أن يعضلها ويمنعها أن تراجع بعلها الول أو الذي‬
‫فارقها ‪ ،‬بغضا له أو نكاية له وغضبا عليه ‪ ،‬أو طمعا في بذلها أو بذله له شيئا‬
‫من المال ‪ ،‬فكل هذا ل يحل للولي أن يفعله ‪ ،‬بل عليه أن يسعى في التأليف‬
‫بينها وبين زوجها ‪ ،‬وأقل ما عليه أن ل يعارض في ذلك ‪،‬‬

‫) ‪(1/261‬‬

‫وإذا كان منهيا عن ذلك بعد الطلق أو الفداء ونحوهما ‪ ،‬فكيف في ابتداء‬
‫المر ؟ ولكن بشرط أن يكون الزوج كفئا وترضى المرأة فيه ‪.‬‬
‫وأما إذا منعها من تزوج من ليس كفئا لها في دينه أو غيره من الصفات‬
‫المعتبرة شرعا فهو محسن ‪ ،‬لن منعها عما فيه ضررها إحسان عليها ‪ ،‬وهذا‬
‫أحد السباب في اعتبار الولي للمرأة في النكاح ‪ ،‬وفي قوله في الرجعة ‪:‬‬

‫) ‪(1/262‬‬

‫}إ َ‬
‫حا { ]البقرة ‪. [228 :‬‬ ‫صَل ً‬‫ن أَراُدوا إ ِ ْ‬
‫ِ ْ‬
‫ك { اعتبار هذا الشرط في‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫دود َ اللهِ وَت ِل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ح ُ‬
‫ما ُ‬
‫قي َ‬
‫ن يُ ِ‬
‫ن ظّنا أ ْ‬
‫وفي التراجع } إ ِ ْ‬
‫الرجعة والتراجع ‪ ،‬وإل فل يراجع ‪ ،‬ول يتراجعا للضرار وللبقاء على غير ما‬
‫يحبه الله ‪ ،‬وفي هذا أن الفعال مبنية على مقاصدها ‪ ،‬وأن المر الذي يقصد‬
‫فيه الخير والصلح ل بد أن يجعل الله فيه بركة ‪ ،‬كما أن الذي يقصد به غير‬
‫ذلك ولو مكن منه العبد فإنه ضرر حاضر ‪ ،‬ويخشى أن تكون عواقبه ذميمة ‪.‬‬
‫ويستفاد من هذا معنى كلي نافع ‪ ،‬وهو أنه ينبغي للعبد إذا أراد أن يدخل في‬
‫أمر من المور مثل المور التي يترتب عليها حقوق كثيرة ‪ ،‬ومثل الوليات‬
‫الكبار والصغار والمور المهمة أن يتأنى وينظر في نفسه وعاقبة أمره ‪ ،‬فإن‬
‫رأى من نفسه قوة على ذلك ‪ ،‬ووثق بقيامه بما فيها من الحقوق تقدم إليها‬
‫متوكل على الله ‪ ،‬وإل أحجم واغتنم السلمة عن الدخول في المور‬
‫الخطرة ‪ ،‬وأمر تعالى الزواج أن يمسكوا زوجاتهم بمعروف أو يسرحوهن‬
‫بمعروف ‪ ،‬فإن أمسكها أمسكها بعشرة حسنة ‪ ،‬وإن فارقها فليكن على وجه‬
‫الشرع بطمأنينة من غير مغاضبة ول مشاتمة ول عداوات تقع بينه وبينها ‪ ،‬أو‬
‫بينه وبين أهلها ‪.‬‬
‫) ‪(1/263‬‬

‫ومن التسريح بالمعروف أن يعطيها شيئا من المال تتمتع به وينجبر به‬


‫خاطرها ‪ ،‬وتذهب عن زوجها شاكرة ‪ ،‬ول يكون لهذا الفراق على هذا الوجه‬
‫إل العواقب الطيبة للطرفين ‪.‬‬
‫ولما بين الباري هذه الحكام الجليلة غاية التبيين ‪ ،‬وكان القصد بها أن يعلمها‬
‫العباد ويعملوا بها ‪ ،‬ويقفوا عندها ول يتجاوزوها ‪ ،‬فإنه لم ينزلها عبثا بل أنزلها‬
‫بالعلم والصدق والحق النافع والجد ‪ ،‬نهى عن اتخاذها هزوا أي ‪ :‬لعبا بها ‪،‬‬
‫وهو التجري عليها وعدم المتثال لواجبها مثل المضارة في المساك‬
‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُْ‬
‫م‬ ‫والرسال ‪ ،‬أو كثرة الطلق وجمع الثلث ‪ ،‬وقال ‪َ } :‬واذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫م َ‬
‫{ ]البقرة ‪ [231 :‬عموما باللسان حمدا وثناء ‪ ،‬وبالقلب اعترافا وإقرارا ‪،‬‬
‫وبالركان بأن يستعان بنعمه على طاعته ‪ ،‬وخصوصا ما أنزل عليكم من‬
‫الكتاب والحكمة ‪ ،‬فإن في الكتاب والسنة من بيان الحق والهدى من‬
‫الضلل ‪ ،‬والحلل من الحرام ‪ ،‬وجميع ما يحتاجه العباد في أمور دينهم‬
‫ودنياهم ما يوجب للعباد أن يشكروه شكرا كثيرا ‪ ،‬ويقوموا بحقه ويخضعوا‬
‫لحكامه ‪ ،‬وختم اليات بعموم علمه تنبيه على أن أحكامه قد شرعها العليم‬
‫الحكيم صالحة للعباد في كل زمان ومكان ‪.‬‬

‫) ‪(1/264‬‬

‫وقد ذكر عدة المفارقة بحسب أحوالها في كتابه ‪ ،‬فذكر أن المفارقة بطلق‬
‫إن كانت تحيض باستكمال ثلثة قروء من بعد وقوع الطلق عليها ‪ ،‬وأن‬
‫اليسة والتي لم تحض لصغر ونحوه عدتها ثلثة أشهر ‪ ،‬وأن المفارقة بموت‬
‫زوجها تربص أربعة أشهر وعشرا ‪ ،‬وأن الحامل من المفارقات في الحياة‬
‫وبعد الممات عدتها بوضع الحمل ‪.‬‬
‫وفي هذه العدد وتقديرها من السرار والحكم والمنافع للزوجين وغيرهما ما‬
‫هو من آيات الله للمتأملين المستبصرين ‪ ،‬وقال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫م ط َل ّ ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫سوهُ ّ‬‫م ّ‬‫ن تَ َ‬
‫لأ ْ‬ ‫ن قَب ْ ِ‬
‫م ْ‬‫ن ِ‬‫موهُ ّ‬‫قت ُ ُ‬ ‫ت ثُ ّ‬‫مَنا ِ‬‫مؤ ْ ِ‬‫م ال ْ ُ‬
‫حت ُ ُ‬‫مُنوا إ َِذا ن َك َ ْ‬‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ميًل {‬ ‫ج ِ‬
‫حا َ‬ ‫سَرا ً‬‫ن َ‬ ‫حوهُ ّ‬‫سّر ُ‬ ‫ن وَ َ‬‫مت ُّعوهُ ّ‬‫دون ََها فَ َ‬ ‫عد ّةٍ ت َعْت َ ّ‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫م عَل َي ْهِ ّ‬‫ما ل َك ُ ْ‬
‫فَ َ‬
‫]الحزاب ‪. [49 :‬‬
‫ففي هذه الية أن المفارقة في الحياة بطلق ونحوه ليس لزوجها عليها عدة‬
‫إذا لم يدخل أو يخل بها ‪ ،‬بل بمجرد ما يطلقها لها التزوج في الحال ‪.‬‬
‫وفي هذا أن العدة تثبت بالدخول ‪ ،‬وكذلك الخلوة ‪ ،‬كما ثبت عن الخلفاء‬
‫الراشدين ‪ ،‬ومفهوم الية أن الفراق بالموت تعتد له الزوجة المعقود عليها‬
‫ولو قبل الدخول ‪ ،‬وكما يؤخذ من مفهوم هذه فإنه يؤخذ من عموم قوله ‪:‬‬

‫) ‪(1/265‬‬

‫ن { ‪ . .‬الية ]البقرة ‪. [234 :‬‬ ‫} وال ّذين يتوفّون منك ُم ويذ َرو َ‬
‫ص َ‬
‫جا ي َت ََرب ّ ْ‬
‫ن أْزَوا ً‬
‫َ ِ َ َُ َ ْ َ ِ ْ ْ ََ ُ َ‬
‫وفيها أن العدة من حقوق الزوج ؛ لتمكنه من الرجعة ولحفظ فراشه ومائه‬
‫من الختلط ‪ ،‬وحق لها أيضا ; فإن المعتدة نوعان ‪ :‬نوع حامل لها النفقة بكل‬
‫حال ‪ .‬قال تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]الطلق ‪. [6 :‬‬ ‫مل َهُ ّ‬
‫ح ْ‬
‫ن َ‬
‫ضعْ َ‬
‫حّتى ي َ َ‬‫ن َ‬ ‫قوا عَل َي ْهِ ّ‬‫ل فَأ َن ْفِ ُ‬
‫م ٍ‬‫ح ْ‬
‫ت َ‬
‫} وإن ك ُ ُ‬
‫ن أوَل ِ‬
‫ّ‬ ‫َِ ْ‬
‫ونوع غير حامل ‪ ،‬وهي أيضا نوعان ‪ :‬مفارقة بائنة بموت أو فسخ أو خلع أو‬
‫ثلث أو عوض ‪ ،‬فهؤلء كلهن ل نفقة لهن ول كسوة ول مسكن إل على وجه‬
‫المعروف والحسان ‪ ،‬ومفارقة رجعية فما دامت في العدة فلها النفقة‬
‫والكسوة والمسكن وتوابعها على الزوج ‪ ،‬وحكمها حكم الزوجة التي في‬
‫حباله في كل حال إل في القسم فل قسم له ؛ لن الله سماه بعل لها في‬
‫ك { ]البقرة ‪ [228 :‬ولن له أن‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫قوله ‪ } :‬وبعول َته َ‬
‫حقّ ب َِرد ّهِ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫َُُ ُُ ّ‬
‫يرجعها إلى الزوجية التامة رضيت أو كرهت ما دامت في العدة ‪.‬‬

‫) ‪(1/266‬‬

‫َ‬ ‫ل ل َه َ‬
‫ن { ]البقرة ‪:‬‬‫مهِ ّ‬
‫حا ِ‬ ‫خل َقَ الل ّ ُ‬
‫ه ِفي أْر َ‬ ‫ما َ‬
‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ْ‬‫نأ ْ‬ ‫ح ّ ُ ّ‬ ‫وفي قوله ‪ } :‬وََل ي َ ِ‬
‫‪ [228‬دليل على أمانتها على نفسها ‪ ،‬وقبول قولها في وجود الحيض‬
‫وانقطاعه ؛ لنه توعدها بكتمان ذلك ‪ ،‬وهذا دليل على أن قولها معتبر ‪ ،‬وفي‬
‫ن { ]الحزاب ‪ [49 :‬دليل على أنه‬ ‫موهُ ّ‬ ‫قت ُ ُ‬‫م ط َل ّ ْ‬ ‫ت ثُ ّ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫قوله ‪ } :‬إ َِذا ن َك َ ْ‬
‫حت ُ ُ‬
‫ل يقع الطلق إل بعد النكاح ‪ ،‬وأن من علق طلقا بنكاح امرأة لم ينعقد هذا‬
‫التعليق ‪ ،‬ولم يقع عليها شيء إذا نكحها ؛ لن النكاح ل يراد به خلف مقصوده‬
‫‪ ،‬وهذا بخلف تعليق عتق المملوك للغير بملكه إياه ‪ ،‬فإنه صحيح ويعتق إذا‬
‫ملكه ؛ لن تملك الرقيق يقصد به العتق ‪ ،‬وهو مقصود شرعي صحيح ‪.‬‬
‫ن { ]الحزاب ‪ [49 :‬فيه المر بتمتيع المفارقة بالطلق‬ ‫مت ُّعوهُ ّ‬ ‫وقوله ‪ } :‬فَ َ‬
‫قبل المسيس مطلقا ‪ ،‬وفي آية البقرة المر بالتمتيع إذا لم يسم لها مهرا ‪،‬‬
‫فإن سمى لها مهرا فإنه يتنصف إذا طلقها قبل الدخول ‪ ،‬ويكون نصف‬
‫الصداق هو المتعة كما قال تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(1/267‬‬

‫ة‬
‫ض ً‬‫ري َ‬ ‫ن فَ ِ‬ ‫ضوا ل َهُ ّ‬ ‫فرِ ُ‬ ‫ن أ َوْ ت َ ْ‬‫سوهُ ّ‬ ‫م ّ‬‫م تَ َ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫ساَء َ‬ ‫م الن ّ َ‬ ‫قت ُ ُ‬‫ن ط َل ّ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫} َل ُ‬
‫قا عََلى‬ ‫ح ّ‬‫ف َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫عا ِبال ْ َ‬ ‫مَتا ً‬ ‫قت ِرِ قَد َُره ُ َ‬ ‫م ْ‬‫سِع قَد َُره ُ وَعََلى ال ْ ُ‬ ‫مو ِ‬ ‫ن عََلى ال ْ ُ‬ ‫مت ُّعوهُ ّ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫ض ً‬‫ري َ‬ ‫َ‬
‫نف ِ‬ ‫م لهُ ّ‬ ‫ضت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن وَقد ْ فَر ْ‬ ‫َ‬ ‫سوهُ ّ‬ ‫م ّ‬ ‫ن تَ َ‬‫لأ ْ‬ ‫َ‬
‫ن قب ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫قت ُ ُ‬ ‫ن طل ْ‬ ‫ن {} وَإ ِ ْ‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فوا‬ ‫ن ت َعْ ُ‬ ‫كاِح وَأ ْ‬ ‫قد َة ُ الن ّ َ‬ ‫ذي ب ِي َدِهِ عُ ْ‬ ‫فوَ ال ّ ِ‬ ‫ن أوْ ي َعْ ُ‬ ‫فو َ‬ ‫ن ي َعْ ُ‬ ‫م إ ِّل أ ْ‬ ‫ضت ُ ْ‬‫ما فََر ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ص ُ‬ ‫فَن ِ ْ‬
‫وا ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫م { ]البقرة ‪. [237 - 236 :‬‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫ض َ‬‫ف ْ‬ ‫س ُ‬ ‫وى وََل ت َن ْ َ‬ ‫ق َ‬‫ب ِللت ّ ْ‬ ‫أقَْر ُ‬
‫فحث على العفو في هذا الموضع الخاص لنفعه وعظم موقعه ‪ ،‬وقال ‪ } :‬وََل‬
‫م { ]البقرة ‪ [237 :‬وهذا إرشاد عظيم نافع في جميع‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬‫ض َ‬ ‫ف ْ‬ ‫وا ال ْ َ‬ ‫س ُ‬‫ت َن ْ َ‬
‫المعاملت أنه ينبغي للعبد فيها أن ل يستقصي في كل شيء ‪ ،‬بل يجعل‬
‫للفضل محل من عفو ومحاباة وإعطاء أزيد مما في الذمة قدرا أو وصفا ‪،‬‬
‫وقبول أدنى من الحق كمية وكيفية ‪ ،‬فكم حصل بهذا الفضل ‪ -‬وإن كان‬
‫طفيفا ‪ -‬خير كثير وأجر كبير ‪ ،‬ومعروف وبركة ‪ ،‬وراحة فكر وطمأنينة قلب ‪.‬‬

‫) ‪(1/268‬‬

‫ن { ]البقرة ‪:‬‬
‫قي َ‬ ‫قا عََلى ال ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ح ّ‬
‫ف َ‬ ‫مَتاع ٌ ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ت َ‬ ‫مط َل ّ َ‬
‫قا ِ‬ ‫وفي قوله ‪ } :‬وَل ِل ْ ُ‬
‫‪. [241‬‬
‫وهذا العموم يقتضي أن كل مطلقة لها على زوجها متعة ‪ ،‬لكن إن كانت غير‬
‫مدخول بها ولم يسم لها مهر ‪ ،‬فالمتعة واجبة كما تقدم بحسب يسار الزوج‬
‫وإعساره ‪ ،‬وإن كان قد سمي لها مهر تنصف المهر وكان النصف الحاصل لها‬
‫هو المتعة ‪ ،‬فإن لم يكن المر كذلك كانت المتعة حقا معروفا وإحسانا‬
‫جميل ؛ لما فيها من جبر خاطرها وقضاء نوائبها التي هي مظنة الحاجة إليها‬
‫في تلك الحال ‪ ،‬وكون ذلك عنوانا على التسريح بالمعروف ‪ ،‬ودفعا‬
‫للمشاغبات والعداوات التي تحدث لكثير من الناس عند الطلق ‪ ،‬واحتياطا‬
‫لبراءة ذمته مما لعله لحقه لها من الحقوق ‪ ،‬وتسهيل للرجعة أو المراجعة إذا‬
‫تغيرت الحال ‪ ،‬وأحدث الله بعد ذلك أمرا ‪ ،‬ولها من الفوائد شيء كثير ‪،‬‬
‫ومدح الله هذه الحكام الجليلة بقوله ‪:‬‬
‫ن { ]البقرة ‪. [242 :‬‬ ‫ُ‬
‫قلو َ‬ ‫م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َعْ ِ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ن الل ّ ُ‬ ‫} ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬
‫فسمى هذه الحكام آيات ؛ لنها تدل أكبر دللة على عنايته ولطفه بعباده ‪،‬‬
‫وأنه شرع لهم من الحكام ‪ ،‬الحكام الصالحة لكل زمان ومكان ‪ ،‬ول يصلح‬
‫العباد غيرها ‪.‬‬

‫) ‪(1/269‬‬

‫فصل في آيات في اليلء والظهار واللعان‬


‫َ‬ ‫َ‬
‫ن َفاُءوا فَإ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫شهُرٍ فَإ ِ ْ‬‫ص أْرب َعَةِ أ ْ‬ ‫م ت ََرب ّ ُ‬ ‫سائ ِهِ ْ‬‫ن نِ َ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن ي ُؤُْلو َ‬ ‫قال تعالى ‪ } :‬ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫م { ]البقرة ‪:‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬‫س ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫موا الط َّلقَ فَإ ِ ّ‬ ‫ن عََز ُ‬ ‫م {} وَإ ِ ْ‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه غَ ُ‬
‫‪ 226‬و ‪. [227‬‬
‫جَها { ‪ . .‬اليات ‪.‬‬ ‫ك ِفي َزوْ ِ‬ ‫ُ‬
‫جادِل َ‬ ‫ّ‬
‫ل الِتي ت ُ َ‬ ‫ه قَوْ َ‬ ‫ّ‬
‫معَ الل ُ‬ ‫س ِ‬ ‫وقال ‪ } :‬قَد ْ َ‬
‫]المجادلة ‪. [1 :‬‬
‫م { ‪ . .‬اليات ‪] .‬النور ‪. [6 :‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫جهُ ْ‬ ‫ن أْزَوا َ‬ ‫مو َ‬‫ن ي َْر ُ‬ ‫ذي َ‬
‫وقال في اللعان ‪َ } :‬وال ِ‬

‫) ‪(1/270‬‬

‫من جملة الحكام المنتشرة المتعلقة بالزوجة أنه قد يؤلي منها أو يظاهر منها‬
‫‪ ،‬والفرق بين اليلء والظهار أن اليلء هو الحلف بالله على ترك وطء زوجته‬
‫أبدا ‪ ،‬أو مدة طويلة تزيد على أربعة أشهر إذا كان قادرا على الوطء ‪ ،‬فإذا‬
‫فعل ذلك وحلف هذا الحلف فل يخلو ‪ :‬إما أن تطالبه الزوجة بحقها من‬
‫الوطء أو ل تطالبه ‪ ،‬فإن لم تطالبه ترك وشأنه ‪ ،‬فإن وطئ في هذه المدة‬
‫فقد حنث ‪ ،‬وعليه كفارة يمين ‪ ،‬وإل فل كفارة عليه ‪ ،‬وإن طالبته بالوطء أمر‬
‫بذلك وجعل له أربعة أشهر ‪ ،‬فإن فاء ورجع إلى الوطء فذلك هو المطلوب‬
‫منه ‪ ،‬وهو أحب المرين إلى الله ‪ ،‬وإن أبى وامتنع ومضت الربعة الشهر وهو‬
‫مصر على عدم وطئها وهي مقيمة على طلب حقها ‪ ،‬أجبر على أحد أمرين ‪:‬‬
‫إما أن يفيء ويكفر كفارة يمين ‪ ،‬وإما أن يطلق ‪ ،‬فإن امتنع من كل منهما‬
‫طلق الحاكم عليه ‪.‬‬
‫وأما الظهار فأن يحرم زوجته ويقول لها ‪ :‬أنت علي كظهر أمي ‪ ،‬أو نحوه من‬
‫ألفاظ التحريم الصريحة ‪ ،‬فهذا قد أتى منكرا من القول وزورا ‪ ،‬وكذب أعظم‬
‫كذب إذ شبه من هي حلل بمن هي أعظم المحرمات ‪ ،‬وهي الم ‪ ،‬ولهذا قال‬
‫‪:‬‬
‫) ‪(1/271‬‬

‫م إ ِّل الّلِئي‬ ‫ظاهرون منك ُم من ن ِسائ ِهم ما هُن أ ُمهات ِهم إ ُ‬


‫مَهات ُهُ ْ‬
‫نأ ّ‬‫ّ ّ َ ِ ْ ِ ْ‬ ‫ن يُ َ ِ ُ َ ِ ْ ْ ِ ْ َ ِ ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ال ّ ِ‬
‫ل وَُزوًرا { ]المجادلة ‪. [2 :‬‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قو ْ ِ‬ ‫من ْك ًَرا ِ‬
‫م َ‬ ‫ن ُ‬‫قوُلو َ‬ ‫م ل َي َ ُ‬‫م وَإ ِن ّهُ ْ‬‫وَل َد ْن َهُ ْ‬
‫ثم عرض التوبة فقال ‪:‬‬
‫فوٌر { ‪ -‬تتمة الية ‪] -‬المجادلة ‪. [2 :‬‬ ‫فو ّ غ َ ُ‬ ‫ه ل َعَ ُ‬
‫ن الل ّ َ‬ ‫} وَإ ِ ّ‬
‫ثم ذكر طريقها بالكفارة ‪ ،‬فأمر المظاهر أن يعتق رقبة من قبل أن يمسها‬
‫فإن لم يجد صام شهرين متتابعين من قبل المسيس أيضا ‪ ،‬فإن لم يستطع‬
‫أطعم ستين مسكينا ‪ ،‬فبعد هذه الكفارة تحل له الزوجة وتنحل يمينه ‪.‬‬

‫) ‪(1/272‬‬

‫وأما اللعان فإن الزوج إذا رمى زوجته بالزنا ‪ ،‬ولم يكن له على ذلك أربعة‬
‫شهود ‪ ،‬ولم تعترف بل أقامت على النكار ‪ ،‬فعليه ما على من قذف‬
‫المحصنات من جلد ثمانين جلدة إل أن يلعنها ‪ ،‬وذلك بأن يشهد أربع مرات‬
‫أنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا ‪ ،‬ويقول في الخامسة داعيا على‬
‫نفسه ‪ ،‬وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ‪ ،‬فحينئذ يترتب عليها الحد أو‬
‫الحبس حتى تقر ‪ ،‬إل أن تقابله بلعان يدرأ عنها العذاب ‪ ،‬بأن تقول أربعا ‪:‬‬
‫أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ‪ ،‬وتزيد في الخامسة‬
‫وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ‪ ،‬فعند ذلك يحصل الفراق البدي‬
‫بينه وبينها ‪.‬‬
‫والحكمة في تخصيص الزوج بسقوط حد القذف عنه إذا لعن أن الزوج‬
‫محتاج ‪ ،‬وربما كان مضطرا إلى رميها لنفي ما يلحقه من أولد غيره ولحقه‬
‫وإفساد فراشه ‪ ،‬وأما القاذف ‪ :‬إذا كان غير زوج ‪ ،‬إذا قذف غيره بالزنا ‪ ،‬فإن‬
‫الله قال في حده ‪:‬‬

‫) ‪(1/273‬‬

‫جل ْد َةً‬‫ن َ‬
‫ماِني َ‬‫م ثَ َ‬
‫دوهُ ْ‬ ‫داَء َفا ْ‬
‫جل ِ ُ‬ ‫م ي َأ ُْتوا ب ِأ َْرب َعَةِ ُ‬
‫شهَ َ‬ ‫م لَ ْ‬
‫ت ثُ ّ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مو َ‬‫ن ي َْر ُ‬
‫ذي َ‬‫} َوال ّ ِ‬
‫ن َتاُبوا { ]النور ‪:‬‬ ‫ذي َ‬ ‫ن { } إ ِّل ال ّ ِ‬ ‫قو َ‬‫س ُ‬ ‫فا ِ‬‫م ال ْ َ‬‫ك هُ ُ‬ ‫دا وَُأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫شَهاد َة ً أب َ ً‬ ‫قب َُلوا ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫وََل ت َ ْ‬
‫‪ 4‬و ‪. [5‬‬
‫فصل في آيات الحدود‬
‫حّر‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫حّر ِبال ُ‬
‫قت ْلى ال ُ‬ ‫ص ِفي ال َ‬ ‫صا ُ‬ ‫ق َ‬‫م ال ِ‬ ‫ب عَلي ْك ُ‬ ‫مُنوا كت ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قال تعالى ‪ } :‬يا أي َّها ال ِ‬
‫{ ‪ -‬إلى آخرها والتي بعدها ‪] -‬البقرة ‪. [179 - 178 :‬‬
‫يمتن الله على عباده بأنه فرض عليهم القصاص في القتلى ‪ ،‬أي ‪ :‬المساواة‬
‫فيه ‪ ،‬وأن يقتل القاتل عمدا على الصفة التي قتل عليها المقتول ؛ إقامة‬
‫للعدل بين العباد ‪ ،‬وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين فيه دليل على أنه يجب‬
‫عليهم كلهم حتى أولياء القاتل ‪ ،‬حتى القاتل بنفسه ‪ ،‬إعانة ولي المقتول إذا‬
‫طلب القصاص وتمكينه من القاتل ‪ ،‬وأنه ل يحل لهم أن يحولوا بينه وبين‬
‫القاتل إذا تمت الشروط كما يفعله أهل الجاهلية ومن أشبههم من إيواء‬
‫المحدثين ‪.‬‬
‫) ‪(1/274‬‬

‫حّر { يدخل في منطوقها وفي منطوق‬ ‫حّر ِبال ْ ُ‬‫ثم فصل ذلك بقوله ‪ } :‬ال ْ ُ‬
‫س { ]المائدة ‪ [45 :‬أن الذكر يقتل بالنثى ‪ ،‬كما‬ ‫َ‬
‫ف ِ‬ ‫س ِبالن ّ ْ‬
‫ف َ‬
‫ن الن ّ ْ‬
‫قوله ‪ } :‬أ ّ‬
‫تقتل النثى بالذكر ‪ ،‬فيكون هذا المنطوق مقدما على مفهوم قوله ‪:‬‬
‫} َواْل ُن َْثى ِباْل ُن َْثى { مع دللة صريح السنة الصحيحة قتل النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم اليهودي بالجارية ‪ ،‬وخرج من هذا العموم البوان وإن علوا فل يقتلن‬
‫بالولد لورود السنة بذلك ‪ ،‬مع أن في لفظ القصاص ما يدل على أنه ليس‬
‫من العدل أن يقتل الوالد بولده ‪ ،‬ولن ما في قلب الوالدين من الرحمة‬
‫المانعة من صدور هذه الجريمة منهما على ولدهما ما يحدث الشبهة ‪ ،‬إما أنه‬
‫ل بد أن في عقلهما اختلل أو أذية شديدة أحوجته إلى قتل ولده ‪ ،‬أو لم يحرر‬
‫أن القتل عمد محض ‪.‬‬
‫وخرج من هذا العموم أن المسلم ل يقتل بالكافر لثبوت السنة بذلك ‪ ،‬مع أن‬
‫الية في خطاب المؤمنين خاصة ‪ ،‬وليس أيضا من العدل أن يقتل ولي الله‬
‫بعدوه } َوال ْعَب ْد ُ ِبال ْعَب ْدِ { ذكرا كان أو أنثى تساوت قيمتهما أو اختلفت ‪ ،‬ودل‬
‫مفهومها على أن الحر ل يقتل بالعبد لكونه غير مساو له ‪.‬‬

‫) ‪(1/275‬‬

‫وفي هذه الية دليل على أن الصل وجوب القود في العمد العدوان ‪ ،‬وأن‬
‫يٌء { أي ‪ :‬عفا ولي‬
‫ش ْ‬ ‫ن أَ ِ‬
‫خيهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ي لَ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ف َ‬
‫ن عُ ِ‬ ‫الدية بدل عنه ‪ ،‬فلهذا قال ‪ } :‬فَ َ‬
‫م ْ‬
‫المقتول عن القاتل إلى الدية ‪ ،‬أو عفا بعض الولياء فإنه يسقط القصاص‬
‫وتجب الدية ‪ ،‬وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي ‪ ،‬فإذا عفا عنه‬
‫وجب على ولي المقتول أن يتبع القاتل بالمعروف من غير أن يشق عليه ول‬
‫يحمله ما ل يطيق ‪ ،‬بل يحسن القتضاء والطلب ول يحرجه ‪ ،‬وعلى القاتل‬
‫أداء إليه بإحسان من غير مطل ول نقص ول إساءة فعلية أو قولية ‪ ،‬فهل‬
‫جزاء الحسان إليه بالعفو إل الحسان بحسن القضاء ؟ وهذا مأمور به في‬
‫كل ما ثبت في ذمم الناس للنسان ‪ :‬مأمور من له الحق بالتباع بالمعروف ‪،‬‬
‫ومن عليه الحق بالداء بإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬رحم الله‬
‫عبدا سمحا إذا قضى ‪ ،‬سمحا إذا اقتضى « ‪.‬‬

‫) ‪(1/276‬‬

‫خيهِ { ترقيق وحث على العفو إلى الدية ‪ ،‬وأكمل‬ ‫ن أَ ِ‬


‫م ْ‬
‫ه ِ‬‫ي لَ ُ‬‫ف َ‬ ‫وفي قوله ‪ } :‬عُ ِ‬
‫خيهِ { دليل على أن القاتل عمدا ل‬ ‫َ‬
‫من ذلك العفو مجانا ‪ ،‬وفي قوله ‪ } :‬أ ِ‬
‫يكفر ؛ لن المراد بالخوة هنا أخوة السلم ‪ ،‬فلم يخرج بالقتل عنها ‪ ،‬ومن‬
‫باب أولى سائر المعاصي التي هي دون القتل ‪ ،‬فإن صاحبها ل يكفر ‪ ،‬ولكنه‬
‫يستحق العقاب ‪ ،‬وينقص بذلك إيمانه إن لم يتب ‪ ،‬وإذا عفا أولياء المقتول أو‬
‫بعضهم احتقن دم القاتل ‪ ،‬وصار معصوما منهم ومن غيرهم ‪ ،‬فلهذا قال ‪:‬‬
‫َ‬
‫م { أي ‪ :‬في الخرة‬ ‫ب أِلي ٌ‬
‫ذا ٌ‬ ‫ك { أي ‪ :‬بعد العفو } فَل َ ُ‬
‫ه عَ َ‬ ‫دى ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬
‫ن اعْت َ َ‬ ‫} فَ َ‬
‫م ِ‬
‫‪ ،‬وأما قتله وعدمه فيؤخذ مما تقدم ؛ لنه قتل مكافئا له فيجب قتله بذلك ‪.‬‬
‫) ‪(1/277‬‬

‫ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال ‪ } :‬وَل َك ُ ْ‬


‫م ِفي‬
‫حَياة ٌ { أي ‪ :‬تنحقن بذلك الدماء ‪ ،‬وتنقمع به الشقياء ؛ لن من‬ ‫ص َ‬
‫صا ِ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ق َ‬
‫ل ; وإذا رئي القاتل مقتول انزجر‬ ‫ل ل يكاد يصدر منه قَت ْ ٌ‬
‫ل قُت ِ َ‬
‫عرف أنه إذا قَت َ َ‬
‫غيره بذلك ; فلو كان عقوبة القاتل غير القتل لم يحصل من انكفاف الشر ما‬
‫يحصل بالقتل ‪ ،‬وهكذا سائر الحدود الشرعية ‪ :‬فيها من النكاية والنزجار ما‬
‫يدل على حكمة الحكيم الغفار ‪ ،‬ونكر الحياة لفادة التعظيم ‪.‬‬

‫) ‪(1/278‬‬

‫ولما كان هذا الحكم ل يعرفه حقيقة المعرفة إل أهل العقول الكاملة قال ‪} :‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن { ‪ ،‬وهذا يدل على أنه‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬‫ب ل َعَل ّك ُ ْ‬‫حَياة ٌ يا أوِلي اْلل َْبا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫صا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫م ِفي ال ْ ِ‬ ‫وَل َك ُ ْ‬
‫يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبير ما في أحكامه من‬
‫الحكم والمصالح الدالة على كماله ‪ ،‬وكمال حكمته وحمده وعدله ورحمته‬
‫الواسعة ‪ ،‬وأن من كان بهذا الوصف فقد استحق الثناء والمدح بأنه من ذوي‬
‫اللباب ‪ ،‬الذين وجه إليهم الخطاب ‪ ،‬وكفى بذلك فضل وشرفا ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫ن { وذلك أن من عرف ربه ‪ ،‬وعرف ما في دينه وشرعه من‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫} ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫السرار العظيمة والحكم البديعة واليات الرفيعة أوجب له أن ينقاد لمر‬
‫الله ‪ ،‬ويخضع لشرعه طاعة لله ولرسوله ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫دوا ك ُ ّ‬
‫خذ ْك ْ‬
‫م‬ ‫جلد َةٍ وَل ت َأ ُ‬ ‫ة َ‬ ‫مائ َ‬
‫ما ِ‬‫من ْهُ َ‬
‫حد ٍ ِ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫جل ِ ُ‬ ‫ة َوالّزاِني َفا ْ‬ ‫قوله تعالى ‪ } :‬الّزان ِي َ ُ‬
‫ما‬ ‫شهَد ْ عَ َ‬
‫ذاب َهُ َ‬ ‫ْ‬
‫خرِ وَلي َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ن ِباللهِ َوالي َوْم ِ ال ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ إ ِ ْ‬ ‫ة ِفي ِدي ِ‬ ‫ما َرأ ْفَ ٌ‬ ‫ب ِهِ َ‬
‫ن { ]النور ‪. [2 :‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ْ‬
‫مؤ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫َ‬
‫طائ ِ َ‬

‫) ‪(1/279‬‬

‫هذا حد الزاني غير المحصن من ذكر أو أنثى يجلد مائة جلدة ‪ ،‬جلدات تؤلمه‬
‫وتزجره ول تهلكه ‪ ،‬ويتعين أن يكون ذلك علنا ل سرا بحيث يشهده طائفة من‬
‫المؤمنين ؛ لن إقامة الحدود من الضروريات لقمع أهل الجرائم ‪ ،‬واشتهارها‬
‫هو الذي يحصل به الردع والنزجار وإظهار شعائر الدين ‪ ،‬والستتار به أو‬
‫على أحد دون أحد فيه مفاسد كثيرة ‪ ،‬ووردت السنة بتغريب عام كامل عن‬
‫وطنه مع الجلد ‪ ،‬كما تواترت السنة وأجمع المسلمون على رجم الزاني‬
‫المحصن ‪ ،‬يرجم بالحجارة حتى يموت ‪.‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫سَبا ن َكال ِ‬
‫ما ك َ‬
‫جَزاًء ب ِ َ‬ ‫ة َفاقْطُعوا أي ْدِي َهُ َ‬
‫ما َ‬ ‫سارِقَ ُ‬
‫سارِقُ َوال ّ‬‫وقال تعالى ‪َ } :‬وال ّ‬
‫م { ]المائدة ‪. [38 :‬‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫الل ّهِ َوالل ّ ُ‬
‫ه عَ ِ‬
‫السارق هو من أخذ مال غيره المحترم بغير رضاه ‪ ،‬وهو من كبائر الذنوب‬
‫الموجبة لترتب هذه العقوبة ‪ ،‬وهو أنه يجب قطع يده اليمنى كما هي قراءة‬
‫بعض الصحابة ‪ ،‬واليد إذا أطلقت فهي الكف إلى الكوع فقط ‪ ،‬فإذا قطعت‬
‫حسمت وجوبا في زيت أو ودك مغلي لتنسد العروق فيقف الدم ‪ ،‬ولكن‬
‫السنة قيدت عموم الية الكريمة بأمور كلها ترجع إلى تحقيق السرقة‬
‫للموال ‪.‬‬
‫) ‪(1/280‬‬

‫فمنها ‪ :‬ل بد أن يكون المسروق نصابا ‪ ،‬وهو ربع دينار ‪ ،‬أو ثلثة دراهم ‪ ،‬أو ما‬
‫يساوي ذلك ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ل بد أن يكون المأخوذ منه حرزا ‪ ،‬وحرز كل مال ما يحفظ به عادة ‪،‬‬
‫فلو سرق من مال غير محرز فل قطع عليه ‪ ،‬ويؤخذ هذا من لفظ السارق ؛‬
‫فإنه الذي يأخذ المال على وجه ل يمكن التحرز منه ‪ ،‬فإن عاد السارق‬
‫قطعت رجله اليسرى ‪ ،‬فإن عاد فقيل تقطع يده اليسرى ‪ ،‬ثم إن عاد قطعت‬
‫رجله اليمنى ‪ ،‬وقيل ‪ :‬يحبس حتى يموت ‪ ،‬وورد في ذلك آثار عن السلف‬
‫مختلفة ‪.‬‬
‫سَبا { ]المائدة ‪ [38 :‬من التجري على أموال الناس‬ ‫ما ك َ َ‬‫جَزاًء ب ِ َ‬ ‫وقوله ‪َ } :‬‬
‫ن الل ّهِ { أي ‪ :‬ترهيبا منه للسراق ليرتدعوا إذا علموا أنهم يقطعون ‪،‬‬ ‫م َ‬‫كاًل ِ‬‫} نَ َ‬
‫زيٌز‬
‫ه عَ ِ‬ ‫ّ‬
‫حَياة ٌ { ‪َ } ،‬والل ُ‬
‫ص َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وهذا نظير قوله في القتل ‪ } :‬وَلك ُ ْ‬
‫صا ِ‬
‫ق َ‬
‫م ِفي ال ِ‬
‫م { أي ‪ :‬عز وحكم ‪ ،‬فقطع بحكمته يد السارق ؛ تنكيل للمجرمين ‪،‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫َ‬
‫وحفظا للموال ‪.‬‬
‫وقد ذكر الله قبل هذا حد قطاع الطريق المحاربين في قوله ‪:‬‬
‫ه { ]المائدة ‪. [33 :‬‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫حارُِبو َ‬‫ن يُ َ‬‫ذي َ‬ ‫جَزاُء ال ّ ِ‬‫ما َ‬‫} إ ِن ّ َ‬

‫) ‪(1/281‬‬

‫فقيل ‪ :‬إن المام مخير فيهم بين هذه المور ‪ ،‬وعليه أن يفعل ما تقتضيه‬
‫المصلحة ‪ ،‬ويحصل به النكاية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن هذه العقوبة مرتبة بحسب الجريمة‬
‫; فإن جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع لهم بين القتل والصلب ‪ ،‬وإن قتلوا‬
‫ولم يأخذوا مال قتلوا ولم يصلبوا ‪ ،‬وإن أخذوا مال ولم يقتلوا قطعت أيديهم‬
‫وأرجلهم من خلف ‪ ،‬وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا ول أخذوا مال نفوا من‬
‫الرض ‪ ،‬فل يتركون يأوون إلى بلد ‪ ،‬أو يحبسون كما قاله بعضهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/282‬‬

‫فصل في اليمان ونحوها‬


‫م وَلَ‬ ‫ه ل َك ُْ‬ ‫ل الل ُّ‬ ‫ح ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما أ َ‬ ‫ت َ‬ ‫موا طي َّبا ِ‬ ‫حّر ُ‬ ‫مُنوا ل ت ُ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قال الله تعالى ‪ } :‬يا أي َّها ال ِ‬
‫قوا‬ ‫حَلًل ط َي ًّبا َوات ّ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ن {} وَك ُُلوا ِ‬ ‫دي َ‬ ‫معْت َ ِ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫دوا إ ِ ّ‬ ‫ت َعْت َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن‬
‫م وَلك ِ ْ‬ ‫ُ‬
‫مان ِك ْ‬ ‫ه ِباللغْوِ ِفي أي ْ َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ُ‬
‫خذ ُك ُ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫ن {} ل ي ُ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫م ب ِهِ ُ‬ ‫ذي أن ْت ُ ْ‬ ‫ه ال ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫ط َ‬ ‫س ِ‬ ‫ن أوْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫شَرةِ َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ه إ ِط َْعا ُ‬ ‫فاَرت ُ ُ‬ ‫ن فَك َ ّ‬ ‫ما َ‬ ‫م اْلي ْ َ‬ ‫قد ْت ُ ُ‬‫ما عَ ّ‬ ‫م بِ َ‬ ‫خذ ُك ُ ْ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫يُ َ‬
‫َ‬
‫م ث ََلث َةِ أّيام ٍ ذ َل ِكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫صَيا ُ‬ ‫جد ْ ف ِ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫نل ْ‬ ‫م ْ‬‫ريُر َرقب َةٍ ف َ‬ ‫ح ِ‬‫م أوْ ت َ ْ‬ ‫سوَت ُهُ ْ‬ ‫م أوْ ك ِ ْ‬ ‫ن أهِْليك ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ت ُطعِ ُ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كَ ّ‬
‫م‬‫م آَيات ِهِ لعَلك ْ‬ ‫ه لك ْ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫م كذ َل ِك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫مان َك ْ‬ ‫فظوا أي ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫فت ُ ْ‬ ‫حل ْ‬ ‫م إ َِذا َ‬ ‫مان ِك ْ‬ ‫فاَرةُ أي ْ َ‬
‫ن { ]المائدة ‪. [89 - 87 :‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫تَ ْ‬

‫) ‪(1/283‬‬
‫يقول الباري ‪ :‬يا أيها الذين آمنوا اعملوا بمقتضى أيمانكم في تحليل ما أحل‬
‫الله ‪ ،‬وتحريم ما حرم الله ‪ ،‬فل تحرموا ما أحل الله لكم من المطاعم‬
‫والمشارب وغيرها ‪ ،‬فإنها نعم تفضل الله بها عليكم فاقبلوها ‪ ،‬واشكروا الله‬
‫عليها إذ أحلها شرعا ويسرها قدرا ‪ ،‬ول تردوا نعمة الله بكفرها ‪ ،‬أو عدم‬
‫قبولها ‪ ،‬أو اعتقاد تحريمها ‪ ،‬أو الحلف على عدم تناولها ‪ ،‬فإن ذلك كله من‬
‫ن { بل يبغضهم‬ ‫دي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫معْت َ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫العتداء ‪ ،‬ولهذا قال ‪ } :‬وََل ت َعْت َ ُ‬
‫دوا إ ِ ّ‬
‫حلل طي ًّبا { أي ‪ :‬كلوا من رزقه‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ويمقتهم على ذلك } وَك ُُلوا ِ‬
‫الذي ساقه إليكم ‪ ،‬ويسره لكم بأسبابه المتنوعة ‪ ،‬إذا كان حلل ‪ ،‬ل سرقة ول‬
‫غصبا ‪ ،‬ول حصل في معاملة خبيثة ‪ ،‬وكان أيضا طيبا نافعا ل خبث فيه‬
‫َ‬
‫ه‬
‫م بِ ِ‬
‫ذي أن ْت ُ ْ‬ ‫ه { في امتثال أوامره ‪ ،‬واجتناب نواهيه } ال ّ ِ‬ ‫قوا الل ّ َ‬‫} َوات ّ ُ‬
‫ن { فإن اليمان ل يتم إل بذلك ‪ ،‬وهو يدعو إلى ذلك ‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫ُ‬

‫) ‪(1/284‬‬

‫ودلت الية الكريمة أن العبد إذا حرم حلل عليه من طعام وشراب وكسوة‬
‫واستعمال وسرية ونحو ذلك ‪ ،‬فإن هذا التحريم منه ل يحرم ذلك الحلل ‪،‬‬
‫لكن إذا فعله فعليه كفارة يمين ‪ ،‬لن التحريم يمين كما قال تعالى ‪ } :‬يا أ َي َّها‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م{‬ ‫حي ٌ‬
‫فوٌر َر ِ‬‫ه غَ ُ‬‫ك َوالل ّ ُ‬
‫ج َ‬ ‫ضاةَ أْزَوا ِ‬ ‫مْر َ‬‫ك ت َب ْت َِغي َ‬‫ه لَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ح ّ‬‫ما أ َ‬ ‫م َ‬ ‫حّر ُ‬
‫م تُ َ‬
‫ي لِ َ‬
‫الن ّب ِ ّ‬
‫َ‬
‫م{‬ ‫كي ُ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫م وَهُوَ ال ْعَِلي ُ‬‫موَْلك ُ ْ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬
‫ة أي ْ َ‬ ‫حل ّ َ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫م تَ ِ‬ ‫ض الل ّ ُ‬‫} قَد ْ فََر َ‬
‫]التحريم ‪ 1 :‬و ‪. [2‬‬
‫وهذا عام في تحريم كل طيب ‪ ،‬إل أن تحريم الزوجة يكون ظهارا فيه كفارة‬
‫الظهار السابقة ‪.‬‬

‫) ‪(1/285‬‬

‫وكما أنه ليس له أن يحلف على ترك الطيبات فليس له أن يمتنع من أكلها ‪،‬‬
‫ولو بل حلف تنسكا وغلوا في الدين ; بل يتناولها مستعينا بها على طاعة ربه‬
‫َ‬
‫م { ويشمل هذا اليمان التي حلف بها من‬ ‫ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ‬
‫مان ِك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫خذ ُك ُ ُ‬‫ؤا ِ‬ ‫} َل ي ُ َ‬
‫ن‬‫غير نية ول قصد ‪ ،‬أو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلف ذلك ‪ } ،‬وَل َك ِ ْ‬
‫َ‬
‫ن { أي ‪ :‬بما عقدت عليه قلوبكم ‪ ،‬كما قال في‬ ‫ما َ‬ ‫م اْلي ْ َ‬
‫قد ْت ُ ُ‬ ‫ما عَ ّ‬ ‫م بِ َ‬‫خذ ُك ُ ْ‬ ‫يُ َ‬
‫ؤا ِ‬
‫م { ]البقرة ‪. [225 :‬‬‫ت قُُلوب ُك ُْ‬ ‫ب‬
‫َ َ ْ‬‫س‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫ب‬
‫ْ ِ َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬ ‫َ‬
‫ؤا‬ ‫ي‬
‫َ ِ ْ ُ ِ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫الخرى‬ ‫الية‬
‫فإذا عقد العبد اليمين وحنث ‪ -‬بأن فعل ما حلف على تركه ‪ ،‬أو ترك ما حلف‬
‫على فعله ‪ -‬خير في الكفارة بين إطعام عشرة مساكين من أوسط ما‬
‫تطعمون أهليكم ‪ ،‬وذلك يختلف باختلف الناس والوقات والمكنة ‪ ،‬أو‬
‫كسوتهم بما يعد كسوة ‪ ،‬وقيد ذلك بكسوة تجزي في الصلة ‪ ،‬أو تحرير رقبة‬
‫صغير أو كبير ‪ ،‬ذكر أو أنثى ‪ ،‬بشرط أن تكون الرقبة مؤمنة ‪ ،‬كما في الية‬
‫المقيدة باليمان ‪ ،‬وأن تكون تلك الرقبة سليمة من العيوب الضارة بالعمل ‪،‬‬
‫فمتى كفر بواحد من هذه الثلثة انحلت يمينه ‪.‬‬

‫) ‪(1/286‬‬
‫وهذا من نعمة الله على هذه المة أنه فرض لهم تحلة أيمانهم ‪ ،‬ورفع عنهم‬
‫اللزام والجناح ‪ ،‬فمن لم يجد واحدا من هذه الثلثة فعليه صيام ثلثة أيام ‪،‬‬
‫ظوا‬‫ف ُ‬
‫ح َ‬
‫أي ‪ :‬متتابعة مع المكان ‪ ،‬كما قيدت في قراءة بعض الصحابة ‪َ } ،‬وا ْ‬
‫َ‬
‫م { عن أن تحلفوا بالله وأنتم كاذبون ‪ ،‬وعن كثرة اليمان ل سيما عند‬ ‫مان َك ُ ْ‬
‫أي ْ َ‬
‫البيع والشراء ‪ ،‬واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها ‪ ،‬إل إذا كان الحنث خيرا‬
‫من المضي فيها ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ض ً َ‬
‫س{‬ ‫ن الّنا ِ‬
‫حوا ب َي ْ َ‬
‫صل ِ ُ‬
‫قوا وَت ُ ْ‬
‫ن ت َب َّروا وَت َت ّ ُ‬
‫مأ ْ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬
‫ة ِلي ْ َ‬ ‫ه عُْر َ‬‫جعَُلوا الل ّ َ‬
‫} وََل ت َ ْ‬
‫]البقرة ‪. [224 :‬‬

‫) ‪(1/287‬‬

‫أي ‪ :‬ل تقولوا ‪ :‬إننا قد حلفنا على ترك البر ‪ ،‬وترك التقوى ‪ ،‬وترك الصلح‬
‫بين الناس ‪ ،‬فتجعلوا أيمانكم مانعة لكم من هذه المور التي يحبها الله‬
‫ورسوله ‪ ،‬بل احنثوا وكفروا وافعلوا ما هو خير وبر وتقوى ‪ ،‬واحفظوا أيضا‬
‫أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم بالكفارة ‪ ،‬فإن الكفارة بها حفظ اليمين الذي معناه‬
‫تعظيم المحلوف به ‪ ،‬فمن كان يحلف ويحنث ول يكفر فما حفظ يمينه ‪ ،‬ول‬
‫ه ل َك ُ ْ‬
‫م آَيات ِهِ { المبينة للحلل من الحرام ‪،‬‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫قام بتعظيم ربه } ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬
‫ن { فعلى العباد أن يشكروا ربهم على‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫الموضحة للحكام } ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫بيانه وتعليمه لهم ما لم يكونوا يعلمون ‪ ،‬فإن العلم أصل النعم وبه تتم ‪.‬‬

‫) ‪(1/288‬‬

‫فصل في آيات في الطعمة ونحوها والصيود وتوابعها‬


‫قال الله تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ض { ]البقرة ‪. [29 :‬‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل َقَ لك ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} هُوَ ال ّ ِ‬
‫م { ]النعام ‪. [119 :‬‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ص َ‬ ‫} وَقَد ْ فَ ّ‬
‫ة‬
‫م ِفي الت ّوَْرا ِ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫سو َ‬ ‫} ال ّ ِ‬
‫عن ْد َهُ ْ‬
‫مكُتوًبا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫دون َ ُ‬ ‫ج ُ‬
‫ذي ي َ ِ‬ ‫ي ال ِ‬ ‫م ّ‬ ‫ي ال ّ‬ ‫ل الن ّب ِ ّ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ذي َ‬
‫ْ‬
‫م‬
‫حّر ُ‬ ‫ت وَي ُ َ‬ ‫م الط ّي َّبا ِ‬ ‫ل ل َهُ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫من ْك َرِ وَي ُ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫ف وَي َن َْهاهُ ْ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫مُرهُ ْ‬ ‫ل ي َأ ُ‬ ‫جي ِ‬ ‫َواْل ِن ْ ِ‬
‫ث { ]العراف ‪. [157 :‬‬ ‫خَبائ ِ َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫عَل َي ْهِ ُ‬
‫ُ‬
‫ة‬‫ق ُ‬‫خن ِ َ‬ ‫ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ َوال ْ ُ‬
‫من ْ َ‬ ‫ما أهِ ّ‬ ‫زيرِ وَ َ‬ ‫خن ْ ِ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَل َ ْ‬ ‫ة َوالد ّ ُ‬ ‫مي ْت َ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫} ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م { ]المائدة ‪. [3 :‬‬ ‫ُْ ْ‬‫ت‬ ‫ي‬‫ّ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ما‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ّ ُ ُ ِ َ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫ح‬ ‫طي‬ ‫ن‬
‫ُ َ ُ ََ َّ ُ َ ّ ِ َ ُ َ َ‬ ‫وال‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ر‬ ‫ت‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫قو‬‫ُ‬ ‫َوال ْ َ ْ‬
‫و‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫مت ُ ْ‬‫ما عَل ّ ْ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫م الط ّي َّبا ُ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬‫ح ّ‬ ‫لأ ِ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ماَذا أ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫سأُلون َ َ‬ ‫وبعدها ‪ } :‬ي َ ْ‬
‫َ‬
‫م َواذ ْك ُُروا‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫سك ْ َ‬‫م َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ه فَك ُُلوا ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مك ُ ُ‬ ‫ما عَل ّ َ‬ ‫م ّ‬‫ن ِ‬ ‫مون َهُ ّ‬ ‫ن ت ُعَل ّ ُ‬ ‫مك َل ِّبي َ‬ ‫وارِِح ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫م الل ّهِ عَل َي ْهِ { ]المائدة ‪. [4 :‬‬ ‫س َ‬ ‫ا ْ‬

‫) ‪(1/289‬‬

‫م الل ّهِ عَل َي ْهِ { ]النعام ‪. [121 :‬‬ ‫ْ‬


‫س ُ‬‫م ي ُذ ْك َرِ ا ْ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫م ّ‬‫} وََل ت َأك ُُلوا ِ‬
‫ة أ َْو‬
‫مي ْت َ ً‬
‫ن َ‬‫كو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫َ‬
‫ه إ ِّل أ ْ‬
‫م ُ‬‫عم ٍ ي َط ْعَ ُ‬‫طا ِ‬‫ما عََلى َ‬ ‫حّر ً‬ ‫م َ‬‫ي ُ‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬‫ح َ‬ ‫ما ُأو ِ‬ ‫جد ُ ِفي َ‬
‫َ‬
‫ل َل أ ِ‬ ‫} قُ ْ‬
‫ضطّرُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫نا ْ‬ ‫م ِ‬‫ل ل ِغَي ْرِ اللهِ ب ِهِ فَ َ‬
‫قا أهِ ّ‬ ‫س ً‬‫س أوْ فِ ْ‬
‫ج ٌ‬ ‫ه رِ ْ‬ ‫زيرٍ فَإ ِن ّ ُ‬ ‫خن ْ ِ‬‫م ِ‬ ‫ح َ‬‫حا أوْ ل ْ‬ ‫فو ً‬ ‫س ُ‬ ‫م ْ‬‫ما َ‬
‫دَ ً‬
‫م { ]النعام ‪. [145 :‬‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّك غ ُ‬ ‫عاد ٍ فَإ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫غَي َْر َباٍغ وَل َ‬
‫دلت هذه اليات الكريمات على أن الصل في الشياء الحل من طعام‬
‫وشراب وغيرها ؛ ولن الله تعالى خلق لنا ما في الرض جميعا ننتفع به بكل‬
‫وجوه النتفاعات ‪ ،‬من أكل وشرب واستعمال ‪ ،‬وفصل لنا ما حرم علينا ‪ ،‬فما‬
‫لم يذكر في الكتاب والسنة تحريمه فهو حلل ‪ ،‬وأباح لنا كل طيب ‪ ،‬وحرم‬
‫علينا كل خبيث ‪.‬‬

‫) ‪(1/290‬‬

‫فمن الخبائث المحرمة الميتة ‪ -‬سوى ميتة الجراد والسمك ‪ -‬وهي ما مات‬
‫حتف أنفه أو ذكي ذكاة غير شرعية ‪ ،‬والدم المسفوح كما قيدته الية‬
‫الخرى ‪ ،‬وأما الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح فإنه طيب حلل‬
‫ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ { بأن ذبح لغير الله من أصنام وملئكة‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬ ‫زيرِ وَ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫خن ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫} وَل َ ْ‬
‫أو إنس أو جن أو غيرها من المخلوقات ‪.‬‬
‫ومن الخبائث كل ذي ناب من السباع ‪ ،‬وكل ذي مخلب من الطير كما صح‬
‫بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫ة { أي ‪ :‬التي تخنق بالحبال أو غيرها ‪ ،‬أو تختنق‬ ‫ق ُ‬
‫خن ِ َ‬
‫من ْ َ‬‫ومن الميتة } َوال ْ ُ‬
‫موُْقوذ َة ُ { وهي التي تضرب بالحصى أو بالعصا حتى تموت ‪،‬‬ ‫فتموت ‪َ } ،‬وال ْ َ‬
‫ة { وهي‬ ‫ومن هذا إذا رمى صيدا فأصاب الصيد بعرضه فقتله ‪َ } ،‬وال ْ ُ‬
‫مت ََرد ّي َ ُ‬
‫ة { التي‬ ‫ح ُ‬
‫طي َ‬ ‫التي تسقط من موضع عال كسطح وجبل فتموت ‪َ } ،‬والن ّ ِ‬
‫تنطحها غيرها فتموت بذلك ‪ ،‬وما أكله ذئب أو غيره من السباع ‪ ،‬وكل هذه‬
‫المذكورات إذا لم تدرك ذكاتها ‪ ،‬فإن أدركها حية فذكاها حلت ؛ لقوله ‪ } :‬إ ِّل‬
‫ك أم ل ‪.‬‬ ‫م { وسواء غلب على الظن بقاؤه أو تلفه إذا لم ي ُذ َ ّ‬ ‫ما ذ َك ّي ْت ُ ْ‬
‫َ‬

‫) ‪(1/291‬‬

‫ومن المحرمات الحشرات وخشاش الرض من فأرة وحية ووزغ ‪ ،‬ونحوها‬


‫من المستخبثة شرعا وطبا ‪.‬‬
‫ومن المحرمات ما ذكي ذكاة غير شرعية ‪ ،‬إما أن الذابح غير مسلم ول كتابي‬
‫‪ ،‬وإما أن يذبحها في غير محل الذبح وهي مقدور عليها ‪ ،‬وإما أن ل يقطع‬
‫حلقومها ومريها ‪ ،‬وإما أن يذبحها بغير ما ينهر الدم أو بعظم أو ظفر ‪ ،‬وما‬
‫أمر الشارع بقتله أو نهى عن قتله دل على تحريمه وخبثه ‪.‬‬
‫وكل هذه الشياء تحريمها في حال السعة ‪ ،‬وأما إذا اضطر إليها غير باغ‬
‫لكلها قبل أن يضطر ‪ ،‬ول متعد إلى الحرام ‪ ،‬وهو يقدر على الحلل ‪ ،‬فإنه إذا‬
‫اضطر إليها غير باغ ول عاد فإن الله غفور رحيم ‪ ،‬من رحمته أباح المحرمات‬
‫في حال الضرورة ‪.‬‬
‫ومن رحمته وسع لعباده طرق الحلل ‪ ،‬فأباح الصيد إذا جرح في أي موضع‬
‫من بدنه ‪ ،‬وأباح صيد السهام إذا سمى الرامي عند رميها ‪ ،‬وأباح أيضا صيد‬
‫الكلب المعلمة والطيور المعلمة ‪ ،‬والتعليم يختلف باختلف الحيوانات ‪ ،‬قال‬
‫العلماء ‪ :‬تعليم الكلب أن يسترسل إذا أرسل وينزجر إذا زجر ‪ ،‬وإذا أمسك‬
‫َ‬
‫م الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫س َ‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م َواذ ْك ُُروا ا ْ‬ ‫سك ْ َ‬
‫م َ‬
‫ما أ ْ‬ ‫لم يأكل من صيده لقوله ‪ } :‬فَك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬
‫عَل َي ْهِ { أي ‪ :‬عند إرسالها لقصد الصيد ‪.‬‬

‫) ‪(1/292‬‬
‫فصل في جوامع الحكم والقضايا في الصول والفروع‬
‫ه { ]المائدة ‪. [49 :‬‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫م بِ َ‬
‫م ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫نا ْ‬
‫َ‬
‫قال الله تعالى ‪ } :‬وَأ ِ‬
‫ه { ]النساء ‪. [105 :‬‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫ما أ ََرا َ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م ب َي ْ َ‬ ‫حك ُ َ‬ ‫} ل ِت َ ْ‬
‫ط { ]المائدة ‪. [42 :‬‬ ‫س‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬
‫ْ ْ ََُْ ْ ِ ِ ْ ِ‬‫با‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫} وَإ ِ ْ َ ْ َ‬
‫م‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫ن‬
‫ل { ]النساء ‪. [59 :‬‬ ‫سو ِ‬ ‫يٍء فَُرّدوهُ إ َِلى الل ّهِ َوالّر ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ن ت ََناَزعْت ُ ْ‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫حقّ وََل ت َت ّب ِِع ال ْهَ َ‬
‫وى‬ ‫س ِبال ْ َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫ض َفا ْ‬ ‫ْ‬
‫ة ِفي الْر ِ‬ ‫ف ً‬‫خِلي َ‬ ‫ك َ‬ ‫جعَل َْنا َ‬ ‫} يا َداوُد ُ إ ِّنا َ‬
‫ل اللهِ { ]ص ‪. [26 :‬‬ ‫ّ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫ضل ّ َ‬ ‫فَي ُ ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن { ]المائدة ‪. [50 :‬‬ ‫قوْم ٍ ُيوقُِنو َ‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫حك ْ ً‬ ‫ن اللهِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫صد ًْقا وَعَد ْل { ]النعام ‪. [115 :‬‬ ‫ً‬ ‫ك ِ‬ ‫ة َرب ّ َ‬ ‫م ُ‬‫ت ك َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَت َ ّ‬

‫) ‪(1/293‬‬

‫الحكم بين الناس بالحق والقسط ‪ ،‬هو الحكم بما أنزل الله ‪ ،‬وهو الرد إلى‬
‫الله ورسوله ; فإن هذه اليات يصدق بعضها بعضا ; وتدل على أن الحق‬
‫والعدل ل يخرج عما جاء به الرسول ‪ ،‬وأن حكم الله ورسوله أحسن الحكام‬
‫على الطلق ‪ ،‬أي ‪ :‬أعدلها وأقومها وأصلحها وأحسمها للشرور ‪ ،‬وأعظم‬
‫أحكام توسل بها إلى تحصيل درء المفاسد ‪ ،‬وأن رد مسائل النزاع‬
‫والختلفات الدينية والدنيوية إلى الله والرسول خير في الحال وأحسن عاقبة‬
‫‪ ،‬وأن كلمات الله تمت وكملت من كل وجه صدقا في إخبارها ‪ ،‬عدل في‬
‫أحكامها وأوامرها ونواهيها ‪ ،‬فكل مسألة خارجة عن العدل إلى الظلم ‪ ،‬وعن‬
‫الصلح إلى الفساد ‪ ،‬فليست من الشرع ‪ ،‬وقد جاء شرع الله محكم الصول‬
‫والفروع ‪ ،‬موافقا للمعقول الصحيح والعتبار والميزان العادل ‪.‬‬
‫وقد حكم الله ورسوله بأحكام متنوعة متفرعة عن هذا الصل العظيم ‪،‬‬
‫وتفصيل لمجمله ‪ ،‬فحكم الله بأن إقرار من عليه الحق معتبر في القليل‬
‫والكثير كما تقدم التنبيه عليه في آية الد ّْين ‪.‬‬

‫) ‪(1/294‬‬

‫وحكم بأن البينة على المدعي لثبات حق ‪ ،‬أو المدعي براءة الذمة من‬
‫الحقوق الثابتة ‪ ،‬وأن اليمين على من أنكر ‪ ،‬وهاتان القاعدتان عليهما مدار‬
‫جمهور القضايا ‪ ،‬اعتبار إقرار من عليه الحق إذا كان جايز التصرف ‪ ،‬وتكليف‬
‫المدعين كلهم بالبينات ‪.‬‬
‫والبيعة شرعا اسم جامع لكل ما بين الحق ‪ ،‬والبيان مراتب ‪ ،‬بعضها يصل إلى‬
‫درجة اليقين ‪ ،‬وبعضها كالقرائن ‪ ،‬وشواهد الحوال توصل إلى غلبة الظن ‪،‬‬
‫والترجيحات كثيرة جدا ‪.‬‬
‫وعند تساوي الترجيحات ومقادير الشياء وكمياتها بالتوسط بينها ‪ ،‬إما‬
‫بقسمتها متساوية وجعل الزيادة والنقص بحسب ذلك ‪ ،‬وإل بالقرعة إذا‬
‫تعذرت القسمة ‪ ،‬ومن أحكام الشارع العادلة إلغاؤه المعاملت الظالمة‬
‫الجائرة ‪ :‬كأنواع الغرر والظلم والميل على أحد المتعاملين بغير حق ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية اعتباره التراضي بين المتعاملين في عقود المعاوضات ‪،‬‬
‫وفي عقود التبرعات ‪ ،‬وأنه ل يحل مال امرئ مسلم أو معاهد إل بطيب‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية منع الضرر والضرار بغير حق في كل معاملة وخلطة‬
‫وجوار واتصال ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن على العمال تكميل أعمالهم بغير نقص ‪ ،‬وعلى من‬
‫عمل لهم تكميل أجورهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/295‬‬

‫ومن أحكامه الكلية إيجابه الوفاء بالعقود والشروط التي يشترطها أحد‬
‫المتعاقدين على الخر في أبواب العقود كلها ‪ ،‬مما لكل منهما أو لحدهما فيه‬
‫مصلحة ‪ ،‬إل شرطا أحل حراما أو حرم حلل ‪ ،‬فهذا قد أهدره الشارع وألغاه‬
‫وقال ‪ :‬من عمل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية اعتبار المقاصد والنيات في أبواب المعاملت والعمال ‪،‬‬
‫كما تعتبر في باب العبادات ‪ ،‬وبهذا الصل أبطل جميع الحيل التي يتوسل بها‬
‫إلى فعل محرم ‪ ،‬أو إسقاط حق مسلم ونحوها ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن جميع العقود اللزمة والجائزة ‪ :‬عقود المعاوضة‬
‫وعقود التبرع ‪ ،‬وكذلك الفسوخ تنعقد بما دل عليها من اللفاظ التي يتعارفها‬
‫المتعاقدان ‪ ،‬ومن الفعال الدالة على ذلك ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن تلف الشيء بيد الظالم كالغاصب ونحوه فيه‬
‫الضمان ‪ ،‬فرط أو لم يفرط ‪ ،‬فإن ثبوت يده على وجه الظلم والعدوان ‪ ،‬وأن‬
‫تلف الشيء تحت يد المين ل ضمان فيه إن لم يفرط أو يتعد ‪.‬‬

‫) ‪(1/296‬‬

‫ومن أحكامه الكلية أن الشيء المشكوك فيه يرجع فيه إلى اليقين في‬
‫العبادات والمعاملت ‪ ،‬فمن ادعى الصل فقوله مقبول ‪ ،‬ومن ادعى خلف‬
‫الصل لم يقبل إل ببينة ‪ ،‬وأن الصل بقاء ما كان على ما كان ‪ ،‬والصل براءة‬
‫الذمة حتى يتيقن اشتغالها ‪ ،‬كما أن الصل بقاء ما كان ثابتا في الذمة حتى‬
‫يتيقن البراءة بوفاء أو إسقاط أو سقوط ‪ ،‬وأن الصل في عقود المسلمين‬
‫الصحة والسلمة حتى نعرف أنه جرى ما يفسدها ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن جميع الحكام من أصول وفروع ل تتم وتكمل ويحصل‬
‫مقتضاها إل باجتماع شروطها وأركانها ومقوماتها ‪ ،‬وانتفاء موانعها ومفسداتها‬
‫‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية وجوب المماثلة في المتلفات والمضمونات بمثلها إن‬
‫أمكن المثل ‪ ،‬وبالقيمة إن تعذر المثل ‪.‬‬
‫وكذلك العمال ‪ ،‬فمن عمل لغيره عمل بعوض لم يسم ‪ ،‬أو سمي تسمية‬
‫فاسدة ‪ ،‬أو جهلت التسمية ‪ ،‬أو عاوضه معاوضة تعذر معرفة العوض فيها ‪،‬‬
‫فإنه يرجع في ذلك إلى أجرة المثل وعوض المثل ‪.‬‬

‫) ‪(1/297‬‬

‫ومن أحكامه الكلية وجوب العدل بين الولد والزوجات ‪ ،‬ووجوب العدل بين‬
‫ذوي الحقوق الذي ل مزية لواحد منهم على الخر ‪ ،‬كالعول الداخل على أهل‬
‫الفروض بالسوية ‪ ،‬وكقسمة المال بين الغرماء إذا لم يف بحقوقهم يعطون‬
‫على قدر حقوقهم إذا لم يكن لحدهم مزية رهن ونحوه ‪ ،‬وكاشتراك الملك‬
‫في الزيادة المترتبة عليها على قدر أملكهم ‪ ،‬والنقص على قدر أملكهم إذا‬
‫اعتراها نقص ‪ ،‬وسواء كان النقص بحق تعلق بها أو بتلف أو خسارة أو وقع‬
‫ظلما فإنهم يشتركون في الزيادة والنقص على قدر أملكهم ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية إثبات الخيار في كل عقد ظهر في العوض المعين أو‬
‫المعوض عيب ينقصه ; وأنه إذا لم يمكن الرد تعين الرش وإسقاط النقص ‪،‬‬
‫وعلى الصحيح ل فرق بين البيوع وغيرها ‪ ،‬فإن هذا من قاعدة العدل ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية جعل المجهول كالمعدوم ‪ ،‬ويندرج تحت هذا الصل‬
‫مّلك َُها أنه يتصدق بها عنهم ‪ ،‬أو تبذل في المصالح نيابة‬ ‫جهِ َ‬
‫ل ُ‬ ‫الموال التي ُ‬
‫عنهم ‪ ،‬وتملك اللقطة ‪ ،‬ومن مات ل وارث له بفرض ول تعصيب ول رحم ‪،‬‬
‫تركته في بيت المال للمصالح العامة جعًل للمجهول في ذلك كالمعدوم ‪.‬‬

‫) ‪(1/298‬‬

‫ومن أحكامه الكلية الرجوع إلى العرف إذا تعذر التعيين شرعا ولفظا ‪،‬‬
‫كالرجوع للعرف في نفقة الزوجات والقارب والجراء ‪ ،‬وكالشروط العرفية‬
‫في المعاملت إذا اطردت بين الناس ‪ ،‬وكالقبض والحرز ونحوها مما ل يعد‬
‫ول يحصى ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن الصل في العبادات الحظر ؛ فل يشرع منها إل ما‬
‫شرعه الله ورسوله ‪ ،‬والصل في المعاملت والستعمالت كلها الباحة ; فل‬
‫يحرم منها إل ما حرمه الله ورسوله ‪ ،‬وعلى هذا جميع أحكام العبادات‬
‫والمعاملت وغيرها مما ل يمكن إحصاؤه ‪ ،‬ولهذا من شرع في عبادة لم تنقل‬
‫عن الشارع فهو مبتدع ‪ ،‬ومن حرم من العادات شيئا لم يرد عن الشارع فهو‬
‫مبتدع ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية حثه على الصلح والصلح بين من بينهم حقوق ‪،‬‬
‫وخصوصا عند اشتباهها أو عند تناكرهما ‪ ،‬وإذا تعذر استيفاء الحق كله أو‬
‫تعسر ‪ ،‬فقد شرع في ذلك كله الصلح بالعدل ‪ ،‬وسلوك الحالة المناسبة لتلك‬
‫القضية بما تقتضيه الحال ‪ ،‬وفيه من الفوائد والثمرات الطيبة ما ل يعد ول‬
‫يحصى ‪.‬‬

‫) ‪(1/299‬‬

‫ومن أحكامه الكلية اعتبار العدالة في الشهود ‪ ،‬وأن يكونوا ممن يرضى من‬
‫الشهداء ‪ ،‬وذلك يختلف باختلف الحوال والشخاص ‪ ،‬فالشارع اعتبر شهادة‬
‫العدل المرضي من الشهداء ‪ ،‬وأسقط شهادة الكاذب والقاذف قبل التوبة ‪،‬‬
‫وأمر بالتثبت في خبر الفاسق ‪ ،‬وكذلك المجهول ؛ لنه اعتبر المرضي العدل‬
‫عند الناس ‪ ،‬فل بد من تحقيق هذا الوصف ‪ ،‬وأما عدد الشهود ونصابها فذلك‬
‫يختلف باختلف المشهود به كما فصله أهل العلم ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن من سبق إلى مباح فهو أحق به ‪ ،‬فيدخل في هذا‬
‫السبق إلى الجلوس في المساجد والسواق والفنية ‪ ،‬ويدخل فيه السبق إلى‬
‫النزول في المساكن والوقاف التي ل تتوقف على نظر ناظر ‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك السبق إلى المباحات من الصيود البرية والبحرية ‪ ،‬وإلى ما يستخرج من‬
‫البحار والمعادن ‪ ،‬وإلى الحتشاش والحتطاب وغير ذلك ‪ ،‬وإلى إحياء الموات‬
‫وغيرها من المسائل المتنوعة الداخلة في هذا الصل ‪.‬‬

‫) ‪(1/300‬‬

‫ومن أحكامه الكلية قبول قول المناء على ما في أيديهم مما هم عليه أولياء‬
‫من قبل الشارع ‪ ،‬أو قبل المالك بالوكالة أو الوصاية أو النظارة للوقاف ‪،‬‬
‫فكل هؤلء مقبول قولهم فيما يدعونه من داخل وخارج ومصرف ونحوه إذا‬
‫كان ذلك ممكنا ‪ ،‬وهذا معنى تأمينهم وتوليهم ووليتهم ‪ ،‬واعلم أن قبول قول‬
‫هؤلء في هذه المور ل يمنع محاسبتهم ‪ ،‬وطلب الوقوف على كيفية تلك‬
‫المصارف الداخلية والخارجية ‪ ،‬وتبيين وجه النقص والتلف ونحو ذلك ‪،‬‬
‫ليستظهر بذلك على صدقهم وكذبهم ‪ ،‬وأما تمكينهم من إطلق سراحهم‬
‫بحجة أنهم أمناء مقبول قولهم ‪ ،‬فهذا غلط على الشريعة وعلى الحقيقة ‪،‬‬
‫فالشارع حاسب عماله واستدرك عليهم ‪ ،‬والحقيقة والوقوف عليها مطلوب‬
‫باتفاق أهل العتبار ; فكم من أمين ظهرت خيانته يقينا حين استدرك عليه ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن الواجب يسقط بالعجز عنه بالكلية ‪ ،‬وأنه إذا قدر على‬
‫بعض الواجب وجب عليه ما يقدر عليه منه ‪ ،‬وسقط عنه ما يعجز عنه ‪ ،‬وهذا‬
‫مطرد في العبادات والحقوق الواجبة وغيرها ‪ ،‬كما أن الضرورة تبيح‬
‫المحظور وتقدر بقدرها ‪.‬‬

‫) ‪(1/301‬‬

‫ومن أحكامه الكلية أنه أقام البدل مقام مبدله في أحكام العبادات‬
‫والمعاملت والحقوق وغيرها ‪ ،‬فمتى كان للشيء بدل وتعذر الصل قام هذا‬
‫مقامه ‪ ،‬وحكم له بأحكامه ‪ ،‬وأن النماء تابع للصل ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن من وجب عليه أمر من المور فإنه يجبر عليه بحق ‪،‬‬
‫وأن من أتلف شيئا لدفع أذاه له دفعا عن نفسه ‪ ،‬فل ضمان عليه ‪ ،‬فإن أتلفه‬
‫للنتفاع به ضمنه ‪.‬‬
‫وأن ما ترتب على المأذون فيه من تلف فغير مضمون ‪ ،‬وما ترتب على غير‬
‫المأذون فإنه مضمون ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن الستثناءات والقيود والوصاف الملحقة باللفاظ تعتبر‬
‫وتقيد الكلم ‪ ،‬ويرتبط بها بشرط التصال لفظا أو حكما ‪ ،‬ويدخل في هذا‬
‫ألفاظ العقود والفسوخ والوقف والوصايا والعتق والطلق واليمان‬
‫والقرارات وغيرها ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن الشركاء في الملك والمنافع يلزمون بكل ما يعود‬
‫إلى حصول المنافع الضرورية ودفع المضار ‪ ،‬ويجبر الممتنع منهما من ذلك‬
‫من المصارف والنفقات والضرائب التي تلحق الملك هم فيها شركاء على‬
‫كل منهم بقدر ملكه ‪.‬‬

‫) ‪(1/302‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أن المباشر لتلف الموال أو المتسبب لذلك ضامن لها‬
‫متعمدا كان أو ناسيا أو جاهل ‪ ،‬وأنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب كان‬
‫الضمان على المباشر إل إن تعذر تضمينه لفقد أو امتناع أو عسر أو نحوه ‪،‬‬
‫فيحال الضمان على المتسبب بغير حق ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من أدى عن غيره دينا واجبا بنية الرجوع ‪ ،‬فإنه يرجع ولو لم يأذن‬
‫له في ذلك ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الوصف في الشيء الذي بيد الغير ‪ ،‬وذلك الغير ل يدعيه لنفسه‬
‫بينة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من تعجل شيئا قبل أوانه على وجه محرم عوقب بحرمانه ‪.‬‬
‫ومن أحكامه الكلية أنه إذا تزاحمت المصالح قدم العلى منها ‪ ،‬وإن تزاحمت‬
‫المفاسد وكان ل بد من فعل إحداها ارتكب الخف منها لدفع الشد مفسدة ‪،‬‬
‫وعلى هذا من مسائل الفقه ما ل يعد ول يحصى ‪ ،‬لن الشارع شرع الشريعة‬
‫لتحصيل المصالح أو تكميلها ‪ ،‬ولتقليل المفاسد وتعطيلها بحسب المكان ‪.‬‬

‫) ‪(1/303‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن إطلق التشريك في الوصايا والهبات والقرارات ‪ ،‬وإيقاع العقود‬


‫والفسوخ على العيان وغير ذلك ‪ :‬كل ذلك يقتضي المساواة بين من شرك‬
‫بينهم في شيء من ذلك ‪ ،‬إل إن دل دليل على المفاضلة بينهم ‪ ،‬وكذلك في‬
‫ل‪،‬‬‫الشياء المشتبهة التي يعلم أنها لهؤلء الشخاص ‪ ،‬ول يعلم مقدار ما ل ِك ُ ّ‬
‫فإنهم يتساوون فيها ‪ ،‬وأدلة هذه الصول من الكتاب والسنة ظاهرة ‪ ،‬وهي‬
‫أصول جامعة عظيمة النفع ‪ ،‬ينتفع بها الحاكم والمفتي وطالب العلم ‪ ،‬وهي‬
‫من محاسن الشريعة ‪ ،‬ومن أكبر البراهين على أن ما جاء به الرسول حق‬
‫من عند الله محكم الصول ‪ ،‬متناسب الفروع ‪ ،‬عدل في معانيه ‪ ،‬تابع للحكم‬
‫والصلح في مبانيه ‪ ،‬فلنقتصر على هذه القواعد إذ غيرها تبع لها ‪ ،‬وهي تغني‬
‫عن غيرها ‪ ،‬ول يغني عنها سواها ‪ . .‬والله أعلم ‪.‬‬

‫) ‪(1/304‬‬

‫فصول في ذكر ما قص الله علينا في كتابه من أخبار النبياء مع أقوامهم‬


‫قد قص الله علينا في كتابه قصصا طيبة من أخبار أنبيائه ‪ ،‬ووصفها بأنها‬
‫أحسن القصص ‪ ،‬وهذا الوصف من الله العظيم يدل على أنها أصدقها وأبلغها‬
‫وأنفعها للعباد ; فمن أهم منافع هذه القصص أن بها يتم ويكمل اليمان‬
‫بالنبياء ‪ ،‬صلى الله عليهم وسلم ‪ ،‬فإننا وإن كنا مؤمنين بجميع النبياء على‬
‫وجه العموم والجمال ‪ ،‬فاليمان التفصيلي المستفاد من قصصهم ‪ ،‬وما‬
‫وصفهم الله به من الصدق الكامل والوصاف الكاملة التي هي أعلى‬
‫الوصاف ‪ ،‬وما لهم من الفضل والفواضل والحسان على جميع نوع‬
‫النسان ‪ ،‬بل وصل إحسانهم إلى جميع الحيوانات بما أبدوه للمكلفين في‬
‫العتناء بها والقيام بحقها ‪ ،‬فهذا اليمان التفصيلي بالنبياء يصل به العبد إلى‬
‫اليمان الكامل ‪ ،‬وهو من مواد زيادة اليمان ‪.‬‬
‫فمن ذلك أن في قصصهم تقرير اليمان بالله ‪ ،‬وتوحيده ‪ ،‬وإخلص العمل‬
‫له ‪ ،‬واليمان باليوم الخر ‪ ،‬وبيان حسن التوحيد ووجوبه ‪ ،‬وقبح الشرك ‪ ،‬وأنه‬
‫سبب الهلك في الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫) ‪(1/305‬‬

‫وفي قصصهم أيضا عبرة للمؤمنين يقتدون بهم في جميع مقامات الدين ‪:‬‬
‫في مقام التوحيد والقيام بالعبودية ‪ ،‬وفي مقامات الدعوة والصبر والثبات‬
‫عند جميع النوائب المقلقة ‪ ،‬ومقابلة ذلك بالطمأنينة والسكون والثبات التام ‪،‬‬
‫وفي مقام الصدق والخلص لله في جميع الحركات والسكنات واحتساب‬
‫الجر والثواب من الله تعالى ‪ ،‬ل يطلبون من الخلق أجرا ول جزاء ول شكورا‬
‫إل المور النافعة للخلق ‪.‬‬
‫وفيها أيضا عبرة لتفاقهم على دين واحد وأصول واحدة ‪ ،‬ودعوة إلى كل‬
‫خلق جميل وعمل صالح وإصلح ‪ ،‬وزجرهم عن كل ما يضاد ذلك ‪.‬‬
‫وفيها أيضا من الفوائد الفقهية والحكام الشرعية والسرار الحكمية شيء‬
‫عظيم ل غنى لكل طالب علم عنها ‪.‬‬
‫وفيها أيضا من الوعظ والتذكير والترغيب والترهيب ‪ ،‬والفرج بعد الشدة ‪،‬‬
‫وتيسير المور بعد تعسرها ‪ ،‬وحسن العواقب المشاهدة في هذه الدار ‪،‬‬
‫وحسن الثناء والمحبة في قلوب الخلق ‪ -‬ما فيه زاد للمتقين ‪ ،‬وسرور‬
‫للعابدين ‪ ،‬وسلوة للمحزونين ‪ ،‬ومواعظ للمؤمنين ‪ -‬فليس المقصود من‬
‫قصصهم أن تكون فقط سمرا ‪ ،‬وإنما الغرض العظم منها أن تكون تذكيرا‬
‫وعبرا ‪.‬‬

‫) ‪(1/306‬‬

‫واعلم قبل الشروع فيها أن كثيرا من قصصهم صلوات الله وسلمه عليهم‬
‫أعادها الله في كتابه مرات عديدة بأساليب مناسبة لمقاماتها ‪ ،‬وربما يكون‬
‫في موضع منها ما ليس في المواضع الخر من الزيادات والفوائد ‪ ،‬أو يأتي‬
‫بها بألفاظ غير ألفاظ القصة الخرى ‪ ،‬والمعاني متفقة أو متقاربة ‪ ،‬فعلى‬
‫حساب أن هذا التعليق مختصر سوف آتي بهذه القصص ‪ ،‬وأجمع القصة في‬
‫موضع واحد ‪ ،‬وأحرص على ما دلت عليه ألفاظ الكتاب من سياقها من أولها‬
‫إلى آخرها ‪ ،‬وأتبع كل قصة بما يفتح الله به من الفوائد الصولية والفروعية‬
‫والخلق والداب والمواضيع المتنوعة ‪ ،‬راجيا من الله أن يوفقني بذلك‬
‫للصواب اللفظي ‪ ،‬والخلص الباطني ‪ ،‬وموافقة رضاه ‪ ،‬وأن يجعل بذلك‬
‫النفع العام ‪ ،‬إنه جواد كريم ‪.‬‬

‫) ‪(1/307‬‬

‫فصل في قصة آدم ‪ ،‬أبي البشر ‪ ،‬عليه الصلة والسلم‬


‫لم يزل الله أول ليس قبله شيء ‪ ،‬ولم يزل فعال لما يريد ‪ ،‬ول خل وقت من‬
‫الوقات من أفعال وأقوال تصدر عن مشيئته وإرادته بحسب ما تقتضيه حكمة‬
‫الله الذي هو حكيم في كل ما قدره وقضاه ‪ ،‬كما هو حكيم في كل ما شرعه‬
‫لعباده ‪ ،‬فلما اقتضت الحكمة الشاملة والعلم المحيط من الله والرحمة‬
‫السابغة خلق آدم أبي البشر الذين فضلهم الله على كثير ممن خلق تفضيل ‪،‬‬
‫أعلم الملئكة وقال ‪:‬‬
‫ة { ]البقرة ‪. [30 :‬‬ ‫ف ً‬
‫خِلي َ‬
‫ض َ‬ ‫َْ‬ ‫ع ٌ‬
‫ل ِفي الْر ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫} إ ِّني َ‬
‫يخلف من كان قبلهم من المخلوقات التي ل يعلمها إل هو ‪.‬‬
‫َ‬
‫ماَء { ]تابع ‪ :‬الية[ ‪.‬‬ ‫ف ُ‬
‫ك الد ّ َ‬ ‫س ِ‬
‫سد ُ ِفيَها وَي َ ْ‬‫ف ِ‬ ‫ن يُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ل ِفيَها َ‬ ‫جعَ ُ‬ ‫} َقاُلوا أت َ ْ‬
‫وهذا منهم تعظيم لربهم وإجلل له عن أنه ربما يخلق مخلوقا يشبه أخلق‬
‫المخلوقات الول ‪ ،‬أو أن الله تعالى أخبرهم بخلق آدم ‪ ،‬وبما يكون من‬
‫مجرمي ذريته ‪ ،‬قال الله لملئكته ‪:‬‬
‫َ‬
‫ن { ]تابع ‪ :‬الية[ ‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما َل ت َعْل َ ُ‬‫م َ‬ ‫} إ ِّني أعْل َ ُ‬
‫فإنه محيط علمه بكل شيء ‪ ،‬وبما يترتب على هذا المخلوق من المصالح‬
‫والمنافع التي ل تعد ول تحصى ‪.‬‬

‫) ‪(1/308‬‬

‫فعرفهم تعالى بنفسه بكمال علمه ‪ ،‬وأنه يجب العتراف لله بسعة العلم ‪،‬‬
‫والحكمة التي من جملتها أنه ل يخلق شيئا عبثا ‪ ،‬ول لغير حكمة ‪ ،‬ثم بين لهم‬
‫على وجه التفصيل ‪ ،‬فخلقه بيده تشريفا له على جميع المخلوقات ‪ ،‬وقبض‬
‫قبضة من جميع الرض سهلها وحزنها ‪ ،‬وطيبها وخبيثها ‪ ،‬ليكون النسل على‬
‫هذه الطبائع ‪ ،‬فكان ترابا أول ‪ ،‬ثم ألقى عليه الماء فصار طينا ‪ ،‬ثم لما طالت‬
‫مدة بقاء الماء على الطين تغير ذلك الطين فصار حمأ مسنونا ‪ ،‬طينا أسود ‪،‬‬
‫ثم أيبسه بعدما صوره فصار كالفخار الذي له صلصلة ‪ . .‬وفي هذه الطوار‬
‫هو جسد بل روح ‪ ،‬فلما تكامل خلق جسده ‪ ،‬نفخ فيه الروح فانقلب ذلك‬
‫الجسد الذي كان جمادا حيوانا له عظام ولحم وأعصاب وعروق وروح هي‬
‫حقيقة النسان ‪ ،‬وأعده الله لكل علم وخير ‪ ،‬ثم أتم عليه النعمة ‪ ،‬فعلمه‬
‫أسماء الشياء كلها ‪.‬‬
‫والعلم التام يستدعي الكمال التام ‪ ،‬وكمال الخلق ‪ ،‬فأراد الله أن يري‬
‫الملئكة كمال هذا المخلوق ‪ ،‬فعرض هذه المسميات على الملئكة وقال لهم‬
‫‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [31 :‬‬‫صادِِقي َ‬
‫م َ‬ ‫ماِء هَؤُلِء إ ِ ْ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫س َ‬
‫} أن ْب ِئوِني ب ِأ ْ‬

‫) ‪(1/309‬‬

‫في مضمون كلمكم الول الذي مقتضاه أن ترك خلقه أ َوَْلى ‪ ،‬هذا بحسب ما‬
‫بدا لهم في تلك الحال ‪ ،‬فعجزت الملئكة عليهم السلم عن معرفة أسماء‬
‫هذه المسميات ‪ ،‬وقالوا ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م { ]البقرة ‪. [32 :‬‬
‫كي ُ‬‫ح ِ‬
‫م ال َ‬
‫ت العَِلي ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫مت ََنا إ ِن ّ َ‬‫ما عَل ْ‬ ‫م ل ََنا إ ِّل َ‬
‫عل ْ َ‬
‫ك َل ِ‬ ‫حان َ َ‬‫سب ْ َ‬
‫} ُ‬
‫قال الله ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫} يا آد َ‬
‫م { ]البقرة ‪. [33 :‬‬ ‫مائ ِهِ ْ‬
‫س َ‬‫م ب ِأ ْ‬ ‫ما أن ْب َأهُ ْ‬ ‫م فَل ّ‬‫مائ ِهِ ْ‬
‫س َ‬‫م ب ِأ ْ‬‫م أن ْب ِئ ْهُ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫شاهد الملئكة من كمال هذا المخلوق وعلمه ما لم يكن لهم في حساب ‪،‬‬
‫وعرفوا بذلك على وجه التفصيل والمشاهدة كمال حكمة الله ‪ ،‬وعظموا آدم‬
‫غاية التعظيم ; فأراد الله أن يظهر هذا التعظيم والحترام لدم من الملئكة‬
‫ظاهرا وباطنا ‪ ،‬فقال للملئكة ‪:‬‬
‫م { ]البقرة ‪. [34 :‬‬
‫دوا ِلد َ َ‬
‫ج ُ‬
‫س ُ‬
‫}ا ْ‬

‫) ‪(1/310‬‬

‫احتراما له وتوقيرا وتبجيل ‪ ،‬وعبادة منكم لربكم ‪ ،‬وطاعة ومحبة وذل ;‬


‫فبادروا كلهم أجمعون ‪ ،‬فسجدوا وكان إبليس بينهم ‪ ،‬وقد وجه إليه المر‬
‫بالسجود معهم ‪ ،‬وكان من غير عنصر الملئكة ; كان من الجن المخلوقين من‬
‫نار السموم ‪ ،‬وكان مبطنا للكفر بالله ‪ ،‬والحسد لهذا النسان الذي فضله الله‬
‫هذا التفضيل ; فحمله كبره وكفره على المتناع عن السجود لدم كفرا بالله‬
‫واستكبارا ‪ ،‬ولم يكفه المتناع حتى باح بالعتراض على ربه ‪ ،‬والقدح في‬
‫حكمته ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ن { ]العراف ‪. [12 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫طي‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬‫قت َ ُ‬ ‫َ‬
‫خل ْ‬ ‫ن َنارٍ وَ َ‬ ‫م ْ‬‫قت َِني ِ‬ ‫َ‬
‫خل ْ‬ ‫ه َ‬‫من ْ ُ‬ ‫ل أ ََنا َ‬
‫خي ٌْر ِ‬ ‫} َقا َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تأ ْ‬ ‫ست َكب َْر َ‬‫ت ب ِي َد َيّ أأ ْ‬‫ق ُ‬
‫خل ْ‬ ‫ما َ‬ ‫جد َ ل ِ َ‬
‫س ُ‬‫ن تَ ْ‬ ‫من َعَك أ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬
‫فقال الله له ‪ } :‬يا إ ِب ِْلي ُ‬
‫ن { ]ص ‪. [75 :‬‬ ‫ن ال َْعاِلي َ‬‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫ك ُن ْ َ‬
‫فكان هذا الكفر والستكبار والباء منه وشدة النفار هو السبب الوحيد أن‬
‫يكون مطرودا ملعونا ‪ ،‬فقال الله له ‪:‬‬
‫ن ت َت َك َب َّر ِفيَها َفا ْ‬ ‫كون ل َ َ َ‬ ‫} َفاهْب ِ ْ‬
‫ن{‬ ‫ري َ‬‫صاِغ ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ك ِ‬ ‫ج إ ِن ّ َ‬
‫خُر ْ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ما ي َ ُ ُ‬ ‫من َْها فَ َ‬‫ط ِ‬
‫]العراف ‪. [13 :‬‬

‫) ‪(1/311‬‬

‫فلم يخضع الخبيث لربه ‪ ،‬ولم يتب إليه ‪ ،‬بل بارزه بالعداوة ‪ ،‬وصمم التصميم‬
‫التام على عداوة آدم وذريته ‪ ،‬ووطن نفسه لما علم أنه حتم عليه الشقاء‬
‫البدي أن يدعو الذرية بقوله وفعله وجنوده إلى أن يكونوا من حزبه الذين‬
‫كتبت لهم دار البوار ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫َ‬
‫ن { ]الحجر ‪. [36 :‬‬ ‫ب فَأن ْظ ِْرِني إ َِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ‬ ‫} َر ّ‬
‫فيتفرغ لعطاء العداوات حقها في آدم وذريته ‪.‬‬
‫ولما كانت حكمة الله اقتضت أن يكون الدمي مركبا من طبائع متباينة ‪،‬‬
‫وأخلق طيبة أو خبيثة ‪ ،‬وكان ل بد من تمييز هذه الخلق وتصفيتها بتقدير‬
‫أسبابها من البتلء والمتحان الذي من أعظمه تمكين هذا العدو من دعوتهم‬
‫إلى كل شر ‪ ،‬أجابه ‪:‬‬
‫معُْلوم ِ { ]الحجر ‪ 37 :‬و ‪. [38‬‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫ن {} إ َِلى ي َوْم ِ ال ْوَقْ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫من ْظ َ ِ‬
‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫} فَإ ِن ّ َ‬
‫فقال لربه معلنا معصيته ‪ ،‬وعداوته آدم وذريته ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ديهِ ْ‬
‫ن أي ْ ِ‬
‫ن ب َي ْ ِ‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫َ‬
‫م لت ِي َن ّهُ ْ‬ ‫م {} ث ُ ّ‬ ‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬‫ك ال ْ ُ‬ ‫صَراط َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫ما أغْوَي ْت َِني َل َقْعُد َ ّ‬ ‫} فَب ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن { ]العراف‬ ‫ري َ‬‫شاك ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫جد ُ أك ْث ََرهُ ْ‬‫م وَل ت َ ِ‬ ‫مائ ِل ِهِ ْ‬
‫ش َ‬‫ن َ‬ ‫م وَعَ ْ‬ ‫مان ِهِ ْ‬
‫ن أي ْ َ‬‫م وَعَ ْ‬ ‫فهِ ْ‬ ‫خل ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫وَ ِ‬
‫‪ 16 :‬و ‪. [17‬‬

‫) ‪(1/312‬‬

‫قال إبليس هذه المقالة ظنا منه ؛ لنه عرف ما جبل عليه الدمي ‪.‬‬
‫ن { ]سبأ ‪[20 :‬‬
‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫قا ِ‬ ‫ه َفات ّب َُعوه ُ إ ِّل فَ ِ‬
‫ري ً‬ ‫س ظ َن ّ ُ‬ ‫صد ّقَ عَل َي ْهِ ْ‬
‫م إ ِب ِْلي ُ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫‪.‬‬
‫فمكنه الله من المر الذي يريده إبليس في آدم وذريته ‪ ،‬فقال الله له ‪:‬‬
‫ن‬
‫م ِ‬‫فزِْز َ‬ ‫موُْفوًرا {} َوا ْ‬
‫ست َ ْ‬ ‫جَزاًء َ‬ ‫م َ‬ ‫جَزاؤُك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن َ‬‫م فَإ ِ ّ‬‫من ْهُ ْ‬
‫ك ِ‬‫ن ت َب ِعَ َ‬‫م ْ‬ ‫ب فَ َ‬‫} اذ ْهَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬
‫وا ِ‬ ‫م ِفي اْل ْ‬
‫م َ‬ ‫شارِك ْهُ ْ‬
‫ك وَ َ‬‫جل ِ َ‬ ‫خي ْل ِ َ‬
‫ك وََر ِ‬ ‫م بِ َ‬‫ب عَل َي ْهِ ْ‬‫جل ِ ْ‬‫ك وَأ ْ‬‫صوْت ِ َ‬‫م بِ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ت ِ‬‫ست َط َعْ َ‬
‫ا ْ‬
‫َواْلوَلد ِ { ]السراء ‪ 63 :‬و ‪. [64‬‬ ‫َ‬

‫) ‪(1/313‬‬

‫أي ‪ :‬إن قدرت فاجعلهم منحرفين في تربية أولدهم إلى التربية الضارة ‪ ،‬في‬
‫صرف أموالهم المصارف الضارة ‪ ،‬وفي الكسب الضار ‪ ،‬وأيضا شارك منهم‬
‫من إذ تناول طعاما أو شرابا أو نكاحا ‪ ،‬ولم يذكر اسم الله على ذلك في‬
‫الموال الولد ‪ ،‬وعدهم أي ‪ :‬مرهم أن يكذبوا بالبعث والجزاء ‪ ،‬وأن ل يقدموا‬
‫على خير ‪ ،‬وخوفهم من أوليائك ‪ ،‬وخوفهم عند النفاق النافع بالفحشاء‬
‫والبخل ‪ ،‬وهذا من الله لحكم عظيمة وأسرار ‪ ،‬وإنك أيها العدو المبين ل تبقي‬
‫من مقدورك في إغوائهم شيئا ‪ ،‬فالخبيث منهم يظهر خبثه ‪ ،‬ويتضح شره ‪،‬‬
‫والله ل يعبأ به ‪ ،‬ول يبالي به ‪.‬‬
‫وأما خواص الذرية من النبياء ‪ ،‬وأتباعهم من الصديقين والصفياء ‪ ،‬وطبقات‬
‫الولياء والمؤمنين فإن الله تعالى لم يجعل لهذا العدو عليهم تسلطا ‪ ،‬بل‬
‫أقام عليهم سورا منيعا ‪ ،‬وهو حمايته وكفايته ‪ ،‬وزودهم بسلح ل يمكن‬
‫كلهم عليه ‪:‬‬ ‫لعدوهم مقاومتهم بكمال اليمان بالله ‪ ،‬وقوة تو ّ‬
‫ُ‬ ‫مُنوا وَعََلى َرب ّهِ ْ‬
‫م ي َت َوَك ّلو َ‬
‫ن { ]النحل ‪:‬‬ ‫نآ َ‬ ‫ن عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سل ْ َ‬
‫طا ٌ‬ ‫س لَ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫ه ل َي ْ َ‬
‫} إ ِن ّ ُ‬
‫‪. [99‬‬

‫) ‪(1/314‬‬

‫ومع ذلك فأعانهم على مقاومة هذا العدو المبين بأمور كثيرة ‪ :‬أنزل عليهم‬
‫كتبه المحتوية على العلوم النافعة ‪ ،‬والمواعظ المؤثرة ‪ ،‬والترغيب إلى فعل‬
‫الخيرات ‪ ،‬والترهيب من فعل الشرور ‪ ،‬وأرسل إليهم الرسل مبشرين من‬
‫آمن بالله وأطاعه بالثواب العاجل ‪ ،‬ومنذرين من كفر وكذب وتولى‬
‫بالعقوبات المتنوعة ‪ ،‬وضمن لمن اتبع هداه الذي أنزل به كتبه وأرسل به‬
‫رسله أن ل يضل في الدنيا ‪ ،‬ول يشقى في الخرة ‪ ،‬وأنه ل خوف عليه ‪ ،‬ول‬
‫حزن يعتريه ; وأرشدهم قي كتبه ‪ ،‬وعلى ألسنة رسله إلى المور التي بها‬
‫يحتمون من هذا العدو المبين ‪ ،‬وبين لهم ما يدعو إليه هذا الشيطان ‪ ،‬وطرقه‬
‫التي يصطاد بها الخليقة ‪.‬‬
‫وكما بينها لهم ووضحها فقد أرشدهم إلى الطرق التي ينجون بها من شره‬
‫وفتنته ‪ ،‬وأعانهم على ذلك إعانة قدرية خارجة عن قدرتهم ; لنهم لما بذلوا‬
‫المجهود ‪ ،‬واستعانوا بالمعبود ‪ ،‬سهل لهم كل طريق يوصل إلى المقصود ‪.‬‬

‫) ‪(1/315‬‬

‫ثم إن الله تعالى أتم نعمته على آدم ‪ ،‬فخلق منه زوجته حواء من جنسه‬
‫وعلى شكله ؛ ليسكن إليها ‪ ،‬وتتم المقاصد المتعددة من الزواج واللتئام ‪،‬‬
‫وتنبث الذرية بذلك ‪ ،‬وقال له ولزوجته ‪ :‬إن الشيطان عدو لكما ‪ ،‬فاحذراه‬
‫غاية الحذر ‪ ،‬فل يخرجنكما من الجنة التي أسكنكما الله إياها ‪ ،‬وأباحكما أن‬
‫تأكل من جميع ثمارها ‪ ،‬وأن تتمتعا بجميع لذاتها إل شجرة معينة في هذه‬
‫ه‬ ‫ما وََل ت َ ْ‬
‫قَرَبا هَذِ ِ‬ ‫شئ ْت ُ َ‬
‫ث ِ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫الجنة ‪ ،‬فحرمها عليهما ‪ ،‬فقال ‪ } :‬فَك َُل ِ‬
‫ن { ]العراف ‪. [19 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫جَرةَ فَت َ ُ‬
‫كوَنا ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ال ّ‬
‫جوع َ ِفيَها وََل ت َعَْرى {‬ ‫َ‬
‫ك أّل ت َ ُ‬ ‫ن لَ َ‬
‫وقال الله لدم في تمتيعه بهذه الجنة ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ك َل تظ ْ ُ‬ ‫} وَأ َن ّ َ‬
‫حى { ]طه ‪ 118 :‬و ‪. [119‬‬ ‫مأ ِفيَها وََل ت َ ْ‬
‫ض َ‬ ‫َ َ‬

‫) ‪(1/316‬‬

‫فمكثا في الجنة ما شاء الله على هذا الوصف الذي ذكره الله ‪ ،‬وعدوهما‬
‫يراقبهما ويراصدهما ‪ ،‬وينظر الفرصة فيهما ‪ ،‬فلما رأى سرور آدم بهذه‬
‫الجنة ‪ ،‬ورغبته العظيمة في دوامها ‪ ،‬جاءه بطريق لطيف في صورة الصديق‬
‫الناصح ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا آدم ‪ ،‬هل أدلك على شجرة إذا أكلت منها خلدت في هذه‬
‫الجنة ودام لك الملك الذي ل يبلى ؟ فلم يزل يوسوس ويزين ويسول ويعد‬
‫ويمني ويلقي عليهما من النصائح الظاهرة ‪ ،‬وهي أكبر الغش حتى غرهما ‪،‬‬
‫فأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها وحرمها عليهما ‪ ،‬فلما أكل منها بدت‬
‫لهما سوآتهما بعدما كانا مستورين ‪ ،‬وطفقا يخصفان على أنفسهما من أوراق‬
‫تلك الجنة ‪ ،‬أي ‪ :‬يلزقان على أبدانهما العارية ؛ ليكون بدل اللباس ‪ ،‬وسقط‬
‫في أيديهما ‪ ،‬وظهرت في الحال عقوبة معصيتهما ‪ ،‬وناداهما ربهما ‪:‬‬
‫ن{‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ن ل َك ُ َ‬
‫ما عَد ُوّ ُ‬ ‫طا َ‬‫شي ْ َ‬
‫ن ال ّ‬‫ما إ ِ ّ‬ ‫جَرةِ وَأ َقُ ْ‬
‫ل ل َك ُ َ‬ ‫ش َ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫ن ت ِل ْك ُ َ‬‫ما عَ ْ‬
‫} أ َل َ َ‬
‫م أن ْهَك ُ َ‬ ‫ْ‬
‫]العراف ‪. [22 :‬‬
‫فأوقع الله في قلبيهما التوبة التامة ‪ ،‬والنابة الصادقة ‪.‬‬
‫ت { ]البقرة ‪. [37 :‬‬ ‫ما ٍ‬‫ن َرب ّهِ ك َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬
‫قى آد َ ُ‬ ‫} فَت َل َ ّ‬

‫) ‪(1/317‬‬

‫ن{‬‫ري َ‬
‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫مَنا ل َن َ ُ‬‫ح ْ‬‫فْر ل ََنا وَت َْر َ‬‫م ت َغْ ِ‬‫ن لَ ْ‬
‫سَنا وَإ ِ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫مَنا أ َن ْ ُ‬ ‫وقال ‪َ } :‬رب َّنا ظ َل َ ْ‬
‫]العراف ‪. [23 :‬‬
‫فتاب الله عليهما ‪ ،‬ومحا الذنب الذي أصابا ‪ ،‬ولكن المر الذي حذرهما الله‬
‫منه ‪ ،‬وهو الخروج من هذه الجنة إن تناول منها تحتم ومضى ‪ ،‬فخرجا منها‬
‫إلى الرض التي حشي خيرها بشرها ‪ ،‬وسرورها بكدرها ‪.‬‬
‫وأخبرهما الله أنه ل بد أن يبتليهما وذريتهما ‪ ،‬وأن من آمن وعمل صالحا‬
‫كانت عاقبته خيرا من حالته الولى ‪ ،‬ومن كذب وتولى فآخر أمره الشقاء‬
‫البدي والعذاب السرمدي ‪ ،‬وحذر الله الذرية منه فقال ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫خر َ‬ ‫طان ك َ َ‬
‫ما‬‫جن ّةِ ي َن ْزِع ُ عَن ْهُ َ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ج أب َوَي ْك ُ ْ‬‫ما أ ْ َ َ‬ ‫شي ْ َ ُ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫م َل ي َ ْ‬
‫فت ِن َن ّك ُ ُ‬ ‫} يا ب َِني آد َ َ‬
‫م { ]العراف‬ ‫ث ل ت ََروْن َهُ ْ‬‫َ‬ ‫حي ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ُ‬
‫م هُوَ وَقَِبيل ُ‬ ‫ُ‬
‫ه ي ََراك ْ‬ ‫ما إ ِن ّ ُ‬
‫وآت ِهِ َ‬ ‫س ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ما ل ِي ُرِي َهُ َ‬
‫سهُ َ‬
‫ل َِبا َ‬
‫‪. [27 :‬‬

‫) ‪(1/318‬‬
‫وأبدلهم الله بذلك اللباس الذي نزعه الشيطان من البوين بلباس يواري‬
‫السوآت ‪ ،‬ويحصل به الجمال الظاهر في الحياة ‪ ،‬ولباس أعلى من ذلك ‪،‬‬
‫وهو لباس التقوى ‪ ،‬الذي هو لباس القلب والروح باليمان والخلص والنابة ‪،‬‬
‫والتحلي بكل خلق جميل ‪ ،‬والتخلي عن كل خلق رذيل ; ثم بث الله من آدم‬
‫وزوجه رجال كثيرا ونساء ‪ ،‬ونشرهم في الرض ‪ ،‬واستخلفهم فيها ؛ لينظر‬
‫كيف يعملون ‪.‬‬
‫* فوائد مستنبطة من هذه القصة أصولية وفروعية وأخلق وآداب ‪:‬‬
‫فمنها أن هذه القصة العظيمة ذكرها الله في كتابه في مواضع كثيرة صريحة‬
‫ل ريب فيها ول شك ‪ ،‬وهي من أعظم القصص التي اتفقت عليها الرسل ‪،‬‬
‫ونزلت بها الكتب السماوية ‪ ،‬واعتقدها جميع أتباع النبياء من الولين‬
‫والخرين ‪ ،‬حتى نبغت في هذه الزمان المتأخرة فرقة خبيثة زنادقة أنكروا‬
‫جميع ما جاءت به الرسل ‪ ،‬وأنكروا وجود الباري ‪ ،‬ولم يثبتوا من العلوم إل‬
‫العلوم الطبيعية التي وصلت إليها معارفهم القاصرة ‪.‬‬

‫) ‪(1/319‬‬

‫فبناء على هذا المذهب الذي هو أبعد المذاهب عن الحقيقة شرعا وعقل‬
‫أنكروا آدم وحواء ‪ ،‬وما ذكره الله ورسوله عنهما ‪ ،‬وزعموا أن هذا النسان‬
‫كان حيوانا قردا ‪ ،‬أو شبيها بالقرد ‪ ،‬حتى ارتقى إلى هذه الحال الموجودة ‪،‬‬
‫وهؤلء اغتروا بنظرياتهم الخاطئة المبنية على ظنون عقول من أصلها فاسدة‬
‫‪ ،‬وتركوا لجلها جميع العلوم الصحيحة ‪ ،‬خصوصا ما جاءتهم به الرسل ‪،‬‬
‫وصدق عليهم قوله تعالى ‪:‬‬
‫ما‬
‫م َ‬‫حاقَ ب ِهِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن العِلم ِ وَ َ‬
‫م َ‬
‫م ِ‬
‫عن ْد َهُ ْ‬
‫ما ِ‬
‫حوا ب ِ َ‬ ‫م ِبال ْب َي َّنا ِ‬
‫ت فَرِ ُ‬ ‫سل ُهُ ْ‬
‫م ُر ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ْ‬‫ما َ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫ن { ]غافر ‪. [83 :‬‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬‫كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ‬‫َ‬

‫) ‪(1/320‬‬

‫وهؤلء أمرهم ظاهر لجميع المسلمين ‪ ،‬ولجميع المثبتين وجود الباري ‪،‬‬
‫يعلمون أنهم أضل الطوائف ‪ ،‬ولكن تسرب على بعض المسلمين من هذا‬
‫المذهب الدهري بعض الثار والفروع المبنية على هذا القول ‪ ،‬إذ فسر طائفة‬
‫من العصريين سجود الملئكة لدم أن معناه تسخير هذا العالم للدميين ‪ ،‬وأن‬
‫المواد الرضية والمعدنية ونحوها قد سخرها الله للدمي ‪ ،‬وأن هذا هو معنى‬
‫سجود الملئكة ‪ ،‬ول يستريب مؤمن بالله واليوم الخر أن هذا مستمد من‬
‫ذلك الرأي الفن ‪ ،‬وأنه تحريف لكتاب الله ‪ ،‬ل فرق بينه وبين تحريف الباطنية‬
‫والقرامطة ‪ ،‬وأنه إذا أولت هذه القصة إلى هذا التأويل توجه نظير هذا‬
‫التحريف لغيرها من قصص القرآن ‪ ،‬وانقلب القرآن ‪ -‬بعدما كان تبيانا لكل‬
‫شيء وهدى ورحمة ‪ -‬رموزا يمكن كل عدو للسلم أن يفعل بها هذا الفعل ‪،‬‬
‫فيبطل بذلك القرآن ‪ ،‬وتعود هدايته إضلل ‪ ،‬ورحمته نقمة ‪ ،‬سبحانك ‪ ،‬هذا‬
‫بهتان عظيم ‪.‬‬

‫) ‪(1/321‬‬
‫والمؤمن في هذا الموضع يكفيه لبطال هذا القول الخبيث أن يتلو ما قصه‬
‫الله علينا من قصة آدم وسجود الملئكة ؛ فيعلم أن هذا مناف لما قصد الله‬
‫ورسوله غاية المنافاة ‪ ،‬وإن زخرفه أصحابه ‪ ،‬ولووا له العبارات ‪ ،‬ونسبوه إلى‬
‫بعض من يحسن بهم الظن ‪ ،‬فالمؤمن ل يترك إيمانه ‪ ،‬ول كتاب ربه لمثل‬
‫هذه الترويجات المغررة ‪ ،‬أو المغرور أصحابها ‪.‬‬
‫ومنها فضيلة العلم ‪ ،‬وأن الملئكة لما تبين لهم فضل آدم بعلمه عرفوا بذلك‬
‫كماله ‪ ،‬وأنه يستحق الجلل والتوقير ‪.‬‬
‫ن الله عليه بالعلم عليه أن يعترف بنعمة الله عليه ‪ ،‬وأن يقول‬ ‫م ّ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ومنها أن َ‬
‫كما قالت الملئكة والرسل ‪ :‬سبحانك ل علم لنا إل ما علمتنا ‪ ،‬وأن يتوقى‬
‫التكلم بما ل يعلم ‪ ،‬فإن العلم أعظم المنن ‪ ،‬وشكر هذه النعمة العتراف لله‬
‫بها ‪ ،‬والثناء عليه بتعليمها ‪ ،‬وتعليم الجهال ‪ ،‬والوقوف على ما علمه العبد ‪،‬‬
‫والسكوت عما لم يعلمه ‪.‬‬

‫) ‪(1/322‬‬

‫ومنها أن الله جعل هذه القصة لنا معتبرا ‪ ،‬وأن الحسد والكبر والحرص من‬
‫أخطر الخلق على العبد ‪ ،‬فكبر إبليس وحسده لدم صيره إلى ما ترى ‪،‬‬
‫وحرص آدم وزوجه حملهما على تناول الشجرة ‪ ،‬ولول تدارك رحمة الله لهما‬
‫لودت بهما إلى الهلك ‪ ،‬ولكن رحمة الله تكمل الناقص ‪ ،‬وتجبر الكسير ‪،‬‬
‫وتنجي الهالك ‪ ،‬وترفع الساقط ‪.‬‬

‫) ‪(1/323‬‬

‫ومنها أنه ينبغي للعبد إذا وقع في ذنب أن يبادر إلى التوبة والعتراف ‪ ،‬ويقول‬
‫ما قاله البوان من قلب خالص ‪ ،‬وإنابة صادقة ; فما قص الله علينا صفة‬
‫توبتهما إل لنقتدي بهما ‪ ،‬فنفوز بالسعادة ‪ ،‬وننجو من الهلكة ; وكذلك ما‬
‫أخبرنا بما قاله الشيطان من توعدنا وعزمه الكيد على إغوائنا بكل طريق إل‬
‫لنستعد لهذا العدو الذي تظاهر بهذه العداوة البليغة المتأصلة ‪ ،‬والله يحب منا‬
‫أن نقاومه بكل ما نقدر عليه من تجنب طرقه وخطواته ‪ ،‬وفعل السباب التي‬
‫يخشى منها الوقوع في شباكه ‪ ،‬ومن عمل الحصون من الوراد الصحيحة ‪،‬‬
‫والذكار القلبية ‪ ،‬والتعوذات المتنوعة ‪ ،‬ومن السلح المهلك له من صدق‬
‫اليمان ‪ ،‬وقوة التوكل على الله ‪ ،‬ومراغمته في أعمال الخير ‪ ،‬ومقاومة‬
‫وساوسه والفكار الرديئة التي يدفع بها إلى القلب كل وقت بما يضادها ‪،‬‬
‫ويبطلها من العلوم النافعة والحقائق الصادقة ‪.‬‬
‫ومنها أن فيها دللة لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين لله ما أثبته لنفسه‬
‫من السماء الحسنى والصفات كلها ‪ ،‬ل فرق بين صفات الذات ‪ ،‬ول بين‬
‫صفات الفعال ‪.‬‬

‫) ‪(1/324‬‬
‫ومنها إثبات اليدين لله كما هو في قصة آدم صريحا ‪ :‬لما خلقت بيدي ‪ ،‬فله‬
‫يدان حقيقة ‪ ،‬كما أن ذاته ل تشبهها الذوات ‪ ،‬فصفاته تعالى ل تشبهها‬
‫الصفات ‪.‬‬

‫) ‪(1/325‬‬

‫قصة نوح صلى الله عليه وسلم‬


‫مكث البشر بعد آدم قرونا طويلة وهم أمة واحدة على الهدى ‪ ،‬ثم اختلفوا‬
‫وأدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة ‪ ،‬فكان قوم نوح قد‬
‫مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم ‪ ،‬فجاءهم الشيطان فأمرهم أن‬
‫يصوروا تماثيلهم ؛ ليتسلوا بها وليتذكروا بها أحوالهم ‪ ،‬فكان هذا مبتدأ الشر ;‬
‫فلما هلك الذين صوروهم لهذا المعنى جاء من بعدهم وقد اضمحل العلم ‪،‬‬
‫سواعا وي َُغوث وي َُعوق وَنسرا ; قد كان‬ ‫فقال لهم الشيطان ‪ :‬إن هؤلء وَّدا و ُ‬
‫أولوكم يدعونهم ويستشفعون بهم ‪ ،‬وبهم يسقون الغيث وتزول المراض ‪،‬‬
‫فلم يزل بهم حتى انهمكوا في عبادتهم على رغم نصح الناصحين ‪ ،‬ثم بعث‬
‫الله فيهم نوحا صلى الله عليه وسلم يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال‬
‫أخلقه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْره ُ { ]العراف ‪. [59 :‬‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫} يا قَوْم ِ اعْب ُ ُ‬
‫ورغبهم في خير الدنيا والخرة فقال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فْر‬
‫ن {} ي َغْ ِ‬
‫طيُعو ِ‬
‫قوه ُ وَأ ِ‬ ‫دوا الل ّ َ‬
‫ه َوات ّ ُ‬ ‫ن اعْب ُ ُ‬‫ن {} أ ِ‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ذيٌر ُ‬ ‫م نَ ِ‬ ‫} يا قَوْم ِ إ ِّني ل َك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مى { ]نوح ‪. [4 - 2 :‬‬ ‫س ّ‬‫م َ‬ ‫ل ُ‬‫ج ٍ‬‫م إ ِلى أ َ‬ ‫خْرك ُ ْ‬‫م وَي ُؤَ ّ‬ ‫ن ذ ُُنوب ِك ُ ْ‬‫م ْ‬
‫م ِ‬‫ل َك ُ ْ‬

‫) ‪(1/326‬‬

‫فلما بادأهم بالمر بالخلص لله ‪ ،‬وتسفيه آرائهم ‪ ،‬وتخويفهم بعقوبات الدنيا‬
‫والخرة قالوا ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك إ ِّل ب َ َ‬‫ما ن ََرا َ‬
‫ما‬
‫ي وَ َ‬‫م أَراذِلَنا َبادِيَ الّرأ ِ‬ ‫ن هُ ْ‬
‫ذي َ‬
‫ما ن ََراك ات ّب َعَك إ ِل ال ِ‬ ‫مث ْلَنا وَ َ‬ ‫شًرا ِ‬ ‫} َ‬
‫ن { ]هود ‪. [27 :‬‬ ‫م كاذِِبي َ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ل ن َظن ّك ْ‬ ‫ل بَ ْ‬ ‫ض ٍ‬ ‫َ‬
‫نف ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫م عَلي َْنا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن ََرى لك ْ‬
‫وطلبوا منه أن يطرد من كان معه من المؤمنين استكبارا منهم ‪ ،‬واستنكافا‬
‫على الحق وعلى الخلق ‪ ،‬فبين لهم أنه ليس به ضلل ‪ ،‬وإنما به تزول‬
‫الضللة عن الخلق ‪ ،‬وأنه رسول أمين على بينة من ربه وبراهين واضحة ‪،‬‬
‫وأن المؤمنين ل يحل طردهم ‪ ،‬بل حقهم الكرام والحترام ‪ ،‬وأنه ل يدعي‬
‫لهم طورا يزاحم فيه الرب فقال ‪:‬‬
‫َ‬
‫ك وََل أُقو ُ‬ ‫مل َ ٌ‬ ‫َ‬
‫ب وََل أُقو ُ‬ ‫َ‬ ‫} وََل أ َُقو ُ‬
‫ل‬ ‫ل إ ِّني َ‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬ ‫ن الل ّهِ وََل أعْل َ ُ‬ ‫خَزائ ِ ُ‬ ‫دي َ‬ ‫عن ْ ِ‬‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫َ‬
‫خي ًْرا { ]هود ‪. [31 :‬‬ ‫ه َ‬‫م الل ّ ُ‬ ‫ن ي ُؤْت ِي َهُ ُ‬ ‫م لَ ْ‬ ‫ن ت َْزد َِري أعْي ُن ُك ُ ْ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫فلم يزل يدعوهم ليل ونهارا وسرا وجهرا ‪ ،‬فلم يزدهم دعاؤه إل فرارا ونفورا‬
‫وإعراضا وتواصيا منهم على القامة على ما هم عليه من عبادة غير الله‬
‫والتمسك بها ‪ ،‬فقال نوح ‪:‬‬

‫) ‪(1/327‬‬
‫مك َُروا‬‫ساًرا {} وَ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ه وَوَل َد ُه ُ إ ِّل َ‬‫مال ُ ُ‬
‫م ي َزِد ْه ُ َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬‫صوِْني َوات ّب َُعوا َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ب إ ِن ّهُ ْ‬ ‫} َر ّ‬
‫ق‬
‫ث وَي َُعو َ‬ ‫َ‬
‫عا وَل ي َُغو َ‬‫وا ً‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫ن وَّدا وَل ُ‬ ‫َ‬
‫م وَل ت َذ َُر ّ‬ ‫ُ‬
‫ن آل ِهَت َك ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مك ًْرا كّباًرا {} وَقالوا ل ت َذ َُر ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫سًرا { ]نوح ‪. [23 - 21 :‬‬ ‫وَن َ ْ‬
‫فلما رأى أن التذكير ل ينفع فيهم بوجه من الوجوه ; وأنه كلما جاء قرن كان‬
‫أخبث مما قبله ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ضّلوا ِ‬
‫عَباد َ َ‬ ‫ن د َّياًرا {} إ ِن ّ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫} َر ّ َ‬
‫ك‬ ‫م يُ ِ‬‫ن ت َذ َْرهُ ْ‬‫ك إِ ْ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫م َ‬‫ض ِ‬ ‫ب ل ت َذ َْر عَلى الْر ِ‬
‫فاًرا { ]نوح ‪ 26 :‬و ‪. [27‬‬ ‫جًرا ك َ ّ‬ ‫ّ‬
‫دوا إ ِل َفا ِ‬ ‫وََل ي َل ِ ُ‬

‫) ‪(1/328‬‬

‫فأجاب الله دعوته ‪ ،‬وأمره أن يصنع الفلك برعاية منه وحسن نظر وتعليم من‬
‫الله له هذه الصنعة التي امتن الله بها على العباد ‪ ،‬وصار نوح له الفضل‬
‫والبتداء بهذه الصناعة التي حصل بها من المنافع الدينية والدنيوية في جميع‬
‫الوقات ما ل يعد ول يحصى ‪ ،‬وأخبره الله بتحتم إغراقهم ‪ ،‬وأنه ل يخاطب‬
‫ربه فيهم فإنهم ظالمون ‪ ،‬وجعل يصنع الفلك ‪ ،‬وكلما مر عليه مل من قومه‬
‫سخروا منه ‪ ،‬فقال لهم ‪ :‬إن تسخروا منا اليوم فإنا نسخر منكم إذا وقع‬
‫الهلك بكم ‪ ،‬وأوحى الله إليه أنه إذا جاء ذلك الوقت وفار التنور ‪ ،‬أي ‪ :‬جعلت‬
‫الرض كلها تتفجر عيونا من كل جانب حتى المواضع البعيدة عن النار عادة ‪،‬‬
‫وأمره أن يحمل من البهائم من كل زوجين اثنين ذكر وأنثى ليبقى نسلها ؛‬
‫لنه يتعذر حملها كلها ‪ ،‬والحكمة تقتضي إبقاء هذه الحيوانات التي خلقها الله‬
‫مسخرة لمصالح البشر ‪ ،‬ويحمل معه جميع من آمن من رجال ونساء ‪،‬‬
‫والحال أنه ما آمن معه إل قليل ‪ ،‬وأمره أن يحمل أهله إل من سبق عليه‬
‫القول بالهلك ‪ ،‬فلما أركب جميع من أمر بهم قال لهم ‪ :‬سموا الله كلما‬
‫جرت وكلما رست ؛ لن السباب مهما عظمت فهي من لطف الله ‪ ،‬ول تمام‬
‫لها إل بالله ‪.‬‬

‫) ‪(1/329‬‬

‫فحينئذ فجر الله الرض عيونا ‪ ،‬وأمر السماء أن تصب الماء المنهمر الكثير ‪،‬‬
‫فالتقت مياه السماء بمياه الرض ‪ ،‬وساحت على الماكن المنخفضة ‪ ،‬ثم‬
‫ارتفعت شيئا فشيئا على كل المرتفعات حتى خفيت قمم الجبال الشاهقة ‪،‬‬
‫والسفينة تجري بهم في موج كالجبال تضرب يمينا وشمال ‪ ،‬وفي تلك الحال‬
‫المزعجة رأى نوح ابنه الكافر الذي كان على دين قومه وقد اعتزل أباه حتى‬
‫في هذه الحال ‪ ،‬فرآه مثل سائر قومه قد فر هاربا من المياه الجارفة ‪،‬‬
‫فناداه نوح مترققا فقال ‪:‬‬
‫ن { ]هود ‪. [42 :‬‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫ْ‬
‫معَ ال َ‬ ‫ن َ‬ ‫معََنا وََل ت َك ُ ْ‬‫ب َ‬ ‫ي اْرك َ ْ‬
‫} يا ب ُن َ ّ‬
‫فتمادى به الغرور في تلك الحال التي تنقشع فيها الغياهب إل عن القلوب‬
‫المحجوبة ; فقال ‪:‬‬
‫ماِء { ]هود ‪. [43 :‬‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫مِني ِ‬ ‫ص ُ‬‫ل ي َعْ ِ‬ ‫سآِوي إ َِلى َ‬
‫جب َ ٍ‬ ‫} َ‬
‫لم يخطر ببالهم أن المياه سترتفع فوق رؤوس الجبال ‪ ،‬فقال له نوح ‪:‬‬
‫عاصم ال ْيوم م َ‬
‫م { ]من الية[ ‪.‬‬‫ح َ‬‫ن َر ِ‬‫م ْ‬ ‫مرِ الل ّهِ إ ِّل َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫} َل َ ِ َ َ ْ َ ِ ْ‬
‫فل يعصم جبل ول حصن ول غير ذلك إل من رحم الله ‪ ،‬ورحمته في تلك‬
‫الحال متعينة في ركوب السفينة مع نوح ‪.‬‬
‫ج { ]من الية[ ‪.‬‬ ‫ما ال ْ َ‬
‫مو ْ ُ‬ ‫حا َ‬
‫ل ب َي ْن َهُ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫فكان ذلك البن من المغرقين ‪.‬‬

‫) ‪(1/330‬‬

‫جى نوحا ومن معه أجمعين ‪ ،‬وكان في ذلك‬ ‫فأغرق الله جميع الكافرين ‪ ،‬ون َ ّ‬
‫آية على أن ما جاء به نوح من التوحيد والرسالة والبعث والدين حق ‪ ،‬وأن‬
‫من خالفه فإنه مبطل ‪ ،‬ودليل على الجزاء في الدنيا لهل اليمان بالنجاة‬
‫والكرامة ‪ ،‬ولهل الكفر بالهلك والهانة ‪.‬‬
‫فلما حصل هذا المقصود العظيم أمر الله السماء أن تقلع عن الماء ‪ ،‬والرض‬
‫أن تبلع ما فيها ‪ ،‬وغيض الماء أي ‪ :‬نقص شيئا فشيئا ‪ ،‬واستوت السفينة بعد‬
‫غيض الماء على الجودي ‪ ،‬وهو جبل شامخ معروف في نواحي الموصل ‪.‬‬
‫وهذا دليل على أن جميع الجبال قد غمرتها المياه وجاوزها الطوفان ‪ ،‬وحزن‬
‫نوح على ابنه فقال مناديا ربه مترققا متضرعا يا رب ‪:‬‬
‫} إن ابِني م َ‬
‫حقّ { ]هود ‪. [45 :‬‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ن وَعْد َ َ‬ ‫ن أهِْلي وَإ ِ ّ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ِ ّ ْ‬
‫أن أحمل معي أهلي وأنت أرحم الراحمين ‪ ،‬فقال له ربه ‪:‬‬
‫ك { ]هود ‪. [46 :‬‬ ‫ن أ َهْل ِ َ‬‫م ْ‬‫س ِ‬ ‫ه ل َي ْ َ‬
‫} إ ِن ّ ُ‬
‫أي ‪ :‬الموعود بنجاتهم ‪ ،‬لن الله قيد ذلك بقوله ‪:‬‬
‫ل { ]هود ‪. [40 :‬‬ ‫قو ْ ُ‬‫سب َقَ عَل َي ْهِ ال ْ َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫} إ ِّل َ‬
‫صال ٍِح { ]هود ‪. [46 :‬‬ ‫ل غَي ُْر َ‬ ‫م ٌ‬‫ه عَ َ‬ ‫} إ ِن ّ ُ‬
‫أي ‪ :‬هذا الدعاء لبنك الذي على دين قومه بالنجاة ‪.‬‬

‫) ‪(1/331‬‬

‫عظ ُ َ َ‬ ‫} فََل ت َ‬
‫ن { ]تتمة‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬‫ن ِ‬‫كو َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫كأ ْ‬ ‫م إ ِّني أ َ ِ‬ ‫عل ْ ٌ‬‫ك ب ِهِ ِ‬ ‫س لَ َ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬ ‫سأل ِْني َ‬ ‫َ ْ‬
‫الية[ ‪.‬‬
‫وهذا عتاب منه لنوح وتعليم له وموعظة عن مثل هذا الدعاء الذي إنما حمله‬
‫عليه الشفقة البوية ‪ ،‬وإنما الواجب في الدعاء أن يكون الحامل له العلم‬
‫والخلص في طلب رضى الله تعالى ‪ ،‬فقال نوح ‪:‬‬
‫مِني‬ ‫ح‬ ‫ر‬‫ت‬
‫ََْ َ ْ‬ ‫و‬ ‫لي‬ ‫ّ‬
‫م َِ َْ ِ ْ ِ‬
‫ر‬ ‫ف‬ ‫غ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫عل ْ ٌ‬‫س ِلي ب ِهِ ِ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬ ‫ك َ‬ ‫سأ َل َ َ‬ ‫ك أَ َ‬
‫نأ ْ‬ ‫عوذ ُ ب ِ َ ْ‬ ‫ب إ ِّني أ َ ُ‬ ‫} َر ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫مم ٍ‬‫ك وَعََلى أ َ‬ ‫ت عَل َي ْ َ‬ ‫مّنا وَب ََر َ‬
‫كا ٍ‬ ‫سَلم ٍ ِ‬ ‫ط بِ َ‬‫ح اهْب ِ ْ‬ ‫ل يا ُنو ُ‬ ‫ن {} ِقي َ‬ ‫ري َ‬
‫ِ‬ ‫س‬
‫خا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬‫ن ِ‬‫أك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ممن مع َ ُ‬
‫م { ]هود ‪ 47 :‬و ‪. [48‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫مّنا عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م ثُ ّ‬
‫م يَ َ‬ ‫مت ّعُهُ ْ‬
‫سن ُ َ‬
‫م َ‬ ‫م ٌ‬‫ك وَأ َ‬ ‫ِ ّ ْ َ َ‬
‫فهبط وبارك الله في ذريته ‪ ،‬وجعل ذريته هم الباقين ; فكان أولده يا فث مل‬
‫المشرق من الذرية ‪ ،‬وحام مل المغرب من النسل ‪ ،‬وسام مل ما بين ذلك ‪،‬‬
‫ومكث في قومه ألف سنة إل خمسين عاما ‪ ،‬ومكث بعد هلكهم ما شاء‬
‫الله ‪ ،‬وكان من أولي العزم من المرسلين ‪ ،‬ومن الخمسة الذين تدور عليهم‬
‫الشفاعة يوم القيامة ‪ ،‬وهو أول الرسل إلى الناس ‪ ،‬وهو الب الثاني للبشر ‪،‬‬
‫صلى الله عليه وسلم تسليما ‪.‬‬

‫) ‪(1/332‬‬
‫* يستفاد من هذه القصة أمور ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن جميع الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم متفقون‬
‫على الدعوة إلى التوحيد الخالص ‪ ،‬والنهي عن الشرك ‪ ،‬فنوح وغيره أول ما‬
‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ { ويكررون هذا الصل‬
‫م ْ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ه َ‬‫دوا الل ّ َ‬
‫يقولون لقومهم ‪ } :‬اعْب ُ ُ‬
‫بطرق كثيرة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬آداب الدعوة وتمامها ‪ ،‬فإن نوحا دعا قومه ليل ونهارا ‪ ،‬وسرا وجهارا ‪.‬‬
‫‪ .‬بكل وقت وبكل حالة يظن فيها نجاح الدعوة ‪ ،‬وأنه رغبهم بالثواب العاجل‬
‫بالسلمة من العقاب ‪ ،‬وبالتمتيع بالموال والبنين ‪ ،‬وإدرار الرزاق إذا آمنوا‬
‫وبالثواب الجل ; وحذرهم من ضد ذلك ‪ ،‬وصبر على هذا صبرا عظيما كغيره‬
‫من الرسل ‪ ،‬وخاطبهم بالكلم الرقيق والشفقة ‪ ،‬وبكل لفظ جاذب للقلوب‬
‫محصل للمطلوب ‪ ،‬وأقام اليات ‪ ،‬وبّين البراهين ‪.‬‬

‫) ‪(1/333‬‬

‫شَبه التي قدح فيها أعداء الرسل برسالتهم من الدلة على‬ ‫ومنها ‪ :‬أن ال ّ‬
‫إبطال قول المكذبين ‪ ،‬فإن القوال التي قالوها ‪ ،‬ولم يكن عندهم غيرها ‪،‬‬
‫ك‬‫ما ن ََرا َ‬ ‫ليس لها حظ من العلم والحقيقة عند كل عاقل ‪ ،‬فقول قوم نوح ‪َ } :‬‬
‫ْ‬ ‫ك إّل ال ّذين هُ َ‬
‫م‬‫ما ن ََرى ل َك ُ ْ‬ ‫م أَراذِل َُنا َبادِيَ الّرأ ِ‬
‫ي وَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ َ‬ ‫ك ات ّب َعَ َ ِ‬‫ما ن ََرا َ‬ ‫مث ْل ََنا وَ َ‬
‫شًرا ِ‬‫إ ِّل ب َ َ‬
‫ن { تأمل جملها تجدها تمويهات دالة على‬ ‫كاذِِبي َ‬‫م َ‬‫ل ن َظ ُن ّك ُ ْ‬
‫ل بَ ْ‬‫ض ٍ‬‫ن فَ ْ‬ ‫عَل َي َْنا ِ‬
‫م ْ‬
‫مث ْل ََنا { فهل‬ ‫شًرا ِ‬ ‫ك إ ِّل ب َ َ‬
‫ما ن ََرا َ‬
‫أنهم مبطلون مكابرون للحقيقة ‪ ،‬فقولهم ‪َ } :‬‬
‫في كون الحق جاء على يد بشر شيء من الشبهة تدل على أنه ليس بحق ؟‬
‫ومضمون هذا الكلم أن كل قول قاله البشر من أي مصدر يكون باطل ‪ ،‬وهذا‬
‫قدح منهم في جميع العلوم البشرية المستفادة من البشر ‪ ،‬ومعلوم أن هذا‬
‫يبطل العلوم كلها ‪ ،‬فهل عند البشر علوم إل مستفيدها بعضهم من بعض‬
‫وهي متفاوتة ؟ فأعظمها وأصدقها وأنفعها ما تلقاه الناس عن الرسل الذين‬
‫علومهم عن وحي إلهي ‪.‬‬
‫ل { أي ‪ :‬نحن وأنتم بشر ‪ ،‬وقد‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫م عَلي َْنا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما ن ََرى لك ْ‬ ‫وكذلك قولهم ‪ } :‬وَ َ‬
‫أجابت الرسل كلهم عن هذه المقالة فقالوا ‪:‬‬

‫) ‪(1/334‬‬

‫عَبادِهِ { ]إبراهيم‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن يَ َ‬
‫شاُء ِ‬ ‫م ْ‬‫ن عََلى َ‬ ‫م ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يَ ُ‬ ‫م وَل َك ِ ّ‬
‫مث ْل ُك ُ ْ‬ ‫ن إ ِّل ب َ َ‬
‫شٌر ِ‬ ‫ح ُ‬
‫ن نَ ْ‬
‫} إِ ْ‬
‫‪. [11 :‬‬
‫صهم بالوحي والرسالة ‪ ،‬مع أن إنكارهم عليهم‬ ‫ن الله على الرسل ‪ ،‬وخ ّ‬ ‫فم ّ‬
‫من هذه الجهة من أكبر الجهل وأعظم القدح في نعمة الله ‪ ،‬فإن رحمة الله‬
‫وحكمته اقتضت أن يكون الرسل من البشر ؛ ليتمكن العباد من الخذ عنهم ‪،‬‬
‫ذبون كفروا‬‫وتتيسر عليهم هذه النعمة ‪ ،‬ويسّهل الله لهم طرقها ‪ ،‬فهؤلء المك ّ‬
‫بأصل النعمة ‪ ،‬وبالطريق المستقيم النافع الذي جاءتهم به ‪.‬‬
‫م أ ََراذِل َُنا { من المعلوم لكل‬‫ن هُ ْ‬ ‫ك إ ِّل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ك ات ّب َعَ َ‬
‫ما ن ََرا َ‬ ‫وكذلك قولهم ‪ } :‬وَ َ‬
‫أحد عاقل أن الحق يعرف أنه حق بنفسه ل بمن تبعه ‪ ،‬وأن هذا القول الذي‬
‫قالوه صدر عن كبر وتيه ‪ ،‬والكبر أكبر مانع للعبد من معرفة الحق ومن اتباعه‬
‫‪.‬‬
‫) ‪(1/335‬‬

‫وأيضا قولهم ‪ } :‬أ ََراذِل َُنا { إن أرادوا الفقر فالفقر ليس من العيوب ‪ ،‬وإن‬
‫أرادوا أراذلنا في الخلق فهذا كذب معلوم بالبديهة ‪ ،‬وإنما الراذل الذين‬
‫قالوا هذه المقالة ‪ ،‬فهل اليمان بالله ورسله ‪ ،‬وطاعة الله ورسله ‪ ،‬والنقياد‬
‫للحق ‪ ،‬والسلمة من كل خصلة ذميمة ‪ ،‬هل هذا الوصف رذيلة وأهله أراذل ؟‬
‫أم الرذيلة بضده ‪ .. .‬من ترك أفرض الفروض توحيد الله وشكره وحده‬
‫وامتلء القلب من التكبر على الحق وعلى الخلق ؟ هذا والله أرذل الرذائل ‪،‬‬
‫ولكن القوم مباهتون فما نقموا من هؤلء الخيار إل أن يؤمنوا بالله العزيز‬
‫الحميد ‪.‬‬
‫ي { أي ‪ :‬مبادرة منهم إلى اليمان بك يا نوح ‪ ،‬لم‬ ‫ْ‬
‫وقولهم ‪َ } :‬بادِيَ الّرأ ِ‬
‫يشاوروا ولم يتأنوا ويترووا لو فرض أن هذا حقيقة فهذا من أدلة الحق ‪ ،‬فإن‬
‫الحق عليه من البراهين والنور والجللة والبهاء والصدق والطمأنينة ما ل‬
‫يحتاج إلى مشاورة أحد باتباعه ‪ ،‬وإنما التي تحتاج إلى مشاورة هي المور‬
‫الخفية ‪ ،‬التي ل تعلم حقيقتها ول منفعتها ‪ ،‬أما اليمان الذي هو أجلى من‬
‫الشمس في نورها ‪ ،‬وأحلى من كل شيء ‪ ،‬فما يتأخر عنه إل كل متكبر جبار‬
‫أمثال هؤلء الطغاة البغاة ‪.‬‬

‫) ‪(1/336‬‬

‫ل { هل في هذا الكلم شيء من‬ ‫ض ٍ‬‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬‫م عَل َي َْنا ِ‬ ‫ما ن ََرى ل َك ُ ْ‬ ‫وقولهم ‪ } :‬وَ َ‬
‫النصاف بوجه ‪ ،‬لنهم يخبرون عن أنفسهم ‪ ،‬وكلمهم يحتمل أنه الذي في‬
‫قلوبهم ‪ ،‬ويحتمل أنهم يقولون ما ل يعتقدون ‪ ،‬وعلى كل المرين فالحق يجب‬
‫قبوله ‪ ،‬سواء أقاله الفاضل أو المفضول ‪ ،‬الحق أعلى من كل شيء ‪.‬‬
‫ن { معلوم أن الظن أكذب الحديث ‪ ،‬ثم لو‬ ‫م َ‬
‫كاذِِبي َ‬ ‫ل ن َظ ُن ّك ُ ْ‬‫وكذلك قولهم ‪ } :‬ب َ ْ‬
‫قالوا ‪ :‬بل نعلمكم كاذبين ‪ ،‬فهذه كل مبطل يقدر أن يقولها ‪ ،‬ولكن بأي شيء‬
‫استدللتم أنهم كاذبون ؟ فهذه أدلتهم وبراهينهم أبطلت نفسها بنفسها كما‬
‫ترى ‪ ،‬فكيف وقد قابلها الرسل بالدلة والبراهين المتنوعة التي ل تبقى ريبا‬
‫لحد في بطلنها ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من فضائل النبياء وأدلة رسالتهم إخلصهم التام لله تعالى في‬
‫عبوديتهم لله القاصرة ‪ ،‬وفي عبوديتهم المتعدية لنفع الخلق كالدعوة والتعليم‬
‫وتوابع ذلك ‪ ،‬ولذلك يبدون ذلك ويعيدونه على أسماع قومهم كل منهم يقول ‪:‬‬
‫جرِيَ إ ِّل عََلى الل ّهِ { ]هود ‪. [29 :‬‬ ‫} ويا قَوم َل أ َسأ َل ُك ُم عَل َيه ماًل إ َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ْ ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ََ‬

‫) ‪(1/337‬‬

‫ل الفضائل لْتباع الرسل أن يكونوا مقتدين بالرسل في هذه‬ ‫ج ّ‬


‫ولهذا كان من أ َ‬
‫الفضيلة ‪ ،‬والله تعالى يجعل لهم من فضله من رفعة الدنيا والخرة أعظم‬
‫مما يتنافس فيه طلب الدنيا ‪.‬‬
‫ن الله عليهم به من الفضائل‬
‫ومنها ‪ :‬أن القدح في نيات المؤمنين وفيما م ّ‬
‫والتألي على الله أنه ل يؤتيهم من فضله من مواريث أعداء الرسل ‪ ،‬فلهذا‬
‫قال نوح لقومه حين تألوا على الله ‪ ،‬وتوسلوا في ذم المؤمنين به بذلك ‪،‬‬
‫خيرا الل ّ َ‬ ‫َ‬ ‫فقال ‪ } :‬وََل أ َُقو ُ‬
‫ما‬ ‫ه أعْل َ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ه َ ًْ‬‫م الل ّ ُ‬‫ن ي ُؤْت ِي َهُ ُ‬‫م لَ ْ‬‫ن ت َْزد َِري أعْي ُن ُك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ل ل ِل ّ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫سهِ ْ‬
‫ف ِ‬‫ِفي أ َن ْ ُ‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي الستعانة بالله ‪ ،‬وأن يذكر اسمه عند الركوب والنزول ‪،‬‬
‫وفي جميع التقلبات والحركات ‪ ،‬وحمد الله والكثار من ذكره عند النعم ل‬
‫سيما النجاة من الكربات والمشقات ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ها { ]هود ‪. [41 :‬‬ ‫سا َ‬
‫مْر َ‬ ‫ها وَ ُ‬ ‫جَرا َ‬‫م ْ‬‫سم ِ الل ّهِ َ‬‫ل اْرك َُبوا ِفيَها ب ِ ْ‬ ‫} وََقا َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ك فَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫معَ َ‬ ‫َ‬
‫جاَنا‬
‫ذي ن َ ّ‬ ‫مد ُ ل ِلهِ ال ِ‬
‫ح ْ‬
‫ل ال َ‬
‫ق ِ‬ ‫فل ِ‬ ‫ك عَلى ال ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ت وَ َ‬‫ت أن ْ َ‬ ‫ست َوَي ْ َ‬‫وقال ‪ } :‬فَإ َِذا ا ْ‬
‫ن { ]المؤمنون ‪. [28 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫قوْم ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ ْ‬
‫ن ال َ ِ‬ ‫ِ‬

‫) ‪(1/338‬‬

‫وأنه ينبغي أيضا الدعاء بالبركة في نزول المنازل العارضة كالمنازل في‬
‫إقامات السفر وغيره ‪ ،‬والمنازل المستقرة كالمساكن والدور ؛ لقوله ‪:‬‬
‫ل رب أ َنزل ِْني منزًل مبار ً َ‬
‫ن { ]المؤمنون ‪. [29 :‬‬ ‫خي ُْر ال ْ ُ‬
‫من ْزِِلي َ‬ ‫ت َ‬
‫كا وَأن ْ َ‬ ‫ُ َْ ُ َ َ‬ ‫} وَقُ ْ َ ّ ْ ِ‬
‫وفي ذلك كله من استصحاب ذكر الله ‪ ،‬ومن القوة على الحركات والسكنات‬
‫‪ ،‬ومن قوة الثقة بالله ‪ ،‬ومن نزول بركة الله التي خير ما صحبت العبد في‬
‫أحواله كلها ما ل غنى للعبد عنه طرفة عين ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن تقوى الله والقيام بواجبات اليمان من جملة السباب التي ُتنال‬
‫ُ‬
‫بها الدنيا وكثرة الولد والرزق وقوة البدان ‪ -‬وإن كان لذلك أيضا أسباب أخر‬
‫‪ ، -‬وهي السبب الوحيد الذي ليس هناك سبب سواه في نيل خير الخرة ‪،‬‬
‫والسلمة من عقابها ‪.‬‬

‫) ‪(1/339‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن النجاة من العقوبات العامة الدنيوية هي للمؤمنين ‪ ،‬وهم الرسل‬


‫وأتباعهم ‪ ،‬وأما العقوبات الدنيوية العامة فإنها تختص بالمجرمين ‪ ،‬ويتبعهم‬
‫توابعهم من ذرية وحيوان ‪ ،‬وإن لم يكن لها ذنوب ؛ لن الوقائع التي أوقع الله‬
‫ذبين شملت الطفال والبهائم ‪ ،‬وأما ما يذكر في بعض‬ ‫بأصناف المك ّ‬
‫السرائيليات أن قوم نوح أو غيرهم لما أراد الله إهلكهم أعقم الرحام حتى‬
‫ل يتبعهم في العقوبة أطفالهم فهذا ليس له أصل ‪ ،‬وهو مناف للمر‬
‫المعلوم ‪ ،‬وذلك مصداق لقوله تعالى ‪:‬‬
‫ة { ]النفال ‪. [25 :‬‬
‫ص ً‬
‫خا ّ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬
‫موا ِ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ة َل ت ُ ِ‬
‫صيب َ ّ‬ ‫قوا فِت ْن َ ً‬
‫} َوات ّ ُ‬

‫) ‪(1/340‬‬

‫قصة هود عليه الصلة والسلم‬


‫بعث الله هودا عليه الصلة والسلم إلى قومه عادا الولى المقيمين‬
‫بالحقاف ‪ -‬من رمال حضرموت ‪ -‬لما كثر شرهم ‪ ،‬وتجبروا على عباد الله‬
‫مّنا قُوّة ً { ]فصلت ‪. [15 :‬‬ ‫ن أَ َ‬
‫شد ّ ِ‬ ‫م ْ‬
‫وقالوا ‪َ } :‬‬
‫مع شركهم بالله وتكذيبهم لرسل الله ‪ ،‬فأرسله الله إليهم يدعوهم إلى عبادة‬
‫الله وحده ‪ ،‬وينهاهم عن الشرك والتجبر على العباد ‪ ،‬ويدعوهم بكل وسيلة ‪،‬‬
‫ويذكرهم ما أنعم الله عليهم به من خير الدنيا والبسطة في الرزق والقوة ‪،‬‬
‫فردوا دعوته وتكبروا عن إجابته وقالوا ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن { ]الشعراء ‪. [154 :‬‬‫صادِِقي َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْ َ‬
‫ت ِ‬ ‫مث ْل َُنا فَأ ِ‬
‫ت ِبآي َةٍ إ ِ ْ‬ ‫ت إ ِّل ب َ َ‬
‫شٌر ِ‬ ‫ما أن ْ َ‬
‫} َ‬
‫وهم كاذبون في هذا الزعم ‪ ،‬فإنه ما من نبي إل أعطاه الله من اليات ما‬
‫على مثله يؤمن البشر ‪ ،‬ولو لم يكن من آيات الرسل إل أن نفس الدين الذي‬
‫جاءوا به أكبر دليل أنه من عند الله لحكامه وانتظامه للمصالح في كل زمان‬
‫بحسبه وصدق أخباره ‪ ،‬وأمره بكل خير ونهيه عن كل شر ‪ ،‬وأن كل رسول‬
‫يصدق من قبله ويشهد له ‪ ،‬ويصدقه من بعده ويشهد له ‪.‬‬

‫) ‪(1/341‬‬

‫ومن آيات هود الخاصة أنه متفرد وحده في دعوته وتسفيه أحلمهم وتضليلهم‬
‫وفوه بآلهتهم‬ ‫والقدح في آلهتهم ‪ ،‬وهم أهل البطش والقوة والجبروت ‪ ،‬وقد خ ّ‬
‫داهم علنا ‪ ،‬وقال لهم جهارا ‪:‬‬ ‫إن لم ينته أن تمسه بجنون أو سوء فتح ّ‬
‫َ‬ ‫} إ ِّني أ ُ ْ‬
‫دوِني‬ ‫كي ُ‬ ‫َ‬
‫ن ُدون ِهِ ف ِ‬‫م ْ‬‫ن {} ِ‬ ‫ُ‬
‫شرِكو َ‬ ‫ما ت ُ ْ‬
‫م ّ‬ ‫ريٌء ِ‬ ‫دوا أّني ب َ ِ‬ ‫شهَ ُ‬ ‫ه َوا ْ‬ ‫شهِد ُ الل ّ َ‬
‫ن َداب ّةٍ إ ِّل هُ َ‬
‫و‬ ‫م ْ‬‫ما ِ‬ ‫ت عََلى الل ّهِ َرّبي وََرب ّك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫م َل ت ُن ْظ ُِروِني {} إ ِّني ت َوَك ّل ْ ُ‬ ‫ميًعا ث ُ ّ‬ ‫ج ِ‬‫َ‬
‫قيم ٍ { ]هود ‪. [56 - 54 :‬‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫َ‬
‫ن َرّبي عَلى ِ‬ ‫صي َت َِها إ ِ ّ‬ ‫خذ ٌ ب َِنا ِ‬‫آ ِ‬
‫فلم يصلوا إليه بسوء ‪.‬‬
‫فأي آية أعظم من هذا التحدي لهؤلء الحريصين على إبطال دعوته بكل‬
‫ذرهم نزول العذاب ‪ ،‬فجاءهم‬ ‫طريق ؟ فلما انتهى طغيانهم توّلى عنهم وح ّ‬
‫العذاب معترضا في الفق ‪ ،‬وكان الوقت وقت شدة عظيمة وحاجة شديدة‬
‫إلى المطر ‪ ،‬فلما استبشروا وقالوا ‪:‬‬
‫مط ُِرَنا { ]الحقاف ‪. [24 :‬‬ ‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫عارِ ٌ‬ ‫ذا َ‬ ‫} هَ َ‬
‫م ب ِهِ { ]الحقاف ‪. [24 :‬‬ ‫ْ‬
‫جلت ُ ْ‬ ‫ست َعْ َ‬
‫ما ا ْ‬ ‫ل هُوَ َ‬ ‫قال الله ‪ } :‬ب َ ْ‬
‫بقولكم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ‪:‬‬
‫يٍء { ]الحقاف ‪ 24 :‬و ‪. [25‬‬ ‫ل َ‬ ‫مُر ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ح ِفيَها عَ َ‬
‫ش ْ‬ ‫م {} ت ُد َ ّ‬ ‫ب أِلي ٌ‬‫ذا ٌ‬ ‫} ِري ٌ‬

‫) ‪(1/342‬‬

‫م ِفيَها‬ ‫ما فَت ََرى ال ْ َ‬ ‫ها عَل َيهم سبع ل َيال وث َمان ِي َ َ‬
‫قو ْ َ‬ ‫سو ً‬ ‫ح ُ‬ ‫ة أّيام ٍ ُ‬ ‫ِْ ْ َ ْ َ َ ٍ َ َ َ‬ ‫خَر َ‬‫س ّ‬ ‫تمر عليه ‪َ } :‬‬
‫خاوِي َةٍ { ]الحاقة ‪. [7 :‬‬ ‫ل َ‬ ‫عى ك َأ َنه َ‬
‫خ ٍ‬
‫جاُز ن َ ْ‬ ‫م أع ْ َ‬ ‫ُّ ْ‬ ‫صْر َ‬
‫} َ فَأ َ‬
‫ن { ]الحقاف ‪:‬‬ ‫مي‬ ‫ر‬
‫ُ ْ ِ ِ َ‬‫ج‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬
‫ْ َ‬ ‫و‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫زي‬ ‫ج‬ ‫ن‬
‫ِ َ ْ ِ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ك‬‫سا‬
‫ِ َ َ ُُِ ْ‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫رى‬ ‫َُ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫حوا‬ ‫ب‬
‫ْ َ ُ‬‫ص‬
‫‪. [25‬‬
‫فبعدما كانت الدنيا لهم ضاحكة ‪ ،‬والعز بليغ ‪ ،‬ومطالب الحياة متوفرة ‪ ،‬وقد‬
‫خضع لهم من حولهم من القطار والقبائل ‪ ،‬إذ أرسل الله إليهم ريحا صرصرا‬
‫في أيام نحسات ؛ لنذيقهم عذاب الخزي في الدنيا ‪ ،‬ولعذاب الخرة أخزى‬
‫وهم ل ينصرون ‪:‬‬
‫دا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫} وَأ ُت ْب ُِعوا ِفي هَذِهِ الد ّن َْيا لعْن َ ً‬
‫َ‬
‫م أل ب ُعْ ً‬ ‫فُروا َرب ّهُ ْ‬
‫عاًدا ك َ‬ ‫ن َ‬ ‫مةِ أل إ ِ ّ‬ ‫قَيا َ‬
‫م ال ِ‬ ‫ة وَي َوْ َ‬
‫هود ٍ { ]هود ‪. [60 :‬‬ ‫ل َِعادٍ قَوْم ِ ُ‬
‫ونجى الله هودا ومن معه من المؤمنين ‪ ،‬إن في ذلك لية على كمال قدرة‬
‫الله وإكرامه الرسل وأتباعهم ‪ ،‬ونصرهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم‬
‫الشهاد ‪ ،‬وآية على إبطال الشرك ‪ ،‬وأن عواقبه شر العواقب وأشنعها ‪ ،‬وآية‬
‫على البعث والنشور ‪.‬‬
‫* فوائد من هذه القصة ‪:‬‬

‫) ‪(1/343‬‬

‫فيها ما تقدم في قصة نوح من الفوائد المشتركة بين الرسل ‪ ،‬ومنها أن الله‬
‫بحكمته يقص علينا نبأ المم المجاورين لنا في جزيرة العرب وما حولها ; لن‬
‫القرآن يذكر أعلى الطرق في التذكير ‪ ،‬والله تعالى صرف فيه التذكيرات‬
‫تصريفا نافعا ‪ ،‬ول ريب أن القطار النائية عنا في مشارق الرض ومغاربها قد‬
‫بعث الله إليهم رسل ‪ ،‬ولهم معهم نظير ما للمذكورين من إجابة ورد ّ وإكرام‬
‫وعقوبة ‪ ،‬وما من أمة إل بعث الله فيهم رسول ‪ ،‬ولكن نفعنا بتذكيرنا بما‬
‫حولنا ‪ ،‬وما نتناقله جيل بعد جيل ‪ ،‬بل نشاهد آثارهم ‪ ،‬ونمر بديارهم كل‬
‫وقت ‪ ،‬ونفهم لغاتهم ‪ ،‬وطبائعهم أقرب إلى طبائعنا ‪ ،‬ل ريب أن نفع هذا‬
‫عظيم ‪ ،‬وأنه أولى من تذكيرنا بأمم لم نسمع لهم بذكر ول خبر ‪ ،‬ول نعرف‬
‫لغاتهم ‪ ،‬ول تتصل إلينا أخبارهم بما يطابق ما يخبرنا الله به ; فيؤخذ من هذا‬
‫أن تذكير الناس بما هو أقرب إلى عقولهم ‪ ،‬وأنسب لحوالهم ‪ ،‬وأدخل في‬
‫مداركهم ‪ ،‬وأنفع لهم من غيره أولى من التذكيرات بطرق أخرى وإن كانت‬
‫كر والمعّلم إذا سلك هذا الطريق واجتهد في‬ ‫حقا ‪ ،‬لكن الحق يتفاوت ‪ ،‬والمذ ّ‬
‫إيصال العلم والخبر إلى الناس بالوسائل التي يفهمونها ‪ ،‬ول ينفرون منها ‪ ،‬أو‬
‫تكون أقرب لقامة‬

‫) ‪(1/344‬‬

‫الحجة عليهم نفع وانتفع ‪ ،‬وأشار الباري إلى هذا في آخر قصة عاد ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫} ول َ َ َ‬
‫ت { ]الحقاف ‪. [27 :‬‬ ‫صّرفَْنا اْلَيا ِ‬‫قَرى وَ َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬‫م ِ‬ ‫حوْل َك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫قد ْ أهْل َك َْنا َ‬ ‫َ‬
‫ن { ]الحقاف ‪. [27 :‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫أي ‪ :‬نوعناها بكل فن ونوع } ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م ي َْر ِ‬
‫أي ‪ :‬ليكون أقرب لحصول الفائدة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن اتخاذ المباني الفخمة للفخر والخيلء والزينة وقهر العباد بالجبروت‬
‫من المور المذمومة الموروثة عن المم الطاغية ‪ ،‬كما قال الله في قصة عاد‬
‫وإنكار هود عليهم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ن{‬ ‫دو‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫صا‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ذو‬ ‫ُ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ت‬‫و‬ ‫{}‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ن ب ِك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫َ َ َ ِ َ َ ْ َ ْ ُ َ‬ ‫ََّ ِ‬ ‫ة ت َعْب َ َ‬
‫ثو‬ ‫ل ِريٍع آي َ ً‬ ‫} أت َب ُْنو َ‬
‫]الشعراء ‪ 128 :‬و ‪. [129‬‬
‫وبالجملة فالبنايات للقصور والحصون والدور وغيرها من البنية ‪:‬‬
‫إما أن تتخذ مساكن للحاجة إليها ‪ ،‬والحاجات تتنوع وتختلف ‪ ،‬فهذا النوع من‬
‫المور المباحة ‪ ،‬وقد يتوسل به بالنية الصالحة إلى الخير ‪.‬‬
‫وإما أن تكون البنايات حصونا واقية لشرور العداء ‪ ،‬وثغورا تحفظ بها البلد‬
‫ونحوها مما ينفع المسلمين ‪ ،‬ويقيهم الشر ‪ ،‬فهذا النوع يدخل في الجهاد في‬
‫سبيل الله ‪ ،‬وهو داخل في المر باتخاذ الحذر من العداء ‪.‬‬

‫) ‪(1/345‬‬
‫وإما أن يكون للفخر والخيلء والبطش بعباد الله وتبذير الموال التي يتعين‬
‫صرفها في طرق نافعة ‪ ،‬فهذا النوع هو المذموم الذي أنكره الله على عاد‬
‫وغيرهم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن العقول والذهان والذكاء وما يتبع ذلك من القوة المادية ‪ ،‬وما‬
‫ترتب عليها من النتائج والثار وإن عظمت وبلغت مبلغا هائل ‪ ،‬فإنها ل تنفع‬
‫صاحبها إل إذا قارنها اليمان بالله ورسله ‪.‬‬
‫وأما الجاحد ليات الله المكذب لرسل الله ‪ ،‬فإنه وإن اسُتدرج في الحياة‬
‫وُأمهل فإن عاقبته وخيمة ‪ ،‬وسمعه وبصره وعقله ل يغني عنه شيئا إذا جاء‬
‫أمر الله ‪ ،‬كما قال الله عن عاد ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫ما‬ ‫صاًرا وَأفْئ ِد َة ً فَ َ‬ ‫مًعا وَأب ْ َ‬ ‫س ْ‬‫م َ‬ ‫جعَلَنا لهُ ْ‬ ‫م ِفيهِ وَ َ‬ ‫مك ّّناك ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ما إ ِ ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫مك ّّناهُ ْ‬ ‫قد ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ح ُ‬‫ج َ‬ ‫يٍء إ ِذ ْ َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م وََل أفْئ ِد َت ُهُ ْ‬ ‫صاُرهُ ْ‬ ‫م وََل أب ْ َ‬ ‫معُهُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫أغَْنى عَن ْهُ ْ‬
‫ن { ]الحقاف ‪. [26 :‬‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬‫كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫حاقَ ب ِهِ ْ‬ ‫الل ّهِ وَ َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ن الل ّهِ ِ‬ ‫ن ُدو ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫م ال ِّتي ي َد ْ ُ‬ ‫م آل ِهَت ُهُ ُ‬ ‫ت عَن ْهُ ْ‬ ‫ما أغْن َ ْ‬ ‫وفي الية الخرى ‪ } :‬فَ َ‬
‫َ‬
‫ب { ]هود ‪. [101 :‬‬ ‫م غي َْر ت َت ِْبي ٍ‬ ‫َ‬ ‫ما َزاُدوهُ ْ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫مُر َرب ّ َ‬ ‫جاَء أ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫يٍء ل َ ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬

‫) ‪(1/346‬‬

‫قصة صالح عليه الصلة والسلم‬


‫كانت ثمود ‪ -‬وهي عاد الثانية ‪ -‬يسكنون في الحجر وما حولها ‪ ،‬وكانوا أهل‬
‫مواش كثيرة وأهل حرث وزروع ‪ ،‬وتواصلت عليهم النعم فكانوا يتخذون من‬
‫السهول قصورا مزخرفة ‪ ،‬ومن الجبال بيوتا منحوتة متقنة ‪ ،‬فبطروا النعم‬
‫وكفروها ‪ ،‬وعبدوا غير الله ‪ ،‬فأرسل الله إليهم أخاهم صالحا من قبيلتهم ‪،‬‬
‫يعرفون نسبه وحسبه ‪ ،‬وفضله وكماله ‪ ،‬وصدقه وأمانته ‪ ،‬فدعاهم إلى الله‬
‫والى إخلص الدين له ‪ ،‬وترك ما كانوا يعبدون من دونه ‪ ،‬وذكرهم بنعم الله‬
‫وبأيامه بالمم المجاورة لهم ‪ ،‬فلم يتبعه إل القليل ‪.‬‬
‫وحين ذكرهم وأقام الدلة والبراهين على وجوب توحيد الله اشمأزوا ونفروا‬
‫واستكبروا وقالوا ‪:‬‬
‫ذا { ]هود ‪. [62 :‬‬ ‫َ‬
‫وا قب ْ َ‬
‫ل هَ َ‬ ‫ج ّ‬
‫مْر ُ‬
‫ت ِفيَنا َ‬‫ح قَد ْ ك ُن ْ َ‬
‫صال ِ ُ‬
‫} يا َ‬
‫أي ‪ :‬قد كنا قد تخايلنا فيك أن تفضلنا جميعا لكمالك وكمال أخلقك ‪ ،‬وآدابك‬
‫الطيبة ‪.‬‬

‫) ‪(1/347‬‬

‫وهذا اعتراف منهم له بهذه المور قبل أن يقول ما قال ‪ ،‬فما نزله عن هذه‬
‫المرتبة عندهم إل أنه دعاهم إلى عبادة الخالق من عبادة العبيد ‪ ،‬وإلى‬
‫السعادة البدية ‪ ،‬وما ذنبه إل أنه خالف آباءهم الضالين ‪ ،‬وهم كانوا أضل‬
‫منهم ‪ ،‬ثم أقام لهم بينة عظيمة وبرهانا ونعمة على جميع القبيلة بأسرها ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬هذه ناقة الله ‪ -‬التي ل يشبهها شيء من النوق في ذاتها وشرفها‬
‫ومنافعها لكم ‪ -‬آية على صدقي وعلى سعة رحمة ربكم ‪ ،‬فذروها تأكل في‬
‫أرض الله ‪ ،‬على الله رزقها ‪ ،‬ولكم نفعها ‪ ،‬ترد الماء يوما فترد القبيلة بأسرها‬
‫على ضرعها ‪ ،‬كل يصدر عن ضرعها قد مل آنيته ‪ ،‬ثم تردون أنتم في اليوم‬
‫الثاني ‪ ،‬فمكثت على هذا ما شاء الله ‪.‬‬
‫وكان في مدينتهم تسعة رهط من شياطينهم قد قاوموا ما جاء به صالح أشد‬
‫المقاومة ‪ ،‬يصدون عن سبيل الله ‪ ،‬ويفسدون في الرض ول يصلحون ‪ ،‬وكان‬
‫صالح قد حذرهم من عقر الناقة لما رأى من كبرهم وردهم الحق ‪ ،‬فأول ما‬
‫فعل أولئك المل الشرار أن عقدوا مجلسا عاما ليتفقوا على عقر الناقة ‪،‬‬
‫فاتفقوا ‪ ،‬فانتدب لذلك أشقى القبيلة ‪ ،‬ولهذا قال الله تعالى ‪:‬‬
‫ها { ]الشمس ‪. [12 :‬‬ ‫قا َ‬ ‫ث أَ ْ‬
‫ش َ‬ ‫} إ ِذِ ان ْب َعَ َ‬

‫) ‪(1/348‬‬

‫أي ‪ :‬بعد اتفاقهم وندبهم إياه بعثوه لذلك ‪ ،‬فانبعث واستعد وتكفل لهم بعقرها‬
‫‪ ،‬وهم جميعهم راضون بل آمرون ‪ ،‬فعقرها فكان هذا العقر مؤذنا بهلك‬
‫القبيلة بأسرها ‪.‬‬

‫) ‪(1/349‬‬

‫فلما شعر صالح بالمر ‪ ،‬ورأى منظرا فظيعا علم أن العذاب قد تحتم ل‬
‫محالة ؛ لن الجريمة قد تفاقمت ‪ ،‬ولم يبق حالة يرجى فيها لهم تقويم ‪،‬‬
‫فقال لهم صالح ‪ :‬تمتعوا في داركم ثلثة أيام ‪ ،‬ذلك وعد غير مكذوب ‪ ،‬ونبه‬
‫بهذا الكلم دانيهم وقاصيهم ‪ ،‬ففي أثناء هذه المدة اتفق هؤلء الرهط التسعة‬
‫على أمر أغلظ من عقر الناقة ‪ ،‬على قتل نبيهم صالح ‪ ،‬وتعاهدوا وتعاقدوا‬
‫وحلفوا اليمان المغلظة ‪ ،‬وكتموا أمرهم خشية من منع أهل بيته ‪ ،‬لنه في‬
‫بيت عز وشرف ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لنبيتنه وأهله ‪ ،‬ثم إذا ظن بنا أننا قتلناه حلفنا‬
‫لوليائه أننا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ‪ ،‬فدبروا هذا المكر العظيم ‪،‬‬
‫ولكنهم يمكرون ويمكر الله لنبيه صالح ‪ ،‬فحين كمنوا في أصل جبل لينظروا‬
‫دما لقومهم إلى نار‬ ‫الفرصة في صالح بدأ الله بعقوبتهم ‪ ،‬فكانوا سلفا مق ّ‬
‫جهنم ‪ ،‬فأرسل الله صخرة من أعلى الجبل فشدختهم وقتلوا أشنع قتلة ‪ ،‬ثم‬
‫لما تمت ثلثة هذه اليام جاءتهم صيحة من فوقهم ‪ ،‬ورجفة من أسفل منهم ‪،‬‬
‫فأصبحوا خامدين ‪ ،‬ونجى الله صالحا ومن معه من المؤمنين ‪ ،‬وتولى عنهم‬
‫وقال ‪:‬‬

‫) ‪(1/350‬‬

‫ن َل ت ُ ِ‬ ‫} يا قَوم ل َ َ َ‬
‫ن{‬ ‫حي َ‬
‫ص ِ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫حّبو َ‬ ‫م وَل َك ِ ْ‬
‫ت ل َك ُ ْ‬
‫ح ُ‬
‫ص ْ‬ ‫سال َ َ‬
‫ة َرّبي وَن َ َ‬ ‫قد ْ أب ْل َغْت ُك ُ ْ‬
‫م رِ َ‬ ‫ْ ِ‬
‫]العراف ‪. [79 :‬‬
‫* فوائد تتعلق بهذه القصة ‪:‬‬
‫ذب‬ ‫ذب واحدا منهم فقد ك ّ‬ ‫منها ‪ :‬أن جميع النبياء دعوتهم واحدة ‪ ،‬وأن من ك ّ‬
‫ذب الحق الذي جاء به كل واحد منهم ‪ ،‬ولهذا يقول في كل‬ ‫الجميع ‪ ،‬لنه يك ّ‬
‫قصة ‪ :‬كذبت قوم نوح المرسلين ‪ ،‬كذبت عاد المرسلين ‪ ،‬كذبت هود‬
‫المرسلين ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن عقوبات الله للمم الطاغية عند تناهي طغيانها وتفاقم جرائمها ‪،‬‬
‫كفرهم وتكذيبهم موجب للهلك ‪ ،‬ولكن تحتم الهلك عند تناهي إجرامهم ؛‬ ‫ف ُ‬
‫لن الله تعالى بالمرصاد فيمهل ثم يمهل حتى إذا أخذهم ‪ ،‬أخذهم أخذ عزيز‬
‫مقتدر ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن العقائد الباطلة الراسخة المأخوذة عمن يحسن بهم الظن من آباء‬
‫أو غيرهم من أكبر الموانع لقبول الحق ‪ ،‬والحال أنها ليست في العير ول في‬
‫النفير ‪ ،‬ول لها مقام في الحجج الصحيحة الداّلة على الحقائق ‪ ،‬فلهذا أكبر ما‬
‫رد به قوم صالح لدعوته أن قالوا ‪ :‬أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ‪ ،‬وقالت جميع‬
‫المم المكذبة راّدين لدعوة الرسل ‪:‬‬

‫) ‪(1/351‬‬

‫ُ‬
‫ن { ]الزخرف ‪. [23 :‬‬
‫دو َ‬
‫قت َ ُ‬
‫م ْ‬
‫م ُ‬‫مةٍ وَإ ِّنا عََلى آَثارِهِ ْ‬
‫جد َْنا آَباَءَنا عََلى أ ّ‬
‫} إ ِّنا وَ َ‬
‫وهذا سبيل ل يزال معمورا بالسالكين من أهل الباطل ‪ ،‬نهجته الشياطين‬
‫ليصدوا به العباد عن سبيل الله ‪ ،‬ومن المعلوم أن طريق الرسل هي طريق‬
‫الهدى والحق ‪ ،‬فماذا بعد الحق إل الضلل ‪.‬‬

‫) ‪(1/352‬‬

‫قصة إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم‬


‫قد ذكر الله في كتابه سيرة وأخبارا كثيرة من سيرة إبراهيم ‪ ،‬فيها لنا السوة‬
‫بالنبياء عموما ‪ ،‬وبه على وجه الخصوص ; فإن الله أمر نبينا وأمرنا باتباع‬
‫ملته ‪ ،‬وهي ما كان عليه من عقائد وأخلق وأعمال قاصرة ومتعدية ‪ ،‬فقد آتاه‬
‫الله رشده وعّلمه الحكمة منذ كان صغيرا ‪ ،‬وأراه ملكوت السماوات‬
‫والرض ‪ ،‬ولهذا كان أعظم الناس يقينا وعلما وقوة في دين الله ورحمته‬
‫بالعباد ‪ ،‬وكان قد بعثه الله إلى قوم مشركين يعبدون الشمس والقمر‬
‫والنجوم ‪ ،‬وهم فلسفة الصابئة الذين هم من أخبث الطوائف وأعظمهم‬
‫ضررا على الخلق ‪ ،‬فدعاهم بطرق شتى ‪ ،‬فأول ذلك دعاهم بطريقة ل يمكن‬
‫لصاحب عقل أن ينفر منها ‪ ،‬ولما كانوا يعبدون السبع السيارات التي منها‬
‫الشمس والقمر ‪ ،‬وقد بنوا لها البيوت ‪ ،‬وسموها الهياكل ‪ ،‬قال لهم ناظرا‬
‫ومناظرا ‪ :‬هلم يا قوم ننظر هل يستحق منها شيء اللهية والربوبية ؟‬
‫ذا َرّبي { ]النعام ‪. [76 :‬‬ ‫ل َرَأى ك َوْك ًَبا َقا َ‬
‫ل هَ َ‬ ‫ن عَل َي ْهِ الل ّي ْ ُ‬
‫ج ّ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫ما َ‬
‫* والمناظرة تخالف غيرها في أمور كثيرة ‪:‬‬

‫) ‪(1/353‬‬

‫منها ‪ :‬أن المناظر يقول الشيء الذي ل يعتقده ليبني عليه حجته ‪ ،‬وليقيم‬
‫الحجة على خصمه ‪ ،‬كما قال في تكسيره الصنام لما قالوا له ‪:‬‬
‫ََ‬
‫م { ]النبياء ‪. [62 :‬‬‫هي ُ‬
‫ذا ِبآل ِهَت َِنا يا إ ِب َْرا ِ‬‫ت هَ َ‬ ‫ت فَعَل ْ َ‬ ‫} أأن ْ َ‬
‫فأشار إلى الصنم الذي لم يكسره فقال ‪:‬‬
‫ذا { ]النبياء ‪. [63 :‬‬ ‫م هَ َ‬ ‫ه ك َِبيُرهُ ْ‬‫ل فَعَل َ ُ‬
‫} بَ ْ‬
‫ومعلوم أن غرضه إلزامهم بالحجة ‪ ،‬وقد حصلت ‪.‬‬
‫ذا َرّبي { أي ‪ :‬إن كان يستحق اللهية‬ ‫فهنا يسهل علينا فهم معنى قوله ‪ } :‬هَ َ‬
‫بعد النظر في حالته ووصفه فهو ربي ‪ ،‬مع أنه يعلم العلم اليقيني أنه ل‬
‫يستحق من الربوبية واللهية مثقال ذرة ‪ ،‬ولكن أراد أن يلزمهم بالحجة ‪:‬‬
‫ل { ]النعام ‪. [76 :‬‬ ‫ما أ َفَ َ‬
‫} فَل َ ّ‬
‫ُ‬
‫ن { ]النعام ‪. [76 :‬‬ ‫ب اْلفِِلي َ‬ ‫ح ّ‬‫ل َل أ ِ‬‫أي ‪ :‬غاب } َقا َ‬
‫فإن من كان له حال وجود وعدم ‪ ،‬أو حال حضور وغيبة ‪ ،‬قد علم كل عاقل‬
‫أنه ليس بكامل ‪ ،‬فل يكون إلها ‪ ،‬ثم انتقل إلى القمر ‪ ،‬فلما رآه بازغا ‪َ } :‬قا َ‬
‫ل‬
‫ن{‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قوْم ِ ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫م ي َهْدِِني َرّبي َل َ ُ‬
‫كون َ ّ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫ل ل َئ ِ ْ‬
‫ل َقا َ‬‫ما أ َفَ َ‬
‫ذا َرّبي فَل َ ّ‬ ‫هَ َ‬
‫]النعام ‪. [77 :‬‬

‫) ‪(1/354‬‬

‫يريهم صلوات الله وسلمه عليه ‪ ،‬وقد صور نفسه بصورة الموافق لهم ‪ ،‬لكن‬
‫على وجه التقليد ‪ ،‬بل يقصد إقامة البرهان على إلهية النجوم والقمر ‪ ،‬فالن‬
‫وقد أفلت ‪ ،‬وتبين بالبرهان العقلي مع السمعي بطلن إلهيتها ‪ ،‬فأنا إلى الن‬
‫لم يستقر لي قرار على رب وإله عظيم ‪ ،‬فلما رأى الشمس بازغة قال ‪ :‬هذا‬
‫أكبر من النجوم ومن القمر ‪ ،‬فإن جرى عليها ما جرى عليهما كانت مثلهما ‪،‬‬
‫فلما أفلت وقد تقرر عند الجميع فيما سبق أن عبادة من يأفل من أبطل‬
‫الباطل ‪ ،‬فحينئذ ألزمهم بهذا اللزام ووجه عليهم الحجة فقال ‪:‬‬
‫ي { أي ‪ :‬ظاهري‬ ‫جهِ َ‬ ‫ت وَ ْ‬ ‫جهْ ُ‬‫ن {} إ ِّني وَ ّ‬
‫كو َ‬‫شرِ ُ‬‫ما ت ُ ْ‬
‫م ّ‬
‫ريٌء ِ‬‫} يا قَوْم ِ إ ِّني ب َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‬‫كي َ‬ ‫م ْ‬
‫شرِ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫ما أَنا ِ‬ ‫فا وَ َ‬
‫حِني ً‬ ‫ت َواْلْر َ‬
‫ض َ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬‫ذي فَط ََر ال ّ‬ ‫وباطني } ل ِل ّ ِ‬
‫]النعام ‪ 78 :‬و ‪. [79‬‬

‫) ‪(1/355‬‬

‫هذا برهان عقلي واضح أن الخالق للعالم العلوي والسفلي هو الذي يتعين أن‬
‫ُيقصد بالتوحيد والخلص ‪ ،‬وأن هذه الفلك والكواكب وغيرها مخلوقات‬
‫مدبرات ‪ ،‬ليس لها من الوصاف ما تستحق العبادة لجلها ; فجعلوا يخوفونه‬
‫آلهتهم أن تمسه بسوء ‪ ،‬وهذا دليل على أن المشركين عندهم من الخيالت‬
‫ضر من تركها‬ ‫دها وت َ ُ‬ ‫الفاسدة والراء الرديئة ما يعتقدون أن آلهتهم تنفع من عَب َ َ‬
‫أو قدح فيها ‪ ،‬فقال لهم مبينا لهم أنه ليس عليه شيء من الخوف ‪ ،‬وإنما‬
‫الخوف الحقيقي عليكم فقال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م وََل ت َ َ‬ ‫ما أ َ ْ‬ ‫ف أَ َ‬
‫ه‬ ‫ْ‬
‫م ي ُن َّزل ب ِ ِ‬
‫ما ل ْ‬ ‫م ِباللهِ َ‬ ‫شَركت ُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن أن ّك ْ‬ ‫ُ‬
‫خافو َ‬ ‫شَرك ْت ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫} وَك َي ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { ]النعام ‪. [81 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫ن إِ ْ‬‫م ِ‬ ‫حقّ ِباْل ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫قي ْ ِ‬‫ري َ‬ ‫ف ِ‬‫طاًنا فَأيّ ال ْ َ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫أجاب الله هذا الستفهام جوابا يعم هذه القصة وغيرها في كل وقت فقال ‪:‬‬
‫ن‬
‫م ُ‬
‫َ‬
‫م اْل ْ‬‫ك ل َهُ ُ‬‫م ب ِظ ُل ْم ٍ { أي ‪ :‬بشرك } ُأول َئ ِ َ‬ ‫مان َهُ ْ‬
‫سوا ِإي َ‬ ‫م ي َل ْب ِ ُ‬
‫مُنوا وَل َ ْ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ال ّ ِ‬
‫ن { ]النعام ‪. [82 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬
‫م ُ‬ ‫وَهُ ْ‬

‫) ‪(1/356‬‬

‫فرفع الله خليله إبراهيم بالعلم وإقامة الحجة ‪ ،‬وعجزوا عن نصر باطلهم ;‬
‫ولكنهم صمموا على القامة على ما هم عليه ‪ ،‬ولم ينفع فيهم الوعظ‬
‫والتذكير وإقامة الحجج ‪ ،‬فلم يزل يدعوهم إلى الله ‪ ،‬وينهاهم عما كانوا‬
‫صا ‪ ،‬وأخص من دعاه أبوه آزر ; فإنه دعاه بعدة طرق‬ ‫ما وخا ّ‬
‫يعبدون نهيا عا ّ‬
‫نافعة ‪ ،‬ولكن ‪:‬‬
‫حّتى‬
‫ل آي َةٍ َ‬ ‫م كُ ّ‬
‫جاَءت ْهُ ْ‬‫ن {} وَل َوْ َ‬ ‫مُنو َ‬‫ك َل ي ُؤْ ِ‬ ‫ة َرب ّ َ‬ ‫م ك َل ِ َ‬
‫م ُ‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫ح ّ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫} إِ ّ‬
‫م { ]يونس ‪ 96 :‬و ‪. [97‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ي ََرُوا العَ َ‬
‫ب الِلي َ‬ ‫ذا َ‬
‫فمن جملة مقالته لبيه إذ قال لبيه ‪:‬‬
‫شيًئا {} يا أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫د‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫ني‬ ‫إ‬ ‫ت‬
‫َ ِ ِّ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫َْ‬ ‫ع‬ ‫ني‬
‫ص ُ َ ُِْ‬
‫غ‬‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫معُ وََل ي ُب ْ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما َل ي َ ْ‬ ‫م ت َعْب ُد ُ َ‬
‫ت لِ َ‬ ‫} يا أب َ ِ‬
‫ك { ]مريم ‪ 42 :‬و ‪. [43‬‬ ‫م ي َأ ْت ِ َ‬
‫ما ل َ ْ‬ ‫ن ال ْعِل ْم ِ َ‬‫م َ‬ ‫جاَءِني ِ‬ ‫َ‬

‫) ‪(1/357‬‬

‫انظر إلى حسن هذا الخطاب الجاذب للقلوب ‪ :‬لم يقل لبيه ‪ :‬إنك جاهل ؛‬
‫صَراطاً‬ ‫ك ِ‬ ‫لئل ينفر من الكلم الخشن ‪ ،‬بل قال له هذا القول ‪َ } :‬فات ّب ِعِْني أ َهْدِ َ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ت َل ت َعْب ُدِ ال ّ‬ ‫َ‬
‫صّيا {} يا أب َ ِ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ِللّر ْ‬ ‫كا َ‬ ‫طا َ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫طا َ‬ ‫سوِّيا {} يا أب َ ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن وَل ِّيا { ]مريم ‪53 :‬‬ ‫شي ْطا ِ‬ ‫ن ِلل ّ‬ ‫ن فَت َكو َ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬‫ن الّر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ذا ٌ‬‫سك ع َ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫فأ ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫إ ِّني أ َ‬
‫‪. [45 -‬‬
‫فانتقل بدعوته من أسلوب لخر لعله ينجع فيه أو يفيد ‪ ،‬ولكنه مع ذلك قال له‬
‫أبوه ‪:‬‬
‫مل ِّيا {‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جْرِني َ‬ ‫من ّك َواهْ ُ‬ ‫ج َ‬‫م ت َن ْت َهِ لْر ُ‬ ‫نل ْ‬ ‫م لئ ِ ْ‬ ‫هي ُ‬‫ن آل ِهَِتي يا إ ِب َْرا ِ‬ ‫ت عَ ْ‬ ‫ب أن ْ َ‬ ‫} أَراِغ ٌ‬
‫]مريم ‪. [46 :‬‬
‫هذا وإبراهيم لم يغضب ولم يقابل أباه ببعض ما قال ‪ ،‬بل قابل هذه الساءة‬
‫الكبرى بالحسان فقال ‪:‬‬
‫ك { ]مريم ‪. [47 :‬‬ ‫م عَل َي ْ َ‬‫سَل ٌ‬ ‫} َ‬
‫أي ‪ :‬ل أتكلم معك إل بكلم طيب ل غلظة فيه ول خشونة ‪ ،‬ومع ذلك فلست‬
‫فّيا { ]مريم ‪. [47 :‬‬ ‫ه َ‬ ‫فُر ل َ َ‬ ‫َ‬
‫ح ِ‬ ‫ن ِبي َ‬ ‫كا َ‬ ‫ك َرّبي إ ِن ّ ُ‬ ‫ست َغْ ِ‬‫سأ ْ‬ ‫بآيس من هدايتك ‪َ } :‬‬
‫أي ‪ :‬برا رحيما قد عودني لطفه وأجراني على عوائده الجميلة ‪ ،‬ولم يزل‬
‫لدعائي مجيبا ‪.‬‬

‫) ‪(1/358‬‬

‫فلم يزل إبراهيم مع قومه في دعوة وجدال ‪ ،‬وقد أفحمهم وكسر جميع‬
‫شبههم ‪ ،‬فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقاومهم بأعظم الحجج ‪،‬‬ ‫حججهم و ُ‬
‫وأن يصمد لبطشهم وجبروتهم وقدرتهم وقوتهم ‪ ،‬غير هائب ول وجل ‪ ،‬فلما‬
‫خرجوا ذات يوم لعيد من أعيادهم وخرج معهم ‪ ،‬فنظر نظرة في النجوم‬
‫خّلف لغير هذه الوسيلة لم يدرك‬ ‫فقال ‪ :‬إني سقيم ؛ لنه خشي إن ت َ َ‬
‫مطلوبه ؛ لنه تظاهر بعداوتها والنهي الكيد عنها وجهاد أهلها ‪ ،‬فلما برزوا‬
‫جميعا إلى الصحراء كّر راجعا إلى بيت أصنامهم ‪ ،‬فجعلها جذاذا كلها إل صنما‬
‫كبيرا أبقى عليه ليلزمهم بالحجة ‪ ،‬فلما رجعوا من عيدهم بادروا إلى أصنامهم‬
‫ذا‬ ‫ن فَعَ َ‬
‫ل هَ َ‬ ‫م ْ‬
‫صبابة ومحبة ‪ ،‬فرأوا فيها أفظع منظر رآه أهلها فقالوا ‪َ } :‬‬
‫م { ]النبياء ‪ 59 :‬و ‪[60‬‬ ‫معَْنا فًَتى ي َذ ْك ُُرهُ ْ‬‫س ِ‬ ‫ن {} َقاُلوا َ‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه لَ ِ‬ ‫ِبآل ِهَت َِنا إ ِن ّ ُ‬
‫‪.‬‬
‫أي ‪ :‬يعيبها ويذكرها بأوصاف النقص والسوء ‪:‬‬
‫م { ]النبياء ‪. [60 :‬‬ ‫هي ُ‬
‫ه إ ِب َْرا ِ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قا ُ‬ ‫} يُ َ‬
‫فلما تحققوا أنه الذي كسرها ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن { ]النبياء ‪. [61 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫م يَ ْ‬
‫شهَ ُ‬ ‫س لعَلهُ ْ‬ ‫} َقالوا فَأُتوا ب ِهِ عَلى أعْي ُ ِ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫) ‪(1/359‬‬

‫أي ‪ :‬بحضرة الخلق العظيم ‪ ،‬ووبخوه أشد التوبيخ ثم نكلوا به ‪ ،‬وهذا الذي‬
‫أراد إبراهيم ؛ ليظهر الحق بمرأى الخلق ومسمعهم ‪ ،‬فلما جمع الناس‬
‫ضروا إبراهيم قالوا ‪:‬‬ ‫وحضروا ‪ ،‬وح ّ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫م هَ َ‬
‫ذا { ]النبياء ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ل فَعَل ُ‬
‫ه كِبيُرهُ ْ‬ ‫م {} َقا َ‬
‫ل بَ ْ‬ ‫هي ُ‬ ‫ت فَعَل ْ َ‬
‫ت هَ َ‬
‫ذا ِبآل ِهَت َِنا يا إ ِب َْرا ِ‬ ‫} أأن ْ َ‬
‫‪ 62‬و ‪. [63‬‬
‫مشيرا إلى الصنم الذي سلم من تكسيره ‪ ،‬وهم في هذه بين أمرين ‪ :‬إما أن‬
‫يعترفوا بالحق ‪ ،‬وأن هذا ل يدخل عقل أحد أن جمادا معروفا أنه مصنوع من‬
‫مواد معروفة ل يمكن أن يفعل هذا الفعل ‪ ،‬وإما أن يقولوا ‪ :‬نعم هو الذي‬
‫فعلها وأنت سالم ناج من تبعتها ‪ ،‬وقد علم أنهم ل يقولون الحتمال الخير ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فاسألوهم إن كانوا ينطقون ‪ ،‬وهذا تعليق بالمر الذي يعترفون أنه‬
‫محال ‪ ،‬فحينئذ ظهر الحق وبان ‪ ،‬واعترفوا هم بالحق فرجعوا إلى أنفسهم‬
‫فقالوا ‪ :‬إنكم أنتم الظالمون ‪ ،‬ثم نكسوا على رؤوسهم ‪ ،‬أي ‪ :‬ما كان‬
‫اعترافهم ببطلن إلهيتها إل وقتا قصيرا ظهرت الحجة مباشرة التي ل يمكن‬
‫مكابرتها ‪ ،‬ولكن ما أسرع ما عادت عليهم عقائدهم الباطلة التي رسخت في‬
‫قلوبهم ‪ ،‬وصارت صفات ملزمة ‪ ،‬إن وجد ما ينافيها فإنه عارض يعرض ثم‬
‫يزول ‪:‬‬

‫) ‪(1/360‬‬

‫ن { ]النبياء ‪. [65 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫ما هَؤَُلِء ي َن ْط ِ ُ‬ ‫ت َ‬ ‫م َ‬ ‫م لَ َ‬


‫قد ْ عَل ِ ْ‬ ‫سهِ ْ‬‫سوا عََلى ُرُءو ِ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫م ن ُك ِ ُ‬
‫فحينئذ وبخهم بعد إقامة الحجة التي اعترف بها الخصوم على رؤوس الشهاد‬
‫‪ ،‬فقال لهم ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫} َقا َ َ‬
‫ما‬ ‫ف ل َك ُ ْ‬
‫م وَل ِ َ‬ ‫م {} أ ّ‬ ‫ضّرك ُ ْ‬‫شي ًْئا وََل ي َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫فعُك ُ ْ‬‫ما َل ي َن ْ َ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫ن ُدو ِ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ل أفَت َعْب ُ ُ‬
‫َ‬
‫ن { ]النبياء ‪ 66 :‬و ‪. [67‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫ن الل ّهِ أفََل ت َعْ ِ‬ ‫ن ُدو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬‫ت َعْب ُ ُ‬
‫فلو كان لكم عقول صحيحة لم تقيموا على عبادة ما ل ينفع ول يضر ول يدفع‬
‫عن نفسه من يريده بسوء ‪ ،‬فلما أعيتهم المقاومة بالبراهين والحجج عدلوا‬
‫إلى استعمال قوتهم وبطشهم وجبروتهم في عقوبة إبراهيم فقالوا ‪ :‬حرقوه‬
‫وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ‪ ،‬فأوقدوا نارا عظيمة جدا فألقوه بها ‪ ،‬فقال‬
‫وهو في تلك الحال ‪ :‬حسبي الله ونعم الوكيل ‪ ،‬فقال الله للنار ‪:‬‬
‫م { ]النبياء ‪. [69 :‬‬ ‫هي َ‬ ‫ما عََلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫سَل ً‬ ‫كوِني ب َْرًدا وَ َ‬ ‫} يا َناُر ُ‬

‫) ‪(1/361‬‬

‫فلم تضره بشيء ‪ ،‬وأرادوا به كيدا لينصروا آلهتهم ‪ ،‬ويقيموا لها في قلوبهم‬
‫وقلوب أتباعهم الخضوع والتعظيم ‪ ،‬فكان مكرهم وبال عليهم ‪ ،‬وكان‬
‫انتصارهم للهتهم نصرا عظيما عند الحاضرين والغائبين والموجودين‬
‫والحادثين عليهم ‪ ،‬وانتصر الخليل على الخواص والعوام والرؤساء‬
‫َ‬
‫ن آَتاهُ‬
‫ج إبراهيم في َرّبه بغيا وطغيانا ‪ } ،‬أ ْ‬ ‫والمرؤوسين حتى إن ملكهم حا ّ‬
‫ك { فقال إبراهيم ‪:‬‬‫مل ْ َ‬
‫ه ال ْ ُ‬
‫الل ّ ُ‬
‫ت { ]البقرة ‪. [258 :‬‬ ‫ُ‬ ‫} ربي ال ّذي يحيي ويميت َقا َ َ ُ‬
‫مي ُ‬
‫حِيي وَأ ِ‬
‫ل أَنا أ ْ‬ ‫َُ ِ ُ‬ ‫ِ ُ ْ ِ‬ ‫َ ّ َ‬
‫فألزمه الخليل بطرد دليله بالتصرف المطلق ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ه ي َأ ِْتي ِبال ّ‬
‫َ‬
‫ذي كفََر‬
‫ت ال ِ‬ ‫َ‬
‫ب فب ُهِ َ‬
‫مغْرِ ِ‬
‫ن ال َ‬‫م َ‬ ‫ق فَأ ِ‬
‫ت ب َِها ِ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬‫س ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫} فَإ ِ ّ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [258 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫دي ال ْ َ‬
‫قو ْ َ‬ ‫ه َل ي َهْ ِ‬‫َوالل ّ ُ‬
‫فصل‬

‫) ‪(1/362‬‬

‫ثم خرج من بين أظهرهم مهاجرا وزوجته وابن أخيه لوط إلى الديار‬
‫الشامية ‪ ،‬وفي أثناء مدة إقامته بالشام ذهب إلى مصر بزوجته سارة ‪،‬‬
‫وكانت أحسن امرأة على الطلق ‪ ،‬فلما رآها ملك مصر وكان جبارا عنيدا لم‬
‫يملك نفسه حتى أرادها على نفسها ‪ ،‬فدعت الله عليه ‪ ،‬فكاد أن يموت ‪ ،‬ثم‬
‫أطلق ‪ ،‬ثم عاد ثانية ‪ ،‬وكلما أرادها دعت عليه فصرع ‪ ،‬ثم دعت له فأطلق ‪،‬‬
‫فكفاهما الله شره ‪ ،‬ووهب لها هاجر جارية قبطية ‪ ،‬وكانت سارة عاقرا منذ‬
‫كانت شابة ‪ ،‬فوهبت هذه الجارية لبراهيم ليتسررها لعل الله يرزقه منها ولدا‬
‫‪ ،‬فأتت هاجر بإسماعيل على كبر إبراهيم ففرح به فرحا شديدا ‪ ،‬ولكن سارة‬
‫رضي الله عنها أدركتها الغيرة فحلفت أن ل يساكنها بها ‪ ،‬وذلك لما يريده الله‬
‫‪ ،‬وهذا من جملة السباب لذهابه بها إلى موضع البيت الحرام ‪ ،‬وإل فهو‬
‫متقرر عنده ذلك عليه السلم ‪.‬‬
‫فذهب بها وبابنها إسماعيل إلى مكة ‪ ،‬وهي في ذلك الوقت ليس فيها سكن‬
‫ول مسكن ول ماء ول زرع ول غيره ‪ ،‬وزودهما بسقاء فيه ماء وجراب فيه‬
‫تمر ‪ ،‬ووضعهما عند دوحة قريبة من محل بئر زمزم ثم قفى عنهما ‪ ،‬فلما‬
‫كان في الثنية بحيث يشرف عليهما دعا الله تعالى فقال ‪:‬‬

‫) ‪(1/363‬‬

‫َ‬
‫موا‬‫قي ُ‬
‫حّرم ِ َرب َّنا ل ِي ُ ِ‬‫م َ‬ ‫ك ال ْ ُ‬
‫عن ْد َ ب َي ْت ِ َ‬
‫وادٍ غَي ْرِ ِذي َزْرٍع ِ‬ ‫ن ذ ُّري ِّتي ب ِ َ‬
‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫سك َن ْ ُ‬
‫} َرب َّنا إ ِّني أ ْ‬
‫الصَلة َ َفاجع ْ َ‬
‫م‬‫ت ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫مَرا ِ‬‫ن الث ّ َ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫م َواْرُزقْهُ ْ‬ ‫وي إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫س ت َهْ ِ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬‫ل أفْئ ِد َة ً ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫ّ‬
‫ن { ]إبراهيم ‪ [37 :‬إلى آخر الدعاء ‪.‬‬ ‫شكُرو َ‬ ‫ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ثم استسلمت لمر الله ‪ ،‬وجعلت تأكل من ذلك التمر ‪ ،‬وتشرب من ذلك‬
‫الماء حتى نفدا ‪ ،‬فعطشت ثم عطش ولدها ‪ ،‬فجعل يتلوى من العطش ‪ ،‬ثم‬
‫ذهبت في تلك الحال لعلها ترى أحدا أو تجد مغيثا ‪ ،‬فصعدت أدنى جبل منها‬
‫وهو الصفا ‪ ،‬وتطلعت فلم تر أحدا ‪ ،‬ثم ذهبت إلى المروة فصعدت عليه‬
‫فتطلعت ‪ ،‬فلم تر أحدا ‪ ،‬ثم جعلت تتردد في ذلك الموضع وهي مكروبة‬
‫مضطرة مستغيثة بالله لها ولبنها ‪ ،‬وهي تمشي وتلتفت إليه خشية السباع‬
‫عليه ‪ ،‬فإذا هبطت الوادي سعت حتى تصعد من جانبه الخر ؛ لئل يخفى على‬
‫بصرها ابنها ‪.‬‬

‫) ‪(1/364‬‬

‫والفرج مع الكرب ‪ ،‬والعسر يتبعه اليسر ‪ ،‬فلما تمت سبع مرات تسمعت‬
‫حس الملك ‪ ،‬فبحث في الموضع الذي فيه زمزم فنبع الماء ‪ ،‬فاشتد فرح أم‬
‫إسماعيل به ‪ ،‬فشربت منه وأرضعت ولدها ‪ ،‬وحمدت الله على هذه النعمة‬
‫الكبرى ‪ ،‬وحوطت على الماء لئل يسيح ‪ ،‬قال النبي صلى الله عليه وسلم ‪» :‬‬
‫رحم الله أم إسماعيل ‪ :‬لو تركت ماء زمزم ‪ -‬أي لم تحوطه ‪ -‬لكانت زمزم‬
‫عينا معينا « ثم عثر بها قبيلة من قبائل العرب يقال لهم جرهم ‪ ،‬فعزلوا‬
‫عندها وتمت عليها النعمة ‪.‬‬

‫) ‪(1/365‬‬

‫وشب إسماعيل شابا حسنا ‪ ،‬وأعجب القبيلة بأخلقه وعلو همته وكماله ‪،‬‬
‫فلما بلغ تزوج منهم امرأة ‪ ،‬ففي أثناء هذه المدة ماتت أمه رضي الله عنها ‪،‬‬
‫وجاء إبراهيم بغيبة إسماعيل يتصيد ‪ ،‬فدخل على امرأته فسألها عن زوجها‬
‫وعن عيشهم ‪ ،‬فأخبرته أن زوجها قد ذهب يتصيد ‪ ،‬وأن عيشهم عيش‬
‫الشدة ‪ ،‬فقال لها ‪ :‬إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلم ‪ ،‬وقولي له يغير عتبة‬
‫بابه ‪ ،‬ورجع من فوره لحكمة أرادها الله ‪ ،‬فلما جاء إسماعيل كأنه آنس‬
‫شيئا ‪ ،‬فسأل امرأته فأخبرته أنه جاءهم شيخ بهذا الوصف ‪ ،‬وأنه سأل عنك‬
‫فأخبرته ‪ ،‬وسألنا عن عيشنا فأخبرته أننا في شدة ‪ ،‬وأنه يقرأ عليك السلم ‪،‬‬
‫ويقول لك ‪ :‬غير عتبة بابك ‪ ،‬فقال ‪ :‬ذاك أبي ‪ ،‬وأنت العتبة ‪ ،‬الحقي بأهلك ‪،‬‬
‫ثم تزوج إسماعيل غيرها ‪.‬‬

‫) ‪(1/366‬‬

‫ثم جاء إبراهيم مرة أخرى وإسماعيل أيضا في الصيد ‪ ،‬فدخل على امرأته‬
‫فسألها عن إسماعيل فأخبرته ‪ ،‬وسألها عن عيشهم فأخبرته أنهم في نعمة‬
‫وخير ‪ ،‬وكانت امرأة طيبة شاكرة لله وشاكرة لزوجها ‪ ،‬ثم قال لها ‪ :‬إذا جاء‬
‫زوجك فاقرئي عليه السلم ‪ ،‬وقولي له يثبت عتبة بابه ‪ ،‬ثم رجع أيضا من‬
‫فوره قبل مواجهة إسماعيل لحكمة أرادها الله تعالى ‪ ،‬فلما رجع إسماعيل‬
‫من صيده قال ‪ :‬هل جاءكم من أحد ؟ فقالت ‪ :‬جاءنا شيخ بهذا الوصف ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬هل قال لكم من شيء ؟ فقالت ‪ :‬سألنا عنك فأخبرته ‪ ،‬وسألنا عن‬
‫عيشنا فأخبرته أنا في نعمة ‪ ،‬وأثنيت على الله ‪ ،‬فقال ‪ :‬فما قال ؟ قالت ‪ :‬هو‬
‫يقرأ عليك السلم ‪ ،‬ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ‪ ،‬فقال ‪ :‬ذاك أبي ‪ ،‬وأنت‬
‫العتبة ‪ ،‬أمرني أن أمسكك ‪.‬‬
‫ثم عاد إبراهيم المرة الثالثة فوجد إسماعيل يبري نبل عند زمزم ‪ ،‬فلما رآه‬
‫قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد الشفيق والولد الشفيق ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا إسماعيل‬
‫إن الله أمرني أن أبني هنا بيتا يكون معبدا للخلق إلى يوم القيامة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫سأعينك على ذلك ‪ ،‬فجعل يرفعان القواعد من البيت ‪ ،‬إبراهيم يبني ‪،‬‬
‫وإسماعيل يناوله الحجارة ‪ ،‬وهما يقولن ‪:‬‬

‫) ‪(1/367‬‬

‫ل منا إن َ َ‬
‫ت‬
‫ك أن ْ َ‬ ‫قب ّ ْ ِ ّ ِ ّ‬ ‫ل َرب َّنا ت َ َ‬‫عي ُ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬ ‫ت وَإ ِ ْ‬ ‫ن ال ْب َي ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫عد َ ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫} وَإ ِذ ْ ي َْرفَعُ إ ِب َْرا ِ‬
‫هي ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫ة لك وَأرَِنا‬ ‫م ً‬
‫سل ِ َ‬‫م ْ‬‫ة ُ‬ ‫م ً‬ ‫ن ذ ُّري ّت َِنا أ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن لك و َ ِ‬ ‫مي ْ ِ‬‫سل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫جعَلَنا ُ‬ ‫م {} َرب َّنا َوا ْ‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ّ‬
‫م‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من ْهُ ْ‬‫سول ِ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫م {} َرب َّنا َواب ْعَ ْ‬ ‫حي ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ت الت ّ ّ‬ ‫ب عَلي َْنا إ ِن ّك أن ْ َ‬ ‫سكَنا وَت ُ ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫َ‬
‫م{‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬‫زيُز ال َ‬ ‫ت العَ ِ‬ ‫م إ ِن ّك أن ْ َ‬ ‫ة وَي َُزكيهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫حك َ‬ ‫ب َوال ِ‬ ‫م الك َِتا َ‬ ‫مهُ ُ‬ ‫م آَيات ِك وَي ُعَل ُ‬ ‫ي َت ْلو عَلي ْهِ ْ‬
‫]البقرة ‪. [129 - 127 :‬‬
‫م للخليل هذا الثر الجليل أمره الله أن يدعو الناس ويؤذن‬‫م بنيانه ‪ ،‬وت َ ّ‬
‫فلما ت َ ّ‬
‫فيهم بحج هذا البيت ‪ ،‬فجعل يدعو الناس وهم يفدون إلى هذا البيت من كل‬
‫ج عميق ؛ ليشهدوا منافع دنياهم وأخراهم ‪ ،‬ويسعدوا ويزول عنهم‬ ‫فَ ّ‬
‫شقاؤهم ‪ ،‬وفي هذه الثناء حين تمكن حب إسماعيل من قلبه ‪ ،‬وأراد الله أن‬
‫يمتحن إبراهيم لتقديم محبة ربه وخلته التي ل تقبل المشاركة والمزاحمة ‪،‬‬
‫فأمره في المنام أن يذبح إسماعيل ‪ ،‬ورؤيا النبياء وحي من الله ‪ ،‬فقال‬
‫لسماعيل ‪:‬‬

‫) ‪(1/368‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ما ت ُؤْ َ‬
‫مُر‬ ‫ل َ‬ ‫ت افْعَ ْ‬ ‫ل يا أب َ ِ‬‫ماَذا ت ََرى َقا َ‬ ‫ك َفان ْظ ُْر َ‬ ‫ح َ‬ ‫مَنام ِ أّني أذ ْب َ ُ‬ ‫} إ ِّني أَرى ِفي ال ْ َ‬
‫َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫سل َ َ‬
‫ما أ ْ‬ ‫ن {} فَل َ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫ه ِ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫جد ُِني إ ِ ْ‬ ‫ست َ ِ‬
‫َ‬
‫أي ‪ :‬خضعا لمر الله ‪ ،‬وانقادا لمره ‪ ،‬ووطنا أنفسهما على هذا المر المزعج‬
‫الذي ل تكاد النفوس تصبر على عشر معشاره ‪.‬‬
‫ن { نزل الفرج من الرحمن الرحيم ‪.‬‬ ‫ج َِبي ِ‬‫ه ل ِل ْ َ‬ ‫} وَت َل ّ ُ‬
‫ت الّرؤَْيا { ]الصافات ‪. [105 - 102 :‬‬ ‫صد ّقْ َ‬‫م {} قَد ْ َ‬ ‫هي ُ‬ ‫ن يا إ ِب َْرا ِ‬ ‫} وََناد َي َْناه ُ أ ْ‬
‫فحصل توطين النفس على هذه المحنة والبلوى الشاقة المزعجة ‪ ،‬وحصلت‬
‫المقدمات والجزم المصمم ‪ ،‬وتم لهما الجر والثواب ‪ ،‬وحصل لهما الشرف‬
‫والقرب والزلفى من الله ‪ ،‬وما ذلك من ألطاف الرب بعزيز ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫ن {} وَفَد َي َْناه ُ ب ِذِب ٍْح‬ ‫ذا ل َهُوَ ال ْب ََلُء ال ْ ُ‬
‫مِبي ُ‬ ‫ن هَ َ‬‫ن {} إ ِ ّ‬ ‫سِني َ‬‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫زي ال ْ ُ‬ ‫ج ِ‬‫ك نَ ْ‬ ‫} إ ِّنا ك َذ َل ِ َ‬
‫ظيم ٍ { ]الصافات ‪. [107 - 105 :‬‬ ‫عَ ِ‬
‫ح أعظم من كونه حصل به مقصود هذه العبادة التي ل يشبهها عبادة ‪،‬‬ ‫وأي ذِب ْ ٍ‬
‫سّنة في عقبه إلى يوم القيامة يتقرب به إلى الله ‪ ،‬ويدرك به ثوابه‬ ‫وصار ُ‬
‫ورضاه ‪:‬‬

‫) ‪(1/369‬‬

‫م { ]الصافات ‪ 108 :‬و‬ ‫م عََلى إ ِب َْرا ِ‬


‫هي َ‬ ‫سَل ٌ‬‫ن {} َ‬ ‫ري َ‬‫خ ِ‬‫} وَت ََرك َْنا عَل َي ْهِ ِفي اْل ِ‬
‫‪. [109‬‬
‫فصل‬
‫ثم إن الله أتم النعمة على إبراهيم ‪ ،‬ورحم زوجته سارة على الكبر والعقم‬
‫واليأس بالبشارة بالبن الجليل وهو إسحاق ‪ ،‬ومن وراء إسحاق يعقوب ‪،‬‬
‫فحين أرسل الله لوطا إلى قومه ‪ ،‬وتمّردوا عليه وحّتم الله عقوبتهم ‪ ،‬وكان‬
‫لوط تلميذا لبراهيم ‪ ،‬ولبراهيم عليه حقوق كثيرة ‪ ،‬فمرت الملئكة الذين‬
‫أرسلوا لهلك قوم لوط بإبراهيم بصورة آدميين ‪ ،‬فلما دخلوا عليه وسلموا‬
‫رد ّ عليهم السلم ‪ ،‬بادرهم بالضيافة ‪ ،‬وكان الله قد أعطاه الرزق الواسع‬
‫والكرم العظيم ‪ ،‬وكان بيته مأوى للضياف ‪ ،‬فبالحال راغ إلى أهله بسرعة‬
‫وخفية منهم ‪ ،‬فجاء بعجل سمين محنوذ مشوي على الرضف فقربه إليهم ‪،‬‬
‫فقال ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن { ]الذاريات ‪. [27 :‬‬ ‫} أَل ت َأكلو َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ة { ‪ ،‬إذ ظن أنهم‬‫ف ً‬
‫خي َ‬
‫م ِ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫س ِ‬ ‫ج َ‬ ‫ل إ ِل َي ْهِ ن َك َِرهُ ْ‬
‫م وَأوْ َ‬ ‫م َل ت َ ِ‬
‫ص ُ‬ ‫ما َرأى أي ْدِي َهُ ْ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫لصوص ‪:‬‬
‫ط { ]هود ‪. [70 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫} َقاُلوا ل ت َ َ‬
‫َ‬
‫سلَنا إ ِلى قوْم ِ لو ٍ‬‫ف إ ِّنا أْر ِ‬
‫خ ْ‬
‫وكانت سارة قائمة في خدمتهم ‪ ،‬وبشره بغلم عليم ‪ ،‬فصرخت سارة‬
‫وصكت وجهها متعجبة ومستبشرة ومترددة ومتحيرة وقالت ‪:‬‬

‫) ‪(1/370‬‬

‫جوٌز { ]هود ‪. [72 :‬‬ ‫َ‬ ‫ََ‬


‫} أأل ِد ُ وَأَنا عَ ُ‬
‫وقبل ذلك كنت عقيما ‪ ،‬وهذا بعلي شيخا ‪ ،‬إن هذا لشيء عجيب ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫ميد ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ت إ ِن ّ ُ‬ ‫ل ال ْب َي ْ ِ‬ ‫م أ َهْ َ‬
‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫كات ُ ُ‬‫ة الل ّهِ وَب ََر َ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫مرِ الل ّهِ َر ْ‬ ‫نأ ْ‬
‫} أ َتعجبين م َ‬
‫َْ َ ِ َ ِ ْ‬
‫جيد ٌ { ‪ ،‬فبشراهما بإسحاق وأنه يعيش ويولد له يعقوب ويدركانه ‪ ،‬ولهذا‬ ‫م ِ‬
‫َ‬
‫حمد الله إبراهيم على تمام نعمته وقال ‪:‬‬
‫ع‬
‫مي ُ‬
‫س ِ‬ ‫ن َرّبي ل َ َ‬ ‫حاقَ إ ِ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ب ِلي عََلى ال ْك ِب َرِ إ ِ ْ‬ ‫ذي وَهَ َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫} ال ْ َ‬
‫عاِء { ]إبراهيم ‪. [39 :‬‬ ‫الد ّ َ‬
‫فصل‬
‫فيما في قصة إبراهيم الخليل من الفوائد‬
‫ليعلم أن جميع ما قصه الله علينا من سيرة إبراهيم الخليل صلى الله عليه‬
‫وسلم فإننا مأمورون به أمرا خاصا ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫} مل ّ َ َ‬
‫م { ]الحج ‪ [78 :‬أي ‪ :‬الزموها ‪.‬‬ ‫هي َ‬
‫م إ ِب َْرا ِ‬ ‫ة أِبيك ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫فا { ]النحل ‪. [123 :‬‬ ‫حِني ً‬ ‫م‬ ‫هي‬ ‫را‬‫ب‬ ‫إ‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫ك أَ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫و‬‫} ث ُم أ َ‬
‫ِْ َ ِ َ َ‬ ‫ِ ِّ ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ّ ْ َ َْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫كانت ل َ ِك ُم أ ُ‬
‫م{‪..‬‬ ‫ه‬‫م‬
‫ْ ِ ْ‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫لوا‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫ه‬‫ع‬
‫َ َ َ ُ ِ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ل‬‫وا‬‫َ َ‬ ‫م‬ ‫هي‬
‫ِ‬ ‫را‬ ‫ب‬
‫ِْ َ‬ ‫إ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ة‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫ٌ‬
‫ْ ْ َ َ َ‬‫ة‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫} قَد ْ َ َ ْ‬
‫الية ]الممتحنة ‪. [4 :‬‬

‫) ‪(1/371‬‬

‫فما هو عليه في التوحيد والصول والعقائد والخلق وجميع ما قص علينا من‬


‫نبئه ‪ ،‬فإن اتباعنا إياه من ديننا ; ولهذا لما كان هذا أمرا عاما لحواله كلها‬
‫استثنى الله حالة من أحواله فقال ‪:‬‬
‫ن ل َك { ]الممتحنة ‪. [4 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫فَر ّ‬ ‫م ِلِبيهِ َل ْ‬
‫ست َغْ ِ‬ ‫هي َ‬ ‫} إ ِّل قَوْ َ‬
‫ل إ ِب َْرا ِ‬
‫أي ‪ :‬فل تقتدوا به في هذه الحال بالستغفار للمشركين ‪ ،‬فإن استغفار‬
‫إبراهيم لبيه إنما كان عن موعدة وعدها إياه ‪ ،‬فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ‬
‫منه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الله اتخذه خليل ‪ ،‬والخلة أعلى درجات المحبة ‪ ،‬وهذه المرتبة لم‬
‫تحصل لحد من الخلق إل للخليلين إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ما أكرمه الله به من الكرامات المتنوعة ‪ ،‬جعل في ذريته النبوة‬
‫والكتاب ‪ ،‬وأخرج من صلبه أمتين هما أفضل المم ‪ :‬العرب وبنو إسرائيل ‪،‬‬
‫واختاره الله لبناء بيته الذي هو أشرف بيت ‪ ،‬وأول بيت وضع للناس ‪ ،‬ووهب‬
‫له الولد بعد الكبر واليأس ‪ ،‬مل بذكره ما بين الخافقين ‪ ،‬وامتلت قلوب‬
‫الخلق من محبته وألسنتهم من الثناء عليه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الله رفعه بالعلم واليقين وقوة الحجج ‪ ،‬قال جل ذكره ‪:‬‬

‫) ‪(1/372‬‬
‫ن{‬ ‫موقِِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ت َواْل َْرض وَل ِي َ ُ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫كو َ‬ ‫مل َ ُ‬
‫م َ‬ ‫هي َ‬
‫ري إ ِب َْرا ِ‬ ‫ك نُ ِ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫ِ‬
‫]النعام ‪. [75 :‬‬
‫م‬
‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّك َ‬ ‫َ‬
‫ن ن َشاُء إ ِ ّ‬ ‫م ْ‬‫ت َ‬ ‫جا ٍ‬ ‫َ‬
‫مهِ ن َْرفعُ د ََر َ‬ ‫َ‬
‫م عَلى قوْ ِ‬ ‫َ‬ ‫هي َ‬ ‫ها إ ِب َْرا ِ‬ ‫جت َُنا آت َي َْنا َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ك ُ‬ ‫} وَت ِل ْ َ‬
‫م { ]النعام ‪. [83 :‬‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫ومن شوقه إلى الوصول إلى غاية العلم ونهايته أن سأل ربه ‪:‬‬
‫ن قَل ِْبي‬ ‫ف تحي ال ْموتى َقا َ َ‬ ‫ب أ َرِ ِ‬
‫ن ل ِي َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫ل ب ََلى وَل َك ِ ْ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬‫ل أوَل َ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫ني ك َي ْ َ ُ ْ ِ‬ ‫} َر ّ‬
‫ل عَلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن إ ِلي ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫جْزًءا‬ ‫ن ُ‬ ‫من ْهُ ّ‬ ‫ل ِ‬ ‫جب َ ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ما ْ‬ ‫ك ثُ ّ‬ ‫صْرهُ ّ‬ ‫ن الطي ْرِ فَ ُ‬ ‫م َ‬‫ة ِ‬ ‫خذ ْ أْرب َعَ ً‬
‫ْ‬
‫ل فَ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن ي َأِتين َ َ‬
‫م { ]البقرة ‪. [260 :‬‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫سعًْيا َواعْل ْ‬ ‫ك َ‬ ‫م اد ْعُهُ ّ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ومنها ‪ :‬أن من عزم على فعل الطاعات وبذل مقدوره في أسبابها ‪ ،‬ثم حصل‬
‫مانع يمنع من إكمالها ‪ ،‬أن أجره قد وجب على الله ‪ ،‬كما قال الله ذلك في‬
‫المهاجر الذي يموت قبل أن يصل إلى مهاجره ‪ ،‬وكما ذكره الله في قصة‬
‫م الجر لبراهيم وإسماعيل حين أسلما لله وأذعنا لمره ‪،‬‬ ‫الذبح ‪ ،‬وأن الله أت َ ّ‬
‫ثم رفع عنهما المشقة ‪ ،‬وأوجب لهما الجر الدنيوي والخروي ‪.‬‬

‫) ‪(1/373‬‬

‫ومنها ‪ :‬ما في قصصه من آداب المناظرة ‪ :‬طرقها ومسالكها النافعة ‪ ،‬وكيفية‬


‫إلزام الخصم بالطرق الواضحة التي يعترف بها أهل العقول ‪ ،‬وإلجاؤه الخصم‬
‫اللد إلى العتراف ببطلن مذهبه ‪ ،‬وإقامة الحجة على المعاندين وإرشاد‬
‫المسترشدين ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من نعمة الله على العبد هبة الولد الصالحين ‪ ،‬وأن عليه في ذلك‬
‫أن يحمد الله ‪ ،‬ويدعو الله لذريته كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم في‬
‫قوله ‪:‬‬
‫ع‬
‫مي ُ‬‫س ِ‬ ‫َ‬
‫ن َرّبي ل َ‬ ‫حاقَ إ ِ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫عي َ‬‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب ِلي عَلى الك ِب َرِ إ ِ ْ‬ ‫ذي وَهَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مد ُ ل ِلهِ ال ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫} ال ْ َ‬
‫عاِء { ]إبراهيم ‪ . . [39 :‬إلى آخر الدعاء ‪.‬‬ ‫الد ّ َ‬
‫ل ذكره في الثناء عموما على من يدعو الله بصلح ذريته ‪:‬‬ ‫وقال ج ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫مت َك الِتي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ة َقا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حّتى إ َِذا ب َلغَ أ ُ‬
‫شكَر ن ِعْ َ‬ ‫ب أوْزِعِْني أ ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫سن َ ً‬‫ن َ‬ ‫شد ّه ُ وَب َلغَ أْرب َِعي َ‬ ‫} َ‬
‫ح ِلي ِفي ذ ُّري ِّتي إ ِّني‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صل ِ ْ‬
‫ضاه ُ وَأ ْ‬ ‫حا ت َْر َ‬‫صال ِ ً‬‫ل َ‬ ‫ن أعْ َ‬ ‫ي وَعَلى َوال ِد َيّ وَأ ْ‬ ‫ت عَل ّ‬ ‫م َ‬ ‫أن ْعَ ْ‬
‫ن { ]الحقاف ‪. [15 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬‫ك وَإ ِّني ِ‬ ‫ت إ ِل َي ْ َ‬ ‫ت ُب ْ ُ‬
‫فإن العبد إذا مات انقطع عمله إل من ثلث ‪ :‬صدقة جارية ‪ ،‬أو علم ينتفع به ‪،‬‬
‫أو ولد صالح يدعو له ‪.‬‬

‫) ‪(1/374‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن المشاعر ومواضع النساك من جملة الحكم فيها ‪ ،‬أن فيها‬
‫تذكيرات بمقامات الخليل وأهل بيته في عبادات ربهم ‪ ،‬وإيمان بالله ورسله ‪،‬‬
‫وحث على القتداء بهم في كل أحوالهم الدينية وكل أحوال الرسل دينية ‪،‬‬
‫لقوله تعالى ‪:‬‬
‫ّ‬
‫صلى { ]البقرة ‪. [125 :‬‬‫م َ‬
‫م ُ‬
‫هي َ‬
‫قام ِ إ ِب َْرا ِ‬
‫م َ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫خ ُ‬
‫ذوا ِ‬ ‫} َوات ّ ِ‬
‫ومنها ‪ :‬المر بتطهير المسجد الحرام من النجاس ‪ ،‬ومن جميع المعاصي‬
‫القولية والفعلية ؛ تعظيما لله وإعانة وتنشيطا للمتعبدين فيه ‪ ،‬ومثله بقية‬
‫المساجد لقوله عز وجل ‪:‬‬
‫جود ِ { ]الحج ‪. [26 :‬‬ ‫س ُ‬ ‫ن َوالّرك ِّع ال ّ‬ ‫مي َ‬ ‫قائ ِ ِ‬‫ن َوال ْ َ‬‫في َ‬ ‫ي ِلل ّ‬
‫طائ ِ ِ‬ ‫} وَط َهّْر ب َي ْت ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه { ]النور ‪. [36 :‬‬
‫م ُ‬ ‫ن ت ُْرفَعَ وَي ُذ ْك ََر ِفيَها ا ْ‬
‫س ُ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ت أذِ َ‬ ‫وقال ‪ِ } :‬في ب ُُيو ٍ‬
‫ومنها ‪ :‬أن أفضل الوصايا على الطلق ما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب ‪،‬‬
‫وهو الوصية بملزمة القيام بالدين وتقوى الله والجتماع على ذلك ‪ ،‬وهي‬
‫وصيته تعالى للولين والخرين ‪ ،‬إذ بها السعادة البدية والسلمة من شرور‬
‫الدنيا والخرة ‪.‬‬

‫) ‪(1/375‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن العامل ‪ -‬كما عليه أن يتقن عمله ويجتهد في إيقاعه على أكمل‬
‫الوجوه ‪ -‬فعليه مع ذلك أن يكون بين الخوف والرجاء ‪ ،‬وأن يتضرع إلى ربه‬
‫في قبوله وتكميل نقصه ‪ ،‬والعفو عما وقع فيه من خلل أو نقص ‪ ،‬كما كان‬
‫إبراهيم وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت ‪ ،‬وهما بهذا الوصف الكامل ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الجمع بين الدعاء لله بمصالح الدنيا والدين من سبيل أنبياء الله ‪،‬‬
‫وكذلك السعي في تحصيلهما الدين هو الصل والمقصود الذي خلق له الخلق‬
‫والدنيا وسيلة ومعونة عليه لدعاء الخليل لهل البيت الحرام بالمرين ‪،‬‬
‫وتعليله الدعاء بالمور الدنيوية أنه وسيلة إلى الشكر فقال ‪:‬‬
‫شك ُُرو َ‬
‫ن { ]إبراهيم ‪. [37 :‬‬ ‫ت ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ن الث ّ َ‬
‫مَرا ِ‬ ‫م َ‬ ‫} َواْرُزقْهُ ْ‬
‫م ِ‬
‫ومنها ‪ :‬ما اشتملت عليه قصة إبراهيم من مشروعية الضيافة وآدابها ‪ ،‬فإن‬
‫الله أخبر عن ضيفه أنهم مكرمون ‪ ،‬يعني ‪ :‬أنهم كرماء على الله ‪ ،‬وأيضا‬
‫إبراهيم أكرمهم بضيافته قول وفعل ‪ ،‬فإكرام الضيف من اليمان ‪ ،‬وأنه‬
‫خدمهم بنفسه وبادر بضيافتهم قبل كل شيء ‪ ،‬وأتى بأطيب ماله ‪ :‬عجل حنيذ‬
‫سمين ‪ ،‬وقّربه إليهم ولم يحوجهم إلى الذهاب إلى عمل آخر ‪ ،‬وعرض عليهم‬
‫الكل بلفظ رقيق فقال ‪ :‬أل تأكلون ؟‬

‫) ‪(1/376‬‬

‫ومنها ‪ :‬مشروعية السلم ‪ ،‬وأن المبتدئ فيه هو الداخل وهو الماشي ‪ ،‬وأنه‬
‫يجب رده ‪ ،‬ومشروعية الوقوف على اسم من يتصل بك من صاحب ومعامل‬
‫وضيف لقوله ‪:‬‬
‫من ْك َُرو َ‬
‫ن { ]الذاريات ‪. [25 :‬‬ ‫م ُ‬ ‫} قَوْ ٌ‬
‫أي ل أعرفكم فأحب أن تعرفوني بأنفسكم ‪ ،‬وهذا ألطف من قوله أنكرتكم‬
‫ونحوه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬الترغيب في أن يكون أهل النسان ومن يتولى شؤون بيته حازمين‬
‫مستعدين لكل ما يراد منهم من الشؤون والقيام بمهمات البيت ‪ ،‬فإن‬
‫إبراهيم في الحال بادر إلى أهله فوجد طعام ضيوفه حاضرا ل يحوج إل إلى‬
‫تقديمه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن إتيان الولد والبشارة به من سارة ‪ ،‬وهي عجوز عقيم ‪ ،‬يعد معجزة‬
‫لبراهيم وكرامة لسارة ‪ ،‬ففيه معجزة نبي وكرامة ولي ‪ ،‬ونظيره بشارة‬
‫الملئكة لمريم بعيسى ‪ ،‬وبشارتهم بيحيى لزكريا وزوجته ‪ ،‬وكون زكريا جعل‬
‫الله آية وجود المبشر به أن ل يكلم الناس ثلثة أيام ‪ ،‬وهو سويّ ل آفة فيه إل‬
‫بالرمز والشارة ‪ ،‬وكل هذا وما أشبهه من آيات الله ‪ ،‬وأعجب من هذا إيجاده‬
‫آدم من تراب ‪ ،‬فسبحان من هو على كل شيء قدير ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ثناء الله على إبراهيم أنه أتى ربه بقلب سليم ‪ ،‬وقد قال ‪:‬‬

‫) ‪(1/377‬‬

‫ل وَل بنون {} إّل م َ‬


‫سِليم ٍ { ]الشعراء ‪88 :‬‬‫ب َ‬‫قل ْ ٍ‬ ‫ن أَتى الل ّ َ‬
‫ه بِ َ‬ ‫ِ َ ْ‬ ‫ما ٌ َ َ ُ َ‬ ‫فع ُ َ‬ ‫م َل ي َن ْ َ‬ ‫} ي َوْ َ‬
‫و ‪. [89‬‬
‫والجامع لمعناه أنه سليم من الشرور كلها ومن أسبابها ‪ ،‬ملن من الخير‬
‫والبر والكرم ‪ ،‬سليم من الشبهات القادحة في العلم واليقين ‪ ،‬ومن‬
‫الشهوات الحائلة بين العبد وبين كماله ‪ ،‬سليم من الكبر ومن الرياء والشقاق‬
‫والنفاق وسوء الخلق ‪ ،‬وسليم من الغل والحقد ‪ ،‬ملن بالتوحيد واليمان‬
‫والتواضع للحق وللخلق ‪ ،‬والنصيحة للمسلمين والرغبة في عبودية الله ‪ ،‬وفي‬
‫نفع عباد الله ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ما ذكره في قصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ‪:‬‬
‫ن { ]الصافات ‪. [79 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫م عََلى ُنوٍح ِفي ال َْعال َ ِ‬ ‫سَل ٌ‬ ‫} َ‬
‫م { ]الصافات ‪. [109 :‬‬ ‫هي َ‬ ‫َ‬
‫م عَلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫َ‬
‫سل ٌ‬ ‫} َ‬
‫ن { ]الصافات ‪. [105 :‬‬ ‫ني‬ ‫س‬ ‫ح‬
‫ُ ْ ِ ِ َ‬‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫زي‬ ‫ج‬
‫ِ َ ْ ِ‬‫ن‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫نا‬
‫ِّ‬ ‫إ‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫بقوله‬ ‫يتبعها‬
‫فوعد الباري أن كل محسن في عبادته محسن إلى عباده أن الله يجزيه الثناء‬
‫الحسن والدعاء من العالمين بحسب إحسانه ‪ ،‬وهذا ثواب عاجل وآجل ‪ ،‬وهو‬
‫من البشرى في الحياة الدنيا ‪ ،‬ومن علمات السعادة ‪.‬‬

‫) ‪(1/378‬‬

‫قصة لوط عليه السلم‬


‫وقصة لوط عليه السلم تبع لقصة إبراهيم ‪ ،‬لنه تلميذه وقد تعلم من إبراهيم‬
‫‪ ،‬وكان له بمنزلة البن ‪ ،‬فنبأه الله بحياة الخليل ‪ ،‬وأرسله إلى قرى سدوم‬
‫من غور فلسطين ‪ ،‬وكانوا مع شركهم بالله يلوطون بالذكور ‪ ،‬ولم يسبقهم‬
‫أحد إلى هذه الفاحشة الشنعاء ‪ ،‬فدعاهم إلى عبادة الله وحده ‪ ،‬وحذرهم من‬
‫هذه الفاحشة ‪ ،‬فلم يزدادوا إل عتوا وتماديا فيما هم فيه ‪ ،‬ولما أراد الله‬
‫هلكهم أرسل الملئكة لذلك ‪ ،‬فمروا بطريقهم على إبراهيم وأخبروه بذلك ‪،‬‬
‫فجعل إبراهيم يجادل في إهلكهم ‪ -‬وكان رحيما حليما ‪ -‬وقال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫طا َقاُلوا نح َ‬
‫ه { ]العنكبوت ‪. [32 :‬‬ ‫ه وَأهْل َ ُ‬ ‫ن ِفيَها ل َن ُن َ ّ‬
‫جي َن ّ ُ‬ ‫م ْ‬‫م بِ َ‬‫ن أعْل َ ُ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫ن ِفيَها ُلو ً‬ ‫} إِ ّ‬
‫مُر َرب ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫م عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫م آِتيهِ ْ‬
‫ك وَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫جاَء أ ْ‬ ‫ه قَد ْ َ‬ ‫ن هَ َ‬
‫ذا إ ِن ّ ُ‬ ‫ض عَ ْ‬ ‫م أعْرِ ْ‬ ‫هي ُ‬
‫فقيل ‪ } :‬يا إ ِب َْرا ِ‬
‫مْرُدود ٍ { ]هود ‪. [76 :‬‬ ‫غَي ُْر َ‬
‫ولما ذهب الملئكة إلى لوط بصورة أضياف آدميين شباب ساء لوطا ذلك‬
‫ب { ]هود ‪. [77 :‬‬ ‫صي ٌ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫ذا ي َوْ ٌ‬‫ل هَ َ‬‫عا } وََقا َ‬ ‫م ذ َْر ً‬ ‫ضاقَ ب ِهِ ْ‬‫وَ َ‬

‫) ‪(1/379‬‬

‫لعلمه بما عليه قومه من هذه الجراءة الشنيعة ‪ ،‬ووقع ما خاف منه ‪ ،‬فجاءه‬
‫إليه يريدون فعل الفاحشة بأضياف لوط ‪ ،‬فقال ‪ } :‬يا قَوْم ِ‬ ‫َ‬
‫قومه يهرعون‬
‫م { ]هود ‪. [78 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن أطهَُر لك ْ‬‫هَؤَُلِء ب ََناِتي هُ ّ‬
‫لعلمه أنه ل حق لهم فيهن ‪ ،‬كما عرض سليمان للمرأتين حين اختصمتا في‬
‫الولد فقال ‪ :‬ائتوني بالسكين أشقه بينكما ‪ ،‬ومن المعلوم أنه ل يقع ذلك ‪،‬‬
‫وهذا مثله ‪ ،‬ولهذا قال قومه ‪:‬‬
‫ريد ُ { ]هود ‪. [79 :‬‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫م‬‫َ‬
‫َْ ُ َ ُ ِ‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫ت‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ك ِ ْ َ ّ َ ِّ‬
‫ن‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ما ل ََنا ِفي ب ََنات ِ َ‬
‫ت َ‬
‫م َ‬ ‫} لَ َ‬
‫قد ْ عَل ِ ْ‬
‫وأيضا يريد بعض العذر من أضيافه ‪ ،‬وعلى هذا التأويل ل حاجة إلى العدول‬
‫إلى قول بعض المفسرين } هَؤَُلِء ب ََناِتي { يعني ‪ :‬زوجاتهم ‪ ،‬يعني ‪ :‬لن‬
‫النبي أب لمته ‪ ،‬فإن هذا يمنعه أمران ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬قوله ‪ } :‬هَؤَُلِء ب ََناِتي { يشير إليهن إشارة الحاضر ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬هذا الطلق على زوجاتهم ل نظير له ‪ ،‬وأيضا النبي إنما هو بمنزلة الب‬
‫للمؤمنين به ‪ ،‬ل للكفار ‪ ،‬والمحذور الذي توهموه يزول بما ذكرنا ‪ ،‬وأنه يعلم‬
‫أنه ل حق لهم فيهن ‪ ،‬وإنما يريد مدافعتهم بكل طريق ‪ ،‬فاشتد المر بلوط‬
‫وقال ‪:‬‬

‫) ‪(1/380‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ديد ٍ { ]هود ‪. [80 :‬‬ ‫ش ِ‬‫ن َ‬ ‫م قُوّة ً أوْ آِوي إ ِلى ُرك ْ ٍ‬
‫ن ِلي ب ِك ُ ْ‬ ‫} ل َوْ أ ّ‬
‫قوا‬‫أي ‪ :‬لدافعتكم ‪ ،‬فلما رآهم جازمين على مرادهم الخبيث قال لقومه ‪َ :‬فات ّ ُ‬
‫َ‬
‫شيد ٌ { ]هود ‪. [78 :‬‬ ‫ج ٌ‬
‫ل َر ِ‬ ‫م َر ُ‬‫من ْك ُ ْ‬
‫س ِ‬ ‫في أل َي ْ َ‬‫ضي ْ ِ‬
‫خُزوِني ِفي َ‬ ‫ه وََل ت ُ ْ‬ ‫} الل ّ َ‬
‫فاستلجوا في طغيانهم وسكرهم ‪ ،‬فحينئذ أخبرته ملئكة الرحمن بأمرهم ‪،‬‬
‫وأنهم أرسلوا لهلكهم ‪ ،‬فصدم جبريل أو غيره من الملئكة الذين يعالجون‬
‫الباب ليدخلوا على لوط فطمس بهذه الصدمة أعينهم ‪ ،‬فكان هذا عذابا‬
‫معجل وأنموذجا لمن باشروا مراودة لوط على أضيافه ‪ ،‬وأمروا لوطا أن‬
‫يسري بأول الليل بأهله ويلح في السير حتى يخلف ديارهم ‪ ،‬وينجو من معرة‬
‫العذاب ‪ ،‬فخرج بهم فما أصبح الصباح حتى خلفوا ديارهم ‪ ،‬وقلب الله عليهم‬
‫ديارهم ‪ ،‬فجعل أعلها أسفلها ‪ ،‬وأمطر عليها حجارة من سجيل منضود‬
‫مسومة عند ربك ‪ ،‬وما هي من الظالمين الذين يعملون عملهم ببعيد ‪.‬‬
‫وفي هذه القصة أكبر دليل على أن فاحشة اللواط من أشنع القبائح ‪ ،‬وأنها‬
‫توجب العقاب الشديد ‪ ،‬وأن من ابتلي بهذه الفاحشة فمع ذهاب دينه قد‬
‫انقلب عليه الحسن بالقبيح ‪ ،‬فاستحسن ما كان قبيحا ‪ ،‬ونفر من الطيب ‪،‬‬
‫وذلك دليل على انحراف الخلق ‪.‬‬

‫) ‪(1/381‬‬

‫وفيها وفي قصة إبراهيم ‪ ،‬جواز التعريض ‪ ،‬أما قصة إبراهيم ففي قوله ‪:‬‬
‫م { ]الصافات ‪ 88 :‬و ‪. [89‬‬ ‫قي ٌ‬‫س ِ‬
‫ل إ ِّني َ‬ ‫جوم ِ {} فَ َ‬
‫قا َ‬ ‫} فَن َظ ََر ن َظ َْرة ً ِفي الن ّ ُ‬
‫وأما لوط ففي قوله ‪ } :‬هَؤَُلِء بناِتي هُ َ‬
‫م { والتعريض يكون في‬ ‫ن أط ْهَُر ل َك ُ ْ‬
‫ّ‬ ‫ََ‬
‫القوال ‪ ،‬ويكون في الفعال ‪ ،‬وهو أن يقصد المتكلم أو العامل لعمل أمرا‬
‫من المور التي ل بأس بها ‪ ،‬ويوهم السامع والرائي أمرا آخر ؛ ليستجلب‬
‫منفعة ‪ ،‬أو يدفع مضرة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من علمة الرجل الرشيد أنه هو المسدد في أقواله وأفعاله ‪ ،‬ومن‬
‫ذلك أنه ينصر المظلومين ‪ ،‬ويفرج الكرب عن المكروبين ‪ ،‬ويأمر بالخير ‪،‬‬
‫َ‬
‫من ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫وينهى عن الشر ‪ ،‬هذا هو الرشيد حقيقة ‪ ،‬فلهذا قال لوط ‪ } :‬أل َي ْ َ‬
‫س ِ‬
‫شيد ٌ { ؟ أي ‪ :‬فيأمر بمعروف ‪ ،‬وينهى عن منكر ‪ ،‬ويدفع أهل الشر‬ ‫ج ٌ‬
‫ل َر ِ‬ ‫َر ُ‬
‫والبغي ‪.‬‬

‫) ‪(1/382‬‬

‫ومنها ‪ :‬الحث على السعي في العوان على أمور الخير ودفع الشر ‪ ،‬ولو كان‬
‫المعاون على ذلك من أهل الشر ‪ ،‬فإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وبأقوام ل خلق لهم عند الله ‪ ،‬ولهذا قال لوط ‪ } :‬ل َوْ أ ّ‬
‫ن ِلي ب ِك ُ ْ‬
‫م قُوّة ً أوْ آِوي‬
‫َ‬
‫ديدٍ { ‪ ،‬وأكثر النبياء يبعثهم الله في أشراف قومهم ‪ ،‬ويحصل‬ ‫ش ِ‬ ‫إ ِلى ُرك ْ ٍ‬
‫ن َ‬
‫بذلك من تأييد الحق وقمع الباطل ‪ ،‬والتمكن من الدعوة ما ل يحصل لو لم‬
‫يكن كذلك ‪ ،‬واعتبر هذا بحال شعيب وقول قومه له ‪:‬‬

‫) ‪(1/383‬‬

‫َ‬
‫ت عَل َي َْنا ب ِعَ ِ‬
‫زيزٍ { ]هود ‪ [91 :‬وكذلك نبينا‬ ‫ما أن ْ َ‬ ‫مَنا َ‬
‫ك وَ َ‬ ‫ك ل ََر َ‬
‫ج ْ‬ ‫} وَل َوَْل َرهْط ُ َ‬
‫محمد بعث في أشرف بيت في قريش وأعزه ‪ ،‬وقد رماه قومه بالعداوة‬
‫البليغة ‪ ،‬وعقدوا المجالس المتعددة في إبطال قوله ودينه ‪ ،‬بل وفي كيفية‬
‫الفتك به ‪ ،‬ومن السباب التي أوقفتهم عند حدهم خوفهم من قبيلته ‪ ،‬وانظر‬
‫إلى حالته في تضييقهم عليه بالشعب ‪ ،‬وانحياز قبيلته معهم ‪ -‬مسلمهم‬
‫وكافرهم ‪ -‬ولم يخطر ببالهم أنهم يصلون إلى الفتك بشخصه الكريم حتى‬
‫مكروا ذلك المكر العظيم ‪ ،‬إذ اتفق رأيهم على أن ينتدب لقتله من كل قبيلة‬
‫رجل ليتفرق دمه في القبائل ‪ ،‬فيعجز قومه عن الخذ بثأره ‪ ،‬ولكنهم يمكرون‬
‫ويمكر الله والله خير الماكرين ‪.‬‬

‫) ‪(1/384‬‬

‫قصة شعيب عليه السلم‬


‫نبأه الله وأرسله إلى أهل مدين ‪ ،‬وكانوا مع شركهم يبخسون المكاييل‬
‫والموازين ‪ ،‬ويغشون في المعاملت ‪ ،‬وينقصون الناس أشياءهم ‪ ،‬فدعاهم‬
‫إلى توحيد الله ‪ ،‬ونهاهم عن الشرك به ‪ ،‬وأمرهم بالعدل في المعاملت ‪،‬‬
‫وزجرهم عن البخس في المعاملت ‪ ،‬وذكرهم الخير الذي أدره الله عليهم ‪،‬‬
‫والرزاق المتنوعة ‪ ،‬وأنهم ليسوا بحاجة إلى ظلم الناس في أموالهم ‪،‬‬
‫وفهم العذاب المحيط في الدنيا قبل الخرة ‪ ،‬فأجابوه ساخرين وردوا عليه‬ ‫خ ّ‬
‫و َ‬
‫متهكمين فقالوا ‪:‬‬
‫َ‬ ‫فعَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن ن َت ُْر َ‬ ‫َ‬ ‫مُر َ‬ ‫ْ‬ ‫صَلت ُ َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫وال َِنا َ‬
‫م َ‬
‫ل ِفي أ ْ‬ ‫ن نَ ْ‬‫ما ي َعْب ُد ُ آَباؤَُنا أوْ أ ْ‬
‫ك َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ك ت َأ ُ‬ ‫بأ َ‬ ‫شعَي ْ ُ‬ ‫} يا ُ‬
‫شيد ُ { ]هود ‪. [87 :‬‬ ‫م الّر ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شاُء إ ِن ّ َ‬ ‫نَ َ‬
‫حِلي ُ‬ ‫ت ال َ‬ ‫ك لن ْ َ‬
‫أي ‪ :‬فنحن جازمون على عبادة ما كان آباؤنا يعبدون ‪ ،‬وجازمون على أننا‬
‫نفعل في أموالنا ما نريد من أي معاملة تكون ‪ ،‬فل ندخل تحت أوامر الله‬
‫وأوامر رسله ; فقال لهم ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫سًنا { ‪.‬‬‫ح َ‬‫ه رِْزًقا َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ن َرّبي وََرَزقَِني ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ت عَلى ب َي ّن َةٍ ِ‬ ‫ن ك ُن ْ ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫} يا قَوْم ِ أَرأي ْت ُ ْ‬
‫أي ‪ :‬أغناني الله ‪.‬‬
‫ه { ]هود ‪. [88 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ن أُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م عَن ْ ُ‬ ‫ما أن َْهاك ْ‬ ‫م إ ِلى َ‬ ‫فك ْ‬ ‫خال ِ َ‬ ‫ما أِريد ُ أ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫) ‪(1/385‬‬

‫أي ‪ :‬ما نهيتكم عن المعاملت الخبيثة وظلم الناس فيها ‪ ،‬إل وأنا أول تارك‬
‫ي وأنا محتاج إلى المعاملة ‪ ،‬ولكني متقيد‬ ‫سع عل ّ‬ ‫لها ‪ ،‬مع أن الله أعطاني وو ّ‬
‫بطاعة ربي ‪ ،‬إن أريد في فعلي وأمري لكم إل الصلح ‪ ،‬أي ‪ :‬أن تصلح‬
‫أحوالكم الدينية والدنيوية ما استطعت ‪:‬‬
‫ُ‬
‫ب { ]هود ‪. [88 :‬‬ ‫ت وَإ ِل َي ْهِ أِني ُ‬ ‫قي إ ِّل ِبالل ّهِ عَل َي ْهِ ت َوَك ّل ْ ُ‬ ‫ما ت َوِْفي ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫ثم خوفهم أخذات المم التي حولهم في الزمان والمكان فقال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫هود ٍ أوْ قوْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م ُنوٍح أوْ قَوْ َ‬ ‫ب قَوْ َ‬‫صا َ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ُ‬‫م ِ‬ ‫صيب َك ُ ْ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫قاِقي أ ْ‬ ‫ش َ‬
‫م ِ‬ ‫من ّك ُ ْ‬
‫جرِ َ‬ ‫} َل ي َ ْ‬
‫م ب ِب َِعيد ٍ { ]هود ‪. [89 :‬‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ط ِ‬‫م ُلو ٍ‬ ‫ما قَوْ ُ‬ ‫صال ٍِح وَ َ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫بوا‬ ‫تو‬
‫َ ّ ْ ّ ُ ُ ِ ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ب‬ ‫ر‬ ‫روا‬ ‫ف‬‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ت‬
‫َ ْ َ ِ ُ‬‫س‬ ‫وا‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫فقال‬ ‫فيها‬ ‫ورغبهم‬ ‫‪،‬‬ ‫التوبة‬ ‫عليهم‬ ‫عرض‬ ‫ثم‬
‫م وَُدود ٌ { ]هود ‪. [90 :‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ن َرّبي َر ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫ل{‪.‬‬ ‫قو ُ‬‫ما ت َ ُ‬‫م ّ‬ ‫ه ك َِثيًرا ِ‬ ‫ق ُ‬‫ف َ‬ ‫ما ن َ ْ‬
‫فلم يفد فيهم ‪ ،‬فقالوا ‪َ } :‬‬

‫) ‪(1/386‬‬

‫ك‬‫فا وَل َوَْل َرهْط ُ َ‬ ‫ضِعي ً‬ ‫ك ِفيَنا َ‬ ‫وهذا لعنادهم وبغضهم البليغ للحق } وَإ ِّنا ل َن ََرا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫طي أعَّز عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ل يا قَوْم ِ أَرهْ ِ‬ ‫زيزٍ {} َقا َ‬ ‫ت عَل َي َْنا ب ِعَ ِ‬ ‫ما أن ْ َ‬ ‫ك وَ َ‬‫مَنا َ‬ ‫ج ْ‬ ‫ل ََر َ‬
‫ط{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬‫م ِ‬‫ن ُ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ن َرّبي ب ِ َ‬‫م ظ ِهْرِّيا إ ِ ّ‬ ‫موه ُ وََراَءك ُ ْ‬ ‫خذ ْت ُ ُ‬‫َوات ّ َ‬
‫]ثم لما رأى عتوهم قال ‪[:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫ذا ٌ‬ ‫ن ي َأِتيهِ عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ف ت َعْل ُ‬ ‫سو ْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫م ٌ‬‫عا ِ‬ ‫م إ ِّني َ‬ ‫ُ‬
‫كان َت ِك ْ‬‫م َ‬ ‫مُلوا عََلى َ‬ ‫} وََيا قَوْم ِ اعْ َ‬
‫َ‬
‫جي َْنا ُ‬
‫شعَي ًْبا‬ ‫مُرَنا ن َ ّ‬ ‫جاَء أ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ب {} وَل َ ّ‬ ‫م َرِقي ٌ‬ ‫معَك ُ ْ‬‫قُبوا إ ِّني َ‬ ‫ب َواْرت َ ِ‬ ‫كاذِ ٌ‬ ‫ن هُوَ َ‬ ‫م ْ‬‫زيهِ وَ َ‬ ‫خ ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫مّنا { ]هود ‪. [94 - 91 :‬‬ ‫مةٍ ِ‬ ‫ح َ‬
‫ه ب َِر ْ‬ ‫معَ ُ‬ ‫مُنوا َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫َوال ِ‬
‫ظ { ]هود ‪. [58 :‬‬ ‫ٍ ِ ٍ‬ ‫لي‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫} وَ َ ّ ْ َ ُ ْ ِ ْ َ‬
‫ع‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫ج‬ ‫ن‬
‫فأرسل الله عليهم حرا أخذ بأنفاسهم حتى كادوا يختنقون من شدته ‪ ،‬ثم في‬
‫أثناء ذلك أرسل سحابة باردة فأظلتهم ‪ ،‬فتنادوا إلى ظلها غير الظليل ‪ ،‬فلما‬
‫اجتمعوا فيها التهبت عليهم نارا ‪ ،‬فأحرقتهم وأصبحوا خامدين معذبين‬
‫مذمومين ملعونين في جميع الوقات ‪.‬‬
‫* وفي قصة شعيب فوائد متعددة ‪:‬‬

‫) ‪(1/387‬‬

‫منها ‪ :‬أن بخس المكاييل والموازين خصوصا ‪ ،‬وبخس الناس أشياءهم عموما‬
‫من أعظم الجرائم الموجبة لعقوبات الدنيا والخرة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن المعصية الواقعة لمن عدم منه الداعي والحاجة إليها أعظم ‪،‬‬
‫ولهذا كان الزنا من الشيخ أقبح من الشباب ‪ ،‬والكبر من الفقير أقبح من‬
‫الغني ‪ ،‬والسرقة ممن ليس بمحتاج أعظم من وقوعها من المحتاج ؛ لهذا‬
‫قال شعيب لقومه ‪:‬‬
‫َ‬
‫خي ْرٍ { ]هود ‪. [84 :‬‬ ‫} إ ِّني أَراك ُ ْ‬
‫م بِ َ‬
‫أي ‪ :‬بنعم كثيرة ‪ ،‬فأي أمر أحوجكم إلى الهلع إلى ما بأيدي الناس بطرق‬
‫محرمة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬قوله ‪:‬‬
‫م { ]هود ‪. [86 :‬‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬
‫ة الل ّهِ َ‬‫قي ّ ُ‬
‫} بَ ِ‬
‫فيه الحث على الرضا بما أعطى الله ‪ ،‬والكتفاء بحلله عن حرامه ‪ ،‬وقصر‬
‫النظر على الموجود عندك من غير تطلع إلى ما عند الناس ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬فيه دللة على أن الصلة سبب لفعل الخيرات ‪ ،‬وترك المنكرات ‪،‬‬
‫ك‬‫صَلت ُ َ‬ ‫َ‬
‫وللنصيحة لعباد الله ‪ ،‬وقد علم ذلك الكفار بما قالوا لشعيب ‪ } :‬أ َ‬
‫شاُء إن ّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫تأ ْمر َ َ‬
‫م‬ ‫ت ال ْ َ‬
‫حِلي ُ‬ ‫ك َلن ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ما ن َ َ‬
‫وال َِنا َ‬
‫م َ‬ ‫فعَ َ‬
‫ل ِفي أ ْ‬ ‫ما ي َعْب ُد ُ آَباؤَُنا أوْ أ ْ‬
‫ن نَ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ن ن َت ُْر َ‬
‫كأ ْ‬ ‫َ ُ ُ‬
‫شيد ُ { ‪ ،‬وقال تعالى ‪:‬‬ ‫الّر ِ‬

‫) ‪(1/388‬‬

‫شاِء َوال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ { ]العنكبوت ‪. [45 :‬‬ ‫ح َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ف ْ‬ ‫ن ال ّ َ‬
‫صلة َ ت َن َْهى عَ ِ‬ ‫} إِ ّ‬
‫ومن هنا تعرف حكمة الله ورحمته في أنه فرض علينا الصلوات ‪ ،‬تتكرر في‬
‫اليوم والليلة لعظم وقعها ‪ ،‬وشدة نفعها ‪ ،‬وجميل آثارها ‪ ،‬فلّله على ذلك أتم‬
‫الحمد ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن العبد في حركات بدنه وتصرفاته ‪ ،‬وفي معاملته المالية ‪ ،‬داخل‬
‫تحت حجر الشريعة ‪ ،‬فما أبيح له منها فعله ‪ ،‬وما منعه الشرع تعين عليه‬
‫تركه ‪ ،‬ومن يزعم أنه في ماله حر له أن يفعل ما يشاء من معاملت طيبة‬
‫وخبيثة ‪ ،‬فهو بمنزلة من يرى أن عمل بدنه كذلك ‪ ،‬وأنه ل فرق عنده بين‬
‫الكفر واليمان ‪ ،‬والصدق والكذب ‪ ،‬وفعل الخير والشر ‪ ،‬الكل مباح ‪ ،‬ومن‬
‫المعلوم أن هذا هو مذهب الباحيين الذين هم شر الخليقة ‪ ،‬ومذهب قوم‬
‫شعيب يشبه هذا ؛ لنهم أنكروا على شعيب لما نهاهم عن المعاملت‬
‫الظالمة ‪ ،‬وأباح لهم سواها ‪ ،‬فردوا عليه أنهم أحرار في أموالهم ‪ ،‬لهم أن‬
‫يفعلوا فيها ما يريدون ‪ ،‬ونظير هذا قول من قال ‪ :‬إنما البيع مثل الربا ‪ ،‬فمن‬
‫وى بين ما أباحه وبين ما حرمه الله فقد انحرف في فطرته وعقله بعدما‬ ‫س ّ‬
‫انحرف في دينه ‪.‬‬

‫) ‪(1/389‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الناصح للخلق الذي يأمرهم وينهاهم من تمام قبول الناس له ‪ :‬أنه‬
‫إذا أمرهم بشيء أن يكون أول الفاعلين له ‪ ،‬وإذا نهاهم عن شيء كان أول‬
‫َ‬ ‫ن أُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه{‪.‬‬ ‫م عَن ْ ُ‬ ‫ما أن َْهاك ُ ْ‬ ‫م إ َِلى َ‬ ‫فك ُ ْ‬‫خال ِ َ‬ ‫ما أِريد ُ أ ْ‬‫التاركين ؛ لقول شعيب ‪ } :‬وَ َ‬
‫ومنها ‪ :‬أن النبياء جميعهم ُبعثوا بالصلح والصلح ‪ ،‬ونهوا عن الشرور‬
‫والفساد ‪ ،‬فكل صلح وإصلح ديني ودنيوي فهو من دين النبياء ‪ ،‬وخصوصا‬
‫إمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬فإنه أبدا وأعاد في هذا الصل‬
‫‪ ،‬ووضع للخلق الصول النافعة التي يجرون عليها في المور العادية والدنيوية‬
‫‪ ،‬كما وضع لهم الصول في المور الدينية ‪ ،‬وأنه كما أن على العبد السعي‬
‫والجتهاد في فعل الصلح والصلح ‪ ،‬فعليه أن يستمد العون من ربه على‬
‫ذلك ‪ ،‬وأن يعلم أنه ل يقدر على ذلك ‪ ،‬ول على تكميله إل بالله ؛ لقول شعيب‬
‫‪}:‬إ ُ‬
‫ت وَإ ِل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫قي إ ِّل ِبالل ّهِ عَل َي ْهِ ت َوَك ّل ْ ُ‬ ‫ما ت َوِْفي ِ‬‫ت وَ َ‬‫ست َط َعْ ُ‬
‫ما ا ْ‬ ‫صَل َ‬
‫ح َ‬ ‫ن أِريد ُ إ ِّل اْل ِ ْ‬
‫ِ ْ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أِني ُ‬

‫) ‪(1/390‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الداعي إلى الله يحتاج إلى الحلم وحسن الخلق ومقابلة المسيئين‬
‫بأقوالهم وأفعالهم بضد ذلك ‪ ،‬وأن ل ُيحبطه أذى الخلق ول يصده عن شيء‬
‫من دعوته ‪ ،‬وهذا الخلق كماله للرسل صلوات الله عليهم وسلم ‪ ،‬فانظر إلى‬
‫شعيب عليه السلم ‪ ،‬وحسن خلقه مع قومه ‪ ،‬ودعوته لهم بكل طريق وهم‬
‫يسمعونه القوال السيئة ‪ ،‬ويقابلونه المقابلة الفعلية ‪ ،‬وهو صلى الله عليه‬
‫وسلم يحلم عليهم ويصفح ‪ ،‬ويتكلم معهم كلم من لم يصدر منهم له وفي‬
‫خل ُقٌ من ظفر به وحازه فقد فاز‬ ‫حقه إل الحسان ‪ ،‬ويهون هذا المر أن هذا ُ‬
‫بالحظ العظيم ‪ ،‬وأن لصاحبه عند الله المقامات العالية والنعيم المقيم ‪،‬‬
‫ويهونه أنه يعالج أمما قد طبعوا على أخلق إزالتها وقلعها أصعب من قلع‬
‫الجبال الرواسي ‪ ،‬ومرنوا على عقائد ومذاهب بذلوا فيها الموال والرواح ‪،‬‬
‫وقدموها على جميع المهمات عندهم ‪ ،‬أفتظن مع هذا أن أمثال هؤلء‬
‫يقتنعون بمجرد القول بأن هذه مذاهب باطلة وأقوال فاسدة ‪ ،‬أم تحسبهم‬
‫يغتفرون لمن نالها بسوء ؟ ‪ . .‬كل والله ‪ ،‬إن هؤلء يحتاجون إلى معالجات‬
‫متنوعة بالطرق التي دعت إليها الرسل ‪ ،‬يذكرون بنعم الله ‪ ،‬وأن الذي تفرد‬
‫بالنعم يتعين أن يفرد بالعبادة ‪ ،‬ويذكر لهم من‬

‫) ‪(1/391‬‬

‫تفاصيل النعم ما ل يعد ول يحصى ‪ ،‬ويذكرون بما في مذاهبهم من الزيغ‬


‫والفساد والضطراب ‪ ،‬والتناقض المزلزل للعقائد ‪ ،‬الداعي إلى تركها ‪،‬‬
‫ويذكرون بما بين أيديهم وما خلفهم من أيام الله ووقائعه بالمم المكذبة‬
‫للرسل ‪ ،‬المنكرة للتوحيد ‪ ،‬ويذكرون بما في اليمان بالله وتوحيده ودينه من‬
‫المحاسن والمصالح والمنافع الدينية والدنيوية ‪ ،‬الجاذبة للقلوب ‪ ،‬المسهلة‬
‫لكل مطلوب ‪ ،‬ومع هذا كله فيحتاج الخلق إلى الحسان إليهم ‪ ،‬وبذل‬
‫المعروف ‪ ،‬وأقل ذلك الصبر على أذاهم ‪ ،‬وتحمل ما يصدر منهم ‪ ،‬ولين‬
‫الكلم معهم ‪ ،‬وسلوك كل سبيل حكمة معهم ‪ ،‬والتنقل معهم في المور‬
‫بالكتفاء ببعض ما تسمح به أنفسهم ليستدرج بهم إلى تكميله ‪ ،‬والبداءة‬
‫بالهم فالهم ‪ ،‬وأعظمهم قياما بهذه المور وغيرها سيدهم وخاتمهم وإمام‬
‫الخلق على الطلق ‪ :‬محمد صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬

‫) ‪(1/392‬‬

‫قصة موسى وهارون عليهما السلم‬


‫قد ذكر الله لموسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلم سيرة‬
‫طويلة ‪ ،‬وساق قصصه في مواضع من كتابه بأساليب متنوعة واختصار أو‬
‫بسط يليق بذلك المقام ‪ ،‬وليس في قصص القرآن أعظم من قصة موسى ؛‬
‫لنه عالج فرعون وجنوده ‪ ،‬وعالج بني إسرائيل أشد المعالجة ‪ ،‬وهو أعظم‬
‫أنبياء بني إسرائيل ‪ ،‬وشريعته وكتابه التوراة هو مرجع أنبياء بني إسرائيل‬
‫وعلمائهم وأتباعه أكثر أتباع النبياء غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وله‬
‫من القوة العظيمة في إقامة دين الله والدعوة إليه والغيرة العظيمة ما ليس‬
‫لغيره ‪ ،‬وقد ولد في وقت قد اشتد فيه فرعون على بني إسرائيل ‪ :‬فكان‬
‫يذبح كل مولود ذكر يولد من بني إسرائيل ‪ ،‬ويستحيي النساء للخدمة‬
‫والمتهان ‪ ،‬فلما ولدته أمه خافت عليه خوفا شديدا ؛ فإن فرعون جعل على‬
‫بني إسرائيل من يرقب نساءهم ومواليدهم ‪ ،‬وكان بيتها على ضفة نهر النيل‬
‫فألهمها الله أن وضعت له تابوتا إذا خافت أحدا ألقته في اليم ‪ ،‬وربطته بحبل‬
‫لئل تجري به جرية الماء ‪ ،‬ومن لطف الله بها أنه أوحى لها أن ل تخافي ول‬
‫تحزني ‪ ،‬إنا رادوه إليك ‪ ،‬وجاعلوه من المرسلين ‪.‬‬

‫) ‪(1/393‬‬

‫فلما ألقته ذات يوم انفلت رباط التابوت ‪ ،‬فذهب الماء بالتابوت الذي في‬
‫وسطه موسى ‪ ،‬ومن قدر الله أن وقع في يد آل فرعون ‪ ،‬وجيء به إلى‬
‫امرأة فرعون آسية ‪ ،‬فلما رأته أحبته حبا شديدا ‪ ،‬وكان الله قد ألقى عليه‬
‫المحبة في القلوب ‪ ،‬وشاع الخبر ووصل إلى فرعون ‪ ،‬فطلبه ليقتله ‪ ،‬فقالت‬
‫امرأته ‪ :‬ل تقتلوه ‪ . .‬قرة عين لي ولك ‪ ،‬عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ‪ ،‬فنجا‬
‫بهذا السبب من قتلهم ‪ ،‬وكان هذا الثر الطيب والمقدمة الصالحة من السعي‬
‫المشكور عند الله ‪ ،‬فكان هذا من أسباب هدايتها وإيمانها بموسى بعد ذلك ‪.‬‬

‫) ‪(1/394‬‬

‫أما أم موسى فإنها فزعت ‪ ،‬وأصبح فؤادها فارغا ‪ ،‬وكاد الصبر أن يغلب فيها ‪،‬‬
‫إن كادت لتبدي به لول أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ‪ ،‬وقالت‬
‫لخته ‪ :‬قصيه وتحسسي عنه ‪ ،‬وكانت امرأة فرعون قد عرضت عليه‬
‫المراضع فلم يقبل ثدي امرأة ‪ ،‬وعطش وجعل يتلوى من الجوع ‪ ،‬وأخرجوه‬
‫إلى الطريق ؛ لعل الله أن ييسر له أحدا ‪ ،‬فحانت من أخته نظرة إليه ‪،‬‬
‫وبصرت به عن جنب وهم ل يشعرون بشأنها ‪ ،‬فلما أقبلت عليه وفهمت منهم‬
‫أنهم يطلبون له مرضعا قالت لهم ‪ :‬هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم‬
‫وهم له ناصحون ‪ ،‬فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ول تحزن ‪ ،‬ثم ذكر الله في‬
‫هذه السورة قصة مفصلة واضحة ‪ ،‬وكيف تنقلت به الحوال ‪ ،‬قراءتها كافية‬
‫صل لنا إل ما ننتفع به‬
‫عن شرح معناها لوضوحها وتفصيلتها ‪ ،‬والله تعالى ما ف ّ‬
‫ونعتبر ‪ ،‬ولكن في قصته من العبر والفوائد شيء كثير ننبه على بعضها ‪.‬‬
‫* ذكر الفوائد المستنبطة نصا أو ظاهرا أو تعميما أو تعليل من قصة موسى‬
‫صلى الله عليه وسلم ‪:‬‬

‫) ‪(1/395‬‬

‫منها ‪ :‬لطف الله بأم موسى بذلك اللهام الذي به سلم ابنها ‪ ،‬ثم تلك البشارة‬
‫من الله لها برده إليها ‪ ،‬التي لولها لقضى عليها الحزن على ولدها ‪ ،‬ثم رده‬
‫إليها بإلجائه إليها قدرا بتحريم المراضع عليه ‪ ،‬وبذلك وغيره يعلم أن ألطاف‬
‫الله على أوليائه ل تتصورها العقول ‪ ،‬ول تعبر عنها العبارات ‪ ،‬وتأمل موقع‬
‫هذه البشارة ‪ ،‬وأنه أتاها ابنها ترضعه جهرا ‪ ،‬وتأخذ عليه أجرا ‪ ،‬وتسمى أمه‬
‫شرعا وقدرا ‪ ،‬وبذلك اطمأن قلبها ‪ ،‬وازداد إيمانها ‪ ،‬وفي هذا مصداق لقوله‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫م { ]البقرة ‪. [216 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫هوا َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫خي ٌْر لك ْ‬
‫شي ْئا وَهُوَ َ‬ ‫ن ت َكَر ُ‬
‫سى أ ْ‬
‫} وَعَ َ‬
‫فل أكره لم موسى من وقوع ابنها بيد آل فرعون ‪ ،‬ومع ذلك ظهرت عواقبه‬
‫الحميدة ‪ ،‬وآثاره الطيبة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن آيات الله وعبره في المم السابقة إنما يستفيد منها ‪ ،‬ويستنير بها‬
‫المؤمنون ‪ ،‬والله يسوق القصص لجلهم ‪ ،‬كما قال تعالى في هذه القصة ‪:‬‬
‫ن { ]القصص ‪. [3 :‬‬ ‫قوْم ٍ ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫حق ّ ل ِ َ‬ ‫سى وَفِْرعَوْ َ‬
‫مو َ‬‫ن ن َب َإ ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫} ن َت ُْلوا عَل َي ْ َ‬
‫ك ِ‬
‫ومنها ‪ :‬أن الله إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ‪ ،‬وأتى به شيئا فشيئا بالتدريج ل دفعة‬
‫واحدة ‪.‬‬

‫) ‪(1/396‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن المة المستضعفة ‪ ،‬ولو بلغت في الضعف ما بلغت ‪ ،‬ل ينبغي أن‬
‫يستولي عليها الكسل عن السعي في حقوقها ‪ ،‬ول اليأس من الرتقاء إلى‬
‫أعلى المور ‪ ،‬خصوصا إذا كانوا مظلومين ‪ ،‬كما استنقذ الله بني إسرائيل‬
‫على ضعفها واستبعادها لفرعون وملئه منهم ‪ ،‬ومكنهم في الرض ‪ ،‬وملكهم‬
‫بلدهم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن المة ما دامت ذليلة مقهورة ل تطالب بحقها ل يقوم لها أمر دينها‬
‫كما ل يقوم لها أمر دنياها ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الخوف الطبيعي من الخلق ل ينافي اليمان ول يزيله ‪ ،‬كما جرى‬
‫لم موسى ولموسى من تلك المخاوف ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن اليمان يزيد وينقص لقوله ‪:‬‬
‫ن { ]القصص ‪. [10 :‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫} ل ِت َ ُ‬
‫كو َ‬
‫والمراد باليمان هنا زيادته وزيادة طمأنينته ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من أعظم نعم الله على العبد تثبيت الله له عند المقلقات‬
‫والمخاوف ‪ ،‬فإنه كما يزداد به إيمانه وثوابه فإنه يتمكن من القول الصواب‬
‫والفعل الصواب ‪ ،‬ويبقى رأيه وأفكاره ثابتة ‪ ،‬وأما من لم يحصل له هذا‬
‫الثبات ‪ ،‬فإنه لقلقه وروعه يضيع فكره ‪ ،‬ويذهل عقله ‪ ،‬ول ينتفع بنفسه في‬
‫تلك الحال ‪.‬‬

‫) ‪(1/397‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن العبد وإن عرف أن القضاء والقدر حق ‪ ،‬وأن وعد الله نافذ ل بد‬
‫منه ‪ ،‬فإنه ل يهمل فعل السباب التي تنفع ‪ ،‬فإن السباب والسعي فيها من‬
‫قدر الله ‪ ،‬فإن الله قد وعد أم موسى أن يرده عليها ‪ ،‬ومع ذلك لما التقطه‬
‫آل فرعون سعت بالسباب ‪ ،‬وأرسلت أخته لتقصه ‪ ،‬وتعمل السباب‬
‫المناسبة لتلك الحال ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬جواز خروج المرأة في حوائجها وتكليمها للرجال إذا انتفى المحذور ‪،‬‬
‫كما صنعت أخت موسى وابنتا صاحب مدين ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬جواز أخذ الجرة على الكفالة والرضاع ‪ ،‬كما فعلت أم موسى ‪ ،‬فإن‬
‫شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد من شرعنا ما ينسخه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف ل يجوز ‪ ،‬فإن موسى ندم‬
‫على قتله القبطي ‪ ،‬واستغفر الله منه وتاب إليه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين المفسدين في‬
‫الرض ‪ ،‬ولو كان غرضه من ذلك الرهاب ‪ ،‬ولو زعم أنه مصلح حتى يرد‬
‫الشرع بما يبيح قتل النفس ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن إخبار الغير بما قيل فيه وعنه على وجه التحذير له من شر يقع به‬
‫ل يكون نميمة ‪ ،‬بل قد يكون واجبا ‪ ،‬كما ساق الله خبر ذلك الرجل الذي جاء‬
‫ذرا لموسى على وجه الثناء عليه ‪.‬‬‫من أقصى المدينة يسعى مح ّ‬

‫) ‪(1/398‬‬

‫ومنها ‪ :‬إذا خاف التلف بالقتل بغير حق في إقامته في موضع ‪ ،‬فل يلقي بيده‬
‫إلى التهلكة ويستسلم للهلك ‪ ،‬بل يفّر من ذلك الموضع مع القدرة كما فعل‬
‫موسى ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬إذا كان ل بد من ارتكاب إحدى مفسدتين تعين ارتكاب الخف منهما ‪،‬‬
‫السلم دفعا لما هو أعظم وأخطر ‪ ،‬فإن موسى لما دار المر بين بقائه في‬
‫مصر ولكنه يقتل ‪ ،‬أو ذهابه إلى بعض البلدان البعيدة التي ل يعرف الطريق‬
‫إليها ‪ ،‬وليس معه دليل يدله غير هداية ربه ‪ ،‬ومعلوم أنها أرجى للسلمة ‪ ،‬ل‬
‫جرم آثرها موسى ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬فيه تنبيه لطيف على أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى العمل أو‬
‫التكلم به ‪ ،‬إذا لم يترجح عنده أحد القولين ‪ ،‬فإنه يستهدي ربه ‪ ،‬ويسأله أن‬
‫يهديه إلى الصواب من القولين بعد أن يقصد الحق بقلبه ويبحث عنه ‪ ،‬فإن‬
‫الله ل يخيب من هذه حاله ‪ ،‬كما جرى لموسى لما قصد تلقاء مدين ول يدري‬
‫الطريق المعين إليها قال ‪:‬‬
‫ل { ]القصص ‪. [22 :‬‬ ‫َ‬
‫سِبي ِ‬
‫واَء ال ّ‬
‫س َ‬
‫ن ي َهْدِي َِني َ‬
‫سى َرّبي أ ْ‬‫} عَ َ‬
‫وقد هداه الله وأعطاه ما رجاه وتمناه ‪.‬‬

‫) ‪(1/399‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الرحمة والحسان على الخلق ‪ ،‬من عرفه العبد ومن ل يعرفه ‪،‬‬
‫من أخلق النبياء ‪ ،‬وأن من جملة الحسان العانة على سقي الماشية ‪،‬‬
‫وخصوصا إعانة العاجز ‪ ،‬كما فعل موسى مع ابنتي صاحب مدين حين سقى‬
‫لهما لما رآهما عاجزتين عن سقي ماشيتهما قبل صدور الرعاة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الله كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته ‪ ،‬ونعمه‬
‫العامة والخاصة ‪ ،‬فإنه يحب منه أن يتوسل إليه بضعفه وعجزه وفقره ‪،‬‬
‫وعدم قدرته على تحصيل مصالحه ‪ ،‬ودفع الضرار عن نفسه كما قال موسى‬
‫‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫خي ْرٍ فَ ِ‬
‫قيٌر { ]القصص ‪. [24 :‬‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ي ِ‬
‫ت إ ِل ّ‬
‫ما أن َْزل َ‬
‫ب إ ِّني ل ِ َ‬
‫} َر ّ‬
‫لما في ذلك من إظهار التضرع والمسكنة ‪ ،‬والفتقار لله الذي هو حقيقة كل‬
‫عبد ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الحياء والمكافأة على الحسان لم يزل دأب المم الصالحين ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن العبد إذا عمل العمل لله خالصا ‪ ،‬ثم حصل به مكافأة عليه بغير‬
‫قصده فإنه ل يلم على ذلك ‪ ،‬ول يخل بإخلصه وأجره ‪ ،‬كما قبل موسى‬
‫مكافأة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يطلبه ‪ ،‬ولم يستشرف له على‬
‫معاوضة ‪.‬‬
‫) ‪(1/400‬‬

‫ومنها ‪ :‬جواز الجارة على كل عمل معلوم في نفع معلوم أو زمن مسمى ‪،‬‬
‫وأن مرد ذلك إلى العرف ‪ ،‬وأنه تجوز الجارة وتكون المنفعة البضع ‪ ،‬كما‬
‫قال صاحب مدين ‪:‬‬
‫ن { ]القصص ‪. [27 :‬‬ ‫َ‬ ‫} إني أ ُريد أ َ ُ‬
‫هات َي ْ ِ‬
‫ي َ‬ ‫دى اب ْن َت َ ّ‬ ‫ح َ‬
‫حك إ ِ ْ‬ ‫ن أن ْك ِ َ‬
‫ِ ُ ْ‬ ‫ِّ‬
‫وأنه يجوز للنسان أن يخطب الرجل لبنته ‪ ،‬ونحوها ممن هو ولي عليها ول‬
‫نقص في ذلك ‪ ،‬بل قد يكون نفعا وكمال ‪ ،‬كما فعل صاحب مدين مع‬
‫موسى ‪.‬‬
‫ومنها قوله ‪:‬‬
‫ْ‬
‫ن { ]القصص ‪. [26 :‬‬ ‫مي ُ‬ ‫قوِيّ اْل َ ِ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫جْر َ‬ ‫ست َأ َ‬‫نا ْ‬ ‫م ِ‬‫خي َْر َ‬
‫ن َ‬
‫} إِ ّ‬
‫هذان الوصفان بهما تمام العمال كلها ‪ ،‬فكل عمل من الوليات أو من‬
‫الخدمات أو من الصناعات ‪ ،‬أو من العمال التي القصد منها الحفظ‬
‫والمراقبة على العمال والعمال إذا جمع النسان الوصفين ‪ ،‬أن يكون قويا‬
‫على ذلك العمل بحسب أحوال العمال ‪ ،‬وأن يكون مؤتمنا عليه ‪ ،‬تم ذلك‬
‫العمل وحصل مقصوده وثمرته ‪ ،‬والخلل والنقص سببه الخلل بهما أو‬
‫بأحدهما ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬من أعظم مكارم الخلق تحسين الخلق مع كل من يتصل بك من‬
‫خادم وأجير وزوجة وولد ومعامل وغيرهم ‪ ،‬ومن ذلك تخفيف العمل عن‬
‫العامل لقوله ‪:‬‬

‫) ‪(1/401‬‬

‫ن { ]القصص ‪:‬‬ ‫حي َ‬


‫صال ِ ِ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ن َ‬‫جد ُِني إ ِ ْ‬
‫ست َ ِ‬
‫ك َ‬‫شقّ عَل َي ْ َ‬ ‫ن أَ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما أِريد ُ أ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫‪. [27‬‬
‫وفيه أنه ل بأس أن يرغب المعامل في معاملته بالمعاوضات والجارات بأن‬
‫يصف نفسه بحسن المعاملة بشرط أن يكون صادقا في ذلك ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬جواز عقد المعاملت من إجارة وغيرها بغير إشهاد لقوله ‪:‬‬
‫ل { ]القصص ‪. [28 :‬‬ ‫كي ٌ‬
‫ل وَ ِ‬ ‫قو ُ‬‫ما ن َ ُ‬‫ه عََلى َ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫وتقدم أن الشهاد تنحفظ به الحقوق ‪ ،‬وتقل المنازعات ‪ ،‬والناس في هذا‬
‫الموضع درجات متفاوتة وكذلك الحقوق ‪.‬‬

‫) ‪(1/402‬‬

‫ومنها ‪ :‬اليات البينات التي أّيد الله بها موسى من انقلب عصاه التي كان‬
‫يعرفها ‪:‬‬
‫سَعى { ]طه ‪. [20 :‬‬‫ة تَ ْ‬
‫حي ّ ٌ‬
‫} َ‬
‫ثم عودها سيرتها الولى ‪ ،‬وأن يده إذا أدخلها في جيبه ثم أخرجها صارت‬
‫بيضاء من غير سوء للناظرين ‪ ،‬ومن رحمة الله وحمايته لموسى وهارون من‬
‫فرعون وملئه ‪ ،‬ومن انفلق البحر لما ضربه موسى بعصاه فصار اثني عشر‬
‫طريقا ‪ ،‬وسلكه هؤلء فنجوا ‪ ،‬وقوم فرعون فهلكوا ‪ ،‬وغير ذلك من اليات‬
‫المتتابعات التي هي براهين وآيات لمن رآها وشاهدها ‪ ،‬وبراهين لمن‬
‫سمعها ‪ ،‬فإنها نقلتها معظم مصادر اليقين الكتب السماوية ‪ ،‬ونقلتها القرون‬
‫كلها ‪ ،‬ولم ينكر مثل هذه اليات إل جاهل مكابر زنديق ‪ ،‬وجميع آيات النبياء‬
‫بهذه المثابة ‪.‬‬

‫) ‪(1/403‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن آيات النبياء ‪ ،‬وكرامات الولياء ‪ ،‬وما يخرقه الله من اليات ‪ ،‬ومن‬
‫تغيير السباب ‪ ،‬أو منع سببيتها ‪ ،‬أو احتياجها إلى أسباب أخر ‪ ،‬أو وجود موانع‬
‫تعوقها هي من البراهين العظيمة على وحدانية الله ‪ ،‬وأنه على كل شيء‬
‫قدير ‪ ،‬وأن أقدار الله ل يخرج عنها حادث جليل ول حقير ‪ ،‬وأن هذه‬
‫المعجزات والكرامات والتغييرات ل تنافي ما جعل الله في هذه المخلوقات‬
‫من السباب المحسوسة والنظامات المعهودة ‪ ،‬وإنك ل تجد لسنة الله تبديل‬
‫ول تحويل ; فإن سنن الله في جميع الحوادث السابقة واللحقة قسمان ‪:‬‬

‫) ‪(1/404‬‬

‫أحدهما ‪ :‬وهو جمهور الحوادث والكائنات والحكام الشرعية والقدرية وأحكام‬


‫الجزاء ‪ :‬ل تتغير ول تتبدل عما يعهده الناس ويعرفون أسبابه ‪ ،‬وهذا القسم‬
‫أيضا مندرج في قدرة الله وقضائه ‪ ،‬ويستفاد من هذا العلم بكمال حكمة الله‬
‫في خلقه وشرعه ‪ ،‬وأن السباب والمسببات من سلك طرقها على وجه‬
‫كامل أفضت به إلى نتائجها وثمراتها ‪ ،‬ومن لم يسلكها أو سلكها على وجه‬
‫ناقص يحصل له الثمرات التي رتبت على العمال شرعا ول قدرا ‪ ،‬وهذه‬
‫توجب للعبد أن يجد ويجتهد في السباب الدينية والدنيوية النافعة مع استعانته‬
‫بالله ‪ ،‬والثناء على ربه في تيسيرها وتيسير أسبابها وآلتها ‪ ،‬وكل ما تتوقف‬
‫عليه ‪.‬‬

‫) ‪(1/405‬‬

‫والقسم الثاني ‪ :‬حوادث معجزات النبياء التي تواترت تواترا ل يتواتر مثله‬
‫في جميع الخبار ‪ ،‬وتناقلتها القرون كلها ‪ ،‬وكذلك ما يكرم الله به عباده من‬
‫إجابة الدعوات ‪ ،‬وتفريج الكربات ‪ ،‬وحصول المطالب المتنوعة ‪ ،‬ودفع‬
‫المكاره التي ل قدرة للعبد على دفعها ‪ ،‬والفتوحات الربانية ‪ ،‬واللهامات‬
‫اللهية ‪ ،‬والنوار التي يقذفها الله في قلوب خواص خلقه ‪ ،‬فيحصل لهم بذلك‬
‫من اليقين والطمأنينة والعلوم المتنوعة ما ل يدرك بمجرد الطلب وفعل‬
‫السبب ‪ ،‬ومن نصره للرسل وأتباعهم ‪ ،‬وخذلنه لعدائهم وهو مشاهد في‬
‫كثير من الوقات ‪ :‬فهذا القسم ليس عند الخلق اهتداء إلى أسباب هذه‬
‫الحوادث ‪ ،‬ول جعل لهم في الصل وصول إلى حقيقتها وكنهها ‪ ،‬وإنما هي‬
‫حوادث قدرها الرب العظيم الذي هو على كل شيء قدير بأسباب وحكم‬
‫وسنن ل يعقلها الخلق ‪ ،‬ول لحواسهم وتجاربهم وصول إليها بوجه من‬
‫الوجوه ‪ ،‬وبها آمن الرسل من أولهم إلى آخرهم ‪ ،‬وأتباعهم الولون منهم‬
‫والخرون ‪ ،‬وبها يعرف عظمة الباري ‪ ،‬وأن نواصي العباد بيده ‪ ،‬وأنه ما شاء‬
‫الله كان وما لم يشأ لم يكن ‪ ،‬ويعرف بذلك صحة ما جاءت به الرسل ‪ ،‬كما‬
‫يعرف أيضا بالقسم الول ‪ ،‬وكما أنه ل سبيل إلى العباد في هذه‬

‫) ‪(1/406‬‬

‫الدار إلى إدراك كنه صفات اليوم الخر ‪ ،‬وكنه ما في الجنة والنار ‪ ،‬وإنما‬
‫يعلمون منها ما علمتهم به الرسل ‪ ،‬ونزلت به الكتب ‪ ،‬ول سبيل إلى أهل هذا‬
‫الكون الرضي للوصول إلى العالم السماوي ‪ ،‬ول سبيل لهم إلى إحياء‬
‫الموتى وإيجاد الرواح في الجمادات ‪ ،‬فكذلك هذا النوع العظيم من حوادث‬
‫الكون ‪ ،‬وإنما أطلنا الكلم على هذه المسألة ‪ ،‬وإن كانت تستحق من البسط‬
‫أكثر من هذا ؛ لمرين ‪:‬‬

‫) ‪(1/407‬‬

‫* الول ‪ :‬أن الزنادقة المتأخرين الذين أنكروا وجود الباري ‪ ،‬وأنكروا جميع ما‬
‫أخبرت به الرسل والكتب السماوية من أمور الغيب ‪ ،‬ولم يثبتوا من العلوم‬
‫إل ما وصلت إليه حواسهم وتجاربهم القاصرة على بعض علوم الكون ‪،‬‬
‫وأنكروا ما سوى ذلك ‪ ،‬وزعموا أن هذا العالم وهذا النظام الموجود فيه ل‬
‫يمكن أن يغيره مغير ‪ ،‬أو يغير شيئا من أسبابه ‪ ،‬وأنه وجد صدفة من غير‬
‫إيجاد موجد ‪ ،‬وأنه آلة تمشي بنفسها وطبيعتها ‪ ،‬ليس لها مدبر ول رب ول‬
‫خالق ‪ ،‬وهؤلء جميع أهل الديان يعرفون مكابرتهم ومباهتتهم ؛ لنهم كما‬
‫عدموا الدين بالكلية فقد اختلت عقولهم الحقيقة ‪ ،‬إذ أنكروا أجلى الحقائق‬
‫وأوضحها ‪ ،‬وأعظمها براهين وآيات ‪ ،‬وتاهوا بعقولهم القاصرة وآرائهم‬
‫الفاسدة ‪ ،‬هؤلء أمرهم معلوم ولكن ‪.‬‬

‫) ‪(1/408‬‬

‫* المر الثاني ‪ :‬أن بعض أهل العلم العصريين الذين يتظاهرون بنصر‬
‫السلم ‪ ،‬والدخول مع هؤلء الزنادقة في الجدال عنه يريدون باجتهادهم أو‬
‫اغترارهم أن يطبقوا السنن اللهية وأمور الخرة على ما يعرفه العباد‬
‫بحواسهم ‪ ،‬ويدركونه بتجاربهم ‪ ،‬فحرفوا لذلك المعجزات ‪ ،‬وأنكروا اليات‬
‫البينات ‪ ،‬ولم يستفيدوا إل الضرر على أنفسهم ‪ ،‬وعلى من قرأ كتاباتهم في‬
‫هذه المباحث ؛ إذ ضعف إيمانهم بالله بتحريفهم لمعجزات النبياء تحريفا‬
‫يؤول إلى إنكارها ‪ ،‬وإنكارهم هذا النوع العظيم من قضاء الله وقدره ‪،‬‬
‫وضعف إيمان من وقف على كلمهم ممن ليست له بصيرة ‪ ،‬ول عنده من‬
‫العلوم الدينية ما يبطل هذا النوع ‪ ،‬ولم يحصل ما زعموه من جلب الماديين‬
‫إلى الهدى والدين ‪ ،‬بل زادوهم إغراء في مذاهبهم ‪ ،‬لما رأوا أمثال هؤلء‬
‫يحاولون إرجاع النصوص الدينية ‪ ،‬ومعجزات النبياء ‪ ،‬وأمور الغيب إلى علوم‬
‫هؤلء القاصرة على التجارب المدركات بالحواس ‪ ،‬فيا عظم المصيبة ‪ ،‬ويا‬
‫شدة الجرم المزوق ‪ ،‬ولكن ضعف البصيرة والعجاب بزنادقة الدهريين‬
‫أوجب الخضوع لقوالهم ‪ ،‬فل حول ول قوة إل بالله ‪.‬‬
‫) ‪(1/409‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن من أعظم العقوبات على العبد أن يكون إماما في الشر وداعيا‬
‫إليه ‪ ،‬كما أن من أعظم نعم الله على العبد أن يجعله إماما في الخير هاديا‬
‫مَلئه ‪:‬‬ ‫مهديا ‪ ،‬قال تعالى في فرعون وَ َ‬
‫ن إ َِلى الّنارِ { ]القصص ‪. [41 :‬‬ ‫} وجعل ْناهُ َ‬
‫عو َ‬ ‫ة ي َد ْ ُ‬ ‫م ً‬
‫م أئ ِ ّ‬ ‫َ َ َ َ ْ‬
‫مرَِنا { ]النبياء ‪. [73 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن ب ِأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ة ي َهْ ُ‬‫م ً‬‫م أئ ِ ّ‬ ‫جعَلَناهُ ْ‬ ‫وقال ‪ } :‬وَ َ‬
‫ومنها ‪ :‬ما في هذه القصة من الدللة على رسالة محمد صلى الله عليه‬
‫صل مطابقا وتأصيل موافقا ‪ ،‬قصه‬ ‫وسلم إذ أخبر بهذه القصة وغيرها خبرا مف ّ‬
‫صا صدق به المرسلين ‪ ،‬وأيد به الحق المبين ‪ ،‬وهو لم يحضر في شيء من‬ ‫ق ّ‬
‫تلك المواضع ‪ ،‬ول درس شيئا عرف به أحوال هذه التفصيلت ‪ ،‬ول جالس‬
‫وأخذ عن أحد من أهل العلم ‪ ،‬إن هو إل رسالة الرحمن الرحيم ‪ ،‬ووحي أنزله‬
‫عليه الكريم المنان ينذر به العباد أجمعين ‪ ،‬ولهذا يقول في آخر هذه القصة ‪:‬‬
‫طورِ { ]القصص ‪. [46 :‬‬ ‫ب ال ّ‬ ‫جان ِ ِ‬ ‫ت بِ َ‬ ‫ما ك ُن ْ َ‬‫} وَ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مَر { ]القصص ‪. [44 :‬‬ ‫سى ال ْ‬‫مو َ‬‫ضي َْنا إ ِلى ُ‬‫ي إ ِذ ْ قَ َ‬ ‫ب الغَْرب ِ ّ‬ ‫جان ِ ِ‬ ‫ت بِ َ‬ ‫ما ك ُن ْ َ‬‫} وَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن { ]القصص ‪. [45 :‬‬ ‫مد ْي َ َ‬‫ل َ‬ ‫ت َثاوًِيا ِفي أهْ ِ‬ ‫ما كن ْ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫وهذا نوع من أنواع براهين رسالته ‪.‬‬

‫) ‪(1/410‬‬

‫ومنها ‪ :‬ذكر كثير من أهل العلم أنه يستفاد من قوله تعالى عن جواب موسى‬
‫لربه لما سأله عن العصا فقال ‪:‬‬
‫َ‬
‫ش ب َِها عَلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مين ِ َ‬ ‫ما ت ِل ْ َ‬
‫صايَ أت َوَكأ عَلي َْها وَأهُ ّ‬ ‫ي عَ َ‬‫سى {} قال هِ َ‬ ‫مو َ‬
‫ك يا ُ‬ ‫ك ب ِي َ ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫مي { ]طه ‪. [18 - 17 :‬‬ ‫غَن َ ِ‬
‫ب استصحاب العصا لما فيه من هذه المنافع المعينة والمجملة في‬ ‫استحبا ُ‬
‫خَرى { ]طه ‪. [18 :‬‬ ‫ُ‬
‫بأ ْ‬ ‫مآرِ ُ‬ ‫قوله ‪َ } :‬‬
‫وأنه يستفاد منها أيضا الرحمة بالبهائم ‪ ،‬والحسان إليها ‪ ،‬والسعي في إزالة‬
‫َ‬
‫ري { ]طه ‪ [14 :‬أي‬ ‫صَلة َ ل ِذِك ْ ِ‬ ‫ل ذكره ‪ } :‬وَأقِم ِ ال ّ‬ ‫ضررها ‪ ،‬ومنها ‪ :‬أن قوله ج ّ‬
‫خلق له العبد ‪ ،‬وبه صلحه وفلحه ‪ ،‬وأن المقصود‬ ‫أن ذكر العبد لربه هو الذي ُ‬
‫من إقامة الصلة إقامة هذا المقصود العظم ‪ ،‬ولول الصلة التي تتكرر على‬
‫كرهم بالله ‪ ،‬ويتعاهدون فيها قراءة القرآن ‪،‬‬ ‫المؤمنين في اليوم والليلة لتذ ّ‬
‫والثناء على الله ‪ ،‬ودعائه والخضوع له الذي هو روح الذكر ‪ ،‬لول هذه النعمة‬
‫لكانوا من الغافلين ‪.‬‬

‫) ‪(1/411‬‬

‫وكما أن الذكر هو الذي خلق الخلق لجله ‪ ،‬والعبادات كلها ذكر لله ‪ ،‬فكذلك‬
‫قت ‪ ،‬ويهون عليه الوقوف بين‬ ‫الذكر يعين العبد على القيام بالطاعات وإن َ‬
‫ش ّ‬
‫يدي الجبابرة ‪ ،‬ويخفف عليه الدعوة إلى الله ‪ ،‬قال تعالى في هذه القصة ‪:‬‬
‫ك ك َِثيًرا { ]طه ‪ 33 :‬و ‪. [34‬‬ ‫ك ك َِثيًرا {} وَن َذ ْك َُر َ‬‫ح َ‬ ‫سب ّ َ‬ ‫} كَ ْ‬
‫ي نُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ري { ]طه ‪. [42 :‬‬ ‫ك ِبآَياِتي وَل ت َن َِيا ِفي ذِك ْ ِ‬ ‫خو َ‬ ‫ت وَأ ُ‬ ‫وقال ‪ } :‬اذ ْهَ ْ‬
‫ب أن ْ َ‬
‫ومنها ‪ :‬إحسان موسى صلى الله عليه وسلم على أخيه هارون ‪ ،‬إذ طلب من‬
‫ربه أن يكون نبيا معه ‪ ،‬وطلب المعاونة على الخير والمساعدة عليه إذ قال ‪:‬‬
‫شرِك ْ ُ‬
‫ه‬ ‫شد ُد ْ ب ِهِ أ َْزِري {} وَأ َ ْ‬ ‫ن أَ ِ‬
‫خي {} ا ْ‬ ‫ن أ َهِْلي {} َ‬
‫هاُرو َ‬ ‫م ْ‬ ‫جعَ ْ‬
‫ل ِلي وَِزيًرا ِ‬ ‫} َوا ْ‬
‫ري { ]طه ‪. [32 - 29 :‬‬ ‫َ‬
‫م ِ‬
‫ِفي أ ْ‬
‫ومنها ‪ :‬أن الفصاحة والبيان مما يعين على التعليم ‪ ،‬وعلى إقامة الدعوة ‪،‬‬
‫لهذا طلب موسى من ربه أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله ‪ ،‬وأن اللثغة‬
‫ل عيب فيها إذا حصل الفهم للكلم ‪ ،‬ومن كمال أدب موسى مع ربه أنه لم‬
‫يسأل زوال اللثغة كلها ‪ ،‬بل سأل إزالة ما يحصل به المقصود ‪.‬‬

‫) ‪(1/412‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الذي ينبغي في مخاطبة الملوك والرؤساء ودعوتهم وموعظتهم ‪:‬‬
‫الرفق والكلم اللين الذي يحصل به الفهام بل تشويش ول غلظة ‪ ،‬وهذا‬
‫يحتاج إليه في كل مقام ‪ ،‬لكن هذا أهم المواضع ؛ وذلك لنه الذي يحصل به‬
‫الغرض المقصود ‪ ،‬وهو قوله ‪:‬‬
‫شى { ]طه ‪. [44 :‬‬ ‫خ َ‬ ‫ه ي َت َذ َك ُّر أ َوْ ي َ ْ‬‫} ل َعَل ّ ُ‬
‫ومنها ‪ :‬أن من كان في طاعة الله ‪ ،‬مستعينا بالله ‪ ،‬واثقا بوعد الله ‪ ،‬راجيا‬
‫ثواب الله ‪ ،‬فإن الله معه ‪ ،‬ومن كان الله معه فل خوف عليه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪:‬‬
‫معُ وَأ ََرى { ]طه ‪. [46 :‬‬
‫س َ‬
‫خاَفا { ]ثم علله بقوله[ } إنِني معك ُ َ‬
‫ما أ ْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِّ‬ ‫ل َل ت َ َ‬ ‫} َقا َ‬
‫معََنا { ]التوبة ‪. [40 :‬‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫حَز ْ‬ ‫حب ِهِ َل ت َ ْ‬‫صا ِ‬‫ل لِ َ‬ ‫قو ُ‬‫وقال تعالى ‪ } :‬إ ِذ ْ ي َ ُ‬
‫ومنها ‪ :‬أن أسباب العذاب منحصرة في هذين الوصفين ‪:‬‬
‫ب وَت َوَّلى { ]طه ‪. [48 :‬‬ ‫َ‬ ‫} إ ِّنا قَد ْ ُأو ِ‬
‫ن ك َذ ّ َ‬‫م ْ‬ ‫ب عََلى َ‬ ‫ذا َ‬‫ن ال ْعَ َ‬
‫ي إ ِل َي َْنا أ ّ‬ ‫ح َ‬
‫أي ‪ :‬كذب خبر الله وخبر رسله ‪ ،‬وتولى عن طاعة الله وطاعة رسله ‪،‬‬
‫ونظيرها قوله تعالى ‪:‬‬
‫ب وَت َوَلى { ]الليل ‪ 15 :‬و ‪. [16‬‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫ذي كذ ّ َ‬ ‫ّ‬
‫قى {} ال ِ‬ ‫ها إ ِّل اْل َ ْ‬
‫ش َ‬ ‫صَل َ‬ ‫} َل ي َ ْ‬

‫) ‪(1/413‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن قوله تعالى ‪:‬‬


‫دى { ]طه ‪. [82 :‬‬ ‫م اهْت َ َ‬ ‫ُ‬
‫حا ث ّ‬
‫صال ِ ً‬ ‫َ‬
‫مل َ‬‫ن وَعَ ِ‬
‫م َ‬
‫ب َوآ َ‬ ‫ن َتا َ‬
‫م ْ‬ ‫} وَإ ِّني ل َغَ ّ‬
‫فاٌر ل ِ َ‬
‫استوعب الله بها السباب التي تدرك بها مغفرة الله ‪.‬‬
‫* أحدها ‪ :‬التوبة ‪ ،‬وهو الرجوع عما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه الله‬
‫ب ما قبلها من الذنوب صغارها وكبارها ‪.‬‬ ‫ج ّ‬ ‫ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وهي ت َ ُ‬
‫* الثاني ‪ :‬اليمان ‪ ،‬وهو القرار والتصديق الجازم العام بكل ما أخبر الله به‬
‫ورسوله ‪ ،‬الموجب لعمال القلوب ‪ ،‬ثم تتبعها أعمال الجوارح ‪ ،‬ول ريب أن‬
‫ما في القلب من اليمان بالله وكتبه ورسله واليوم الخر الذي ل ريب فيه‬
‫ل الطاعات وأكبرها وأساسها ‪ ،‬ول ريب أنه بحسب قوته يدفع السيئات ‪،‬‬ ‫أص ُ‬
‫يدفع ما لم يقع فيمنع صاحبه من وقوعه ‪ ،‬ويدفع ما وقع بالتيان بما ينافيه‬
‫وعدم إصرار القلب عليه ‪ ،‬فإن المؤمن ما في قلبه من اليمان ونوره ل‬
‫يجامع المعاصي ‪.‬‬
‫* الثالث ‪ :‬العمل الصالح ‪ ،‬وهذا شامل لعمال القلوب ‪ ،‬وأعمال الجوارح ‪،‬‬
‫وأقوال اللسان ‪ ،‬والحسنات يذهبن السيئات ‪.‬‬

‫) ‪(1/414‬‬
‫* الرابع ‪ :‬الستمرار على اليمان والهداية والزدياد منها ‪ ،‬فمن كمل هذه‬
‫السباب الربعة فَل ْي ُْبشر بمغفرة الله العامة الشاملة ؛ ولهذا أتى فيه بوصف‬
‫فاٌر { ‪ ،‬ولنكتف من قصة موسى بهذه الفوائد ‪ ،‬مع‬ ‫المبالغة فقال ‪ } :‬وَإ ِّني ل َغَ ّ‬
‫أن فيها فوائد كثيرة للمتأملين ‪.‬‬

‫) ‪(1/415‬‬

‫قصة يونس صلى الله عليه وسلم‬


‫وهو من أنبياء بني إسرائيل العظام ‪ ،‬بعثه الله إلى أهل نينوى ‪ -‬من أرض‬
‫الموصل ‪ -‬فدعاهم إلى الله تعالى فأبوا عليه ‪ ،‬ثم كرر عليهم الدعوة فأبوا ‪،‬‬
‫فوعدهم العذاب وخرج من بين أظهرهم ‪ ،‬ولم يصبر الصبر الذي ينبغي ‪،‬‬
‫ولكنه أ َب َقَ مغاضبا لهم ‪ ،‬وهم لما ذهب نبيهم ألقي في قلوبهم التوبة إلى الله‬
‫والنابة بعدما شاهدوا مقدمات العذاب ‪ ،‬فكشف الله عنهم العذاب ‪.‬‬
‫والظاهر أن يونس علم انكشاف العذاب عنهم ‪ ،‬واستمر في ذهابه عنهم ‪،‬‬
‫ولهذا قال تعالى ‪:‬‬
‫ضًبا { ]النبياء ‪. [87 :‬‬ ‫ن إ ِذ ْ ذ َهَ َ ُ َ ِ‬
‫غا‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫} وََذا الّنو ِ‬
‫َ‬
‫ن { ]الصافات ‪. [140 :‬‬ ‫حو ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫م ْ‬
‫ش ُ‬ ‫فل ْ ِ‬
‫وقال تعالى ‪ } :‬إ ِذ ْ أب َقَ إ َِلى ال ْ ُ‬
‫فركب في سفينة موقرة من الركاب والحمال ‪ ،‬فلما توسطوا البحر شارفت‬
‫على الغرق ‪ ،‬ودار المر بين أن يبقوا جميعا فيها فيهلكوا ‪ ،‬وبين أن يلقوا‬
‫بعضهم بمقدار ما تخف السفينة فيسلم الباقون ‪ ،‬فاختاروا الخير لعدلهم‬
‫وتوفيقهم ‪ ،‬فاقترعوا فأصابت القرعة أناسا منهم ‪ ،‬ومنهم يونس صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫ن { ]الصافات ‪. [141 :‬‬ ‫ضي َ‬ ‫ح ِ‬
‫مد ْ َ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫م فَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ساهَ َ‬‫} فَ َ‬

‫) ‪(1/416‬‬

‫أي ‪ :‬المغلوبين في القرعة ‪ ،‬فألقوا فابتلعه حوت في البحر ابتلعا ‪ ،‬لم يكسر‬
‫له عظما ‪ ،‬ولم يمضغ له لحما ‪.‬‬
‫فلما صار في جوف الحوت في تلك الظلمات نادى ‪:‬‬
‫ن ال ّ‬ ‫َ‬
‫ن { ]النبياء ‪. [87 :‬‬
‫مي َ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك إ ِّني ك ُن ْ ُ‬
‫ت ِ‬ ‫حان َ َ‬
‫سب ْ َ‬
‫ت ُ‬ ‫ه إ ِّل أن ْ َ‬
‫} َل إ ِل َ َ‬
‫فأمر الله الحوت أن تلقيه بالعراء ‪ ،‬فخرج من بطنها كالفرخ الممعوط من‬
‫البيضة في غاية الضعف والوهن ‪ ،‬فلطف الله به ‪ ،‬وأنبت عليه شجرة من‬
‫يقطين ‪ ،‬فأظلته بظلها الظليل حتى قوي واشتد ‪ ،‬وأمره الله أن يرجع إلى‬
‫قومه فيعلمهم ويدعوهم ‪ ،‬فاستجاب له أهل بلده مائة ألف أو يزيدون ‪،‬‬
‫فآمنوا فمتعناهم إلى حين ‪.‬‬
‫وفي هذه القصة عتاب الله ليونس صلى الله عليه وسلم اللطيف ‪ ،‬وحبسه‬
‫في بطن الحوت ؛ ليكون كفارة وآية عظيمة وكرامة ليونس ‪ ،‬ومن نعمة الله‬
‫عليه أنه استجاب له هذا العدد الكثير من قومه ‪ ،‬فكثرة أتباع النبياء من‬
‫جملة فضائلهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/417‬‬
‫وفيها استعمال القرعة عند الشتباه في مسائل الستحقاق والحرمان إذا لم‬
‫يكن مرجح سواها ‪ ،‬وفي عمل أهل السفينة هذا العمل دليل على القاعدة‬
‫المشهورة أنه يرتكب أخف الضررين لدفع الضرر الذي هو أكبر منه ‪ ،‬ول ريب‬
‫أن إلقاء بعضهم وإن كان فيه ضرر ‪ ،‬فعطب الجميع إذا لم يلق أحد أعظم ‪.‬‬
‫وفيها أن العبد إذا كانت له مقدمة خاصة مع ربه وقد تعرف إلى ربه في حال‬
‫الرخاء ‪ ،‬أن الله يشكر له ذلك ‪ ،‬ويعرفه في حال الشدة بكشفها بالكلية أو‬
‫تخفيفها ‪ ،‬ولهذا قال في قصة يونس ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن {} ل َل َب ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫ث ِفي ب َطن ِهِ إ ِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ‬ ‫حي َ‬‫سب ّ ِ‬
‫م َ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫} فَل َوَْل أن ّ ُ‬
‫]الصافات ‪ 143 :‬و ‪. [144‬‬
‫وفيها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬دعوة أخي ذي النون ما دعا بها‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫ك إ ِّني ك ُن ْ ُ‬
‫حان َ َ‬ ‫سب ْ َ‬
‫ت ُ‬‫ه إ ِّل أن ْ َ‬ ‫مكروب إل فرج الله عنه ‪َ } :‬ل إ ِل َ َ‬
‫ن {« ‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬
‫وفيها أن اليمان ينجي من الهوال والشدائد لقوله تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]النبياء ‪. [88 :‬‬ ‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬‫جي ال ْ ُ‬ ‫ك ن ُن ْ ِ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫أي ‪ :‬إذا وقعوا فيها ليمانهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/418‬‬

‫قصة داود وسليمان عليهما الصلة والسلم‬


‫وكانا من أعظم أنبياء بني إسرائيل ‪ ،‬وجمع الله لهما بين النبوة والحكمة‬
‫والملك العظيم القوي ‪ ،‬أما داود صلى الله عليه وسلم فكان من جملة‬
‫العسكر الذين مع طالوت الذي اختاره أحد أنبياء بني إسرائيل ملكا على بني‬
‫إسرائيل لشجاعته وقوته وعلمه في السياسة ونظام الجيوش ‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫سم ِ { ]البقرة ‪. [247 :‬‬ ‫ج ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ة ِفي العِلم ِ َوال ِ‬ ‫َ‬
‫سط ً‬ ‫} وََزاد َه ُ ب َ ْ‬
‫ولما برزوا لجالوت وجنوده ‪ ،‬وصبر عسكر طالوت ‪ ،‬واستعانوا بالله تفوق‬
‫داود صلى الله عليه وسلم على الجميع بالشجاعة العظيمة ‪ ،‬فباشر بنفسه‬
‫قتل ملكهم جالوت ‪ ،‬وحصلت الهزيمة على بقيتهم ‪ ،‬ونصر الله بني إسرائيل‬
‫ذلك النصر ‪ :‬نّبأ الله داود وأعطاه الحكمة والملك القوي ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ب { ]ص ‪. [20 :‬‬ ‫خ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ل ال ْ ِ‬ ‫ة وَفَ ْ‬
‫ص َ‬ ‫م َ‬‫حك ْ َ‬‫ه َوآت َي َْناه ُ ال ْ ِ‬ ‫مل ْك َ ُ‬
‫شد َد َْنا ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫وكان قد أعطاه الله قوة في العبادة وبصيرة ‪ ،‬ووصفه الله بهذين الوصفين‬
‫اللذين بهما كمال العبد فقال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ب { ]ص ‪. [17 :‬‬ ‫ن َواذ ْك ُْر عَب ْد ََنا َداوُد َ َذا اْلي ْد ِ إ ِن ّ ُ‬
‫ه أّوا ٌ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ما ي َ ُ‬‫صب ِْر عََلى َ‬ ‫}ا ْ‬

‫) ‪(1/419‬‬

‫فوصفه بالقوة العظيمة على ما أمر الله ‪ ،‬وبأنه أواب لكمال معرفته بالله ‪.‬‬
‫خر له الطير والجبال تسّبح الله معه ‪ ،‬وكان قد ُأعطي‬ ‫وكان الله تعالى قد س ّ‬
‫من حسن الصوت ورخامته ما لم يؤت أحد من العالمين ‪ ،‬وكان ينام نصف‬
‫الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ‪ ،‬ويصوم يوما ويفطر يوما ‪ ،‬وكان إذا لقى‬
‫العدو رأى الخلق من شجاعته ما يعجب الناظرين ‪ ،‬وقد ألن الله له الحديد ‪،‬‬
‫وعّلمه صنعة الدروع الواقية في الحروب ‪ ،‬وهو أول من صنع الدروع السردية‬
‫ذوات الحلق التي يحصل فيها الوقاية وهي خفيفة المحمل ‪ ،‬وقد عاتبه الله‬
‫بسبب ذنب أذنبه بأن أرسل إليه ملكين بصورة خصمين ‪ ،‬فدخل عليه وهو في‬
‫محرابه ففزع منهما ; لنهما دخل عليه في وقت ل يدخل عليه فيه أحد ‪،‬‬
‫وتسورا المحراب وقال ‪:‬‬
‫شط ِ ْ‬
‫ط‬ ‫حقّ وََل ت ُ ْ‬
‫م ب َي ْن ََنا ِبال ْ َ‬
‫حك ُ ْ‬
‫ض َفا ْ‬ ‫َ‬ ‫} َل ت َ َ‬
‫ضَنا عَلى ب َعْ ٍ‬
‫ن ب ََغى ب َعْ ُ‬
‫ما ِ‬
‫ص َ‬‫خ ْ‬
‫ف َ‬
‫خ ْ‬
‫ط { ]ص ‪. [22 :‬‬ ‫صَرا ِ‬ ‫واِء ال ّ‬ ‫َواهْدَِنا إ َِلى َ‬
‫س َ‬
‫) ‪(1/420‬‬

‫ثم قص عليه أحدهما القصة فقال ‪ :‬إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ‪-‬‬
‫والمراد بها المرأة ‪ -‬ولي نعجة واحدة ‪ ،‬فقال ‪َ :‬أكفلنيها ‪ ،‬وعزني في الخطاب‬
‫‪ ،‬أي ‪ :‬صار خطابه أقوى مني فغلبني ‪ ،‬فقال داود عليه السلم ‪ :‬لقد ظلمك‬
‫بسؤال نعجتك إلى نعاجه ‪ ،‬وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض‬
‫إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ‪ ،‬وعلم داود أنه هو المراد‬
‫بهذه القضية فانتبه لذلك ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ه ذ َل ِك وَإ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫فْرَنا ل ُ‬ ‫َ‬
‫ب {} فغَ َ‬ ‫خّر َراك ًِعا وَأَنا َ‬ ‫ه وَ َ‬‫فَر َرب ّ ُ‬
‫ست َغْ َ‬‫ما فَت َّناه ُ َفا ْ‬ ‫ن َداوُد ُ أن ّ َ‬ ‫} وَظ َ ّ‬
‫ب { ]ص ‪ 24 :‬و ‪. [25‬‬ ‫مآ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫س َ‬ ‫ح ْ‬ ‫فى وَ ُ‬ ‫عن ْد ََنا ل َُزل ْ َ‬
‫ه ِ‬ ‫لَ ُ‬
‫فمحا الله عنه الذنب ‪ ،‬وعاد به بعد التوبة أحسن مما كان قبل ذلك ‪ :‬حصل‬
‫له القرب العظيم من ربه وحسن العاقبة ‪ ،‬وقال الله له ‪:‬‬
‫َْ‬
‫وى‬ ‫حقّ وََل ت َت ّب ِِع ال ْهَ َ‬ ‫س ِبال ْ َ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫ض َفا ْ‬ ‫ة ِفي الْر ِ‬ ‫ف ً‬
‫خِلي َ‬‫ك َ‬ ‫جعَل َْنا َ‬ ‫} يا َداوُد ُ إ ِّنا َ‬
‫ل اللهِ { ]ص ‪. [26 :‬‬ ‫ّ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫ضل ّ َ‬ ‫فَي ُ ِ‬

‫) ‪(1/421‬‬

‫وأما سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم فإن الله أعطاه النبوة وورث أباه‬
‫كه ‪ ،‬وزاده الله ملكا عظيما لم يحصل لحد قبله ول بعده ‪:‬‬ ‫مه ونبوته ومل َ‬ ‫‪ :‬عل َ‬
‫خر الله له الريح تجري بأمره وتدبيره برخاء ‪ ،‬أي ‪ :‬بسهولة حيث أراد ‪،‬‬ ‫س ّ‬
‫غدوها شهر ورواحها شهر ‪ ،‬وسخر الله له الجن والشياطين والعفاريت‬
‫يعملون له العمال الفخمة بحسب إرادته ‪ ،‬يعملون له ما يشاء من محاريب‬
‫وتماثيل وجفان كالجواب ‪ ،‬وقدور راسيات ‪ ،‬وتذهب وتجيء بأمره إلى حيث‬
‫أراد ‪ ،‬وسخر له من الجنود من النس والجن والطير ‪ ،‬فهم يوزعون بتدبير‬
‫عجيب ونظام غريب ‪ ،‬وعّلمه منطق الطير وسائر الحيوانات ‪ ،‬فكانت تخاطبه‬
‫ويفهم ما تكلم به ‪ ،‬ولهذا خاطب الهدهد وراجعه تلك المراجعة ‪ ،‬وسمع النملة‬
‫إذ نادت في قومها ‪:‬‬
‫م لَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جُنود ُه ُ وَهُ ْ‬
‫ن وَ ُ‬
‫ما ُ‬
‫سلي ْ َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫حط ِ َ‬ ‫ساك ِن َك ُ ْ‬
‫م ل يَ ْ‬ ‫خُلوا َ‬
‫م َ‬ ‫م ُ‬
‫ل اد ْ ُ‬ ‫} يا أي َّها الن ّ ْ‬
‫ن { ]النمل ‪. [18 :‬‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫فحذرت وأمرت بما يقي من الخطر ‪ ،‬واعتذرت عن سليمان وجنوده ; فلهذا‬
‫ابتسم سليمان ضاحكا من قولها وقال ‪:‬‬

‫) ‪(1/422‬‬
‫ك ال ِّتي أ َنعمت عَل َي وعََلى وال ِدي وأ َ َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫م َ‬
‫ن أع ْ َ‬ ‫َ َ ّ َ ْ‬ ‫ّ َ‬ ‫َْ ْ َ‬ ‫شك َُر ن ِعْ َ‬
‫مت َ َ‬ ‫ب أوْزِعِْني أ ْ‬ ‫} َر ّ‬
‫ن { ]النمل ‪. [19 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬
‫عَبادِك ال ّ‬
‫مت ِك ِفي ِ‬ ‫ح َ‬‫خلِني ب َِر ْ‬ ‫ضاه ُ وَأد ْ ِ‬ ‫حا ت َْر َ‬‫صال ِ ً‬
‫َ‬
‫ومن حسن نظامه وحزمه أنه يتفقد الجنود بنفسه ‪ ،‬مع أنه قد جعل لهم‬
‫ن { ]النمل ‪ [83 :‬دليل على ذلك ‪ ،‬حتى‬ ‫عو َ‬
‫م ُيوَز ُ‬ ‫مدبرين ‪ ،‬فإن قوله ‪ } :‬فَهُ ْ‬
‫َ‬
‫ي َل أَرى‬ ‫ما ل ِ َ‬
‫أنه تفقد الطيور لينظر هل هي لزمة لمراكزها ‪ ،‬فقال ‪َ } :‬‬
‫َ‬
‫ن { ]النمل ‪. [20 :‬‬ ‫ن ال َْغائ ِِبي َ‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْهُد ْهُد َ أ ْ‬
‫وليس المر كما يقول كثير من المفسرين أنه طلبه لينظر له الرض وبعد‬
‫مائها ‪ ،‬فإن هذا خلف اللفظ القرآني ‪ ،‬فإن الله لم يقل وطلب الهدهد ‪ ،‬بل‬
‫قد َ الط ّي َْر { ]النمل ‪. [20 :‬‬ ‫ف ّ‬‫وقال ‪ } :‬وَت َ َ‬
‫ثم توعده لمخالفته لمره ‪ ،‬ولما كان ملكه مبنيا على كمال العدل استثنى‬
‫فقال ‪:‬‬

‫) ‪(1/423‬‬

‫سل ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫شديدا أ َو َل َذ ْبحن َ‬ ‫ُ‬


‫ث غَي َْر‬ ‫مك َ َ‬
‫ن {} فَ َ‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ن ُ‬ ‫طا ٍ‬ ‫ه أوْ ل َي َأت ِي َّني ب ِ ُ‬ ‫َ َ ّ ُ‬ ‫ذاًبا َ ِ ً ْ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫} َلعَذ ّب َن ّ ُ‬
‫ح ْ‬ ‫قا َ َ‬
‫ت‬ ‫جد ْ ُ‬ ‫ن {} إ ِّني وَ َ‬ ‫قي ٍ‬ ‫سب َإ ٍ ب ِن َب َإ ٍ ي َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ك ِ‬ ‫جئ ْت ُ َ‬
‫ط ب ِهِ وَ ِ‬ ‫م تُ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬‫ت بِ َ‬ ‫حط ُ‬ ‫لأ َ‬ ‫ب َِعيد ٍ فَ َ‬
‫ُ‬ ‫ا َ‬
‫مَها‬ ‫جد ْت َُها وَقَوْ َ‬ ‫م {} وَ َ‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ش عَ ِ‬ ‫يٍء وَل ََها عَْر ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫م وَأوت ِي َ ْ‬ ‫مل ِك ُهُ ْ‬ ‫مَرأة ً ت َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ص‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫طا‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ش‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ش‬ ‫ّ‬ ‫لل‬
‫يَ ْ ُ ُ َ ِ‬
‫ن‬ ‫دو‬ ‫ج‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫َ ّ ُ ْ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ ََ ّ َ ُ ُ‬ ‫ْ ِ ِ ْ ُ ِ‬
‫ج ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫بَء ِفي ال ّ‬ ‫خ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ذي ي ُ ْ‬ ‫دوا ل ِل ّهِ ال ّ ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫س ُ‬ ‫ن {} أّل ي َ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫م َل ي َهْت َ ُ‬ ‫ل فَهُ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ش ال ْعَ ِ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ َر ّ ْ‬ ‫َ‬
‫ظيم ِ‬ ‫ب العَْر ِ‬ ‫ه َل إ ِل َ َ‬ ‫ن {} الل ّ ُ‬ ‫ما ت ُعْل ُِنو َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫ما ت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ض وَي َعْل َ ُ‬ ‫َوالْر ِ‬
‫ْ‬
‫{ ]النمل ‪. [26 - 21 :‬‬
‫ففي هذه المدة القصيرة جاء الهدهد بهذه المعلومات العظيمة ‪ ،‬أخبر‬
‫سليمان عن ملك الديار اليمانية ‪ ،‬وأن ملكتهم امرأة ‪ ،‬وأنها قد ُأعطيت من‬
‫كل شيء يحتاج الملك إليه ‪ ،‬وأن لها عرشا عظيما ‪ ،‬ومع فهمه لملكهم‬
‫وقوتهم فهم أيضا دينهم ‪ ،‬وأنهم مشركون يعبدون الشمس ‪ ،‬وأنكر الهدهد‬
‫عليهم غاية النكار ‪.‬‬

‫) ‪(1/424‬‬

‫حده ‪ ،‬وتحب‬ ‫هذا من الدلة على أن الحيوانات تعرف ربها وتسّبحه وتو ّ‬
‫المؤمنين وتدين لربها بذلك ‪ ،‬وتبغض الكفار المكذبين ‪ ،‬وتدين بذلك ‪ ،‬فقال‬
‫له سليمان ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫م ثُ ّ‬‫قهِ إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫ذا فَأل ْ ِ‬ ‫ب ب ِك َِتاِبي هَ َ‬‫ن {} اذ ْهَ ْ‬ ‫كاذِِبي َ‬‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫م ك ُن ْ َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫سن َن ْظ ُُر أ َ‬
‫صد َقْ َ‬ ‫} َ‬
‫ن { ]النمل ‪ 27 :‬و ‪. [28‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫ماَذا ي َْر ِ‬ ‫م َفان ْظ ُْر َ‬ ‫ل عَن ْهُ ْ‬ ‫ت َوَ ّ‬
‫فذهب بالكتاب فألقاه في حجر المرأة ‪ :‬ملكة سبأ ‪ ،‬فلما قرأته عظمته جدا ‪،‬‬
‫وُأرعبت منه فزعا ‪ ،‬وجمعت رؤساء قومها فقالت ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫سم ِ الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ه بِ ْ‬ ‫ن وَإ ِن ّ ُ‬‫ما َ‬‫سل َي ْ َ‬
‫ن ُ‬‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫م {} إ ِن ّ ُ‬ ‫ب كَْ ِ‬
‫ري ٌ‬ ‫ي ك َِتا ٌ‬‫ي إ ِل َ ّ‬‫ق َ‬ ‫مَل ُ إ ِّني أل ْ ِ‬ ‫} يا أي َّها ال ْ َ‬
‫َ‬
‫ن { ]النمل ‪. [31 - 29 :‬‬ ‫مي َ‬‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬‫ي وَأُتوِني ُ‬ ‫حيم ِ {} أّل ت َعُْلوا عَل َ ّ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫الّر ْ‬
‫كتاب مختصر جامع فيه المقصود كله ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫َ‬ ‫} يا أ َيها ال ْ ُ َ‬
‫ري { ]النمل ‪. [32 :‬‬ ‫مَل أفُْتوِني ِفي أ ْ‬
‫م ِ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ي ‪ ،‬وهذا من حزمها وحسن تدبيرها استعملت المشورة مع‬ ‫أي ‪ :‬أشيروا عل ّ‬
‫رؤساء قومها ‪.‬‬
‫) ‪(1/425‬‬

‫ُ ُ ْ‬ ‫ح ُ ُ ُ‬ ‫} ما ك ُنت َقاطع ً َ‬
‫س‬‫ن أولو قُوّةٍ وَأولو ب َأ ٍ‬ ‫ن {} َقاُلوا ن َ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫شهَ ُ‬ ‫حّتى ت َ ْ‬ ‫مًرا َ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ِ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن { ]النمل ‪ 32 :‬و ‪. [33‬‬ ‫ري‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫ما‬ ‫ري‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ن‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫وا‬ ‫د‬ ‫دي‬ ‫َ‬
‫ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ش ِ‬
‫أي ‪ :‬مستعدون لما تقولين حربا وسلما ‪ ،‬وأرجعنا المر إلى ما تختارين ‪ ،‬فمن‬
‫عزمها وحزمها وبعد نظرها عدلت عن الحرب ‪ ،‬واختارت السلم لكن بصورة‬
‫حازمة ‪ ،‬فقالت ‪ :‬سأهدي له هدية حاضرة ‪:‬‬
‫ن { ]النمل ‪. [35 :‬‬ ‫سُلو َ‬‫مْر َ‬ ‫جعُ ال ْ ُ‬ ‫م ي َْر ِ‬ ‫} فََناظ َِرةٌ ب ِ َ‬
‫إن كان من الملوك الذي ليس لهم هم إل الدنيا فربما أن الهدية كسرت‬
‫سورته ‪ ،‬وفّلت عزيمته ‪ ،‬وسالمنا وسالمناه من بعيد ‪ ،‬وإن كان غير ذلك بان‬
‫لنا المر ‪.‬‬
‫فأرسلت أناسا ذوي عقل وحزم وخبرة ومعرفة ‪ ،‬فلما جاءوا لسليمان بالهدية‬
‫قال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫حو َ‬
‫فَر ُ‬ ‫م ب ِهَدِي ّت ِك ُ ْ‬
‫م تَ ْ‬ ‫م بَ ْ‬
‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫ما آَتاك ُ ْ‬
‫م ّ‬‫خي ٌْر ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ما آَتان ِ َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫ما ٍ‬ ‫دون َِني ب ِ َ‬ ‫م ّ‬ ‫} أت ُ ِ‬
‫]النمل ‪. [36 :‬‬
‫فبين لهم أنه ل غرض له في الدنيا ‪ ،‬وإنما غرضه إقامة الدين ‪ ،‬ودخول عباد‬
‫الله في السلم ‪.‬‬
‫ثم وصى الرسل ‪ ،‬واستغنى بذلك عن الكتاب ‪ ،‬وقال للرسول ‪:‬‬

‫) ‪(1/426‬‬

‫ْ‬
‫م‬
‫ة وَهُ ْ‬‫من َْها أ َذِل ّ ً‬‫م ِ‬ ‫جن ّهُ ْ‬
‫خرِ َ‬‫م ب َِها وَل َن ُ ْ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬
‫جُنود ٍ َل قِب َ َ‬ ‫م بِ ُ‬ ‫م فَل َن َأت ِي َن ّهُ ْ‬‫جعْ إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫} اْر ِ‬
‫ن { ]النمل ‪. [37 :‬‬ ‫صاِغُرو َ‬‫َ‬
‫وعلم سليمان أنهم سينقادون ويسلمون ‪ ،‬فقال لهل مجلسه ‪:‬‬
‫ن أ ََنا‬ ‫ْ‬ ‫} أ َيك ُم يأ ِْتيِني بعرشها قَب َ َ‬
‫ن ال ْ ِ‬
‫ج ّ‬ ‫م َ‬
‫ت ِ‬ ‫فري ٌ‬ ‫ع ْ‬‫ل ِ‬ ‫ن {} َقا َ‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َأُتوِني ُ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َِ ْ ِ َ‬ ‫ّ ْ َ‬
‫ن { ]النمل ‪ 38 :‬و ‪[39‬‬ ‫مي‬ ‫قوي أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ني‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫م‬ ‫قا‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ل أَ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫آِتي َ‬
‫ِ ّ ِ ٌ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ِّ‬ ‫ْ َ َ ِ ْ َ ِ‬ ‫ك ب ِهِ ْ‬
‫ب‬ ‫ق‬
‫‪.‬‬
‫وسليمان بالديار الشامية ‪ ،‬وبينه وبينها مسافة شهرين ذهابا وشهرين إيابا ‪،‬‬
‫ثم قال الذي عنده علم من الكتاب ‪:‬‬
‫ك ط َْرفُ َ‬ ‫ن ي َْرت َد ّ إ ِل َي ْ َ‬ ‫ك به قَب َ َ‬ ‫َ‬
‫ك { ]النمل ‪. [40 :‬‬ ‫لأ ْ‬ ‫} أَنا آِتي َ ِ ِ ْ‬
‫ُ‬
‫يحتمل أنه كما قال أكثر المفسرين ‪ :‬إنه رجل صالح قد أعطي السم العظم‬
‫الذي إذا دعي الله به أجاب ‪ ،‬وأنه دعا الله فأتي به قبل أن يرتد إليه طرفه ‪،‬‬
‫ويحتمل أن الذي عنده علم من الكتاب عنده من السباب التي يسخرها الله‬
‫لسليمان أسباب يحصل بها تقريب المواصلت وجلب الشياء البعيدة ‪.‬‬
‫ل فهذا ملك عظيم بلحظة يحضر له هذا العرش العظيم ; ولهذا لما‬ ‫وعلى ك ُ ّ‬
‫رآه مستقرا عنده حمد الله على ذلك ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫) ‪(1/427‬‬

‫ه‬
‫س ِ‬ ‫شك ُُر ل ِن َ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫شك ََر فَإ ِن ّ َ‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫م أ َك ْ ُ‬
‫فُر وَ َ‬
‫َ‬ ‫ل َرّبي ل ِي َب ْل ُوَِني أ َأ َ ْ‬
‫شك ُُر أ ْ‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ض ِ‬ ‫م ْ‬‫ذا ِ‬ ‫} هَ َ‬
‫م { ]النمل ‪. [40 :‬‬ ‫ري ٌ‬‫ي كَ ِ‬ ‫ن َرّبي غَن ِ ّ‬ ‫فَر فَإ ِ ّ‬‫ن كَ َ‬‫م ْ‬
‫وَ َ‬
‫شَها { أي ‪ :‬غيروا فيه وزيدوا‬ ‫َ‬
‫ل ن َك ُّروا لَها عَْر َ‬ ‫ثم خاطب من حوله ‪َ } :‬قا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { ]النمل ‪. [41 :‬‬ ‫ن َل ي َهْت َ ُ‬
‫دو َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫كو ُ‬‫م تَ ُ‬
‫دي أ ْ‬ ‫وأنقصوا ‪ } ،‬ن َن ْظ ُْر أت َهْت َ ِ‬
‫ت‬
‫جاَء ْ‬ ‫ب أن يقف على الحقيقة ‪ ،‬فَل َ ّ‬
‫ما َ‬ ‫مدح له رأيها وعقلها ‪ ،‬فأح ّ‬ ‫وكان قد ُ‬
‫ك { ]النمل ‪. [42 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِقي َ‬
‫ل ‪ } :‬أهَكذا عَْرش ِ‬
‫وعرض عليها ‪ ،‬فلما رأته عرفته ‪ ،‬ورأت ما فيه من التنكير ‪ ،‬فأنكرته فقالت‬
‫َ‬
‫ه هُوَ { ]النمل ‪. [42 :‬‬ ‫مرددة للحتمالين ‪ } :‬ك َأن ّ ُ‬
‫لم تقل ‪ :‬هو ; لما فيه من التغيير ‪ ،‬ولم تنف أنه هو ; لما كانت تعرفه ‪ ،‬فأتت‬
‫بلفظ صالح للمرين ‪ ،‬فعرف سليمان رجاحة عقلها ‪.‬‬
‫ُ‬
‫ن { ]النمل ‪. [42 :‬‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬‫ن قَب ْل َِها وَك ُّنا ُ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬‫} وَأوِتيَنا ال ْعِل ْ َ‬

‫) ‪(1/428‬‬

‫إن كان هذا من كلم سليمان فمعناه إننا ُأخبرنا عن عقلها ‪ ،‬وعلمنا بذلك قبل‬
‫هذه الحالة فتحققناها لما سبرناها ‪ ،‬وإن كان الكلم كلم ملكة سبأ ‪ ،‬فإنها‬
‫ُ‬
‫م { عن ملك سليمان ‪ ،‬وأنه ملك نبوة ورسالة وقوة‬ ‫تقول ‪ } :‬وَأوِتيَنا ال ْعِل ْ َ‬
‫ن { مذعنين لما قاله سليمان‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫هائلة من قبل هذه الحالة ‪ } ،‬وَك ُّنا ُ‬
‫بعدما تحققنا أمره ‪ ،‬فكأنه قيل ‪ :‬مع عقلها هذا ورأيها السديد فكيف كانت‬
‫تعبد غير الله ؟ وكيف اجتمع العقل وعبادة من ل ينفع ول يضر ‪ ،‬وإنما يضر‬
‫من عبده ؟‬
‫حاصل الجواب قوله ‪:‬‬
‫ن { ]النمل ‪:‬‬ ‫ري َ‬ ‫ن قَوْم ٍ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫ن الل ّهِ إ ِن َّها َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫ن ُدو ِ‬
‫م ْ‬
‫ت ت َعْب ُد ُ ِ‬ ‫ما َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫ها َ‬
‫صد ّ َ‬
‫} وَ َ‬
‫‪. [43‬‬
‫أي ‪ :‬العقائد التي نشأت عليها ‪ ،‬والمذاهب الفاسدة تسيطر على عقل العاقل‬
‫‪ ،‬وتذهب لب اللبيب حتى يقيض له من السباب المباركة ما يبين له الحق ‪،‬‬
‫ويمن عليه باتباعه ‪.‬‬
‫وكان له صرح من قوارير أجرى تحته النهار ‪ ،‬فكان من ينظر إليه يظنه ماء‬
‫يجري ؛ لن الزجاج شفاف ‪ ،‬فلما قيل لها ‪ :‬ادخلي الصرح ‪ ،‬فرأته لجة‬
‫وكشفت عن ساقيها ‪ ،‬قال ‪ :‬إنه صرح ممرد من قوارير ‪ ،‬قالت ‪:‬‬

‫) ‪(1/429‬‬

‫َ‬
‫ن { ]النمل ‪:‬‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫ن ل ِل ّهِ َر ّ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫مع َ ُ‬‫ت َ‬ ‫سل َ ْ‬
‫م ُ‬ ‫سي وَأ ْ‬ ‫ف ِ‬‫ت نَ ْ‬ ‫ب إ ِّني ظ َل َ ْ‬
‫م ُ‬ ‫} َر ّ‬
‫‪. [44‬‬
‫فأسلمت لله ‪ ،‬واتبعها قومها ‪ ،‬فيقال ‪ :‬إن سليمان تزوجها ‪ ،‬فالله أعلم ‪.‬‬
‫ولما كانت الشياطين زمن سليمان قد سخرهم الله له ‪ ،‬وبّلغه أنهم‬
‫باجتماعهم بالنس يعلمونهم السحر ‪ ،‬فجمعهم وتوعدهم وأخذ كتبهم ودفنها ‪،‬‬
‫فلما توفي سليمان جاءت الشياطين للناس وقالوا ‪ :‬إن ملك سليمان مشيد‬
‫على السحر ‪ ،‬واستخرجوا الكتب التي دفنها ‪ ،‬وأشاعوا من إغوائهم للناس‬
‫أنها مأخوذة من سليمان ‪ ،‬وأن سليمان ساحر ‪ ،‬وروج ذلك طائفة من اليهود ‪،‬‬
‫فبرأ الله سليمان من هذا المر ‪ ،‬وبين أن السحر من العلوم الضارة فقال‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]البقرة ‪:‬‬‫ما ُ‬ ‫َ‬
‫سلي ْ َ‬‫فَر ُ‬ ‫َ‬
‫ما ك َ‬‫ن وَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫سلي ْ َ‬ ‫ك ُ‬ ‫ْ‬
‫مل ِ‬ ‫َ‬
‫ن عَلى ُ‬ ‫طي ُ‬
‫شَيا ِ‬ ‫ُ‬
‫ما ت َت ْلو ال ّ‬
‫} َوات ّب َُعوا َ‬
‫‪. [102‬‬
‫أي ‪ :‬بتعليم السحر والرضاء به ‪.‬‬
‫حَر { ]البقرة ‪. [102 :‬‬
‫س ْ‬
‫س ال ّ‬
‫ن الّنا َ‬
‫مو َ‬‫فُروا ي ُعَل ّ ُ‬
‫ن كَ َ‬
‫طي َ‬
‫شَيا ِ‬ ‫} وَل َك ِ ّ‬
‫ن ال ّ‬
‫وهذا من عظمة القرآن أنه يأمر الخلق باليمان بجميع الرسل ‪ ،‬ويذكرهم‬
‫بأوصافهم الجميلة وينّزههم عما قاله الناس فيهم مما ينافي رسالتهم ‪.‬‬

‫) ‪(1/430‬‬

‫وكان الله قد ابتلى سليمان ‪ ،‬وألقى على كرسّيه جسدا ‪ ،‬أي ‪ :‬شيطانا عتابا‬
‫له على بعض الهفوات ‪ ،‬وإرجاعا له إلى كمال الخضوع لربه ‪ ،‬ولهذا قال‬
‫ب { ]ص ‪. [34 :‬‬ ‫تعالى ‪ } :‬ث ُ َ‬
‫م أَنا َ‬ ‫ّ‬
‫إلى الله بقلبه ولسانه وبدنه بظاهره وباطنه فقال ‪:‬‬
‫ت ال ْوَ ّ‬ ‫كا َل ينبِغي ِل َحد من بعدي إن َ َ‬ ‫مل ْ ً‬
‫ب{‬ ‫ها ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫َ ٍ ِ ْ َ ْ ِ ِّ‬ ‫ََْ‬ ‫ب ِلي ُ‬ ‫فْر ِلي وَهَ ْ‬ ‫ب اغ ْ ِ‬‫} َر ّ‬
‫]ص ‪. [35 :‬‬
‫فاستجاب الله له دعاءه وأعطاه ما طلبه من مغفرة الذنب ‪ ،‬وأعطاه جميع‬
‫ما طلب كما تقدم ‪.‬‬
‫وقد أثنى الله على داود وسليمان بالعلم والحكم ‪ ،‬وخص سليمان بزيادة‬
‫الفهم فقال ‪:‬‬
‫قوْم ِ {‬ ‫م ال ْ َ‬‫ت ِفيهِ غَن َ ُ‬ ‫ف َ‬
‫ش ْ‬ ‫ث إ ِذ ْ ن َ َ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬
‫حْر ِ‬ ‫ما ِ‬‫حك ُ َ‬
‫ن إ ِذ ْ ي َ ْ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫} وََداوُد َ وَ ُ‬
‫]النبياء ‪. [78 :‬‬

‫) ‪(1/431‬‬

‫أي ‪ :‬دخلت الغنم بستانهم ليل فرعت زرعه وأشجاره ‪ ،‬فحكم داود بحسب‬
‫اجتهاده وتقديره أن الغنم تكون لصاحب الحرث ؛ لظنه أن الذي تلف من‬
‫الحرث يقابل قيمتها ‪ ،‬ثم رفعت القضية إلى سليمان ‪ ،‬فحكم على صاحب‬
‫الغنم أن يقوم على حرث صاحب البستان بالسقي والتعمير والملحظة حتى‬
‫يعود كما كان قبل نفشها ‪ ،‬ويدفع له صاحب الغنم الغنم ينتفع بدرها ولبنها‬
‫ودهنها وصوفها ومغلها مقابل ما كان بصدد أن ينتفع بحرثه في هذه المدة ‪،‬‬
‫فكان هذا الحكم من سليمان أقرب إلى الصواب ‪ ،‬وأنفع لصاحب الغنم‬
‫والحرث ‪ ،‬فلهذا قال تعالى ‪:‬‬
‫عل ًْ‬
‫ما { ]النبياء ‪. [79 :‬‬ ‫ن وَك ُّل آت َي ْ َ ُ ً َ ِ‬
‫و‬ ‫ما‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫نا‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫ها ُ‬
‫مَنا َ‬ ‫} فَ َ‬
‫فهّ ْ‬

‫) ‪(1/432‬‬

‫ونظير هذه القضية حكم داود وسليمان بين المرأتين اللتين خرجتا ومع كل‬
‫واحدة ابنها ‪ ،‬فعدا الذئب على ابن الكبرى ‪ ،‬فادعت الكبرى على الصغرى أن‬
‫الذئب أكل ابن الصغرى ‪ ،‬وأن الذي سلم من الذئب ابنها ‪ ،‬والمرأة الصغرى‬
‫نكرت وقالت ‪ :‬بل الذئب أكل ابن الكبرى فتحاكما إلى داود ‪ ،‬فلم ير لكل‬
‫منهما بّينة إل قولها ‪ ،‬رأى أن يحكم به للكبرى اجتهادا ورحمة بها لكبرها ‪ ،‬وأن‬
‫الصغرى في مستقبل عمرها سيرزقها الله ولدا بدله ‪ ،‬ثم رفعت القضية إلى‬
‫سليمان فقال لهما ‪ :‬ائتوني بالسكين أشقه بينكما ‪ ،‬فرضيت الكبرى ‪ ،‬وقالت‬
‫الصغرى ‪ :‬لما دار المر بين تلفه أو بقائه بيد غيرها وهو أهون المرين عليها ‪:‬‬
‫هو ابنها يا نبي الله ‪ ،‬فعلم سليمان بهذا المر الطبيعي الذي هو من أقوى‬
‫البينات أنه ليس ابنا للكبرى لكونها رضيت بشقه وإتلفه ‪ ،‬وأن دعواها على‬
‫الخرى إنما حملها عليه الحسد ‪ ،‬وأنه ابن الصغرى حين فزعت من شقه إلى‬
‫التنازل عن دعواها ‪ ،‬فقضى به سليمان للصغرى ‪ ،‬ول ريب أن استخراج‬
‫الصواب في القضايا بالبينات والقرائن وشواهد الحوال من الفهم الذي يخص‬
‫الله به من يشاء ‪.‬‬
‫فصل‬
‫في بعض الفوائد المستنبطة من قصة داود وسليمان عليهما السلم‬

‫) ‪(1/433‬‬

‫فمنها ‪ :‬أن الله يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أخبار من قبله‬
‫لتثبيت فؤاده وتطمين نفسه ‪ ،‬ويذكر له من عباداتهم ‪ ،‬وشدة صبرهم وإنابتهم‬
‫ما يشوق إلى منافستهم ‪ ،‬والتقرب إلى الله الذي تنافسوا في قربه والصبر‬
‫على أذى قومه ‪ ،‬ولهذا ذكر تعالى في أول سورة ) ص ( ما قاله المكذبون‬
‫لمحمد صلى الله عليه وسلم وما آذوه به ‪ ،‬قال بعدها ‪:‬‬
‫قوُلون واذ ْك ُر عَبدنا داود َذا اْل َيد إن َ‬
‫ب { ]ص ‪. [17 :‬‬ ‫هأ ّ ٌ‬
‫وا‬ ‫ْ ِ ِّ ُ‬ ‫ْ ْ ََ َ ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫صب ِْر عََلى َ‬
‫ما ي َ ُ‬ ‫}ا ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ب { مدح عظيم من الله لهذين الوصفين ‪:‬‬ ‫ومنها ‪ :‬أن قوله ‪َ } :‬ذا اْلي ْد ِ إ ِن ّ ُ‬
‫ه أّوا ٌ‬
‫قوة القلب والبدن على طاعة الله والنابة ‪ ،‬باطنا وظاهرا ‪ ،‬إلى الله‬
‫المستلزمة لمحبته وكمال معرفته ‪ ،‬وأن هذين الوصفين للنبياء على وجه‬
‫الكمال ‪ ،‬ولمن بعدهم من أتباعهم على حسب اتباعهم ‪ ،‬والثناء من الله‬
‫عليهما يقتضي الحث على جميع السباب التي تعين على القوة والنابة ‪ ،‬وأن‬
‫ضراء ‪ ،‬وفي جميع الحوال ‪.‬‬ ‫سراء وال ّ‬ ‫جاعا إلى الله في حال ال ّ‬ ‫يكون العبد ر ّ‬

‫) ‪(1/434‬‬

‫ومنها ‪ :‬ما أكرم الله به نبيه داود صلى الله عليه وسلم من حسن الصوت‬
‫ورخامته ‪ ،‬وأن الجبال والطيور تسبح الله معه وتجاوبه ‪ ،‬وذلك من زيادة‬
‫درجاته ومقاماته العالية ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من أكبر نعم الله على عبده أن يرزقه العلم النافع ‪ ،‬ويعرف‬
‫الحكم بين الناس في المقالت والمذاهب ‪ ،‬وفي الخصومات والمشاحنات‬
‫ب{‪.‬‬ ‫خ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ل ال ْ ِ‬ ‫ة وَفَ ْ‬
‫ص َ‬ ‫م َ‬ ‫كما قال تعالى ‪َ } :‬وآت َي َْناهُ ال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬
‫ومنها ‪ :‬كمال اعتناء المولى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الهفوات‬
‫بفتنة إياهم ‪ ،‬وابتلئهم بما يزول عنهم المحذور حتى يعودوا أكمل من أحوالهم‬
‫الولى ‪ ،‬كما جرى لداود وسليمان ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن النبياء معصومون فيما يبلغون عن الله ‪ ،‬فإن الله أمر بطاعتهم‬
‫مطلقا ‪ ،‬ومقصود الرسالة ل يحصل إل بذلك ‪ ،‬وقد يجري منهم أحيانا بعض‬
‫مقتضيات الطبيعة من المخالفات ‪ ،‬ولكن الله تعالى يبادرهم بلطفه ‪،‬‬
‫ويتداركهم بالتوبة والنابة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن داود في أغلب أوقاته ملزما محرابه لخدمة ربه ‪ ،‬وله وقت يجلس‬
‫فيه لحوائج الخلق ‪ ،‬فقد أتم القيام بحق الله وحق عباده ‪.‬‬

‫) ‪(1/435‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي استعمال الدب في الدخول على الناس ‪ ،‬خصوصا الحكام‬
‫والرؤساء ; فإن الخصمين لما دخل على داود في حالة غير معتادة ‪ ،‬ومن غير‬
‫الباب فزع منهم ‪ ،‬واشتد عليه ذلك ‪ ،‬ورآه غير لئق بالحال ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ل يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم ‪ ،‬وفعله ما ل‬
‫ينبغي ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬كمال حلم داود ; فإنه ما غضب منهما حين جاءاه بغير استئذان ‪ ،‬ول‬
‫انتهرهما ول وبخهما ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬جواز قول المظلوم لمن ظلمه أنت ظلمتني ‪ ،‬أو ‪ :‬يا ظالم ونحوه ‪ ،‬أو‬
‫ض{‪.‬‬ ‫َ‬
‫ضَنا عَلى ب َعْ ٍ‬‫ن ب ََغى ب َعْ ُ‬
‫ما ِ‬
‫ص َ‬‫خ ْ‬‫‪ :‬يا باغي لقوله ‪َ } :‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن المنصوح ولو كان كبير القدر كثير العلم عليه أن ل يغضب ول‬
‫يشمئز ‪ ،‬بل يبادر بقبول النصيحة والشكر لمن نصحه ‪ ،‬ويحمد الله إذ قيض له‬
‫حك ُ ْ‬
‫م‬ ‫النصيحة على يد الناصح ‪ ،‬فإن داود لم يشمئز من قول الخصمين ‪َ } :‬فا ْ‬
‫ط { بل حكم بالحق الصرف ‪.‬‬ ‫صَرا ِ‬‫واِء ال ّ‬
‫س َ‬‫ط َواهْدَِنا إ َِلى َ‬‫شط ِ ْ‬‫حقّ وََل ت ُ ْ‬
‫ب َي ْن ََنا ِبال ْ َ‬

‫) ‪(1/436‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن المخالطة بين القارب والصحاب والمعاملين وكثرة التعلقات‬


‫الدنيوية المالية موجبة للتعادي ‪ ،‬وبغي بعضهم على بعض ‪ ،‬وأنه ل يرد عن‬
‫هذا الداء العضال إل التقوى والصبر باليمان والعمل الصالح ‪ ،‬وأن هذا من‬
‫أقل شيء في الناس ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬إكرام الله لداود وسليمان بالزلفى عنده وحسن المآب ‪ ،‬فل يتوهم‬
‫أحد أن ما جرى منهما منقص لدرجتهما عند الله ‪ ،‬وهذا من تمام لطفه بعباده‬
‫المخلصين ‪ ،‬وأنه إذا غفر لهم وأزال عنهم أثر الذنوب ‪ ،‬أزال الثار المترتبة‬
‫عليها حتى ما يقع في قلوب الخلق ‪ ،‬وما ذلك على فضل الكريم بعزيز ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن مرتبة الحكم بين الناس مرتبة دينية تولها رسل الله وخواص‬
‫خلقه ‪ ،‬وأن على القائم بها الحكم بالحق ‪ ،‬وأن ل يتبع الهوى ; فالحكم بالحق‬
‫يقتضي العلم بالمور الشرعية ‪ ،‬والعلم بصورة القضية المحكوم بها ‪ ،‬وكيفية‬
‫إدخالها في الحكام الشرعية الكلية ‪ ،‬فالجاهل بواحد من هذه المور ل يحل‬
‫له القدام على الحكم بين الناس ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن سليمان يعد من فضائل داود ‪ ،‬ومن منن الله عليه ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫ب { ]ص ‪. [30 :‬‬ ‫} ووهَبنا ل ِداود سل َيمان ن ِعم ال ْعبد إن َ‬
‫ه أّوا ٌ‬
‫َ َ َْ َ ُ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ ِّ ُ‬

‫) ‪(1/437‬‬

‫وهذا أعظم تزكية ‪ ،‬وأكبر فخر لسليمان ‪.‬‬


‫ن عليهم بالخلق الجميلة‬‫ومنها ‪ :‬كثرة خير الله وفضله على عبيده الخيار يم ّ‬
‫والعمال الصالحة ‪ ،‬ثم يثني عليهم بها ويرّتب عليها من الثواب أنواعا‬
‫منوعة ‪ ،‬وهو المتفضل بالسباب ومسبباتها ‪.‬‬
‫دم محبة الله على محبة كل شيء ‪ ،‬وأتلف الخيل التي‬ ‫ومنها ‪ :‬أن سليمان ق ّ‬
‫ألهته عن ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن كل ما أشغل العبد عن طاعة موله فهو مشؤوم فليفارقه ‪،‬‬
‫وليقبل على ما هو أنفع له ‪.‬‬
‫ومنها أنه يؤخذ من أن سليمان لما أتلف الخيل الجياد ‪ -‬التي ألهته عن طاعة‬
‫وضه الله خيرا‬‫خر الله له الريح والشياطين ‪ :‬أن من ترك شيئا لله ع ّ‬‫الله ‪ -‬س ّ‬
‫منه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن تسخير الشياطين ‪ ،‬وتسخير الريح على الوجه الذي سخرت‬
‫لسليمان ل تكون لحد بعد سليمان ‪ ،‬ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم أن يأخذ الشيطان الذي تفّلت عليه ليلة فيربطه في سارية المسجد‬
‫قال ‪ » :‬ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته « ‪.‬‬

‫) ‪(1/438‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن سليمان كان ملكا نبيا مباح له أن يفعل ما يريد ‪ ،‬ولكنه لكماله ل‬
‫يريد إل الخير والعدل ‪ ،‬وهذا بخلف النبي العبد ‪ ،‬فإنه ل يكون له إرادة‬
‫مستقلة ‪ ،‬بل إرادته تابعة لمراد الله منه ‪ ،‬فل يفعل ول يترك إل تبعا للمر ‪،‬‬
‫كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الله أعطى سليمان ملكا عظيما ‪ ،‬فيه أمور ل يمكن أن تدرك‬
‫بالسباب ‪ ،‬وإنما هي من تقدير الملك الوهاب مثل تسخير الريح تبعا لمره ‪،‬‬
‫وتسخير الشياطين ‪ ،‬وكون جنوده من النس والجن والطير ‪ ،‬وأن الطيور‬
‫كانت تخدمه الخدمة العظيمة ‪ ،‬يرسلها للجهات توصل منه الخبار ‪ ،‬وتأتيه‬
‫بأخبار تلك الجهات ‪ ،‬وقد أعطاها الله من الفهم ومعرفة أحوال الدميين ما‬
‫قص الله علينا نبأه في هذه القصة ‪ ،‬وكذلك الذي عنده علم من الكتاب حين‬
‫استعد أن يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه ‪ ،‬وهذه آيات أنبياء ‪،‬‬
‫فلهذا مهما بلغ الخلق في الترقي في علوم الطبيعة والمهارة بالمخترعات‬
‫فلن يصلوا إلى ما ُأعطيه سليمان ‪.‬‬

‫) ‪(1/439‬‬

‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للملوك والرؤساء أن يسألوا عن أحوال المراء والرؤساء‬


‫والرجال المتميزين ‪ ،‬ول يكتفوا بمجرد السؤال ‪ ،‬بل يختبرونهم ويختبرون‬
‫معرفتهم للمور وعقولهم ‪ ،‬كما فعل سليمان مع ملكة سبأ ‪ :‬امتحنها ليستدل‬
‫على كمال عقلها ورجاحته ‪ ،‬ولم يكتف بالسؤال ‪ ،‬وهذا فيه للملوك فوائد‬
‫عظيمة ‪ ،‬وهم محتاجون لهذا أشد الحاجة ‪ ،‬وتمام الملك أن يدير دفته الرجال‬
‫الكاملون ‪.‬‬

‫) ‪(1/440‬‬

‫قصة أيوب عليه الصلة السلم‬


‫كان أيوب من أنبياء بني إسرائيل ‪ ،‬ومن الصفياء الكرام ‪ ،‬وقد ذكره الله في‬
‫كتابه ‪ ،‬وأثنى عليه بالخصال الحميدة عموما ‪ ،‬وبالصبر على البلء خصوصا ؛‬
‫فإن الله تعالى ابتله بولده وأهله وماله ‪ ،‬ثم بجسده ‪ ،‬فأصابه من البلء ما لم‬
‫يصب أحدا من الخلق ‪ ،‬فصبر لمر الله ولم يزل منيبا لله ‪.‬‬
‫َ‬
‫ولما تطاول به المرض العظيم ‪ ،‬ونسيه الصاحب والحميم نادى ربه ‪ } :‬أّني‬
‫ن { ]النبياء ‪. [83 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مي َ‬
‫ح ِ‬
‫م الّرا ِ‬
‫ح ُ‬‫ت أْر َ‬ ‫ضّر وَأن ْ َ‬
‫ي ال ّ‬
‫سن ِ َ‬
‫م ّ‬
‫َ‬
‫جل ِك { ]ص ‪. [42 :‬‬‫َ‬ ‫ض ب ِرِ ْ‬ ‫ُ‬
‫فقيل له ‪ } :‬اْرك ْ‬

‫) ‪(1/441‬‬

‫فركض ‪ ،‬فنبعت بركضته عين ماء بارد ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬اشرب منها واغتسل ‪،‬‬
‫ففعل ذلك ‪ ،‬فأذهب الله ما في باطنه وظاهره من البلء ‪ ،‬ثم أعاد الله له‬
‫أهله وماله ‪ ،‬وأعطاه من النعم والخيرات شيئا كثيرا ‪ ،‬وصار بهذا الصبر قدوة‬
‫للصابرين ‪ ،‬وسلوة للمبتلين ‪ ،‬وعبرة للمعتبرين ‪ ،‬وكان في مرضه قد وجد‬
‫على زوجته المرأة البارة الرحيمة في بعض شيء ‪ ،‬فحلف أن يجلدها مائة‬
‫جلدة ‪ ،‬فخفف الله عنه وعنها ‪ ،‬وقيل له ‪ :‬خذ بيدك ضغثا حزمة حشيش أو‬
‫علف أو شماريخ أو نحوها فيها مائة عود فاضرب به ول تحنث ‪ ،‬أي ‪ :‬ينحل‬
‫بذلك يمينك ‪ ،‬وفي هذا دليل على أن كفارة اليمين لم تشرع لحد من قبل‬
‫شريعتنا ‪ ،‬وأن اليمين عندهم بمنزلة النذر الذي ل بد من وفائه ‪ ،‬وفي هذا‬
‫دليل على أن من ل يحتمل إقامة الحد عليه لضعفه ونحوه أنه يقام عليه‬
‫مسمى ذلك ؛ لن الغرض التنكيل ليس التلف والهلك ‪.‬‬
‫قصة الخضر مع موسى ومحلها في أثناء قصص موسى‬

‫) ‪(1/442‬‬

‫وذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم في بني إسرائيل مقاما‬
‫مة ‪ ،‬وأعجب الناس بكمال علمه ‪ ،‬فقال له قائل‬ ‫عظيما ‪ ،‬عّلمهم فيه علوما َ‬
‫ج ّ‬
‫‪ :‬يا نبي الله ‪ ،‬هل يوجد ‪ ،‬أو هل تعلم في الرض أحدا أعلم منك ؟ فقال ‪ :‬ل ‪،‬‬
‫بناء على ما يعرفه ‪ ،‬وترغيبا لهم في الخذ عنه ‪ ،‬فأخبره الله أن له عبدا في‬
‫مجمع البحرين عنده علوم ليست عند موسى ‪ ،‬وإلهامات خارجة عن الطور‬
‫المعهود ‪ ،‬فاشتاق موسى إلى لقياه رغبة في الزدياد من العلم ‪ ،‬فطلب من‬
‫الله أن يأذن له في ذلك ‪ ،‬وأخبره بموضعه وتزودا حوتا وقيل له ‪ :‬إذا فقدت‬
‫الحوت فهو في ذلك المكان ‪ ،‬فذهب فوجده ‪ ،‬وكان ما قص الله من نبأهما‬
‫في الكهف ‪:‬‬
‫قًبا {‬
‫ح ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫} وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ي ُ‬
‫ض َ‬
‫م ِ‬
‫ن أوْ أ ْ‬
‫حَري ْ ِ‬
‫معَ الب َ ْ‬
‫ج َ‬
‫م ْ‬ ‫حّتى أب ْلغَ َ‬ ‫ح َ‬ ‫فَتاه ُ ل أب َْر ُ‬‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬‫ل ُ‬
‫ْ‬
‫صب ًْرا { ]الكهف ‪. [82 - 60 :‬‬ ‫سط ِعْ عَل َي ْهِ َ‬‫م تَ ْ‬‫ما ل َ ْ‬‫ل َ‬‫ك ت َأِوي ُ‬‫]إلى قوله[ ‪ } :‬ذ َل ِ َ‬
‫وفي هذه القصة من الفوائد والحكام والقواعد شيء كثير ننبه على بعضه‬
‫م منه ‪.‬‬ ‫بعون الله ‪ ،‬ونذكر المه ّ‬

‫) ‪(1/443‬‬

‫فمنها ‪ :‬ما اشتملت عليه القصة من فضيلة العلم وشرفه ‪ ،‬ومشروعية‬


‫الرحلة في طلبه ‪ ،‬وأنه أهم المور ؛ فإن موسى رحل في طلبه مسافة‬
‫طويلة ‪ ،‬ولقي في ذلك النصب ‪ ،‬وترك القامة عند بني إسرائيل لتعليمهم‬
‫وإرشادهم ‪ ،‬واختار السفر لزيادة العلم على ذلك ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬البداءة في العلم بالهم فالهم ‪ ،‬فإن زيادة علم النسان بنفسه أهم‬
‫من ترك ذلك اشتغال بالتعليم فقط ‪ ،‬بل يتعلم ليعلم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬جواز أخذ الخادم في السفر والحضر لكفاية المؤن وطلب الراحة ‪،‬‬
‫كما فعل موسى صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن المسافر بطلب العلم أو الجهاد أو غيرهما من أسفار الطاعة ‪ ،‬بل‬
‫وكذلك غيرهما إذا اقتضت المصلحة الخبار بمطلبه وأين مراده ‪ ،‬فإنه أكمل‬
‫من كتمه ‪ ،‬فإن في إظهاره من فوائد الستعداد له عدته ‪ ،‬وإتيان المر على‬
‫بصيرة ‪ ،‬والعلن بالترغيب لهذه العبادة الفاضلة لقول موسى ‪ } :‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ل‬
‫قًبا { ولما غزا صلى‬ ‫ح ُ‬ ‫فتاه َل أ َبرح حتى أ َبل ُغَ مجمع ال ْبحري َ َ‬
‫ي ُ‬
‫ض َ‬
‫م ِ‬
‫ن أوْ أ ْ‬
‫َ ْ َ َ َ ْ َ ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ُ َ ّ‬ ‫سى ل ِ َ َ ُ‬
‫مو َ‬
‫ُ‬
‫الله عليه وسلم تبوك أخبر الناس بمقصده ‪ ،‬مع أنه كان في الغالب إذا أراد‬
‫غزوة ورى بغيرها تبعا للمصلحة في الحالتين ‪.‬‬

‫) ‪(1/444‬‬

‫ومنها ‪ :‬إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ‪ ،‬وكذلك النقص ‪ ،‬لقول فتى‬
‫ن أ َذ ْك َُره ُ { ‪.‬‬ ‫طا َ‬
‫نأ ْ‬ ‫شي ْ َ ُ‬ ‫ه إ ِّل ال ّ‬ ‫ساِني ُ‬
‫َ‬
‫ما أن ْ َ‬ ‫موسى ‪ } :‬وَ َ‬
‫ومنها ‪ :‬جواز إخبار النسان عما يجده مما هو مقتضى الطبيعة البشرية ‪ ،‬من‬
‫نصب أو جوع أو عطش ‪ ،‬إذا لم يكن على وجه التسخط ‪ ،‬وكان صدقا‬
‫صًبا { ‪.‬‬ ‫ذا ن َ َ‬‫فرَِنا هَ َ‬‫س َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫قيَنا ِ‬ ‫قد ْ ل َ ِ‬
‫لقوله ‪ } :‬ل َ َ‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي أن يتخذ النسان خادما ذكيا فطنا كّيسا ليتم له أمره الذي‬
‫يريد ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬استحباب إطعام النسان خادمه من مأكله ‪ ،‬وأكلهما جميعا ؛ لن‬
‫داَءَنا { أنه للجميع ‪ ،‬ومنها ‪ :‬أن المعونة تنزل على العبد‬ ‫ظاهر قوله ‪ } :‬آت َِنا غَ َ‬
‫بحسب قيامه بالمر الشرعي ‪ ،‬وأن ما وافق رضا الله يعان عليه ما ل يعان‬
‫صًبا { والشارة إلى السفر‬ ‫فرَِنا هَ َ‬
‫ذا ن َ َ‬ ‫س َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قيَنا ِ‬‫قد ْ ل َ ِ‬
‫على غيره لقوله ‪ } :‬ل َ َ‬
‫المجاوز لمجمع البحرين ‪ ،‬وأما الول فلم يشتك منه مع طوله ‪.‬‬

‫) ‪(1/445‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن ذلك العبد الذي لقياه ليس نبيا ‪ ،‬بل هو عبد صالح عالم مل َْهم ؛ لن‬
‫الله ذكره بالعلم والعبودية الخاصة والوصاف الجميلة ‪ ،‬ولم يذكر معها أنه‬
‫ري { فإنه ل‬ ‫نبي أو رسول ‪ ،‬وأما قوله في آخر القصة ‪ } :‬وما فَعل ْته عَ َ‬
‫م ِ‬
‫نأ ْ‬‫ْ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َ َ‬
‫يدل على أنه نبي ‪ ،‬وإنما يدل على اللهام والتحديث ‪ ،‬وذلك يكون لغير النبياء‬
‫‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫ل { ]النحل ‪. [68 :‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ك إ َِلى الن ّ ْ‬ ‫حى َرب ّ َ‬ ‫} وَأوْ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫سى { ]القصص ‪. [7 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫حي َْنا إ َِلى أ ّ‬
‫م ُ‬ ‫} وَأوْ َ‬
‫ومنها ‪ :‬أن العلم الذي يعلمه الله للعبد نوعان ‪ :‬علم مكتسب ‪ ،‬يدركه العبد‬
‫ده ‪ ،‬وعلم إلهي لدّني ‪ ،‬يهبه الله لمن يمن عليه من عباده ‪ ،‬لقوله ‪:‬‬ ‫بطلبه وج ّ‬
‫ما { ]الكهف ‪. [65 :‬‬ ‫عل ً‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن لد ُّنا ِ‬ ‫م ْ‬‫مَناه ُ ِ‬ ‫} وَعَل ّ ْ‬
‫فالخضر أعطي من هذا النوع الحظ الوفر ‪ ،‬ومنها التأدب مع المعلم‬
‫والتلطف في خطابه لقول موسى ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ل أ َت ّب ِعُ َ‬
‫دا { ]الكهف ‪. [66 :‬‬ ‫ت ُر ْ‬
‫ش ً‬ ‫م َ‬
‫ما عُل ْ‬
‫م ّ‬ ‫ن ت ُعَل ّ َ‬
‫مِني ِ‬ ‫ك عََلى أ ْ‬ ‫} هَ ْ‬

‫) ‪(1/446‬‬
‫فأخرج الكلم بصورة الملطفة والمشاورة ‪ ،‬وأنك هل تأذن لي أم ل ؟‬
‫وإظهار حاجته إلى المعلم ‪ ،‬وأنه يتعلم منه ومشتاق إلى ما عنده ‪ ،‬بخلف‬
‫حال أهل الكبر والجفاء الذين ل يظهرون حاجتهم إلى علم المعلم ‪ ،‬فل أنفع‬
‫للمتعلم من إظهار الحاجة إلى علم المعلم وشكره على تعليمه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬تواضع الفاضل للتعلم ممن هو دونه ‪ ،‬فإن موسى بل ريب أفضل من‬
‫الخضر ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مهر فيه ‪ ،‬وإن‬
‫كان دونه في العلم درجات ; فإن موسى من أكابر أولي العزم من الرسل ‪،‬‬
‫الذين منحهم الله ‪ ،‬وأعطاهم من العلوم ما لم يعط سواهم ‪ ،‬ولكن في هذا‬
‫العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عنده ‪ ،‬فلهذا اشتد حرصه على التعلم‬
‫منه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه يتعين إضافة العلم وغيره من الفضائل إلى فضل الله ورحمته ‪،‬‬
‫دا { ‪.‬‬ ‫ت ُر ْ‬
‫ش ً‬ ‫ما عُل ّ ْ‬
‫م َ‬ ‫م ّ‬ ‫والعتراف بذلك ‪ ،‬وشكر الله عليه لقوله ‪ } :‬ت ُعَل ّ َ‬
‫مِني ِ‬

‫) ‪(1/447‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير ‪ ،‬وكل علم فيه رشد‬
‫وهداية لطريق الخير ‪ ،‬وتحذير عن طريق الشر ‪ ،‬أو وسيلة إلى ذلك ‪ ،‬فإنه‬
‫من العلم النافع ‪ ،‬وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارا ‪ ،‬أو ليس فيه فائدة‬
‫َ‬
‫دا { ‪.‬‬ ‫ش ً‬‫ت ُر ْ‬ ‫م َ‬‫ما عُل ّ ْ‬
‫م ّ‬ ‫ن ت ُعَل ّ َ‬
‫مِني ِ‬ ‫لقوله ‪ } :‬أ ْ‬
‫ومنها ‪ :‬أن من ليس له صبر على صحبة الَعالم ‪ ،‬ول قوة على الثبات على‬
‫طريقة التعلم ‪ ،‬فإنه قاصر ليس بأهل لتلقي العلم ; فمن ل صبر له ل يدرك‬
‫العلم ‪ ،‬ومن استعمل الصبر ولزمه أدرك به كل أمر سعى إليه ‪ ،‬فإن الخضر‬
‫اعتذر عن موسى أنه ل يصبر على علمه الخاص ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن مما يعين على الصبر على الشياء إحاطة العبد بها علما ‪،‬‬
‫وبمنافعها وثمراتها ونتائجها ‪ ،‬فمن ل يدري هذه المور يصعب عليه الصبر‬
‫خب ًْرا { ‪.‬‬ ‫ح ْ‬
‫ط ب ِهِ ُ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م تُ ِ‬ ‫صب ُِر عََلى َ‬
‫ف تَ ْ‬ ‫لقوله ‪ } :‬وَك َي ْ َ‬
‫ومنها ‪ :‬المر بالتأّني والتثبت وعدم المبادرة على الحكم على الشياء حتى‬
‫يعرف ما يراد منه ‪ ،‬وما هو المقصود ‪.‬‬

‫) ‪(1/448‬‬

‫ومنها ‪ :‬مشروعية تعليق إيجاد المور المستقبلة على مشيئة الله لقوله ‪:‬‬
‫مًرا { ‪ ،‬وإن العزم على‬ ‫شاَء الل ّه صابرا وَل أ َعْصي ل َ َ َ‬
‫ن َ‬
‫كأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ ًِ َ‬ ‫جد ُِني إ ِ ْ‬
‫ست َ ِ‬
‫} َ‬
‫الشيء ليس بمنزلة فعله ‪ ،‬فموسى عزم على الصبر ‪ ،‬ولكن لم يفعل ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن المعلم إذا رأى من المصلحة أن يخبر المتعلم أن يترك البتداء في‬
‫السؤال عن بعض الشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ‪ ،‬فإن‬
‫المصلحة تتبع ‪ ،‬كما إذا كان فهمه قاصرا ‪ ،‬أو نهاه عن التدقيق الشديد أو‬
‫السئلة التي ل تتعلق بالموضوع ‪ ،‬ومنها ‪ :‬جواز ركوب البحر إذا لم يكن في‬
‫ذلك خطر ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الناسي غير مؤاخذ ‪ ،‬ل في حق الله ول في حق العباد ‪ ،‬إل إن‬
‫ترتب على ذلك إتلف مال ‪ ،‬ففيه الضمان حتى على الناسي لقوله ‪ } :‬لَ‬
‫ت{‪.‬‬ ‫سي ُ‬ ‫خذ ِْني ب ِ َ‬
‫ما ن َ ِ‬ ‫تُ َ‬
‫ؤا ِ‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للعبد أن يأخذ من أخلق الناس ومعاملتهم العفو منها ‪ ،‬وما‬
‫سمحت به أنفسهم ‪ ،‬ول ينبغي له أن يكلفهم ما ل يطيقون ‪ ،‬أو يشق عليهم‬
‫أو يرهقهم ‪ ،‬فإن هذا داع إلى النفور ‪ ،‬بل يأخذ المتيسر ليتيسر له المر ‪.‬‬

‫) ‪(1/449‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن المور تجري على ظاهرها ‪ ،‬وتعلق بها الحكام الدنيوية في كل‬
‫شيء ‪ ،‬فإن موسى عليه السلم أنكر على الخضر خرق السفينة ‪ ،‬وقتل‬
‫صله ‪ ،‬هو‬‫الغلم بحسب أحكامها العامة ‪ ،‬ولم يلتفت إلى الصل الذي أ ّ‬
‫والخضر ‪ ،‬أنه ل يسأله ول يعترض عليه حتى يكون الخضر هو المبتدئ ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬فيه تنبيه على القاعدة المشهورة الكبيرة ‪ ،‬وهو أنه يدفع الشر الكبير‬
‫بارتكاب الشر الخفيف ‪ ،‬ويراعى أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما ; فإن قتل‬
‫الغلم الصغير شر ‪ ،‬ولكن بقاءه حتى يبلغ ويفتن أبويه عن دينهما أعظم‬
‫شرا ‪ ،‬وبقاء الغلم من دون قتل وإن كان في ظاهر الحال أنه خير ‪ ،‬فالخير‬
‫ببقاء أبويه على دينهما خير من ذلك ‪ ،‬فلذلك قتله الخضر بعدما ألهمه الله‬
‫الحقيقة ‪ ،‬فكان إلهامه الباطني بمنزلة البينات الظاهرة في حق غيره ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬القاعدة الكبيرة الخرى ‪ ،‬وهي ‪ :‬أن عمل النسان في مال غيره ‪ -‬إذا‬
‫كان على وجه المصلحة ودفع المضرة ‪ -‬يجوز بل إذن ‪ ،‬حتى ولو ترتب عليه‬
‫إتلف بعض المال ‪ ،‬كما خرق الخضر السفينة لتعيب ‪ ،‬فتسلم من غصب‬
‫الملك الظالم ‪ ،‬وتحت هاتين القاعدتين من الفوائد ما ل حصر له ‪.‬‬

‫) ‪(1/450‬‬

‫ن ِفي‬ ‫مُلو َ‬ ‫ومنها ‪ :‬أن العمل يجوز في البحر كما يجوز في البر ‪ ،‬لقوله ‪ } :‬ي َعْ َ‬
‫حرِ { ‪.‬‬‫ال ْب َ ْ‬
‫ومنها ‪ :‬أن القتل من أكبر الذنوب ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه ‪ ،‬وفي ذريته ‪ ،‬وما يتعلق به ‪،‬‬
‫كا َ‬
‫حا { وأن خدمة الصالحين وعمل مصالحهم أفضل‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ما َ‬ ‫ن أُبوهُ َ‬ ‫لقوله ‪ } :‬وَ َ َ‬
‫حا { ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫من غيرهم ؛ لنه عّلل أفعاله بالجدار بقوله ‪ } :‬وَ َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫ما َ‬ ‫ن أُبوهُ َ‬ ‫كا َ‬
‫ومنها ‪ :‬استعمال الدب مع الله حتى في اللفاظ ؛ فإن الخضر أضاف عيب‬
‫َ‬
‫عيب ََها { وأما الخير فأضافه إلى الله‬ ‫ن أَ ِ‬ ‫َ‬
‫تأ ْ‬ ‫السفينة إلى نفسه بقوله ‪ } :‬فَأَرد ْ ُ‬
‫ن ي َب ْل َُغا أ َ ُ‬ ‫لقوله ‪ } :‬فَأ َراد رب َ َ‬
‫ك{‪.‬‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫م ً‬
‫ح َ‬ ‫ما َر ْ‬ ‫جا ك َن َْزهُ َ‬‫خرِ َ‬
‫ست َ ْ‬‫ما وَي َ ْ‬ ‫شد ّهُ َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫َ َ َ ّ‬
‫ن { ]الشعراء ‪. [80 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫وقال إبراهيم ‪ِ ِ َ ُ َ ُ َ ُ ْ ِ َ ِ َ َ } :‬‬
‫في‬ ‫ش‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫إ‬ ‫و‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وقالت الجن ‪ } :‬وَأّنا َل ن َد ِْري أ َ‬
‫م َرب ّهُ ْ‬ ‫م أَراد َ ب ِهِ ْ‬ ‫ضأ ْ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شّر أِريد َ ب ِ َ‬
‫دا { ]الجن ‪ ، [10 :‬مع أن الكل بقضاء الله وقدره ‪.‬‬ ‫ش ً‬ ‫َر َ‬

‫) ‪(1/451‬‬

‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للعبد أن ل يفارق صاحبه في حالة من الحوال ويترك‬


‫صحبته ‪ ،‬بل يفي له بذلك حتى ل يجد للصبر محل ‪ ،‬وأن موافقة الصاحب‬
‫لصاحبه في غير المور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأ ّ‬
‫كدها ‪ ،‬كما‬
‫أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة ‪.‬‬

‫) ‪(1/452‬‬

‫قصة ذي القرنين‬
‫وكان ذو القرنين ملكا صالحا ‪ ،‬وقد أعطاه الله من القوة وأسباب الملك‬
‫والفتوح ما لم يكن لغيره ‪ ،‬فذكر الله من حسن سيرته ورحمته وقوة ملكه‬
‫وتوسعه في المشارق والمغارب ما يحصل به المقصود التام من سيرته‬
‫ومعرفة أحواله ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫ْ‬
‫ه ذِكًرا { ]الكهف ‪. [83 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن قُ ْ‬ ‫ن ِذي ال ْ َ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬
‫من ْ ُ‬
‫م ِ‬
‫سأت ْلو عَلي ْك ْ‬ ‫ل َ‬ ‫قْرن َي ْ ِ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫} وَي َ ْ‬
‫أي ‪ :‬من بعض أخباره ‪ ،‬ومن المعلوم أن ما قصه الله في كتابه هو أحسن‬
‫وأنفع ما يقص على العباد ‪ ،‬فأخبر أنه أعطاه من كل شيء سببا يحصل به‬
‫ضع للمم وكثرة‬‫خ ِ‬
‫م ْ‬ ‫قوة الملك وعلم السياسة وحسن التدبير والسلح ال ْ ُ‬
‫الجنود وتسهيل المواصلت وجميع ما يحتاجه ‪ ،‬ومع ذلك فقد عمل بالسباب‬
‫طى السباب النافعة ‪ ،‬ول كل من ُأعطيها يتبعها‬ ‫التي أعطيها ‪ ،‬فما كل أحد يع َ‬
‫ويعمل بها ‪.‬‬
‫م له المران ‪ :‬أعطي سببا فأتبع سببا ‪ ،‬فغزا بجيوشه‬ ‫ُ‬
‫أما ذو القرنين فإنه ت َ ّ‬
‫الجرارة أدنى أفريقية وأقصاها حتى بلغ البحر المحيط الغربي ‪ ،‬فوصل إلى‬
‫محل إذا غربت الشمس ‪:‬‬
‫مئ َةٍ { ]الكهف ‪. [86 :‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ب ِفي عَي ْ ٍ‬ ‫ها ت َغُْر ُ‬
‫جد َ َ‬‫} وَ َ‬

‫) ‪(1/453‬‬

‫أي ‪ :‬رآها في رؤية العين كأنها تْغرب في البحر ‪ ،‬والبحر لونه أسود كالحمئة ‪،‬‬
‫والقصد أنه وصل إلى حيث منتهى الخف والحافر من بلد أفريقية ‪ ،‬ووجد في‬
‫ذلك المحل وتلك القطار قوما ‪ ،‬منهم المسلم والكافر ‪ ،‬والبر والفاجر ‪،‬‬
‫بدليل قوله ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫} قُل َْنا يا َذا ال َ‬
‫ْ‬
‫سًنا { ]الكهف ‪. [86 :‬‬ ‫ح ْ‬ ‫م ُ‬ ‫خذ َ ِفيهِ ْ‬‫ن ت َت ّ ِ‬‫ما أ ْ‬ ‫ب وَإ ِ ّ‬ ‫ن ت ُعَذ ّ َ‬ ‫ما أ ْ‬‫ن إِ ّ‬ ‫قْرن َي ْ ِ‬
‫إما أن القائل له نبي من أنبياء الله أو أحد العلماء ‪ ،‬أو أن المعنى أنه بسبب‬
‫وي بين المرين‬ ‫قدرته كان مخّيرا قدرا ‪ ،‬وإل فمن المعلوم أن الشرع ل يس ّ‬
‫المتفاوتين في الحسان والساءة ‪.‬‬
‫َ‬
‫ذاًبا ن ُك ًْرا {‬
‫ه عَ َ‬‫م ي َُرد ّ إ َِلى َرب ّهِ فَي ُعَذ ّب ُ ُ‬ ‫ه ثُ ّ‬‫ف ن ُعَذ ّب ُ ُ‬‫سو ْ َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫ن ظ َل َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫فقال ‪ } :‬أ ّ‬
‫ل ل َه م َ‬ ‫َ‬
‫مرَِنا‬‫نأ ْ‬ ‫قو ُ ُ ِ ْ‬ ‫سن َ ُ‬
‫سَنى وَ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫جَزاًء ال ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫حا فَل َ ُ‬‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬‫م َ‬ ‫ن وَعَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬
‫ما َ‬ ‫} وَأ ّ‬
‫سًرا { ]الكهف ‪. [88 - 87 :‬‬ ‫يُ ْ‬
‫وهذا يدل على عدله ‪ ،‬وأنه ملك صالح ‪ ،‬وعلى حسن تدبيره ‪.‬‬
‫سب ًَبا { ]الكهف ‪. [89 :‬‬ ‫} ثُ َ‬
‫م أت ْب َعَ َ‬‫ّ‬

‫) ‪(1/454‬‬

‫أي ‪ :‬ثم عمل بالسباب التي أوتيها بعدما أخضع أهل المغارب رجع يفتح‬
‫الرض قطرا قطرا حتى وصل إلى مطلع الشمس من بلد الصين وشواطئ‬
‫البحر المحيط الهادي ‪ ،‬وهذا منتهى ما وصل إليه الفاتحون ‪.‬‬
‫ست ًْرا { ]الكهف ‪. [90 :‬‬
‫ن ُدون َِها ِ‬
‫م ْ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ها ت َط ْل ُعُ عََلى قَوْم ٍ ل َ ْ‬
‫م نَ ْ‬ ‫جد َ َ‬
‫} وَ َ‬
‫أي ‪ :‬ل ستر لهم عن الشمس ‪ ،‬ل ثياب ينسجونها ويلبسونها ‪ ،‬ول بيوت يبنونها‬
‫ويأوون إليها ‪ ،‬أي ‪ :‬وجد هؤلء القوم الذين في أقصى المشرق بهذه الصفة‬
‫والوحشية بمنزلة الوحوش التي تأوي إلى الغياض والغيران والسراب‬
‫منقطعين عن الناس ‪ ،‬وكانوا في ذلك الوقت على هذه الحالة التي وصف‬
‫الله ‪ ،‬والمقصود من هذا أنه وصل إلى ما لم يصل إليه أحد ‪.‬‬
‫ثم كر راجعا وأتبع سببا ; يمكنه من مناهج البلد وتخضيع العباد قاصدا نحو‬
‫الشمال ‪:‬‬
‫ن { ]الكهف ‪. [93 :‬‬ ‫َ‬
‫حّتى إ َِذا ب َلغَ ب َي ْ َ‬
‫سد ّي ْ ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫} َ‬

‫) ‪(1/455‬‬

‫سدين الموجودين منذ خلق الله الرض ‪ ،‬وهما‬ ‫أي ‪ :‬بلغ محل متوسطا بين ال ّ‬
‫سلسل جبال عظيمة شاهقة متواصلة من تلك الفجوة ‪ ،‬وهي الريع إلى‬
‫البحار الشرقية والغربية وهي في بلد الترك ‪ ،‬على هذا اتفق المفسرون‬
‫والمؤرخون ‪ ،‬وإنما اختلفوا ‪ :‬هل هي سلسل جبال القفقاس أم دون ذلك‬
‫في أذربيجان ‪ ،‬أم سلسل جبال ألتاي ‪ ،‬أم الجبال المتصلة بالسور الصيني‬
‫في بلد منغوليا ؟ وهو الظاهر ‪ ،‬وعلى القوال كلها فوجد عند تلك الفجوة‬
‫التي بين سلسل هذه الجبال قوما ل يكادون يفقهون قول ؛ من ُبعد لغتهم ‪،‬‬
‫وثقل فهمهم للغات المم ‪:‬‬
‫ض { ]الكهف ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫} َقاُلوا يا َذا ال ْ َ‬
‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬‫ج ُ‬ ‫جو َ‬‫مأ ُ‬ ‫ج وَ َ‬‫جو َ‬
‫ن ي َأ ُ‬
‫ن إِ ّ‬‫قْرن َي ْ ِ‬
‫‪. [94‬‬
‫وهم أمم عظيمة من نسل يا فث بن نوح من العناصر التركية وغيرهم ‪ ،‬كما‬
‫هو مذكور مفصل من أحوالهم ومشروح من صفاتهم ‪:‬‬
‫َ‬
‫ّ‬
‫مكّني ِفيهِ‬‫ما َ‬
‫ل َ‬‫دا {} َقا َ‬ ‫س ّ‬
‫م َ‬ ‫جعَ َ‬
‫ل ب َي ْن ََنا وَب َي ْن َهُ ْ‬ ‫جا عََلى أ ْ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫خْر ً‬‫ك َ‬ ‫ل لَ َ‬ ‫جعَ ُ‬ ‫} فَهَ ْ‬
‫ل نَ ْ‬
‫خي ٌْر { ]الكهف ‪ 94 :‬و ‪. [95‬‬ ‫َرّبي َ‬
‫من القوة والسباب والقتدار خير فأعينوني بقوة ‪ ،‬أي ‪ :‬إن هذا بناء عظيم‬
‫يحتاج في العانة عليه إلى مساعدة قوية في البدان ‪.‬‬

‫) ‪(1/456‬‬

‫َ‬
‫ما { ]الكهف ‪. [95 :‬‬ ‫م َرد ْ ً‬‫م وَب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫جعَ ْ‬
‫}أ ْ‬
‫دا ؛ لن الذي بني فقط هو تلك الثنية والريع الواقع بين السدين‬ ‫ولم يقل ‪ :‬س ّ‬
‫الطبيعيين ‪ ،‬أي ‪ :‬بين سلسل تلك الجبال ‪ ،‬فدبرهم على كيفية آلته وبنيانه‬
‫فقال ‪:‬‬
‫ديد ِ { ]الكهف ‪. [96 :‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫} آُتوِني ُزب ََر ال َ‬
‫أي ‪ :‬اجمعوا لي جميع قطع الحديد الموجودة من صغار وكبار ‪ ،‬ول تدعوا من‬
‫الموجود شيئا ‪ ،‬واركموه بين السدين ‪ ،‬ففعلوا ذلك حتى كان الحديد تلول‬
‫عظيمة موازنة للجبال ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫ن { ]الكهف ‪. [96 :‬‬ ‫صد َفَي ْ ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ساَوى ب َي ْ َ‬ ‫حّتى إ َِذا َ‬ ‫} َ‬
‫أي ‪ :‬الجبلين المكتنفين لذلك الردم قال ‪:‬‬
‫ل آُتوِني أ ُفْرِغ ْ عَل َي ْهِ قِط ًْرا { ]الكهف ‪. [96 :‬‬ ‫جعَل َ ُ‬
‫ه َناًرا َقا َ‬ ‫حّتى إ َِذا َ‬‫خوا َ‬ ‫ف ُ‬
‫} ان ْ ُ‬
‫أي ‪ :‬أمر بالنحاس ‪ ،‬فأذيب بالنيران ‪ ،‬وجعل يسيل بين قطع الحديد ‪ ،‬فالتحم‬
‫بعضها ببعض ‪ ،‬وصارت جبل هائل متصل بالسدين ; فحصل بذلك المقصود من‬
‫عيث يأجوج ومأجوج ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫طا ُ َ‬
‫عوا ل َ ُ‬
‫ه‬ ‫ست َ َ‬
‫طا ُ‬ ‫ن ي َظ ْهَُروهُ { أي ‪] :‬يصعدوا ذلك الردم[ } وَ َ‬
‫ما ا ْ‬ ‫عوا أ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ما ا ْ‬‫} فَ َ‬
‫ن َرّبي { ]الكهف ‪ 97 :‬و ‪. [98‬‬ ‫م ْ‬‫ة ِ‬ ‫م ٌ‬ ‫ح َ‬
‫ذا َر ْ‬ ‫قًبا {} َقا َ‬
‫ل هَ َ‬ ‫نَ ْ‬

‫) ‪(1/457‬‬

‫أي ‪ :‬ربي الذي وفقني لهذا العمل الجليل ‪ ،‬والثر الجميل ‪ ،‬فرحمكم إذ‬
‫منعكم من ضرر يأجوج ومأجوج بهذا السبب الذي ل قدرة لكم عليه ‪.‬‬
‫كاَء { ]الكهف ‪. [98 :‬‬ ‫ه دَ ّ‬ ‫جعَل َ ُ‬‫جاَء وَعْد ُ َرّبي َ‬ ‫} فَإ َِذا َ‬
‫أي ‪ :‬هذا العمل والحيلولة بينكم وبين يأجوج ومأجوج مؤقت إلى أجل ‪ ،‬فإذا‬
‫جاء ذلك الجل قدر الله للخلق من أسباب القوة والقدرة والصناعات‬
‫والختراعات الهائلة ما يمكن يأجوج ومأجوج من وطء بلدكم أيها‬
‫المجاورون ‪ ،‬بل ومن وطء مشارق الرض ومغاربها وأقطارها ‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن { ]النبياء ‪[96 :‬‬ ‫سُلو َ‬
‫ب ي َن ْ ِ‬
‫حد َ ٍ‬ ‫ن كُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫ج وَهُ ْ‬
‫جو ُ‬‫مأ ُ‬‫ج وَ َ‬ ‫جو ُ‬‫ت ي َأ ُ‬ ‫حّتى إ َِذا فُت ِ َ‬
‫ح ْ‬ ‫} َ‬
‫‪.‬‬
‫أي ‪ :‬من كل مكان مرتفع ‪ ،‬سواء مثل هذه السدود والبحار وجو السماء‬
‫ن { أي ‪ :‬يسرعون فيها غير مكترثين ‪ ،‬ول حاجز يحجزهم ‪ ،‬فلفظة "‬ ‫سُلو َ‬ ‫} ي َن ْ ِ‬
‫من كل حدب " تشمل جميع المواضع والقطار ‪ :‬سهلها وصعبها ‪ ،‬منخفضها‬
‫ومرتفعها ‪ ،‬وإنما نص الله على المرتفعات لن السهول والماكن المنخفضة‬
‫من باب أولى وأحرى ‪.‬‬

‫) ‪(1/458‬‬

‫وقد ورد في صفاتهم أحاديث في الصحيحين تؤيد ما في هذه اليات من‬


‫صفاتهم ‪ ،‬وأورد أصحاب السير والتواريخ الول من صفاتهم وهيئاتهم آثارا ل‬
‫خطام لها ول زمام ‪ ،‬شوشت أفكار أكثر الناس ‪ ،‬ومنعتهم من الستدلل‬
‫باليات القرآنية ‪ ،‬والحاديث الصحيحة النبوية ‪ ،‬وتطبيقها على الواقع ‪ ،‬فعليك‬
‫بلزوم ما دل عليه الكتاب والسنة ‪ ،‬ودع ما سوى ذلك ؛ فإن فيه الهدى‬
‫والرشد والنور ‪.‬‬

‫) ‪(1/459‬‬

‫قصة عيسى وأمه ‪ ،‬وزكريا ويحيى عليهم السلم‬


‫كانت زوجة عمران ‪ -‬وهو من أكابر بني إسرائيل ورؤسائهم وذوي المقامات‬
‫العالية عندهم ‪ -‬نذرت حين ظهر حملها أن تحرر ما في بطنها لبيت‬
‫دا لعبادة الله ‪ ،‬ظنا أن الذي في بطنها‬ ‫معَ ّ‬‫المقدس ‪ ،‬يكون خادما لبيت الله ‪ُ ،‬‬
‫ذكر ‪ ،‬فلما وضعتها قالت معتذرة إلى الله شاكية إليه الحال ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫} رب إني وضعتها أ ُنَثى والل ّ َ‬
‫ت وَل َي ْ َ‬
‫س الذ ّك َُر كالن َْثى { أي أن‬
‫َ‬ ‫ضعَ ْ‬
‫ما وَ َ‬ ‫ه أعْل َ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ َُْ ْ‬ ‫َ ّ ِّ‬
‫الذكر الذي له القوة والقدرة على ما يراد منه من القيام بخدمة بيت‬
‫ن‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ك وَذ ُّري ّت ََها ِ‬
‫م َ‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫م وَإ ِّني أ ُ ِ‬
‫عيذ ُ َ‬ ‫مْري َ َ‬
‫مي ْت َُها َ‬‫س ّ‬
‫المقدس ‪ } ،‬وَإ ِّني َ‬
‫جيم ِ { ]آل عمران ‪. [36 :‬‬ ‫الّر ِ‬
‫فحصنتها بالله من عدوها هي وذريتها ‪ ،‬وكان هذا أول حفظ وحماية من الله‬
‫لها ‪ ،‬ولهذا استجاب الله لها في هذه الدنيا ‪:‬‬
‫ن { ]أي أن الله جبر أمها ‪ ،‬وصار لها عند ربها من‬ ‫س ٍ‬
‫ح َ‬ ‫ل َ‬ ‫قب ّل ََها َرب َّها ب ِ َ‬
‫قُبو ٍ‬ ‫} فَت َ َ‬
‫فلَها َزك َرِّيا { ]آل عمران ‪:‬‬ ‫َ‬ ‫سًنا وَك َ ّ‬ ‫َ‬
‫ح َ‬ ‫القبول أعظم مما للذكور[ ‪ } ،‬وَأن ْب َت ََها ن ََباًتا َ‬
‫‪. [37‬‬

‫) ‪(1/460‬‬

‫فجمع الله لها بين التربية الجسدية والتربية الروحية ‪ ،‬حيث قدر أن يكون‬
‫كافلها أعظم أنبياء بني إسرائيل في ذلك الوقت ; فإن أمها لما جاءت بها‬
‫لهل بيت المقدس تنازعوا أيهم يكفلها ؛ لنها ابنة رئيسهم ‪ ،‬فاقترعوا وألقوا‬
‫أقلمهم ‪ ،‬فأصابت القرعة زكريا رحمة به وبمريم ‪ ،‬فكفلها أحسن كفالة ‪،‬‬
‫وأعانه على كفالتها بكرامة عظيمة منه ‪ ،‬فكانت قد نشأت نشأة الصالحات‬
‫ديقات ‪ ،‬وعكفت على عبادة ربها ‪ ،‬ولزمت محرابها ‪ ،‬فكان زكريا كلما‬ ‫الص ّ‬
‫دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا ‪ ،‬قال ‪ :‬أنى لك هذا ؟ فإنه ليس لها‬
‫كافل غير زكريا ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫ب { ]آل عمران ‪. [37 :‬‬ ‫سا ٍ‬
‫ح َ‬ ‫ن يَ َ‬
‫شاُء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي َْرُزقُ َ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ إ ِ ّ‬
‫ن ِ‬‫م ْ‬
‫} هُوَ ِ‬
‫أي ‪ :‬رزقه تعالى يأتي بطرق معهودة وبطرق أخرى ‪ ،‬والله على كل شيء‬
‫قدير ‪.‬‬
‫فحين رأى هذه الحالة ذكره ذلك لطف ربه ‪ ،‬ورجاه إلى رحمته ‪ ،‬فدعا الله‬
‫أن يهب له ولدا يرثه علمه ونبوته ‪ ،‬ويقوم بعده في بني إسرائيل في تعليمهم‬
‫وهدايتهم ‪:‬‬

‫) ‪(1/461‬‬

‫َ‬
‫صد ًّقا‬‫م َ‬ ‫حَيى ُ‬
‫ك ب ِي َ ْ‬‫شُر َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي ُب َ ّ‬ ‫بأ ّ‬ ‫حَرا ِ‬‫م ْ‬‫صّلي ِفي ال ْ ِ‬ ‫م يُ َ‬‫ة وَهُوَ َقائ ِ ٌ‬ ‫مَلئ ِك َ ُ‬
‫ه ال ْ َ‬ ‫} فََناد َت ْ ُ‬
‫دا { ]آل عمران ‪. [39 :‬‬ ‫سي ّ ً‬‫ن الل ّهِ { ]أي ‪ :‬بعيسى[ } وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫مةٍ ِ‬ ‫ب ِك َل ِ َ‬
‫أي ‪ :‬عظيما عند الله ‪ ،‬وعند الخلق لما جبله الله عليه من الخلق الحميدة ‪،‬‬
‫والعلوم العظيمة ‪ ،‬والعمال الصالحة ‪.‬‬
‫صوًرا { ]آل عمران ‪. [39 :‬‬ ‫ح ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫أي ‪ :‬ممنوعا بعصمة الله وحفظه ‪ ،‬ووقايته من مواقعة المعاصي ; فوصفه‬
‫الله بالتوفيق لجميع الخيرات ‪ ،‬والحماية من السيئات والزلت ‪ ،‬وهذا غاية‬
‫كمال العبد ‪ ،‬فتعجب زكريا من ذلك وقال ‪:‬‬
‫ل‬ ‫عت ِّيا {} َقا َ‬ ‫ْ‬
‫ن الك ِب َرِ ِ‬ ‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫َ‬
‫عاقًِرا وَقَد ْ ب َلغْ ُ‬ ‫مَرأ َِتي َ‬ ‫تا ْ‬ ‫كان َ ِ‬‫م وَ َ‬ ‫ن ِلي غَُل ٌ‬ ‫كو ُ‬ ‫} أ َّنى ي َ ُ‬
‫شي ًْئا { ]مريم ‪8 :‬‬ ‫ك َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ل وَل َ ْ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬
‫م ْ‬‫ك ِ‬ ‫قت ُ َ‬‫خل َ ْ‬
‫ن وَقَد ْ َ‬‫ي هَي ّ ٌ‬ ‫ك هُوَ عَل َ ّ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫ك َقا َ‬ ‫ك َذ َل ِ َ‬
‫و ‪. [9‬‬
‫وهذا أعجب من حملها وهي عاقر على كبرك ‪ ،‬فمن فرحه ورغبته العظيمة‬
‫في طمأنينة قلبه قال ‪:‬‬
‫ل آيت َ َ‬
‫سوِّيا { ]مريم ‪:‬‬ ‫ث ل ََيا ٍ‬
‫ل َ‬ ‫س ث ََل َ‬ ‫ك أّل ت ُك َل ّ َ‬
‫م الّنا َ‬ ‫ة َقا َ َ ُ‬ ‫جعَ ْ‬
‫ل ِلي آي َ ً‬ ‫با ْ‬
‫} َر ّ‬
‫‪. [10‬‬

‫) ‪(1/462‬‬

‫كارِ { ]آل عمران ‪. [41 :‬‬ ‫ي َواْل ِب ْ َ‬ ‫ش ّ‬‫ح ِبال ْعَ ِ‬ ‫ك ك َِثيًرا وَ َ‬
‫سب ّ ْ‬ ‫} َواذ ْك ُْر َرب ّ َ‬
‫وهذه آية كبرى ‪ ،‬يمنع من الكلم الذي هو أسهل ما يقدر عليه النسان ‪ ،‬وهو‬
‫سويّ ‪ ،‬فل يقدر أن يكلم أحدا إل بالشارة ‪ ،‬ومع ذلك لسانه منطلق بذكر الله‬
‫وتسبيحه وتحميده ‪ ،‬فحينئذ تمت له البشارة من الله ‪ ،‬وعرف أنه ل بد أن‬
‫يكون ‪ ،‬فولدت زوجته يحيى ‪ ،‬وأنشأه الله نشأة عجيبة ‪ ،‬فتعلم وهو صغير ‪،‬‬
‫ومهر في العلم وهو صغير ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫صب ِّيا { ]حتى قيل ‪ :‬إن الله نبأه وهو صغير ‪ ،‬وكما أعطاه‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫} َوآت َي َْناهُ ال ْ ُ‬
‫ن ل َد ُّنا‬
‫م ْ‬‫حَناًنا ِ‬‫الله العلم العظيم فقد من عليه بأكمل الصفات فقال ‪ } [:‬وَ َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫م عَلي ْهِ ي َوْ َ‬
‫سل ٌ‬ ‫َ‬ ‫صّيا {} وَ َ‬
‫جّباًرا عَ ِ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫وال ِد َي ْهِ وَل َ ْ‬
‫قّيا {} وَب َّرا ب ِ َ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫كا َ‬‫كاةً وَ َ‬ ‫وََز َ‬
‫حّيا { ]مريم ‪. [15 - 12 :‬‬ ‫ث َ‬ ‫م ي ُب ْعَ ُ‬ ‫ت وَي َوْ َ‬‫مو ُ‬ ‫م يَ ُ‬‫وُل ِد َ وَي َوْ َ‬
‫ومضمون هذا وصفه بالقيام بحقوق الله ‪ ،‬وحقوق والديه ‪ ،‬وحقوق الخلق ‪،‬‬
‫وأن الله سيحسن له العواقب في أحواله كلها ‪.‬‬
‫وأما مريم فإنها انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ‪ ،‬متجردة لعبادة ربها ‪:‬‬
‫جاًبا { ]مريم ‪. [17 :‬‬ ‫ح َ‬ ‫م ِ‬‫ن ُدون ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫خذ َ ْ‬‫} َفات ّ َ‬

‫) ‪(1/463‬‬

‫لئل يشغلها أحد عما هي بصدده ; فأرسل الله لها الروح المين جبريل في‬
‫صورة بشر سوي من أكمل الرجال وأجملهم ‪ ،‬فظنت أنه يريدها بسوء ‪،‬‬
‫فقالت ‪:‬‬
‫قّيا { ]مريم ‪. [18 :‬‬ ‫ت تَ ِ‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْ َ‬ ‫َ‬
‫من ْك إ ِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬‫عوذ ُ ِبالّر ْ‬ ‫} إ ِّني أ َ ُ‬
‫فتوسلت بالله في حفظها وحمايتها ‪ ،‬وذكرته وجوب التقوى على كل مسلم‬
‫يخشى الله ‪ ،‬فكان هذا الورع العظيم منها في هذه الحالة التي يخشى منها‬
‫الوقوع في الفتنة ‪ ،‬ورفع الله بذلك مقامها ‪ ،‬ونعتها بالعفة الكاملة ‪ ،‬وأنها‬
‫أحصنت فرجها ‪ ،‬فقال لها جبريل ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫ٌ َ ْ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫غ‬ ‫لي‬‫ُ ِ‬ ‫ن‬ ‫كو‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫نى‬
‫ْ ّ َ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫{}‬ ‫ك غُ َ ً َ ِ ّ‬
‫يا‬ ‫ك‬ ‫ز‬ ‫ما‬ ‫ل‬ ‫ب لَ ِ‬ ‫ك ِل َهَ َ‬ ‫ل َرب ّ ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫ما } أَنا َر ُ‬ ‫إن ّ َ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫ه آي َ ً‬ ‫جعَل َ ُ‬
‫ن وَل ِن َ ْ‬ ‫ك هُوَ عَل َ ّ‬
‫ي هَي ّ ٌ‬ ‫ل َرب ّ ِ‬ ‫ك َقا َ‬‫ل ك َذ َل ِ ِ‬ ‫ك ب َغِّيا {} َقا َ‬ ‫مأ ُ‬ ‫شٌر وَل َ ْ‬ ‫سِني ب َ َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ضّيا { ]مريم ‪- 19 :‬‬ ‫َ‬ ‫مّنا { ]به وبك وبالناس[ } وَ َ‬
‫ق ِ‬‫م ْ‬
‫مًرا َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ة ِ‬‫م ً‬ ‫ح َ‬‫س وََر ْ‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫‪. [21‬‬
‫فل تعجبي مما قد َّره ُ الله وقضاه ‪:‬‬

‫) ‪(1/464‬‬

‫كاًنا قَ ِ‬
‫صّيا { ]خشية‬ ‫م َ‬
‫ت ب ِهِ { ]أي ‪ :‬ابتعدت به عن الناس[ } َ‬ ‫مل َت ْ ُ‬
‫ه َفان ْت َب َذ َ ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫ح َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ض { ]أي ‪ :‬الطلق[‬ ‫خا ُ‬ ‫م َ‬
‫ها { ]أي ‪ :‬ألجأها[ } ال َ‬ ‫جاَء َ‬ ‫التهام والذية منهم[ } فَأ َ‬
‫سّيا { ]مريم ‪:‬‬
‫من ْ ِ‬
‫سًيا َ‬‫ت نَ ْ‬ ‫ُ‬
‫ذا وَكن ْ ُ‬ ‫ت قَب ْ َ‬
‫ل هَ َ‬ ‫م ّ‬ ‫َ‬
‫ت يا لي ْت َِني ِ‬ ‫خل َةِ َقال َ ْ‬
‫جذ ِْع الن ّ ْ‬ ‫} إ َِلى ِ‬
‫‪ 22‬و ‪. [23‬‬
‫لما تعرفه مما هي متعرضة له من الناس ‪ ،‬وأنهم ل يصدقونها ‪ ،‬ولم تدر ما‬
‫الله صانع لها ‪.‬‬
‫حت َِها { ]مريم ‪. [24 :‬‬
‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫} فََناَدا َ‬
‫ها { ]الملك[ } ِ‬
‫وكانت في مكان مرتفع ‪ ،‬وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ‪.‬‬

‫) ‪(1/465‬‬

‫َ‬
‫ك‬‫سرِّيا { ]أي ‪ :‬نهرا جاريا[ } وَهُّزي إ ِل َي ْ ِ‬ ‫ك َ‬‫حت َ ِ‬‫ك تَ ْ‬
‫ل َرب ّ ِ‬ ‫جعَ َ‬ ‫حَزِني قَد ْ َ‬ ‫} أّل ت َ ْ‬
‫ك ُرط ًَبا َ‬
‫جن ِّيا {‬ ‫ط عَل َي ْ ِ‬ ‫ساقِ ْ‬ ‫خل َةِ { ]من دون أن تحوجك إلى صعود[ } ت ُ َ‬ ‫جذ ِْع الن ّ ْ‬ ‫بِ ِ‬
‫ي[‬‫سر ّ‬ ‫شَرِبي { ]من ال ّ‬ ‫ُ‬
‫]أي ‪ :‬طريا ناضجا[ } فَكِلي { ]من الرطب[ } َوا ْ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ت ََري ِ ّ‬ ‫} وَقَّري عَي ًْنا { بولدة عيسى ‪ ،‬وليذهب روعك وخوفك } فَإ ِ ّ‬
‫دا فَ ُ‬ ‫ال ْب َ َ‬
‫ما { ]أي ‪ :‬سكوتا ‪ ،‬وكان معهودا‬ ‫صو ْ ً‬‫ن َ‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬
‫ت ِللّر ْ‬‫قوِلي إ ِّني ن َذ َْر ُ‬ ‫ح ً‬ ‫شرِ أ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫عندهم أنهم يتعبدون بالصمت في جميع النهار ‪ ،‬ولذا فسره بقوله ‪ } [:‬فَل ْ‬
‫ن‬
‫ُ‬
‫سّيا { ]مريم ‪. [26 - 24 :‬‬ ‫م إ ِن ْ ِ‬‫م ال ْي َوْ َ‬ ‫أك َل ّ َ‬
‫فاطمأن قلبها ‪ ،‬وزال عنها ما كانت تجد ‪.‬‬
‫ثم لما تعالت من نفاسها ‪ ،‬وأصلحت من شأنها ‪ ،‬وقويت بعد الولدة ‪:‬‬
‫َ‬
‫ه { ]مريم ‪. [27 :‬‬ ‫مل ُ ُ‬
‫ح ِ‬ ‫مَها ت َ ْ‬‫ت ب ِهِ قَوْ َ‬ ‫} فَأت َ ْ‬
‫علنا غير هائبة ول مبالية ‪ ،‬فلما رآه قومها ‪ ،‬وقد علموا أنه ل زوج لها ‪ ،‬جزموا‬
‫أنه من وجه آخر فقالوا ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫ُ‬
‫شي ًْئا فَرِّيا {} يا أ ْ‬ ‫م لَ َ‬
‫ما‬
‫سوٍْء وَ َ‬ ‫مَرأ َ‬ ‫كا ْ‬ ‫ن أُبو ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫هاُرو َ‬
‫ت َ‬ ‫خ َ‬ ‫ت َ‬ ‫جئ ْ ِ‬‫قد ْ ِ‬ ‫مْري َ ُ‬ ‫} يا َ‬
‫ت إ ِلي ْهِ { ]مريم ‪. [29 - 27 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك ب َغِّيا {} فَأ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫شاَر ْ‬ ‫م ِ‬ ‫تأ ّ‬ ‫كان َ ْ‬

‫) ‪(1/466‬‬

‫كما أمرت بذلك ‪ ،‬فقالوا منكرين عليها مقالتها لهم ‪:‬‬


‫صب ِّيا { ]مريم ‪. [29 :‬‬ ‫مهْدِ َ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫ف ن ُك َل ّ ُ‬
‫} ك َي ْ َ‬
‫فقال ‪ ،‬وهو في تلك الحال له أيام يسيرة بعد ولدته ‪:‬‬
‫َ‬
‫ت‬ ‫ُ‬
‫ما كن ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫ً‬
‫مَباَركا أي ْ َ‬ ‫جعَل َِني ُ‬ ‫جعَل َِني ن َب ِّيا {} وَ َ‬
‫ب وَ َ‬ ‫ي ال ْك َِتا َ‬‫} إ ِّني عَب ْد ُ الل ّهِ آَتان ِ َ‬
‫َ‬
‫جّباًرا‬‫جعَل ِْني َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫وال ِد َِتي وَل َ ْ‬ ‫حّيا {} وَب َّرا ب ِ َ‬ ‫ت َ‬ ‫م ُ‬‫ما د ُ ْ‬ ‫كاةِ َ‬ ‫صَلةِ َوالّز َ‬ ‫صاِني ِبال ّ‬ ‫وَأوْ َ‬
‫حّيا { ]مريم ‪30 :‬‬ ‫ث َ‬ ‫م أ ُب ْعَ ُ‬
‫ت وَي َوْ َ‬ ‫مو ُ‬
‫شقيا {} والسَلم عَل َي يوم ول ِدت ويو َ‬
‫مأ ُ‬‫ّ َ ْ َ ُ ْ ُ ََ ْ َ‬ ‫َ ّ ُ‬ ‫َ ِ ّ‬
‫‪. [33 -‬‬
‫فكان هذا الكلم منه في هذه الحال من آيات الله ‪ ،‬وأدلة رسالته ‪ ،‬وأنه عبد‬
‫الله ل كما يزعمه النصارى ‪ ،‬وحصل لمه البراءة العظيمة مما يظن بها من‬
‫السوء ‪ ،‬لنها لو أتت بألف شاهد على البراءة وهي على هذه الحال ما صدقها‬
‫الناس ‪ ،‬ولكن هذا الكلم من عيسى وهو في المهد جل كل ريب يقع في‬
‫القلوب ‪ ،‬فانقسم الناس فيه بعد هذا ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫قسم آمنوا به وصدقوه في كلمه هذا ‪ ،‬وفي النقياد له بعد النبوة ‪ ،‬وهم‬
‫المؤمنون حقيقة ‪.‬‬

‫) ‪(1/467‬‬
‫وقسم غلوا فيه وهم النصارى ‪ ،‬فقالوا فيه المقالت المعروفة ‪ ،‬ونزلوه منزلة‬
‫الرب ‪ ،‬تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ‪.‬‬
‫وقسم كفروا به وجفوه ‪ -‬وهم اليهود ‪ -‬ورموا أمه بما برأها الله منه ‪ ،‬ولهذا‬
‫م‬ ‫م ْ‬
‫شهَدِ ي َوْ ٍ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫ن كَ َ‬
‫فُروا ِ‬ ‫ل ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م فَوَي ْ ٌ‬
‫ن ب َي ْن ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫حَزا ُ‬‫ف اْل َ ْ‬
‫خت َل َ َ‬
‫قال تعالى ‪َ } :‬فا ْ‬
‫ظيم ٍ { ]مريم ‪. [37 :‬‬ ‫عَ ِ‬
‫ولما أرسله الله إلى بني إسرائيل آمن به من آمن ‪ ،‬وكفر به من كفر ‪ ،‬وجعل‬
‫يريهم اليات والعجائب ‪ ،‬فكان يصور الطين فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله‬
‫‪ ،‬ويبرئ الكمه والبرص ‪ ،‬ويحيي الموتى بإذن الله ‪ ،‬وينبئهم عن كثير مما‬
‫يأكلون ‪ ،‬ويدخرون في بيوتهم ‪ ،‬ومع ذلك فتكالبت عليه أعداؤه وأرادوا قتله ‪،‬‬
‫فألقى الله شبهه على واحد من الحواريين أصحابه أو من غيرهم ‪ ،‬ورفعه الله‬
‫إليه ‪ ،‬وطّهره من قتلهم ‪ ،‬فأخذوا شبيهه فقتلوه وصلبوه ‪ ،‬وباءوا بالثم‬
‫جرم الجسيم ‪ ،‬وصدقهم النصارى أنهم قتلوه وصلبوه ‪ ،‬ونّزهه الله‬ ‫العظيم وال ْ ُ‬
‫من هذه الحالة فقال ‪:‬‬
‫م { ]النساء ‪. [157 :‬‬ ‫ه لهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ن ُ‬
‫شب ّ َ‬ ‫صل َُبوه ُ وَلك ِ ْ‬
‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫ما قَت َُلوه ُ وَ َ‬
‫} وَ َ‬

‫) ‪(1/468‬‬

‫شر وأعلن برسالة محمد صلى الله عليه‬ ‫وقد قام عيسى في بني إسرائيل فب ّ‬
‫وسلم ‪ ،‬فلما جاءهم محمد الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم قالوا ‪:‬‬
‫ن { ]النمل ‪. [13 :‬‬ ‫مِبي ٌ‬
‫حٌر ُ‬‫س ْ‬ ‫} َقاُلوا هَ َ‬
‫ذا ِ‬
‫ن{‬ ‫مِبي ٌ‬
‫حٌر ُ‬
‫س ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن هَ َ‬
‫ذا إ ِل ِ‬ ‫م إِ ْ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫ن كَ َ‬
‫فُروا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ل ال ِ‬ ‫كما قالوا في عيسى ‪ } :‬فَ َ‬
‫قا َ‬
‫]المائدة ‪. [110 :‬‬
‫* وفي هذه القصة من الفوائد أمور ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن النذر ما زال مشروعا في المم السابقة ‪ ،‬والنبي صلى الله عليه‬
‫وسلم قال فيه كلمة جامعة للصحيح النافذ منه للباطل فقال ‪ » :‬من نذر أن‬
‫يطيع الله فليطعه ‪ ،‬ومن نذر أن يعصي الله فل يعصه « ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن من نعمة الله على العبد أن يكون في كفالة الصالحين الخيار ;‬
‫فإن المربي والكافل له الثر العظم في حياة المكفول وأخلقه وآدابه ‪،‬‬
‫مَر الله المربين بالتربية الطيبة المشتملة على الحث على الخلق‬ ‫َ‬
‫ولهذا أ َ‬
‫الجميلة ‪ ،‬والترهيب من مساوئ الخلق ‪.‬‬

‫) ‪(1/469‬‬

‫سر لها أن تكون‬‫ومنها ‪ :‬إثبات كرامات الولياء ; فإن الله كّرم مريم بأمور ‪ :‬ي ّ‬
‫في كفالة زكريا بعدما حصل الخصام في شأنها ‪ ،‬وأكرمها بأن كان رزُقها‬
‫يأتيها من الله بل سبب ‪ ،‬وأكرمها بوجود عيسى ‪ ،‬وولدتها إياه ‪ ،‬وبخطاب‬
‫من قلبها ‪ ،‬ثم بكلمه في المهد ‪ ،‬فهذه الخيرة جمعت كرامة‬ ‫الملك لها بما يط ّ‬
‫ي ومعجزة نبي ‪.‬‬ ‫ول ّ‬
‫ومنها ‪ :‬اليات العظيمة التي أجراها الله على يد عيسى ابن مريم ‪ :‬من إحياء‬
‫الموتى ‪ ،‬وإبراء الكمه والبرص ونحوهما ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ما أكرم الله به عيسى بأن جعل له حواريين وأنصارا في حياته وبعد‬
‫مماته في بث دعوته والنصر لدينه ‪ ،‬ولذلك كثر تابعوه ‪ ،‬ولكن منهم المستقيم‬
‫‪ ،‬وهو الذي آمن به حقيقة ‪ ،‬وآمن بجميع الرسل ‪ ،‬ومنهم المنحرف ‪ ،‬وهم‬
‫الذين غلوا فيه ‪ ،‬وهم جمهور من يدعي أنه من أتباعه ‪ ،‬وهم أبعد الناس‬
‫عنه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الله أثنى على مريم بالكمال بالصديقية ‪ ،‬وأنها صدقت بكلمات‬
‫ربها وكتبه ‪ ،‬وكانت من القانتين ‪ ،‬وهذا وصف لها بالعلم الراسخ ‪ ،‬والعبادة‬
‫الدائمة ‪ ،‬والخشوع لله ‪ ،‬وأنه اصطفاها وفضلها على نساء العالمين ‪.‬‬

‫) ‪(1/470‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن إخبار الله للنبي بهذه القصة وغيرها مفصلة مطابقة للحقيقة من‬
‫أدلة رسالته وآيات نبوته لقوله ‪:‬‬
‫حيهِ إ ِل َي ْك { ]آل عمران ‪. [44 :‬‬ ‫كم َ‬
‫َ‬ ‫ن أن َْباِء ال ْغَي ْ ِ‬
‫ب ُنو ِ‬ ‫} ذ َل ِ َ ِ ْ‬
‫) ‪(1/471‬‬

‫قصة يوسف ويعقوب عليهما الصلة والسلم‬


‫هذه القصة من أعجب القصص ‪ ،‬وذكرها الله جميعا ‪ ،‬وأفردها بسورة مطولة‬
‫مفصلة تفصيل واضحا ‪ ،‬قراءتها تغني عن التفسير ‪ ،‬فإن الله ساق فيها حالة‬
‫يوسف من ابتداء أمره إلى آخره ‪ ،‬وما بين ذلك من التنقلت واختلف‬
‫الحوال ‪ ،‬وقال فيها ‪:‬‬
‫ن { ]يوسف ‪. [7 :‬‬‫سائ ِِلي َ‬
‫ت ِلل ّ‬
‫خوَت ِهِ آَيا ٌ‬‫ف وَإ ِ ْ‬
‫س َ‬ ‫ن ِفي ُيو ُ‬
‫كا َ‬ ‫} لَ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫فلنذكر ما يستنبط من هذه القصة العظيمة من الفوائد ‪ ،‬فنقول مستعينين‬
‫بالله ‪:‬‬
‫* ذكر ما فيها من الفوائد ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن هذه القصة من أحسن القصص وأوضحها ؛ لما فيها من أنواع‬
‫التنقلت من حال إلى حال ‪ ،‬ومن محنة إلى محنة ‪ ،‬ومن محنة إلى منحة‬
‫ومّنة ‪ ،‬ومن ذل إلى عز ‪ ،‬ومن أمن إلى خوف وبالعكس ‪ ،‬ومن ملك إلى رق‬
‫وبالعكس ‪ ،‬ومن فرقة وشتات إلى انضمام وائتلف وبالعكس ‪ ،‬ومن سرور‬
‫إلى حزن وبالعكس ‪ ،‬ومن رخاء إلى جدب وبالعكس ‪ ،‬ومن ضيق إلى سعة‬
‫وبالعكس ‪ ،‬ومن وصول إلى عواقب حميدة ‪ ،‬فتبارك من قصها وجعلها عبرة‬
‫لولي اللباب ‪.‬‬

‫) ‪(1/472‬‬

‫ومنها ‪ :‬ما فيها من أصول تعبير الرؤيا المناسبة ‪ ،‬وأن علم التعبير علم مهم‬
‫يعطيه الله من يشاء من عباده ‪ ،‬وأن أغلب ما تبنى عليه المناسبات وضرب‬
‫المثال والمشابهة في الصفات ‪.‬‬
‫فوجه مناسبة رؤيا يوسف ‪ :‬أنه رأى الشمس والقمر والكواكب الحد عشر‬
‫ساجدين له ‪ ،‬أن هذه زينة للسماء ‪ ،‬وفيها منافعها ‪ ،‬فكذلك النبياء والعلماء‬
‫والصفياء زينة الرض ‪ ،‬وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بالنوار‬
‫السماوية ‪ ،‬ولن أباه وأمه أصل ‪ ،‬وإخوته فرع عنهما ‪ ،‬فمن المناسب أن‬
‫يكون الصل أعظم نورا وجرما من الفرع ‪ ،‬فلذلك كانت الشمس أمه أو أبوه‬
‫‪ ،‬والقمر الخر منهما ‪ ،‬والكواكب إخوته ‪ ،‬ومن المناسب أن الساجد محترم‬
‫لمن سجد له ‪ ،‬والمسجود له معظم محترم ‪ ،‬فدل ذلك على أن يوسف يصير‬
‫معظما محترما لبويه وإخوته ‪ ،‬ول يتم هذا إل بمقدمات تقتضي الوصول إلى‬
‫هذا ‪ :‬من علوم وأعمال واجتباء من الله ‪ ،‬فلهذا قال ‪:‬‬
‫ْ‬
‫ك{‬ ‫ه عَل َي ْ َ‬
‫مت َ ُ‬
‫م ن ِعْ َ‬
‫ث وَي ُت ِ ّ‬ ‫ل اْل َ َ‬
‫حاِدي ِ‬ ‫ن ت َأِوي ِ‬
‫م ْ‬
‫ك ِ‬ ‫ك وَي ُعَل ّ ُ‬
‫م َ‬ ‫ك َرب ّ َ‬
‫جت َِبي َ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫ك يَ ْ‬
‫]يوسف ‪. [6 :‬‬

‫) ‪(1/473‬‬

‫ومنها ‪ :‬المناسبة في رؤيا الفتيين ‪ ،‬حيث عبر رؤيا من رأى أنه يعصر خمرا أن‬
‫الذي يعمل هذا العمل يكون في العادة خادما لغيره ‪ ،‬وأيضا العصر مقصود‬
‫لغيره ‪ ،‬والخادم تابع لغيره ‪ ،‬ويؤول أيضا إلى السقي الذي هو خدمته ‪ ،‬فلذلك‬
‫أّوله بما يؤول إليه ‪ ،‬وأما تعبيره لرؤيا من رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا‬
‫تأكل الطير منه ‪ ،‬بأنه يقتل ويصلب مدة حتى تأكل الطير من مخ رأسه الذي‬
‫هو يحمل ‪.‬‬
‫وعبر رؤيا الملك بالبقرات والسنبلت ‪ :‬بأنها السنين المخصبة والمجدبة ‪،‬‬
‫ووجه المناسبة أن الملك به ترتبط أمور الرعية ومصالحها ‪ ،‬وبصلحه تصلح ‪،‬‬
‫وبفساده تفسد ‪ ،‬فهذه نسبته إذ رأى هو الرؤيا ‪ ،‬وكذلك السنون بخصبها‬
‫وجدبها تنتظم أمور المعاش أو تختل ‪ ،‬والبقر هي آلة حرث الرض واستخراج‬
‫مغلها ‪ ،‬والمغل هو الزرع ‪ ،‬فرأى السبب والمسبب ‪ ،‬فرؤيته السبع السمان‬
‫من البقر ثم السبع العجاف ‪ ،‬والسبع السنبلت الخضر ‪ ،‬ثم السبع اليابسات ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬ل بد أن تتقدم السبع السنين المخصبات ‪ ،‬ثم تتلوها المجدبات ‪ ،‬وتأكل‬
‫ما حصل فيها من غلل ‪ ،‬ول تبقي إل شيئا يحصنونه عنها ‪ ،‬وإل فهي بصدد‬
‫أكلها كلها ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬من أين أخذ قوله ‪:‬‬

‫) ‪(1/474‬‬

‫ن ب َعْد ِ ذ َل ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ن { ]يوسف ‪:‬‬ ‫صُرو َ‬‫س وَِفيهِ ي َعْ ِ‬ ‫ث الّنا ُ‬ ‫م ِفيهِ ي َُغا ُ‬ ‫عا ٌ‬‫ك َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ي َأِتي ِ‬‫} ثُ ّ‬
‫‪. [49‬‬
‫فإن بعض المفسرين قال ‪ :‬هذه زيادة من يوسف في التعبير بوحي أوحي‬
‫إليه ‪.‬‬
‫فالجواب ليس المر كذلك ‪ ،‬وإنما أخذها من رؤيا الملك ‪ ،‬فإن السنين‬
‫المجدبة سبع فقط ‪ ،‬فدل على أنه سيأتي بعدها عام الخصب ‪ ،‬كثير‬
‫البركات ‪ ،‬يزيل الجدب العظيم الحاصل من السنين المجدبة التي ل يزيلها‬
‫عام خصب عادي ‪ ،‬بل ل بد فيه من خصب خلف العادة ‪ ،‬وهذا واضح وهو‬
‫من مفهوم العدد ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ما فيها من الدلة والبراهين على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬حيث قص عليه هذه القصة المفصلة المبسوطة الموافقة للواقع‬
‫التي أتت بالمقصود كله ‪ ،‬وهو لم يقرأ كتب الولين ‪ ،‬ول دارس أحدا كما هو‬
‫معلوم لقومه ‪ ،‬وهو بنفسه ُأمي ل يقرأ ول يكتب ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫كم َ‬
‫م‬
‫م وَهُ ْ‬
‫مَرهُ ْ‬
‫مُعوا أ ْ‬
‫ج َ‬ ‫ت ل َد َي ْهِ ْ‬
‫م إ ِذ ْ أ ْ‬ ‫ما ك ُن ْ َ‬
‫ك وَ َ‬‫حيهِ إ ِل َي ْ َ‬‫ب ُنو ِ‬ ‫ن أن َْباِء ال ْغَي ْ ِ‬‫} ذ َل ِ َ ِ ْ‬
‫ن { ]يوسف ‪. [102 :‬‬ ‫مك ُُرو َ‬
‫يَ ْ‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للعبد البعد عن أسباب الشر ‪ ،‬وكتمان ما تخشى مضّرته ‪،‬‬
‫لقول يعقوب ليوسف ‪:‬‬

‫) ‪(1/475‬‬

‫دا { ]يوسف ‪. [5 :‬‬ ‫دوا ل َ َ‬


‫ك ك َي ْ ً‬ ‫ك فَي َ ِ‬
‫كي ُ‬ ‫ك عََلى إ ِ ْ‬
‫خوَت ِ َ‬ ‫ص ُرؤَْيا َ‬ ‫ص ْ‬ ‫ق ُ‬ ‫} َل ت َ ْ‬
‫ومنها ‪ :‬ذكر النسان بما يكره على وجه الصدق والنصيحة له أو لغيره لقوله ‪:‬‬
‫دا { ‪ ،‬ومنها ‪ :‬أن نعمة الله على العبد نعمة على من يتعلق‬ ‫دوا ل َ َ‬
‫ك ك َي ْ ً‬ ‫كي ُ‬‫} فَي َ ِ‬
‫به ‪ ،‬ويتصل من أهل بيته وأقاربه وأصحابه ‪ ،‬فإنه ل بد أن يصلهم ويشملهم‬
‫منها جانب لقوله ‪:‬‬
‫ب { ]يوسف ‪. [6 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫ل ي َعْ ُ‬‫ه عَل َي ْك وَعَلى آ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫مت َ ُ‬
‫م ن ِعْ َ‬‫} وَي ُت ِ ّ‬
‫أي ‪ :‬بما يحصل لك ; ولهذا لما تمت النعمة على يوسف حصل لل يعقوب‬
‫من العز والتمكن والسرور ‪ ،‬وزوال المكروه ‪ ،‬وحصول المحبوب ما ذكر الله‬
‫في آخر القصة ‪.‬‬

‫) ‪(1/476‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن النعم الكبيرة الدينية والدنيوية ل بد أن يتقدمها أسباب ووسائل‬


‫إليها ; لن الله حكيم ‪ ،‬وله سنن ل تتغير ‪ ،‬قضى بأن المطالب العالية ل تنال‬
‫إل بالسباب النافعة ‪ ،‬خصوصا العلوم النافعة ‪ ،‬وما يتفّرع عنها من الخلق‬
‫والعمال ; فلهذا عرف يعقوب أن وصول يوسف إلى تلك الحالة التي يخضع‬
‫له فيها أبوه وأمه وإخوته مقام عظيم ‪ ،‬ومرتبة عالية ‪ ،‬وأنه ل بد أن ييسر‬
‫ك‬‫ك َرب ّ َ‬
‫جت َِبي َ‬ ‫الله ليوسف من الوسائل ما يوصله إليها ‪ ،‬ولهذا قال ‪ } :‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫ك يَ ْ‬
‫ْ‬
‫ك{‪.‬‬ ‫ه عَل َي ْ َ‬
‫مت َ ُ‬
‫م ن ِعْ َ‬
‫ث وَي ُت ِ ّ‬ ‫ل اْل َ َ‬
‫حاِدي ِ‬ ‫ن ت َأِوي ِ‬
‫م ْ‬
‫ك ِ‬ ‫وَي ُعَل ّ ُ‬
‫م َ‬
‫ومنها ‪ :‬أن العدل مطلوب في جميع المور الصغار والكبار في معاملة‬
‫السلطان لرعيته ‪ ،‬ومعاملة الوالدين للولد ‪ ،‬والقيام بحقوق الزوجات ‪ ،‬وغير‬
‫ذلك في المحبة واليثار ونحوها ‪ ،‬وأن القيام بالعدل في ذلك تستقيم المور‬
‫صغارها وكبارها به ‪ ،‬ويحصل للعبد ما أحب ‪ ،‬وفي الخلل بذلك تفسد‬
‫الحوال ‪ ،‬ويحصل للعبد المكروه من حيث ل يشعر ; لهذا لما قدم يعقوب‬
‫يوسف في المحبة ‪ ،‬وجعل وجهه له جرى منهم على أبيهم وأخيهم من‬
‫المكروه ما جرى ‪.‬‬

‫) ‪(1/477‬‬

‫ومنها ‪ :‬الحذر من شؤم الذنوب ‪ ،‬فكم من ذنب واحد استتبع ذنوبا كثيرة ‪،‬‬
‫وتسلسل الشر المؤسس على الذنب الول ‪ ،‬وانظر إلى جرم إخوة يوسف ‪،‬‬
‫فإنهم أرادوا التفريق بينه وبين أبيه الذي هو من أعظم الجرائم ‪ ،‬احتالوا على‬
‫ذلك بعدة حيل ‪ ،‬وكذبوا عدة مرات ‪ ،‬وزوروا على أبيهم في القميص والدم‬
‫الذي فيه ‪ ،‬وفي صفة حالهم حين أتوا عشاء يبكون ‪ ،‬ول بد أن الكلم في‬
‫هذه القضية تسلسل وتشعب ‪ ،‬بل ربما أنه اتصل إلى الجتماع بيوسف ‪،‬‬
‫وكلما بحث في هذا الموضوع فهو بحث كذب وزور مع استمرار أثر المصيبة‬
‫على يعقوب ‪ ،‬بل وعلى يوسف ‪ ،‬فليحذر العبد من الذنوب ‪ ،‬خصوصا الذنوب‬
‫المتسلسلة ‪ ،‬وضد ذلك بعض الطاعات تكون طاعة واحدة ‪ ،‬ولكن يتسلسل‬
‫نفعها وبركتها حتى تستتبع طاعات من الفاعل وغيره ‪ ،‬وهذا من أعظم آثار‬
‫بركة الله للعبد في علمه وعمله ‪.‬‬

‫) ‪(1/478‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن العبرة للعبد في حال كمال النهاية ‪ ،‬ل بنقص البداية ‪ ،‬فإن أولد‬
‫يعقوب عليهم السلم جرى منهم ما جرى في أول المر من الجرائم المتنوعة‬
‫‪ ،‬ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح ‪ ،‬والعتراف التام ‪ ،‬والعفو التام عنهم‬
‫من يوسف ومن أبيهم ‪ ،‬والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة ‪ ،‬وإذا سمح العبد‬
‫بحق فالله أولى بذلك وهو خير الراحمين الغافرين ‪ ،‬ولهذا في أصح القوال‬
‫إن الله جعلهم أنبياء لمحو ما سبق منهم ‪ ،‬وكأنه ما كان ‪ ،‬ولقوله ‪:‬‬
‫ط‬
‫سَبا ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ب َوال ْ‬
‫قو َ‬‫حاقَ وَي َعْ ُ‬
‫س َ‬ ‫عي َ‬
‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫ما ِ‬
‫س َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬
‫هي َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي َْنا وَ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫{ ]البقرة ‪. [136 :‬‬
‫وهم أولد يعقوب الثنا عشر وذريتهم ‪ ،‬ومما يؤيد هذا أن في رؤيا يوسف‬
‫أنهم هم الكواكب التي فيها النور والهداية ‪ ،‬وهي من صفات النبياء ‪ ،‬فإن لم‬
‫يكونوا أنبياء فإنهم علماء عباد ‪.‬‬

‫) ‪(1/479‬‬

‫ن الله به على يوسف من العلم والحلم ‪ ،‬والخلق الكاملة ‪،‬‬ ‫ومنها ‪ :‬ما م ّ‬
‫والدعوة إلى الله وإلى دينه ‪ ،‬وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به ‪،‬‬
‫مم ذلك بأن أخبرهم أنه ل يثرب عليهم بعد هذا العفو ‪ ،‬ثم بره العظيم بأبيه‬ ‫وت َ ّ‬
‫وأمه وإحسانه على إخوته ‪ ،‬وإحسانه على عموم الخلق ‪ ،‬كما هو بّين في‬
‫سيرته وقصته ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن بعض الشر أهون من بعض ‪ ،‬وارتكاب أخف الضررين أولى من‬
‫ارتكاب أعظمهما ؛ فإن إخوة يوسف لما قالوا ‪:‬‬
‫َ‬ ‫} اقْتُلوا يوس َ َ‬
‫ضا { ]يوسف ‪. [9 :‬‬ ‫حوهُ أْر ً‬ ‫ف أوِ اط َْر ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫وقال قائل منهم ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ف وأ َ‬
‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫إ‬ ‫ة‬ ‫ر‬‫يا‬
‫ّ ّ َ ِ ِ ْ ُْ ْ‬ ‫س‬‫ال‬ ‫ض‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫ط‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫ي‬ ‫ب‬
‫َ َ ِ ُ ّ َ َِ ُ َْ ُ‬‫ج‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ة‬‫ب‬ ‫يا‬‫َ‬ ‫غ‬ ‫في‬‫ُ ِ‬ ‫ه‬ ‫قو‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫س َ َ‬ ‫قت ُُلوا ُيو ُ‬‫} َل ت َ ْ‬
‫ن { ]يوسف ‪. [10 :‬‬ ‫عِلي َ‬ ‫َفا ِ‬
‫كان قوله أحسن منهم وأخف ‪ ،‬وبسببه خف عن إخوته الثم الكبر ‪ ،‬وهو من‬
‫جملة السباب التي قدر الله ليوسف في وصوله إلى الغاية التي يريد ‪.‬‬

‫) ‪(1/480‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الشيء إذا تداولته اليدي ‪ ،‬وصار من جملة الموال ‪ ،‬ولم يعلم‬
‫المعاملون أنه على غير وجه الشرع ‪ ،‬فل إثم على من باشره ببيع أو شراء أو‬
‫خدمة أو انتفاع أو استعمال ‪ ،‬فإن يوسف باعه إخوته بيعا محّرما عليهم ‪،‬‬
‫واشترته السيارة بناء على أنه عبد لخوة يوسف البائعين ‪ ،‬ثم ذهبوا به إلى‬
‫مصر فباعوه بها ‪ ،‬وبقي عند سيده غلما رقيقا ‪ ،‬وسماه الله سيدا ‪ ،‬وكان‬
‫عندهم بمنزلة الرقيق المكرم ‪ ،‬وسمى الله شراء السيارة وشراءه في مصر‬
‫معاملة لما ذكرنا ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬الحذر من الخلوة بالنساء الجنبيات ‪ ،‬وخصوصا اللتي يخشى منهن‬
‫الفتنة ‪ ،‬والحذر أيضا من المحبة التي يخشى ضررها ؛ فإن امرأة العزيز جرى‬
‫حدها بيوسف ‪ ،‬وحبها الشديد له الذي ما تركها حتى‬
‫منها ما جرى بسبب تو ّ‬
‫راودته تلك المراودة ‪ ،‬ثم كذبت عليه فسجن ذلك السجن الطويل ‪.‬‬

‫) ‪(1/481‬‬

‫م به يوسف ثم تركه لله ولبرهان اليمان الذي وضعه‬ ‫ومنها ‪ :‬أن الهم الذي ه ّ‬
‫الله في قلبه مما يرّقيه إلى الله زلفى ؛ لن الهم داع من دواعي النفس‬
‫طبع عليها الدمي ‪ ،‬فإذا حصل الهم بالمعصية‬ ‫مارة بالسوء ‪ ،‬وهو طبيعة ُ‬ ‫ال ّ‬
‫ولم يكن عند العبد ما يقاوم ذلك من اليمان والخوف من الله وقع الذنب ‪،‬‬
‫وإن كان العبد مؤمنا كامل اليمان فإن الهم الطبيعي إذا قابله ذلك اليمان‬
‫الصحيح القوي منعه من ترتب أثره ‪ ،‬ولو كان الداعي قويا ‪ ،‬ولهذا كان‬
‫يوسف من أعلى هذا النوع ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫سوَء‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫ر‬‫ص‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫ِ َِ ْ ِ َ َْ ُ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫}‬ ‫‪[:‬‬ ‫ن َرب ّهِ { ]بدليل قوله‬ ‫ها َ‬‫ن َرَأى ب ُْر َ‬ ‫َ‬
‫} ل َوَْل أ ْ‬
‫ن { ]يوسف ‪. [24 :‬‬ ‫خل َ ِ‬
‫صي َ‬ ‫عَبادَِنا ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬
‫شاَء إ ِن ّ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫ف ْ‬
‫لستخلص الله إياه ‪ ،‬وقوة إيمانه وإخلصه ‪ ،‬خّلصه الله من الوقوع في‬
‫الذنب ‪ ،‬فكان ممن خاف مقام ربه ‪ ،‬ونهى النفس عن الهوى ‪ ،‬ومن أعلى‬
‫السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم ل ظل إل ظله ‪ ،‬فذكر صلى الله عليه‬
‫وسلم منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال ‪ :‬إني أخاف الله ‪،‬‬
‫مها لما كان ل معارض له استمرت في مراودته ‪ ،‬وهمه عارض عرض ‪ ،‬ثم‬ ‫فه ّ‬
‫زال في الحال ببرهان ربه ‪.‬‬

‫) ‪(1/482‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن من دخل اليمان قلبه استنار بمعرفة ربه ونور اليمان به ‪ ،‬وكان‬
‫مخلصا لله في كل أحواله ‪ ،‬فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه وإخلصه من‬
‫أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء ليمانه وإخلصه ; لن‬
‫ن{‬ ‫خل َ ِ‬
‫صي َ‬ ‫م ْ‬‫عَبادَِنا ال ْ ُ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬‫ه ِ‬‫الله علل صرف هذه المور عن يوسف بقوله ‪ } :‬إ ِن ّ ُ‬
‫على قراءة من قرأها بكسر اللم ‪ ،‬ومن قرأها بالفتح فإن من أخلصه الله‬
‫واجتباه فل بد أن يكون مخلصا ‪ ،‬فالمعنيان متلزمان ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للعبد إذا ابتلي بالوقوع في محل فيه فتنة وأسباب معصية‬
‫أن يفر ويهرب غاية ما يمكنه ؛ ليتمكن من التخلص من ذلك الشر ‪ ،‬كما فر‬
‫يوسف هاربا للباب ‪ ،‬وهي تمسك بثوبه وهو مدبر عنها ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن القرائن يعمل بها عند الشتباه في الدعاوى ‪ ،‬وذلك أن الشاهد‬
‫الذي شهد أي ‪ :‬حكم على يوسف وعلى المرأة اعتبر القرينة فقال ‪:‬‬
‫ل { ]يوسف ‪. [26 :‬‬ ‫ن قُب ُ ٍ‬ ‫ه قُد ّ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ن قَ ِ‬
‫مي ُ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫} إِ ْ‬
‫إلى آخر القضية ‪ ،‬وصار حكمه هذا موافقا للصواب ‪ ،‬ومن القرائن وجود‬
‫الصواع في رحل الخ ‪ ،‬وقد اعتبر هذا وهذا ‪.‬‬

‫) ‪(1/483‬‬
‫ومنها ‪ :‬ما عليه يوسف من الجمال الباهر ظاهرا وباطنا ‪ ،‬فإن جماله الظاهر‬
‫أوجب لمرأة العزيز ما أوجب من الحب المفرط والمراودة المستمرة ‪ ،‬ولما‬
‫لمها النساء دعتهن ‪:‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ما‬‫ن فَل َ ّ‬ ‫ج عَل َي ْهِ ّ‬ ‫خُر ْ‬
‫تا ْ‬ ‫كيًنا وََقال َ ِ‬ ‫س ّ‬‫ن ِ‬ ‫من ْهُ ّ‬‫حد َةٍ ِ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫مت ّك َأ َوآت َ ْ‬ ‫ت ل َهُ ّ‬
‫ن ُ‬ ‫} وَأعْت َد َ ْ‬
‫مل َ ٌ‬ ‫رأ َينه أ َك ْبرنه وقَط ّع َ‬
‫ك‬ ‫ذا إ ِّل َ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫شًرا إ ِ ْ‬ ‫ذا ب َ َ‬
‫ما هَ َ‬ ‫ش ل ِل ّهِ َ‬
‫حا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن وَقُل ْ َ‬ ‫ن أي ْدِي َهُ ّ‬ ‫ْ َ‬ ‫َْ َ ُ َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫م { ]يوسف ‪. [31 :‬‬ ‫ري ٌ‬ ‫كَ ِ‬
‫وأما جماله الباطن فهو العفة العظيمة منه مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع‬
‫السوء منه ‪ ،‬ولكن اليمان ونوره ‪ ،‬والخلص وقوته ل يشذ عنهما فضيلة ‪ ،‬ول‬
‫تجامعهما رذيلة ‪ ،‬وقد بينت امرأة العزيز للنساء من يوسف المرين ‪ ،‬فإنها‬
‫لما أرتهن جماله الظاهر الذي اعترفن أن هذا الجمال ل يوجد في الدميين‬
‫قالت ‪:‬‬
‫م { ]يوسف ‪. [32 :‬‬ ‫ص َ‬‫ست َعْ َ‬ ‫َ‬
‫سهِ فا ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫ه عَ ْ‬
‫قد ْ َراوَد ْت ُ ُ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬‫ه لَ ِ‬ ‫سهِ وَإ ِن ّ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن نَ ْ‬‫ه عَ ْ‬ ‫حقّ أَنا َراوَد ْت ُ ُ‬ ‫ص ال ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ص َ‬‫ح ْ‬ ‫ن َ‬ ‫وقالت بعد ذلك ‪ } :‬اْل َ‬
‫ن { ]يوسف ‪. [51 :‬‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫ال ّ‬

‫) ‪(1/484‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن يوسف صلى الله عليه وسلم اختار السجن على المعصية ‪ ،‬فهكذا‬
‫إذا ابتلي العبد بأحد أمرين ‪ ،‬إما أن يلجأ إلى فعل المعصية ‪ ،‬وإما أن يعاقب‬
‫عقوبة دنيوية ‪ ،‬فعليه أن يختار العقوبة الدنيوية التي فيها الثواب من هذا‬
‫الوجه بعدة أمور ‪ :‬ثواب من جهة اختياره اليمان على السلمة من العقوبة‬
‫الدنيوية ‪ ،‬وثواب من جهة أن هذا من باب التخليص للمؤمن والتصفية ‪ ،‬وهو‬
‫يدخل في الجهاد في سبيل الله ‪ ،‬وثواب من جهة المصيبة التي نالته واللم‬
‫الذي أصابه ‪ ،‬فسبحان من ينعم ببلئه ‪ ،‬ويلطف بأصفيائه ‪ ،‬وهذا أيضا عنوان‬
‫اليمان ‪ ،‬وعلمة السعادة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى ربه ‪ ،‬ويحتمي بحماه عند وجود أسباب‬
‫المعصية ‪ ،‬ويتبرأ من حوله وقوته لقول يوسف ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف عَني ك َيدهُ َ‬
‫ن { ]يوسف ‪. [33 :‬‬ ‫جاهِِلي َ‬
‫ن ال َ‬‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ب إ ِل َي ْهِ ّ‬
‫ن وَأك ُ ْ‬ ‫ص ُ‬
‫نأ ْ‬‫ْ َ ّ‬ ‫} وَإ ِّل ت َ ْ‬
‫صرِ ْ ّ‬
‫فالعبد الموفق يستعين ربه على دفع المعاصي وأسبابها ‪ ،‬كما يستعين به عند‬
‫فعل الطاعات والخيرات ‪ ،‬والله كافي المتوكلين ‪.‬‬

‫) ‪(1/485‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن العلم والعقل الصحيح يدعوان صاحبهما إلى الخير ‪ ،‬وينهيانه عن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ب إ ِل َي ْهِ ّ‬
‫ن وَأك ُ ْ‬ ‫ص ُ‬
‫الشر ‪ ،‬وأن الجهل يدعو صاحبه إلى ضد ذلك لقوله ‪ } :‬أ ْ‬
‫ن { أي ‪ :‬الجاهلين بالمور الدينية ‪ ،‬والجاهلين بالحقائق النافعة‬ ‫ال ْ َ‬
‫جاهِِلي َ‬
‫والحقائق الضارة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه كما على العبد عبودية لربه في حال رخائه ‪ ،‬فعليه عبودية في‬
‫حال الشدة ‪ ،‬فيوسف صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو إلى الله ‪ ،‬فلما‬
‫دخل السجن استمر على ذلك ‪ ،‬ودعا من يتصل به من أهل السجن ‪ ،‬ودعا‬
‫الفتيين إلى التوحيد ‪ ،‬ونهاهما عن الشرك ‪ ،‬ومن كمال رأيه وحكمته أنه لما‬
‫رأى فيهما قابلية لدعوته حين احتاجا إليه في تعبير رؤياهما وقال له ‪:‬‬
‫ن { ]يوسف ‪. [36 :‬‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫} إ ِّنا ن ََرا َ‬
‫ك ِ‬
‫رأى ذلك فرصة ‪ ،‬فدعاهما إلى الله قبل أن يعبر رؤياهما ؛ ليكون أقرب إلى‬
‫حصول المطلوب ‪ ،‬وبّين لهما أن الذي أوصله إلى هذه الحال التي رأياه فيها‬
‫كه لملة المشركين ‪ ،‬وهذا دعاء لهما‬ ‫ده وتر ُ‬
‫من الكمال والعلم إيمانه وتوحي ُ‬
‫بالحال ‪ ،‬ثم دعاهما بالمقال ‪ ،‬وبرهن لهما على حسن التوحيد ووجوبه ‪ ،‬وعلى‬
‫قبح الشرك وتحريمه ‪.‬‬

‫) ‪(1/486‬‬

‫ومنها ‪ :‬أنه يبدأ بالهم فالهم ‪ ،‬وأنه إذا سئل المفتي وكان السائل حاجته في‬
‫غير سؤاله أشد ّ أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله ‪،‬‬
‫فإن هذا علمة على نصح المعلم وفطنته وحسن إرشاده وتعليمه ; فإن‬
‫يوسف لما سأله الفتيان عن رؤياهما ‪ ،‬وكانت حاجتهما إلى التوحيد واليمان‬
‫دمها ‪.‬‬
‫أعظم من كل شيء ‪ ،‬ق ّ‬
‫ومنها ‪ :‬أن من وقع في مكروه وشدة ل بأس أن يستعين بمن له قدرة على‬
‫تخليصه بفعله ‪ ،‬أو الخبار بحاله ‪ ،‬وأن هذا ل يكون نقصا ول شكوى إلى‬
‫المخلوق ممنوعة ‪ ،‬فإن هذا من المور العادية التي جرى العرف باستعانة‬
‫الناس بعضهم ببعض فيها ‪ ،‬ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما ‪:‬‬
‫ك { ]يوسف ‪. [42 :‬‬ ‫} اذ ْك ُْرِني ِ‬
‫عن ْد َ َرب ّ َ‬

‫) ‪(1/487‬‬

‫ومنها ‪ :‬أنه يتعين على المعلم والداعي إلى الله استعمال الخلص التام في‬
‫تعليمه ودعوته ‪ ،‬وأن ل يجعل ذلك وسيلة إلى معاوضة في مال أو جاه أو نفع‬
‫‪ ،‬وأن ل يمتنع من التعليم إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم ‪ ،‬فإن‬
‫يوسف قد وصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه فلم يذكره ونسي ‪ ،‬فلما بدت‬
‫حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى ‪ ،‬وجاءه سائل مستفتيا عن تلك‬
‫م تذكرني عند‬ ‫م لَ ْ‬
‫الرؤيا ‪ ،‬فلم يعنفه يوسف ول وبخه ‪ ،‬بل ول قال له ‪ :‬ل ِ َ‬
‫ربك ؟ وأجابه جوابا تاما من جميع الوجوه ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للمسؤول إذا أجاب السؤال أن يدل السائل على المر‬
‫الذي ينفعه مما يتعلق بسؤاله ‪ ،‬ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه‬
‫ودنياه ‪ ،‬فإن هذا من كمال نصحه ‪ ،‬وجزالة رأيه ‪ ،‬وحسن إرشاده ; فإن‬
‫يوسف لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك ‪ ،‬بل دلهم مع ذلك ‪ ،‬وأشار عليهم بما‬
‫يصنعونه في تلك السنين المخصبات من الكثار من الزراعة ‪ ،‬وحسن الحفظ‬
‫والجباية ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ل يلم العبد على دفع التهمة عن نفسه ‪ ،‬بل ذلك مطلوب كما‬
‫امتنع يوسف من الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته مع النسوة اللتي‬
‫قطعن أيديهن ‪.‬‬

‫) ‪(1/488‬‬
‫ومنها ‪ :‬فضيلة العلم ‪ ،‬علم الشرع والحكام ‪ ،‬وعلم تعبير الرؤيا ‪ ،‬وعلم‬
‫التدبير والتربية ‪ ،‬وعلم السياسة ‪ ،‬فإن يوسف صلى الله عليه وسلم إنما‬
‫حصلت له الرفعة في الدنيا والخرة بسبب علمه المتنوع ‪ ،‬وفيه أن علم‬
‫التعبير داخل في الفتوى ‪ ،‬فل يحل لحد أن يجزم بالتعبير قبل أن يعرف‬
‫ذلك ‪ ،‬كما ليس له أن يفتي في الحكام بغير علم ؛ لن الله سماها فتوى في‬
‫هذه السورة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ل بأس أن يخبر النسان عما في نفسه من الصفات الكاملة ‪ ،‬من‬
‫العلم وغيره ‪ ،‬إذا كان في ذلك مصلحة وسلم من الكذب ‪ ،‬ولم يقصد به‬
‫الرياء ‪ ،‬لقول يوسف ‪:‬‬
‫م { ]يوسف ‪. [55 :‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫جعَل ِْني عََلى َ‬ ‫} َقا َ‬
‫فيظ عَِلي ٌ‬
‫ح ِ‬
‫ض إ ِّني َ‬
‫ن الْر ِ‬‫خَزائ ِ ِ‬ ‫لا ْ‬
‫وكذلك ل تذم الولية إذا كان المتولي لها يقوم بما يقدر عليه من إقامة‬
‫الشرع ‪ ،‬وإيصال الحقوق إلى أهلها ‪ ،‬وأنه ل بأس بطلبها إذا كان أهل ‪،‬‬
‫وأعظم كفاءة من غيره ‪ ،‬وإنما المذموم إذا لم يكن فيه كفاءة ‪ ،‬أو كان‬
‫موجودا من هو أمثل منه أو مثله ‪ ،‬أو لم يرد بها إقامة أمر الله بل أراد‬
‫الترؤس والمأكلة المالية ‪.‬‬

‫) ‪(1/489‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الله واسع الجود والكرم ‪ ،‬يجود على عبده بخير الدنيا والخرة ‪،‬‬
‫وأن خير الخرة له سببان ل ثالث لهما ‪ :‬اليمان بكل ما أوجب الله اليمان به‬
‫‪ ،‬والتقوى التي هي امتثال الوامر الشرعية واجتناب النواهي ‪ ،‬وأن خير‬
‫الخرة خير من ثواب الدنيا وملكها ‪ ،‬وأنه ينبغي للعبد أن يدعو نفسه ويشوقها‬
‫لثواب الله ‪ ،‬ول يدعها تحزن إذا رأت لذات الدنيا ورياساتها وهي عاجزة‬
‫عنها ‪ ،‬بل يسليها بالثواب الخروي ليخف عليها عدم حصول الدنيا ‪ ،‬لقول‬
‫يوسف ‪:‬‬
‫ن { ]يوسف ‪. [57 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا وَكاُنوا ي َت ّ ُ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫خي ٌْر ل ِل ِ‬
‫خَرةِ َ‬ ‫ْ‬ ‫} وََل َ ْ‬
‫جُر ال ِ‬
‫ومنها ‪ :‬أن جباية الرزاق إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر‬
‫يلحقهم ل بأس به ‪ ،‬بل ذلك مطلوب ؛ لن يوسف أمرهم بجباية الرزاق‬
‫والطعمة في السنين المخصبات للستعداد به للسنين المجدبات ‪ ،‬وقد حصل‬
‫به الخير الكثير ‪.‬‬

‫) ‪(1/490‬‬

‫ومنها ‪ :‬حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الديار المصرية من أقصاها إلى‬
‫أقصاها ‪ ،‬فنهض بالزراعة حتى كثرت الغلل جدا ‪ ،‬فصار أهل القطار‬
‫يقصدون مصر لطلب الميرة منها عندما فقدوا ما عندهم ؛ لعلمهم بوفورها‬
‫في مصر ‪ ،‬ومن عدله وتدبيره وخوفه أن يتلعب بها التجار أنه ل يكيل لحد‬
‫إل مقدار الحاجة الخاصة أو أقل ‪ ،‬ل يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله ‪،‬‬
‫وظاهر حاله هذا أنه ل يعطي أهل البلد إل أقل من ذلك بكثير لحضورهم‬
‫عنده ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬مشروعية الضيافة ‪ ،‬وأنها من سنن المرسلين ‪ ،‬وإكرام الضيف ‪،‬‬
‫لقول يوسف ‪:‬‬
‫ن { ]يوسف ‪. [59 :‬‬ ‫من ْزِِلي َ‬ ‫ل وَأ ََنا َ‬
‫خي ُْر ال ْ ُ‬ ‫ن أ َّني ُأوِفي ال ْك َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫} أَل ت ََروْ َ‬
‫ومنها ‪ :‬أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ول محرم ;‬
‫فإن يعقوب قال لولده ‪:‬‬
‫ن قَب ْ ُ‬ ‫ل آمنك ُم عَل َيه إّل ك َما أ َمنتك ُم عََلى أ َِ‬
‫ل { ]يوسف ‪. [64 :‬‬ ‫م‬
‫ِ ِ ْ‬ ‫ه‬ ‫خي‬ ‫َ ِ ُْ ْ‬ ‫ْ ِ ِ‬ ‫} هَ ْ َ ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مًرا { ]يوسف ‪. [83 :‬‬ ‫مأ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫ف ُ‬ ‫م أن ْ ُ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬
‫سوّل َ ْ‬ ‫وقال ‪ } :‬ب َ ْ‬
‫ل َ‬
‫فهم في الخيرة ‪ ،‬وإن لم يكونوا مفرطين ‪ ،‬فقد جرى منهم ما أوجب لبيهم‬
‫أن يقول ما قال من غير لوم عليه ‪.‬‬

‫) ‪(1/491‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن استعمال السباب الدافعة للعين وغيرها من المكاره ‪ ،‬أو الرافعة‬
‫لها بعد نزولها غير ممنوع ‪ ،‬وإن كان ل يقع شيء إل بقضاء الله وقدره ‪ ،‬فإن‬
‫السباب أيضا من القضاء والقدر ; لقول يعقوب ‪:‬‬
‫خُلوا م َ‬
‫َ‬
‫فّرقةٍ { ]يوسف ‪:‬‬ ‫مت َ َ‬
‫ب ُ‬
‫وا ٍ‬‫ن أب ْ َ‬
‫ِ ْ‬ ‫حد ٍ َواد ْ ُ‬‫ب َوا ِ‬ ‫ن َبا ٍ‬‫م ْ‬ ‫خُلوا ِ‬ ‫ي َل ت َد ْ ُ‬
‫} يا ب َن ِ ّ‬
‫‪. [67‬‬
‫ومنها ‪ :‬جواز استعمال الحيل والمكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق ‪ ،‬وأن‬
‫العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد ‪ ،‬وأما‬
‫الحيل التي يراد بها إسقاط واجب أو فعل محرم فإنها محرمة غير نافذة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره بأمر ل يحب بيانه له أن يستعمل‬
‫المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب ‪ ،‬كما فعل يوسف حين‬
‫ألقى الصواع في رحل أخيه ‪ ،‬ثم استخرجها معه موهما أنه سارق ‪ ،‬وليس‬
‫في ذلك تصريح بسرقته ‪ ،‬وإنما استعمل المعاريض ‪ ،‬ومثل هذا قوله ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫عن ْد َه ُ { ]يوسف ‪. [79 :‬‬ ‫مَتاعََنا ِ‬ ‫جد َْنا َ‬‫ن وَ َ‬‫م ْ‬‫خذ َ إ ِّل َ‬‫ن ن َأ ُ‬‫مَعاذ َ الل ّهِ أ ْ‬ ‫} َ‬
‫ولم يقل ‪ :‬من سرق متاعنا ‪.‬‬

‫) ‪(1/492‬‬

‫ومنها ‪ :‬أنه ل يجوز أن يشهد إل بما علمه ‪ ،‬وتحققه برؤية أو سماع لقولهم ‪:‬‬
‫مَنا { ]يوسف ‪. [81 :‬‬ ‫ما عَل ِ ْ‬‫شهِد َْنا إ ِّل ب ِ َ‬ ‫ما َ‬ ‫} وَ َ‬
‫ن { ]الزخرف ‪. [86 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫م ي َعْل ُ‬
‫حقّ وَهُ ْ‬ ‫ْ‬
‫شهِد َ ِبال َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫وقوله ‪ } :‬إ ِل َ‬
‫ومنها ‪ :‬هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه‬
‫السلم ‪ ،‬إذ قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف الذي ل يقدر على فراقه‬
‫ساعة واحدة ‪ ،‬ويحزنه أشد الحزن ‪ ،‬فتم لهذه الفرقة مدة طويلة ويعقوب لم‬
‫يفارق الحزن قلبه ‪ ،‬وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ‪ ،‬ثم ازداد به المر‬
‫حين اتصل فراق البن الثاني بالول ‪ ،‬وهو في ذلك صابر لمر الله ‪ ،‬محتسب‬
‫الجر من الله ‪ ،‬وقد وعد من نفسه الصبر الجميل ‪ ،‬ول ريب أنه وّفى بما وعد‬
‫به ‪ ،‬ول ينافي ذلك قوله ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫حْزِني إ ِلى اللهِ { ]يوسف ‪. [86 :‬‬ ‫كو ب َّثي وَ ُ‬ ‫ش ُ‬ ‫ما أ َ ْ‬
‫} إ ِن ّ َ‬
‫فإن الشكوى إلى الله ل تنافي الصبر ‪ ،‬وإنما الذي ينافيه الشكوى إلى‬
‫المخلوقين ‪ ،‬ول ريب أن الله رفعه بهذه المحنة درجات عالية ومقامات‬
‫سامية ‪ ،‬ل تنال إل بمثل هذه المور ‪.‬‬

‫) ‪(1/493‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الفرج مع اشتداد الكرب ‪ ،‬فإنه لما تراكمت الشدائد المتنوعة ‪،‬‬
‫وضاق العبد ذرعا بحملها ‪ ،‬فرجها فارج الهم ‪ ،‬كاشف الغم ‪ ،‬مجيب دعوة‬
‫المضطرين ‪ ،‬وهذه عوائده الجميلة ‪ ،‬خصوصا لوليائه وأصفيائه ‪ ،‬ليكون لذلك‬
‫الوقع الكبر ‪ ،‬والمحل العظم ‪ ،‬وليجعل من المعرفة بالله والمحبة له ما‬
‫يوازن ويرجح بما جرى على العبد بل نسبة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬جواز إخبار العبد بما يجد ‪ ،‬وما هو فيه من مرض أو فقر غيرهما على‬
‫خط ‪ ،‬لقول يعقوب ‪:‬‬ ‫غير وجه التس ّ‬
‫َ‬
‫ف { ]يوسف ‪. [84 :‬‬ ‫س َ‬ ‫فى عََلى ُيو ُ‬ ‫س َ‬
‫} يا أ َ‬
‫َ‬
‫ضّر { ]يوسف ‪. [88 :‬‬ ‫سَنا وَأهْل ََنا ال ّ‬ ‫م ّ‬‫وقول إخوة يوسف ‪َ } :‬‬
‫وأقرهم يوسف ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬فضيلة التقوى والصبر ‪ ،‬وأن كل خير في الدنيا والخرة فمن آثار‬
‫التقوى والصبر ‪ ،‬وأن عاقبة أهلهما أحسن العواقب لقوله ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬
‫م ْ‬
‫جَر ال ُ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬
‫ضيعُ أ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫صب ِْر فَإ ِ ّ‬
‫ق وَي َ ْ‬‫ن ي َت ّ ِ‬
‫م ْ‬‫ه َ‬‫ه عَل َي َْنا إ ِن ّ ُ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫م ّ‬ ‫} قَد ْ َ‬
‫]يوسف ‪. [90 :‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للعبد إذا أنعم عليه بنعمة بعد ضدها أن يتذكر الحالة‬
‫السابقة ؛ ليعظم وقع هذه النعمة الحاضرة ‪ ،‬ويكثر شكره لله تعالى ‪ ،‬ولهذا‬
‫قال يوسف ‪:‬‬

‫) ‪(1/494‬‬

‫َ‬ ‫ن ِبي إ ِذ ْ أ َ ْ‬ ‫َ‬


‫ن ن ََزغَ‬
‫ن ب َعْد ِ أ ْ‬ ‫ن ال ْب َد ْوِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫جاَء ب ِك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن وَ َ‬
‫ج ِ‬
‫س ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫جِني ِ‬
‫خَر َ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫} وَقَد ْ أ ْ‬
‫خوَِتي { ]يوسف ‪. [100 :‬‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ن ب َي ِْني وَب َي ْ َ‬‫طا ُ‬‫شي ْ َ‬
‫ال ّ‬
‫ومنها ‪ :‬ما في هذه القصة من اللطاف المتنوعة المسّهلة للبلء ‪ :‬منها رؤيا‬
‫يوسف السابقة ; فإن فيها روحا ولطفا بيوسف وبيعقوب ‪ ،‬وبشارة بالوصول‬
‫إلى تأويلها ‪ ،‬ولطف الله بيوسف إذ أوحى إليه وهو في الجب لتنبئنهم بأمرهم‬
‫هذا ‪ ،‬وهم ل يشعرون ‪ ،‬وتنقلته من حال إلى حال ‪ ،‬فإن فيها ألطافا ظاهرة‬
‫وخفية ; ولهذا قال في آخر المر ‪:‬‬
‫شاُء { ]يوسف ‪. [100 :‬‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ف لِ َ‬ ‫ن َرّبي ل َ ِ‬
‫طي ٌ‬ ‫} إِ ّ‬
‫يلطف به في أحواله الداخلية ‪ ،‬ويلطف له في المور الخارجية ‪ ،‬ويوصله إلى‬
‫أعلى المطالب من حيث ل يشعر ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه ينبغي للعبد أن يلح دائما على ربه في تثبيت إيمانه ‪ ،‬وأن يحسن‬
‫له الخاتمة ‪ ،‬وأن يجعل خير أيامه آخرها ‪ ،‬وخير أعماله خواتمها ‪ ،‬فإن الله‬
‫كريم جواد رحيم ‪.‬‬

‫) ‪(1/495‬‬

‫قصة أصحاب الكهف‬


‫وهم فتية وفقهم الله ‪ ،‬وألهمهم اليمان ‪ ،‬وعرفوا ربهم ‪ ،‬وأنكروا ما عليه‬
‫قومهم من عبادة الوثان ‪ ،‬وقاموا بين أظهرهم معلنين فيما بينهم عقيدتهم ‪،‬‬
‫خائفين من سطوة قومهم فقالوا ‪:‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫شططا {‬ ‫ُ‬
‫قد ْ قلَنا إ ًِذا َ‬
‫ن ُدون ِهِ إ ِلًها ل َ‬
‫م ْ‬ ‫ض لَ ْ‬
‫ن ن َد ْعُوَ ِ‬ ‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ب ال ّ‬
‫} َرب َّنا َر ّ‬
‫]أي ‪ :‬إن دعونا غيره[ ‪.‬‬
‫طا { ]أي ‪ :‬زورا وبهتانا وظلما[ ‪.‬‬ ‫شط َ ً‬ ‫} َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن أظل ُ‬ ‫م ْ‬
‫نف َ‬‫ن ب َي ّ ٍ‬
‫سلطا ٍ‬ ‫م بِ ُ‬
‫ن عَلي ْهِ ْ‬ ‫ة لوْل ي َأُتو َ‬ ‫ن ُدون ِهِ آل ِهَ ً‬ ‫م ْ‬‫خذوا ِ‬ ‫مَنا ات ّ َ‬‫} هَؤلِء قوْ ُ‬
‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا { ]الكهف ‪ 14 :‬و ‪. [15‬‬ ‫م ِ‬‫م ّ‬
‫ِ‬
‫فلما اتفقوا على هذا المر ‪ ،‬وعرفوا أنهم ل يمكنهم إظهار ذلك لقومهم سألوا‬
‫الله أن يسهل أمرهم فقالوا ‪:‬‬
‫دا { ]الكهف ‪. [10 :‬‬ ‫مرَِنا َر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن ل َد ُن ْ َ‬
‫ش ً‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫ئ لَنا ِ‬ ‫ة وَهَي ّ ْ‬‫م ً‬‫ح َ‬‫ك َر ْ‬ ‫م ْ‬‫} َرب َّنا آت َِنا ِ‬

‫) ‪(1/496‬‬

‫فأووا إلى غار يسره الله غاية التيسير ‪ ،‬واسع الفجوة ‪ ،‬بابه نحو الشمال ل‬
‫تدخله الشمس ‪ ،‬ل في طلوعها ول في غروبها ‪ ،‬فناموا في كهفهم بحفظ الله‬
‫ورعايته ثلثمائة سنة وازدادوا تسعا ‪ ،‬وقد ضرب الله عليهم نطاقا من الرعب‬
‫على قربهم من مدينة قومهم ‪ ،‬ثم إنه في الغار تولى حفظهم بقوله ‪:‬‬
‫ل { ]الكهف ‪. [18 :‬‬ ‫ما ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ن وََذا َ‬ ‫مي ِ‬ ‫ت ال ْي َ ِ‬ ‫م َذا َ‬ ‫قل ّب ُهُ ْ‬
‫} وَن ُ َ‬
‫ض أجسادهم ‪ ،‬ثم أيقظهم بعد هذه المدة الطويلة ‪:‬‬ ‫وذلك لئل ُتبلي الر ُ‬
‫م { ‪] ،‬وليقفوا في آخر المر على الحقيقة ‪. [:‬‬ ‫ساَءُلوا ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫} ل ِي َت َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫م أعْل َ ُ‬
‫م بِ َ‬ ‫ض ي َوْم ٍ َقاُلوا َرب ّك ُ ْ‬ ‫ما أوْ ب َعْ َ‬ ‫م َقاُلوا ل َب ِث َْنا ي َوْ ً‬ ‫م ل َب ِث ْت ُ ْ‬‫م كَ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ل ِ‬‫ل َقائ ِ ٌ‬ ‫} َقا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫كى ط ََعا ً‬ ‫دين َةِ فَل ْي َن ْظ ُْر أي َّها أْز َ‬
‫م ِ‬‫م هَذِهِ إ َِلى ال ْ َ‬ ‫م ب ِوَرِقِك ُ ْ‬ ‫حد َك ُ ْ‬ ‫م َفاب ْعَُثوا أ َ‬ ‫ل َب ِث ْت ُ ْ‬
‫ْ‬
‫ف { ]الكهف ‪ [19 :‬إلى آخر القصة ‪.‬‬ ‫ه وَل ْي َت َل َط ّ ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫ق ِ‬ ‫م ب ِرِْز ٍ‬‫فَل ْي َأت ِك ُ ْ‬
‫* ففيها آيات بينات وفوائد متعددة ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن قصة أصحاب الكهف وإن كانت عجيبة فليست من أعجب آيات الله‬
‫‪ ،‬فإن لله آيات عجيبة وقصصا فيها عبرة للمعتبرين ‪.‬‬

‫) ‪(1/497‬‬

‫منها ‪ :‬أن من أوى إلى الله أواه الله ‪ ،‬ولطف به ‪ ،‬وجعله سببا لهداية الضالين‬
‫; فإن الله لطف بهم في هذه القومة الطويلة إبقاء على إيمانهم وأبدانهم من‬
‫فتنة قومهم وقتلهم ‪ ،‬وجعل هذه النومة من آياته التي يستدل بها على كمال‬
‫قدرة الله ‪ ،‬وتنوع إحسانه ‪ ،‬وليعلم العباد أن وعد الله حق ‪.‬‬
‫منها ‪ :‬الحث على تحصيل العلوم النافعة والمباحثة فيها ؛ لن الله بعثهم لجل‬
‫ذلك ‪ ،‬وببحثهم ثم بعلم الناس بحالهم حصل البرهان والعلم بأن وعد الله حق‬
‫‪ ،‬وأن الساعة آتية ل ريب فيها ‪.‬‬
‫منها ‪ :‬الدب فيمن اشتبه عليه العلم أن يرده إلى عالمه ‪ ،‬وأن يقف عند ما‬
‫يعرف ‪.‬‬
‫منها ‪ :‬صحة الوكالة في البيع والشراء وصحة الشركة في ذلك ‪ ،‬لقولهم ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫دين َةِ فَل ْي َن ْظ ُْر أ َي َّها أ َْز َ‬ ‫َ‬
‫ما فَل ْي َأت ِك ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫كى ط ََعا ً‬ ‫م هَذِهِ إ َِلى ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫م ب ِوَرِقِك ُ ْ‬
‫حد َك ُ ْ‬ ‫} َفاب ْعَُثوا أ َ‬
‫ه{‪.‬‬ ‫من ْ ُ‬‫ق ِ‬‫ب ِرِْز ٍ‬
‫منها ‪ :‬جواز أكل الطيبات ‪ ،‬والتخير من الطعمة ما يلئم النسان ويوافقه ‪،‬‬
‫كى‬ ‫إذا لم تخرج إلى حد السراف المنهي عنه ‪ ،‬لقوله ‪ } :‬فَل ْي َن ْظ ُْر أ َي َّها أ َْز َ‬
‫ْ‬
‫ه{‪.‬‬ ‫من ْ ُ‬
‫ق ِ‬ ‫م ب ِرِْز ٍ‬ ‫ما فَل ْي َأت ِك ُ ْ‬
‫ط ََعا ً‬

‫) ‪(1/498‬‬
‫ومنها ‪ :‬الحث والتحرز والستخفاء ‪ ،‬والبعد عن مواقع الفتن في الدين ‪،‬‬
‫واستعمال الكتمان الذي يدرأ عن النسان الشر ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬بيان رغبة هؤلء الفتية في الدين ‪ ،‬وفرارهم من كل فتنة في دينهم ‪،‬‬
‫وتركهم لوطانهم وعوائدهم في الله ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد الداعية لبغضه وتركه‬
‫‪ ،‬وأن هذه الطريقة طريقة المؤمنين ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن قوله ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دا { ]الكهف ‪ [21 :‬فيه‬ ‫ج ً‬
‫س ِ‬‫م ْ‬‫م َ‬ ‫خذ َ ّ‬
‫ن عَلي ْهِ ْ‬ ‫م لن َت ّ ِ‬ ‫ن غَل َُبوا عَلى أ ْ‬
‫مرِهِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬ ‫} َقا َ‬
‫دليل على أن هؤلء القوم الذين بعثوا في زمانهم أناس أهل تدين ؛ لنهم‬
‫عظموهم هذا التعظيم حتى عزموا على اتخاذ مسجد على كهفهم ‪ ،‬وهذا إن‬
‫كان ممنوعا ‪ -‬وخصوصا في شريعتنا ‪ -‬فالمقصود بيان أن ذلك الخوف العظيم‬
‫من أهل الكهف وقت إيمانهم ودخولهم في الغار أبدلهم الله به بعد ذلك أمنا‬
‫وتعظيما من الخلق ‪ ،‬وهذه عوائد الله فيمن تحمل المشاق من أجله أن‬
‫يجعل له العاقبة الحميدة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن كثرة البحث وطوله في المسائل التي ل أهمية لها ل ينبغي‬
‫النهماك به لقوله ‪:‬‬
‫ظاهًِرا { ]الكهف ‪. [22 :‬‬ ‫مَراًء َ‬‫م إ ِّل ِ‬
‫مارِ ِفيهِ ْ‬ ‫} فََل ت ُ َ‬

‫) ‪(1/499‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن سؤال من ل علم له في القضية المسئول فيها أو ل يثق به منهي‬


‫عنه لقوله ‪:‬‬
‫َ‬
‫دا { ]الكهف ‪. [22 :‬‬
‫ح ً‬
‫مأ َ‬‫من ْهُ ْ‬
‫م ِ‬
‫ت ِفيهِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫} وََل ت َ ْ‬
‫ست َ ْ‬

‫) ‪(1/500‬‬

‫قصة خاتم النبيين وإمام المرسلين‬


‫ومن أنزل عليه القرآن هدى ورحمة للمؤمنين‬
‫اعلم أن سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم عون على معرفة‬
‫تفسير كتاب الله ‪ ،‬والقرآن إنما كان ينزل تبعا لمناسبات سيرته ‪ ،‬وما يقوله‬
‫للخلق ‪ ،‬وجواب ما يقال له ‪ ،‬وما يحصل به تحقيق الحق الذي جاء به ‪،‬‬
‫وإبطال المذاهب التي جاء لبطالها ‪ ،‬وهذا من حكمة إنزاله مفرقا ‪ ،‬كما ذكر‬
‫الله هذا المعنى بقوله ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫جئ َْنا َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫ك وََرت ّلَناه ُ ت َْرِتيل {} وَل ي َأُتون َ َ‬‫ؤاد َ َ‬ ‫ت ب ِهِ فُ َ‬ ‫} ك َذ َل ِ َ‬
‫ق‬
‫ح ّ‬‫ك ِبال َ‬ ‫مث َ ٍ‬
‫ل إ ِل ِ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫ك ل ِن ُث َب ّ َ‬
‫سيًرا { ]الفرقان ‪ 32 :‬و ‪. [33‬‬ ‫َ‬
‫ف ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫س َ‬‫ح َ‬ ‫وَأ ْ‬
‫كم َ‬
‫ه‬
‫ك ِفي هَذِ ِ‬ ‫جاَء َ‬ ‫ؤاد َ َ‬
‫ك وَ َ‬ ‫ت ب ِهِ فُ َ‬‫ما ن ُث َب ّ ُ‬ ‫ل َ‬
‫س ِ‬ ‫ص عَل َي ْ َ ِ ْ‬
‫ن أن َْباِء الّر ُ‬ ‫ق ّ‬ ‫وقال ‪ } :‬وَك ُّل ن َ ُ‬
‫حقّ { ]هود ‪. [120 :‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫فلنشر من سيرته صلى الله عليه وسلم على الحوال المناسبة لنزول اليات‬
‫المعينات ‪ ،‬أو لجنس النوع من علوم القرآن ليكون عونا في هذا المقام ‪.‬‬

‫) ‪(2/1‬‬
‫فأول مقاماته في إنزال القرآن عليه أنه كان قبل البعثة قد بغضت إليه عبادة‬
‫الوثان ‪ ،‬وبغض إليه كل قول قبيح وفعل قبيح ‪ ،‬وفطر صلى الله عليه وسلم‬
‫فطرة مستعدة متهيئة لقول الحق علما وعمل ‪ ،‬والله تعالى هو الذي طّهر‬
‫مله ‪ ،‬فكان من رغبته العظيمة فيما يقرب إلى الله أنه كان‬ ‫قلبه وزكاه وك ّ‬
‫يذهب إلى غار حراء اليام ذوات العدد ‪ ،‬ويأخذ معه طعاما يطعم منه‬
‫المساكين ويتعّبد ويتحنث فيه ‪ ،‬فقلبه في غاية التعلق بربه ‪ ،‬ويفعل من‬
‫العبادات ما وصل إليه علمه في ذلك الوقت الجاهلي الخالي من العلم ‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فهو في غاية الحسان إلى الخلق ‪ ،‬فلما تم عمره أربعين سنة ‪ ،‬وتمت‬
‫ح لتلقي أعظم رسالة أرسل الله بها أحدا من خلقه ‪،‬‬ ‫صل ُ َ‬
‫قوته العقلية ‪ ،‬وَ َ‬
‫دى له جبريل صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا هاله وأزعجه ‪ ،‬إذ لم يتقدم‬ ‫تب ّ‬
‫دم الله له الرؤيا ‪ ،‬التي كان ل يرى رؤيا إل جاءت‬ ‫له شيء من ذلك ‪ ،‬وإنما ق ّ‬
‫مثل فلق الصبح ‪.‬‬
‫فأول ما أنزل الله عليه ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫خلقَ { ]العلق ‪. [1 :‬‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬‫سم ِ َرب ّ َ‬
‫} اقَْرأ ِبا ْ‬
‫فجاءه بها جبريل وقال له ‪ :‬اقرأ ‪ ،‬فأخبره أنه ليس بقارئ ‪ -‬أي ل يعرف أن‬
‫دى { ]الضحى ‪. [7 :‬‬ ‫ضاّل فَهَ َ‬ ‫جد َ َ‬
‫ك َ‬ ‫يقرأ ‪ -‬كما قال تعالى ‪ } :‬وَوَ َ‬

‫) ‪(2/2‬‬

‫وتفسيرها الية الخرى ‪:‬‬


‫شاُء‬ ‫ن نَ َ‬
‫م ْ‬
‫دي ب ِهِ َ‬ ‫ْ‬
‫جعَلَناه ُ ُنوًرا ن َهْ ِ‬
‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ن وَلك ِ ْ‬
‫ما ُ‬ ‫ْ‬
‫لي َ‬ ‫َ‬ ‫ما ال ْك َِتا ُ‬
‫ب وَل ا ِ‬ ‫ما ك ُن ْ َ‬
‫ت ت َد ِْري َ‬ ‫} َ‬
‫عَبادَِنا { ]الشورى ‪. [52 :‬‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬
‫ِ‬
‫فغطه جبريل مرتين أو ثلثا ليهيئه لتلقي القرآن العظيم ‪ ،‬ويتجرد قلبه وهمته‬
‫وظاهره وباطنه لذلك ‪ ،‬فنزلت هذه السورة التي فيها نبوته ‪ ،‬وأمره بالقراءة‬
‫باسم ربه ‪ ،‬وفيها أصناف نعمه على النسان بتعليمه البيان العلمي والبيان‬
‫اللفظي والبيان الرسمي ‪ ،‬فجاء بها إلى خديجة ترعد فرائصه من الفَرق ‪،‬‬
‫وأخبرها بما رآه وما جرى عليه ‪ ،‬فقالت خديجة رضي الله عنها ‪ :‬أبشر ‪،‬‬
‫ل‪،‬‬ ‫َ‬
‫فوالله ل يخزيك الله أبدا ; إنك لتصل الرحم ‪ ،‬وتقري الضيف ‪ ،‬وتحمل الك ّ‬
‫وتكسب المعدوم ‪ ،‬وتعين على نوائب الحق ‪ ،‬أي ‪ :‬ومن كانت هذه صفته‬
‫فإنها تستدعي نعما من الله أكبر منها وأعظم ‪ ،‬وكان هذا من توفيق الله لها‬
‫ولنبيه ‪ ،‬ومن تهوين القلق الذي أصابه ‪.‬‬
‫وبهذه السورة ابتدأت نبوته ‪ ،‬ثم فتر عنه الوحي مدة ليشتاق إليه وليكون‬
‫أعظم لموقعه عنده ‪ ،‬وكان قد رأى الملك على صورته فانزعج ‪ ،‬فجاء إلى‬
‫خديجة أيضا ترعد فرائصه فقال ‪ » :‬دثروني دثروني « فأنزل الله عليه ‪:‬‬

‫) ‪(2/3‬‬

‫جَز‬‫ك فَط َهّْر {} َوالّر ْ‬ ‫م فَأ َن ْذِْر {} وََرب ّ َ‬


‫ك فَك َب ّْر {} وَث َِياب َ َ‬ ‫َ‬
‫} يا أي َّها ال ْ ُ‬
‫مد ّث ُّر {} قُ ْ‬
‫جْر { ]المدثر ‪. [5 - 1 :‬‬ ‫َفاهْ ُ‬
‫فكان في هذا ‪ :‬المر له بدعوة الخلق وإنذارهم ‪ ،‬فشمر صلى الله عليه‬
‫وسلم عن عزمه ‪ ،‬وصمم على الدعوة إلى ربه مع علمه أنه سيقاوم بهذا‬
‫المر البعيد والقريب ‪ ،‬وسيلقى كل معارضة من قومه ومن غيرهم وشدة ‪،‬‬
‫وى عزمه ‪ ،‬وأّيده بروح منه ‪ ،‬وبالدين الذي جاء به ‪ ،‬وجاءته‬ ‫ولكن الله أّيده وق ّ‬
‫سورة الضحى في فترة الوحي لما قال المكذبون ‪ :‬إن رب محمد قله ‪.‬‬
‫قال ‪:‬‬
‫ما قََلى { إلى آخرها ‪.‬‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ب‬
‫َ ّ‬‫ر‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫و‬
‫َ َ ّ َ‬‫ما‬ ‫{}‬ ‫جى‬ ‫س‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫ي‬‫ّ‬
‫َ ْ ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫وال‬ ‫{}‬ ‫حى‬ ‫} َوال ّ َ‬
‫ض‬
‫]الضحى ‪ 3 - 1 :‬وما بعدها[ ‪.‬‬
‫وهذا اعتناء عظيم من الله برسوله ‪ ،‬ونفي لكل نقص ‪ ،‬وبشارة بأن كل حالة‬
‫له أحسن مما قبلها وخير منها ‪ ،‬وأن الله سيعطيه من النصر وا ْ َ‬
‫لتباع والعز‬
‫العظيم وانتشار الدين ما يرضيه ‪.‬‬

‫) ‪(2/4‬‬

‫فكان أعظم مقامات دعوته ‪ :‬دعوته إلى التوحيد الخالص ‪ ،‬والنهي عن ضده ;‬
‫دعا الناس لهذا ‪ ،‬وقرره الله في كتابه ‪ ،‬وصرفه بطرق كثيرة واضحة تبين‬
‫وجوب التوحيد وحسنه ‪ ،‬وتعينه طريقا إلى الله وإلى دار كرامته ‪ ،‬وقرار‬
‫إبطال الشرك والمذاهب الضارة بطرق كثيرة احتوى عليها القرآن ‪ ،‬وهي‬
‫أغلب السور المكية ‪ ،‬فاستجاب له في هذا الواحد بعد الواحد على شدة‬
‫عظيمة من قومه ‪ ،‬وقاومه قومه وغيرهم ‪ ،‬وبغوا له الغوائل ‪ ،‬وحرصوا على‬
‫إطفاء دعوته بجهدهم وقولهم وفعلهم ‪ ،‬وهو يجادلهم ويتحداهم أن يأتوا بمثل‬
‫هذا القرآن ‪ ،‬وهم يعلمون أنه الصادق المين ‪ ،‬ولكنهم يكابرون ويجحدون‬
‫آيات الله ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]النعام ‪. [33 :‬‬‫دو َ‬
‫ح ُ‬
‫ج َ‬ ‫ّ‬
‫ت اللهِ ي َ ْ‬
‫ن ِبآَيا ِ‬
‫مي َ‬ ‫ّ‬ ‫ك وَل َك ِ ّ‬
‫ن الظال ِ ِ‬ ‫م َل ي ُك َذ ُّبون َ َ‬
‫} فَإ ِن ّهُ ْ‬

‫) ‪(2/5‬‬

‫ولهذا لما كان استماعهم للقرآن على وجه الكفر والجحد والتكذيب ‪ ،‬وتوطين‬
‫نفوسهم على معاداته ‪ ،‬أخبر الله تعالى أنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه‬
‫‪ ،‬وفي آذانهم وقرا ‪ ،‬وأنهم ل يهتدون بسبب ما أسسوا من هذا الصل الخبيث‬
‫‪ ،‬المانع لصاحبه من كل خير وهدى ‪ ،‬وهذا مما يعلم به حكمة الباري في‬
‫إضلل الضالين ‪ ،‬وأنهم لما اختاروا لنفسهم الضلل ورغبوا فيه وّلهم الله ما‬
‫تولوا لنفسهم ‪ ،‬وتركهم في طغيانهم يعمهون ‪ ،‬وأنهم لما ردوا نعمة الله‬
‫عليهم حين جاءتهم قلب الله أفئدتهم ‪ ،‬وأصم أسماعهم ‪ ،‬وأعمى أبصارهم‬
‫وأفئدتهم ‪ ،‬وهذا الوصف الذي أشرنا إليه قد ذكره الله في كتابه عنهم ‪ ،‬وهو‬
‫يعينك على فهم آيات كثيرة يخبر الله فيها بضللهم وانسداد طرق الهداية‬
‫عليهم ‪ ،‬وعدم قبول محالهم وقلوبهم للهدى ‪ ،‬والذنب ذنبهم وهم السبب في‬
‫ذلك ; قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫ن أوْل َِياَء ِ‬
‫طي َ‬ ‫ذوا ال ّ‬
‫شَيا ِ‬ ‫خ ُ‬
‫م ات ّ َ‬
‫ة إ ِن ّهُ ُ‬
‫ضلل ُ‬ ‫م ال ّ‬
‫حقّ عَلي ْهِ ُ‬
‫قا َ‬ ‫دى وَفَ ِ‬
‫ري ً‬ ‫قا هَ َ‬ ‫} فَ ِ‬
‫ري ً‬
‫ن اللهِ { ]العراف ‪. [30 :‬‬ ‫ّ‬ ‫ُدو ِ‬
‫) ‪(2/6‬‬

‫وبضده تعرف الحكمة في هدايته للمؤمنين ‪ ،‬وأنهم لما كانوا منصفين ليس‬
‫غرضهم إل الحق ‪ ،‬ول لهم قصد إل طلب رضا ربهم ‪ ،‬هداهم الله بالقرآن ‪،‬‬
‫وازدادت به علومهم ومعارفهم وإيمانهم وهدايتهم المتنوعة ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫ت إ َِلى‬ ‫ن الظ ّل ُ َ‬
‫ما ِ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬
‫جهُ ْ‬ ‫سَلم ِ وَي ُ ْ‬
‫خرِ ُ‬ ‫ل ال ّ‬‫سب ُ َ‬
‫ه ُ‬ ‫وان َ ُ‬
‫ض َ‬
‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬‫م ِ‬
‫ه َ‬‫دي ب ِهِ الل ّ ُ‬ ‫} ي َهْ ِ‬
‫قيم ٍ { ]المائدة ‪. [16 :‬‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫م إ ِلى ِ‬‫َ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ْ‬
‫الّنورِ ب ِإ ِذن ِهِ وَي َهْ ِ‬
‫وهذا الوصف الجليل للمؤمنين هو الساس لهدايتهم ‪ ،‬وزيادة إيمانهم ‪،‬‬
‫وانقيادهم ‪ ،‬وبه ينفتح لك الباب في فهم اليات في أوصاف المؤمنين ‪،‬‬
‫وسرعة انقيادهم للحق ‪ :‬أصوله وفروعه ‪.‬‬

‫) ‪(2/7‬‬

‫ومن مقامات النبي صلى الله عليه وسلم مع المكذبين له أنه يدعوهم‬
‫بالحكمة والموعظة الحسنة ‪ ،‬ويجادلهم بالتي هي أحسن ‪ ،‬ويدعوهم أفرادا‬
‫ومتفرقين ‪ ،‬ويذكرهم بالقرآن ‪ ،‬ويتلوه في الصلة وخارجها ‪ ،‬وكانوا إذا‬
‫سمعوه صموا آذانهم ‪ ،‬وقد يسبونه ويسبون من أنزله ‪ ،‬فأنزل الله على‬
‫رسوله آيات كثيرة في هذا المعنى يبين حالهم مع سماع القرآن وشدة‬
‫نفورهم كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ‪ ،‬وأن شياطينهم ورؤساءهم‬
‫في الشر فكروا وقدروا ونظروا فيما يقولون عن القرآن ويصفونه به ؛‬
‫لينفروا عنه الناس ‪ ،‬حتى قرار رئيسهم الوليد بن المغيرة الذي سماه الله‬
‫وحيدا فقال ‪ :‬إن هذا إل سحر يؤثر ‪ ،‬إن هذا إل قول البشر ‪ ،‬ولكن أبى الله‬
‫ل كلم ‪ ،‬ويزهق هذا الحق كل باطل ‪ ،‬وكانوا من‬ ‫إل أن يعلو هذا الكلم ك ّ‬
‫إفكهم يقولون في القرآن القوال المتناقضة ‪ ،‬يقولون ‪ :‬إنه سحر ‪ ،‬إنه‬
‫كهانة ‪ ،‬إنه شعر ‪ ،‬إنه كذب ‪ ،‬إنه أساطير ; فجعلوا القرآن عضين ‪ ،‬كل هذا‬
‫أثر البغض الذي أحرق قلوبهم ‪ ،‬حتى قالوا فيه مقالة المجانين ‪ ،‬وكلما قالوا‬
‫قول من هذه القوال أنزل الله آيات يبطل بها ما قالوا ‪ ،‬ويبين زورهم‬
‫وافتراءهم وتناقضهم ‪.‬‬

‫) ‪(2/8‬‬

‫وكان من الدلة والبراهين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وأن‬
‫القرآن من عند الله ‪ ،‬مقابلة المكذبين له ‪ ،‬فإن من نظر إليها علم أنها سلح‬
‫عليهم ‪ ،‬وأكبر دليل على أنهم مقاومون للحق ‪ ،‬ساعون في إبطاله ‪ ،‬وأنهم‬
‫على الباطل الذي ليس له حظ من العقل ‪ ،‬كما ليس له حظ من الدين ‪،‬‬
‫وكانوا أيضا يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم القوال التي ليس فيها‬
‫دللة على ما كانوا يعتقدون ‪ ،‬وليس فيها نقص بالنبي صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫يقولون ‪ :‬لو أن محمدا صادق لنزل الله ملئكة يشهدون له بذلك ‪ ،‬ولغناه‬
‫الله عن المشي في السواق ‪ ،‬وطلب الرزق كما يطلبه غيره ‪ ،‬ولجعل له كذا‬
‫وكذا مما توحي إليه عقولهم الفاسدة ‪ ،‬ويذكرها الله في القرآن في مواضع‬
‫متعددة ‪ ،‬تارة يصورها للعباد فقط ؛ لن من تصورها عرف بطلنها ‪ ،‬وأنها‬
‫شَبه القادحة ‪ ،‬فضل عن الحجج المعتبرة ‪ ،‬وتارة يصورها ويذكر‬ ‫ليست من ال ّ‬
‫ما يبطلها من المور الواضحة ‪ ،‬وهذا كثير في القرآن ‪.‬‬

‫) ‪(2/9‬‬
‫ومن مقاماتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يسعون أشد السعي أن‬
‫يكف عن عيب آلهتهم ‪ ،‬والطعن في دينهم ‪ ،‬ويحبون أن يتاركهم ويتاركوه ‪،‬‬
‫لعلمهم أنه إذا ذكر آلهتهم ‪ ،‬ووصفها بالصفات التي هي عليه من النقص ‪،‬‬
‫وأنه ليس فيها شيء من الصفات يوجب أن تستحق شيئا من العبادة ‪،‬‬
‫يعرفون أن الناس يعرفون ذلك ‪ ،‬ويعترفون به ‪ ،‬فل أحب إليهم من التزوير ‪،‬‬
‫وإبقاء المور على علتها من غير بحث عن الحقائق ؛ لنهم يعرفون حق‬
‫المعرفة أن الحقائق إذا بانت ظهر للخلق بطلن ما هم عليه ‪ :‬وهذا الذي منه‬
‫يفرون ‪ ،‬وهذا المقام أيضا ذكره الله في آيات متعددة مثل قوله ‪:‬‬
‫ن { ]القلم ‪ [9 :‬ونحوها من اليات ‪.‬‬ ‫} وَّدوا ل َوْ ت ُد ْهِ ُ‬
‫ن فَي ُد ْهُِنو َ‬
‫عل ْم ٍ {‬ ‫سّبوا الل ّ َ‬
‫ه عَد ًْوا ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ن الل ّهِ فَي َ ُ‬
‫ن ُدو ِ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫عو َ‬
‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫سّبوا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وأما ‪ } :‬وََل ت َ ُ‬
‫]النعام ‪. [108 :‬‬
‫فهذا إذا ترتب على السب المذكور سبهم لله ‪ ،‬فإنه يترك لما يترتب عليه من‬
‫الشر ‪.‬‬

‫) ‪(2/10‬‬

‫ومن مقاماتهم المتنوعة مع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترحون‬
‫اليات بحسب أهوائهم ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬إن كنت صادقا فأتنا بعذاب الله ‪ ،‬أو بما‬
‫تعدنا ‪ ،‬أو أزل عنا جبال مكة ‪ ،‬واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا ‪ ،‬وحتى يحصل لك‬
‫كذا وكذا مما ذكره الله عنهم ‪ ،‬فيجيبهم الله عن هذه القوال بأن رسوله‬
‫صلى الله عليه وسلم قد أيده الله باليات ‪ ،‬والله أعلم بما ينزل من آياته ‪،‬‬
‫وأعلم بما هو أنفع لهم ‪ ،‬وأنه قد حصل المقصود من بيان صدقه ‪ ،‬وقامت‬
‫الدلة والبراهين على ذلك ‪ ،‬فقول الجاهل الحمق ‪ :‬لو كان كذا وكذا ‪ . .‬جهل‬
‫منه وكبر ومشاغبة محضة ‪ ،‬وتارة يخبرهم أنه ل يمنعه من التيان بها إل‬
‫البقاء عليهم ‪ ،‬وأنها لو جاءت ل يؤمنون ‪ ،‬فعند ذلك يعاجلهم الله بالعقاب ‪.‬‬
‫وتارة يبين لهم أن الرسول إنما هو نذير مبين ‪ ،‬ليس له من المر شيء ‪ ،‬ول‬
‫من اليات شيء ‪ ،‬وأن هذا من عند الله ‪ ،‬فطلبهم من الرسول محض الظلم‬
‫والعدوان ‪ ،‬وهذه المعاني في القرآن كثيرة بأساليب متعددة ‪.‬‬

‫) ‪(2/11‬‬

‫وأحيانا يقدحون في الرسول قدحا يعترضون فيه على الله ‪ ،‬وأنه لول نزل هذا‬
‫القرآن على رجل من القريتين عظيم ‪ ،‬ومحمد ليس كذلك ‪ ،‬وأنك يا محمد‬
‫لست بأولى بفضل الله منا ‪ ،‬فلي شيء تفضل علينا بالوحي ؟ ‪ . . .‬ونحوه‬
‫من القوال الناشئة عن الحسد ‪ ،‬فيجيبهم الله بذكر فضله ‪ ،‬وأن فضله يؤتيه‬
‫من يشاء ‪ ،‬وأنه أعلم حيث يجعل رسالته والمحل اللئق بها ‪ ،‬ويشرح لهم من‬
‫صفات رسوله التي يشاهدونها رأي عين ما يعلمون هم وغيرهم أنه أعظم‬
‫رجل في العالم ‪ ،‬وأنه ما وجد ولن يوجد أحد يقاربه في الكمال ‪ ،‬مؤيدا ذلك‬
‫بالمور المحسوسة والبراهين المسلمة ‪ ،‬وقد أبدا الله هذه المعاني وأعادها‬
‫معهم في مواضع كثيرة ‪.‬‬
‫ومن مقاماته صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين الرأفة العظيمة ‪ ،‬والرحمة‬
‫لهم ‪ ،‬والمحبة التامة ‪ ،‬والقيام معهم في كل أمورهم ‪ ،‬وأنه لهم أرحم وأرأف‬
‫من آبائهم وأمهاتهم ‪ ،‬وأحنى عليهم من كل أحد ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ص عَل َي ْك ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ري ٌ‬
‫ح ِ‬
‫م َ‬ ‫زيٌز عَل َي ْهِ َ‬
‫ما عَن ِت ّ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م عَ ِ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬‫سو ٌ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬
‫م َر ُ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫} لَ َ‬
‫م { ]التوبة ‪. [128 :‬‬ ‫حي ٌ‬
‫ف َر ِ‬‫ن َرُءو ٌ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ِبال ْ ُ‬

‫) ‪(2/12‬‬

‫م‬‫م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ‬


‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫سوًل ِ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫ن إ ِذ ْ ب َعَ َ‬ ‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬ ‫ه عََلى ال ْ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫م ّ‬‫قد ْ َ‬ ‫} لَ َ‬
‫ن{‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫آَيات ِهِ وَي َُز ّ‬
‫مِبي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫في َ‬ ‫لل ِ‬ ‫م ْ‬‫كاُنوا ِ‬ ‫ة وَإ ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ب َوال ِ‬ ‫م الك َِتا َ‬ ‫مهُ ُ‬ ‫م وَي ُعَل ُ‬ ‫كيهِ ْ‬
‫]آل عمران ‪. [164 :‬‬
‫حوْل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضوا ِ‬ ‫ف ّ‬ ‫َ‬
‫ب لن ْ َ‬ ‫قل ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت فَظا غَِليظ ال َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م وَلوْ كن ْ َ‬ ‫َ‬
‫ت لهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ل ِن ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫مةٍ ِ‬ ‫ح َ‬
‫ما َر ْ‬ ‫} فَب ِ َ‬
‫مرِ { ]آل عمران ‪. [159 :‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫َ‬ ‫َفاعْ ُ‬
‫م ِفي ال ْ‬ ‫شاوِْرهُ ْ‬ ‫فْر لهُ ْ‬ ‫ست َغْ ِ‬‫م َوا ْ‬ ‫ف عَن ْهُ ْ‬
‫فلم يزل يدعو إلى التوحيد وعقائد الدين وأصوله ‪ ،‬ويقرر ذلك بالبراهين‬
‫واليات المتنوعة ‪ ،‬ويحذر من الشرك والشرور كلها منذ بعث إلى أن‬
‫استكمل بعد بعثته نحو عشر سنين ‪ ،‬وهو يدعو إلى الله على بصيرة ‪.‬‬

‫) ‪(2/13‬‬

‫سرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد القصى ؛ ليريه من آياته ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ثم أ ْ‬
‫وعرج به إلى فوق السماوات السبع ‪ ،‬وفرض الله عليه الصلوات الخمس‬
‫بأوقاتها وهيئاتها ‪ ،‬وجاءه جبريل على أثرها فعّلمه أوقاتها وكيفّياتها ‪ ،‬وصلى به‬
‫يومين ‪ ،‬اليوم الول صّلى الصلوات الخمس في أول وقتها ‪ ،‬واليوم الثاني‬
‫في آخر الوقت ‪ ،‬وقال ‪ :‬الصلة ما بين هذين الوقتين ‪ ،‬ففرضت الصلوات‬
‫الخمس قبل الهجرة بنحو ثلث سنين ‪ ،‬ولم يفرض الذان في ذلك الوقت ‪،‬‬
‫ول بقية أركان السلم ‪ ،‬وانتشر السلم في المدينة وما حولها ‪.‬‬
‫ومن جملة السباب ‪ :‬أن الوس والخزرج كان اليهود في المدينة جيرانا لهم ‪،‬‬
‫وقد أخبروهم أنهم ينتظرون نبيا قد أظل زمانه ‪ ،‬وذكروا من أوصافه ما دلهم‬
‫عليه ; فبادر الوس والخزرج واجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة‬
‫وتيقنوا أنه رسول الله ‪ ،‬وأما اليهود فاستولى عليهم الشقاء والحسد ‪ ،‬فلما‬
‫جاءهم ما عرفوا كفروا به ‪ ،‬وكان المسلمون في مكة في أذى شديد من‬
‫قريش ‪ ،‬فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة أول إلى الحبشة ‪،‬‬
‫ثم لما أسلم كثير من أهل المدينة صارت الهجرة إلى المدينة ‪.‬‬

‫) ‪(2/14‬‬

‫وحين خاف أهل مكة من هذه الحال اجتمع ملؤهم ورؤساؤهم في دار الندوة‬
‫يريدون القضاء التام على النبي صلى الله عليه وسلم ; فاتفق رأيهم أن‬
‫ينتخبوا من قبائل قريش من كل قبيلة رجل شجاعا ‪ ،‬فيجتمعون ويضربونه‬
‫بسيوفهم ضربة واحدة ‪ .‬قالوا ‪ :‬لجل أن يتفرق دمه في القبائل ‪ ،‬فتعجز بنو‬
‫هاشم عن مقاومة سائر قريش فيرضون بالدية ‪ ،‬فهم يمكرون ويمكر الله‬
‫والله خير الماكرين ‪ ،‬فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعزم‬
‫على الهجرة ‪ ،‬وأخبر أبا بكر بذلك وطلب منه الصحبة ‪ ،‬فأجابه إلى ذلك‬
‫وخرج في تلك الليلة التي اجتمعوا على اليقاع به ‪ ،‬وأمر علّيا أن ينام على‬
‫فراشه ‪ ،‬وخرج هو وأبو بكر إلى الغار ‪ ،‬فلم يزالوا يرصدونه حتى برق‬
‫ي فقالوا ‪ :‬أين صاحبك ؟ قال ‪ :‬ل أدري ‪.‬‬ ‫الفجر ‪ ،‬فخرج إليهم عل ّ‬
‫ثم ذهبوا يطلبونه في كل وجهة ‪ ،‬وجعلوا الجعالت الكثيرة لمن يأتي به ‪،‬‬
‫وكان الجبل الذي فيه الغار قد امتل من الخلق يطلبون رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه‬
‫لبصرنا ‪ .‬فقال ‪ :‬يا أبا بكر ‪ ،‬ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ وأنزل الله تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(2/15‬‬

‫ما ِفي‬ ‫ن إ ِذ ْ هُ َ‬‫ي اث ْن َي ْ ِ‬‫فُروا َثان ِ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬


‫ج ُ‬ ‫خَر َ‬‫ه إ ِذ ْ أ َ ْ‬‫صَرهُ الل ّ ُ‬ ‫قد ْ ن َ َ‬ ‫صُروه ُ فَ َ‬ ‫} إ ِّل ت َن ْ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَأي ّد َهُ‬‫كين َت َ ُ‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫معََنا فَأن َْز َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫حَز ْ‬ ‫حب ِهِ َل ت َ ْ‬ ‫صا ِ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ال َْغارِ إ ِذ ْ ي َ ُ‬
‫ي ال ْعُل َْيا َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ة الل ّهِ هِ َ‬ ‫م ُ‬‫فَلى وَك َل ِ َ‬ ‫س ْ‬‫فُروا ال ّ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ة ال ّ ِ‬‫م َ‬ ‫ل ك َل ِ َ‬‫جعَ َ‬ ‫ها وَ َ‬ ‫م ت ََروْ َ‬ ‫جُنود ٍ ل َ ْ‬ ‫بِ ُ‬
‫م { ]التوبة ‪. [40 :‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫عَ ِ‬
‫فهاجر إلى المدينة واستقر بها ‪ ،‬وأذن له في القتال بعدما كان قبل الهجرة‬
‫ممنوعا لحكمة مشاهدة ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ديٌر { ]الحج ‪:‬‬ ‫ق ِ‬ ‫مل َ‬ ‫صرِهِ ْ‬ ‫ه عَلى ن َ ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا وَإ ِ ّ‬ ‫م ظ ُل ِ ُ‬ ‫ن ب ِأن ّهُ ْ‬‫قات َُلو َ‬ ‫ن يُ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬ ‫} أذِ َ‬
‫‪. [39‬‬
‫وجعل يرسل السرايا ‪ ،‬ولما كانت السنة الثانية فرض الله على العباد الزكاة‬
‫والصيام ‪ ،‬فآيات الصيام والزكاة إنما نزلت في هذا العام وقت فرضها ‪ ،‬وأما‬
‫قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن{‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫م َ‬ ‫خَرةِ هُ ْ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال ِ‬ ‫كاة َ وَهُ ْ‬ ‫ن الّز َ‬ ‫ن ل ي ُؤُْتو َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن {} ال ِ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ل ِل ْ ُ‬ ‫} وَوَي ْ ٌ‬
‫]فصلت ‪ 6 :‬و ‪. [7‬‬
‫فإن المراد زكاة القلب وطهارته بالتوحيد وترك الشرك ‪.‬‬

‫) ‪(2/16‬‬

‫وفي السنة الثانية أيضا كانت وقعة بدر ‪ ،‬وسببها أن عيرا لقريش تحمل تجارة‬
‫عظيمة من الشام ‪ ،‬خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن خف من أصحابه‬
‫لطلبها ‪ ،‬فخرجت قريش لحمايتها ‪ ،‬وتوافوا في بدر على غير ميعاد ‪ ،‬فالعير‬
‫نجت والنفير التقوا مع الرسول وأصحابه ‪ ،‬وكانوا ألفا كاملي العدد والخيل ‪،‬‬
‫والمسلمون ثلثمائة وبضعة عشر على سبعين بعيرا يعتقبونها ‪ ،‬فهزم الله‬
‫المشركين هزيمة عظيمة ‪ ،‬قتلت سرواتهم وصناديدهم ‪ ،‬وُأسر من ُأسر منهم‬
‫‪ ،‬وأصاب المشركين مصيبة ما ُأصيبوا بمثلها ‪ ،‬وهذه الغزوة أنزل الله فيها‬
‫وفي تفاصيلها سورة النفال ‪ ،‬وبعدما رجع إلى المدينة منها مظفرا منصورا‬
‫ذل من بقي ممن لم ُيسلم من الوس والخزرج ‪ ،‬ودخل بعضهم في السلم‬
‫نفاقا ‪ ،‬ولذلك جميع اليات نزلت في المنافقين إنما كانت بعد غزوة بدر ‪.‬‬

‫) ‪(2/17‬‬

‫ثم في السنة الثالثة كانت غزوة أحد ‪ ،‬غزا المشركون وجيشوا الجيوش على‬
‫المسلمين حتى وصلوا إلى أطراف المدينة ‪ ،‬وخرج إليهم رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم بأصحابه وعبأهم ورتبهم ‪ ،‬والتقوا في ُأحد عند الجبل‬
‫المعروف شمالي المدينة ‪ ،‬وكانت الدائرة في أول المر على المشركين ‪ ،‬ثم‬
‫لما ترك الرماة مركزهم الذي رتبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫غلبنا ‪ ،‬وجاءت الخيل مع تلك الثغرة‬ ‫وقال لهم ‪ :‬ل تبرحوا عنه ‪ ،‬ظَهرنا أو ُ‬
‫ُ‬
‫وكان ما كان ‪ ،‬حصل على المسلمين في أحد مقتلة أكرمهم الله بالشهادة‬
‫في سبيله ‪ ،‬وذكر الله تفصيل هذه الغزوة في سورة آل عمران ‪ ،‬وبسط‬
‫متعلقاتها ‪ ،‬فالوقوف على هذه الغزوة من كتب السير يعين على فهم اليات‬
‫الكثيرة التي نزلت فيها كبقية الغزوات ‪.‬‬
‫ثم في السنة الرابعة تواعد المسلمون والمشركون فيها ‪ -‬في بدر ‪ -‬فجاء‬
‫المسلمون لذلك الموعد ‪ ،‬وتخلف المشركون معتذرين أن السنة مجدبة ‪،‬‬
‫فكتبها الله غزوة للمسلمين ‪:‬‬
‫هّ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ َوالل ُ‬
‫وا َ‬
‫ض َ‬
‫سوٌء َوات ّب َُعوا رِ ْ‬
‫م ُ‬
‫سهُ ْ‬ ‫س ْ‬
‫م َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫َ‬
‫لل ْ‬ ‫ن الل ّهِ وَفَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫م َ‬ ‫قل َُبوا ب ِن ِعْ َ‬
‫مةٍ ِ‬ ‫} َفان ْ َ‬
‫ظيم ٍ { ]آل عمران ‪. [174 :‬‬ ‫ل عَ ِ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ُذو فَ ْ‬

‫) ‪(2/18‬‬

‫ثم في سنة خمس كانت غزوة الخندق ‪ ،‬اتفق أهل الحجاز وأهل نجد ‪،‬‬
‫وظاهرهم بنو قريظة من اليهود على غزو النبي صلى الله عليه وسلم ‪،‬‬
‫وجمعوا ما يقدرون عليه من الجنود ‪ ،‬فاجتمع نحو عشرة آلف مقاتل وقصدوا‬
‫المدينة ‪ ،‬ولما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم خندق على المدينة ‪،‬‬
‫وخرج المسلمون نحو الخندق ‪ ،‬وجاء المشركون كما وصفهم الله بقوله ‪:‬‬
‫َ‬ ‫} إذ ْ جاُءوك ُم من فَوقك ُم وم َ‬
‫ب‬‫قُلو ُ‬‫ت ال ْ ُ‬
‫صاُر وَب َل َغَ ِ‬
‫ت اْلب ْ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م وَإ ِذ ْ َزاغَ ِ‬ ‫ف َ‬
‫ل ِ‬ ‫س َ‬
‫نأ ْ‬‫ْ ِ ْ ْ ِ ْ َ ِ ْ‬ ‫ِ َ‬
‫جَر { ]الحزاب ‪. [10 :‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫حَنا ِ‬
‫ومكثوا محاصرين المدينة عدة أيام ‪ ،‬وحال الخندق بينهم وبين اصطدام‬
‫الجيوش ‪ ،‬وحصل مناوشات يسيرة بين أفراد من الخيل ‪ ،‬وسبب الله عدة‬
‫أسباب لنخذال المشركين ‪ ،‬ثم انشمروا إلى ديارهم ‪ ،‬فلما رجعوا خائبين لم‬
‫ينالوا ما كانوا جازمين على حصوله ‪ ،‬تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لبني‬
‫قريظة الذين ظاهروا المشركين بقولهم وتشجيعهم على قصد المدينة ‪،‬‬
‫ومظاهرتهم الفعلية ونقضهم ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫فحاصرهم ‪ ،‬فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم أن تقتل مقاتلتهم ‪،‬‬
‫وتسبى ذراريهم ‪ ،‬وفي هذه الغزوة أنزل الله صدر سورة الحزاب من قوله ‪:‬‬

‫) ‪(2/19‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫سل َْنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫م‬ ‫جُنود ٌ فَأْر َ‬‫م ُ‬‫جاَءت ْك ُ ْ‬ ‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م إ ِذ ْ َ‬ ‫مُنوا اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ها { ]إلى قوله ‪ } [:‬وأ َورث َك ُ َ‬
‫م‬‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬
‫م وَأ ْ‬ ‫م وَدَِياَرهُ ْ‬
‫ضهُ ْ‬‫م أْر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫جُنوًدا ل َ ْ‬
‫م ت ََروْ َ‬ ‫حا وَ ُ‬ ‫ِري ً‬
‫َ‬
‫ه عَلى ك ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ها وَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ديًرا { ]الحزاب ‪. [27 - 9 :‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ُ‬‫كا َ‬ ‫م ت َطُئو َ‬ ‫ضا ل ْ‬ ‫وَأْر ً‬

‫) ‪(2/20‬‬

‫ثم في سنة ست من الهجرة اعتمر صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة‬
‫الحديبية ‪ ،‬وكان البيت ل ُيصد ّ عنه أحد ‪ ،‬فعزم المشركون على صد النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم عنه ‪ ،‬ولما بلغ الحديبية ورأى المشركين قد أخذتهم‬
‫الحمية الجاهلية جازمين على القتال دخل معهم في صلح لحقن الدماء في‬
‫بيت الله الحرام ‪ ،‬ولما في ذلك من المصالح ‪ ،‬وصار الصلح على أن يرجع‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم عامه هذا ول يدخل البيت ‪ ،‬ويكون القضاء من‬
‫العام المقبل ‪ ،‬وتضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين ; فكره جمهور‬
‫المسلمين هذا الصلح حين توهموا أن فيه غضاضة على المسلمين ‪ ،‬ولم‬
‫يطلعوا على ما فيه من المصالح الكثيرة ‪ ،‬فرجع صلى الله عليه وسلم عامه‬
‫ذلك ‪ ،‬وقضى هذه العمرة في عام سبع من الهجرة ‪ ،‬فأنزل الله في هذه‬
‫مِبيًنا { ]الفتح ‪. [1 :‬‬
‫حا ُ‬ ‫حَنا ل َ َ‬
‫ك فَت ْ ً‬ ‫القضية سورة الفتح بأكملها ‪ } :‬إ ِّنا فَت َ ْ‬

‫) ‪(2/21‬‬

‫فكان هذا الفتح لما فيه من الصلح الذي تمكن فيه المسلمون من الدعوة‬
‫إلى السلم ‪ ،‬ودخول الناس في دين الله حين شاهدوا ما فيه من الخير‬
‫والصلح والنور ‪ ،‬وقد تقدم أن قصة بني قريظة دخلت في ضمن قصة‬
‫الخندق ‪ ،‬أما قبيلة بني النضير من اليهود فإنها قبل ذلك حين هموا بالفتك‬
‫بالنبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وكانوا على جانب المدينة غزاهم صلى الله‬
‫عليه وسلم واحتموا بحصونهم ‪ ،‬ووعدهم المنافقون حلفاؤهم بنصرتهم ‪،‬‬
‫فألقى الله الرعب في قلوبهم ‪ ،‬وأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫على أن يجلوا عن ديارهم ولهم ما حملت إبلهم ‪ ،‬ويدعوا الرض والعقار وما‬
‫لم تحمله البل للمسلمين ; فأنزل الله في هذه القضية أول سورة الحشر ‪:‬‬
‫َ‬ ‫فروا م َ‬ ‫ذي أ َ ْ‬
‫شرِ {‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫م ِلوّ ِ‬
‫ن دَِيارِهِ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ب ِ‬ ‫ن أهْ ِ‬
‫ِ ْ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ج ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خَر َ‬ ‫} هُوَ ال ّ ِ‬
‫]الحشر ‪ [2 :‬إلى آخر القصة ‪.‬‬
‫وفي سنة ثمان من الهجرة ‪ ،‬وقد نقضت قريش العهد الذي بينهم وبين النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم غزا مكة في جند كثيف من المسلمين يقارب عشرة‬
‫آلف ‪ ،‬فدخلها فاتحا لها ‪ ،‬ثم تممها بغزو حنين على هوازن وثقيف ‪ ،‬فتم بذلك‬
‫نصر الله لرسوله وللمسلمين ‪ ،‬وأنزل الله في ذلك أول سورة التوبة ‪.‬‬

‫) ‪(2/22‬‬

‫وفي سنة تسع من الهجرة غزا تبوك وأوعب المسلمون معه ‪ ،‬ولم يتخلف إل‬
‫أهل العذار وأناس من المنافقين ‪ ،‬وثلثة من صلحاء المؤمنين ‪ :‬كعب بن‬
‫مالك وصاحباه ‪ ،‬وكان الوقت شديدا ‪ ،‬والحر شديدا ‪ ،‬والعدو كثيرا ‪ ،‬والعسرة‬
‫مشتدة ‪ ،‬فوصل إلى تبوك ومكث عشرين يوما ولم يحصل قتال فرجع إلى‬
‫المدينة ; فأنزل الله في هذه الغزوة آيات كثيرة من سورة التوبة ‪ ،‬يذكر‬
‫تعالى تفاصيلها وشدتها ‪ ،‬ويثني على المؤمنين ‪ ،‬ويذم المنافقين وتخلفهم ‪،‬‬
‫ويذكر توبته على النبي والمهاجرين والنصار الذين اتبعوه في ساعة‬
‫العسرة ‪ ،‬ويدخل معهم الثلثة الذين خلفوا بعد توبتهم وإنابتهم ‪.‬‬
‫وفي مطاوي هذه الغزوات يذكر الله آيات الجهاد وفرضه وفضله وثواب‬
‫أهله ‪ ،‬وما للناكلين عنه من الذل العاجل والعقاب الجل ‪ ،‬كما أنه في أثناء‬
‫هذه المدة ينزل الله الحكام الشرعية شيئا فشيئا بحسب ما تقتضيه حكمته ‪.‬‬

‫) ‪(2/23‬‬
‫وفي سنة تسع من الهجرة أو سنة عشر فرض الله الحج على المسلمين ‪،‬‬
‫وكان أبو بكر حج بالناس سنة تسع ‪ ،‬ونبذ إلى المشركين عهودهم ‪ ،‬وأتم‬
‫عهود الذين لم ينقضوا ‪ ،‬ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سنة‬
‫عشر واستوعب المسلمين معه ‪ ،‬وأعلمهم بمناسك الحج والعمرة بقوله‬
‫وفعله ‪ ،‬وأنزل الله اليات التي في الحج وأحكامه ‪ ،‬وأنزل الله يوم عرفة ‪:‬‬

‫) ‪(2/24‬‬

‫َ‬ ‫} ال ْيو َ‬
‫م ِديًنا {‬‫سَل َ‬‫م اْل ِ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬‫ضي ُ‬ ‫مِتي وََر ِ‬ ‫م ن ِعْ َ‬‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫م ْ‬‫م وَأت ْ َ‬ ‫م ِدين َك ُ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬‫م أك ْ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫]المائدة ‪. [3 :‬‬
‫فلم يبق من العلوم النافعة علم إل بّينه لهم ‪ ،‬فإن القرآن تبيان لكل شيء ‪،‬‬
‫فعلوم الصول وعلوم الفروع والحكام ‪ ،‬وعلوم الخلق والداب ‪ ،‬وعلوم‬
‫الكون ‪ ،‬وكل ما يحتاجه الخلق من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة ‪ ،‬ففي‬
‫القرآن بيانه والرشاد إليه ‪ ،‬وهو الذي إليه المرجع في جميع الحقائق‬
‫الشرعية والعقلية ‪ ،‬ومحال وممتنع أن يأتي علم صحيح ل محسوس ول‬
‫ميد ٍ { ‪،‬‬ ‫ح ِ‬ ‫كيم ٍ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫زي ٌ‬ ‫معقول ينقض شيئا مما جاء به القرآن ؛ فإنه } ت َن ْ‬
‫ن وَل َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫خل ْفه { ‪ِ } ،‬أ َ‬ ‫} َل ي َأ ِْتيهِ ال َْباط ِ ُ‬
‫و‬ ‫رآ‬
‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫رو‬
‫ََ َُّ َ‬ ‫ب‬‫د‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ن َ ِ ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ي َد َي ْهِ وََل ِ‬ ‫ن ب َي ْ ِ‬‫م ْ‬ ‫ل ِ‬
‫خت َِلًفا ك َِثيًرا { ‪.‬‬ ‫دوا ِفيهِ ا ْ‬ ‫ج ُ‬ ‫عن ْد ِ غَي ْرِ الل ّهِ ل َوَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫َ‬
‫م{‪:‬‬ ‫ي أقْوَ ُ‬ ‫دي ل ِل ِّتي هِ َ‬ ‫ن ي َهْ ِ‬ ‫قْرآ َ‬‫ذا ال ْ ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫ل { ]الحزاب ‪. [4 :‬‬ ‫سِبي َ‬ ‫دي ال ّ‬ ‫حقّ وَهُوَ ي َهْ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬

‫) ‪(2/25‬‬

‫فهذه الية جمعت بين نوعي العلوم ‪ ،‬فإن العلوم وسائل ومقاصد ‪ ،‬وهو الحق‬
‫الذي يقول الله في كتابه ‪ ،‬وعلى لسان رسوله ‪ ،‬ونوع وسائل ‪ ،‬وهو الهداية‬
‫إلى السبيل إلى كل علم وعمل ‪ ،‬كما أن قوله تعالى ‪:‬‬
‫سيًرا { ]الفرقان ‪. [33 :‬‬
‫ف ِ‬
‫ن تَ ْ‬
‫س َ‬‫ح َ‬
‫َ‬
‫حقّ وَأ ْ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬ ‫جئ َْنا َ‬‫ل إ ِّل ِ‬ ‫مث َ ٍ‬
‫ك بِ َ‬‫} وََل ي َأ ُْتون َ َ‬
‫جمعت الكمال في ألفاظه ومعانيه ؛ فألفاظه أوضح اللفاظ وأبلغها وأحسنها‬
‫تفسيرا لكل ما تفسره من الحقائق ‪ ،‬بوضوحها وأحكامها وقوامها ‪ ،‬ومعانيه‬
‫كلها حق ‪ ،‬وذلك أنه تمت كلمة ربك صدقا وعدل ‪ ،‬صدقا في أخبارها ‪ ،‬وعدل‬
‫في أحكامها ‪ :‬أوامرها ونواهيها ‪:‬‬
‫} وم َ‬
‫ن { ]المائدة ‪. [50 :‬‬ ‫قوْم ٍ ُيوقُِنو َ‬‫ما ل ِ َ‬‫حك ْ ً‬ ‫ن الل ّهِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ْ‬
‫فأحكامه على الطلق أحسن الحكام وأنفعها للعباد ‪ ،‬فهذا في شرعه ودينه‬
‫ونظيره في خلقه ‪ ،‬الذي أحسن كل شيء خلقه ‪ ،‬وبدأ خلق النسان من طين‬
‫‪.‬‬
‫وقد جمع الله في كتابه بين المتقابلت العامة ‪ ،‬وذلك لكمال هذا الكتاب‬
‫وأحكامه كالمثلة السابقة ‪ ،‬وكما في قوله تعالى ‪:‬‬
‫وى { ]المائدة ‪. [2 :‬‬ ‫} وَت ََعاوَُنوا عََلى ال ْب ِّر َوالت ّ ْ‬
‫ق َ‬
‫) ‪(2/26‬‬
‫فإن البر اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد والخلق والعمال ‪،‬‬
‫والتقوى اسم جامع لما يجب اتقاؤه من جميع المآثم والمضار ‪ ،‬ولهذا قال ‪} :‬‬
‫ن { ]سورة المائدة ‪. [2 :‬‬ ‫وََل ت ََعاوَُنوا عََلى اْل ِث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ‬
‫فالثم المعاصي المتعلقة بحقوق الله ‪ ،‬والعدوان البغي على الخلق في‬
‫الدماء والموال والعراض والحقوق ‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعالى ‪:‬‬
‫وى { ]البقرة ‪. [197 :‬‬ ‫ق َ‬‫خي َْر الّزادِ الت ّ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫} وَت ََزوُّدوا فَإ ِ ّ‬
‫فجمع بين زاد سفر الدنيا ‪ ،‬وزاد سفر الخرة بالتقوى ‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعالى ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫شا { ]العراف ‪:‬‬‫م وَِري ً‬
‫وآت ِك ْ‬
‫س ْ‬‫واِري َ‬
‫سا ي ُ َ‬
‫م ل َِبا ً‬ ‫م قَد ْ أن َْزلَنا عَلي ْك ْ‬ ‫} يا ب َِني آد َ َ‬
‫‪. [26‬‬
‫فهذا اللباس الحسي الضروري والكمالي ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫خي ٌْر { ]العراف ‪. [26 :‬‬ ‫ك َ‬ ‫وى ذ َل ِ َ‬ ‫ق َ‬‫س الت ّ ْ‬ ‫} وَل َِبا ُ‬
‫فهذا اللباس المعنوي ‪ ،‬وإن شئت قلت عن الول إنه لباس البدن ‪ ،‬وعن‬
‫لباس التقوى إنها لباس القلب والروح ‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعالى ‪:‬‬
‫سُروًرا { ]النسان ‪. [11 :‬‬ ‫ضَرةً وَ ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫} وَل َ ّ‬
‫قاهُ ْ‬
‫جمع لهم بين نعيم الظاهر بالنضرة والحسن والبهاء ونعيم الباطن بكمال‬
‫الفرح والسرور ‪.‬‬
‫وكذلك قوله في صفة نساء الجنة ‪:‬‬

‫) ‪(2/27‬‬

‫ن { ]الرحمن ‪. [70 :‬‬ ‫سا ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫ت ِ‬ ‫خي َْرا ٌ‬‫ن َ‬ ‫} ِفيهِ ّ‬


‫فوصفهن بجمال الباطن بحسن الخلق الكامل ‪ ،‬وجمال الظاهر بأنهن حسان‬
‫الوجوه وجميع الظاهر ‪.‬‬
‫ولما ذكر السير الحسي ذكر السير المعنوي ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫جائ ٌِر { ]النحل ‪. [9 :‬‬ ‫من َْها َ‬ ‫ل وَ ِ‬ ‫سِبي ِ‬‫صد ُ ال ّ‬ ‫} وَعََلى الل ّهِ قَ ْ‬
‫وكذلك قوله ‪:‬‬
‫َ‬
‫ميًعا { ]النساء ‪:‬‬
‫ج ِ‬
‫فُروا َ‬
‫ت { ]أي ‪ :‬أفرادا بدليل قوله ‪ } [:‬أوِ ان ْ ِ‬ ‫فُروا ث َُبا ٍ‬ ‫} َفان ْ ِ‬
‫‪. [71‬‬
‫وكذلك قوله ‪:‬‬
‫ب وَت َوَّلى { ]الليل ‪ 15 :‬و ‪. [16‬‬ ‫قى {} ال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ها إ ِّل اْل ْ‬ ‫صَل َ‬
‫ذي ك َذ ّ َ‬ ‫ش َ‬ ‫} َل ي َ ْ‬
‫كذب الخبر وتولى عن الطاعة " التكذيب " ‪ :‬انحراف الباطن ‪ " ،‬والتولي " ‪:‬‬
‫انحراف الظاهر ‪ ،‬ونظيره قوله ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ن ال ْعَ َ‬ ‫َ‬ ‫} إ ِّنا قَد ْ ُأو ِ‬
‫ب وَت َوَلى { ]طه ‪. [48 :‬‬ ‫ن ك َذ ّ َ‬
‫م ْ‬
‫ب عَلى َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ي إ ِل َي َْنا أ ّ‬ ‫ح َ‬
‫وضد ذلك ما رتب الله على اليمان والعمل الصالح من خير الدنيا والخرة ;‬
‫فإن اليمان ضد التكذيب ‪ ،‬والتولي ضد الستقامة والعمل الصالح ‪.‬‬
‫وكذلك قوله ‪:‬‬
‫ن { ]الفاتحة ‪. [5 :‬‬ ‫ست َِعي ُ‬ ‫َ‬
‫ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّياك ن َ ْ‬ ‫} إ ِّيا َ‬

‫) ‪(2/28‬‬
‫فاعبده وتوكل عليه تجمع جميع ما يراد من العبد ; فالعبادة حق الله على‬
‫العبد ‪ ،‬والعانة من ربه إسعافه بما استعان عليه من عبودية ربه وغيرها من‬
‫منافعه ; فالعبد في عبادة لله واستعانة به ‪.‬‬
‫وكذلك قوله ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ة وَل َن َ ْ‬
‫جزِي َن ّهُ ْ‬ ‫حَياة ً ط َي ّب َ ً‬
‫ه َ‬ ‫ن فَل َن ُ ْ‬
‫حي ِي َن ّ ُ‬ ‫م ٌ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ن ذ َك َرٍ أوْ أن َْثى وَهُوَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ ً‬‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫} َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { ]النحل ‪. [97 :‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫س ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫جَرهُ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫فجمع للمؤمن العامل للصالحات بين طيب الحياة في الدنيا والخرة ‪،‬‬
‫ونظيره ‪:‬‬
‫َ‬
‫ة { ]النحل ‪. [30 :‬‬ ‫سن َ ٌ‬ ‫ح َ‬‫سُنوا ِفي هَذِهِ الد ّن َْيا َ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ل ِل ّ ِ‬
‫خَرةِ أ َك ْب َُر { ]النحل ‪. [41 :‬‬ ‫جُر اْل ِ‬ ‫} وََل َ ْ‬
‫ة { ]البقرة ‪. [201 :‬‬ ‫سن َ ً‬‫ح َ‬ ‫خَرةِ َ‬ ‫ة وَِفي اْل ِ‬ ‫سن َ ً‬‫ح َ‬ ‫} َرب َّنا آت َِنا ِفي الد ّن َْيا َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [277 :‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫َ‬
‫م وَل هُ ْ‬ ‫َ‬
‫ف عَلي ْهِ ْ‬ ‫خو ْ ٌ‬ ‫وكذلك قوله ‪ } :‬وََل َ‬
‫في مواضع نفي جميع المكروه الماضي ينفي الحزن والمستقبل بنفي‬
‫الخوف ‪.‬‬
‫ة ن َِعيم ٍ { ]الواقعة ‪. [89 :‬‬ ‫جن ّ ُ‬‫ن وَ َ‬ ‫حا ٌ‬ ‫ح وََري ْ َ‬ ‫َ‬
‫وكذلك قوله تعالى ‪ } :‬فَروْ ٌ‬
‫فالروح اسم جامع لنعيم القلب ‪ ،‬والريحان اسم جامع لنعيم البدان ‪ ،‬وجنة‬
‫نعيم تجمع المرين ‪.‬‬

‫) ‪(2/29‬‬

‫ن ذِك ْ‬ ‫وكذلك قوله ‪ } :‬وم َ‬


‫ن‬‫ري { ]أي ‪ :‬القرآن الذي أنزله[ } فَإ ِ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ض عَ ْ‬‫ن أعَْر َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫شره يوم ال ْقيامة أ َ‬
‫مى { ]طه ‪. [124 :‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ح ُ ُ ْ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ضن ْ ً‬
‫كا وَن َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫مِعي َ‬
‫ش ً‬ ‫لَ ُ‬
‫ه َ‬
‫جمع له بين عذاب الدنيا وعذاب البرزخ وعذاب دار القرار ‪.‬‬
‫جّبارٍ { ]غافر ‪. [35 :‬‬‫مت َك َب ّرٍ َ‬
‫ب ُ‬ ‫ل قَل ْ ِ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫وكذلك قوله ‪ } :‬ي َط ْب َعُ الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫معْت َد ٍ أِثيم ٍ { ]القلم ‪[12 :‬‬
‫أي ‪ :‬متكبر على الحق جبار على الخلق ‪ ،‬ومثله ‪ُ } :‬‬
‫‪.‬‬
‫َ‬
‫أي معتد في البغي على عباد الله ‪ } ،‬أِثيم ٍ { أي ‪ :‬متجرئ على محارم الله ‪.‬‬
‫صيرٍ { ]الشورى ‪. [8 :‬‬ ‫ي وََل ن َ ِ‬ ‫ن وَل ِ ّ‬ ‫م ْ‬
‫وكذلك قوله في مواضع ‪ِ } :‬‬
‫فالولي ‪ :‬الذي يجلب لموليه المنافع ‪ ،‬والنصير ‪ :‬الذي يدفع عنه المضار ‪.‬‬

‫) ‪(2/30‬‬

‫فوائد منثورة منوعة غير مرتبة‬


‫مة ‪ :‬جاء في القرآن لعدة معاني ‪ ،‬جاء بمعنى المام الجامع لخصال‬ ‫* ال ّ‬
‫ة { ]النحل ‪. [120 :‬‬‫م ً‬ ‫ُ‬ ‫م َ‬
‫نأ ّ‬‫كا َ‬ ‫هي َ‬
‫ن إ ِب َْرا ِ‬
‫الخير ‪ ،‬مثل قوله ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫وبمعنى الطائفة ‪:‬‬
‫ذيٌر { ]فاطر ‪. [24 :‬‬ ‫َ‬ ‫مةٍ إ ِّل َ‬ ‫} وإن م ُ‬
‫خل ِفيَها ن َ ِ‬ ‫نأ ّ‬ ‫َِ ْ ِ ْ‬
‫وهذا المعنى كثير ‪.‬‬
‫وبمعنى الملة والدين ‪:‬‬
‫حد َة ً { ]المؤمنون ‪. [52 :‬‬ ‫ة َوا ِ‬‫م ً‬ ‫} وإن هَذه أ ُمتك ُ ُ‬
‫مأ ّ‬ ‫َِ ّ ِ ِ ّ ُ ْ‬
‫وبمعنى المدة الطويلة ‪:‬‬
‫ُ‬
‫مةٍ { ]يوسف ‪. [45 :‬‬ ‫} َواد ّك ََر ب َعْد َ أ ّ‬
‫* السلطان ‪ :‬أكثر استعماله في القرآن بمعنى الحجة ‪ ،‬مثل قوله ‪:‬‬
‫ن { ]يونس ‪. [68 :‬‬ ‫طا ٍ‬ ‫سل ْ َ‬‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫عن ْد َك ُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫} إِ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن { ]إبراهيم ‪. [10 :‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ن ُ‬ ‫سلطا ٍ‬ ‫} فَأُتوَنا ب ِ ُ‬
‫ويأتي بمعنى الملك ‪:‬‬
‫ه { ]الحاقة ‪. [29 :‬‬ ‫طان ِي َ ْ‬‫سل ْ َ‬
‫ك عَّني ُ‬ ‫مثل قوله ‪ } :‬هَل َ َ‬
‫ويأتي بمعنى التسلط والسيطرة ‪:‬‬
‫ن{‬ ‫ُ‬
‫م ي َت َوَك ّلو َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا وَعَلى َرب ّهِ ْ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن عَلى ال ِ‬‫َ‬ ‫طا ٌ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫س لَ ُ‬‫ه ل َي ْ َ‬ ‫مثل قوله ‪ } :‬إ ِن ّ ُ‬
‫ن { ]النحل ‪ 99 :‬و‬ ‫كو َ‬‫شرِ ُ‬
‫م ْ‬
‫م ب ِهِ ُ‬‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ه َوال ِ‬ ‫ّ‬
‫ن ي َت َوَلوْن َ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ه عَلى ال ِ‬ ‫َ‬ ‫طان ُ ُ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫} إ ِن ّ َ‬
‫‪. [100‬‬
‫* اللسان ‪ :‬ورد في القرآن لعدة معاني ‪ ،‬ورد بمعنى الجارحة ‪:‬‬

‫) ‪(2/31‬‬

‫ل ب ِهِ { ]القيامة ‪. [16 :‬‬ ‫ج َ‬ ‫ك ل ِت َعْ َ‬ ‫سان َ َ‬ ‫ك ب ِهِ ل ِ َ‬ ‫حّر ْ‬ ‫} َل ت ُ َ‬


‫َ‬
‫م { ]الفتح ‪. [11 :‬‬ ‫سن َت ِهِ ْ‬ ‫ن ب ِأل ْ ِ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫} يَ ُ‬
‫وهو كثير ‪.‬‬
‫وبمعنى اللغة ‪:‬‬
‫َ‬
‫مهِ { ]إبراهيم ‪. [4 :‬‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫ل إ ِّل ب ِل ِ َ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سل َْنا ِ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫} وَ َ‬
‫ن { ]الشعراء ‪. [195 :‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ي ُ‬ ‫ن عََرب ِ ّ‬ ‫سا ٍ‬ ‫} ب ِل ِ َ‬
‫وبمعنى الثناء الحسن ‪:‬‬
‫ن { ]الشعراء ‪. [84 :‬‬ ‫ري َ‬‫خ ِ‬ ‫ْ‬
‫ق ِفي ال ِ‬ ‫صد ْ ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫سا َ‬ ‫ل ِلي ل ِ َ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫} َوا ْ‬
‫دى بعلى فتدل على‬ ‫* استوى ‪ :‬وردت في القرآن على ثلثة أوجه ‪ ،‬تارة ُتع ّ‬
‫العلو والرتفاع مثل ‪:‬‬
‫ش { ]العراف ‪. [54 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫وى عَلى العَْر ِ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ما ْ‬
‫ووا عَلى ظُهورِهِ { ]الزخرف ‪. [13 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ست َ ُ‬ ‫} ل ِت َ ْ‬
‫دى بإلى فتدل على القصد مثل ‪:‬‬ ‫وتع ّ‬
‫ت { ]البقرة ‪. [29 :‬‬ ‫ماَوا ٍ‬
‫س َ‬
‫سب ْعَ َ‬
‫ن َ‬ ‫واهُ ّ‬ ‫س ّ‬ ‫ماِء فَ َ‬ ‫س َ‬ ‫وى إ ِلى ال ّ‬ ‫َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ما ْ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫وتأتي بل تعدية بحرف فتدل على الكمال ‪ ،‬ومنه قوله ‪:‬‬
‫وى { ]القصص ‪ [14 :‬أي ‪ :‬كمل في عقله وأحواله‬ ‫ست َ َ‬
‫شد ّه ُ َوا ْ‬ ‫ما ب َل َغَ أ َ ُ‬ ‫} وَل َ ّ‬
‫كلها ‪.‬‬
‫* التأويل ‪ :‬أكثر وروده في القرآن بمعنى عاقبة الشيء وما يؤول إليه ووقت‬
‫وقوعه مثل قوله ‪:‬‬

‫) ‪(2/32‬‬

‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬


‫ل{‬ ‫ن قَب ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫سوه ُ ِ‬
‫ن نَ ُ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قو ُ‬ ‫م ي َأِتي ت َأِويل ُ ُ‬
‫ه يَ ُ‬ ‫ه ي َوْ َ‬‫ن إ ِّل ت َأِويل َ ُ‬‫ل ي َن ْظ ُُرو َ‬ ‫} هَ ْ‬
‫]العراف ‪ [53 :‬أي ‪ :‬وقوع المخبر به من العذاب ‪.‬‬
‫ل { ]يوسف ‪ [100 :‬أي ‪ :‬هذا ما آلت إليه وهذا‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬‫ل ُرؤَْيايَ ِ‬ ‫ذا ت َأ ِْوي ُ‬‫} هَ َ‬
‫وقوعها ‪.‬‬
‫وقد يأتي بمعنى التفسير وهو قليل ‪ ،‬ومنه على أحد التفسيرين ‪:‬‬
‫ْ‬
‫ه { ]آل عمران ‪. [7 :‬‬ ‫ه إ ِّل الل ّ ُ‬‫م ت َأِويل َ ُ‬‫ما ي َعْل َ ُ‬‫} وَ َ‬
‫أي ‪ :‬تفسيره ‪ ،‬وعلى القول الخر يكون من المعنى الول ‪ ،‬أي ‪ :‬وما يعلم‬
‫حقيقة المخبر عنه إل الله وحده ‪ ،‬فعلى هذا المعنى يتعين الوقوف على‬
‫) الل ّهِ ( ‪ ،‬وعلى المعنى الول الذي بمعنى التفسير يعطف عليه ‪:‬‬
‫ن ِفي ال ْعِل ْم ِ { أي ‪ :‬فما يعلم تفسير المتشابه الذي يتشابه فهمه‬ ‫خو َ‬‫س ُ‬‫} َوالّرا ِ‬
‫على أذهان أكثر الناس إل الله وإل أهل العلم ‪ ،‬فإنهم يعلمون تأويله بهذا‬
‫المعنى ‪.‬‬
‫* الغافل ‪ :‬ورد في القرآن بمعنى الجاهل مثل قوله ‪:‬‬
‫ُ‬
‫ن { ]يس ‪. [6 :‬‬ ‫غافُِلو َ‬
‫م َ‬
‫م فَهُ ْ‬
‫ما أن ْذَِر آَباؤُهُ ْ‬ ‫} ل ِت ُن ْذَِر قَوْ ً‬
‫ما َ‬
‫وبمعنى النسيان لذكر الله وذكر طاعته ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬

‫) ‪(2/33‬‬

‫ل ِبال ْغُد ُّو‬ ‫ن ال ْ َ‬


‫قو ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫جهْرِ ِ‬ ‫ة وَُدو َ‬
‫ف ً‬‫خي َ‬‫عا وَ ِ‬‫ضّر ً‬ ‫ك تَ َ‬ ‫س َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ك ِفي ن َ ْ‬ ‫} َواذ ْك ُْر َرب ّ َ‬
‫ن { ]العراف ‪. [205 :‬‬ ‫ن ال َْغافِِلي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ل وََل ت َك ُ ْ‬ ‫صا ِ‬ ‫َواْل َ‬
‫َ‬
‫ن ذِك ْرَِنا { ]الكهف ‪. [28 :‬‬ ‫ه عَ ْ‬ ‫فل َْنا قَل ْب َ ُ‬ ‫ن أغْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫} وََل ت ُط ِعْ َ‬
‫* فائدة ‪ :‬إخبار الله أنه مع عباده يرد في القرآن على أحد معنيين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬المعية العامة ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫م وََل أ َد َْنى‬ ‫وى ث ََلث َةٍ إ ِّل هُوَ َ ِ ُ ُ ْ َ َ ْ َ ٍ ِ ُ َ َ ِ ُ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫س‬ ‫د‬‫سا‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ة‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫خ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ع‬ ‫ب‬ ‫را‬ ‫ج َ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬‫} َ‬
‫َ‬
‫م { ]المجادلة ‪ [7 :‬أي ‪ :‬هو معهم بعلمه وإحاطته‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ك وََل أك ْث ََر إ ِّل هُوَ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬المعية الخاصة ‪ ،‬وهي أكثر ورودا في القرآن ‪ ،‬وعلمتها أن يقرنها‬
‫الله بالتصاف بالوصاف التي يحبها ‪ ،‬والعمال التي يرتضيها مثل قوله ‪:‬‬
‫َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [194 :‬‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫معَ ال ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫} َواعْل َ ُ‬
‫مع المحسنين ومع الصابرين ‪.‬‬
‫معََنا { ]التوبة ‪. [40 :‬‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫حَز ْ‬ ‫} َل ت َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َل ت َ َ‬
‫معُ وَأَرى { ]طه ‪. [46 :‬‬ ‫س َ‬‫ما أ ْ‬ ‫معَك ُ َ‬ ‫خاَفا إ ِن ِّني َ‬ ‫} َقا َ‬

‫) ‪(2/34‬‬

‫وهذه المعية تقتضي العناية من الله والنصر والتأييد والتسديد بحسب قيام‬
‫العبد بذلك الوصف الذي رتبت عليه المعية ‪.‬‬
‫ونظير هذا التقسيم وصف العباد بأنهم عبيد لله يرد في القرآن على نوعين ‪:‬‬
‫نوع عام مثل قوله ‪:‬‬
‫دا { ]مريم ‪. [93 :‬‬
‫ن عَب ْ ً‬ ‫ض إ ِّل آِتي الّر ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن كُ ّ‬
‫م ِ‬
‫ح َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬‫ن ِفي ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫} إِ ْ‬
‫أي ‪ :‬معبدا مملوكا لله ‪ ،‬والنوع الثاني العبودية الخاصة ‪ ،‬وهي تقتضي أن‬
‫العبد بمعنى العابد المتعبد لربه القائم بعبوديته ‪ ،‬وذلك مثل قوله ‪:‬‬
‫ن { ]الفرقان ‪. [63 :‬‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬
‫عَباد ُ الّر ْ‬ ‫} وَ ِ‬
‫ن عَلى عَب ْدِهِ { ]الفرقان ‪. [1 :‬‬ ‫َ‬ ‫فْرَقا َ‬ ‫ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫ذي ن َّز َ‬ ‫ّ‬
‫ك ال ِ‬ ‫} ت ََباَر َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ف عَب ْد َهُ { ]الزمر ‪. [36 :‬‬ ‫َ‬
‫ه ب ِكا ٍ‬ ‫س الل ُ‬ ‫} أل َي ْ َ‬
‫فبحسب قيام العبد بعبودية ربه تحصل له كفاية الله ‪.‬‬
‫ونظير هذا القنوت يرد في القرآن على قسمين ‪ :‬قنوت عام مثل قوله ‪:‬‬
‫َْ‬
‫ن { ]الروم ‪. [26 :‬‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه َقان ُِتو َ‬ ‫ض كُ ّ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬
‫ن ِفي ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫} وَل َ ُ‬

‫) ‪(2/35‬‬
‫أي ‪ :‬الكل عبيد خاضعون لربوبيته وتدبيره ‪ .‬النوع الثاني ‪ :‬وهو الكثر في‬
‫القرآن ‪ :‬القنوت الخاص ‪ ،‬وهو دوام الطاعة لله على وجه الخشوع مثل قوله‬
‫َ‬
‫ما { ]الزمر ‪. [9 :‬‬ ‫دا وََقائ ِ ً‬
‫ج ً‬‫سا ِ‬
‫ل َ‬ ‫ت آَناَء الل ّي ْ ِ‬ ‫ن هُوَ َقان ِ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫‪}:‬أ ْ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [238 :‬‬ ‫موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ‬ ‫} وَُقو ُ‬
‫دي { ]آل عمران ‪. [43 :‬‬ ‫ج ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ك َوا ْ‬‫م اقْن ُِتي ل َِرب ّ ِ‬ ‫مْري َ ُ‬ ‫} يا َ‬
‫ت { ]الحزاب ‪ . . [35 :‬ونحوها ‪.‬‬ ‫قان َِتا ِ‬ ‫ْ‬
‫ن َوال َ‬ ‫قان ِِتي َ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫* فائدة ‪ :‬طغيان الرئاسة وطغيان المال يحملن صاحبهما على الكبر والبطر‬
‫والبغي على الحق وعلى الخلق ‪ ،‬برهان ذلك قوله تعالى ‪:‬‬
‫مل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك { ]البقرة ‪[258 :‬‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫ن آَتاهُ الل ّ ُ‬‫م ِفي َرب ّهِ أ ْ‬ ‫هي َ‬‫ج إ ِب َْرا ِ‬‫حا ّ‬‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬ ‫} أل َ ْ‬
‫‪.‬‬
‫وقوله ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ست َغَْنى { ]العلق ‪ 6 :‬و ‪. [7‬‬ ‫ن َرآهُ ا ْ‬ ‫ن لي َطَغى {} أ ْ‬ ‫سا َ‬ ‫ن اْل ِن ْ َ‬ ‫} إِ ّ‬

‫) ‪(2/36‬‬

‫فعلل هذا التجرؤ والطغيان بحصول الملك ورؤيته لنفسه الستغناء ‪ ،‬أما‬
‫الموفقون الصفياء فإنهم في هذه الحوال يخضعون لله ويعترفون له بالنعمة‬
‫ويزداد تواضعهم ; ولهذا لما رأى سليمان عليه السلم من ملكه ملكا كبيرا ‪،‬‬
‫ورأى عرش ملكة سبأ مستقرا عنده لم يطغ ويقل ‪ :‬هذا من حولي وقوتي ‪،‬‬
‫فُر { ‪ ،‬وقال‬ ‫م أ َك ْ ُ‬ ‫َ‬
‫شك ُُر أ ْ‬ ‫ل َرّبي ل ِي َب ْل ُوَِني أ َأ َ ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ن فَ ْ‬‫م ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ل هَ َ‬ ‫ونحوه ‪ ،‬بل قال ‪َ } :‬قا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي‬
‫ي وَعَلى َوال ِد َ ّ‬ ‫ت عَل ّ‬ ‫م َ‬ ‫ك الِتي أن ْعَ ْ‬ ‫مت َ َ‬ ‫شك َُر ن ِعْ َ‬‫نأ ْ‬ ‫ب أوْزِعِْني أ ْ‬ ‫قبل ذلك ‪َ } :‬ر ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫عَبادِ َ‬ ‫مت ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫وأ َ َ‬
‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫ك ِفي ِ‬ ‫ح َ‬‫خلِني ب َِر ْ‬ ‫ضاه ُ وَأد ْ ِ‬ ‫حا ت َْر َ‬ ‫صال ِ ً‬
‫ل َ‬ ‫ن أعْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫* فائدة ‪ :‬من الحكمة استعمال اللين في معاشرة المؤمنين ‪ ،‬وفي مقام‬
‫الدعوة للكافرين ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫حوْل ِكَ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضوا ِ‬ ‫ف ّ‬ ‫ب لن ْ َ‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫قل ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت فَظا غِليظ ال َ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫م وَل َوْ كن ْ َ‬
‫ُ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ل ِن ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫مةٍ ِ‬ ‫ح َ‬
‫ما َر ْ‬ ‫} فَب ِ َ‬
‫{ ]آل عمران ‪. [159 :‬‬
‫َ‬
‫شى { ]طه ‪. [44 :‬‬ ‫خ َ‬ ‫ّ‬
‫ه ي َت َذ َكُر أوْ ي َ ْ‬ ‫ه قَوًْل لي ًّنا لعَل ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قوَل ل َ ُ‬ ‫وقال ‪ } :‬فَ ُ‬

‫) ‪(2/37‬‬

‫فأمر باللين في هذه المواضع ‪ ،‬وذكر ما يترتب عليه من المصالح ‪ ،‬كما أن‬
‫من الحكمة استعمال الغلظة في موضعها ‪ .‬قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫ظ عَل َي ْهِ ْ‬
‫م { ]التحريم ‪. [9 :‬‬ ‫ن َواغْل ُ ْ‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬‫فاَر َوال ْ ُ‬ ‫جاهِدِ ال ْك ُ ّ‬ ‫ي َ‬ ‫} يا أي َّها الن ّب ِ ّ‬
‫لن المقام هنا مقام ل تفيد فيه الدعوة ‪ ،‬بل قد تعين فيه القتال ‪ ،‬فالغلظة‬
‫فيه من تمام القتال ‪ ،‬وقد جمع الله بين المرين في قوله في وصف خواص‬
‫م { ]الفتح ‪. [29 :‬‬ ‫داُء عََلى ال ْك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ماُء ب َي ْن َهُ ْ‬‫ح َ‬ ‫فارِ ُر َ‬ ‫ش ّ‬‫المة ‪ } :‬أ ِ‬
‫َ‬
‫ت { ]القصص ‪ [56 :‬وبين قوله ‪:‬‬ ‫حب َب ْ َ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ك َل ت َهْ ِ‬ ‫والفرق بين قوله ‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫قيم ٍ { ]الشورى ‪ [52 :‬أن هداية الرشاد‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫دي إ َِلى ِ‬ ‫ك ل َت َهْ ِ‬
‫} وَإ ِن ّ َ‬
‫والتعليم والبيان هي التي أثبتها لرسوله ‪ ،‬بل ولكل من له تعليم وإرشاد‬
‫للخلق كما قال ‪:‬‬
‫مرَِنا { ]النبياء ‪. [73 :‬‬ ‫َ‬ ‫} وجعل ْناهُ َ‬
‫ن ب ِأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ة ي َهْ ُ‬
‫م ً‬‫م أئ ِ ّ‬ ‫َ َ َ َ ْ‬
‫وقال ‪ } :‬وَل ِك ُ ّ‬
‫ل قَوْم ٍ َ‬
‫هاد ٍ { ]الرعد ‪. [7 :‬‬
‫وأما هداية التوفيق ووضع اليمان في القلوب فإنها مختصة بالله ‪ ،‬فكما ل‬
‫يخلق ول يرزق ول يحيي ويميت إل الله ‪ ،‬فل يهدي إل الله ‪.‬‬

‫) ‪(2/38‬‬

‫صَرةً وَذِك َْرى ل ِك ُ ّ‬


‫ل عَب ْدٍ‬ ‫والفرق بين التبصرة والتذكرة في مثل قوله ‪ } :‬ت َب ْ ِ‬
‫ب { ]ق ‪. [8 :‬‬ ‫مِني ٍ‬
‫ُ‬
‫أن التبصرة هي العلم بالشيء والتبصر فيه ‪ ،‬والتذكرة هي العمل بالعلم‬
‫اعتقادا وعمل ‪ ،‬وتوضيح هذا أن العلم التام النافع يفتقر إلى ثلثة أمور ‪:‬‬
‫التفكر أول في آيات الله المتلوة والمشهودة ‪ ،‬فإذا تفكر أدرك ما تفكر فيه‬
‫بحسب فهمه وذكائه ‪ ،‬فعرف ما تفكر فيه وفهمه ‪ ،‬وهذا هو التبصرة ‪ ،‬فإذا‬
‫علمه عمل به ‪ ،‬فإن كان اعتقادا وإيمانا صدقه بقلبه وأقّر به واعترف ‪ ،‬وإن‬
‫اقتضى عمل قلبيا أو قوليا أو بدنيا عمل به ‪ ،‬وهذا هو التذكر وهو التذكرة ‪،‬‬
‫وحاصل ذلك هو معرفة الحق واتباعه ‪ ،‬ومعرفة الباطل واجتنابه ‪.‬‬
‫والفرق بين المواضع التي ورد في القرآن أن الناس ل يتساءلون ول يتكلمون‬
‫‪ ،‬والمواضع التي ذكر فيها احتجاجهم وتكلمهم وخطاب بعضهم لبعض من‬
‫وجهين أوجههما تقييد هذه المواضع بقوله ‪:‬‬
‫} َل يتك َل ّمون إّل م َ‬
‫واًبا { ]النبأ ‪. [38 :‬‬ ‫ص َ‬
‫ل َ‬ ‫ن وََقا َ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه الّر ْ‬ ‫ن أذِ َ‬
‫ََ ُ َ ِ َ ْ‬
‫فإثبات الكلم المتعدد من الخلق يوم القيامة تبع لذن الله لهم في ذلك ‪،‬‬
‫ونفي التساؤل والكلم في الحالة التي لم يؤذن لهم ‪.‬‬

‫) ‪(2/39‬‬

‫الوجه الثاني ‪ :‬ما قاله كثير من المفسرين ‪ :‬إن القيامة لها أحوال ومقامات ‪،‬‬
‫ففي بعض الحوال والمقامات يتكلمون ‪ ،‬وفي بعضها ل يتكلمون ‪ ،‬وهذا‬
‫الوجه ل ينافي الول ‪ ،‬فيقال ‪ :‬هذه الحوال والمقامات تبع لذن الله لهم أو‬
‫عدمه ‪.‬‬
‫والفرق بين إثبات الله في القرآن النساب بين الناس في مواضع كثيرة ‪،‬‬
‫ونفيها في مواضع ‪ :‬إن المواضع المنفية المراد بها أن النساب ل تنفع ‪ ،‬كما‬
‫أن جميع السباب ل تنفع يوم القيامة إل سبب واحد ‪ ،‬وهو اليمان والعمل‬
‫الصالح ‪ ،‬كما ذكره في كتابه في مواضع ‪ ،‬وأما المواضع المثبتة فهو المطابق‬
‫للحقيقة ‪ ،‬ويذكر في كل مقام بحسبه ‪.‬‬
‫ففي مقامات الفضل والثواب يذكر الله فضله على الجميع بإلحاق الناقص‬
‫من المؤمنين بالكامل من غير نقص لدرجة الكامل مثل قوله ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫} وال ّذين آمنوا واتبعتهم ذ ُريتهم بإيما َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫ما ألت َْناهُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫م ذ ُّري ّت َهُ ْ‬‫قَنا ب ِهِ ْ‬ ‫ن أل ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫َ ِ َ َ ُ َ ََّ ُْ ْ ّ ُُّ ْ ِِ َ ٍ‬
‫يٍء { ]الطور ‪. [21 :‬‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫مل ِهِ ْ‬
‫عَ َ‬
‫أي ‪ :‬ما نقصناهم ‪ ،‬ومثل ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { ]الرعد ‪:‬‬ ‫م وَذ ُّرّيات ِهِ ْ‬ ‫جهِ ْ‬ ‫م وَأْزَوا ِ‬ ‫ن آَبائ ِهِ ْ‬
‫م ْ‬
‫ح ِ‬‫صل َ‬‫ن َ‬ ‫خُلون ََها وَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬‫ت عَد ْ ٍ‬‫جّنا ُ‬ ‫} َ‬
‫‪ ، [23‬ونحوها ‪.‬‬

‫) ‪(2/40‬‬
‫وفي مقامات العدل والعقوبة يذكر النساب ‪ ،‬وأنها ل تنفع ‪ ،‬وأن المر أعظم‬
‫من أن يلتفت النسان إلى أقرب الناس إليه مثل قوله ‪:‬‬
‫َ‬ ‫م ل َوْ ي َ ْ‬
‫خيهِ {‬ ‫حب َت ِهِ وَأ ِ‬‫صا ِ‬
‫مئ ِذ ٍ ب ِب َِنيهِ {} وَ َ‬
‫ب ي َوْ ِ‬ ‫ن عَ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫م ْ‬‫دي ِ‬ ‫فت َ ِ‬ ‫جرِ ُ‬ ‫} ي َوَد ّ ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫صيل َت ِهِ ال ِّتي ت ُؤِْويهِ { ]المعارج ‪. [13 - 11 :‬‬ ‫} وَفَ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫حب َت ِهِ وَب َِنيهِ {} ل ِك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫صا ِ‬‫مهِ وَأِبيهِ {} وَ َ‬ ‫خيهِ {} وَأ ّ‬ ‫نأ ِ‬ ‫م ْ‬‫مْرُء ِ‬ ‫فّر ال ْ َ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ومثل ‪ } :‬ي َوْ َ‬
‫ن ي ُغِْنيهِ { ]عبس ‪. [37 - 34 :‬‬ ‫ْ‬ ‫مئ ِذ ٍ َ‬
‫شأ ٌ‬ ‫م ي َوْ َ‬‫من ْهُ ْ‬
‫ئ ِ‬ ‫مرِ ٍ‬ ‫ا ْ‬
‫ونظير هذا الخبار عن المجرمين أنهم ُيسألون عن أعمالهم ‪ ،‬وذلك على وجه‬
‫إظهار العدل والتوبيخ والتقريع لهم والفضيحة ‪ ،‬وفي بعض المواضع مثل ‪:‬‬
‫ن { ]الرحمن ‪. [39 :‬‬ ‫جا ّ‬‫س وََل َ‬‫ن ذ َن ْب ِهِ إ ِن ْ ٌ‬‫ل عَ ْ‬ ‫سأ َ ُ‬‫مئ ِذ ٍ َل ي ُ ْ‬ ‫} فَي َوْ َ‬
‫أي ‪ :‬ل يحتاج في علم ذلك وجزائه عليه إلى سؤاله سؤال استعلم ؛ لنها‬
‫مسطرة عليهم قد حفظت بالشهود من الملئكة والجوارح والرض وغيرها ‪.‬‬

‫) ‪(2/41‬‬

‫* فائدة ‪ :‬النفي المحض ل يكون كمال ‪ ،‬ولهذا في مقامات المدح كل نفي‬


‫في القرآن فإنه يفيد فائدتين ‪ :‬نفي ذلك النقص المصرح به ‪ ،‬وإثبات ضده‬
‫ونقيضه ; فيدخل في هذا أشياء كثيرة أعظمها أنه أثنى على نفسه بنفي أمور‬
‫حده‬‫كثيرة تنافي كماله ‪ ،‬نفي الشريك في مواضع متعددة فيقتضي تو ّ‬
‫بالكمال المطلق ‪ ،‬وأنه ل شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته ‪،‬‬
‫وسبح نفسه في مواضع ‪ ،‬وأخبر في مواضع عن تسبيح المخلوقات ‪،‬‬
‫والتسبيح تنزيه الله عن كل نقص ‪ ،‬وعن أن يماثله أحد ‪ ،‬وذلك يدل على‬
‫كماله ‪ ،‬ونفى عن نفسه الصاحبة والولد ‪ ،‬ومكافأة أحد ومماثلته ‪ ،‬وذلك يدل‬
‫على كماله المطلق وتفّرده بالوحدانية والغنى المطلق والملك المطلق ‪،‬‬
‫ة والنوم والموت ؛ لكمال حياته وقيوميته ‪ ،‬ونفى كذلك‬‫سن َ َ‬
‫ونفى عن نفسه ال ّ‬
‫الظلم في مواضع كثيرة ‪ ،‬وذلك يدل على كمال عدله وسعة فضله ‪ ،‬ونفى أن‬
‫يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء أو يعجزه شيء ؛ وذلك لحاطة‬
‫علمه وكمال قدرته ‪ ،‬ونفى العبث في مخلوقاته وفي شرعه ؛ وذلك لكمال‬
‫حكمته ‪ ،‬وهذه فائدة عظيمة فاحفظها في خزانة قلبك ‪ ،‬فإنها خير الكنوز‬
‫وأنفعها ‪.‬‬

‫) ‪(2/42‬‬

‫وكذلك نفى عن كتابه القرآن الريب والعوج والشك ونحوها ‪ ،‬وذلك يدل على‬
‫أنه الحق في أخباره وأحكامه ‪ ،‬فأخباره أصدق الخبار وأحكمها وأنفعها‬
‫للعباد ‪ ،‬وأحكامه كلها محكمة في كمال العدل والحسن والستقامة على‬
‫الصراط المستقيم ‪.‬‬
‫وى {‬‫ما غَ َ‬
‫م وَ َ‬ ‫ُ‬
‫حب ُك ْ‬
‫صا ِ‬ ‫ض ّ‬
‫ل َ‬ ‫ما َ‬
‫وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم ‪َ } :‬‬
‫]النجم ‪. [2 :‬‬
‫فنفى عنه الضلل من جميع الوجوه ‪ ،‬وهو عدم العلم أو قلته أو نقصه أو عدم‬
‫ي وهو سوء القصد ‪ ،‬فيدل ذلك أنه أعلم الخلق على الطلق ‪،‬‬ ‫جودته والغ ّ‬
‫وأهداهم وأعظمهم علما ويقينا وإيمانا ‪ ،‬وأنه أنصح الخلق للخلق ‪ ،‬وأعظمهم‬
‫إخلصا لله وطلبا لما عنده ‪ ،‬وأبعدهم عن الغراض الرديئة ‪ ،‬وكذلك نفى عنه‬
‫كل نقص قاله أعداؤه فيه ‪ ،‬وأنه في الذروة العليا من الكمال المضاد لذلك‬
‫النقص ‪.‬‬
‫وكذلك نفى الله عن أهل الجنة الحزن والكدر والنصب واللغوب والموت‬
‫وغيرها من الفات ‪ ،‬فيدل ذلك على كمال سرورهم وفرحهم واتصال نعيمهم‬
‫وكماله ‪ ،‬وكمال حياتهم وقوة شبابهم وكمال صحتهم ‪ ،‬وتمام نعيمهم الروحي‬
‫والقلبي والبدني من كل وجه ‪ ،‬وأنه ل أعلى منه حتى يطلب عنه حول ‪.‬‬

‫) ‪(2/43‬‬

‫وعكس هذا ما نفى القرآن عنه صفات الكمال ‪ ،‬فإنه يثبت له ضد ذلك من‬
‫النقص ‪ ،‬كما نفى عن آلهة المشركين جميع الكمالت القولية والفعلية‬
‫والذاتية ‪ ،‬وذلك يدل على نقصها من كل وجه ‪ ،‬وأنها ل تستحق من العبادة‬
‫مثقال ذرة ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫سم ِ { ]البقرة ‪[247 :‬‬
‫ج ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ة ِفي العِلم ِ َوال ِ‬ ‫َ‬
‫سط ً‬ ‫فاهُ عَل َي ْك ْ‬
‫م وََزاد َه ُ ب َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫صط َ َ‬
‫ها ْ‬‫ن الل ّ َ‬‫} إِ ّ‬
‫‪.‬‬
‫أي ‪ :‬القوة والشجاعة في هذه الية ‪ ،‬على أن الملك إذا اجتمعت فيه هاتان‬
‫الخصلتان ‪ :‬العلم بالولية والسياسة وحسن التدبير والشجاعة والقوة ‪ ،‬فهو‬
‫الذي يصلح للولية والملك ‪ ،‬وإن لم يكن من بيت الملك ول ذا مال ‪ ،‬فإن‬
‫العبرة بجميع الوليات إمكان إقامتها والنهوض بها على أكمل الحالت ‪ ،‬وولية‬
‫الملك ل تتم إل بالعلم والشجاعة القلبية والبدنية ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫واب َِها { ]البقرة ‪. [189 :‬‬ ‫} وأ ْتوا ال ْبيوت م َ‬
‫ن أب ْ َ‬
‫ُُ َ ِ ْ‬ ‫َ ُ‬

‫) ‪(2/44‬‬

‫يؤخذ من عمومها اللفظي والمعنوي أن كل مطلوب من المطالب المهمة‬


‫ينبغي أن يؤتى من بابه ‪ ،‬وهو أقرب طريق ووسيلة يتوصل بها إليه ‪ ،‬وذلك‬
‫يقتضي معرفة السباب والوسائل معرفة تامة ؛ ليسلك الحسن منها‬
‫والقرب والسهل ‪ ،‬والقرب نجاحا ‪ ،‬ل فرق بين المور العلمية والعملية ‪ ،‬ول‬
‫بين المور الدينية والدنيوية ‪ ،‬ول بين المور المتعدية والقاصرة ‪ ،‬وهذا من‬
‫الحكمة ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬لما ذكر الله النبياء وأثنى عليهم قال ‪:‬‬
‫م اقْت َدِهِ { ]النعام ‪. [90 :‬‬ ‫دى الل ّ ُ‬
‫ه فَب ِهُ َ‬
‫داهُ ُ‬ ‫ن هَ َ‬
‫ذي َ‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫ك ال ّ ِ‬
‫تدل على اتباع جميع النبياء في جميع هداهم ‪ ،‬والله هداهم في عقائدهم‬
‫وأخلقهم وأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم ‪ ،‬فكل أمر أثنى الله فيه على أحد من‬
‫أنبيائه من عقد أو خلق أو عمل فإننا مأمورون بالقتداء بهم ‪ ،‬وذلك من‬
‫هداهم وهو أيضا من شريعتنا ‪ ،‬فإن الله أمرنا بذلك ‪ ،‬كما أمرنا بالوصاف‬
‫العامة التي تدخل فيها مفردات كثيرة ‪.‬‬

‫) ‪(2/45‬‬
‫* فائدة ‪ :‬إذا أمرنا الله في كتابه بأمر كان أمرا بذلك ‪ ،‬وبكل أمر ل يتم إل‬
‫به ‪ ،‬فالمر مثل بالصلة أمر بالطهارة وستر العورة واجتناب النجاسة‬
‫واستقبال القبلة وبجميع شروطها وأركانها ‪ ،‬وكذلك هو أمر بمعرفتها ومعرفة‬
‫ما ل تتم إل به ‪ ،‬وهذا من أعظم الدلة على وجوب طلب العلم ‪ ،‬فإن‬
‫المأمورات يتوقف تكميلها على معرفتها ‪ ،‬وكذلك إذا نهانا الله عن شيء كان‬
‫نهيا عن كل وسيلة توصل إليه ‪ ،‬والمر بالجهاد أمر به ‪ ،‬وبكل ما يتوقف عليه‬
‫في كل زمان ومكان ‪ ،‬والمر بتبليغ الشريعة أمر بكل ما يحصل به التبليغ‬
‫ويتم ويكمل ويشمل ‪ ،‬ويدخل في هذا إيصال الحكام الشرعية وتبليغها للناس‬
‫بجميع المقربات الحادثة ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬قد أخبر الله في عدة آيات بهدايته الكفار على اختلف مللهم‬
‫ونحلهم ‪ ،‬وتوبته على كل مجرم ‪ ،‬وأخبر في آيات ُأخر أنه ‪:‬‬
‫ن { ]البقرة ‪. [258 :‬‬‫مي َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫قو ْ َ‬‫دي ال ْ َ‬‫} َل ي َهْ ِ‬
‫ن { ]المائدة ‪. [108 :‬‬‫قي َ‬‫س ِ‬‫فا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬‫قو ْ َ‬‫دي ال ْ َ‬‫} َل ي َهْ ِ‬
‫فما الجمع بينها ؟ فيقال ‪ :‬قوله تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(2/46‬‬

‫حّتى‬ ‫م كُ ّ‬
‫ل آي َةٍ َ‬ ‫ن {} وَل َوْ َ‬
‫جاَءت ْهُ ْ‬ ‫ك َل ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ة َرب ّ َ‬
‫م ُ‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬
‫م ك َل ِ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ح ّ‬
‫ن َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫َ‬
‫م { ]يونس ‪ 96 :‬و ‪. [97‬‬ ‫ب اْلِلي َ‬ ‫ي ََرُوا ال ْعَ َ‬
‫ذا َ‬
‫هي الفاصلة بين من هداهم الله ومن لم يهدهم ‪ ،‬فمن حقت عليه كلمة‬
‫العذاب ‪ -‬لعنادهم ‪ ،‬ولعلم الله أنهم ل يصلحون للهداية ‪ ،‬بحيث صار الظلم‬
‫والفسق وصفا لهم ‪ ،‬ملزما غير قابل للزوال ‪ ،‬ويعلم ذلك بظاهر أحوالهم‬
‫وعنادهم ومكابرتهم للحقائق ‪ -‬فهؤلء يطبع الله على قلوبهم فل يدخلها خير‬
‫أبدا ‪ ،‬والجرم جرمهم ‪ ،‬فإنهم رأوا سبيل الرشد فزهدوا فيه ‪ ،‬ورأوا سبيل‬
‫الغي فرغبوا فيه ‪ ،‬واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ‪.‬‬

‫) ‪(2/47‬‬

‫* فائدة ‪ :‬ورد في كثير من اليات إضافة المور إلى قدرة الله ومشيئته‬
‫وعموم خلقه ‪ ،‬وفي آيات كثيرة إضافتها إلى عامليها وفاعليها ‪ ،‬وهذه اليات‬
‫المتنوعة تنزل على الصل العظيم المتفق عليه بين سلف المة ‪ ،‬والذي دل‬
‫عليه العقل والنقل ‪ ،‬وهو أن جميع المور واقعة بقضاء الله وقدره ‪ :‬أعيانها‬
‫وأوصافها وأفعالها ‪ ،‬وجميع ما حدث ويحدث ‪ ،‬ل يخرج شيء منه عن قضائه‬
‫وقدره ‪ ،‬ومع ذلك فقد جعل الله الحوادث تبعا لسبابها ‪ ،‬ولرادة الفاعلين لها‬
‫وقدرتهم عليها ‪ ،‬فاليات المتعددة المضافة إلى عموم قدرة تدل على الصل‬
‫الول ‪ ،‬واليات المتعددة المضافة إلى فاعليها تدل على الصل الثاني ‪ ،‬ول‬
‫منافاة بينهما ‪ ،‬فإن أعمال العباد مثل تقع بفعلهم وإرادتهم وقدرتهم ‪ ،‬والله‬
‫خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم وخالق السبب التام خالق للمسبب ‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فقد جعلهم في أفعالهم وتروكهم مختارين غير مجبورين ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬يختم الله كثيرا من اليات عندما يبين للعباد الصول والحكام‬
‫قُلو َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [73 :‬‬ ‫النافعة بقوله ‪ } :‬ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َعْ ِ‬
‫وهذا يدل على أمور ‪:‬‬
‫) ‪(2/48‬‬

‫منها ‪ :‬أن الله يحب منا أن نعقل أحكامه وإرشاداته وتعليماته ‪ ،‬فنحفظها‬
‫ونفهمها ونعقلها بقلوبنا ‪ ،‬ونؤيد هذا العقل ونثبته بالعمل بها ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنه كما يحب منا أن نعقل هذا الحكم الذي بينه بيانا خاصا ‪ ،‬فإنه يحب‬
‫أن نعقل بقية ما أنزل علينا من الكتاب والحكمة ‪ ،‬وأن نعقل آياته المسموعة‬
‫وآياته المشهودة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن في هذا أكبر دليل على أن معرفة ما أنزل الله إلينا من أعظم ما‬
‫يربي عقولنا ‪ ،‬ويجعلها عقول تفهم الحقائق النافعة والضارة ‪ ،‬وترجح هذه‬
‫على هذه ‪ ،‬ول تميل بها الهواء والغراض والخيالت والخرافات الضارة‬
‫المفسدة للعقول ‪.‬‬

‫) ‪(2/49‬‬

‫وإذا أردت معرفة مقادير عقول الخلق على الحقيقة ‪ ،‬فانظر إلى عقول‬
‫المهتدين بهداية القرآن والسنة ‪ ،‬وإلى عقول المنحرفين عن ذلك تجد الفرق‬
‫العظيم ‪ ،‬ول تحسبن العقل هو الذكاء وقوة الفطنة والفصاحة اللفظية وكثرة‬
‫القيل والقال ‪ ،‬وإنما العقل الصحيح أن يعقل العبد في قلبه الحقائق النافعة ‪،‬‬
‫عقل يحيط بمعرفتها ‪ ،‬ويميز بينها وبين ضدها ‪ ،‬ويعرف الراجح من المور‬
‫فيؤثره ‪ ،‬والمرجوح أو الضار فيتركه ‪ ،‬وبعبارة أخرى مختصرة نقول ‪ :‬العقل‬
‫هو الذي يعقل به العلوم النافعة ‪ ،‬ويعقل صاحبه ويمنعه من المور الضارة ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬ورد في القرآن آيات عامة عطف عليه بعض أفرادها الداخلة فيها ‪،‬‬
‫وذلك يدل على فضيلة المخصوص وآكديته ‪ ،‬وأن له من المزايا ما أوجب‬
‫النص عليه مثل قوله ‪:‬‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه عَد ُّو‬ ‫ل فَإ ِ ّ‬ ‫مي َ‬
‫كا َ‬ ‫ري َ‬
‫ل وَ ِ‬ ‫جب ْ ِ‬ ‫مَلئ ِك َت ِهِ وَُر ُ‬
‫سل ِهِ وَ ِ‬ ‫ن عَد ُّوا ل ِل ّهِ وَ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫} َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [98 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ل ِل ْ َ‬
‫ح ِفيَها { ]القدر ‪ [4 :‬وهو جبريل ‪.‬‬ ‫ة َوالّرو ُ‬ ‫َ‬
‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ل ال َ‬ ‫} ت َن َّز ُ‬
‫سطى { ]البقرة ‪. [238 :‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫صلةِ الوُ ْ‬‫َ‬ ‫ت َوال ّ‬ ‫وا ِ‬ ‫َ‬
‫صل َ‬ ‫َ‬
‫حافِظوا عَلى ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫} َ‬
‫ب { ]العراف ‪. [170 :‬‬ ‫ْ‬
‫ن ِبالك َِتا ِ‬ ‫كو َ‬ ‫س ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫} َوال ِ‬

‫) ‪(2/50‬‬

‫دخل فيه الدين كله ثم قال ‪:‬‬


‫صَلة َ { ]العراف ‪. [170 :‬‬ ‫َ‬
‫موا ال ّ‬ ‫} وَأَقا ُ‬
‫ومثله ‪:‬‬
‫ب { ]العنكبوت ‪. [45 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫} ات ْ ُ‬
‫ن الك َِتا ِ‬
‫م َ‬
‫ي إ ِلي ْك ِ‬
‫ح َ‬‫ما أو ِ‬
‫ل َ‬
‫أي ‪ :‬اتبعه ‪ ،‬ويدخل في ذلك جميع الشرائع ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫صَلة َ { ]العنكبوت ‪. [45 :‬‬ ‫َ‬
‫} وَأقِم ِ ال ّ‬
‫وذكر السبب في ذلك ‪ ،‬إلى غير ذلك من اليات التي إذا تأملت المخصوص‬
‫من العام علمت أن ذلك لشرفه وآكديته ‪ ،‬وما يترتب عليه من الثمرات‬
‫الطيبة ‪.‬‬
‫* فائدة لطيفة ‪ :‬في عدة آيات من القرآن إذا ذكر الله الحكم لم ينص على‬
‫نفس الحكم عليه ‪ ،‬بل يذكر من أسمائه الحسنى ما إذا علم ذلك السم‬
‫علم أن ذلك الحكم من آثار ذلك السم ‪ ،‬وهذا إنهاض من الله‬ ‫وعلمت آثاره ‪ُ ،‬‬
‫لعباده أن يعرفوا أسماءه حق المعرفة ‪ ،‬وأن يعلموا أنها الصل في الخلق‬
‫والمر ‪ ،‬وأن الخلق والمر من آثار أسمائه الحسنى ‪ ،‬وذلك مثل قوله ‪:‬‬
‫ع‬
‫مي ٌ‬
‫س ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫موا الط َّلقَ فَإ ِ ّ‬
‫ن عََز ُ‬
‫م {} وَإ ِ ْ‬
‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫ن َفاُءوا فَإ ِ ّ‬
‫} فَإ ِ ْ‬
‫م { ]البقرة ‪ 226 :‬و ‪. [227‬‬ ‫عَِلي ٌ‬

‫) ‪(2/51‬‬

‫فيستفاد أن الفيئة يحبها الله ‪ ،‬وأنه يغفر لمن فاء ويرحمه ‪ ،‬وأن الطلق كريه‬
‫إلى الله ‪ ،‬وأما المؤلي إذا طلق فإن الله تعالى سيجازيه على ما فعل من‬
‫السبب ‪ ،‬وهو اليلء ‪ ،‬والمسبب ‪ ،‬وهو ما ترتب عليه ‪ ،‬ومثل هذا قوله تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫} إّل ال ّذين تابوا من قَب َ‬
‫م{‬ ‫حي ٌ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫م َفاعْل َ ُ‬ ‫قدُِروا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن تَ ْ‬‫لأ ْ‬ ‫ِ ْ ْ ِ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫ِ‬
‫]المائدة ‪. [34 :‬‬
‫أي ‪ :‬فإنكم إذا علمتم ذلك رفعتم عنه العقوبة المتعلقة بحق الله ‪ ،‬وهذا‬
‫كثير ‪ ،‬وقد يصرح الله بالحكم ويعلله بذكر السماء الحسنى المناسبة له ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]العراف ‪. [31 :‬‬ ‫سرِِفي َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬
‫سرُِفوا إ ِن ّ ُ‬‫شَرُبوا وََل ت ُ ْ‬‫} وَك ُُلوا َوا ْ‬

‫) ‪(2/52‬‬

‫جمع الله فيها أمورا كثيرة نافعة في الدين والبدن والحال والمآل ‪ ،‬فالمر‬
‫بالكل والشرب يدل على الوجوب ‪ ،‬وأن العبد ل يحل له ترك ذلك شرعا ‪،‬‬
‫كما ل يتمكن من ذلك قدرا ما دام عقله معه ‪ ،‬وأن الكل والشرب مع نية‬
‫امتثال أمر الله يكون عبادة ‪ ،‬وأن الصل في جميع المأكولت والمشروبات‬
‫الباحة ‪ ،‬إل ما نص الشارع على تحريمه لضرره لطلق ذلك ‪ ،‬وعلى أن كل‬
‫أحد يأكل ما ينفعه ويناسبه ويليق به ‪ ،‬ويوافق لغناه وفقره ‪ ،‬ويوافق لصحته‬
‫ومرضه ولعادته وعدمها ‪ ،‬ولنه حذف المأكول ‪ ،‬والية ساقها الله لرشاد‬
‫العباد إلى منافعهم ‪ ،‬وهي تدل على ذلك كله ‪ ،‬وعلى أن أصل صحة البدن‬
‫تدبير الغذاء بأن يأكل ويشرب ما ينفعه ‪ ،‬ويقيم صحته وقوته ‪ ،‬وعلى المر‬
‫بالقتصاد في الغذاء والتدبير الحسن ؛ لنه لما أمر بالكل والشرب نهى عن‬
‫السرف ‪ ،‬وعلى أن السرف منهي عنه ‪ ،‬وخصوصا في الطعمة والشربة ‪،‬‬
‫فإن السرف يضر الدين والعقل والبدن والمال ‪.‬‬
‫أما ضرره الديني فكل من ارتكب ما نهى الله ورسوله عنه فقد انجرح دينه ‪،‬‬
‫وعليه أن يداوي هذا الجرح بالتوبة والرجوع ‪.‬‬

‫) ‪(2/53‬‬

‫وأما ضرره العقلي فإن العقل يحمل صاحبه أن يفعل ما ينبغي على الوجه‬
‫الذي ينبغي ‪ ،‬ويوجب له أن يدبر حياته ومعاشه ; ولهذا كان حسن التدبير في‬
‫المعاش من أبلغ ما يدل على عقل صاحبه ‪ ،‬فمن تعدى الطور النافع إلى‬
‫طور السراف الضار فل ريب أن ذلك لنقص عقله ‪ ،‬فإنه يستدل على نقص‬
‫العقل بسوء التدبير ‪.‬‬
‫وأما ضرره البدني فإن من أسرف بكثرة المأكولت والمشروبات انضر بدنه‬
‫واعتراه أمراض خطرة ‪ ،‬وكثير من المراض إنما تحدث بسبب السراف في‬
‫ود بدنه شيئا اعتاده ‪ ،‬فإذا‬
‫الغذاء ‪ ،‬ثم إنه ينضّر أيضا من وجه آخر ‪ ،‬فإن من ع ّ‬
‫وده كثرة الكل أو أكل الطعمة المتنوعة فربما تعذرت في بعض الحوال‬ ‫ع ّ‬
‫لفقر أو غيره ‪ ،‬وحينئذ يفقد البدن ما كان معتادا له فتنحرف صحته ‪.‬‬
‫وأما ضرره المالي فظاهر فإن السراف يستدعي كثرة النفقات ‪ ،‬ولهذا قال‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫سوًرا { ]السراء ‪. [29 :‬‬‫ح ُ‬
‫م ْ‬
‫ما َ‬ ‫ُ‬
‫ملو ً‬ ‫ط فَت َ ْ‬
‫قعُد َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ْ‬
‫ل الب َ ْ‬ ‫ْ‬
‫سطَها ك ُ ّ‬‫} وََل ت َب ْ ُ‬

‫) ‪(2/54‬‬

‫سوًرا ( ‪ :‬فارغ اليد ‪،‬‬


‫ح ُ‬
‫م ْ‬
‫أي ‪ :‬تلم على ما فعلت ؛ لنه في غير طريقه ‪َ ) ،‬‬
‫وإخباره أنه ل يحب المسرفين دليل على أنه يحب المقتصدين ; ففي هذه‬
‫الية إثبات صفة المحبة لله ‪ ،‬وأنها تتعلق بما يحبه الله من الشخاص‬
‫والعمال والحوال كلها ‪ ،‬فسبحان من جعل كتابه كنوزا للعلوم النافعة‬
‫المتنوعة ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬ذكر الله في كتابه عدة آيات فيها وصف القلوب بالمرض وبالعمى‬
‫وبالقسوة ‪ ،‬وبجعل الموانع عليها من الران ‪ ،‬والكنة والحجاب ‪ ،‬وبموتها‬
‫وبحيرتها ‪ ،‬فاعلم أن القلب يكون صحيحا ويكون مريضا ‪ ،‬ويجتمع فيه المرض‬
‫والموانع من وصول الصحة ‪ ،‬وقد يكون لينا وقد يكون قاسيا ‪.‬‬
‫فأما القلب الصحيح فهو السليم من جميع الفات ‪ ،‬وهو القلب الذي صحت‬
‫وقويت قوته العلمية ‪ ،‬وقوته العملية الرادية ‪ ،‬وهو الذي عرف الحق فاتبعه‬
‫بل تردد ‪ ،‬وعرف الباطل فاجتنبه بل توقف ‪ ،‬فهذا هو القلب الصحيح الحي‬
‫السليم ‪ ،‬وصاحبه من أولي الّنهى وأولي الحجا وأولي اللباب وأولي البصار ‪،‬‬
‫خبت لله والمنيب إليه ‪.‬‬ ‫وال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫وأما القلب المريض فهو الذي انحرفت إحدى قوتيه العلمية أو العملية أو‬
‫كليهما ‪.‬‬

‫) ‪(2/55‬‬

‫فمرض الشبهات والشكوك الذي هو مرض المنافقين لما اختل علمهم وبقيت‬
‫قلوبهم في شكوك واضطراب ‪ ،‬ولم تتوجه إلى الخير ‪ ،‬كان مرضها مهلكا ‪.‬‬
‫ومرض الشهوات الذي هو ميل القلب إلى المعاصي مخل بقوة القلب‬
‫العملية ‪ ،‬فإن القلب الصحيح ل يريد ول يميل إل إلى الخير ‪ ،‬أو إلى ما أباحه‬
‫الله له ‪ ،‬فمتى رأيت القلب ميال إلى المعاصي سريع النقياد لها فهو‬
‫مريض ‪ ،‬هو سريع الفتتان عند وجود أسباب الفتنة ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ض { ]الحزاب ‪. [32 :‬‬ ‫ذي ِفي قَل ْب ِهِ َ‬
‫مَر ٌ‬ ‫معَ ال ّ ِ‬
‫} فَي َط ْ َ‬

‫) ‪(2/56‬‬
‫وأما القلب القاسي فهو الذي ل يلين لمعرفة الحق ‪ ،‬وإن عرفه ل يلين‬
‫للنقياد له ‪ ،‬فتأتيه المواعظ التي تلين الحديد وقلبه ل يتأثر بذلك ‪ ،‬إما‬
‫لقسوته الصلية أو لعقائد منحرفة اعتقدها ورسخ قلبه عليها ‪ ،‬وصعب عليه‬
‫النقياد للحق إذا خالفها ‪ ،‬وقد يجتمع المران ‪ ،‬وأما الران والكنة والغطية‬
‫التي تكون على القلوب فإنها من آثار كسب العبد وجرائمه ‪ ،‬فإذا أعرض عن‬
‫الحق وعارض الحق ‪ ،‬وجاءه الحق فرّده وفتح الله له أبواب الرشد فأغلقها‬
‫عن نفسه عاقبه الله بهذا العمل بأن سد ّ عنه طرق الهداية التي كانت‬
‫مفتوحة له ومتيسرة ‪ ،‬فتكبر عنها ورّدها ‪ ،‬فطبع على قلبه وختم عليه ‪،‬‬
‫وأحاطت به الجرائم ورانت عليه الذنوب وغطت قلبه ‪ ،‬وجعلت بينه وبين‬
‫الحق حجابا وأقفلت القلب ‪ ،‬فهذه المعاني التي أكثر الله من ذكرها في‬
‫كتابه ‪ ،‬إذا عرفت هذه الضوابط المذكورة في هذه الفائدة اتضحت لك‬
‫معانيها ‪ ،‬وعرفت بذلك حكمة الله وعدله في عقوبة هذه القلوب ‪ ،‬وأن الله‬
‫ولهم ما تولوه لنفسهم ورضوه لها ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫صيل { ]الفتح ‪:‬‬ ‫ْ‬
‫حوه ُ ب ُكَرة ً وَأ ِ‬
‫سب ّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ‬
‫سول ِهِ وَت ُعَّزُروهُ وَت ُوَقُروه ُ وَت ُ َ‬ ‫} ل ِت ُؤْ ِ‬
‫‪. [9‬‬

‫) ‪(2/57‬‬

‫جمع الله فيها الحقوق الثلثة ‪ :‬الحق المختص بالله الذي ل يصلح لغيره ‪ ،‬وهو‬
‫صيًل { ‪ ،‬والحق المختص بالرسول ‪،‬‬ ‫َ‬
‫حوه ُ ب ُك َْرةً وَأ ِ‬
‫سب ّ ُ‬
‫العبادة في قوله ‪ } :‬وَت ُ َ‬
‫وهو التوقير والتعزير ‪ ،‬والحق المشترك ‪ ،‬وهو اليمان بالله ورسوله ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬ذكر الله اليقين في مواضع كثيرة من القرآن في المحل العالي من‬
‫الثناء ‪ ،‬أخبر أن اليقين هو غاية الرسل بقوله ‪:‬‬
‫ن { ]النعام ‪. [75 :‬‬ ‫موقِِني َ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫} وَل ِي َ ُ‬
‫كو َ‬
‫وأنه بالصبر واليقين تنال المامة في الدين ‪ ،‬وأن اليات إنما ينتفع بها النتفاع‬
‫ن ( ‪ ،‬فحقيقة اليقين هو العلم الثابت الراسخ التام المثمر‬ ‫موقِِني َ‬ ‫الكامل ) ال ْ ُ‬
‫للعمل القلبي والعمل البدني ‪.‬‬

‫) ‪(2/58‬‬

‫أما آثار اليقين العلمية فثلث مراتب ‪ :‬علم اليقين ‪ ،‬وهي العلوم الناتجة عن‬
‫الدلة والبراهين الصادقة الخبرية ‪ ،‬كجميع علوم أهل اليقين الحاصلة عن خبر‬
‫الله وخبر رسوله وأخبار الصادقين ‪ ،‬وعين اليقين وهي مشاهدة المعلومات‬
‫بالعين حقيقة ‪ ،‬كما طلب الخليل إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي‬
‫الموتى ‪ ،‬فأراه الله ذلك بعينه ‪ ،‬وغرضه عليه السلم النتقال من مرتبة علم‬
‫قق بالذوق ‪،‬‬
‫اليقين إلى عين اليقين ‪ ،‬وحق اليقين ‪ :‬وهي المعلومات التي تح ّ‬
‫كذوق القلب لطعم اليمان ‪ ،‬والذوق باللسان للشياء المحسة ‪.‬‬
‫وأما آثاره القلبية فسكون القلب وطمأنينته ‪ ،‬كما قال إبراهيم ‪:‬‬
‫ن قَل ِْبي { ]البقرة ‪. [260 :‬‬ ‫ن ل ِي َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫} وَل َك ِ ْ‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم ‪ :‬البر ما اطمأن إليه القلب ‪ ،‬وفي لفظ ‪ :‬الصدق‬
‫ما اطمأن إليه القلب ‪ ،‬فإن العبد إذا وصل إلى درجة اليقين في علومه‬
‫اطمأن قلبه لعقائد اليمان كلها ‪ ،‬واطمأن قلبه لحقائق اليمان وأحواله التي‬
‫تدور على محبة الله وذكره ‪ ،‬وهما متلزمان ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫ب { ]الرعد ‪. [28 :‬‬‫قُلو ُ‬
‫ن ال ْ ُ‬ ‫} أَل ب ِذِك ْرِ الل ّهِ ت َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬
‫) ‪(2/59‬‬

‫فتسكن القلوب عند الخبار فل يبقى في القلب شك ول ريب في كل خبر‬


‫أخبر الله به في كتابه وعلى لسان رسوله ‪ ،‬بل يفرح بذلك مطمئنا عالما أن‬
‫صلتها القلوب ‪ ،‬ويطمئن عند الوامر والنواهي مكمل‬ ‫هذا أعظم فائدة ح ّ‬
‫للمأمورات ‪ ،‬تاركا للمنهيات ‪ ،‬راجيا لثواب الله ‪ ،‬واثقا بوعده ‪.‬‬
‫ويطمئن أيضا عند المصائب والمكاره فيتلقاها بانشراح صدر واحتساب ‪،‬‬
‫ويعلم أنها من عند الله فيرضى ويسّلم ‪ ،‬فيخف عليه حملها ‪ ،‬ويهون عليه‬
‫ثقلها ‪ ،‬وقد علم بذلك آثارها البدنية ‪ ،‬فإن العمال البدنية مبنية على أعمال‬
‫القلوب ‪ ،‬فأهل اليقين هم أكمل الخلق في جميع صفات الكمال ‪ ،‬فإن اليقين‬
‫روح العمال والخلق وحاملها ‪ ،‬والله هو الموفق الواهب له ولسبابه ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬الظن ورد في القرآن على وجهين ‪ :‬وجه محمود ‪ ،‬ووجه مذموم ‪:‬‬
‫أما المحمود ‪ :‬ففي كل مقام مدح وجزاء بالخير والثواب ‪ ،‬فإنه بمعنى العلم‬
‫واليقين مثل قوله تعالى ‪:‬‬
‫} ال ّذين يظ ُنو َ‬
‫م { ]البقرة ‪. [46 :‬‬‫مَلُقو َرب ّهِ ْ‬‫م ُ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬
‫ِ َ َ ّ َ‬
‫أي ‪ :‬يتيقنون لذلك ‪ ،‬ومثل قوله ‪:‬‬
‫َ‬
‫ه { ]الحاقة ‪. [20 :‬‬ ‫ساب ِي َ ْ‬
‫ح َ‬‫ق ِ‬‫مَل ٍ‬‫ت أّني ُ‬ ‫} إ ِّني ظ َن َن ْ ُ‬
‫وأما المذموم ‪ :‬ففي أغلب اليات الواردة في الظن مثل ‪:‬‬

‫) ‪(2/60‬‬

‫ن { ]النعام ‪. [116 :‬‬ ‫ن إ ِّل الظ ّ ّ‬ ‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫} إِ ْ‬


‫شي ًْئا { ]يونس ‪. [36 :‬‬ ‫حق ّ َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ل ي ُغِْني ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الظ ّ‬ ‫} إِ ّ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [78 :‬‬ ‫ُ‬
‫م إ ِل ي َظّنو َ‬ ‫ّ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫وهو كثير ‪ ،‬فهذا وما أشبهه فيمن قدم الظنون الكاذبة على الخبار الصادقة ؛‬
‫لن الظن في الصل يحتمل الصدق والكذب ‪ ،‬ولكنه إذا ناقض الصدق قطعنا‬
‫بكذبه ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫ت { ]البقرة ‪. [276 :‬‬ ‫صد ََقا ِ‬‫ه الّرَبا وَي ُْرِبي ال ّ‬ ‫حقُ الل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫} يَ ْ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ وَ َ‬
‫ما آت َي ْت ُ ْ‬ ‫س فََل ي َْرُبو ِ‬
‫ل الّنا ِ‬‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن رًِبا ل ِي َْرب ُوَ ِفي أ ْ‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما آت َي ْت ُ ْ‬‫وقوله ‪ } :‬وَ َ‬
‫ن { ]الروم ‪. [39 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ه اللهِ فَأولئ ِ َ‬ ‫ن َز َ‬
‫فو َ‬
‫ضعِ ُ‬‫م ْ‬‫م ال ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ن وَ ْ‬ ‫دو َ‬‫ري ُ‬ ‫كاةٍ ت ُ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫تدل اليتان على أن الزيادة من المحرمات ‪ ،‬وخصوصا المكاسب المحّرمة ‪،‬‬
‫نقص في البركة ‪ ،‬وقد ينسحت المال بذاته عاجل أو آجل ‪ ،‬وعلى أن من‬
‫أخرج شيئا لله أو فعل شيئا لله فإن الله يزيده وينزل له البركة ؛ فإن المال‬
‫وإن نقص حسا بما يخرج منه لله فإنه يزداد معنى ووصفا ; وقد يفتح للعبد‬
‫بسبب ذلك أبواب من الرزق ‪ ،‬أو يدفع عن العبد من أسباب النقص ما كان‬
‫بصدد أن يصيبه ‪.‬‬

‫) ‪(2/61‬‬
‫* فائدة ‪ :‬الفرح ورد في القرآن محمودا مأمورا به في مثل قوله ‪:‬‬
‫ن { ]يونس ‪:‬‬ ‫مُعو َ‬
‫ج َ‬
‫ما ي َ ْ‬‫م ّ‬ ‫خي ٌْر ِ‬ ‫حوا هُوَ َ‬ ‫فَر ُ‬ ‫ك فَل ْي َ ْ‬‫مت ِهِ فَب ِذ َل ِ َ‬‫ح َ‬ ‫ل الل ّهِ وَب َِر ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫} قُ ْ‬
‫‪. [58‬‬
‫فهذا فرح بالعلم والعمل بالقرآن والسلم ‪ ،‬وكذلك قوله ‪:‬‬
‫ضل ِهِ { ]آل عمران ‪ [170 :‬فهذا فرح بثواب‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫ن بِ َ‬‫حي َ‬ ‫} فَرِ ِ‬
‫الله ‪.‬‬
‫وورد منهيا عنه مذموما مثل الفرح بالباطل وبالرياسات والدنيا المشغلة عن‬
‫خوٌر { ]هود ‪. [10 :‬‬ ‫ح فَ ُ‬ ‫فرِ ٌ‬ ‫ه لَ َ‬‫الدين في مثل قوله تعالى ‪ } :‬إ ِن ّ ُ‬
‫وقوله عن قارون ‪:‬‬
‫ن { ]القصص ‪. [76 :‬‬ ‫حي َ‬ ‫فرِ ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ح إِ ّ‬ ‫فَر ْ‬‫ه َل ت َ ْ‬ ‫ه قَوْ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫} َقا َ‬
‫وما أشبه ذلك ‪ ،‬فصار الفرح تبعا لما تعلق به ; إن تعلق بالخير وثمراته فهو‬
‫محمود ‪ ،‬وإل فهو مذموم ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬ورد السعي في القرآن في آيات كثيرة ‪ ،‬والمراد به الهتمام والجد‬
‫في العمل مثل قوله ‪:‬‬
‫ش ُ‬
‫كوًرا‬ ‫م ْ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ع‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫} ومن أ َراد اْلخرة وسعى ل َها سعيها وهو مؤْمن فَ ُ‬
‫أو‬
‫َ َ ْ ُُ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ ََ َ ُ َ ُ ِ ٌ‬ ‫ِ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ‬
‫{ ]السراء ‪. [19 :‬‬
‫وا إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ { ]الجمعة ‪:‬‬ ‫سعَ ْ‬ ‫معَةِ َفا ْ‬ ‫ج ُ‬‫ن ي َوْم ِ ال ْ ُ‬ ‫م ْ‬‫صَلةِ ِ‬ ‫وقوله ‪ } :‬إ َِذا ُنودِيَ ِلل ّ‬
‫‪. [9‬‬

‫) ‪(2/62‬‬

‫شّتى { ]الليل ‪. [4 :‬‬ ‫م لَ َ‬ ‫سعْي َك ُ ْ‬ ‫ن َ‬‫وقوله ‪ } :‬إ ِ ّ‬


‫وآيات كثيرة كلها بمعنى الهتمام للعمل ‪ ،‬إل في مثل قوله تعالى ‪:‬‬
‫لم َ‬
‫سَعى { ]القصص ‪. [20 :‬‬ ‫دين َةِ ي َ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫صى ال ْ َ‬ ‫ن أقْ َ‬ ‫ج ٌ ِ ْ‬ ‫جاَء َر ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫سَعى { ]يس ‪. [20 :‬‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫دين َةِ َر ُ‬ ‫م ِ‬‫صى ال َ‬ ‫ن أقْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫جاَء ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫فالمراد بذلك العَد ْوُ ‪ ،‬وهو يتضمن الول وزيادة ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬أمر الله بالصدق وأثنى على الصادقين ‪ ،‬وذكر جزاء الصادقين في‬
‫آيات كثيرة ‪ ،‬والمراد بالصدق أن يكون العبد صادقا في عقيدته ‪ ،‬صادقا في‬
‫خلقه ‪ ،‬صادقا في قوله وعمله ‪ ،‬فهو الذي يجيء بالصدق في ظاهره‬
‫وباطنه ‪ ،‬ويصدق بالصدق لمن جاء به ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]الزمر ‪. [33 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫مت ّ ُ‬‫م ال ْ ُ‬‫ك هُ ُ‬ ‫صد ّقَ ب ِهِ ُأول َئ ِ َ‬ ‫ق وَ َ‬ ‫صد ْ ِ‬ ‫جاَء ِبال ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ولما كان من هذا وصفه هو أعلى الخلق في كل حالة ‪ ،‬ذكر جزاءه أعلى‬
‫الجزاء وأفضله فقال ‪:‬‬
‫فر الل ّه عَنهم أ َسوأ َ‬ ‫ْ‬
‫ُ ُْ ْ ْ َ‬ ‫ن {} ل ِي ُك َ ّ َ‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬
‫جَزاُء ال ُ‬ ‫ك َ‬ ‫م ذ َل ِ َ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫شاُءو َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫م َ‬ ‫} ل َهُ ْ‬
‫َ‬ ‫ال ّذي عَمُلوا ويجزيه َ‬
‫ن { ]الزمر ‪ 34 :‬و‬ ‫مُلو َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫جَرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ََ ْ َُِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪. [35‬‬

‫) ‪(2/63‬‬

‫ديقون الذين ليس بعد درجة النبوة أعلى‬


‫وخواص أهل هذا الوصف هم الص ّ‬
‫منهم ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]الحديد ‪. [19 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫دي ُ‬
‫ص ّ‬
‫م ال ّ‬‫ك هُ ُ‬‫سل ِهِ ُأول َئ ِ َ‬
‫مُنوا ِبالل ّهِ وَُر ُ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫والمراد اليمان الكامل ‪ » ،‬كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر‬
‫لصحابه الغرف العالية التي يتراآها أهل الجنة من علوها وارتفاعها ونورها‬
‫كالكوكب الدري في الفق الشرقي أو الغربي ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول الله تلك‬
‫منازل النبياء ‪ ،‬ل يبلغها غيرهم ؟ فقال ‪ :‬بلى ‪ ،‬والذي نفسي بيده ‪ ،‬رجال‬
‫دقوا المرسلين ‪ ،‬وهؤلء هم الهداة المهديون كما قال تعالى ‪:‬‬ ‫آمنوا بالله وص ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن {«‬ ‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ُيوقُِنو َ‬‫صب َُروا وَ َ‬
‫ما َ‬‫مرَِنا ل ّ‬ ‫ن ب ِأ ْ‬
‫دو َ‬‫ة ي َهْ ُ‬
‫م ً‬
‫م أئ ِ ّ‬ ‫جعَل َْنا ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫]السجدة ‪. [24 :‬‬

‫) ‪(2/64‬‬

‫فالصديقية شجرة أصلها العلوم الصحيحة والعقائد السلفية المأخوذة من‬


‫كتاب الله وسنة رسوله ‪ ،‬وقوامها وروحها الخلص الكامل لله والنابة إليه ‪،‬‬
‫والرجوع إليه في جميع الحوال رغبة ورهبة ومحبة وتعظيما وخضوعا وذل لله‬
‫‪ ،‬وثمراتها الخلق الحميدة والقوال السديدة والعمال الصالحة ‪ ،‬والحسان‬
‫في عبادة الخالق ‪ ،‬والحسان إلى المخلوقين بجميع وجوه الحسان ‪ ،‬وجهاد‬
‫جميع أصناف المنحرفين ‪ ،‬فهي في الحقيقة القيام بالدين ظاهرا وباطنا وحال‬
‫ودعوة إلى الله ‪ ،‬والله هو الموفق وهو المعين لكل من استعان به صدقا ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬قوله تعالى في المصطفين الذين أورثهم الله الكتاب ‪:‬‬
‫ت { ]فاطر ‪:‬‬ ‫ساب ِقٌ ِبال ْ َ‬
‫خي َْرا ِ‬ ‫م َ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫صد ٌ و َ ِ‬
‫قت َ ِ‬
‫م ْ‬
‫م ُ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫سهِ وَ ِ‬
‫ف ِ‬
‫م ل ِن َ ْ‬ ‫م َ‬
‫ظال ِ ٌ‬ ‫} فَ ِ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫‪. [32‬‬
‫اشترك هؤلء الثلثة في أصل اليمان ‪ ،‬وفي اختيار الله لهم من بين الخليقة ‪،‬‬
‫ن عليهم بالكتاب ‪ ،‬وفي دخول الجنة ‪ ،‬وافترقوا في تكميل مراتب‬ ‫وفي أنه م ّ‬
‫اليمان ‪ ،‬وفي مقدار الصطفاء من الله وميراث الكتاب ‪ ،‬وفي منازل الجنة‬
‫ودرجاتها بحسب أوصافهم ‪.‬‬

‫) ‪(2/65‬‬

‫أما الظالم لنفسه فهو المؤمن الذي خلط عمل صالحا وآخر سيئا ‪ ،‬وترك من‬
‫واجبات اليمان ما ل يزول معه اليمان بالكلية ‪ ،‬وهذا القسم ينقسم إلى‬
‫قسمين ‪:‬‬
‫فر عنه السيئات كلها ‪ ،‬إما بدعاء أو شفاعة أو‬‫أحدهما ‪ :‬من يرد القيامة وقد ك ّ‬
‫آثار خيرية ينتفع بها في الدنيا ‪ ،‬أو عذب في البرزخ بقدر ذنوبه ‪ ،‬ثم رفع عنه‬
‫العقاب وعمل الثواب عمله ‪ ،‬فهذا من أعلى هذا القسم ‪ ،‬وهو الظالم لنفسه‬
‫‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬من ورد القيامة وعليه سيئات ‪ ،‬فهذا توزن حسناته وسيئاته‬
‫ثم هم بعد هذا ثلثة أنواع ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬من ترجح حسناته على سيئاته ‪ ،‬فهذا ل يدخل النار ‪ ،‬بل يدخل الجنة‬
‫برحمة الله وبحسناته ‪ ،‬وهي من رحمة الله ‪.‬‬
‫ثانيها ‪ :‬من تساوت حسناتهم وسيئاتهم ‪ ،‬فهؤلء هم أصحاب العراف ‪ ،‬وهي‬
‫موضع مرتفع بين الجنة والنار يكونون عليه ‪ ،‬وفيه ما شاء الله ‪ ،‬ثم بعد ذلك‬
‫يدخلون الجنة ‪ ،‬كما وصف ذلك في القرآن ‪.‬‬
‫) ‪(2/66‬‬

‫ثالثها ‪ :‬من رجحت سيئاته على حسناته فهذا قد استحق دخول النار ‪ ،‬إل أن‬
‫يمنع من ذلك مانع ‪ ،‬من شفاعة الرسول له ‪ ،‬أو شفاعة أحد أقاربه أو معارفه‬
‫ممن يجعل الله لهم في القيامة شفاعة لعلو مقاماتهم على الله وكرامتهم‬
‫عليه ‪ ،‬أو تدركه رحمة الله المحضة بل واسطة ‪ ،‬وإل فل بد له من دخول النار‬
‫يعذب فيها بقدر ذنوبه ‪ ،‬ثم مآله إلى الجنة ‪ ،‬ول يبقى في النار أحد في قلبه‬
‫أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان ‪ ،‬كما تواترت بذلك الحاديث عن‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وأجمع عليه سلف المة وأئمتها ‪.‬‬
‫وأما المقتصد فهو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات ‪ ،‬ولم يكثر من نوافل‬
‫العبادات ‪ ،‬وإذا صدر منه بعض الهفوات بادر إلى التوبة فعاد إلى مرتبته ‪،‬‬
‫فهؤلء أهل اليمين ‪ ،‬وأما من كان من أصحاب اليمين ‪:‬‬
‫كم َ‬
‫ن { ]الواقعة ‪. [91 :‬‬ ‫ب ال ْي َ ِ‬
‫مي ِ‬ ‫حا ِ‬
‫ص َ‬
‫نأ ْ‬‫م لَ َ ِ ْ‬
‫سَل ٌ‬
‫} فَ َ‬
‫فهؤلء سلموا من عذاب البرزخ وعذاب النار ‪ ،‬وسلم الله لهم إيمانهم‬
‫وأعمالهم ‪ ،‬فأدخلهم بها الجنة ‪ ،‬كل على حسب مرتبته ‪.‬‬

‫) ‪(2/67‬‬

‫وأما السابق إلى الخيرات فهو الذي كمل مراتب السلم ‪ ،‬وقام بمرتبة‬
‫الحسان ‪ ،‬فَعَب َد َ الله كأنه يراه ‪ ،‬فإن لم يكن يراه فإنه يراه ‪ ،‬وبذل ما‬
‫استطاع من النفع لعباد الله ‪ ،‬فكان قلبه ملنا من محبة الله والنصح لعباد‬
‫الله ‪ ،‬فأدى الواجبات والمستحبات ‪ ،‬وترك المحرمات والمكروهات وفضول‬
‫المباحات المنقصة لدرجته ‪ ،‬فهؤلء هم صفوة الصفوة ‪ ،‬وهم المقربون في‬
‫جنات النعيم إلى الله ‪ ،‬وهم أهل الفردوس العلى ‪ ،‬فإن الله كما أنه رحيم‬
‫واسع الرحمة فإنه حكيم ينزل المور منازلها ‪ ،‬ويعطي كل أحد بحسب حاله‬
‫ومقامه ‪ ،‬فكما كانوا هم السابقين في الدنيا إلى كل خير كانوا في الخرة في‬
‫أعلى المنازل ‪ ،‬وكما تخيروا من العمال أحسنها جعل الله لهم من الثواب‬
‫أحسنه ; ولهذا كانت عين التسنيم أعلى أشربة أهل الجنة ‪ ،‬يشرب منها هؤلء‬
‫المقربون صرفا ‪ ،‬وتمزج لصحاب اليمين مزجا في بقية أشربة الجنة ‪ ،‬التي‬
‫ل نقص فيها بوجه من الوجوه كما قال تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]المطففين ‪ 27 :‬و‬ ‫قّرُبو َ‬ ‫ب ب َِها ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫سِنيم ٍ {} عَي ًْنا ي َ ْ‬
‫شَر ُ‬ ‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬
‫ه ِ‬
‫ج ُ‬
‫مَزا ُ‬
‫} وَ ِ‬
‫‪. [28‬‬

‫) ‪(2/68‬‬

‫وهكذا بقية ألوان وأصناف نعيم الجنة لهؤلء السابقين منه أعله وأكمله‬
‫وأنفسه ‪ ،‬وإن كان ليس في نعيم الجنة دني ول نقص ول كدر بوجه من‬
‫الوجوه ‪ ،‬بل كل من تنعم بأي نعيم من نعيمها لم يكن في قلبه أعلى منه ;‬
‫فإن الله أعطاهم وأرضاهم ‪ ،‬وخيار هؤلء النبياء على مراتبهم ‪ ،‬ثم‬
‫الصديقون على مراتبهم ‪ ،‬ولكل درجات مما عملوا ‪ ،‬فسبحان من فاوت بين‬
‫عباده هذا التفاوت العظيم ‪ ،‬والله يختص برحمته من يشاء ‪ ،‬والله ذو الفضل‬
‫العظيم ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬ورد في القرآن ) الظلم ( بمعنى الكفر والشرك الكبر ‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]البقرة ‪. [254 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫ّ‬
‫م الظال ِ ُ‬ ‫ن هُ ُ‬‫كافُِرو َ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫م { ]لقمان ‪ [13 :‬ونحوها ‪.‬‬ ‫ظي ٌ‬
‫م عَ ِ‬ ‫ك ل َظ ُل ْ ٌ‬ ‫شْر َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫وقال ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫وورد كثيرا بمعنى الجرائم التي دون الشرك كما سبق في الظالم لنفسه‬
‫َ‬
‫فوًرا‬ ‫جدِ الل ّ َ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫فرِ الل ّ َ‬
‫ه يَ ِ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫ه ثُ ّ‬
‫م يَ ْ‬ ‫س ُ‬
‫ف َ‬ ‫سوًءا أوْ ي َظ ْل ِ ْ‬
‫م نَ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬‫ن ي َعْ َ‬
‫م ْ‬‫ومثل ‪ } :‬وَ َ‬
‫ما { ]النساء ‪. [110 :‬‬ ‫حي ً‬‫َر ِ‬

‫) ‪(2/69‬‬

‫وورد أيضا عدة آيات يدخل فيها هذا وهذا ‪ ،‬ومثل هذا ‪ ) :‬الفسق ( والمعصية‬
‫والذنب والسيئة والجرم والخطيئة ونحوها ‪ ،‬فإنها وردت في القرآن لكل واحد‬
‫من هذه الثلثة ‪ ،‬فتفسر في كل مقام بما يناسب ذلك المقام ‪.‬‬
‫ن أ َعْ َ‬ ‫َ‬
‫سَنى {‬ ‫صد ّقَ ِبال ْ ُ‬
‫ح ْ‬ ‫قى {} وَ َ‬ ‫طى َوات ّ َ‬ ‫م ْ‬
‫ما َ‬‫* فائدة ‪ :‬قوله تعالى ‪ } :‬فَأ ّ‬
‫سَرى { ]الليل ‪ :‬اليات ‪. [7 - 5‬‬ ‫سُره ُ ل ِل ْي ُ ْ‬ ‫سن ُي َ ّ‬‫} فَ َ‬
‫جمعت السعادة وجميع السباب التي تنال بها السعادة ‪ ،‬وهي ثلثة أشياء ‪:‬‬
‫فعل المأمور ‪ ،‬واجتناب المحظور ‪ ،‬وتصديق خبر الله ورسوله ‪ ،‬فهذه الثلثة‬
‫طى ( أي ‪ :‬جميع ما أمر به من‬ ‫يدخل فيها الدين كله ‪ ،‬وذلك أن قوله ‪ ) :‬أ َعْ َ‬
‫قى ( ‪ :‬جميع ما نهي عنه من كفر وفسوق وعصيان ‪،‬‬ ‫قول وعمل ونية ‪َ ) ،‬وات ّ َ‬
‫دق بالتوحيد‬‫سَنى { ‪ :‬بما أخبر الله به ورسوله من الجزاء ‪ ،‬فص ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫صد ّقَ ِبال ْ ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫وحقوقه وجزاء أهله ‪ . .‬فمن جمع ثلثة المور يسره الله لليسرى ‪ ،‬أي ‪ :‬لكل‬
‫حالة فيها تيسير أموره وأحواله كلها ‪ ،‬ومقابل هذا قوله ‪:‬‬
‫ل { ]الليل ‪. [8 :‬‬ ‫خ َ‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫} وَأ ّ‬
‫أي ‪ :‬ترك ما أمر به ليس خاصا بالنفقة ‪ ،‬بل معنى البخل المنع ‪ ،‬فإذا منع‬
‫الواجبات المتوجهة إليه القولية أو الفعلية أو المالية فقد بخل ‪.‬‬

‫) ‪(2/70‬‬

‫ست َغَْنى { ]الليل ‪. [8 :‬‬ ‫} َوا ْ‬


‫أي ‪ :‬رأى نفسه غير مفتقر إلى ربه ‪ ،‬وذلك عنوان الكبر والتجرؤ على محارم‬
‫الله ‪.‬‬
‫سَنى { ]الليل ‪. [9 :‬‬‫ح ْ‬ ‫ب ِبال ْ ُ‬‫} وَك َذ ّ َ‬
‫أي ‪ :‬بل إله إل الله وحقوقها ‪ ،‬وجزاء المقيمين لها والتاركين لها ‪.‬‬
‫سَرى { ]الليل ‪. [10 :‬‬‫سُره ُ ل ِل ْعُ ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫سن ُي َ ّ‬
‫أي ‪ :‬لكل حالة عسرة في معاشه ومعاده ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬خطابات القرآن للناس خبرا وأمرا ونهيا قسمان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬وهو الكثر جدا خطاب عام يخاطب به جميع الناس ‪ ،‬ويتعلق الخبر‬
‫أو الحكم فيهم في حالة واحدة مثل الخبر عن الله وملئكته وكتبه ورسله‬
‫واليوم الخر ‪ ،‬ومثل المر بالصلة والزكاة والصوم والحج والجهاد والبر‬
‫والصلة والعدل والنهي عن ضد ذلك ؛ وهذا لن القرآن هداية وبيان للناس ‪،‬‬
‫وهم مستوون في تعلق تلك الحكام فيهم ما لم يمنع مانع عجز عن بعض‬
‫الواجبات فيرتب عليه حكمه ‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬الخطاب العام من جهة ‪ ،‬الخاص من جهة أخرى ‪ ،‬وذلك‬
‫كالخطاب المتعلق بالعبادات المعلقة على أوقاتها ‪ ،‬كالمر بالصلوات الخمس‬
‫لوقاتها ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جرِ { ]السراء ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫رآ‬‫ُ‬ ‫ق‬ ‫و‬
‫ْ ِ َ ْ َ‬ ‫ل‬‫ي‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫س‬
‫َ ِ‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫لى‬ ‫إ‬ ‫س‬‫م‬
‫ْ ِ ِ‬ ‫ّ‬
‫ش‬ ‫ال‬ ‫صَلة َ ل ِد ُ ُ ِ‬
‫ك‬ ‫لو‬ ‫} أقِم ِ ال ّ‬
‫‪. [78‬‬

‫) ‪(2/71‬‬

‫وبالمساك عن المفطرات مثل قوله ‪:‬‬


‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫ر‬
‫ج ِ‬‫ن الفَ ْ‬
‫م َ‬
‫سوَد ِ ِ‬
‫ط ال ْ‬‫خي ْ ِ‬
‫ن ال َ‬
‫م َ‬
‫ض ِ‬
‫خي ْط الب ْي َ ُ‬ ‫ن ل َك ُ ُ‬
‫حّتى ي َت َب َي ّ َ‬
‫شَرُبوا َ‬ ‫} وَك ُُلوا َوا ْ‬
‫ثُ َ‬
‫ل { ]البقرة ‪. [187 :‬‬ ‫م إ َِلى الل ّي ْ ِ‬ ‫صَيا َ‬‫موا ال ّ‬ ‫م أت ِ ّ‬
‫ّ‬
‫فمن جهة أنه موجه إلى جميع المكلفين فإنه خطاب عام ‪ ،‬جميع أهل‬
‫المشارق والمغارب مخاطبون بذلك ‪ ،‬ومن جهة أن لكل موضع حكما بنفسه‬
‫فإنه معلوم أن الوقت الذي تطلع فيه الشمس على هؤلء أو تغرب ‪ ،‬أو يطلع‬
‫الفجر وتزول الشمس غير الوقت الذي توجد فيه هذه المور عند الخرين ‪،‬‬
‫فكل يخاطب بحسب حاله وحسب الموضع الذي فيه بل ريب ‪ ،‬ونظير هذا‬
‫المر باستقبال القبلة للصلة موجه إلى جميع أهل الرض ‪ ،‬ومع ذلك فكل‬
‫قطر ومحل فلهم جهة يتوصلون بها إلى الكعبة ‪ ،‬ولهذا صرح الله بهذا المعنى‬
‫بقوله ‪:‬‬
‫شط َْره ُ { ]البقرة ‪. [144 :‬‬ ‫م َ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫م فَوَّلوا وُ ُ‬‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫حي ْث ُ َ‬‫} وَ َ‬
‫فالمقصود واحد ‪ ،‬والطرق والوسائل إلى هذا المقصود متباينة ‪ ،‬وكل أحد‬
‫مأمور بطريقه الخاص ‪.‬‬
‫ونظير ذلك الخبارات بطلوع الشمس والقمر والكواكب وغروبها ‪ :‬لو تحذلق‬
‫جاهل فقال ‪ :‬إن مثل قوله ‪:‬‬

‫) ‪(2/72‬‬

‫مئ َةٍ { ]الكهف ‪:‬‬


‫ح ِ‬
‫ن َ‬
‫ب ِفي عَي ْ ٍ‬ ‫ها ت َغُْر ُ‬
‫جد َ َ‬‫س وَ َ‬‫م ِ‬ ‫ش ْ‬‫ب ال ّ‬ ‫حّتى إ َِذا ب َل َغَ َ‬
‫مغْرِ َ‬ ‫} َ‬
‫‪. [86‬‬
‫أي ‪ :‬في البحر برؤية العين ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫ست ًْرا { ]الكهف ‪. [90 :‬‬ ‫ل ل َهُ ْ ِ ْ ُ ِ َ ِ‬
‫ها‬‫ن‬ ‫دو‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ها ت َط ْل ُعُ عََلى قَوْم ٍ ل َ ْ‬
‫م نَ ْ‬ ‫جد َ َ‬‫} وَ َ‬
‫ينافي المعلوم أن الشمس والقمر والكواكب ل تغرب عن الدنيا بالكلية ‪،‬‬
‫فيقال هذا من الجهل والعجمة بمكان سحيق عن الحقائق ‪ ،‬وذلك أن الله لم‬
‫يقل ‪ :‬وجدها تغرب عن جميع الرض حتى يكون لهذا الجاهل اعتراض ‪ ،‬بل‬
‫أخبر عن غروبها وطلوعها عن ذلك الموضع وذلك القطر ‪ ،‬كما يفهم الناس‬
‫كلهم سابقا ولحقا ‪ ،‬ول فرق بين الخبارات والحكام بوجه ‪ ،‬ومن المعلوم أن‬
‫لكل أهل قطر مطلعا ومغربا ‪ ،‬فهذه الخطابات في الحكام والخبارات في‬
‫غاية الحكام التي ل يتطرق إليها اعتراضات المعترض ‪ ،‬ومن اعترض على‬
‫شيء من ذلك عرف الناس أن ذلك من آثار جهله وحمقه ‪ ،‬وهذا واضح ل‬
‫يحتاج إلى كل هذا ‪ ،‬يفهمه الذكي والبليد ‪ ،‬وهذا مقتضى كون القرآن عربيا ‪،‬‬
‫أنزله الله بما يعقله العباد ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬ورد في القرآن عدة آيات فيها ذكر الخلود في النار على ذنوب‬
‫وكبائر ليست بكفر مثل قوله ‪:‬‬

‫) ‪(2/73‬‬

‫ه عَل َي ْهِ وَل َعَن َ ُ‬


‫ه‬ ‫ب الل ّ ُ‬
‫ض َ‬‫دا ِفيَها وَغَ ِ‬ ‫خال ِ ً‬ ‫م َ‬ ‫جهَن ّ ُ‬‫جَزاؤُهُ َ‬ ‫دا فَ َ‬ ‫م ً‬‫مت َعَ ّ‬ ‫مًنا ُ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫ل ُ‬ ‫قت ُ ْ‬‫ن يَ ْ‬‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫َ‬
‫ما { ]النساء ‪. [93 :‬‬ ‫ظي ً‬
‫ذاًبا عَ ِ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫وَأعَد ّ ل َ ُ‬
‫ن‬
‫مِهي ٌ‬ ‫ب ُ‬ ‫ذا ٌ‬‫ه عَ َ‬ ‫دا ِفيَها وَل َ ُ‬‫خال ِ ً‬ ‫ه َناًرا َ‬ ‫خل ْ ُ‬
‫دود َه ُ ي ُد ْ ِ‬ ‫ح ُ‬
‫ه وَي َت َعَد ّ ُ‬‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ص الل ّ َ‬‫ن ي َعْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫{ ]النساء ‪. [14 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ِفيَها‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬
‫ص َ‬‫كأ ْ‬ ‫ه فَأولئ ِ َ‬ ‫طيئ َت ُ ُ‬‫خ ِ‬ ‫ت ب ِهِ َ‬
‫حاط ْ‬ ‫ة وَأ َ‬ ‫سي ّئ َ ً‬‫ب َ‬ ‫س َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫} ب ََلى َ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [81 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬‫َ‬

‫) ‪(2/74‬‬

‫فما الجمع بينها وبين النصوص المتواترة من الكتاب والسنة أنه ل يخلد في‬
‫النار إل الكفار ‪ ،‬وأن جميع المؤمنين مهما عملوا من المعاصي التي دون‬
‫الكفر فإنهم ل بد أن يخرجوا منها ‪ ،‬فهذه اليات قد اتفق السلف على تأويلها‬
‫وردها إلى هذا الصل المجمع عليه بين سلف المة ‪ ،‬وأحسن ما يقال فيها إن‬
‫ذكر الخلود على بعض الذنوب التي دون الشرك والكفر أنها من باب ذكر‬
‫السبب ‪ ،‬وأنها سبب للخلود في النار لشناعتها ‪ ،‬وأنها بذاتها توجب الخلود إذا‬
‫لم يمنع من الخلود مانع ‪ ،‬ومعلوم بالضرورة من دين السلم أن اليمان مانع‬
‫من الخلود ‪ ،‬فتنزل هذه النصوص على الصل المشهور ‪ ،‬وهو أنه ل تتم‬
‫الحكام إل بوجود شروطها وأسبابها وانتفاء موانعها ‪ ،‬وهذا واضح ولله‬
‫الحمد ‪ ،‬مع أن بعض اليات المذكورة فيها ما يدل على أن الخطيئة المراد بها‬
‫َ‬
‫ه { دليل على ذلك ؛ لن المعاصي‬ ‫طيئ َت ُ ُ‬
‫خ ِ‬‫ت ب ِهِ َ‬‫حاط َ ْ‬ ‫الكفر ؛ لن قوله ‪ } :‬وَأ َ‬
‫التي دون الكفر ل تحيط بصاحبها ‪ ،‬بل ل بد أن يكون معه إيمان يمنع من‬
‫إحاطتها ‪ ،‬وكذلك قوله ‪:‬‬
‫دا ِفيَها { ]النساء ‪:‬‬
‫خال ِ ً‬
‫ه َناًرا َ‬ ‫ْ‬
‫خل ُ‬‫دود َه ُ ي ُد ْ ِ‬
‫ح ُ‬‫ه وَي َت َعَد ّ ُ‬ ‫َ‬
‫سول ُ‬ ‫ص الل ّ َ‬
‫ه وََر ُ‬ ‫ن ي َعْ ِ‬
‫م ْ‬‫} وَ َ‬
‫‪. [14‬‬

‫) ‪(2/75‬‬

‫فالمعصية تطلق على الكفر وعلى الكبائر وعلى الصغائر ‪ ،‬ومن المعلوم أنه‬
‫إذا دخل فيها الكفر زال الشكال ‪.‬‬
‫* فائدة ‪ :‬ورد في القرآن آيات كثيرة فيها مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها ‪،‬‬
‫وورد أيضا آيات ُأخر فيها مضاعفة أكثر من ذلك ‪ ،‬فما وجه ذلك ؟‬
‫فيقال ‪ :‬أما مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها فل بد منها في كل عمل صالح كما‬
‫مَثال َِها { ]النعام ‪. [160 :‬‬ ‫قال تعالى ‪ } :‬من جاَء بال ْحسنة فَل َه عَ ْ َ‬
‫شُر أ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ َ َ ِ‬ ‫َ ْ َ‬
‫وأما مضاعفة العمل أكثر من ذلك فله أسباب ‪ ،‬إما متعلقة بنفس العامل ‪ ،‬أو‬
‫بالعمل ومزيته أو نتائجه وثمراته أو بزمانه أو مكانه ‪.‬‬
‫فمن أعظم أسباب مضاعفة العمل إذا حقق العبد في عمله الخلص للمعبود‬
‫‪ ،‬والمتابعة للرسول ‪ ،‬فمضاعفة العمال تبع لما يقوم بقلب العامل من قوة‬
‫الخلص وقوة اليمان ‪.‬‬
‫وكذلك من السباب إذا كان العمل ناشئا عن عقيدة صحيحة سلفية خالصة‬
‫متلقاة من الكتاب والسنة ‪ ،‬فهذا العبد يكون اليسير من عمله أبرك من‬
‫الكثير من عمل من ليس كذلك ‪.‬‬
‫ومن ذلك ترك ما تهواه النفوس من الفواحش ‪ ،‬مع قوة الداعي إليها لبرهان‬
‫اليمان والتوكل والخلص ‪.‬‬

‫) ‪(2/76‬‬

‫ومن أسباب المضاعفة أن يكون العمل فيه نفع للمسلمين وغناء ‪ ،‬وذلك‬
‫كالجهاد في سبيل الله ‪ ،‬الجهاد بالحجة والبرهان ‪ ،‬وبالسيف والسنان ‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى في نفقات أهل هذا الصنف ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫قو َ‬
‫ل ِفي‬‫سَناب ِ َ‬
‫سب ْعَ َ‬
‫ت َ‬ ‫حب ّةٍ أن ْب َت َ ْ‬ ‫مث َ ِ‬
‫ل َ‬ ‫َ‬
‫ل اللهِ ك َ‬ ‫سِبي ِ‬‫م ِفي َ‬ ‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬ ‫نأ ْ‬‫ن ي ُن ْفِ ُ َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مث َ ُ‬
‫} َ‬
‫م { ]البقرة ‪:‬‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ّ‬
‫شاُء َوالل ُ‬‫ن يَ َ‬‫م ْ‬‫ف لِ َ‬
‫ع ُ‬
‫ضا ِ‬‫ه يُ َ‬ ‫ّ‬
‫حب ّةٍ َوالل ُ‬
‫ة َ‬ ‫َ‬
‫مائ ُ‬ ‫َ‬
‫سن ْب ُلةٍ ِ‬‫ل ُ‬ ‫كُ ّ‬
‫‪. [261‬‬
‫ويدخل في هذا سلوك طريق التعليم والتعلم للعلوم الشرعية وما يعين عليها‬
‫‪ ،‬وفى الحديث ‪ » :‬من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى‬
‫الجنة « ‪.‬‬
‫ومن ذلك العمل والسعي في المشاريع الخيرية التي ينتفع بها المسلمون في‬
‫دينهم ودنياهم ويتسلسل نفعها ‪ ،‬ومن ذلك العمل الذي إذا عمله العبد كثر‬
‫مشاركوه والمقتدون به فيه ‪.‬‬
‫ومن ذلك إذا كان العمل له وقع عظيم ونفع كبير ‪ ،‬كإنجاء المضطرين ‪،‬‬
‫وكشف كربات المكروبين ‪ ،‬فكم من عمل من هذا النوع هدم الله به ذنوب‬
‫العبد كلها ‪ ،‬وأوصله به إلى رضوانه ‪ ،‬وقصة البغي التي سقت الكلب الذي‬
‫كاد يموت من العطش شاهدة بذلك ‪.‬‬
‫ومن ذلك علو مقام العامل عند الله ورفعة درجته ‪ ،‬كما قال تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(2/77‬‬

‫َ‬
‫ن { ]الحزاب ‪. [32 :‬‬ ‫قي ْت ُ ّ‬
‫ن ات ّ َ‬
‫ساِء إ ِ ِ‬
‫ن الن ّ َ‬‫م َ‬ ‫حد ٍ ِ‬‫ن ك َأ َ‬ ‫ي لَ ْ‬
‫ست ُ ّ‬ ‫ساَء الن ّب ِ ّ‬‫} يا ن ِ َ‬
‫ها‬ ‫ر‬ ‫ج‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ها‬‫ت‬‫ْ‬ ‫ؤ‬‫ن‬
‫َ ِ ً ُ َِ ْ َ َ‬ ‫حا‬ ‫ل‬‫صا‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫سو‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ق‬‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬‫و‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫قبلها‬ ‫وقوله‬
‫َ َ ْ َ ُ ْ ِ ْ ّ ِ ِ ََ ُ ِ ِ ََْ َ‬
‫ن { ]الحزاب ‪. [31 :‬‬ ‫مّرت َي ْ ِ‬
‫َ‬
‫ومن ذلك الصدقة من كسب طيب وقوة إخلص ‪.‬‬
‫ومن ذلك العمل الواقع في زمان فاضل ‪ ،‬أو مكان فاضل ‪.‬‬
‫ومن أهم وأعظم ما يضاعف به العمل تحقيق مقام الحسان في القيام‬
‫بعبودية الله ‪ ،‬وفي الحديث ‪ » :‬ليس لك من صلتك إل ما عقلت منها «‬
‫فالصلة والقراءة والذكر وغيرها من العبادات إذا كانت بقوة حضور قلب‬
‫وإيمان كامل فل ريب أن بينها وبين عبادة الغافل درجات تنقطع دونها أعناق‬
‫المطي ‪.‬‬
‫وأسباب مضاعفة الثواب كثيرة ‪ ،‬ولكن نبهنا على أصولها ‪.‬‬
‫ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أن التصاف في جميع الوقات‬
‫بقوة الخلص لله ‪ ،‬والنصح لعباد الله ‪ ،‬ومحبة الخير للمسلمين مع اللهج‬
‫بذكر بقوة ل يلحقها شيء من العمال ‪ ،‬وأهلها سابقون لكل فضيلة وأجر‬
‫وثواب ‪ ،‬وبقية العمال تبع لها ‪ ،‬فأهل الخلص والحسان والذكر هم‬
‫السابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ‪.‬‬

‫) ‪(2/78‬‬

‫* فائدة ‪ :‬قد أمر الله في كتابه بالتفكر والتدبر والنظر والتبصر ‪ ،‬وغيرها من‬
‫الطرق التي تنال بها العلوم ‪ ،‬وأثنى على أهلها ‪ ،‬وأخبر أن كتابه أنزل لهذه‬
‫الحكم ‪ ،‬وأثنى على العلم واليقين ومدح أهلهما ‪ ،‬ونهج جميع طريق يوصل‬
‫إليها ‪.‬‬
‫فاعلم أن الذي يجمع أشتات هذه الطرق وأنواعها وأجناسها ثلثة طرق كلية ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬طريق الخبارات الصادقة ‪ ،‬والثاني ‪ :‬طريق الحس ‪ ،‬والثالث ‪ :‬طريق‬
‫العقل ‪ ،‬ووجه الحصر أن المعلومات إما أن تدرك بحاسة السمع أو البصر أو‬
‫اللمس أو الذوق ‪ ،‬وإما أن تدرك بالعقل ‪ ،‬وإما أن تنال بالخبار ‪ ،‬وكل واحد‬
‫من هذه الثلثة قد يقارن الخر ‪ ،‬وخصوصا العقل والخبار الصادقة فإنهما ل‬
‫يتفارقان ‪.‬‬
‫وقد يكون العلم ضروريا بديهيا يضطر النسان إلى علمه ‪ ،‬والتصديق به من‬
‫غير حاجة إلى زيادة نظر وتفكر ‪ ،‬وقد يكون نظريا يحتاج إلى ذلك ‪.‬‬
‫ثم العلم بهذه المور مراتب متفاوتة ‪.‬‬
‫وأعلى درجات العلم واليقين وأوضحها وأنفعها للعباد خبر الله وخبر رسله ‪،‬‬
‫فإنه ل أصدق من الله قيل ‪ ،‬ول أصدق منه حديثا ‪.‬‬
‫ل { ]الحزاب ‪. [4 :‬‬ ‫سِبي َ‬
‫دي ال ّ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫حقّ وَهُوَ ي َهْ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫ه يَ ُ‬

‫) ‪(2/79‬‬

‫فكل ما قاله الله وقاله رسوله فهو الحق والصدق ‪ ،‬وماذا بعد الحق إل‬
‫الضلل وهو يهدي إلى كل دليل عقلي ونقلي ؟ وفي خبر الله وخبر رسله من‬
‫البيان العظيم والتفصيلت لجميع أجناس العلوم النافعة ما ل تصل إليه علوم‬
‫الخلئق كلهم ‪ ،‬أولهم وآخرهم ‪.‬‬
‫وإذا أردت أن تعرف أن الحق الصحيح هو ما قاله الله وقاله رسوله ‪ ،‬وأن ما‬
‫ناقضه ونافاه فهو باطل بل ريب مبني على جهالت ومواد فاسدة ‪ ،‬فانظر‬
‫إلى أصول الدين وقواعده وأسسه كيف اتفقت عليها الدلة النقلية والعقلية‬
‫والحسية ؟ انظر إلى توحيد الله ووجوب تفرده وإفراده بالوحدانية ‪ ،‬وتوحده‬
‫بصفات الكمال ‪ ،‬كيف كانت الكتب السماوية مشحونة منها ؟ بل هي‬
‫المقصود العظم منها ‪ ،‬وخصوصا القرآن الذي هو من أوله إلى آخره يقرر‬
‫هذا الصل الذي هو أكبر الصول وأعظمها ‪.‬‬

‫) ‪(2/80‬‬

‫وانظر كيف اتفقت جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم ‪ ،‬وخصوصا إمامهم‬
‫وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم على تقرير توحيد الله وتفرده‬
‫بالوحدانية ‪ ،‬وسعة الصفات وعظمتها ‪ :‬من سعة العلم والحكمة ‪ ،‬وعموم‬
‫القدرة والرادة ‪ ،‬وشمول الحمد والملك والمجد والجلل والجمال والحسن ‪،‬‬
‫والحسان في أسمائه وصفاته وأفعاله ؟ ثم انظر إلى هذا الصل العظيم في‬
‫قلوب سادات الخلق أولي اللباب الكاملة والعقول التامة كيف تجده أعظم‬
‫من كل شيء ‪ ،‬وأقوى وأكبر من كل شيء ‪ ،‬وأوضح من كل شيء ‪ ،‬وأنه‬
‫مقدم عندهم على الحقائق كلها ‪ ،‬وأنهم يعلمونه علما ضروريا بديهيا قبل‬
‫الدلة النظرية ‪ ،‬ويعلمون أن كل ما عارضه فهو أبطل الباطل ؟ ثم انظر إلى‬
‫كثرة البراهين المنقولة والمعقولة والمحسوسة الشاهدة لله بالوحدانية ‪.‬‬

‫ففي كل شيء له آية ‪ ...‬تدل على أنه واحد‬

‫فوجود جميع الشياء في العالم العلوي والسفلي وبقاؤها وما هي عليه من‬
‫الوصاف المتنوعة ‪ ،‬كل ذلك من الدلة والبراهين على وجود مبدعها ومعدها‬
‫وممدها بكل ما تحتاج إليه ‪ ،‬ومن أنكر هذا فقد باهت وكابر وأنكر أجلى‬
‫المور وأعظم الحقائق ‪.‬‬

‫) ‪(2/81‬‬

‫ومن هاهنا تعلم أن الماديين الملحدين أضل الخلق وأجهلهم وأعظمهم غرورا‬
‫واغترارا حيث اغتروا حين وقفوا على بعض علوم الكون الرضي المادي‬
‫الطبيعي ‪ ،‬وقفت عقولهم القاصرة عندها ‪ ،‬واستولت عليهم الحيرة وتكبروا‬
‫بمعارفهم الضئيلة وقالوا ‪ :‬نثبت ما وصلت إليه معارفنا وننفي ما سواه ‪،‬‬
‫فتعرف بهذا أن نفيهم هذا جهل وباطل باتفاق العقلء ‪ ،‬فإن من نفى ما ل‬
‫يعرفه فقد برهن على كذبه وافترائه ‪ ،‬فكما أن من أثبت شيئا بل علم فهو‬
‫ضال غاو ‪ ،‬فكذلك من نفى شيئا بل علم ‪ ،‬وتعرف أيضا أن إثباتهم لعلوم‬
‫الطبيعة التي عرفوها وانتهت إليها معارفهم أن هذا الثبات منهم قاصر لم‬
‫يصلوا إلى غايته وحقيقته ‪ ،‬فلم يصلوا بذلك إلى خالق الطبيعة ومبدعها ‪ ،‬ولم‬
‫يعرفوا المقصود من نظامها وسببيتها ; بل عرفوا ظاهرا منها وهم عن النافع‬
‫غافلون ‪ ،‬فأثبتوا بعض السبب وعموا عن المقصود ‪ ،‬وهم في علمهم هذا‬
‫حائرون ‪ ،‬ل تثبت لهم قدم على أمر من المور ‪ ،‬ول تثبت لهم نظرية صحيحة‬
‫مستقيمة ‪ ،‬فهم دائما في خلط وخبط وتناقض ‪ ،‬وكلما جاءهم من البراهين‬
‫الحق ما يبطل قولهم قالوا ‪ :‬هذا من فلتات الطبيعة ‪ ،‬وكلما برز مبرز من‬
‫فحولهم وأذكيائهم ابتكر له طريقة غير طريقة إخوانه ;‬

‫) ‪(2/82‬‬

‫فصدق عليهم قوله تعالى ‪:‬‬


‫َ‬
‫ريٍج { ]ق ‪. [5 :‬‬ ‫م ِ‬
‫مرٍ َ‬ ‫م ِفي أ ْ‬ ‫م فَهُ ْ‬‫جاَءهُ ْ‬‫ما َ‬ ‫حق ّ ل َ ّ‬ ‫ل ك َذ ُّبوا ِبال ْ َ‬
‫} بَ ْ‬
‫ق‬
‫حا َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن العِلم ِ وَ َ‬
‫م َ‬‫م ِ‬
‫عن ْد َهُ ْ‬
‫ما ِ‬
‫حوا ب ِ َ‬ ‫ت فَرِ ُ‬ ‫ْ‬
‫م ِبالب َي َّنا ِ‬ ‫ُ‬
‫سلهُ ْ‬ ‫م ُر ُ‬‫جاَءت ْهُ ْ‬‫ما َ‬ ‫َ‬
‫وقوله ‪ } :‬فَل ّ‬
‫ن { ]غافر ‪. [83 :‬‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬‫كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ‬‫ما َ‬ ‫م َ‬‫ب ِهِ ْ‬
‫والمقصود أن هذا الصل العظيم قد دلت عليه جميع الدلة بأجناسها‬
‫وأنواعها ‪ ،‬ودل عليه الشرع المحكم والقدر العام المنظم ‪ ،‬ولم يقدح فيه إل‬
‫ضّلل الذين كان قدحهم فيه أسقط اعتبارهم ‪ ،‬وبرهن على فساد‬
‫هؤلء ال ّ‬
‫عقولهم ‪.‬‬

‫) ‪(2/83‬‬

‫وانظر إلى الصل الثاني وهو إثبات الرسالة ‪ ،‬وأن الله قد أقام على صدق‬
‫رسله من اليات ما على مثله يؤمن البشر ‪ ،‬وخصوصا محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فإن آيات نبوته وأدلة رسالته وصدقه متنوعة ‪ :‬سيرته وأخلقه وما‬
‫جاء به من الدين القويم ‪ ،‬وحّثه على كل خلق كريم وعمل صالح ونفع‬
‫وإحسان وعدل ‪ ،‬ونهيه عن ضد ذلك ‪ ،‬وما جاء به من الوحي ‪ :‬الكتاب والسنة‬
‫‪ ،‬كله جملة وتفصيل براهين على نبوته وصدقه ‪ ،‬مع ما أكرمه الله به من‬
‫النصر العظيم وإظهار دينه على الديان كلها ‪ ،‬ومن إجابة الدعوات وحلول‬
‫أنواع البركات التي ل تعد أنواعها فضل عن أفرادها ‪ ،‬وهذا بقطع النظر عن‬
‫شهادة الكتب السابقة ‪ ،‬وعن عجز المعارضين له في مقامات التحدي كلها ‪،‬‬
‫وعجزهم عن نصر باطلهم ‪.‬‬

‫) ‪(2/84‬‬

‫ول يزال الباطل بين يدي ما جاء به الرسول مخذول راهقا ‪ ،‬بحيث إن‬
‫القائمين بما جاء به الرسول القائمين بمعرفة دينه يتحد ّْون جميع أهل الرض‬
‫أن يأتوا بصلح أو فلح أو رقي حقيقي أو سعادة حقيقية بجميع وجوهها ‪ ،‬وأنه‬
‫محال أن يتوصل إلى شيء من ذلك بغير ما جاء به الرسول وأرشد إليه ودل‬
‫الخلق عليه ‪ ،‬ولول الجهل بما جاء به الرسول ‪ ،‬والتعصبات الشديدة من‬
‫العداء والمقاومات العنيفة ‪ ،‬وإقامة الحواجز المتعددة العنيفة لمنع الجماهير‬
‫والدهماء من رؤية الحق الصريح والدين الصحيح ‪ ،‬لم يبق على وجه الرض‬
‫دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم لدعوته وإرشاده وحثه على كل‬
‫صلح وإصلح وخير ورشد ‪ ،‬ولكن مقاومات العداء ونصر القوة للباطل‬
‫بالتمويهات والتزويرات وتقاعد أهل الدين عن القيام به ونصرته هي التي‬
‫منعت أكثر الخلق من الوقوف على حقيقته ‪.‬‬

‫) ‪(2/85‬‬

‫ثم انظر إلى الصل الثالث ‪ ،‬وهو إثبات المعاد والجزاء كيف اتفقت الكتب‬
‫السماوية والرسل العظام وأتباعهم على اختلف طبقاتهم ‪ ،‬وتباين أقطارهم‬
‫وأزمانهم وأحوالهم على اليمان به والعتراف التام به ؟ وكم أقام الله عليه‬
‫من الدلة النقلية والعقلية ‪ ،‬وكذلك الحسية المشاهدة ما يدل أكبر دللة عليه‬
‫‪ ،‬وكم أشهد عباده في هذه الدار أنموذجا من الثواب والعقاب ‪ ،‬وأراهم حلول‬
‫المثلت بالمكذبين ‪ ،‬وأنواع العقوبات الدنيوية بالمجرمين ‪ ،‬كما أراهم نجاة‬
‫الرسل ومن تبعهم من المؤمنين ‪ ،‬وإكرامهم في الدنيا قبل الخرة ‪ ،‬وكم‬
‫أبطل الله كل شبهة يقدح بها المكذبون بالمعاد ‪ ،‬كما أقام الدلة على إبطال‬
‫الشبه الموجهة من المكذبين إلى توحيده وصدق رسله ‪ ،‬وبين سفههم وفساد‬
‫عقولهم ‪ ،‬وأنه ليس لهم من المستندات على إنكار ذلك إل استبعادات مجردة‬
‫‪ ،‬وقياس قدرة رب العالمين على قدر المخلوقين ‪.‬‬

‫) ‪(2/86‬‬

‫والمقصود أن هذه الصول العظيمة قد قامت البراهين القواطع عليها من كل‬


‫وجه وبكل اعتبار ‪ ،‬وجميع الحقائق الصحيحة غيرها لم يقم على ثبوتها وعلمها‬
‫عشر معشار ما قام على هذه الصول من البراهين المتنوعة ‪ ،‬ففي هذا دليل‬
‫على أن كل من أثبت معلوما أو حقيقة من الحقائق بطريق عقلي أو خبري‬
‫أو حسي ‪ ،‬ثم نفى مع ذلك واحدا من هذه الصول الثلثة التي هي أساس‬
‫الدين ‪ ،‬فقد كابر عقله وحسه وعلمه ‪ ،‬ونادى على نفسه بالتناقض العظيم ;‬
‫لن الطرق التي دلته على إثبات معلوماته هي ‪ -‬وأضعافها وأضعاف‬
‫أضعافها ‪ ،‬وما هو أقوى منها وأوضح ‪ -‬قد دلت على التوحيد والرسالة والمعاد‬
‫‪.‬‬
‫واعلم أن المعلومات بخبر الله وخبر رسله عامة يدخل فيها الخبار عن الله‬
‫وعن ملئكته وعن الغيوب كلها ‪ ،‬وأمور الشرع والقدر ‪ ،‬وهي الخبار‬
‫المعصومة الصادقة التي يعلم كذب ما خالفها وبطلنه ‪ ،‬ولنكتف بهذا النموذج‬
‫من المثلة ‪ ،‬والله أعلم ‪.‬‬

‫) ‪(2/87‬‬

‫وبعد هذا إخبار الصادقين عن المواضع والحوادث والوقائع التي شاهدوها ‪،‬‬
‫وهذا النوع بحسب صدق المخبرين ‪ ،‬وتواتر خبرهم يفيد العلم القطعي ‪،‬‬
‫وكذلك إخبار الصادقين عن العلوم التي سمعوها ‪ ،‬واللفاظ التي نقلوها ‪،‬‬
‫وأصدق الناقلين هنا حملة الشريعة المحمدية ؛ لشدة عنايتهم ‪ ،‬وكمال‬
‫صدقهم ‪ ،‬وقوة دينهم ‪ ،‬وأنهم بالخصوص حفظوا عن الخطأ العمومي ‪،‬‬
‫والتفاق على غير الصواب ‪.‬‬

‫) ‪(2/88‬‬

‫ومن المور التي تعلم بالعقل أن العقول الصحيحة التي لم تغير فطرتها ‪،‬‬
‫ولم تفسد بالعقائد الفاسدة ‪ ،‬تعلم علما يقينا حسن التوحيد والخلص لله ‪،‬‬
‫كما تعلم قبح الشرك ‪ ،‬وتعلم حسن الصدق والعدل والحسان إلى‬
‫المخلوقين ‪ ،‬كما تعلم قبح ضده ‪ ،‬وتعلم وجوب شكر المنعم ‪ ،‬ووجوب بر‬
‫الوالدين وصلة القارب ‪ ،‬والقيام بحق من له حق عليك ‪ ،‬وتستحسن كل‬
‫صلح وإصلح ‪ ،‬وتستقبح كل فساد وضرر ‪ ،‬ومن أشرف ما يعلم بالعقل أنه‬
‫مركوز في العقول أن الكمال المطلق لله وحده ‪ ،‬وأن له الحكمة التامة في‬
‫خلقه وشرعه ‪ ،‬وأنه ل يليق به أن يترك خلقه سدى ل يؤمرون ول ينهون ‪ ،‬ول‬
‫يثابون ول يعاقبون ‪ ،‬ومن المعلوم بالحس ما يدرك بالحواس كسمع الصوات‬
‫وإبصار العيان وهو من أتم المعارف ‪ ،‬فإنه ليس الخبر كالمعاينة ‪ ،‬ومما‬
‫يدرك بالحس ما يدرك بالشم كشم الروائح الطيبة والخبيثة ‪ ،‬وما يدرك‬
‫باللمس كالحرارة والبرودة ‪ ،‬وما يدرك بتحليل الشياء والوقوف على موادها‬
‫وجواهرها وصفاتها ‪ ،‬كل هذا من مدركات الحس ‪ ،‬وبالجملة فطرق العلم إلى‬
‫المعلومات كثيرة جدا ‪ ،‬وكلما كان الشيء أعظم ومعرفته أهم كانت الطرق‬
‫الموصلة إليه أكثر وأوضح وأصح وأقوى ‪ ،‬كما تقدمت الشارة إلى التوحيد‬

‫) ‪(2/89‬‬

‫والرسالة والمعاد ‪ ،‬والله أعلم ‪.‬‬


‫* فائدة ‪ :‬لما ذكر الباري نعمته على العباد بتيسير الركوب للنعام والفلك‬
‫قال ‪:‬‬
‫ُ‬
‫قولوا‬ ‫َ‬
‫م عَلي ْهِ وَت َ ُ‬ ‫م إ َِذا ا ْ‬
‫ست َوَي ْت ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ة َرب ّك ْ‬ ‫ُ‬
‫م ت َذ ْكُروا ن ِعْ َ‬
‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ووا عَلى ظُهورِهِ ث ُ ّ‬ ‫ست َ ُ‬‫} ل ِت َ ْ‬
‫ن{‬
‫قل ُِبو َ‬
‫من ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن {} وَإ ِّنا إ ِلى َرب َّنا ل ُ‬ ‫قرِِني َ‬‫م ْ‬‫ه ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما كّنا ل ُ‬ ‫ذا وَ َ‬ ‫َ‬
‫خَر لَنا هَ َ‬‫س ّ‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫حا َ‬‫سب ْ َ‬ ‫ُ‬
‫]الزخرف ‪ 13 :‬و ‪. [14‬‬

‫) ‪(2/90‬‬

‫ذكر فيها أركان الشكر الثلثة ‪ :‬وهي العتراف والتذكر لنعمة الله ‪ ،‬والتحدث‬
‫بها ‪ ،‬والثناء على الله بها ‪ ،‬والخضوع لله ‪ ،‬والستعانة بها على عبادته ؛ لن‬
‫ن { العتراف بالجزاء والستعداد‬ ‫قل ُِبو َ‬ ‫المقصود من قوله ‪ } :‬وَإ ِّنا إ َِلى َرب َّنا ل َ ُ‬
‫من ْ َ‬
‫له ‪ ،‬وأن المقصود من هذه النعم أن تكون عونا للعبد على ما خلق له من‬
‫م عَل َي ْهِ { تقييدها‬ ‫ة َرب ّك ُ ْ‬
‫م إ َِذا ا ْ‬
‫ست َوَي ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫م ت َذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬‫طاعة الله ‪ ،‬وفي قوله ‪ } :‬ث ُ ّ‬
‫في هذه الحالة وقت تبوء النعمة ; لن كثيرا من الخلق تسكرهم النعم ‪،‬‬
‫وتغفلهم عن الله ‪ ،‬وتوجب لهم الشر والبطر ‪ ،‬فهذه الحالة التي أمر الله بها‬
‫هي دواء هذا الداء المهلك ‪ ،‬فإنه متى ذكر العبد أنه مغمور بنعم الله ‪ ،‬وأن‬
‫أصولها وتيسيرها وتيسير أسبابها وبقائها ودفع ما يضادها أو ينقصها كله من‬
‫ل وشكره وأثنى‬ ‫فضل الله وإحسانه ليس من العبد شيء ‪ ،‬خضع لله وذ ّ‬
‫عليه ‪ ،‬وبهذا تدوم النعمة ويبارك الله فيها ‪ ،‬وتكون نعمة حقيقية ‪ ،‬فأما إذا‬
‫قابلها بالشر والبطر ‪ ،‬ونسي المنعم ‪ ،‬وربما تكبر بها على عباد الله ‪ ،‬فهذه‬
‫نقمة في صورة نعمة ‪ ،‬وهي استدراج من الله للعبد سريعة الزوال ‪ ،‬وشيكة‬
‫بالعقاب عليها والنكال ‪ ،‬نسأل الله أن‬

‫) ‪(2/91‬‬

‫يوزعنا شكر نعمه ‪.‬‬

‫) ‪(2/92‬‬

‫فائدة بل فوائد عظيمة في ذكر شيء من السباب التي ذكرها الله في كتابه‬
‫موصلة إلى المطالب العالية‬
‫ل ريب أن من حكمة الله ورحمته أنه جعل العباد مفتقرين إلى جلب المنافع‬
‫الدينية والدنيوية ‪ ،‬وإلى دفع المضار الدينية والدنيوية ‪ ،‬فاقتضت حكمته‬
‫وسنته التي ل تتبدل أن هذه المنافع المتنوعة ‪ -‬وخصوصا المور العظام ‪ -‬ل‬
‫تحصل إل بالسعي بأسبابها الموصلة إليها ‪ ،‬وكذلك المضار ل تندفع ل بالسعي‬
‫بالسباب التي تدفعها ‪ ،‬وقد بين في كتابه غاية التبيين هذه السباب ‪ ،‬وأرشد‬
‫العباد إليها ‪ ،‬فمن سلكها فاز بالمطلوب ‪ ،‬ونجا من كل مرهوب ‪.‬‬
‫فأصل السباب كلها اليمان والعمل الصالح ‪ ،‬جعل الله خيرات الدنيا والخرة‬
‫وحصولها بحسب قيام العبد بهذين المرين ‪ ،‬وقد ذكر الله في القرآن من هذا‬
‫شيئا كثيرا جدا ‪ ،‬وقد تقدم في هذا الكتاب شيء من ذلك عند ذكر فوائد‬
‫اليمان ‪.‬‬
‫وجعل الله القيام بالعبودية والتوكل سببا لكفاية الله للعبد جميع مطالبه ‪،‬‬
‫شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫ه { ]الطلق ‪. [3 :‬‬ ‫سب ُ ُ‬ ‫ل عََلى اللهِ فَهُوَ َ‬
‫ح ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن ي َت َوَك ّ ْ‬
‫م ْ‬
‫} وَ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ف عَب ْد َهُ { ]الزمر ‪. [36 :‬‬ ‫َ‬
‫ه ب ِكا ٍ‬‫س الل ُ‬ ‫} أل َي ْ َ‬
‫أي ‪ :‬بمن يقوم بعبوديته ظاهرا وباطنا ‪.‬‬

‫) ‪(2/93‬‬

‫وجعل الله التقوى والسعي والحركة سببا للرزق ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫ب{‬ ‫س ُ‬ ‫حت َ ِ‬ ‫ث َل ي َ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫جا {} وَي َْرُزقْ ُ‬ ‫خَر ً‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ق الل ّ َ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫]الطلق ‪ 2 :‬و ‪. [3‬‬
‫ن رِْزقِهِ { ]الملك ‪. [15 :‬‬ ‫م ْ‬ ‫مَناك ِب َِها وَك ُُلوا ِ‬ ‫شوا ِفي َ‬ ‫م ُ‬ ‫وقوله ‪َ } :‬فا ْ‬
‫وجعل الله التقوى واليمان وتكرار دعوة ذي النون سببا للخروج من كل‬
‫كرب وضيق وشدة ‪ ،‬شاهده الية السابقة ‪ ،‬وكذلك قوله ‪:‬‬
‫ن لَ‬ ‫قدر عَل َيه فَنادى في الظ ّل ُمات أ َ‬ ‫} وَذا النون إذ ْ ذ َهَب مَغاضبا فَظ َ َ‬
‫َ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِ َ َ‬ ‫ن نَ ْ ِ َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ِ ً‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ّ ِ ِ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ّ‬ ‫َ‬ ‫غ‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ج‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫و‬
‫ُ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫فا‬ ‫{}‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬
‫ظا‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ني‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫س‬
‫َ ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ه ِ‬
‫إ‬ ‫إ ِل َ َ‬
‫ن { ]النبياء ‪ 87 :‬و ‪. [88‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫جي ال ْ ُ‬ ‫ك ن ُن ْ ِ‬ ‫وَك َذ َل ِ َ‬
‫وجعل الله الدعاء والطمع في فضله سببا لحصول جميع المطالب ‪ ،‬دليله‬
‫َ‬
‫م { ]غافر ‪. [60 :‬‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫ج ْ‬‫ست َ ِ‬ ‫عوِني أ ْ‬ ‫م اد ْ ُ‬ ‫ل َرب ّك ُ ُ‬ ‫قوله تعالى ‪ } :‬وََقا َ‬
‫ن{‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ري ٌ‬ ‫ّ‬
‫ة اللهِ قَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫مًعا إ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫خوًْفا وَط َ‬ ‫عوه ُ َ‬ ‫وقوله ‪َ } :‬واد ْ ُ‬
‫]العراف ‪. [56 :‬‬

‫) ‪(2/94‬‬

‫وجعل الله الحسان في عبادة الخالق ‪ ،‬والحسان إلى الخلق سببا يدرك به‬
‫ة الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬
‫ح َ‬
‫ن َر ْ‬
‫فضله وإحسانه العاجل والجل ‪ ،‬شاهده الية السابقة ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ن { ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ري ٌ‬ ‫قَ ِ‬
‫ن { ]الرحمن ‪. [60 :‬‬ ‫سا ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫ن إ ِل ال ِ ْ‬‫ّ‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫جَزاُء ال ِ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫} هَ ْ‬
‫ن { ]البقرة ‪. [195 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫سِني َ‬‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫سُنوا إ ِ ّ‬ ‫ح ِ‬ ‫} وَأ ْ‬
‫ومن أحبه الله نال جميع ما يطلب ‪.‬‬
‫وجعل الله التوبة والستغفار واليمان والحسنات والمصائب مع الصبر عليها‬
‫أسبابا لمحو الذنوب والخطايا ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫دى { ]طه ‪. [82 :‬‬ ‫م اهْت َ َ‬‫حا ث ُ ّ‬
‫صال ِ ً‬‫ل َ‬‫م َ‬‫ن وَعَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ب َوآ َ‬ ‫ن َتا َ‬ ‫م ْ‬ ‫فاٌر ل ِ َ‬ ‫} وَإ ِّني ل َغَ ّ‬
‫ت { ]هود ‪. [114 :‬‬ ‫سي َّئا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ت ي ُذ ْهِب ْ َ‬ ‫سَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫ن { ]يوسف ‪. [90 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫م ْ‬
‫جَر ال ُ‬ ‫ضيعُ أ ْ‬
‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫صب ِْر فإ ِ ّ‬ ‫ق وَي َ ْ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫} إ ِن ّ ُ‬
‫وجعل الله الصبر سببا وآلة تدرك بها الخيرات ‪ ،‬ويستدفع بها الكريهات ‪،‬‬
‫شاهده الية السابقة ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫صَلةِ { ]البقرة ‪. [45 :‬‬
‫صب ْرِ َوال ّ‬
‫ست َِعيُنوا ِبال ّ‬
‫} َوا ْ‬

‫) ‪(2/95‬‬

‫أي ‪ :‬على جميع أموركم ‪ ،‬ولما ذكر الله ما وصل إليه أهل الجنة من كمال‬
‫النعيم ‪ ،‬وزوال كل محذور ‪ ،‬ذكر أن هذا أثر صبرهم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫م { ]الرعد ‪. [24 :‬‬ ‫صب َْرت ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫سَل ٌ‬ ‫} َ‬
‫صب َُروا { ]الفرقان ‪. [75 :‬‬ ‫ما َ‬ ‫ة بِ َ‬ ‫ن الغُْرفَ َ‬ ‫ْ‬ ‫جَزوْ َ‬ ‫ك يُ ْ‬‫} ُأولئ ِ َ‬
‫َ‬
‫ومنه أنه جعل الصبر واليقين تنال بهما أعلى مقامات ‪ ،‬وهي المامة في‬
‫الدين ‪ ،‬دليله قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن{‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫} وجعل ْنا منه َ‬
‫صب َُروا وَكاُنوا ِبآَيات َِنا ُيوقُِنو َ‬ ‫ما َ‬ ‫مرَِنا ل ّ‬ ‫ن ب ِأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ة ي َهْ ُ‬‫م ً‬ ‫م أئ ِ ّ‬ ‫َ َ َ َ ِ ُْ ْ‬
‫]السجدة ‪. [24 :‬‬
‫وجعل الله مفتاح العلم حسن السؤال وحسن النصات والتعلم والتقوى‬
‫وحسن القصد ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]النحل ‪. [43 :‬‬ ‫م َل ت َعْل َ ُ َ‬
‫مو‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ل الذ ّك ْرِ إ ِ ْ‬ ‫سأ َُلوا أ َهْ َ‬ ‫} َفا ْ‬
‫َ‬
‫سأُلوا عَن َْها‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫سؤْك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ‬‫شَياَء إ ِ ْ‬‫نأ ْ‬ ‫سأُلوا عَ ْ‬ ‫مُنوا َل ت َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫م { ]المائدة ‪. [101 :‬‬ ‫ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ‬ ‫قْرآ ُ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ن ي ُن َّز ُ‬ ‫حي َ‬
‫ِ‬
‫م فُْرَقاًنا { ]النفال ‪[29 :‬‬ ‫ل ل َك ُْ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ي‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫نوا‬ ‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫يا‬ ‫}‬ ‫‪:‬‬ ‫وقوله‬
‫َ َ ْ‬ ‫ِ َ َ ُ ِ ْ َّ‬ ‫َّ‬
‫‪.‬‬
‫أي ‪ :‬نورا وعلما تفرقون به بين الحقائق كلها ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬

‫) ‪(2/96‬‬

‫سَلم ِ { ]المائدة ‪. [16 :‬‬ ‫ل ال ّ‬‫سب ُ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫وان َ ُ‬‫ض َ‬‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه َ‬ ‫دي ب ِهِ الل ّ ُ‬ ‫} ي َهْ ِ‬
‫سب ُلَنا { ]العنكبوت ‪. [69 :‬‬ ‫َ‬ ‫م ُ‬ ‫َ‬
‫دوا ِفيَنا لن َهْدِي َن ّهُ ْ‬ ‫جاهَ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫وقوله ‪َ } :‬وال ِ‬
‫حذر منهم سببا‬ ‫وجعل الله الستعداد للعداء بكل مستطاع من القوة ‪ ،‬وأخذ ال َ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ذي َ‬‫لحصول النصر والسلمة من شرورهم ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪ } :‬يا أي َّها ال ِ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ست َط َعْت ُ ْ‬
‫ما ا ْ‬ ‫دوا ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫م { ]النساء ‪ ، [71 :‬وقوله ‪ } :‬وَأ َ ِ‬
‫ع ّ‬ ‫حذ َْرك ُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬‫مُنوا ُ‬ ‫آ َ‬
‫قُوّةٍ { ]النفال ‪. [60 :‬‬
‫وجعل الله اليسر يتبع العسر ‪ ،‬والفرج عند اشتداد الكرب ‪ ،‬شاهده قوله‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫سًرا { ]الشرح ‪. [6 :‬‬ ‫سرِ ي ُ ْ‬ ‫معَ ال ْعُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫سًرا { ]الطلق ‪. [7 :‬‬ ‫سرٍ ي ُ ْ‬ ‫ه ب َعْد َ عُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫جعَ ُ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫} َ‬
‫عاه ُ { ]النمل ‪. [62 :‬‬ ‫ضطّر إ َِذا د َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫جي ُ‬‫ن يُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫}أ ّ‬
‫وجعل الله الشكر سببا للمزيد منها ومن غيرها ‪ ،‬وكفران النعم سببا لزوالها ‪،‬‬
‫شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ديد ٌ { ]إبراهيم ‪. [7 :‬‬ ‫ش ِ‬ ‫ذاِبي ل َ‬‫ن عَ َ‬‫م إِ ّ‬ ‫فْرت ُ ْ‬ ‫نك َ‬‫َ‬ ‫م وَلئ ِ ْ‬ ‫م َلِزيد َن ّك ْ‬
‫ُ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫} ل َئ ِ ْ‬
‫وجعل الله الصبر والتقوى سببا للعواقب الحميدة والمنازل الرفيعة ‪ ،‬شاهده‬
‫قوله تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(2/97‬‬
‫ن { ]العراف ‪. [128 :‬‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫ة ل ِل ْ ُ‬ ‫} َوال َْعاقِب َ ُ‬
‫َ‬
‫ن { ]يوسف ‪. [90 :‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫جَر ال ْ ُ‬ ‫ضيعُ أ ْ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫صب ِْر فَإ ِ ّ‬ ‫ق وَي َ ْ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫} إ ِن ّ ُ‬
‫وجعل الله الجهاد سببا للنصر ‪ ،‬وحصول الغراض المطلوبة من العداء ‪،‬‬
‫والوقاية من شرورهم ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫} َقاتُلوهم يعذ ّبهم الل ّ َ‬
‫م { ]التوبة ‪. [14 :‬‬ ‫م عَل َي ْهِ ْ‬ ‫صْرك ُ ْ‬ ‫م وَي َن ْ ُ‬ ‫خزِهِ ْ‬ ‫م وَي ُ ْ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ه ب ِأي ْ ِ‬‫ُ‬ ‫ِ ُ ْ َُ ُْ ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫س َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ل اللهِ ل ت ُك َل ُ‬ ‫ّ‬ ‫قات ِ ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫ن‬
‫هأ ْ‬ ‫سى الل ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ض ال ُ‬ ‫حّر ِ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ف َ‬‫ف إ ِل ن َ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬
‫ن كَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫فُروا { ]النساء ‪. [84 :‬‬ ‫ذي َ‬ ‫س ال ِ‬ ‫ف ب َأ َ‬ ‫ي َك ُ ّ‬
‫وجعل الله لمحبته التي هي أعلى ما ناله العباد أسبابا ‪ ،‬أهمها وأعظمها‬
‫متابعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في القوال والفعال وسائر‬
‫ه { ]آل‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫حب ِب ْك ُ ُ‬
‫ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫حّبو َ‬ ‫م تُ ِ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫ل إِ ْ‬ ‫الحوال ‪ ،‬قال تعالى ‪ } :‬قُ ْ‬
‫عمران ‪. [31 :‬‬
‫ومن أسبابها ما ذكره بقوله ‪:‬‬
‫ن { ]آل عمران ‪. [146 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫ن { ]آل عمران ‪. [134 :‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫} يُ ِ‬
‫ن { ]آل عمران ‪. [76 :‬‬ ‫قي‬
‫ُ ِّ َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬‫} يُ ِ ّ‬
‫ح‬

‫) ‪(2/98‬‬

‫َ‬
‫ص { ]الصف ‪. [4 :‬‬ ‫صو ٌ‬ ‫مْر ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ب ُن َْيا ٌ‬ ‫فا ك َأن ّهُ ْ‬ ‫ص ّ‬
‫سِبيل ِهِ َ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫قات ُِلو َ‬‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫} يُ ِ‬
‫وجعل الله النظر إلى النعم ‪ ،‬والفضل الذي أعطيه العبد ‪ ،‬وغض النظر مما‬
‫لم يعطه سببا للقناعة ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫ما آت َي ْت ُ َ‬
‫ك‬ ‫خذ ْ َ‬‫مي فَ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سالِتي وَب ِكل ِ‬ ‫َ‬ ‫س ب ِرِ َ‬ ‫في ْت ُ َ َ‬ ‫صط َ َ‬ ‫} َقا َ‬
‫ك عَلى الّنا ِ‬ ‫سى إ ِّني ا ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ل يا ُ‬
‫ن { ]العراف ‪. [144 :‬‬ ‫ري َ‬
‫شاك ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫وَك ُ ْ‬
‫وجعل الله القيام بالعدل في المور كلها سببا لصلح الحوال ‪ ،‬وضده سببا‬
‫لفسادها واختلفها ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫موا الوَْز َ‬ ‫ن {} وَأِقي ُ‬ ‫ميَزا ِ‬ ‫وا ِفي ال ِ‬ ‫ن {} أّل ت َطغَ ْ‬
‫ْ‬ ‫ميَزا َ‬ ‫ضعَ ال ْ ِ‬ ‫ماَء َرفَعََها وَوَ َ‬ ‫س َ‬ ‫} َوال ّ‬
‫ن { ]الرحمن ‪. [9 - 7 :‬‬ ‫ميَزا َ‬ ‫ْ‬
‫سُروا ال ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫َ‬
‫ط وَل ت ُ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ِبال ْ ِ‬
‫وجعل الله كمال إخلص العبد لربه سببا يدفع به عنه المعاصي وأسبابها‬
‫وأنواع الفتن ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]يوسف ‪:‬‬ ‫خل َ ِ‬
‫صي َ‬ ‫عَبادَِنا ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫شاَء إ ِن ّ ُ‬‫ح َ‬ ‫سوَء َوال ْ َ‬
‫ف ْ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ف عَن ْ ُ‬ ‫صرِ َ‬ ‫ك ل ِن َ ْ‬ ‫} ك َذ َل ِ َ‬
‫‪. [24‬‬

‫) ‪(2/99‬‬

‫وجعل الله قوة التوكل عليه مع اليمان حصنا حصينا يمنع العبد من تسلط‬
‫الشيطان ‪ ،‬خصوصا إذا انضم إلى ذلك الكثار من ذكر الله ‪ ،‬والستعاذة بالله‬
‫من الشيطان ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]النحل ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫م ي َت َوَكلو َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا وَعَلى َرب ّهِ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫ن عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫طا ٌ‬‫سل ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫س لَ ُ‬ ‫ه ل َي ْ َ‬
‫} إ ِن ّ ُ‬
‫‪. [99‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وقال ‪ } :‬ق ْ‬
‫ق { ]الفلق ‪. [1 :‬‬ ‫فل ِ‬ ‫ب ال َ‬‫عوذ ُ ب َِر ّ‬ ‫لأ ُ‬
‫س { ]الناس ‪ [1 :‬إلى آخرهما ‪.‬‬ ‫ب الّنا ِ‬ ‫عوذ ُ ب َِر ّ‬ ‫ل أَ ُ‬
‫و } قُ ْ‬
‫وجعل الله مفتاح اليمان واليقين التفكر في آيات الله المتلوة ‪ ،‬وآياته‬
‫المشهودة ‪ ،‬والمقابلة بين الحق والباطل بحسن فهم وقوة بصيرة ‪ ،‬شاهده‬
‫قوله تعالى ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك ل ِيدبروا آيات ِه ول ِيتذ َك ّر ُ‬ ‫َ‬
‫ب { ]ص ‪. [29 :‬‬ ‫با‬
‫َ ِ‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لو‬ ‫أو‬ ‫َ ِ َ ََ َ‬ ‫َ ُّّ‬ ‫ٌ‬ ‫ر‬ ‫با‬
‫ُ َ َ‬‫م‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ب أن َْزل ْ َ ُ ِ ْ‬
‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫ه‬ ‫نا‬ ‫} ك َِتا ٌ‬
‫والمر بالتفكر بالمخلوقات في عدة آيات ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫ن { ]الحجر ‪. [77 :‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫ك َلي َ ً‬‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬
‫} إِ ّ‬
‫فهي سبب لليمان ‪ ،‬واليمان موجب للنتفاع بها ‪.‬‬
‫وجعل الله القيام بأمور الدين سببا لتيسير المور ‪ ،‬وعدم القيام بها سببا‬
‫للتعسير ‪ ،‬وشاهده قوله تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(2/100‬‬

‫ن أ َعْ َ‬ ‫َ‬
‫سَرى {‬ ‫سُرهُ ل ِل ْي ُ ْ‬‫سن ُي َ ّ‬ ‫سَنى {} فَ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫صد ّقَ ِبال ْ ُ‬ ‫قى {} وَ َ‬ ‫طى َوات ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫} فَأ ّ‬
‫َ‬
‫سَرى {‬ ‫سُره ُ ل ِل ْعُ ْ‬ ‫سن ُي َ ّ‬ ‫سَنى {} فَ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ب ِبال ْ ُ‬ ‫ست َغَْنى {} وَك َذ ّ َ‬ ‫ل َوا ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫} وَأ ّ‬
‫]الليل ‪. [10 - 5 :‬‬
‫وجعل الله العلم النافع للرفعة في الدنيا والخرة ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫} يرفَع الل ّه ال ّذين آمنوا منك ُم وال ّذي ُ‬
‫ت { ]المجادلة ‪. [11 :‬‬ ‫جا ٍ‬ ‫م د ََر َ‬‫ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ‬ ‫ِ ْ ْ َ ِ َ‬ ‫ُ ِ َ َ ُ‬ ‫َْ ِ‬
‫وجعل الله كون العبد طيبا في عقيدته وخلقه وعمله سببا لدخول الجنة ‪،‬‬
‫وللبشارة عند الموت ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]الزمر ‪. [73 :‬‬ ‫دي َ‬‫خال ِ ِ‬ ‫ها َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫م َفاد ْ ُ‬ ‫} ط ِب ْت ُ ْ‬
‫ن { ]النحل ‪. [32 :‬‬ ‫َ‬
‫ة طي ِّبي َ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬‫ن ت َت َوَّفاهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫وقوله ‪ } :‬ال ِ‬
‫وجعل الله مقابلة المسيء بالحسان ‪ ،‬وحسن الخلق سببا يكون به العدو‬
‫صديقا ‪ ،‬وتتمكن فيه صداقة الصديق ‪ ،‬دليله قوله تعالى ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ذي ب َي ْن َك وَب َي ْن َ ُ‬ ‫ن فَإ َِذا ال ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫ة اد ْفَعْ ِبال ِّتي هِ َ‬ ‫سي ّئ َ ُ‬‫ة وََل ال ّ‬ ‫سن َ ُ‬ ‫ح َ‬‫وي ال ْ َ‬ ‫} وََل ت َ ْ‬
‫س َت َ ِ‬
‫م { ]فصلت ‪. [34 :‬‬ ‫مي ٌ‬ ‫ح ِ‬‫ي َ‬ ‫ه وَل ِ ّ‬ ‫داوَة ٌ ك َأن ّ ُ‬ ‫عَ َ‬

‫) ‪(2/101‬‬

‫حوْل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ضوا ِ‬‫ف ّ‬‫ب َلن ْ َ‬ ‫قل ْ ِ‬ ‫ظ ال ْ َ‬‫ظا غَِلي َ‬ ‫ت فَ ّ‬ ‫م وَل َوْ ك ُن ْ َ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ل ِن ْ َ‬ ‫م َ‬‫مةٍ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َر ْ‬ ‫} فَب ِ َ‬
‫{ ]آل عمران ‪. [159 :‬‬
‫وبذلك تحصل الراحة للعبد ‪ ،‬ويتيسر له كثير من أحواله ‪.‬‬
‫وجعل الله النفاق في محله سببا للخلف العاجل والثواب الجل ‪ ،‬شاهده‬
‫قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن { ]سبأ ‪. [39 :‬‬ ‫خي ُْر الّرازِِقي َ‬ ‫ه وَهُوَ َ‬ ‫ف ُ‬‫خل ِ ُ‬‫يٍء فَهُوَ ي ُ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫قت ُ ْ‬
‫ف ْ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫وجعل الله لرزقه أبوابا وأسبابا متنوعة ‪ ،‬فمتى انغلق عن العبد باب منها فل‬
‫يحزن ؛ فإن الله يفتح له غيره ‪ ،‬وقد يكون أقوى منه وأحسن ‪ ،‬وقد يكون‬
‫مثله ودونه ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫سعَت ِهِ { ]النساء ‪. [130 :‬‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ه ك ُّل ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫فّرَقا َي ُغْ ِ‬ ‫ن ي َت َ َ‬‫} وَإ ِ ْ‬
‫م‬
‫حَرا َ‬ ‫ْ‬
‫جد َ ال َ‬‫س ِ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫قَرُبوا ال َ‬ ‫َ‬
‫س فَل ي َ ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ن نَ َ‬ ‫ُ‬
‫شرِكو َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ما ال ُ‬ ‫مُنوا إ ِن ّ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫وقوله ‪ } :‬يا أي َّها ال ِ‬
‫ضل ِهِ { ]التوبة ‪[28 :‬‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ُ‬
‫ف ي ُغِْنيك ُ‬ ‫سو ْ َ‬ ‫ة فَ َ‬ ‫َ‬
‫م عَي ْل ً‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذا وَإ ِ ْ‬ ‫م هَ َ‬ ‫مهِ ْ‬ ‫عا ِ‬ ‫ب َعْد َ َ‬
‫‪.‬‬
‫وجعل الله التحرز والبعد عن الموبقات المهلكة والحذر من وسائلها طريقا‬
‫سهل هينا لتركها ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(2/102‬‬

‫ها { ]البقرة ‪. [187 :‬‬ ‫قَرُبو َ‬ ‫دود ُ الل ّهِ { ]أي ‪ :‬محارمه[ } فََل ت َ ْ‬ ‫ح ُ‬‫ك ُ‬ ‫} ت ِل ْ َ‬
‫أي ‪ :‬ل تفعلوها ول تحوموا حولها ؛ فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع‬
‫ها { كان المراد‬ ‫قَرُبو َ‬‫دود ُ الل ّهِ فََل ت َ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فيه ‪ ،‬وإذا قيل مثل هذه الية ‪ } :‬ت ِل ْ َ‬
‫بالحدود المحارم ‪ ،‬وأما إذا قيل ‪:‬‬
‫ها { ]البقرة ‪. [229 :‬‬ ‫دو َ‬‫دود ُ الل ّهِ فََل ت َعْت َ ُ‬‫ح ُ‬‫ك ُ‬ ‫} ت ِل ْ َ‬
‫فهذه الحدود التي حددها الله للمباحات ‪ ،‬فعلى العبد أن ل يتجاوزها ؛ لنه إذا‬
‫تجاوز المباح وقع في المحّرم ‪ ،‬فافهم الفرق بين المرين ‪.‬‬
‫وجعل الله السبب الوحيد القوي المثمر للثمرات الجليلة للدعوة إلى سبيله‬
‫ما تضمنته هذه الية ‪:‬‬
‫ي‬ ‫ّ‬
‫م ِبالِتي هِ َ‬ ‫ْ‬
‫جادِلهُ ْ‬‫سن َةِ وَ َ‬
‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫عظةِ ال َ‬ ‫َ‬ ‫مو ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫مةِ َوال َ‬ ‫ْ‬
‫حك َ‬ ‫ْ‬
‫ك ِبال ِ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫} اد ْع ُ إ َِلى َ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن { ]النحل ‪. [125 :‬‬ ‫َ‬
‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬

‫) ‪(2/103‬‬

‫فالحكمة وضع الدعوة في موضعها ‪ ،‬ودعاية كل أحد بحسب ما يليق بحاله‬


‫سن َةِ ( ‪:‬‬ ‫عظ َةِ ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫ويناسبه ‪ ،‬ويكون أقرب لحصول المقصود منه ‪َ ) ،‬وال ْ َ‬
‫مو ْ ِ‬
‫البالغة في الحسن مبلغا ‪ ،‬يصير لها من التأثير وسرعة النقياد ما يناسب‬
‫مقتضى الحال ; فالموعظة بيان الحكام مع ذكر ما يقترن بها من الترغيب‬
‫في ذكر مصالحها ومنافعها وخيراتها الحاملة عليها ‪ ،‬وذكر ما يقترن بها من‬
‫الترهيب على فاعل المحرمات أو تارك الواجبات من العقوبات والخسران‬
‫والحسرات وحرمان الخير العاجل والجل ‪.‬‬
‫" والمجادلة بالتي هي أحسن " بالعبارات الواضحة والبراهين البينة التي تحق‬
‫الحق وتبطل الباطل ‪ ،‬مع الرفق واللين وعدم المغاضبة والمشاتمة ‪.‬‬

‫) ‪(2/104‬‬

‫وقد علم الله مع ذلك أن الناس ثلثة أقسام ‪ ،‬كل يدعى بالطريق التي‬
‫تناسبه ‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬المنقادون الملتزمون الراغبون في الخير ‪ ،‬الراهبون من الشر‬
‫‪ ،‬فهؤلء لما عندهم من الستعداد لفعل المأمورات وترك المنهيات ‪،‬‬
‫والشتياق إلى العتقاد الصحيح ‪ ،‬فقط يكتفى ببيان المور الدينية لهم‬
‫والتعليم المحض ‪.‬‬
‫والقسم الثاني ‪ :‬الذين عندهم غفلة وإعراض واشتغال بأمور صاّدة عن‬
‫الحق ‪ ،‬فهؤلء مع هذا التعليم يدعون بالموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب ؛‬
‫لن النفوس ل تلتفت إلى منافعها ‪ ،‬ول تترك أغراضها الصاّدة لها عن الحق‬
‫علما وعمل إل مع البيان لها أن ترغب وترهب بذكر ما يترتب على الحق من‬
‫المنافع وعلى الباطل من المضار ‪ ،‬والموازنة بين المور النافعة والضارة ‪.‬‬
‫) ‪(2/105‬‬

‫والقسم الثالث ‪ :‬المعارضون أو المعاندون المكابرون ‪ ،‬المتصدون لمقاومة‬


‫الحق ونصرة الباطل ‪ ،‬فهؤلء ل بد أن يسلك معهم طريق المجادلة بالتي هي‬
‫أحسن بحسب ما يليق بالمجاِدل والمجاَدل وبتلك المقالة وما يقترن بها ‪ ،‬وإذا‬
‫أردت تطبيق هذه المور الثلثة تماما فانظر إلى دعوات الرسل صلوات الله‬
‫وسلمه عليهم التي حكاها في كتابه مع أممهم المستجيبين ‪ ،‬والمعرضين‬
‫والمعارضين ‪ ،‬تجدها محتوية على غاية الحسن في كل أحوالها ‪.‬‬
‫ثم انظر إلى دعوة سيدهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬وما سلك‬
‫من الطرق المتنوعة في دعاية الخلق عموما وخصوصا على اختلف طبقاتهم‬
‫ومنازلهم وبحسب أحوالهم ‪ ،‬وبحسب القوال والحكام التي يدعو إليها ‪،‬‬
‫تجد ْه ُ قد فاق في ذلك الولين والخرين ‪ ،‬والثار أكبر دليل على قوة المؤثر ‪.‬‬
‫وجعل الله السبب لفصل الخصام المرضي للمتشاجرين المنصفين في جميع‬
‫المقالت ‪ ،‬الذي هو خير في الحال ‪ ،‬وأحسن في المآل ‪ ،‬ردها إلى كتاب الله‬
‫وسنة رسوله ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬

‫) ‪(2/106‬‬

‫ن ِبالل ّهِ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬


‫مُنو َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ل إِ ْ‬
‫سو ِ‬ ‫يٍء فَُرّدوهُ إ َِلى الل ّهِ َوالّر ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ن ت ََناَزعْت ُ ْ‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ت َأِويل { ]النساء ‪. [59 :‬‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬ ‫خي ٌْر وَأ ْ‬ ‫َ‬
‫خرِ ذ َل ِك َ‬ ‫َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫ْ‬
‫وجعل الله صلة ما أمر به أن يوصل من البر ‪ ،‬وصلة الرحام ‪ ،‬والقيام بحق‬
‫من له حق عليك سببا ُتنال به مكارم الخلق ‪ ،‬ويتبوأ به المنازل العالية في‬
‫جنات النعيم ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سوَء‬ ‫َ ُ‬ ‫ن‬ ‫فو‬‫ُ‬ ‫خا‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫ََ ْ ْ َ َ ُّ ْ ََ َ‬‫ر‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫خ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ص‬
‫ن ُ َ‬
‫يو‬ ‫ه ب ِهِ أ ْ‬ ‫مَر الل ّ ُ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ن َ‬ ‫صُلو َ‬ ‫ن يَ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫خُلون ََها { ]الرعد ‪. [23 - 21 :‬‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬
‫ت عَد ْ ٍ‬ ‫جّنا ُ‬
‫ب { ]إلى قوله ‪َ } [:‬‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫وجعل الله السوابق الحميدة للعبد وتعرفه لربه في حال الرخاء سببا للنجاة‬
‫من الشدائد ‪ ،‬وحصول أعظم الفوائد ‪ ،‬شاهده قوله تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫ن{‬ ‫ث ِفي ب َط ْن ِهِ إ َِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ‬ ‫ن {} ل َل َب ِ َ‬ ‫حي َ‬ ‫سب ّ ِ‬‫م َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫} فَل َوَْل أن ّ ُ‬
‫]الصافات ‪ 143 :‬و ‪. [144‬‬
‫وقول أهل الجنة فيها ‪:‬‬

‫) ‪(2/107‬‬

‫ه عَل َي َْنا وَوََقاَنا عَ َ‬ ‫َ‬


‫موم ِ {}‬‫س ُ‬
‫ب ال ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫م ّ‬ ‫ن {} فَ َ‬ ‫قي َ‬ ‫ف ِ‬
‫ش ِ‬‫م ْ‬ ‫ل ِفي أهْل َِنا ُ‬ ‫} إ ِّنا ك ُّنا قَب ْ ُ‬
‫م { ]الطور ‪. [28 - 26 :‬‬ ‫حي ُ‬‫ه هُوَ ال ْب َّر الّر ِ‬ ‫عوه ُ إ ِن ّ ُ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬
‫ل ن َد ْ ُ‬ ‫إ ِّنا ك ُّنا ِ‬
‫م ْ‬
‫وجعل الله لشرح الصدر ونعيمه وطمأنينته أسبابا متعددة ‪ :‬اليقين واليمان‬
‫والكثار من ذكر الله وقوة النابة إليه ‪ ،‬والقناعة بما أعطى من الرزق ‪،‬‬
‫وحصول العلم النافع ‪ ،‬وترك الذنوب والمبادرة بالتوبة مما وقع منها ‪،‬‬
‫وشواهد هذا كثيرة ‪ ،‬منها قوله تعالى ‪:‬‬
‫َ‬
‫ب{‬ ‫قُلو ُ‬
‫ن ال ْ ُ‬ ‫م ب ِذِك ْرِ الل ّهِ أَل ب ِذِك ْرِ الل ّهِ ت َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫ن قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫مُنوا وَت َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ال ّ ِ‬
‫]الرعد ‪. [28 :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّهِ { ]الزمر ‪. [22 :‬‬ ‫سلم ِ فَهُوَ عَلى ُنورٍ ِ‬
‫م ْ‬ ‫صد َْره ُ ل ِل ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ح الل ُ‬ ‫شَر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫} أفَ َ‬
‫في ن َِعيم ٍ { ]النفطار ‪. [13 :‬‬ ‫ن اْل َب َْراَر ل َ ِ‬
‫} إِ ّ‬
‫وشمول هذا النعيم لنعيم القلوب في الدنيا ظاهر ‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫م‬
‫جزِي َن ّهُ ْ‬
‫ة وَلن َ ْ‬
‫حَياة ً طي ّب َ ً‬
‫ه َ‬ ‫ن فَل َن ُ ْ‬
‫حي ِي َن ّ ُ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫م ٌ‬ ‫ن ذ َك َرٍ أوْ أن َْثى وَهُوَ ُ‬
‫م ْ‬‫حا ِ‬
‫صال ِ ً‬
‫ل َ‬ ‫م َ‬
‫ن عَ ِ‬ ‫م‬
‫} َ‬
‫ن { ]النحل ‪. [97 :‬‬ ‫ُ‬
‫لو‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫نوا‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫أ َجره ْم بأ َ‬
‫َ‬ ‫ُ َْ َ‬ ‫ْ َ ُ ْ ِ ْ َ ِ َ‬

‫) ‪(2/108‬‬

‫مئ ِذٍ‬‫م ي َوْ َ‬


‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ن {} ك َّل إ ِن ّهُ ْ‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬
‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫ن عََلى قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫} ك َّل ب َ ْ‬
‫ل َرا َ‬
‫ن { ]المطففين ‪ 14 :‬و ‪. [15‬‬ ‫جوُبو َ‬ ‫ح ُ‬‫م ْ‬ ‫لَ َ‬
‫وجعل الله ضرب المثال في كتابه طريقا عظيما من طرق التعليم الذي‬
‫تتبين وتتوضح به المطالب العالية والعقائد الصحيحة والفاسدة ‪ ،‬كما مثل‬
‫كلمة التوحيد والعقيدة الحقة الصحيحة ‪:‬‬
‫َ‬
‫ت { ]في قلب المؤمن[ } وَفَْرعَُها { ]من العمال‬ ‫صل َُها َثاب ِ ٌ‬
‫جَرةٍ ط َي ّب َةٍ أ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫} كَ َ‬
‫ماِء {} ت ُؤِْتي أك ُل ََها { ]أي ‪ :‬منافعها[ } ك ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ن ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫ن‬ ‫حي ٍ‬‫ل ِ‬ ‫س َ‬ ‫والخلق[ } ِفي ال ّ‬
‫َرب َّها { ]إبراهيم ‪ 24 :‬و ‪. [25‬‬
‫ومثل ضد ذلك بالشجرة الخبيثة التي ل لها أصل ثابت ول فرع نافع ‪ ،‬ومثل‬
‫المشرك بربه كالعبد الذي يتنازعه شركاء متشاكسون ‪ ،‬والموحد المخلص‬
‫لله السالم من تعلقه بغيره‪.‬‬
‫وكذلك مّثل الشرك والمشرك واتخاذه وليا من دون الله يتعزز به وينتصر ‪} :‬‬
‫خذ َت بيتا وإ َ‬
‫ت { ]العنكبوت ‪:‬‬ ‫ت ال ْعَن ْك َُبو ِ‬ ‫ت ل َب َي ْ ُ‬
‫ن ال ْب ُُيو ِ‬‫ن أوْهَ َ‬ ‫ت ات ّ َ ْ َ ْ ً َ ِ ّ‬ ‫ل ال ْعَن ْك َُبو ِ‬ ‫كَ َ‬
‫مث َ ِ‬
‫‪. [41‬‬

‫) ‪(2/109‬‬

‫ومثل وحيه بمنزلة الغيث النافع ‪ ،‬وقلوب الخلق بمنزلة الراضي الطيبة‬
‫القابلة والخبيثة ‪ ،‬وبّين ذلك ‪ ،‬وهي أمثلة محسوسة يوضح الله بها المطالب‬
‫قسم تعالى على أصول الدين التي يجب على الخلق اليمان‬ ‫النافعة ‪ ،‬وهو ي ُ ْ‬
‫بها ‪ :‬كالتوحيد والرسالة والمعاد ‪ ،‬وما يتفرع عنها ‪ ،‬وضرب المثال من‬
‫تصريف الله اليات لعباده بأعلى أساليب الكلم المؤثرة الموضحة للحقائق ‪،‬‬
‫ث الله عليها ‪ ،‬ومدح من‬ ‫فتأمل إقسامات القرآن تجدها كذلك ‪ ،‬ولذلك ح ّ‬
‫يتفكر فيها ويعقلها فقال ‪:‬‬
‫} وت ِل ْ َ َ‬
‫ن { ]الحشر ‪. [21 :‬‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫س ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م ي َت َ َ‬ ‫ضرِب َُها ِللّنا ِ‬‫ل نَ ْ‬ ‫ك اْل ْ‬
‫مَثا ُ‬ ‫َ‬
‫وفي الية الخرى ‪:‬‬
‫ن { ]العنكبوت ‪. [43 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫قل َُها إ ِّل ال َْعال ِ ُ‬
‫ما ي َعْ ِ‬
‫} وَ َ‬
‫فصل في ذكر حدود ألفاظ كثر مرورها في القرآن أمرا بها أو نهيا عنها أو‬
‫مدحا لها أو ذما لها‬

‫) ‪(2/110‬‬

‫م من جهلها ‪،‬‬‫فالله تعالى أثنى على من عرف حدود ما أنزل على رسوله ‪ ،‬وذ َ ّ‬
‫وهذه ألفاظ جليلة يتعين على طالب العلم معرفة حدودها ؛ ليعرف ما يدخل‬
‫فيها وما يخرج منها ‪ ،‬وتتفق اللفاظ المأمور بها في كثير من المور ‪ ،‬وقد‬
‫يكون بينها فروق ‪ ،‬وكذلك المنهيات ‪ ،‬وهذا من إحكام القرآن ‪ ،‬وأنه يصدق‬
‫بعضه بعضا ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫خت ِلفا كِثيًرا { ]النساء ‪. [82 :‬‬
‫دوا ِفيهِ ا ْ‬
‫ج ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫عن ْد ِ غي ْرِ اللهِ لوَ َ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫} وَل َوْ َ‬
‫كا َ‬
‫السلم واليمان ‪ :‬أما السلم فهو استسلم القلب لله وإنابته ‪ ،‬والقيام‬
‫بالشرائع الظاهرة والباطنة ‪ ،‬وأما اليمان فهو التصديق التام والعتراف‬
‫بأصوله التي أمر الله باليمان بها ‪ ،‬ول يتم ذلك إل بالقيام بأعمال القلوب‬
‫وأعمال الجوارح ‪ ،‬ولهذا سمى الله كثيرا من الشرائع الظاهرة والباطنة إيمانا‬
‫‪ ،‬وبعض اليات يذكر أنها من لوازم اليمان فعلى هذا ‪:‬‬
‫اليمان عند الطلق يدخل فيه السلم ‪ ،‬وكذلك بالعكس ‪ ،‬وإذا جمع بين‬
‫اليمان والسلم فسر اليمان بما في القلب من التصديق والعتراف وما يتبع‬
‫ذلك ‪ ،‬وفسر السلم بالقيام بعبودية الله كلها ‪ ،‬الظاهرة والباطنة ‪.‬‬

‫) ‪(2/111‬‬

‫الحسان قسمان ‪ :‬إحسان في عبادة الخالق ‪ ،‬وهو بذل الجهد في إكمالها‬


‫وإتقانها والقيام بحقوقها الظاهرة والباطنة ‪ ،‬وإحسان إلى المخلوقين بإيصال‬
‫جميع ما يستطيعه العبد من نفع علمي وبدني ومالي للخلق ‪ ،‬ونصيحة دينية‬
‫أو دنيوية ومساعدة وحض على الخير ; ولهذا كان المحسنون يتفاوتون تفاوتا‬
‫عظيما بحسب قيامهم بالحسان المتنوع إلى الخلق ‪ ،‬بّرهم وفاجرهم ‪ ،‬حتى‬
‫الحيوان البهيم ‪ ،‬كما قال صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬إن الله كتب الحسان‬
‫على كل شيء « الحديث ‪.‬‬
‫الهدى والهداية ‪ :‬نوعان ‪ :‬هداية العلم والرشاد والتعليم ‪ ،‬وهداية التوفيق‬
‫وجعل الهدى في القلب ‪ ،‬وهذان يطلبان من الله تعالى ‪ ،‬إما على وجه‬
‫الطلق كقول العبد ‪ :‬اللهم اهدني ‪ ،‬أو اللهم إني أسألك الهدى ‪ ،‬وإما على‬
‫وجه التقييد بطريقها النافع كقول المصّلي ‪ :‬اهدنا الصراط المستقيم ‪ ،‬ومن‬
‫حصلت له الهداية سمي مهتديا ‪ ،‬وأعظم ما تحصل به الهداية القرآن ‪ ،‬ولهذا‬
‫سماه الله هدى مطلقا ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫ن { ]البقرة ‪. [2 :‬‬ ‫قي َ‬ ‫دى ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫} هُ ً‬
‫م { ]السراء ‪. [9 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ن هَ َ‬
‫ي أقوَ ُ‬‫دي ل ِلِتي هِ َ‬
‫ن ي َهْ ِ‬
‫قْرآ َ‬
‫ذا ال ُ‬ ‫وقال ‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ويشمل جميع المور الدينية والدنيوية النافعة ‪.‬‬

‫) ‪(2/112‬‬

‫العلم واليقين ‪ :‬فالعلم هو تصور المعلومات على ما هي عليه ‪ ،‬ولهذا يقال ‪:‬‬
‫العلم ما قام عليه الدليل ‪ ،‬والعلم النافع ‪ :‬ما كان مأخوذا عن الرسول ‪،‬‬
‫واليقين أخص من العلم بأمرين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أنه العلم الراسخ القوي الذي ليس عرضة للريب والشك والموانع ‪،‬‬
‫ويكون علم يقين إذا ثبت بالخبر ‪ ،‬وعين يقين إذا شاهدته العين والبصر ‪،‬‬
‫ولهذا يقال ‪ :‬ليس الخبر كالمعاينة ‪ ،‬وحق يقين إذا ذاقه العبد وتحقق به ‪.‬‬
‫المر الثاني ‪ :‬أن اليقين هو العلم الذي يحمل صاحبه على الطمأنينة بخبر الله‬
‫‪ ،‬والطمأنينة بذكر الله ‪ ،‬والصبر على المكاره ‪ ،‬والقوة في أمر الله ‪،‬‬
‫والشجاعة القولية والفعلية ‪ ،‬والستحلء للطاعات ‪ ،‬وأن يهون على العبد في‬
‫ذات الله المشقات وتحمل الكريهات ‪ ،‬فهذه الثار الجميلة ‪ -‬التي هي أعلى‬
‫وأحلى من كل شيء ‪ -‬من آثار اليقين ‪.‬‬
‫الصبر ‪ :‬حبس النفس على المشقات طلبا لرضا الله ‪ ،‬وينقسم إلى ثلثة‬
‫أقسام ‪:‬‬

‫) ‪(2/113‬‬

‫صبر على طاعة الله ‪ ،‬وخصوصا الطاعات الشاقة حتى يؤديها على وجه‬
‫الكمال ‪ ،‬وصبر عن معصية الله ‪ ،‬خصوصا المعصية التي تدعو النفس إليها‬
‫دعاء قويا ‪ ،‬حتى يجاهد نفسه فيتركها لله ‪ ،‬وصبر على أقدار الله المؤلمة ‪،‬‬
‫خصوصا إذا عظمت المصيبة حتى ل يتسخطها ‪ ،‬وربما وصلت به الحال إلى‬
‫الرضا عن الله ‪.‬‬
‫الشكر لله ‪ :‬هو العتراف بنعم الله الظاهرة والباطنة ‪ ،‬العامة والخاصة ‪،‬‬
‫والتحدث بها ‪ ،‬والستعانة بها على طاعة المنعم دون معصيته ‪ ،‬ول بد أن‬
‫يقترن هذا بالخضوع للمنعم ومحبته ‪ ،‬فبهذه الركان الخمسة يكون الشكر‬
‫تاما ‪.‬‬
‫البر والتقوى لله ‪ :‬إذا أطلق أحدهما دخل فيه الخر ‪ ،‬فإنه اسم جامع للقيام‬
‫بكل ما يحبه الله ورسوله ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وترك ما يكرهه الله ورسوله ظاهرا‬
‫وى { ]المائدة ‪[2 :‬‬ ‫وباطنا ‪ ،‬وإذا جمع بينهما نحو ‪ } :‬وَت ََعاوَُنوا عََلى ال ْب ِّر َوالت ّ ْ‬
‫ق َ‬
‫فسر البر بالقيام بعقائد اليمان وأخلقه ‪ ،‬وأعمال البر كلها القاصرة‬
‫والمتعدية ‪ ،‬وفسرت التقوى باتقاء ما يسخط الله من الكفر والفسوق‬
‫والعصيان ‪.‬‬
‫الصدق والكذب ‪ :‬الصدق هو استواء الظاهر والباطن على الستقامة على‬
‫الصراط المستقيم ‪.‬‬

‫) ‪(2/114‬‬

‫فالصدق في العقائد ‪ :‬أن تكون عقيدة العبد صادقة سلفية متلقاة عن كتاب‬
‫الله ‪ ،‬وسنة رسوله ‪ ،‬وما كان عليه الصحابة ‪.‬‬
‫والصدق في الخلق ‪ :‬أن يكون القلب ملنا من اليمان والخلص والرغبة ‪،‬‬
‫والنصيحة لعباد الله ‪ ،‬ومحبة الخير لهم ‪.‬‬
‫والصدق في القوال ‪ :‬أن يكون قائل للصدق مصدقا به ‪.‬‬
‫والصدق في العمال ‪ :‬الجتهاد في تكميلها وإتقانها ‪.‬‬
‫والكذب ما ناقض ذلك كله ‪ ،‬ولذلك كان الصدق والكذب مراتب ‪ ،‬ول يزال‬
‫ديقا ‪ ،‬ول يزال العبد‬
‫العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله ص ّ‬
‫يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ‪.‬‬
‫العدل والظلم ‪ :‬العدل ‪ :‬هو سلوك الطريق المستقيم المعتدل في العقائد‬
‫والخلق والقوال والفعال كما يقال في الصدق ‪ ،‬والظلم ‪ :‬ما ناقض ذلك ‪،‬‬
‫ولهذا انقسم الظلم إلى ثلثة أقسام كلها منافية للعدل ‪ :‬الظلم في التوحيد‬
‫بالشراك بالله ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫م { ]لقمان ‪. [13 :‬‬‫ظي ٌ‬ ‫ك ل َظ ُل ْ ٌ‬
‫م عَ ِ‬ ‫شْر َ‬
‫ن ال ّ‬
‫} إِ ّ‬

‫) ‪(2/115‬‬
‫وظلم الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم ‪ ،‬وظلم العبد نفسه‬
‫فيما دون الشرك ‪ ،‬ول يتم للعبد العدل الكامل حتى يدع جميع هذه القسام ‪،‬‬
‫ويتوب إلى ربه مما وقع معه ‪ ،‬ويخرج من حق العباد إليهم ‪ ،‬ولهذا كان القيام‬
‫بالدين كله من العدل والقسط ‪.‬‬
‫" العبادة والعبودية لله " ‪ :‬اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد‬
‫وأعمال القلوب وأعمال الجوارح ‪ ،‬فكل ما يقرب إلى الله من الفعال‬
‫والتروك فهو عبادة ; ولهذا كان تارك المعصية لله متعبدا متقربا إلى ربه‬
‫بذلك ‪ ،‬ول تتم العبادة إل بالخلص ‪ " :‬الخلص لله وحده " ‪ :‬بأن يقصد العبد‬
‫وجه الله ورضاه وثوابه في أعماله الظاهرة والباطنة ‪ ،‬وضده العمل للرياء‬
‫والسمعة ‪ ،‬ولجل عرض الدنيا ‪ ،‬وميزان هذا قوله تعالى عن خيار الخلق ‪:‬‬
‫واًنا { ]المائدة ‪. [2 :‬‬
‫ض َ‬
‫م وَرِ ْ‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫ضًل ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن فَ ْ‬
‫} ي َب ْت َُغو َ‬

‫) ‪(2/116‬‬

‫وقوله صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬إنما العمال بالنيات ‪ ،‬وإنما لكل امرئ ما‬
‫نوى ‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ‪ ،‬ومن‬
‫كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه « ‪،‬‬
‫وجميع العمال على هذا النمط ‪ ،‬وقد يراد بالهجرة هنا الهجرة العامة التي‬
‫قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم ‪ » :‬والمهاجر من هجر ما نهى الله‬
‫ورسوله عنه « ‪.‬‬
‫" الخوف والخشية والخضوع والخبات والوجل " ‪ :‬معانيها متقاربة ‪ ،‬فالخوف‬
‫يمنع العبد عن محارم الله ‪ ،‬وتشاركه الخشية في ذلك وتزيد أن خوفه‬
‫مقرون بمعرفة الله ‪ ،‬وأما الخضوع والخبات والوجل ‪ :‬فإنها تنشأ عن الخوف‬
‫والخشية لله ‪ ،‬فيخضع العبد لله ويخبت إلى ربه منيبا إليه بقلبه ويحدث له‬
‫الوجل ‪ ،‬وأما الخشوع فهو حضور القلب وقت تلبسه بطاعة الله وسكون‬
‫ظاهره وباطنه ‪ ،‬فهذا خشوع خاص ‪ ،‬وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف‬
‫خواص المؤمنين فينشأ من كمال معرفة العبد بربه ومراقبته ‪ ،‬فيستولي ذلك‬
‫على القلب كما تستولي المحبة ‪.‬‬
‫" القنوت " ‪ :‬ورد في القرآن على أحد معنيين ‪ :‬معنى خاص بمعنى‬
‫الخشوع ‪ ،‬ومعنى عام وهو قنوت المخلوقات كلها لخلق الله وتدبيره‬
‫وتصريفه ‪.‬‬

‫) ‪(2/117‬‬

‫" الذكر لله " ‪ :‬الذي ورد في القرآن المر به والثناء على أهله ‪ ،‬وما رتب‬
‫عليه من الجزاء يطلق على جميع الطاعات الظاهرة والباطنة ‪ ،‬القولية‬
‫والفعلية ‪ ،‬فك ّ‬
‫ل ما تصوره القلب أو أراده أو فعله العبد أو تكلم به مما يقرب‬
‫إلى الله فهو ذكر الله ‪ ،‬والله تعالى شرع العبادات كلها لقامة ذكره ‪ ،‬فهي‬
‫ذكر الله ‪ ،‬ويطلق على ذكر الله باللسان بذكر أوصافه وأفعاله والثناء عليه‬
‫بنعمه وتسبيحه وتكبيره وتحميده والتهليل والصلة على النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ومن ذكره ذكر أحكامه تعلمها وتعليمها ‪ ،‬ولهذا مجالس التعلم‬
‫والتعليم يقال لها مجالس الذكر ‪ ،‬وأفضل أنواع الذكر ما تواطأ عليه القلب‬
‫واللسان ‪.‬‬
‫دود ُ‬
‫ح ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫دود ُ اللهِ { ‪ :‬يراد بها ما حرمه ومنعه عباده ‪ ،‬فيقال فيها ‪ } :‬ت ِلك ُ‬ ‫ّ‬ ‫ح ُ‬
‫} ُ‬
‫ها { ‪ ،‬ويراد بها كذلك ما أباحه وأحله لعباده وقدره وفرضه ‪،‬‬ ‫بو‬ ‫ر‬
‫َ َ ُ َ‬‫ْ‬ ‫ق‬‫ت‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫الل ّهِ‬
‫ها { ]البقرة ‪ [229 :‬أي ‪ :‬ل تجاوزوا‬ ‫دود ُ الل ّهِ فََل ت َعْت َ ُ‬
‫دو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫فيقال فيها ‪ } :‬ت ِل ْ َ‬
‫ك ُ‬
‫ما أحل الله إلى ما حرم الله ‪ ،‬ول تتجاوزوا ما قدره الله للعباد إلى ما يخالف‬
‫تقديره ‪.‬‬

‫) ‪(2/118‬‬

‫" المانة " ‪ :‬هي المور التي يؤتمن عليها العبد ‪ ،‬فيشمل المانة التي بينه‬
‫وبين الله ‪ ،‬فإنه ائتمن عبده على إقامة الواجبات وترك المحرمات ‪ ،‬فالقيام‬
‫بذلك أداء للمانة ومراعاة لها ‪ ،‬وترك بعض الواجبات وخصوصا السرية التي‬
‫ل يطلع عليها إل الله ‪ ،‬أو التجرؤ على بعض المحرمات ترك للمانة واتصاف‬
‫بالخيانة ‪ ،‬ويشمل أيضا المانات التي بينك وبين الخلق في الدماء والموال‬
‫والحقوق ‪ ،‬فمن قام بها فقد أدى المانة وحفظها ‪ ،‬ومن تعدى فيها أو فرط‬
‫أو خان فقد تجرأ على الخيانة ‪.‬‬
‫" العهد والعقد " ‪ :‬يشمل العهود والعقود التي بين العبد وبين ربه ‪ ،‬فإن الله‬
‫عقد بينه وبين المكلفين عقدا ‪ ،‬وعاهدهم عهدا بإقامة ما خلقوا له من عبادته‬
‫‪ ،‬والقيام بحقوقه ‪ ،‬فإقامة ذلك وفاء لهذا العقد والعهد ‪ ،‬وإهماله نقض للعهد‬
‫والعقد والثقة ‪ ،‬وكذلك العهود والعقود التي بينه وبين الخلق يتعين الوفاء‬
‫بها ‪ ،‬ويشمل ذلك عقود المعاملت كلها من دون استثناء ‪.‬‬

‫) ‪(2/119‬‬

‫جبن والتهور " ‪ :‬أثنى الله في كتابه على الشجاعة ‪ ،‬ومدح‬ ‫" الشجاعة وال ُ‬
‫أهلها ‪ ،‬وأمر بها ‪ ،‬وذم الجبن والتهور ‪ ،‬فالشجاعة قوة القلب وثباته وإقدامه‬
‫على القوال والفعال في موضع القدام بحكمة وحنكة ‪ ،‬فإن أقدم عليها في‬
‫حال ل يحل له القدام قيل لذلك ‪ :‬تهور وجراءة وحمق وإلقاء بالنفس إلى‬
‫جبن فهو ضد الشجاعة ضعف القلب وخوره ‪ ،‬ويتبع ذلك خور‬ ‫التهلكة ‪ ،‬وأما ال ُ‬
‫العمال والخوف مما ل يخاف ‪ ،‬وهيبة من ل يهاب ‪ ،‬فالشجاعة خلق فاضل‬
‫جليل بين خلقين ذميمين رذيلين ‪ :‬بين التهور ‪ ،‬الذي هو غلو وزيادة عن‬
‫الحد ‪ ،‬وبين الجبن ‪ ،‬الذي هو تفريط وتقصير وضعف وخور ‪ ،‬ونظير ذلك‬
‫) القوام والبخل والتبذير ( في تصريف الموال ‪ ،‬بذلها فيما ينبغي من واجب‬
‫ومستحب ونافع على الوجه الذي ينبغي ‪ ،‬يقال لذلك ‪ :‬قوام واعتدال وتوسط‬
‫واقتصاد ‪ ،‬فإن منع الواجبات فهو البخل ‪ ،‬وصاحبه بخيل ‪ ،‬وإن أسرف وزاد‬
‫ن إ َِذا‬ ‫في النفقة عما ينبغي قيل لذلك ‪ :‬إسراف وتبذير ‪ ،‬قال تعالى ‪َ } :‬وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ما { ]الفرقان ‪. [67 :‬‬ ‫وا ً‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك قَ َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬ ‫قت ُُروا وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫سرُِفوا وَل َ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫قوا ل َ ْ‬
‫م يُ ْ‬ ‫أ َن ْ َ‬
‫ف ُ‬

‫) ‪(2/120‬‬
‫" الستقامة " ‪ :‬هي لزوم الصراط المستقيم بأن يستقيم العبد على اليمان‬
‫بالله ‪ ،‬وأداء فرائضه ‪ ،‬وترك محارمه ‪ ،‬مداوما لذلك ‪ ،‬تائبا مما أخل به من‬
‫حقوقها ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫موا إ ِل َي ْهِ َوا ْ َ ْ ِ‬
‫فُروه ُ { ]فصلت ‪. [6 :‬‬ ‫غ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫قي ُ‬ ‫} َفا ْ‬
‫ست َ ِ‬
‫أي ‪ :‬مما وقع منكم من الخلل في الستقامة ‪.‬‬
‫" التوبة والستغفار " ‪ :‬أما التوبة فهي الرجوع إلى الله مما يكرهه الله‬
‫ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه الله ظاهرا وباطنا ؛ ندما على ما مضى ‪ ،‬وتركا في‬
‫الحال ‪ ،‬وعزما على أن ل يعود ‪ ،‬والستغفار ‪ :‬طلب المغفرة من الله ‪ ،‬فإن‬
‫اقترن به توبة فهو الستغفار الكامل الذي رتبت عليه المغفرة ‪ ،‬وإن لم‬
‫تقترن به التوبة فهو دعاء من العبد لربه أن يغفر له ‪ ،‬فقد يجاب دعاؤه وقد ل‬
‫يجاب ‪ ،‬وهو بنفسه عبادة من العبادات ‪ ،‬فهو دعاء عبادة ودعاء مسألة ‪.‬‬
‫" التوكل على الله والستعانة به " ‪ :‬بمعنى واحد هو اعتماد القلب على الله‬
‫في جلب المنافع ودفع المضار الدينية والدنيوية ‪ ،‬الخاصة والعامة ‪ ،‬مع الثقة‬
‫بالله في ذلك المطلوب ‪.‬‬

‫) ‪(2/121‬‬

‫" المحبة لله والنابة إلى الله " ‪ :‬هي قوة الود لله لكماله ونعمه الظاهرة‬
‫والباطنة ‪ ،‬وانجذاب القلب إلى الله تألها ورغبة ورهبة في كل المطالب ‪،‬‬
‫وطمأنينة القلب بذكره واللهج بدعائه ‪ ،‬والرجوع إليه في المور الدينية‬
‫والدنيوية الجليلة والحقيرة ‪ ،‬فمن كان قلبه منيبا إلى الله فهو محب لله ‪،‬‬
‫جاع إلى الله الّواب إليه ‪.‬‬‫والمنيب هو الّواه الر ّ‬
‫" المعروف والمنكر " ‪ :‬متقابلن ‪ ،‬فالمعروف اسم جامع لكل ما عرف حسنه‬
‫شرعا وعقل ‪ ،‬والمنكر ضده ‪.‬‬
‫" الخبيث والطيب " ‪ :‬متقابلن ‪ ،‬فالطيب ما كان طيب الصفات كثير‬
‫المنافع ‪ ،‬والخبيث بالعكس ‪.‬‬
‫خلقه ‪ ،‬فحسن الخلق مع‬ ‫خُلق " ‪ :‬يكون مع الله ومع َ‬ ‫خُلق وسوء ال ُ‬ ‫حسن ال ُ‬
‫" ُ‬
‫الله القيام بعبوديته ظاهرا وباطنا ‪ ،‬مع قوة محبته والطمأنينة إليه ‪ ،‬واللهج‬
‫بذكره وقوة الثقة به ‪ ،‬ومع الخلق بذل الحسان لهم ومنع الذى لهم واحتمال‬
‫الذى منهم ‪ ،‬وسوء الخلق بعكس ذلك كله ‪.‬‬

‫) ‪(2/122‬‬

‫" الشرك والكفر " ‪ :‬الكفر أعم من الشرك ‪ ،‬فمن جحد ما جاء به الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم أو جحد بعضه بل تأويل فهو الكافر من أي دين يكون ‪،‬‬
‫سواء كان صاحبه معاندا أو جاهل ضال ‪ ،‬والشرك نوعان ‪ :‬شرك في ربوبيته‬
‫كشرك الثنوية الذين يثبتون خالقا مع الله ‪ ،‬وشرك في ألوهيته كشرك سائر‬
‫المشركين الذين يعبدون الله ويعبدون غيره ‪ ،‬ويشركون بينه وبين المخلوقين‬
‫‪ ،‬ويسوونهم في الله في شيء من خصائص إلهيته ‪ ،‬وقد يكون هذا الشرك‬
‫أكبر جليا كأن يصرف العبد نوعا من أنواع العبادة لغير الله ‪ ،‬وقد يكون أصغر‬
‫كوسائل الشرك من الرياء والحلف بغير الله ‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫" النفاق " ‪ :‬هو أن يظهر الخير ويبطن الشر ‪ ،‬وهو نوعان ‪ :‬نفاق أكبر كأن‬
‫يظهر اليمان بالله ورسوله ‪ ،‬وقلبه منطو على الكفر ‪ ،‬ونفاق أصغر كالكذب‬
‫وإخلف المواعيد والفجور في الخصومة ‪.‬‬
‫" الكبر والتواضع " ‪ :‬فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه بطر الحق‬
‫وغمط الناس ‪ ،‬يعني وضده التواضع للحق ‪ :‬قبوله حيث كان ومع من كان‬
‫ولين الجانب والتواضع للخلق ‪.‬‬

‫) ‪(2/123‬‬

‫فهذه الحدود ينبغي أن تعتبرها في كل ما يمر عليك من نصوص الكتاب‬


‫والسنة ؛ لتهتدي إلى معرفة ما يدخل في المور التي حكم الله عليها‬
‫بالحكام المتنوعة ‪ ،‬وما ل يدخل ‪ ،‬فيحصل لك الفرقان والرشاد والبيان ‪،‬‬
‫فنسأل الله أن يهدينا إلى الصراط المستقيم ‪ ،‬وهو العلم بالحق والعمل به ‪،‬‬
‫ويجنبنا الطرق المخالفة لذلك ‪.‬‬
‫وقد يسر الله تتميم هذا التعليق المبارك في ثالث شوال من شهور سنة‬
‫ثمان وستين بعد الثلثمائة واللف من الهجرة النبوية ‪ ،‬فكان على اختصاره‬
‫وإيجازه ووضوحه فيه معونة عظيمة على فهم كلم رب العالمين ‪ ،‬وأن كلم‬
‫الله كفيل ببيان كل شيء ينتفع به العباد في معاشهم ومعادهم ‪ ،‬وإرشادهم‬
‫إلى كل ما فيه مصالحهم المتنوعة ومنافعهم المتعددة ‪ ،‬وأنه يتعذر الصلح‬
‫والصلح للحوال كلها إل بسلوك الطرق التي أرشد إليها هذا القرآن في‬
‫أصول الدين وفروعه ‪ ،‬وفي الخلق والداب ‪ ،‬وفي المور الداخلية والخارجية‬
‫‪ ،‬والحمد لله الذي جعل كتابه هدى وشفاء ورحمة ونورا ‪ ،‬والحمد لله الذي‬
‫بنعمته تتم الصالحات ‪ ،‬وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم‬
‫بإحسان إلى يوم الدين ‪.‬‬

‫) ‪(2/124‬‬

‫بخط الفقير إلى الله من كافة الوجوه ‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله‬
‫السعدي ‪ ،‬غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين ‪ . .‬آمين ‪.‬‬
‫ووقع الفراغ من نقله من خط المؤلف في سابع من الشهر المذكور والسنة‬
‫المذكورة بقلم الفقير إلى ربه ‪ :‬محمد السليمان العبد العزيز البسام ‪ ،‬غفر‬
‫الله له ولوالديه والمسلمين ‪ . .‬آمين ‪.‬‬

‫) ‪(2/125‬‬

You might also like