Professional Documents
Culture Documents
تفسير القرآن
عبد الرحمن بن ناصر السعدي
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
)اضغط هنا للنتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على النترنت(
) (1/1
أما بعد ،فقد كنت كتبت كتابا في تفسير القرآن مبسوطا مطول ،يمنع
القراء من الستمرار بقراءته ،ويفتر العزم عن نشره ،فأشار علي بعض
العارفين الناصحين أن أكتب كتابا غير مطول ،يحتوي على خلصة ذلك
التفسير ،ونقتصر فيه على الكلم على بعض اليات التي نختارها وننتقيها من
جميع مواضيع علوم القرآن ومقاصده ،فاستعنت الله على العمل على هذا
الرأي الميمون ،لمور كثيرة منها :أنه بذلك يكون متيسرا على المشتغلين ،
معينا للقارئين ،ومنها :أن القرآن العظيم ليس كغيره من الكتب في
الترتيب والتبويب ،لنه بلغ في البلغة نهايتها ،وفي الحسن غايته ،وفي
السلوب البديع ،والتأثير العجيب ما هو أكبر الدلة على أنه كلم الله ،
وتنزيل من حكيم حميد ،فتجده في آية واحدة يجمع بين الوسائل والمقاصد ،
وبين الدليل والمدلول ،وبين الترغيب والترهيب ،وبين العلوم الصولية
والفروعية ،وبين العلوم الدينية والدنيوية والخروية ،وبين الغراض المتعددة
والمقاصد النافعة ،ويعيد المعاني النافعة على العباد ،ليتم علمهم ،وتكمل
هدايتهم ،ويستقيم سيرهم على الصراط المستقيم ،علما وعمل .
) (1/2
فالوقوف على تفسير بعض القرآن يعين أعظم عون على معرفة باقيه ،
والله جعله مثاني تثنى فيه العلوم النافعة ،والمعاني الجليلة الكاملة ،وهذا
من تيسيره تعالى لكتابه ،قال تعالى :
مد ّك ِرٍ { ]القمر . [17 :
ن ُم ْ ن ِللذ ّك ْرِ فَهَ ْ
ل ِ سْرَنا ال ْ ُ
قْرآ َ } وَل َ َ
قد ْ ي َ ّ
ومما يدعو إلى هذا ما تحتوي عليه هذه المقدمة المذكورة بقولنا :
) (1/3
مقدمة
في ذكر أوصاف القرآن العامة الجامعة
قد وصف الله كتابه بأوصاف جليلة عظيمة تنطبق على جميعه ،وتدل أكبر
دللة على أنه الصل والساس لجميع العلوم النافعة ،والفنون المرشدة
لخير الدنيا والخرة :
وصفه بالهدى والرشد ،والفرقان ،وأنه مبين وتبيان لكل شيء ; فهو في
نفسه هدى ،ويهدي الخلق لجميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم ،
ويرشدهم إلى كل طريق نافع ،ويفرق لهم بين الحق والباطل ،والهدى
والضلل ،وبين أهل السعادة والشقاوة بذكر أوصاف الفريقين ،وفيه بيان
الصول والفروع بذكر أدلتها النقلية والعقلية ،فوصفه بهذه الوصاف
المطلقة العامة التي ل يشذ عنها شيء في آيات كثيرة .
) (1/4
وقيد هدايته في بعض اليات بعدة قيود :قيد هدايته بأنه هدى للمؤمنين
المتقين ; لقوم يعقلون ،ويتفكرون ،ولمن قصده الحق ،وهذا بيان منه
تعالى لشرط هدايته ; وهو أن المحل ل بد أن يكون قابل وعامل ،فل بد
لهدايته من عقل وتفكير وتدبر لياته ; فالمعرض الذي ل يتفكر ول يتدبر آياته
ل ينتفع به ،ومن ليس قصده الحق ول غرض له في الرشاد ،بل قصده
فاسد ،وقد وطن نفسه على مقاومته ومعارضته ،ليس له من هدايته نصيب
; فالول حرم هدايته لفقد الشرط ،والثاني لوجود المانع ; فأما من أقبل
عليه ،وتفكر في معانيه وتدبرها بحسن فهم ،وحسن قصد ،وسلم من
الهوى ،فإنه يهتدي به إلى كل مطلوب ،وينال به كل غاية جليلة ومرغوب .
ووصفه بأنه رحمة ،وهي الخير الديني والدنيوي والخروي المترتب على
الهتداء بالقرآن ،فكل من كان أعظم اهتداء به فله من الرحمة والخير
والسعادة والفلح بحسب ذلك .
ووصفه بأنه نور ،وذلك لبيانه وتوضيحه العلوم النافعة ،والمعاني الكاملة ،
وأن به يخرج العبد من جميع الظلمات :ظلمات الجهل والكفر والمعاصي
والشقاء ،إلى نور العلم واليقين واليمان والطاعة والرشاد المتنوع .
) (1/5
ووصفه بأنه شفاء لما في الصدور ،وذلك يشمل جميع أمراض القلوب ; فهو
يوضح أمراض القلوب ويشخصها ،ويرشد العباد إلى كل وسيلة يحصل بها
زوالها وشفاؤها ،فيذكر لهم أمراض الجهل والشكوك والحيرة وأسباب ذلك ،
ويرشدهم إلى قلعها بالعلوم النافعة واليقين الصادق ،وسلوك الطرق
الصحيحة المزيلة لهذه العلل ،ويذكر لهم أمراض الشهوات والغي ،ويبين
لهم أسبابها وعلماتها وآثارها الضارة ،ويذكر لهم ما به تعالج من المواعظ
والتذكر والترغيب والترهيب ،والمقابلة بين المور ،وترجيح ما ترجحت
مصلحته العاجلة والجلة .
ووصفه بأنه كله محكم ،وكله متشابه في الحسن ،وبعضه متشابه من وجه ،
محكم من وجه آخر .
فأما وصفه في عدة آيات أنه كله محكم ،فلبلغته وبيانه التام ،واشتماله
على غاية الحكمة في تنزيل المور منازلها ،ووضعها مواضعها ،وأنه متفق
غير مختلف ،ليس فيه اختلف ول تناقض بوجه من الوجوه .
) (1/6
وأما حسنه فلما فيه من البيان التام لجميع الحقائق ،ولنه بين أحسن
المعاني النافعة في العقائد والخلق والداب والعمال ،فهي في غاية
الحسن لفظا ومعنى ،وآثارها أحسن الثار ،وكل هذه المعاني المثناة في
القرآن يشهد بعضها لبعض في الحسن والكمال ،ويصدق بعضها بعضا .
وأما وصفه بأن منه آيات محكمات هن أم الكتاب ،وأخر متشابهات ،
فالمتشابهات هي التي يقع الشكال في دللتها لسبب من السباب اللفظية
والعبارات المركبة ،فأمر الله بردها إلى المحكمات الواضحة ،بينة المعاني ،
التي هي نص في المراد ; فإذا ردت المتشابهات إلى المحكمات صارت كلها
محكمات ،وزال الشك والشكال ،وحصل البيان للهدى من الضلل .
) (1/7
ووصفه بأنه كله صلح ،ويهدي إلى الصلح ،وإلى أقوم المور وأرشدها
وأنفعها في كل شيء من دون استثناء ،وهذا الوصف المحيط ل يخرج عنه
شيء ،فهو إصلح للعقائد والقلوب ،وللخلق والعمال ،ويهدي إلى كل
صلح ديني ودنيوي بحيث تقوم به المور ،وتعتدل به الحوال ،ويحصل به
الكمال المتنوع من كل وجه بالرشاد إلى كل وسيلة نافعة تؤدي إلى
المقاصد والغايات المطلوبة ،فل سبيل إلى الهداية والصلح والصلح لجميع
المور إل بسلوك الطرق التي أرشد إليها القرآن ،وحث العباد عليها .
فمتى عرفت أن القرآن العظيم موصوف كله بهذه الوصاف التي هي أعلى
الوصاف وأكملها وأتمها وأنفعها للعباد ،وأنه أعيدت فيه هذه المعاني الجليلة
،ومزجت فيه مزجا عجيبا غريبا في كماله وحسنه ،فهمت أن طالب العلم
إذا وقف على تفسير بعض اليات تدرب بها ،وتوسل بها إلى معرفة بقية
اليات .
) (1/8
لهذه السباب وغيرها رأينا أن المصلحة تدعو إلى القتصار على خلصة ذلك
التفسير ; راجين من الرب أن يتم نعمته ،وأن يحصل به المقصود ; ورأينا أن
الحسن أن نذكر كل موضوع على حدته ،لما فيه من التقريب والسهولة
وجمع المعاني التي من فن واحد في موضع واحد ; مع أنه -كما تقدم -ل بد
أن يدخل في آيات الصول كثير من الفروع ،وفي آيات الفروع كثير من
الصول ،ويدخل فيها من الترغيب والترهيب والقصص شيء كثير ; وهذا
المزج العجيب من كمال القرآن وعظم تأثيره ،فإنه كتاب تعليم يزيل
الجهالت المتنوعة ،وكتاب تربية يقوم الخلق والعمال ،فهو يعلم ويقوم
ويهذب ويؤدب بأعلى ما يكون من الطرق ،التي ل يمكن للحكماء والعقلء
أن يقترحوا مثلها ،ول ما يقاربها .
) (1/9
) (1/10
) (1/11
مد ُ ل ِل ّهِ { :الحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال ،وبأفعاله الدائرة
ح ْ} ال ْ َ
بين الفضل والعدل ،المشتملة على الحكمة التامة ; ول بد في تمام حمد
الحامد من اقتران محبة الحامد لربه وخضوعه له ،فالثناء المجرد من محبة
وخضوع ليس حمدا كامل .
ن { :الرب هو المربي جميع العالمين بكل أنواع التربية ،فهو ب ال َْعال َ ِ
مي َ } َر ّ
الذي خلقهم ورزقهم وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة ،وهذه التربية
العامة لجميع الخلق ،برهم وفاجرهم ،بل المكلفون منهم وغيرهم .
وأما التربية الخاصة لنبيائه وأوليائه ،فإنه مع ذلك يربي إيمانهم فيكمله لهم ،
ويدفع عنهم الصوارف والعوائق التي تحول بينهم وبين صلحهم وسعادتهم
البدية ،وتيسيرهم لليسرى وحفظهم من جميع المكاره ،وكما دل ذلك على
انفراد الرب بالخلق والتدبير والهداية وكمال الغنى ،فإنه يدل على تمام فقر
العالمين إليه بكل وجه واعتبار ،فيسأله من في السماوات والرض -بلسان
المقال والحال -جميع حاجاتهم ،ويفزعون إليه في مهماتهم .
) (1/12
) (1/13
ن { أي :نخصك يا ربنا وحدك بالعبادة والستعانة ، ست َِعي ُ ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ
ك نَ ْ } إ ِّيا َ
فل نعبد غيرك ،ول نستعين بسواك ; فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله
ويرضاه من العمال والقوال ،الظاهرة والباطنة ،فهي القيام بعقائد اليمان
وأخلقه وأعماله محبة لله وخضوعا له ،والستعانة هي العتماد على الله في
جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به في حصول ذلك ،وهذا التزام من
العبد بعبودية ربه ،وطلب من ربه أن يعينه على القيام بذلك ،وبذلك يتوسل
إلى السعادة البدية والنجاة من جميع الشرور ،فل سبيل لذلك إل بالقيام
بعبادة الله والستعانة به ،وعلم بذلك شدة افتقار العبد لعبادة الله
والستعانة به .
) (1/14
) (1/15
فهذه السورة على إيجازها قد جمعت علوما جمة ،تضمنت أنواع التوحيد
ن { ،وتوحيد اللوهية ب ال َْعال َ ِ
مي َ الثلثة :توحيد الربوبية يؤخذ من قوله َ } :ر ّ
ن { ،فهو المألوه بعبادته والستعانة به ، ست َِعي ُ
ك نَ ْ ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ من قوله } :إ ِّيا َ
وتوحيد السماء والصفات بأن يثبت لله صفات الكمال كلها التي أثبتها
لنفسه ،وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد دل على ذلك إثبات الحمد لله ; فإن السماء الحسنى والصفات العليا
وأحكامها كلها محامد ومدائح لله تعالى ،وتضمنت إثبات الرسالة في قوله :
م { ،لنه الطريق الذي عليه النبي صلى الله عليه قي َ ست َ ِ
م ْ ط ال ْ ُ
صَرا َ } اهْدَِنا ال ّ
وسلم ،وذلك فرع عن اليمان بنبوته ورسالته ،وتضمنت إثبات الجزاء ،وأنه
ن{. دي ِك ي َوْم ِ ال ّ
مال ِ ِبالعدل ،وذلك مأخوذ من قوله َ } :
وتضمنت إثبات مذهب أهل السنة والجماعة في القدر ،وأن جميع الشياء
بقضاء الله وقدره ،وأن العبد فاعل حقيقة ،ليس مجبورا على أفعاله ،وهذا
ن { ،فلول أن مشيئة العبد مضطر ست َِعي ُ
ك نَ ْك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َيفهم من قوله } :إ ِّيا َ
فيها إلى إعانة ربه وتوفيقه لم يسأل الستعانة .
) (1/16
وتضمنت أصل الخير ومادته ،وهو الخلص الكامل لله في قول العبد :إياك
نعبد وإياك نستعين .
ولما كانت هذه السورة بهذه العظمة والجللة أوجبها الشارع على المكلفين
في كل ركعة من صلتهم فرضا ونفل ; وفيها تعليم الله لعباده كيف يحمدونه
ويثنون عليه ،ويمجدونه بمحامده ،ثم يسألون ربهم جميع مطالبهم .
ففيها دليل على افتقارهم إلى ربهم في المرين :مفتقرين إليه في أن يمل
قلوبهم من محبته ومعرفته ،ومفتقرين إليه في أن يقوم بمصالحهم يوفقهم
لخدمته ،والحمد لله رب العالمين .
َ ُ ما أ ُن ْزِ َ
حاقَ
س َ عي َ
ل وَإ ِ ْ ما ِ
س َ
م وَإ ِ ْ
هي َ
ل عَلى إ ِب َْرا ِ ل عَل َي َْنا وَ َ
ما أن ْزِ َ مّنا ِبالل ّهِ وَ َ } - 2قُ ْ
لآ َ
م َل ن ُ َ ُ َ
ن
فّرقُ ب َي ْ َ ن َرب ّهِ ْ
م ْ
ن ِ
سى َوالن ّب ِّيو َ
عي َ
سى وَ ِ
مو َ
ي ُما أوت ِ َ ط وَ َ ب َواْل ْ
سَبا ِ قو َ وَي َعْ ُ
ن { ]آل عمران . [84 : َ َ
مو َ سل ِ ُ
م ْ ه ُنل ُح ُم وَن َ ْ
من ْهُ ْ
حد ٍ ِ أ َ
) (1/17
هذه الية الكريمة لها شأن كبير ; كان -عليه الصلة والسلم -يقرؤها كثيرا
في الركعة الولى من سنة الصبح ،وقد اشتملت على جميع ما يجب اليمان
به ،فإن اليمان الشرعي هو تصديق القلب التام وإقراره بهذه الصول ،
المتضمن لعمال الجوارح ولعمال القلوب ; وهو بهذا العتبار يدخل فيه
السلم ،وتدخل فيه العمال الصالحة كلها ; فهي إيمان ،وهي من آثار
اليمان ،فإذا أطلق اليمان دخل فيه ما ذكر ،وكذلك إذا أطلق السلم فإنه
يدخل فيه اليمان ،فإذا قرن بين السلم واليمان فسر اليمان بما في
القلب من العقائد الصحيحة والرادات الصالحة ،وفسر السلم بالعمال
الظاهرة .
وكذلك إذا جمع بين اليمان والعمل الصالح ،اليمان لما في الباطن ،والعمل
الصالح هو الظاهر ،ومع إطلق اليمان يدخل فيه العمل الصالح ،كما في
مّنا ِبالل ّهِ { ( . . .إلخ ،أي :قولوا كثير من اليات ; فقوله تعالى } :قُ ْ
لآ َ
ذلك بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم ،وهذا هو القول التام الذي يترتب عليه
الثواب والجزاء ; فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب ليس بإيمان ،
بل هو نفاق ،فكذلك القول الخالي من عمل القلب عديم التأثير قليل الفائدة
.
) (1/18
ل ( إشارة إلى العلن بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها ; إذ وفي قوله ) :قُ ْ
هي أصل الدين وأساسه ،وفي مثل قوله ) :آمنا ( -وما أشبهها من اليات
التي يضاف الفعل فيها إلى ضمير الجمع -إشارة إلى أنه يجب على المة
العتصام بحبل الله جميعا ،والحث على الئتلف ،والنهي عن الفتراق ،وأن
المؤمنين كالجسد الواحد ،عليهم السعي لمصالحهم كلها جميعا ،والتناصح
التام .
وفيه دللة على جواز إضافة النسان إلى نفسه اليمان على وجه التقييد ،
بأن يقول :أنا مؤمن بالله ; كما يقول :آمنت بالله ،بل هذا الخير من أوجب
الواجبات ،كما أمر الله به أمرا حتما ،بخلف قول العبد :أنا مؤمن ،
ونحوه ،فإنه ل يقال إل مقرونا بالمشيئة لما فيه من تزكية النفس ; لن
اليمان المطلق يشمل القيام بالواجبات وترك المحرمات ،فهو كقوله :أنا
متق أو ولي أو من أهل الجنة ،وهذا التفريق هو مذهب محققي أهل السنة
والجماعة .
ّ
مّنا ِباللهِ { أي :بأنه واجب الوجود ،واحد أحد فرد صمد ،متصف فقوله } :آ َ
بكل صفة كمال ،منزه عن كل نقص ،مستحق لفراده بالعبودية كلها ،وهو
يتضمن الخلص التام .
) (1/19
ل عَل َي َْنا { يدخل فيه :اليمان بألفاظ الكتاب والسنة ومعانيهما ، ما أ ُن ْزِ َ } وَ َ
ة { ]النساء ، [113 :
م َ ْ ْ ْ َ َ ّ َ َ
حك َب َوال ِ ه عَلي ْك الك َِتا َ
كما قال تعالى } :وَأن َْزل الل ُ
م { ]النحل . [44 : َ َ
ما ن ُّزل إ ِلي ْهِ ْ س َ ن ِللّنا ِ } وَأ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ
ك الذ ّك َْر ل ِت ُب َي ّ َ
فيدخل في هذا اليمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله :من أسماء الله
وصفاته وأفعاله ،وصفات رسله ،واليوم الخر والغيوب كلها ،واليمان بما
تضمنه الكتاب والسنة أيضا :من الحكام الشرعية :المر والنهي وأحكام
الجزاء ،وغير ذلك .
) (1/20
) (1/21
) (1/22
فهذه الصول المذكورة في هذه الية قد أمر الله بها في كتابه في عدة آيات
من القرآن إجمال وتفصيل ،وأثنى على القائمين بها ،وأخبر بما يترتب عليها
من الخير والثواب ; وأنها تكمل العبد وترقيه في عقائده وأخلقه وآدابه ،
وتجعله عدل معتبرا في معاملته ،وتوجب له خير الدنيا والخرة ،ويحيا بها
الحياة الطيبة في الدارين ،وتجلب له السعادتين ،وتدفع عنه شرور الدنيا
والخرة ،وقد أخبر في هذه السورة أن الرسول والمؤمنين قاموا بهذه
الصول علما وتصديقا وإقرارا ،وعمل ودعوة وهداية وإرشادا ،فكتب أهل
العلم المصنفة في العقائد كلها تفصيل لما في هذه الية الكريمة .
) (1/23
ْ
ما ِفي ه َ م لَ ُة وََل ن َوْ ٌ خذ ُه ُ ِ
سن َ ٌ م َل ت َأ ُ قّيو ُي ال ْ َح ّ ه إ ِّل هُوَ ال ْ َه َل إ ِل َ َ } - 3الل ّ ُ
َْ
نما ب َي ْ َ عن ْد َه ُ إ ِّل ب ِإ ِذ ْن ِهِ ي َعْل َ ُ
م َ فع ُ ِ ش َذي ي َ ْ ن َذا ال ّ ِ م ْض َ ما ِفي الْر ِ ت وَ َماَوا ِ س َال ّ
ه ُ ما َ ّ ْ ن بِ َ ُ َ ْ َ
سي ّ ُسعَ كْر ِ شاَء وَ ِ مهِ إ ِل ب ِ َ عل ِ ن ِ م ْيٍء ِ ش ْ حيطو َ م وَل ي ُ ِفهُ ْ خل َ ما َ م وَ َ
ديهِ ْ أي ْ ِ
ي ال ْعَ ِ َ
م { ]البقرة . [255 : ظي ُ ما وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ فظ ُهُ َ ض وََل ي َُئود ُه ُ ِ
ح ْ ت َواْلْر َ ماَوا ِ س َال ّ
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الية أعظم آيات القرآن على
الطلق ،وأنها تحفظ قارئها من الشياطين والشرور كلها ،لما احتوت عليه
من معاني التوحيد والعظمة ،وسعة صفات الكمال لله تعالى ; فأخبر أنه الله
الذي له جميع معاني اللوهية ،وأنه ل يستحق اللوهية غيره ،فألوهية غيره
وعبادة غيره باطلة ضارة في الحال والمآل ; وعبادته وحده ل شريك له هي
الحق الموصلة إلى كل كمال ; وأنه الحي كامل الحياة ،فمن كمال حياته أنه
السميع البصير القدير ،المحيط علمه بكل شيء ،الكامل من كل وجه .
) (1/24
) (1/25
ومن تمام ملكه أنه ل يشفع عنده أحد إل بإذنه ; فكل الوجهاء والشفعاء عبيد
ل ل ِل ّ ِ
ه له ،مماليك ل يقدمون على الشفاعة لحد حتى يأذن لهم } :قُ ْ
َْ مل ْ ُ
ض { ]الزمر . [44 :
ت َوالْر ِ
ماَوا ِ
س َ
ك ال ّ ميًعا ل َ ُ
ه ُ ج ِ
ة َ
فاعَ ُ ال ّ
ش َ
ول يشفعون إل لمن ارتضاه الله ،ول يرضى إل عمن قام بتوحيده واتباع
رسله ،فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب ،وأسعد الناس
بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال » :ل إله إل الله خالصا من
قلبه « .
) (1/26
ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط ،وأنه يعلم ما بين أيدي الخلئق من المور
م { ]البقرة ، [255 :من المور فهُ ْخل ْ َما َ المستقبلة التي ل نهاية لها } وَ َ
الماضية التي ل حد لها ،وأنه ل تخفى عليه خافية ،يعلم خائنة العين وما
ما ِفي ال ْب َّر
م َ مَها إ ِّل هُوَ وَي َعْل َ ُ
ب َل ي َعْل َ ُ ح ال ْغَي ْ ِ فات ِ ُ
م َعن ْد َه ُ َتخفي الصدور } ،وَ ِ
ْ َ َ ْ ُ ُ َ َ ّ ق ُ َوال ْب َ ْ
ب
ض وَل َرط ٍ ت الْر ِ ما ِ حب ّةٍ ِفي ظل َ مَها وَل َ ن وََرقَةٍ إ ِل ي َعْل ُ م ْط ِ س ُ
ما ت َ ْ
حرِ وَ َ
ن { ،وأن الخلق ل يحيط أحد منهم بشيء من مِبي ٍب ُ س إ ِّل ِفي ك َِتا ٍوَل يا ب ِ ٍ
َ
علم الله ،ول معلوماته إل بما شاء منهما ،وهو ما أطلعهم عليه من المور
الشرعية والقدرية ،وهو جزء يسير جدا بالنسبة إلى علم الباري ،تضمحل
العلوم كلها في علم الباري ومعلوماته ،كما قال أعلم المخلوقات ،وهم
مت ََنا { ]البقرة . [32 : ما عَل ّ ْم ل ََنا إ ِّل َ عل ْ َ ك َل ِ حان َ َ
سب ْ َالرسل والملئكة ُ } :
) (1/27
ثم أخبر عن عظمته وجلله ،وأن كرسيه وسع السماوات والرض ،وأنه قد
حفظهما بما فيهما من العوالم بالسباب والنظامات التي جعلها الله في
مخلوقاته مع ذلك فل يؤوده -أي :يثقله -حفظهما ،لكمال عظمته وقوة
اقتداره وسعة حكمته في أحكامه .
ي { بذاته على جميع مخلوقاته ،فهو الرفيع الذي باين جميع } وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ
مخلوقاته ; وهو العلي بعظمة صفاته ،الذي له كل صفة كمال ،ومن تلك
ي الذي قهر جميع المخلوقات ،ودانت له الصفات أكملها ومنتهاها ،وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ
كل الموجودات ،وخضعت له الصعاب ،وذلت له الرقاب .
م { :الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء والمجد ،الذي تحبه ظي ُ } ال ْعَ ِ
القلوب ،وتعظمه الرواح ،ويعرف العارفون أن عظمة كل موجود -وإن
جلت عن الصفة -فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم ،فتبارك
الله ذو الجلل والكرام .
فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني وأفرضها على العباد ،
يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ،ويحق لمن قرأها متدبرا متفقها أن يمتلئ
قلبه أن اليقين والعرفان واليمان ،وأن يكون بذلك محفوظا من شرور
الشيطان ،وقد نعت الباري نفسه الكريمة بهذه الوصاف في عدة آيات من
كتابه .
) (1/28
) (1/29
وأما القسط فهو العدل الكامل ; والله تعالى هو القائم بالعدل في شرعه
وخلقه وجزائه ; فإن العبادات الشرعية والمعاملت وتوابعها ،والمر والنهي
كله عدل وقسط ،ل ظلم فيه بوجه من الوجوه ،بل هو في غاية الحكام
والنتظام ،في غاية الحكمة ،والجزاء على العمال كله دائر بين فضل الله
وإحسانه على الموحدين المؤمنين به ،وبين عدله في عقوبة الكافرين
والعاصين ،فإنه لم يهضمهم شيئا من حسناتهم ،ولم يعذبهم بغير ما كسبوا :
خَرى { ]النعام . [164 : } وََل ت َزُِر َوازَِرة ٌ وِْزَر أ ُ ْ
ل الل ّ ُ
ه { ]النعام ، [19 :فتوحيد يٍء أ َك ْب َُر َ
شَهاد َةً قُ ِ ل أ َيّ َ
ش ْ قال تعالى } :قُ ْ
الله ودينه قد ثبت ثبوتا ل ريب فيه ،وهو أعظم الحقائق وأوضحها ; وقد شهد
الله له بذلك بما أقام من اليات والبراهين والحجج المتنوعة عليه ،ومن
شهادته تعالى أنه أقام أهل العلم العارفين بهذه الشهادة ،فإنهم المرجع
للعباد في تحقيق كل حق ،وإبطال كل باطل ،لما خصهم الله به من العلم
الصحيح ،واليقين التام ،والمعرفة الراسخة .
) (1/30
وهذا من جملة فضائل العلم وأهله ،فإن الله جعلهم وسائط بينه وبين
عباده ،يبلغونهم توحيده ودينه ،وشرائعه الظاهرة والباطنة ; وأمر الناس
بسؤالهم والرجوع إلى قولهم ،وأنهم هم الئمة المتبوعون ،وغيرهم تابع لهم
في الدنيا والخرة ،ولهذا لهم الكلمة الرفيعة حتى في الخرة ،لما ذكر
تعالى اختصام الخلق واختلفهم ذكر القول الفصل في ذلك ،الصادر من أهل
ّ َ ل ال ّذي ُ
ب اللهِ إ ِلى ي َوْم ِ قد ْ ل َب ِث ْت ُ ْ
م ِفي ك َِتا ِ ن لَ َما َ م َوا ْ ِ
لي َ ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ ِ َ العلم } :وََقا َ
ن { ]الروم . [56 : مو َ م َل ت َعْل َ ُ م ك ُن ْت ُ ْ ث وَل َك ِن ّك ُ ْ
م ال ْب َعْ ِ ال ْب َعْ ِ
ث فَهَ َ
ذا ي َوْ ُ
وفي هذا دليل على كمال عدل أهل العلم ; فإن الله استشهد بهم على عباده
،وذلك تعديل منه لهم ،وفي هذا من الشرف وعلو المكانة ما ل يخفى .
) (1/31
َ } - 5فاعْل َ َ
ت َوالل ّ ُ
ه مَنا ِ ن َوال ْ ُ
مؤ ْ ِ ك وَل ِل ْ ُ
مؤ ْ ِ
مِني َ فْر ل ِذ َن ْب ِ َ
ست َغْ ِ ه إ ِّل الل ّ ُ
ه َوا ْ ه َل إ ِل َ َ م أن ّ ُْ
م { ]محمد . [19 : ُ
واك ْ مث ْ َ
م وَ َ قل ّب َك ُ ْ
مت َ َ ي َعْل َ ُ
م ُ
العلم ل بد فيه من إقرار القلب ،ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه ،ول يتم
ذلك إل بالعمل بمقتضى ذلك العلم في كل مقام بحسبه ; وهذا العلم الذي
أمر الله به فرض عين على كل إنسان ،ل يسقط عن أحد كائنا من كان .
والضرورة إلى هذا العلم والعمل بمقتضاه -من تمام التأله لله -فوق كل
ضرورة ،والعلم بالشيء يتوقف على معرفة الطريق المفضي إلى معرفته
وسلوكها .
ه إ ِّل هُوَ { ]البقرة [163 :على وجه الجمال
والطريق إلى العلم بأنه } َل إ ِل َ َ
والعموم أمور :
أحدها - :وهو أعظمها وأوضحها وأقواها -تدبر أسماء الله وصفاته وأفعاله
الدالة على كماله وعظمته وجلله ; فإن معرفتها توجب العلم بأنه ل يستحق
اللوهية سواه ،وتوجب بذل الجهد في التأله والتعبد لله الكامل ،الذي له
كل حمد ومجد وجلل وجمال .
الثاني :العلم بأنه الرب المنفرد بالخلق والرزق والتدبير ،فبذلك يعلم أنه
المنفرد باللوهية .
) (1/32
الثالث :العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية ،فإن
ذلك يوجب تعلق القلب به محبة وإنابة ،والتأله له وحده ل شريك له .
الرابع :ما يراه العباد ويسمعونه من الثواب لوليائه القائمين بتوحيده من
النصر لرسله وأتباعهم ،ومن النعم العاجلة المشاهدة ،ومن عقوبته لعدائه
المشركين به ،فإن هذا برهان على أنه وحده المستحق لللوهية .
الخامس :معرفة أوصاف الوثان والنداد التي عبدت مع الله ،واتخذت
آلهة ،وأنها فقيرة إلى الله من كل وجه ،ناقصة من كل وجه ،ل تملك
لنفسها ،ول لمن عبدها نفعا ول ضرا ،ول موتا ول حياة ول نشورا ; فالعلم
بذلك يعلم به بطلن إلهيتها ،وأن ما يدعون من دون الله هو الباطل ،وأن
الله هو الله الحق المبين .
السادس :اتفاق كتب الله على ذلك ،وتواطؤها عليه .
السابع :اتفاق النبياء والرسل والعلماء الربانيين على ذلك ،وشهادتهم به ،
وهم خواص الخلق ،وأكملهم أخلقا وعقول وعلما ويقينا .
) (1/33
الثامن :ما أقامه الله من الدلة واليات الفقية والنفسية ،التي تدل على
التوحيد أعظم دللة وأوضحها ،وتنادي عليه بلسان المقال ولسان الحال ،
بما أودعها من لطائف صنعته وبديع حكمته وغرائب خلقه .
التاسع :ما أودعه الله في شرعه من اليات المحكمة والحكام الحسنة
والحقوق العادلة والخير الكثير ،وجلب المنافع كلها ودفع المضار ،ومن
الحسان المتنوع ،وذلك يدل أكبر دللة أنه الله الذي ل يستحق العبادة سواه
،وأن شريعته التي نزلت على ألسنة رسله شاهدة بذلك .
فهذه الطرق التي ل تحصى أنواعها وأفرادها قد أبدأها الله في كتابه
وأعادها ،ونبه بها العباد على هذا المطلوب الذي هو أعظم المطالب وأجل
الغايات ،فمن سلك طريقا من هذه الطرق أفضت به إلى العلم واليقين بأنه
ل إله إل هو ،وكلما ازداد العبد سلوكا لهذه الطرق ،ورغبة فيها ومعرفة
ازداد يقينه ورسخ إيمانه ،وكان اليمان في قلبه أرسخ من الجبال ،وأحلى
من كل لذيذ وأنفس من كل نفيس .
والطريق العظم الجامع لذلك كله تدبر القرآن العظيم والتأمل في آياته ،
فإنه الباب العظم إلى العلم بالتوحيد ،ويحصل به من تفاصيله وجمله ما ل
يحصل من غيره .
) (1/34
) (1/35
م {} حي ُ ن الّر ِ م ُ ح َ شَهاد َةِ هُوَ الّر ْ ب َوال ّم ال ْغَي ْ ِ
عال ِ ُ ه إ ِّل هُوَ َ ذي َل إ ِل َ َ ه ال ّ ِ } - 6هُوَ الل ّ ُ
زيُزن ال ْعَ ِ م ُ ن ال ْ ُ
مهَي ْ ِ م ُ مؤ ْ ِم ال ْ ُ
سَل ُس ال ّ دو ُ ق ّك ال ْ ُ
مل ِ ُه إ ِّل هُوَ ال ْ َ ذي َل إ ِل َ َ ه ال ّ ِهُوَ الل ّ ُ
صوُّر م َ خال ِقُ ال َْبارِئُ ال ْ ُ ه ال ْ َن {} هُوَ الل ّ ُ كو َ شرِ ُ ن الل ّهِ عَ ّ
ما ي ُ ْ حا َ
سب ْ َ مت َك َب ُّر ُ جّباُر ال ْ ُال ْ َ
زيُز ال ْ َ َ َ
م{ كي ُ ح ِ ض وَهُوَ ال ْعَ ِ ت َوالْر ِ
ْ ماَوا ِ
س َ ما ِفي ال ّ ه َ ح لَ ُ سب ّ ُ سَنى ي ُ َ ح ْ ماُء ال ْ ُ س َ ه اْل ْ لَ ُ
]الحشر . [24 - 22 :
هذه اليات الكريمة قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى التي عليها
مدار التوحيد والعتقاد ،فأخبر أنه المألوه الذي ل يستحق العبادة سواه ;
وذلك لكماله العظيم وإحسانه الشامل ،وتدبيره العام وحكمه الشاملة ،فهو
الله الحق ،وما سواه فعبوديته باطلة ،لنه خال من الكمال ،ومن الفعال
التي فيها النفع والضر .
ووصف نفسه بالعلم المحيط بما حضر وغاب ،وما مضى وما يستقبل وما هو
حاضر ،وما في العالم العلوي وما في العالم السفلي ،وما ظهر وما بطن ،
فل تخفى عليه خافية في مكان من المكنة ،ول زمان من الزمنة .
) (1/36
ومن كمال علمه وقدرته أنه يعلم ما تنقص الرض من الموات ،وما تفرق
من أجزائهم ،وما استحال من حال إلى حال ; أحاط علما بذلك على وجه
التفصيل ،فل يعجزه إعادتهم للبعث والجزاء .
م { الذي وسعت رحمته الخليقة بأسرها ، حي ُ
ن الّر ِ
م ُ
ح َ
ووصف نفسه بأنه } الّر ْ
ك { ،وهو الذي له الملك التام وملت الوجود كله ; ووصف نفسه بأنه } ال ْ َ
مل ِ ُ
المطلق ،له صفات الملك التي هي نعوت العظمة والكبرياء والعز
والسلطان ،وله التصرف المطلق في جميع الممالك ،الذي ل ينازعه فيه
منازع ،والموجودات كلها عبيده وملكه ،ليس لهم من المر شيء .
) (1/37
) (1/38
) (1/39
ل هُو الل ّ َ
مد ُ {} ل َ ْ
م ي َل ِد ْ ص َ حد ٌ {} الل ّ ُ
ه ال ّ هأ َ ُ - 7بسم الله الرحمن الرحيم } قُ ْ َ
َ
حد ٌ { ]سورة الخلص[ . وا أ َ ه كُ ُ
ف ً ن لَ ُ م ي َك ُ ْ م ُيول َد ْ {} وَل َ ْ
وَل َ ْ
أي ) :قل ( قول جازما فيه ،معتقدا له ،عارفا بمعناه ،عامل بمقتضاه من
حد ٌ { أي :الذي انحصرت فيه اليمان بالله والتعظيم والخضوع } ،هُو الل ّ َ
هأ َُ َ
الحدية ،وهي التفرد بكل صفة كمال ،الذي ل يشاركه في ذلك مشارك ;
الذي له السماء الحسنى والصفات العلى والفعال المقدسة والتصرف
مد ُ { أي :السيد الذي قد انتهى سؤدده ; العليم الذي ص َ ه ال ّ المطلق } ،الل ّ ُ
قد كمل علمه ،الحليم الذي قد كمل في حلمه ،وفي قدرته وفي جميع
أوصاف كماله ،ولجل هذا صمدت له المخلوقات كلها ،وقصدته في كل
حاجاتها ،وفزعت إليه الخليقة في مهماتها وملماتها .
فالصمد هو الذي صمدت له المخلوقات لما اتصف به من جميع الكمالت ،
م ُيول َد ْ { ،لنه الغني المالك ،فاتخاذ الولد ينافي م ي َل ِد ْ وَل َ ْ ومن كماله أنه } ل َ ْ
َ
حد ٌ { أي :ليس له مكافئ ول مثيل في وا أ َف ًه كُ ُ ن لَ ُم ي َك ُ ْ ملكه وغناه } ،وَل َ ْ
أسمائه وصفاته وأفعاله ،تبارك وتعالى .
) (1/40
فهذه السورة أصل عظيم من أصول اليمان ،وقد تضمنت توحيد السماء
والصفات ،ومن لوازم ذلك توحيد اللهية ،وأن المتفرد بالوحدانية من كل
وجه ،الذي ليس له مثيل بوجه من الوجوه ،هو الذي ل تنبغي العبادة إل له ،
ل إله إل هو .
م { ]البقرة ، [163 :يخبر حي ُ
ن الّر ِ م ُ ح َ ّ
ه إ ِل هُوَ الّر ْ َ َ
حد ٌ ل إ ِل َ
ه َوا ِ َ } - 8وَإ ِل َهُك ُ ْ
م إ ِل ٌ
حد ٌ { أي :متوحد منفرد في ه َوا ِالله تعالى ،وهو أصدق القائلين ،أنه } إ ِل َ ٌ
ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ; فليس له شريك ،ول سمي له ،ول كفو ول
مثل ول نظير ول خالق ول مدبر غيره .
فإذا تقرر أنه كذلك فهو المستحق لن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ،ول
م { :المتصف بالرحمة حي ُن الّر ِ م ُ ح َ
يشرك به أحد من خلقه ،لنه } الّر ْ
العظيمة التي ل يماثلها رحمة أحد ،فقد وسعت كل شيء ،وعمت كل حي .
فبرحمته وجدت المخلوقات ،وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالت ،وبرحمته
اندفع عن العباد كل نقمة ،وبرحمته عرف عباده نفسه بصفاته وآلئه ،وبين
لهم كل ما يحتاجونه من أمور دينهم ومصالح دنياهم بإرسال الرسل وإنزال
الكتب .
) (1/41
فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة دقت أو جلت فمن الله ،وأن أحدا من
المخلوقين ل ينفع أحدا ،علم أنه ل يستحق العبادة إل المتفرد بالنعم ،الدافع
للمكاره ،وتعين على العباد أن يفردوه بالمحبة ،والخوف والرجاء والتعظيم
والتوكل ،وغير ذلك من أنواع الطاقات ،وإن من أظلم الظلم وأقبح القبيح
وأعظم الضلل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد ،وأن يشرك المخلوقين
من تراب بالرب العظيم ،وأن يسوى المخلوق العاجز القاصر الناقص من
كل وجه بالرب الخالق المدبر القوي ،الذي قهر كل شيء ،وخضعت له
الرقاب .
ففي هذه الية إثبات وحدانية البارئ وإلهيته ،وتقريرها بنفيها عن غيره من
المخلوقين ،والستدلل على ذلك بتفرده بالرحمة ،التي من آثارها جميع البر
والحسان في الدنيا والخرة ،ثم ذكر الدلة التفصيلية بقوله :
) (1/42
ك ال ِّتي فل ْ ِ
ل َوالن َّهارِ َوال ْ ُ َْ
َ ف الل ّي ْ ِخت َِل ِ ض َوا ْ ت َوالْر َ ِ ماَوا ِ س َق ال ّ خل ِ
ن ِفي َ ْ } - 9إِ ّ
ماٍء فَأ ْ
حَيا ب ِهِ ن َ م ْماِء ِس َ ن ال ّ م َه ِ ّ
ل الل ُ ما أن َْز َ س وَ َ فعُ الّنا َ ما ي َن ْ َحرِ ب ِ َ ْ
ري ِفي الب َ ْ ج ِ تَ ْ
ْ َ
ر
خ ِس ّ م َ ب ال ُ حا ِ س َ ف الّرَياِح َوال ّ ري ِص ِ ل َداب ّةٍ وَت َ ْ نك ُّ م ْ ث ِفيَها ِ موْت َِها وَب َ ّ اْلْر َ
ض ب َعْد َ َ
ن { ]البقرة . [164 : قُلو َ قوْم ٍ ي َعْ ِ ض َلَيا ٍ
ت لِ َ َْ
ماِء َوالْر ِ س َ ن ال ّب َي ْ َ
أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات ،أي :أدلة ،على وحدانية
الباري وإلهيته ،وعظيم سلطانه ورحمته ،وسائر صفاته ،وآية على البعث
والجزاء لقوم يعقلون ; أي :لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ; فعلى
حساب ما من الله على عبده من العقل ،وصرفه في التفكر في اليات
ينتفع بها ويعرفها ويعقلها بعقله وفكره وتدبره ; ففي خلق السماوات ،في
ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها ،وما جعل الله فيها من الشمس والقمر
والنجوم وجريانها بانتظام عجيب ،لمصالح العباد .
) (1/43
وفي خلق الرض ; وجعلها مهادا للخلق يمكنهم القرار عليها ،والنتفاع بما
عليها والعتبار ; ما يدل ذلك على انفراد الله بالخلق والتدبير ،وبيان قدرته
العظيمة التي بها خلقها ،وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها ،وعلمه
ورحمته التي بها أودع ما أودع فيها من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم
وحاجاتهم ; وفي ذلك أبلغ دليل وبرهان على كماله من كل وجه ،وأن يفرد
بالعبادة لنفراده بالخلق والتدبير والقيام بشؤون عباده .
وفي ) اختلف الليل والنهار ( وهو :تعاقبهما على الدوام إذا ذهب أحدهما
خلفه الخر ; وفي اختلفهما في الحر والبرد والتوسط ،وفي الطول والقصر
والتوسط ،وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح الدميين
وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم والنوابت كلها ،كل ذلك بتدبير وتسخير تحير
في حسنه العقول ،ويعجز عن إدراك كنهه الرجال الفحول ،وذلك يدل على
قدرة مصرفها وسعة علمه وشمول حكمته ،وعموم رحمته ولطفه الشامل ،
وعظمته وكبريائه وسلطانه العظيم ،يضطر العباد إلى معرفة ربهم ،
وإخلص العبادة له وحده ل شريك له .
) (1/44
وفي ) الفلك التي تجري في البحر ( وهي :السفن والمراكب ونحوها مما
ألهم الله عباده صنعتها ،وأقدرهم عليها بتيسير أسبابها ،ثم سخر لها هذا
البحر العظيم والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والموال والبضائع
التي هي من منافع الناس ،وبها تنتظم معايشهم .
فمن الذي ألهمهم صنعتها وأقدرهم عليها ،وخلق لهم من اللت المتنوعة ما
به يعملونها ؟ أم من الذي سخر لها هذا البحر تجري فيه -بإذنه وتسخيره -
الرياح ؟ أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية والهوائية النار والمعادن
المتنوعة المعينة على حملها وحمل ما فيها من الموال الثقيلة جدا ؟
) (1/45
فهل هذه المور حصلت صدفة واتفاقا ؟ أم استقل بعملها وخلق أسبابها هذا
المخلوق الضعيف العاجز الذي خرج من بطن أمه ل يعلم شيئا ،وليس له
قدرة على شيء ،ثم أعطاه خالقه القدرة وعلمه ما لم يكن يعلم ؟ أم تقول
- :والحق تقول : -بل المسخر لذلك الرب الواحد ،العظيم العليم الحكيم
القدير ; الذي ل يعجزه شيء ،ول يمتنع عليه شيء ،بل الشياء كلها قد
دانت لربوبيته ،واستكانت لعظمته ،وخضعت لجبروته ; وغاية العبد الضعيف
أن جعله الله جزءا من أجزاء السباب التي بها وجدت هذه المور العظام ،
فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بعباده ،ويدعو العباد إلى أن يعبدوه وحده
ل شريك له ،وينيبوا إليه في كل حال .
ماٍء { :وهو المطر النازل من السحاب ، ن َ
م ْ
ماِء ِ
س َ
ن ال ّ م َ ه ِ ما أ َن َْز َ
ل الل ّ ُ } وَ َ
َ َ
موْت َِها { :فأظهرت أنواع القوات وأصناف الشجار ض ب َعْد َ َحَيا ب ِهِ اْلْر َ } فَأ ْ
والنباتات التي ل يمكن للعباد أن يعيشوا بدونها .
) (1/46
أليس ذلك برهانا على قدرة من أنزله وأخرج به ما أخرج ،وعلى رحمته
ولطفه بعباده ،وشدة افتقار الخليقة إليه في كل أحوالهم ،وهو يحدوهم إلى
إخلص الدين له والنابة إليه ،والقيام بعبوديته ظاهرا وباطنا ؟
ن آَيات ِهِ أ َن ّكَم ْوكذلك هو دليل على إحياء الله للموتى كما قال تعالى } :وَ ِ
َ َ َ
ها حَيا َ ذي أ ْ ن ال ّ ِ
ت إِ ّ
ت وََرب َ ْ ة فَإ َِذا أن َْزل َْنا عَل َي َْها ال ْ َ
ماَء اهْت َّز ْ شعَ ً خا ِ ض َ ت ََرى اْلْر َ
ديٌر { ]فصلت . [39 : يٍء قَ ِ ش ْل َ ه عََلى ك ُ ّ موَْتى إ ِن ّ ُ حِيي ال ْ َ لَ ُ
م ْ
وقد ذكر الله هذا البرهان على البعث في عدة آيات ،كما ذكر ابتداء الخلق
برهانا على إعادته ،وكما ذكر كمال علمه وقدرته ،وخلق السماوات والرض
،وأنه جعل للعباد من الشجر الخضر نارا برهانا بينا على البعث .
ل َداب ّةٍ { أي :نشر في أقطار الرض من الدواب ن كُ ّ م ْ ث ِفيَها ِ وقوله } :وَب َ ّ
المتنوعة ،وسخرها للدميين ينتفعون بها من وجوه كثيرة ،ومع هذا فهو قائم
بأرزاقها ،متكفل بأقواتها ،فما من دابة في الرض إل على الله رزقها ،
ويعلم مستقرها ومستودعها .
) (1/47
وفي تصريف الرياح آيات عظيمة على وحدانية الله وتفرده بالكمال
المطلق ،فتارة تكون باردة وحارة وبين ذلك ،وجنوبا وشمال ،ودبورا ) أي :
غربية ( ،وبين ذلك ،وتارة تثير السحاب ،وتارة تؤلف بينه ،وتارة تلقحه
وتدره ،وتارة تمزقه وتزيل ضرره ،وتارة ترسل بالرحمة ،وتارة ترسل
بالعذاب ،فمن الذي صرفها هذا التصريف ،ورتب عليها من المنافع للعباد
كثيرا إل العزيز الحكيم ،الرحيم اللطيف بعباده ،المستحق للمحبة والثناء
والشكر والحمد من الحقيقة ؟
وفي تسخير السحاب بين السماء والرض على خفته ولطافته يحمل الماء
الكثير ،فيسوقه الله إلى حيث يشاء ،ويجعله حياة للبلد والعباد ،ويروي به
التلول والوهاد ،وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه ،ويصرف عنهم
ضرره ،فينزله رحمة ولطفا ،ويصرفه عناية وعطفا .
فما أعظم سلطانه وأغزر إحسانه وألطف امتنانه ،أليس من أقبح القبيح
وأظلم الظلم أن يتمتع العباد برزقه ويعيشوا ببره ،وهم يستعينون بذلك على
مساخطه ومعاصيه ؟ ومع ذلك من كمال حلمه وعفوه وصفحه يوالي عليهم
الحسان ،خيره إليهم على الدوام نازل ،وشرهم إليه في كل وقت صاعد .
) (1/48
والحاصل أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات ،وتغلغل فكره في بدائع
الكائنات ،علم أنها خلقت للحق وبالحق ،وأنها صحائف آيات ،وكتب براهين
ودللت على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته ،وما أخبرت به الرسل
من اليوم الخر ،وأنها مدبرات مسخرات ،ليس لها تدبير ول استعصاء على
مدبرها ومصرفها ،فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون ،
وإليه صامدون ،وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات ،فل إله إل هو ،ول
رب سواه .
ولنقتصر على هذا النموذج من اليات المتعلقة بالتوحيد ،مع ما دخل في
ضمنها من اليمان بالجزاء والبعث ،وبالرسل والكتب ،وقد قرن الله ذلك
بأدلته وبراهينه الموصلة إلى العلم التام ،واليقين الراسخ ،وبذلك يعلم أن
هذه الصول الثلثة متلزمة :التوحيد والرسالة والمعاد ،كما أن في ضمن
اليات المتعلقة بالجزاء شيئا كثيرا من متعلقات التوحيد والرسالة ،فسبحان
من جعل في كلمه الهدى والرشاد ،وإصلح العباد .
) (1/49
فصل
م ي َت ُْلو َ
سهِ ْ ف ِ ن أن ْ ُم ْسوًل ِ م َر ُ ث ِفيهِ ْ ن إ ِذ ْ ب َعَ َمِني َ ه عََلى ال ْ ُ
مؤ ْ ِ ن الل ّ ُم ّ قد ْ َ } - 10ل َ َ
لضَل ٍ
في َ ل لَ ِن قَب ْ ُ م ْ ن َ
كاُنوا ِ ة وَإ ِ ْ
م َ ب َوال ْ ِ
حك ْ َ م ال ْك َِتا َمهُ ُم وَي ُعَل ّ ُكيهِ ْ عَل َي ْهِ ْ
م آَيات ِهِ وَي َُز ّ
ن { ]آل عمران . [164 : مِبي ٍ ُ
هذه المنة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين أكبر المنن ،بل هي
أصلها ; وهي المتنان عليهم بهذا الرسول الكريم ،الذي جمع الله به جميع
المحاسن الموجودة في الرسل ; ومن كماله العظيم هذه الثار التي جعلها
الله نتيجة رسالته ،التي بها كمال المؤمنين علما وعمل ،وأخلقا وآدابا ،وبها
زال عنهم كل شر وضرر ،فبعثه الله من أنفسهم وأنفسهم وقبيلتهم ،
يعرفون نسبه أشرف النساب ،وصدقه وأمانته وكماله الذي فاق به الولين
والخرين ،ناصحا لهم مشفقا ،حريصا على هدايتهم .
) (1/50
م{ م آَيات ِهِ { :فيعلمهم ألفاظها ،ويشرح لهم معانيها } ،وَي َُز ّ
كيهِ ْ } ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ
أي :يطهرهم من الشرك والمعاصي والرذائل وسائر الخصال الذميمة ،
ويزكيهم أيضا أي :ينميهم ،فيحثهم على الخلق الجميلة ،فإن التزكية
تتضمن هذين المرين :التطهير من المساوئ ،والتنمية بالمحاسن ;
ة { :وهي السنة . ب { :وهو القرآن َ } ،وال ْ ِ
حك ْ َ
م َ م ال ْك َِتا َمهُ ُ } وَي ُعَل ّ ُ
فالكتاب والسنة بهما أكمل الله للرسول وأمته الدين ،وبهما حصل العلم
بأصول الدين وفروعه ،وبهما حصلت جميع العلوم النافعة ،وما يترتب عليها
من الخيرات ،وزوال الشرور ،وبهما حصل العلم اليقيني بجميع الحقائق
النافعة ،وبهما الهداية والصلح للبشر .
) (1/51
فمحمد صلى الله عليه وسلم هو المام العظم المعلم لهذين المرين ،
اللذين ينابيع العلوم كلها تتفجر من معينهما ،فعلم صلى الله عليه وسلم أمته
الكتاب والحكمة ،وأوقفهم على حكم الحكام وأسرارها ،فكانت حياته كلها -
أقواله وأفعاله وتقريراته وهديه ،وأخلقه الظاهرة والباطنة ،وسيرته الكاملة
المتنوعة في كل فن من الفنون -تعليما منه للمؤمنين ،وشرحا للكتاب
والحكمة ،فجمع لهم بين تعليم الحكام الصولية والفروعية ،وما به تدرك
وتنال ،والطرق التي تفضي إليها عقل ونقل وتفكيرا وتدبرا ،واستخراجا
للعلوم الكونية من مظانها وينابيعها ،وبين لهم فوائد ذلك كله وثمراته ،
وشرح لهم الصراط المستقيم ،اعتقاداته وأخلقه وأعماله ،وما لسالكه عند
الله من الخير العاجل والجل ،وما على المنحرف عنه من العقاب والضرر
العاجل والجل .
) (1/52
فكان خيار المؤمنين بهذا التعليم الصادر من النبي الكريم مباشرة ،وتبليغا
من العلماء الربانيين الراسخين في العلم ،ومن الهداة المهديين ،ومن أكابر
الصديقين ،وحصل لسائر المؤمنين من هذا التعليم نصيب وافر من الخير
العظيم على حسب طبقاتهم ومنازلهم ،وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ،
والله ذو الفضل العظيم ،فخرجوا بهذا التعليم من جميع الضللت ،وانجالت
عنهم الشرور المتنوعة والجهالت ،وتم لهم النور الكامل ،وانقشعت عنهم
الظلمات .
فيا لها من نعمة ل يقدر قدرها ،ول يحصي المؤمنون كنه شكرها .
) (1/53
ن فَ َ
قد ْ خُرو َ مآ َ ه عَل َي ْهِ قَوْ ٌ ك افْت ََراه ُ وَأ َ َ
عان َ ُ ذا إ ِّل إ ِفْ ٌ
ن هَ َ ن كَ َ
فُروا إ ِ ْ ل ال ّ ِ
ذي َ } - 11وََقا َ
مَلى عَل َي ْهِ ب ُك َْرةً َ َ
ي تُ ْ طيُر اْلوِّلي َ
ن اك ْت َت َب ََها فَهِ َ سا ِ ما وَُزوًرا {} وََقاُلوا أ َ جاُءوا ظ ُل ْ ً
َ
َْ وأ َصيًل {} قُ ْ َ
ن غَ ُ
فوًرا ه َ
كا َ ض إ ِن ّ ُ
ت َوالْر ِ
ماَوا ِ
س َ
سّر ِفي ال ّ ذي ي َعْل َ ُ
م ال ّ ه ال ّ ِ
ل أن َْزل َ ُ َ ِ
ما { ]الفرقان . [6 - 4 : حي ً
َر ِ
ذكر الله تعالى في هذا قدح المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم ،
وإدلءهم بهذه الشبه التي يعلمون ويعلم الناس بطلنها ،فزعموا أنه افترى
هذا القرآن ،وأنه ساعده على ذلك قوم آخرون ،فرد الله عليهم هذه المقالة
المنتهية في القبح بأن هذا ظلم عظيم ،وجراءة يعجب السامع كيف سولت
لهم أنفسهم هذا القول الهراء ،وأنه من الزور والظلم ; فإنهم قد كانوا
يعرفون بل شك صدقه وأمانته التي ل يلحقه فيها أحد ،وأنه لم يجتمع بأحد
من أهل العلم ،ول رحل في طلبه ،وقد نشأ بين أمة أمية في غاية الجهل
والضلل ،وقد جاءهم بهذا الكتاب العظيم الذي لم يطرق العالم أعظم منه ،
ول أعلى معاني وأغزر علما ،ول أبلغ من ألفاظه ومعانيه ،وأتم من حكمه
وحكمه ومبانيه .
) (1/54
) (1/55
ولما كانت هذه مقالة زور وافتراء ،ل يخفى كذبها على أحد ،تشبثوا وقالوا :
كان محمد يجلس إلى قين حداد في مكة فارسي فيتعلم منه ،فلهذا قال
قد نعل َ َ
ن إ ِل َي ْ ِ
ه دو َ ذي ي ُل ْ ِ
ح ُ ن ال ّ ِ
سا ُ ه بَ َ
شٌر ل ِ َ ما ي ُعَل ّ ُ
م ُ قوُلو َ
ن إ ِن ّ َ م يَ ُ عنهم } :وَل َ َ ْ َ ْ ُ
م أن ّهُ ْ
ن { ]النحل : [103 :بالغ في البيان والبلغة ي وَهَ َ َ
مِبي ٌ
ي ُ ن عََرب ِ ّ سا ٌ
ذا ل ِ َ م ّ
ج ِ
أعْ َ
نهايتها وغايتها .
فل يمكن الجمع بين النقيضين :أن يتعلمه من هذا البكم أعجمي اللسان ،
الذي لم يعرف عنه علم يرجع إليه ،ول معرفة يتميز بها ،وهذا القرآن الذي
جاء به مع كمال بلغته حوى علوم الولين والخرين .
) (1/56
ولما كان هذا القول الذي قالوه ،والمكابرة التي تجرءوا عليها قد علم
الموافق والمخالف كذبها وافتراءها ،وكان جميع أعداء الرسول لهم ورثة ،
يقومون بالعداوة للرسول والدين ،ويعطونها حقها ولو جلبت عليهم ما جلبت
من الدخول في الكذب والفتراء والمكابرة ،وقد عرف هؤلء العداء
المتأخرون مكابرة إخوانهم الذين باشروا تكذيب الرسول ،ورأوا أن مقالتهم
قد بطلت واضمحلت ،وبان زورها لكل أحد ،صاغها هؤلء المكذبون بعبارة
موهوها ،وظنوا أنها بهذا التمويه تروج ،فزعموا -وما أسمجه وأكذبه من
زعم -أن محمدا كان يتعلم من نفسه ; وأنه كان يخلو بالطبيعة :السماء
والرض والشمس والقمر والنجوم ،فيعطيها لبه ،ويناجيها بقلبه ،فيخيل إليه
أصناف التخاييل ،فيأتي بها إلى الناس زاعما أنها من وحي الله على يد
جبريل ،وأن هذه التخيلت من المور العالية التي يعتاد التيان بها أهل الرأي
والحجى .
) (1/57
ولما رأوا آثارها الجليلة في السلم وأهله ،وتعاليمه وتقويمه للمم ،وبهرهم
هذا النور العظيم لجأوا إلى هذا التحذلق الذي منتهاه وغايته أنهم صوروا
النبي صلى الله عليه وسلم ورقوه إلى رجل من الطبيعيين ،كما قال هذا
القول الباطل أحد ملحدة الفرنسيين ،وتلقاها عنه بعض الملحدة العصريين
،وهو مبني على إنكار وجود رب العالمين ،وأنه ما ثم إل عمل الطبيعة ،وقد
علم الناس أن هذا القول المزور أعظم مكابرة ومباهتة من قول الولين ،
وأن هذا الفتراء الذي ولدوه بعد مئات السنين أوضح ضلل وظلما وجراءة
ووقاحة من زور الولين ،وأن هؤلء الراذل الذين أعجبوا بآرائهم وتاهوا
بعقولهم قد بين الله كذبهم فيما قالوه ،وأن عقول ولدت هذه القوال
المؤتفكة والخيالت الفاسدة والمقالت الفاسدة لعقول سافلة وآراء ساقطة
،يعرف فسادها بنتائجها ومكابرتها ،وإنكارها أجلى الحقائق ،ولهذا قال
َْ تعالى } :قُ ْ َ
ض { ]الفرقان : ت َوالْر ِ
ماَوا ِ
س َ
سّر ِفي ال ّ ذي ي َعْل َ ُ
م ال ّ ه ال ّ ِ
ل أن َْزل َ ُ
. [6
) (1/58
فالرب القادر العظيم ،الذي أحاط علمه بجميع السرار ،وعلم أحوال العباد
حاضرها ومستقبلها ،فأنزله لهدايتهم ،وجعله منارا وعلما يهتدي به المهتدون
في كل وقت وحين .
فجميع الحقائق التي دعا إليها هذا الرسول وهذا القرآن حقائق ثابتة نافعة
للعباد ،ل يأتي من الحقائق ما يغيرها ،ومحال أن يأتي شيء أصلح منها أو
مثلها أو يقاربها } :وم َ
ن { ]المائدة :
قوْم ٍ ُيوقُِنو َ
ما ل ِ َ ن الل ّهِ ُ
حك ْ ً م َ
ن ِ
س ُ
ح َ
نأ َْ َ ْ
. [50
ومن كمال علمه وقدرته أنه لو تقول عليه أحد بمثل هذه المقالة لعاجله
بالعقوبة ،فلما أيد من جاء بها بنصره وحججه ،ورأى العباد آياته في الفاق
وفي أنفسهم ،التي يتبين بها أنه الحق ،وما سواه ضلل ،علم بذلك أن هذا
الرسول أصدق الخلق وأنصحهم وأبرهم وأعلمهم وأخشاهم وأتقاهم لربه ،
وأن أعداءه المكذبين له أكذب الخلق وأغشهم ،وأعظمهم جهل وضلل وغيا
وفسادا في كل زمان ومكان .
) (1/59
) (1/60
فما جاء به الرسول من الهدى في جميع أبواب العلوم النافعة ،والدين الحق
الذي هو الصلح المطلق ،أكبر الدلة على أنه رسول الله حقا ،وأكبر الدلة
على إبطال كل ما ناقضه من أقوال المؤتفكين ; والحمد لله رب العالمين .
ن لَ َ َ
ك ن {} وَإ ِ ّ جُنو ٍ م ْ مةِ َرب ّ َ
ك بِ َ ت ب ِن ِعْ َما أن ْ َ
ن {} َ سط ُُرو َ ما ي َ ْ قل َم ِ وَ َ
} - 12ن َوال ْ َ
ن{ صُرو َصُر وَي ُب ْ ِ ظيم ٍ {} فَ َ
ست ُب ْ ِ ق عَ ِ ٍ
خل ُ ك ل ََعلى ُ ن {} وَإ ِن ّ َ مُنو ٍ م ْ جًرا غَي َْر َ َل َ ْ
َ َ َ
سِبيل ِهِ وَهُوَ أعْل َ ُ
م ن َ ل عَ ْض ّن َ م ْ ك هُوَ أعْل َ ُ
م بِ َ ن َرب ّ َ ن {} إ ِ ّ فُتو ُ م ْم ال ْ َ} ب ِأّييك ُ ُ
ن { ]القلم . [7 - 1 : دي َ مهْت َ ِ ِبال ْ ُ
يقسم تعالى بالقلم ،وهو اسم جنس شامل للقلم التي تكتب بها أنواع
العلوم ،ويسطر بها المنثور والمنظوم ،وذلك أن القلم ،وما يسطر به من
أنواع الكلم من آياته العظيمة التي تستحق أن يقسم بها على براءة نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون ،فنفى عنه
ذلك بنعمة ربه عليه وإحسانه ،إذ من عليه بالعقل الكامل والرأي السديد ،
والكلم الفصل الذي هو من أحسن ما جرت به القلم وسطره النام ،وهذا
هو السعادة في الدنيا .
) (1/61
ن { أي :لجرا
مُنو ٍ
م ْ ك َل َ ْ
جًرا غَي َْر َ ن لَ َ
ثم ذكر سعادته في الخرة فقال } :وَإ ِ ّ
عظيما -كما يفيده التنكير -غير مقطوع ،بل هو دائم متتابع مستمر ،وذلك
لما أسلفه صلى الله عليه وسلم من المقامات العالية في الدين والخلق
ظيم ٍ { فعل صلى الله عليه وسلم ق عَ ِ ك ل ََعلى ُ ُ الرفيعة ; ولهذا قال } :وَإ ِن ّ َ
خل ٍ
بخلقه العظيم على جميع الخلق ،وفاق الولين والخرين ،وكان خلقه
العظيم -كما فسرته به عائشة رضي الله عنها -هذا القرآن الكريم ،وذلك
َ ْ
ن{ جاهِِلي َ ن ال ْ َ
ض عَ ِف وَأعْرِ ْ مْر ِبال ْعُْر ِفوَ وَأ ُ خذِ ال ْعَ ْ نحو قوله تعالى ُ } :
م { ]آل عمران } ، [159 : ت ل َهُ ْ ن الل ّهِ ل ِن ْ َم َمةٍ ِ ح َما َر ْ ]العراف } ، [199 :فَب ِ َ
ن
مِني َ م ِبال ْ ُ
مؤ ْ ِ ص عَل َي ْك ُ ْ ري ٌ ح ِ
م َما عَن ِت ّ ْ زيٌز عَل َي ْهِ َ م عَ ِ سك ُ ْ ف ِ ن أ َن ْ ُ
م ْ سو ٌ
ل ِ م َر ُجاَءك ُ ْ لَ َ
قد ْ َ
م { ]التوبة . [128 : حي ٌف َر َِرُءو ٌ
) (1/62
وما أشبهها من اليات الدالت على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم
الخلق ،واليات التي فيها الحث على كل خلق جميل ،فكان أول الخلق
امتثال لها وسبقا إليها وإلى تكميلها ،فكان له منها أكملها وأجلها وأعلها ،
وهو في كل خصلة منها في الذروة العليا ،فكان سهل لينا قريبا من الناس ،
مجيبا لدعوة من دعاه ،قاضيا لحاجة من استقضاه ،جابرا لقلب من سأله ،
ل يحرمه ول يرده خائبا ،وإذا أراد أصحابه أمرا وافقهم عليه ،وتابعهم فيه إذا
لم يكن في ذلك محذور ،وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ،بل
يشاورهم ويؤامرهم ،وكان يقبل من محسنهم ،ويعفو عن مسيئهم ،ولم
يكن يعاشر جليسا إل أتم عشرة وأحسنها ،فكان ل يعبس في وجهه ،ول
يغلظ له في كلمه ،ول يطوي عنه بشره ،ول يمسك عليه فلتات لسانه ،ول
يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ،بل يحسن إليه غاية الحسان ،ويحتمله
غاية الحتمال صلى الله عليه وسلم .
) (1/63
فلما أنزله الله بأعلى المنازل ،وكان أعداؤه يقولون :إنه مجنون مفتون قال
َ
ن { ،وقد تبين أنه كان أهدى الناس فُتو ُ
م ْم ال ْ َن {} ب ِأّييك ُ ُصُرو َ
صُر وَي ُب ْ ِ } :فَ َ
ست ُب ْ ِ
وأكملهم وأنفعهم لنفسه ولغيره ،وأن أعداءه أضل الناس للناس ،وأنهم هم
الذين فتنوا عباد الله ،وأضلوهم عن سبيله ،وكفى بعلم الله بذلك ،فإنه
َ َ
سِبيل ِهِ وَهُوَ أعْل َ ُ
م ن َ
ل عَ ْض ّ
ن َ م ْ م بِ َالمحاسب المجازي و } هُوَ أعْل َ ُ
ن{. دي َ ِبال ْ ُ
مهْت َ ِ
وفيه تهديد للضالين ،ووعد للمهتدين ،وبيان لحكمة الله في هدايته من
يصلح للهداية دون غيره .
) (1/64
فصل
ّ َ ْ
ن
م ْ
ض إ ِل َ
ن ِفي الْر ِ
م ْ
ت وَ َ
ماَوا ِ
س َ ن ِفي ال ّ م ْ صعِقَ َ صورِ فَ َ خ ِفي ال ّ ف َ } - 13وَن ُ ِ
ُ ُ
ن { -إلى آخر السورة م ي َن ْظُرو َ
م قَِيا ٌ خَرى فَإ َِذا هُ ْ ف َ
خ ِفيهِ أ ْ م نُ ِه ثُ ّ شاَء الل ّ ُ
َ
الكريمة ] -الزمر 68 :وما بعدها[ .
من أهم أصول اليمان :اليمان باليوم الخر ،وهو اليمان بكل ما أخبر الله
به ورسوله بعد الموت من فتنة القبر ونعيمه وعذابه ،وأحوال يوم القيامة
وما يكون فيه ،ومن صفات الجنة والنار ،وصفات أهلهما .
) (1/65
فاليمان باليوم الخر هو اليمان بذلك كله جملة وتفصيل ،أما أحوال القبر
وفتنته وعذابه ونعيمه وتفاصيل ذلك ،فقد تواترت به الحاديث الصحيحة
والحسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف ،والقرآن
أشار إليه في عدة آيات ،وأما ما يكون بعد ذلك فإذا أراد الملك القادر بعث
صورِ ( وهو :قرن عظيم ل يعلم عظمه ف َ
خ ِفي ال ّ العباد وحشرهم وجزاءهم ) ن ُ ِ
إل الذي خلقه ،كما ورد في حديث الصور المشهور ،أو نفخ في الصور على
وجه ل يعلم كنهه إل الله نفخة الصعق والفزع ،انزعج لهذا أهل السماوات
خ ِفيهِ أ ُ ْ
خَرى { :نفخة ف َ والرض وصعقوا إل من شاء الله من خلقه } ،ث ُ ّ
م نُ ِ
م { من أجداثهم كاملي الخلقة ،ينظرون ما يستقبلهم البعث } ،فَإ َِذا هُ ْ
م قَِيا ٌ
من هذه الحياة الخروية التي يجازى فيها العباد بأعمالهم ،حسنها وسيئها .
أما المؤمنون الطائعون فيقومون مطمئنين طامعين في فضل ربهم
ورحمته ،مستبشرين بثوابه وعفوه ومغفرته ،يحشرون إلى موقف القيامة
وفدا مكرمين ،وأما المجرمون فيقومون فزعين خائفين متحسرين ،يدعون
بالويل والثبور ،يقولون :يا ويلنا ،من بعثنا من مرقدنا ؟ فيساقون إلى جهنم
وردا .
) (1/66
) (1/67
أما المؤمنون :فيحاسبهم حسابا يسيرا يقرهم بذنوبهم ،ثم يغفرها ويسترها
عن الخلئق ،ويضاعف لهم الحسنات ،ويعطيهم من فضله وإحسانه ما ل
تبلغه أعمالهم ،ويعطون كتبهم بأيمانهم إكراما واحتراما ،كما تبيض وجوههم
،وتثقل موازينهم ; ويغتبطون بذلك ،ويستبشرون به ،فيقولون لخوانهم
ت { ]أي :أيقنت[ه {} إ ِّني ظ َن َن ْ ُم اقَْرُءوا ك َِتاب ِي َ ْ
هاؤُ ُومعارفهم ومحبيهم َ } :
َ
ضي َةٍ { . .اليات ]الحاقة - 19 : عيشةٍ َرا ِ َ َ
ه {} فهُوَ ِفي ِ ساب ِي َ ْ
ح َ مَل ٍ
ق ِ } أّني ُ
21وما بعدها[ .
ويساقون إلى الجنة زمرا ،كل طائفة منهم مع نظرائهم في الخير بحسب
طبقاتهم وسبقهم ،كما يردون في عرصات القيامة حوض نبيهم ،فيشربون
منه شربة هنيئة ل يظمأون بعدها ،ويمرون على الصراط على قدر أعمالهم
كلمح البصر ،وكالبرق الخاطف ،وكأجاويد الخيل والبل ،وكسعي الرجال ،
وكمشيهم ،ودون ذلك .
) (1/68
فإذا عبروا على الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ،فيقتص بعضهم
من بعض مظالم وتبعات كانت بينهم في الدنيا ،حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم
في دخول الجنة ،حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها بشفاعة محمد صلى الله
عليه وسلم فتلقاهم خزنة الجنة ،يسلمون عليهم ،ويهنونهم بالنجاة من
العذاب وحصول الخير والثواب والخلود البدي بسبب طيبهم ،ولهذا قالوا } :
م { ]الزمر [73 :أي :طابت قلوبكم بالعقائد الصحيحة م عَل َي ْك ُ ْ
م ط ِب ْت ُ ْ سَل ٌ
َ
الصادقة ،والخلق الجميلة ،وألسنتكم بذكر الله والثناء عليه ،وجوارحكم
ن { ]الزمر . [73 :
دي َ
خال ِ ِ خُلو َ
ها َ بخدمته والقيام بطاعته َ } :فاد ْ ُ
) (1/69
فإذا دخلوها ورأوا ما فيها من النعيم المقيم ،مما ل عين رأت ،ول أذن
سمعت ،ول خطر على قلب بشر ،حمدوا الله على منته عليهم بالسوابق
واليمان والعمال الصالحة ،وبإنجاز ما وعدهم به على ألسنة رسله ،وعلى
أن الله أورثهم الجنة يتبوءون من خيراتها حيث يشاءون وأنى يشاءون مما
تشتهيه النفس وتلذ العين من نعيم القلوب والرواح ،ومن نعيم البدان
ف
طو ُ ن {} ي َ ُ قاب ِِلي َ ن عَل َي َْها ُ
مت َ َ مت ّك ِِئي َضون َةٍ {} ُ مو ْ ُ سُررٍ َوالجسام } :عََلى ُ
ْ َ َ
ن
عو َ
صد ّ ُن {} َل ي ُ َ مِعي ٍ ن َ م ْ
س ِ ب وَأَباِريقَ وَك َأ ٍ وا ٍن {} ب ِأك ْ َ دو َ خل ّ ُ
م َن ُدا ٌم وِل ْ َعَل َي ْهِ ْ
ن{ شت َُهو َ ما ي َ ْم ّحم ِ ط َي ْرٍ ِ ن {} وَل َ ْ خي ُّرو َ ما ي َت َ َ
م ّ ن {} وََفاك ِهَةٍ ِ عَن َْها وََل ي ُن ْزُِفو َ
َ
ن { ]الواقعة ، [23 - 15 :خيرات مك ُْنو ِل الل ّؤْل ُؤِ ال ْ َمَثا ِن {} ك َأ ْ عي ٌ حوٌر ِ } وَ ُ
الخلق ،حسان الوجوه ،قد جمع الله لهن حسن البواطن والظواهر ،فهن
سرور النفس ،وقرة النواظر .
) (1/70
وتمام ذلك أن الله يحل عليهم رضوانه فل يسخط عليهم أبدا ،وأنه يقال لهم
) :إن لكم أن تشبوا فل تهرموا أبدا ،وإن لكم أن تصحوا فل تمرضوا أبدا ،
وإن لكم أن تنعموا فل تبأسوا أبدا ،وإن لكم أن تحيوا فل تموتوا أبدا ( ،فلهم
كل ما يشاءون فيها وتتعلق به أمانيهم ،ولهم فوق ذلك مما لم تبلغه
أمانيهم ،ولهم نعيم أعلى من ذلك كله ،وهو التمتع بالنظر إلى وجهه
الكريم ،وسماع خطابه ،والبتهاج برضاه وقربه ،والسرور بمحبته ،وذكره
وحمده ،والثناء عليه وشكره ،مما يشاهدون من كثرة الخيرات ،وسوابغ
النعم والهبات ،وزيادة النعيم وتواصله ،ومما يزدادون من معرفته والنس به
،فتبارك الله ذو الجلل والكرام .
) (1/71
) (1/72
ما أشد شقاءهم وعناءهم ؛ ينوع عليهم العذاب أنواعا ،فتارة يعذبون بالسعير
المحرق لظواهرهم وبواطنهم ،كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ،
وتارة بالزمهرير الذي قد بلغ برده أن يهري اللحوم ويكسر العظام ،وتارة
بالجوع المفرط والعطش المفظع ،وإذا استغاثوا لذلك أغيثوا بعذاب آخر ،
ولون من الشقاء ينسي ما سبقه ،فيغاثون بطعام ذي غصة ; بشجرة الزقوم
التي تخرج في أصل الجحيم ،وثمرها في غاية المرارة والنتن والحرارة ،إذا
وصلت بطونهم غلت فيها كغلي الحميم الذي يوقد عليه في النار .
) (1/73
) (1/74
َ وينادون أهل الجنة مستغيثين بهم } :أ َ َ
ما
م ّماِء أوْ ِ ن ال ْ َم َضوا عَل َي َْنا ِ ن أِفي ُ ْ
ن{، ري
ِ ِ َ فكاَ ْ ل ا لىَ ع ما هم
َ َ ّ َ ُ َ َ ر ح ه ّ ل ال ن
ِ ّ إ } ه { ،فيقول لهم أهل الجنة : م الل ّ ُ
َرَزقَك ُ ُ
ن {} َرب َّنا ضاّلي َ ما َ قوَت َُنا وَك ُّنا قَوْ ً ش ْت عَل َي َْنا ِوينادون ربهم فيقولون َ } :رب َّنا غَل َب َ ْ
ن { ]المؤمنون ، [107 - 106 :فيجيبهم مو َ ن عُد َْنا فَإّنا َ
ظال ِ ُ ِ من َْها فَإ ِ ْ
جَنا ِ أَ ْ
خرِ ْ
ن { ]المؤمنون ، [108 :فحينئذ ييأسون من مو ِ سُئوا ِفيَها وََل ت ُك َل ّ ُ خ َالله } :ا ْ
كل خير ،ومن كل فرج وراحة ،ويتيقنون أنه الخلود الدائم والعذاب البدي
والشقاء المستمر . .فنسأل الله الجنة ،وما قرب إليها من قول وعمل ،
ونعوذ به من النار ،وما قرب إليها من قول وعمل .
) (1/75
فصل
ه
عَباد َت ِ ِ
ن ِ ْ َ َ ْ َ
ن عَ ْ
ست َكب ُِرو َ
عن ْد َه ُ ل ي َ ْن ِ م ْض وَ َ
ت َوالْر ِ ماَوا ِ
س َ ن ِفي ال ّم ْه َ } - 14وَل ُ
ن { ]النبياء . [20 - 19 : فت ُُرو َ َ َ ّ
ن اللي ْل َوالن َّهاَر ل ي َ ْ حو َ سب ّ ُ
ن {} ي ُ َسُرو َح ِ وََل ي َ ْ
ست َ ْ
اليمان بالملئكة أحد أصول اليمان ،ول يتم اليمان بالله وكتبه ورسله إل
باليمان بالملئكة ،وقد وصفهم الله بأكمل الصفات ،وأنهم في غاية القوة
على عبادة الله والرغبة العظيمة فيها ،وأنهم يسبحون الليل والنهار ل
يفترون ،وأنهم ل يستكبرون عن عبادته ،بل يرونها من أعظم نعمه عليهم ،
وأنهم ل يعصون الله ما أمرهم ،ويفعلون ما يؤمرون .
) (1/76
ففي هذا بيان كمال محبتهم لربهم ،وقوة إنابتهم إليه ،ونشاطهم التام في
طاعته ،وأنهم ل يعصونه طرفة عين ،وهم الوسائط بينه وبين رسله ،
وخصوصا جبريل أفضلهم وأعظمهم وأقواهم وأرفعهم عند الله منزلة ; فإنه
طاع ث َ َ
ن { ]التكوير - 20 : مي ٍمأ ِ م َ ٍ ّ ن {} ُ كي ٍ
م ِ ش َ ْ
عن ْد َ ِذي العَْر ِ ذو } :قُوّةٍ ِ
بل َر ّزي ُ َ
ه لت َن ْ ِ ن { ]التكوير } ، [24 :وَإ ِن ّ ُ ْ َ
ضِني ٍ
ب بِ َ
َ
ما هُوَ عَلى الغَي ْ ِ } ، [21وَ َ
ن{ من ْذِِري َ ْ
ن ال ُ م َن ِ ُ َ ْ َ َ
ن {} عَلى قلب ِك ل ِت َكو َ مي ُ ْ
ح ال ِ َ
ن {} ن ََزل ب ِهِ الّرو ُ ال َْعال َ ِ
مي َ
]الشعراء . [194 - 192 :
) (1/77
وكما أنهم الوسائط بينه وبين عباده في تبليغ الوحي والشرائع إلى النبياء ،
فهم الوسائط في التدبيرات القدرية ; فإن الله وصفهم بأنهم المدبرات
أمرا ،فكل طائفة منهم قد وكله على عمل هو قائم به بإذن الله ،فمنهم :
الموكلون بالغيث والنبات ،والموكلون بحفظ العباد مما يضرهم ،وبحفظ
أعمالهم وكتابتها ; والموكلون بقبض الرواح ،وبتصوير الجنة في الرحام ،
وكتابة ما يجري عليها في الحال والمآل ،والموكلون على الجنة والنار ،
ومنهم حملة العرش ومن حوله من الملئكة المقربين ،إلى غير ذلك مما
وصفوا به في الكتاب والسنة .
) (1/78
فيجب اليمان بهم إجمال وتفصيل ،وكثير من سور القرآن فيها ذكر الملئكة
والخبر عنهم ،فعلينا أن نؤمن بذلك كله ،ول تكاد تجد أحدا ينكر وجود
الملئكة إل الزنادقة المنكرين لوجود ربهم ،ومن تستر بالسلم منهم فإنه
ينكر الملئكة حقيقة ،وينكر خبر الله ورسوله عنهم ،ويفسر الملئكة تفسيرا
وتحريفا خبيثا ،فيزعم أن الملئكة هي القوى الخيرية والصفات الحسنة
الموجودة في النسان ،وأن الشياطين هي القوى الشريرة فيه ،وغرضهم
من هذا التحريف دفع الشنعة عنهم ،وقد ازدادوا بهذا التحريف شرا إلى
شرهم ،وراج هذا التحريف الخبيث على بعض الذين يحسنون الظن بهؤلء
الزنادقة ،وليس عندهم بصيرة في أديان الرسل وإن أظهروا تعظيمهم ،فإن
زنادقة الفلسفة أعظم في قلوبهم من الرسل ،وكفى بالعبد ضلل وغيا أن
يصل إلى هذه الحال ،ونعوذ بالله من مضلت الفتن .
) (1/79
ولم تزل بهم هذه الجرأة والخضوع لقوال جهلة الزنادقة حتى فسروا
الملئكة بذلك التحريف ،وحتى زعم بعضهم أن سجود الملئكة لدم ليس
حقيقة ،وإنما ذلك تسخير الله للدميين جميع ما في الرض من القوى
والمعادن وغيرها ،فأنكر ما هو معلوم بالضرورة بخبر الله الصريح في كتابه
وخبر رسوله ،وقال هذه المقالة التي فيها -مع تكذيب الله ورسوله -تسوية
كفار الدميين وفجرتهم وأولهم وآخرهم بآدم ،ومضمون ذلك بل صريح
قولهم :إن الملئكة سجدت لجميع الدميين برهم وفاجرهم ; فأين قول
الناس في موقف القيامة :يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ،ونفخ فيك من
روحه ،وأسجد لك ملئكته . .؟
ولول أن مثل هذه التحريفات والتكذيب لله ورسوله موجود في كتب من
يشار إليهم بالعلم لم يكن بنا حاجة إلى دفع هذا القول الجريء ،الذي يعلم
كل مسلم لم تغيره العقائد الباطلة بطلنه .
) (1/80
) (1/81
ومنها :أن ثواب الخرة ودخول الجنة والتنعم بنعيمها ،والنجاة من النار
وعقابها ،إنما يكون باليمان ،فأهل اليمان هم أهل الثواب المطلق ،وهم
الناجون من جميع الشرور .
ومنها :أن الله يدفع ويدافع عن الذين آمنوا شرور الدنيا والخرة ،فيدفع
سل ْطا ٌ
ن َ ه ُ س لَ ُه ل َي ْ َعنهم كيد شياطين النس والجن ،ولهذا قال تعالى } :إ ِن ّ ُ
ن { ]النحل . [99 : م ي َت َوَك ُّلو َ
مُنوا وَعََلى َرب ّهِ ْ
نآ َ عََلى ال ّ ِ
ذي َ
ن { ]النبياء [88 :أي مِني َ جي ال ْ ُ
مؤ ْ ِ ولما ذكر إنجاءه ذا النون قال } :وَك َذ َل ِ َ
ك ن ُن ْ ِ
:من الشدائد والمكاره إذا وقعوا فيها ،واليمان بنفسه وطبيعته يدفع القدام
على المعاصي ،وإذا وقعت من العبد دفع عقوباتها بالمبادرة إلى التوبة ،كما
قال صلى الله عليه وسلم » :ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن « ( . .
إلى آخر الحديث .
وا إ َِذا
ق ْ
ن ات ّ َذي َن ال ّ ِ
فبين أن اليمان يدفع وقوع الفواحش ،وقال تعالى } :إ ِ ّ
ن { ]العراف . [201 : صُرو َ مب ْ ِ
م ُ ن ت َذ َك ُّروا فَإ َِذا هُ ْ طا ِ شي ْ َ
ن ال ّ
م َ
ف ِ م َ
طائ ِ ٌ سهُ ْ
م ّ
َ
) (1/82
ومنها :أن الله وعد المؤمنين القائمين باليمان حقيقة بالنصر ،وأحقه على
نفسه ،فمن قام باليمان ولوازمه ومتمماته فله النصر في الدنيا والخرة ،
وإنما ينتصر أعداء المؤمنين عليهم إذا ضيعوا اليمان ،وضيعوا حقوقه
وواجباته المتنوعة .
ومنها :أن الهداية من الله للعلم والعمل ولمعرفة الحق وسلوكه هي بحسب
سب ُ َ
ل ه ُ
وان َ ُ
ض َن ات ّب َعَ رِ ْ م ِه َ دي ب ِهِ الل ّ ُ اليمان والقيام بحقوقه ،قال تعالى } :ي َهْ ِ
سَلم ِ { ]المائدة . [16 :
ال ّ
ومعلوم أن اتباع رضوان الله -الذي هو حقيقة الخلص -هو روح اليمان
ه { ]التغابن ن ِبالل ّهِ ي َهْد ِ قَل ْب َ ُ م ْ ن ي ُؤْ ِ
م ْ
وساقه الذي يقوم عليه ،وقال تعالى } :وَ َ
، [11 :فهذه هداية عملية ،هداية توفيق وإعانة على القيام بوظيفة الصبر
عند حلول المصائب إذا علم أنها من عند الله فرضي وسلم وانقاد .
) (1/83
ومنها :أن اليمان يدعو إلى الزيادة من علومه وأعماله الظاهرة والباطنة ;
فالمؤمن بحسب إيمانه ل يزال يطلب الزيادة من العلوم النافعة ،ومن
العمال النافعة ظاهرا وباطنا ،وبحسب قوة إيمانه يزيد إيمانه ورغبته وعمله
م لَ ْ
م ي َْرَتاُبوا { مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ
سول ِهِ ث ُ ّ نآ َ ن ال ّ ِ
ذي َ ما ال ْ ُ
مؤ ْ ِ
مُنو َ ; كما قال تعالى } :إ ِن ّ َ
]الحجرات . [15 :
ه ت عَل َي ْهِ ْ
م آَيات ُ ُ م وَإ َِذا ت ُل ِي َ ْ ت قُُلوب ُهُ ْ جل َ ْ
ه وَ ِن إ َِذا ذ ُك َِر الل ّ ُ ذي َ ن ال ّ ِمُنو َمؤ ْ ِ ما ال ْ ُ } إ ِن ّ َ
ن { ]النفال . [2 : ُ ّ
م ي َت َوَكلو َ َ
ماًنا وَعَلى َرب ّهِ ْ م ِإي َ َزاد َت ْهُ ْ
َ ّ َ
ن { ]التوبة . [124 : شُرو َ ست َب ْ ِ
م يَ ْ ماًنا وَهُ ْ م ِإي َ مُنوا فَزاد َت ْهُ ْ نآ َذي َ ما ال ِ } فَأ ّ
ومنها :أن المؤمنين بالله وبكماله وعظمته وكبريائه ومجده أعظم الناس
يقينا وطمأنينة وتوكل على الله ،وثقة بوعده الصادق ،ورجاء لرحمته ،
وخوفا من عقابه ،وأعظمهم إجلل لله ومراقبة ،وأعظمهم إخلصا وصدقا ،
وهذا هو صلح القلوب ،ل سبيل إليه إل باليمان .
) (1/84
ومنها :أنه ل يمكن للعبد أن يقوم بالخلص لله ولعباد الله ونصيحتهم على
وجه الكمال إل باليمان ،فإن المؤمن تحمله عبودية الله ،وطلب التقرب
إلى الله ،ورجاء ثوابه ،والخشية من عقابه على القيام بالواجبات التي لله ،
والتي لعباد الله .
ومنها :أن المعاملت بين الخلق ل تتم وتقوم إل على الصدق والنصح وعدم
الغش بوجه من الوجوه ،وهل يقوم بها على الحقيقة إل المؤمنون ؟
ومنها :أن اليمان أكبر عون على تحمل المشقات ،والقيام بأعباء
الطاعات ،وترك الفواحش التي في النفوس داع قوي إلى فعلها ،فل تتم
هذه المور إل بقوة اليمان .
ومنها :أن العبد ل بد أن يصاب بشيء من الخوف والجوع ،ونقص من
الموال والنفس والثمرات ،وهو بين أمرين :إما أن يجزع ويضعف صبره ،
فيفوته الخير والثواب ،ويستحق على ذلك العقاب ،ومصيبته لم تقلع ولم
تخف ،بل الجزع يزيدها .وإما أن يصبر فيحظى بثوابها ،والصبر ل يقوم إل
على اليمان ; وأما الصبر الذي ل يقوم على اليمان كالتجلد ونحوه فما أقل
فائدته ،وما أسرع ما يعقبه الجزع ،فالمؤمنون أعظم الناس صبرا ويقينا
وثباتا في مواضع الشدة .
) (1/85
ومنها :أن اليمان يوجب للعبد قوة التوكل على الله ،لعلمه وإيمانه أن
المور كلها راجعة إلى الله ومندرجة في قضائه وقدره ،وأن من اعتمد عليه
كفاه ،ومن توكل على الله فقد توكل على القوي العزيز القهار ،ومع أنه
يوجب قوة التوكل فإنه يوجب السعي والجد في كل سبب نافع ،لن
السباب النافعة نوعان :دينية ودنيوية ،فالسباب الدينية :هي إيمان ،وهي
من لوازم اليمان .
والسباب الدنيوية قسمان :سبب :معين على الدين ،ويحتاج إليه الدين ،
فهو أيضا من الدين كالسعي في القوة المعنوية والمادية التي فيها قوة
المؤمنين .
) (1/86
وسبب :لم يوضع في الصل معينا على الدين ،ولكن المؤمن لقوة إيمانه
ورغبته فيما عند الله من الخير يسلك إلى ربه ،وينفذ إليه مع كل سبب
وطريق ،فيستخرج من المباحات بنيته وصدق معرفته ولطف علمه بابا يكون
به معينا على الخير ،مجما للنفس ،مساعدا لها على القيام بحقوق الله
وحقوق عباده الواجبة والمستحبة ،فيكون هذا المباح حسنا في حقه ،عبادة
لله ،لما صحبه من النية الصادقة ،حتى أن بعض المؤمنين الصادقين في
إيمانهم ومعرفتهم ربما نوى في نومه وراحاته ولذاته التقوي على الخير ،
وتربية البدن لفعل العبادات ،وتقويته على الخير ،وكذلك في أدويته
وعلجاته التي يحتاجها ; وربما نوى في اشتغاله في المباحات أو بعضها
الشتغال عن الشر ،وربما نوى بذلك جذب من خالطه وعاشره بمثل المور
على فعل خير أو انكفاف عن شر .
وربما نوى بمعاشرته الحسنة إدخال السرور والنبساط على قلوب
المؤمنين ،ول ريب أن ذلك كله من اليمان ولوازمه ،ولما كان اليمان بهذا
الوصف قال تعالى في عدة آيات من كتابه } :وَعََلى الل ّهِ فَت َوَك ُّلوا إ ِ ْ
ن ك ُن ْت ُ ْ
م
ن { ]المائدة . [23 : مؤ ْ ِ
مِني َ ُ
) (1/87
ومنها :أن اليمان يشجع العبد ،ويزيد الشجاع شجاعة ،فإنه لعتماده على
الله العزيز الحكيم ولقوة رجائه وطمعه فيما عنده تهون عليه المشقات ،
ويقدم على المخاوف واثقا بربه ،راجيا له ،راهبا من نزوله من عينه لخوفه
من المخلوقين ; ومن السباب لقوة الشجاعة أن المؤمن يعرف ربه حقا ،
ويعرف الخلق حقا ،فيعرف أن الله هو النافع الضار ،المعطي المانع ،الذي
ل يأتي بالحسنات إل هو ،ول يدفع السيئات إل هو ،وأنه الغني من جميع
الوجوه ،وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها ،وألطف به من كل أحد ،وأن
الخلق بخلف ذلك كله ; ول ريب أن هذا داع قوي عظيم يدعو إلى قوة
الشجاعة ،وقصر خوف العبد ورجائه على ربه ،وأن ينتزع من قلبه خوف
الخلق ورجاءهم وهيبتهم .
) (1/88
ومنها :أن اليمان هو السبب العظم لتعلق القلب بالله في جميع مطالبه
الدينية والدنيوية ; واليمان القوي يدعو إلى هذا المطلب الذي هو أعلى
المور على الطلق ،وهو غاية سعادة العبد ; وفي مقابلة هذا يدعو إلى
التحرر من رق القلب للمخلوقين ،ومن التعلق بهم ; ومن تعلق بالخالق دون
المخلوق في كل أحواله حصلت له الحياة الطيبة ،والراحة الحاضرة ،
والتوحيد الكامل ،كما أن من عكس القضية نقص إيمانه وتوحيده ،وانفتحت
عليه الهموم والغموم والحسرات .
ول ريب أن هذين المرين تبع لقوة اليمان وضعفه ،وصدقه وكذبه ،وتحققه
حقيقة أو دعواه والقلب خال منه .
) (1/89
ومنها :أن اليمان يدعو إلى حسن الخلق مع جميع طبقات الناس ،كما فال
النبي صلى الله عليه وسلم » :أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا « ،
وجماع حسن الخلق :أن يتحمل العبد الذى منهم ،ويبذل إليهم ما استطاع
من المعروف القولي والبدني والمالي ،وأن يخالقهم بحسب أحوالهم بما
يحبون إذا لم يكن في ذلك محذور شرعي ،وأن يدفع السيئة بالتي هي
ها ما ي ُل َ ّ
قا َ أحسن ،ول يقوم بهذا المر إل المؤمنون الكمل ; قال تعالى } :وَ َ
ظيم ٍ { ]فصلت . [35 : ح ّ
ظ عَ ِ ها إ ِّل ُذو َ ما ي ُل َ ّ
قا َ صب َُروا وَ َ
ن َ إ ِّل ال ّ ِ
ذي َ
وإذا ضعف اليمان أو نقص أو انحرف أثر ذلك في أخلق العبد انحرافا
بحسب بعده عن اليمان .
ومنها :أن اليمان الكامل يمنع من دخول النار بالكلية ،كما منع صاحبه في
الدنيا من عمل المعاصي ،ومن الصرار على ما وقع منه منها ،واليمان
الناقص يمنع الخلود في النار وإن دخلها كما تواترت بذلك النصوص بأنه يخرج
من النار من كان معه مثقال حبة خردل من إيمان .
) (1/90
ومنها :أن اليمان يوجب لصاحبه أن يكون معتبرا عند الخلق أمينا ،ويوجب
للعبد العفة عن دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ; وفي الحديث » المؤمن
من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم « ; وأي شرف دنيوي أبلغ من هذا
الشرف الذي يبلغ بصاحبه أن يكون من الطبقة العالية من الناس ،لقوة
إيمانه ،وتمام أمانته ،ويكون محل الثقة عندهم ،وإليه المرجع في أمورهم ،
وهذا من ثمرات اليمان الجليلة الحاضرة .
ومنها :أن قوي اليمان يجد في قلبه من ذوق حلوته ولذة طعمه واستحلء
آثاره ،والتلذذ بخدمة ربه ،وأداء حقوقه وحقوق عباده -التي هي موجب
اليمان وأثره -ما يزري بلذات الدنيا كلها بأسرها ،فإنه مسرور وقت قيامه
بواجبات اليمان ومستحباته ،ومسرور بما يرجوه ويؤمله من ربه من ثوابه
وجزائه العاجل والجل ،ومسرور بأنه ربح وقته الذي هو زهرة عمره وأصل
مكسبه ،ومحشو قلبه أيضا من لذة معرفته بربه ومعرفته بكماله وكمال
بره ،وسعة جوده وإحسانه ولذة محبته والنابة إليه الناشئة عن معرفته
بأوصافه ،وعن مشاهدة إحسانه ومننه .
) (1/91
) (1/92
فصادق اليمان يحمله صدقه على القيام بهذه المرتبة التي هي مرتبة
الطبقتين العاليتين بعد النبيين :طبقة الصديقين المجاهدين بالعلم والحجة
والتعليم والنصيحة ،وطبقة الشهداء الذين قاتلوا في سبيل الله ثم قتلوا أو
ماتوا من دون قتل ; وهذا كله من ثمرات اليمان ومن تمامه وكماله ;
وبالجملة فخير الدنيا والخرة كله فرع عن اليمان ومترتب عليه ،والهلك
والنقص إنما يكون بفقد اليمان ونقصه ; والله المستعان .
) (1/93
فصل
في ذكر بعض اليات الحاثة على القيام بحقوق الله وحقوق الخلق
ذي ساًنا وَب ِ ِ ح َ ن إِ ْ وال ِد َي ْ ِ شي ًْئا وَِبال ْ َ كوا ب ِهِ َ شرِ ُ ه وََل ت ُ ْ دوا الل ّ َ قال تعالى َ } :واعْب ُ ُ
ب
ح ِ صا ِ ب َوال ّ جن ُ ِ جارِ ال ْ ُ قْرَبى َوال ْ َ جارِ ِذي ال ْ ُ ن َوال ْ َ كي ِ سا ِم َ مى َوال ْ َ قْرَبى َوال ْي ََتا َ ال ْ ُ
ً َ ّ َ َ
خوًراخَتال فَ ُ م ْ ن ُ كا َ ن َ م ْ ب َ ح ّ ه ل يُ ِ ن الل َ م إِ ّ مان ُك ُ ْ ت أي ْ َ ملك َ ْ ما َ ل وَ َ سِبي ِ ن ال ّ ب َواب ْ ِ جن ْ ِ ِبال ْ َ
{ ]النساء . [36 :
ْ ّ ّ َ ضى َرب ّ َ
ن
وال ِد َي ْ ِدوا إ ِل إ ِّياه ُ وَِبال َ ك أل ت َعْب ُ ُ واليات التي في سورة السراء } :وَقَ َ
َ ُ َ َ َ َ َ
ما
ف وَل ت َن ْهَْرهُ َ ما أ ّ ل لهُ َ ق ْ ما فَل ت َ ُ ما أوْ ك ِلهُ َ حد ُهُ َ ك ال ْك ِب ََر أ َ عن ْد َ َ ن ِ ما ي َب ْل ُغَ ّساًنا إ ِ ّح َ إِ ْ
حى إ ِل َي ْكَ َ َ َ ً َ
ما أوْ َ م ّ ما { ]السراء [23 :إلى قوله } :ذ َل ِك ِ ري ً ما قَوْل ك ِ ل لهُ َ وَقُ ْ
حوًرا { مد ْ ُ ما َ ملو ً ُ م َ جهَن ّ َ قى ِفي َ ْ
خَر فَت ُل َ َ
معَ اللهِ إ ِلًها آ َ ّ ل َ جعَ ْ َ
مةِ وَل ت َ ْ ْ
حك َ ْ
ن ال ِ م َك ِ َرب ّ َ
]السراء . [39 :
) (1/94
هذه اليات الكريمة فيها المر بعبادة الله وحده ل شريك له ،والدخول تحت
رق عبوديته التي هي غاية شرف العبد ،والنقياد لوامره واجتناب نواهيه
محبة له وذل له ،وإخلصا لله وإنابة له في جميع الحالت وفي جميع
العبادات الظاهرة والباطنة ،وفيها النهي عن الشرك به شيئا ،سواء كان
شركا أكبر :بأن يصرف نوعا من أنواع العبادة لغير الله ،أو شركا أصغر :
مثل وسائل الشرك كالحلف بغير الله والرياء ،ونحو ذلك مما يتذرع به إلى
الشرك ،بل الواجب المتعين إخلص العبادة لمن له الكمال المطلق من
جميع الوجوه ،والتدبير الكامل الشامل الذي ل يشركه ول يعينه عليه أحد .
ثم بعدما أمر بالقيام بحق الله المقدم على كل حق أمر بالقيام بحقوق ذوي
ساًنا { ،أي :
ح َ
ن إِ ْ الحقوق من الخلق :الهم فالهم ،فقال } :وَِبال ْ َ
وال ِد َي ْ ِ
أحسنوا إليهم بالقول الكريم ،والخطاب اللطيف ،وبالفعل :بالقيام
بطاعتهما ،واجتناب معصيتهما ،والحذر من عقوقهما ،والنفاق عليهما ،
وإكرام من له تعلق بهما ،وصلة الرحم التي ل رحم لك إل من جهتهما .
) (1/95
ف وََل ت َن ْهَْرهُ َ
ما وَقُ ْ
ل ما أ ُ ّل ل َهُ َ ما فََل ت َ ُ
ق ْ َ
ما أوْ ك َِلهُ َ
حد ُهُ َ
َ
ك ال ْك ِب ََر أ َ
عن ْد َ َ ن ِ ما ي َب ْل ُغَ ّ
} إِ ّ
ما { . ري ً ما قَوًْل ك َ ِ ل َهُ َ
ما َرب َّياِني ما ك َ َ
مهُ َح ْ ل َرّبي اْر َ مةِ وَقُ ْح َن الّر ْم َل ِ ح الذ ّ ّ جَنا َما َ َ
ض لهُ َ ف ْ خ ِ} َوا ْ
صِغيًرا { ]السراء ، [24 :والمر بالحسان إلى الوالدين وإطلقه يدخل فيه َ
كل ما عده الناس إحسانا ،وذلك يختلف باختلف الوقات والحوال
والشخاص .
وفيه النهي عن ضد الحسان إليهما ،وهو أمران :الساءة والعقوق الذي هو
إيصال الذى القولي والفعلي إليهما ،وترك القيام ببعض حقوقهما الواجبة ،
والمر الثاني :ترك الحسان وترك الساءة ،فإن ذلك داخل في العقوق ،
فل يسع الولد أن يقول إذا قمت بواجب والدي وتركت معصيتهما فقد قمت
بحقهما ،فيقال :بل عليك أن تبذل لهما من الحسان الذي تقدر عليه ما
يجعلك في مرتبة البرار البارين بوالديهم .
) (1/96
) (1/97
مى { :هم الذين فقدت آباؤهم وهم صغار ،فمن رحمة أرحم } َوال ْي ََتا َ
الراحمين أمر الناس برحمتهم والحنو عليهم والحسان إليهم ،وكفالتهم وجبر
خواطرهم وتأديبهم ،وأن يربوهم أحسن تربية كما يربون أولدهم ،سواء كان
اليتيم ذكرا أو أنثى ،قريبا أو غير قريب .
ن { :وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر فلم يحصلوا على كي ِ
سا ِم َ } َوال ْ َ
كفايتهم ول كفاية من يمونون ،فأمر تعالى بسد خلتهم ،ودفع فاقتهم ،
والحض على ذلك ،وقيام العبد بما أمكنه من ذلك من غير ضرر عليه .
قْرَبى { أي :الجار القريب الذي له حق الجوار وحق القرابة . جارِ ِذي ال ْ ُ } َوال ْ َ
ب { :الذي ليس بقريب ،فعلى العبد القيام بحق جاره جارِ ال ْ ُ
جن ُ ِ } َوال ْ َ
مطلقا ،مسلما كان أو كافرا ،قريبا أو بعيدا ،بكف أذاه عنه ،وتحمل أذاه ،
وبذل ما يهون عليه ويستطيعه من الحسان ،وتمكينه من النتفاع بجداره ،
أو طريق ماء على وجه ل يضر الجار ،وتقديم الحسان إليه على الحسان
على من ليس بجار ،وكلما كان الجار أقرب بابا كان آكد لحقه ،فينبغي للجار
أن يتعاهد جاره :بالصدقة والهدية والدعوة واللطافة بالقوال والفعال ؛
تقربا إلى الله وإحسانا إلى أخيه صاحب الحق .
) (1/98
) (1/99
َ
مان ُك ُ ْ
م { أي :من الرقيق والبهائم بالقيام بكفايتهم ،وأن ل مل َك َ ْ
ت أي ْ َ ما َ
} وَ َ
يحملوا ما ل يطيقون ،وأن يعاونوا على مهماتهم ،وأن يقام بتقويمهم
وتأديبهم النافع ; فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه المتواضع لعباد
الله المنقاد لمر الله وشرعه ،الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل ;
ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه ،عات على الله ،متكبر على
عباد الله ،معجب بنفسه ،فخور بأقواله على وجه الكبر والعجب واحتقار
الخلق ،وهو في الحقيقة السافل المحتقر .
) (1/100
) (1/101
ط
س ِل ال ْب َ ْسط َْها ك ُ ّ
ك وََل ت َب ْ ُ ة إ َِلى عُن ُ ِ
ق َ مغُْلول َ ً ل ي َد َ َ
ك َ وقال تعالى } :وََل ت َ ْ
جعَ ْ
سوًرا { ]السراء [29 :أي :احذر هذين الخلقين الرذيلين : ح ُم ْ مُلو ً
ما َ قعُد َ َفَت َ ْ
البخل بالواجبات وفي بذل المال فيما ينبغي بذله فيه ،والتبذير بالنفقة فيما
ما { أي : مُلو ً قعُد َ { :إن فعلت ذلك } َ ل ينبغي أو زيادة على ما ينبغي } ،فَت َ ْ
تلم على ما فعلت من السراف ،لن كل عاقل يعرف أن السراف مناف
للعقل الصحيح ; كما أنه مناف للشرع ،فإن الله جعل الموال قياما لمصالح
الخلق ; فكما أن منعها وإمساكها عن وضعها فيما جعلت له مذموم فكذلك
بذلها في المور الضارة ،أو الزيادة غير اللئقة في المور العادية وغيرها
مذموم ،لنه إتلف للمال بغير مصلحة ،وانحراف في حسن التصرف
والتدبير ،وضعف التدبير وعدم انتظامه مذموم في كل شيء ،كما أن حسن
التدبير محمود ونافع لفاعله وغيره .
سوًرا { أي :فارغ اليد ،فل بقي ما في يدك من المال ،ول خلفه مدح ح ُم ْ} َ
وثناء .
) (1/102
) (1/103
) (1/104
فأين هذا الخلق الشنيع من أخلق خواص المؤمنين الذين كلما كثرت أولدهم
وعوائلهم قوي ظنهم بالله ،ورجوا زيادة فضله وقاموا بمؤنتهم مطمئنة
نفوسهم ،حامدين ربهم أن جعل رزقهم على أيديهم ،ومثنين على ربهم إذ
أقدرهم على ذلك ،وراجين ثواب ذلك عنده ،ومشاهدين لمنة الله عليهم
بذلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم » :هل تنصرون وترزقون إل بضعفائكم
بدعائهم ورغبتهم إلى الله « .
سِبيًل { ]السراء ، [32 :والنهي عنَ َ ء ن َفا ِ ً َ َ
سا و ةشَ ح ه َ
كا َ } وََل ت َ ْ
قَرُبوا الّزَنا إ ِن ّ ُ
قربان الزنا يشمل النهي عنه وعن جميع دواعيه ومقدماته ،كالنظر المحرم ،
والخلوة بالجنبية ،وخطاب من يخشى الفتنة بخطابه ونحو ذلك ; ووصف
الزنا بأقبح الوصاف :بأنه فاحشة ،أي :جريمة عظيمة تستفحش شرعا
وعقل ،لن فيها انتهاك حرمة الشرع والتهاون به ،وفيه إفساد المرأة ،
وإفساد النساب ،واختلط المياه ،وفيه إضرار بأهلها وبزوجها وبكل من
يتصل بها ،وفيه من المفاسد شيء كثير .
) (1/105
) (1/106
سُئوًل { ]السراء [36 :أيم ْ
ه َن عَن ْ ُ
كا َ ل ُأول َئ ِ َ
ك َ ؤاد َ ك ُ ّ صَر َوال ْ ُ
ف َ معَ َوال ْب َ َ
س ْ
ن ال ّ
} إِ ّ
:ل بد أن تسأل عن حركة هذه الجوارح ،وهل هي حركات نافعة بأن وضعت
فيما يقرب إلى الله ،أم ضارة بأن وجهت إلى معصية الله ؟ فليتعاهد العبد
بحفظها عن المور الضارة ليعد لهذا السؤال جوابا ،فمن استعملها بطاعة
الله فقد زكاها ونماها ،وأثمرت له النعيم المقيم ،ومن استعملها في ضد
ذلك فقد دساها وأسقطها وأوصلته إلى العذاب الليم .
) (1/107
َْ
حا { ]السراء [37 :أي :ل تتكبر على مَر ً
ض َ
ش ِفي الْر ِ م ِ وقوله } :وََل ت َ ْ
الحق ،ول على الخلق ،فإن التكبر من أرذل الخلق ،والمتكبر المعجب
بنفسه لن يبلغ ما يظنه وتطمح له نفسه من الخيالت الفاسدة أنه في مقام
رفيع على الخلق ،بل هو ممقوت عند الله وعند خلقه ،مبغوض محتقر قد
نزل بخلقه هذا إلى أسفل سافلين ،ففاته مطلوبه من كبره وعجبه ،وحصل
على نقيضه ،ومن مضار الكبر أنه صح الحديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه » :ل يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر « ،
والنار مثوى المتكبرين ،والكبر هو بطر الحق ،وغمط الناس ،أي :
احتقارهم وازدراؤهم ،وهذه الوامر الحسنة والرشادات في هذه اليات من
الحكمة العالية التي أوحاها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ; وهي من
أعظم محاسن الدين ،فالدين هو دين الحكمة التي هي معرفة الصواب
والعمل بالصواب ،ومعرفة الحق والعمل بالحق في كل شيء .
ُ ُ ْ َْ
ن َقالوا
جاهِلو َ
م ال َ خاط َب َهُ ُ
ض هَوًْنا وَإ َِذا َ شو َ َ
ن عَلى الْر ِ م ُ ن يَ ْ ن ال ّ ِ
ذي َ م ِ ح َ
عَباد ُ الّر ْ
} وَ ِ
ما { ]الفرقان 63 :وما بعدها[ . سَل ً
َ
) (1/108
العبودية لله نوعان :عبودية لربوبية الله وملكه ،فهذه يشترك فيها سائر
الخلق مسلمهم وكافرهم ،فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون ،وعبودية
للوهيته ورحمته ،وهي عبودية أنبيائه وأوليائه ،وهي المراد هنا ،ولهذا
ن ( تنبيها على أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال م ِ
ح َ
أضافها إلى اسمه ) الّر ْ
برحمته بهم ولطفه وإحسانه ،فذكر صفاتهم ،أكمل الصفات ،وبالتصاف بها
يكون العبد متحققا بعبوديته الخاصة النافعة المثمرة للسعادة البدية ،
ض هَوًْنا { أي :ساكنين متواضعين لله َْ شو َ َ م ُ
ن عَلى الْر ِ فوصفهم بأنهم } ي َ ْ
وللخلق ،فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده } ،وَإ َِذا
ن { أي :خطاب جهل ،فإنه أضاف الخطاب لهذا الوصف ، جاهُِلو َم ال ْ َ
خاط َب َهُ ُ
َ
ما { أي :خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الثم ،ول يقابلون َ
سل ً ُ
} َقالوا َ
الجاهل بجهله ،وهذا ثناء عليهم بالرزانة والحلم العظيم والعفو عن الجاهل
ومقابلة المسيء بالحسان .
) (1/109
ما { ]الفرقان [64 :أي :يكثرون من دا وَقَِيا ً ج ً س ّ م ُ ن ل َِرب ّهِ ْن ي َِبيُتو َ ذي َ} َوال ّ ِ
جاَفى صلة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له كما قال تعالى } :ت َت َ َ
ن
ذي َ ّ
مًعا { ]السجدة َ } ، [16 :وال ِ خوًْفا وَط َ َ
م َ ن َرب ّهُ ْ عو َ جِع ي َد ْ ُ ضا ِ م َ ن ال ْ َ
م عَ ِ جُنوب ُهُ ْ ُ
م { ]الفرقان [65 :أي :ادفعه عنا ن ه ج
َ َ َّ َ ب ذاَ ع نا ع
ْ ِ ْ َّ َ ف ر ص ا نا ب ر
َ َ َّ ن لو ُ قوُ يَ
ن
بالعصمة من أسبابه ،ومغفرة ما وقع منا مما هو مقتض للعذاب } ،إ ِ ّ
ما { ]الفرقان [65 :أي :ملزما لهلها ملزمة الغريم لغريمه ن غََرا ً كا َ ذاب ََها َ عَ َ
ما { ]الفرقان [66 :وهذا منهم على وجه قا ًم َ قّرا وَ ُ ست َ َم ْ ت ُ ساَء ْ } ،إ ِن َّها َ
التضرع لربهم ،وبيان شدة حاجتهم إليه ،وأنه ليس في طاقتهم احتمال هذا
العذاب ،وليتذكروا منة الله عليهم ،فإن صرف الشدة يعظم وقعه بحسب
شدتها وفظاعتها .
) (1/110
) (1/111
خَر { ]الفرقان : [68 :ل دعاء عبادة ول معَ الل ّهِ إ ِل ًَها آ َن َ عو َن َل ي َد ْ ُ } َوال ّ ِ
ذي َ
دعاء مسألة ،بل يعبدونه وحده مخلصين له الدين حنفاء ،مقبلين عليه
ه { ]الفرقان : [68 : م الل ّ ُحّر َس ال ِّتي َ ف َ ن الن ّ ْ قت ُُلو َ
معرضين عما سواه } ،وََل ي َ ْ
حقّ { ]الفرقان : [68 :كقتل وهي نفس المسلم والكافر المعاهد } ،إ ِّل ِبال ْ َ
النفس بالنفس ،والزاني المحصن ،والتارك لدينه المفارق للجماعة } ،وََل
ك { ]الفرقان [68 :المذكور من الشرك بالله وقتل ل ذ َل ِ َ
فعَ ْ ن يَ ْ
م ْن وَ َي َْزُنو َ
ة م يا قْ لا م و ي ب َ
ذا عْ لا ه َ ل ف ع ضا ي {} ما َ
ثا َ أ قْ ل ي } ، والزنا الله حرم التي النفس
ُ َ ْ َ ِ َ َ ِ ُ َ َ ْ ُ َ ً َ َ
مَهاًنا { ]الفرقان . [69 : ُ } ، العذاب : أي خل ُد ْ ِفيهِ { ]الفرقان [69 - 68 : وَي َ ْ
) (1/112
فالوعيد بالخلود لمن فعلها كلها ثابت في الكتاب والسنة وإجماع المة ،
كذلك لمن أشرك بالله ،وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من
هذه الثلثة ؛ لكونها كلها من أكبر الكبائر ،وأما خلود القاتل بغير حق والزاني
،فقد دلت النصوص القرآنية وتواترت الحاديث النبوية أن جميع المؤمنين
وإن دخلوا النار فسيخرجون منها ،ول يخلد فيها مؤمن ،فإن اليمان الكامل
يمنع من دخولها ،ومطلق اليمان ولو مثقال ذرة يمنع من الخلود فيها كما
تقدم .
ونص الله على ثلثة هذه الشياء لنها أكبر الكبائر ،وفسادها كبير ،فالشرك
فيه فساد الديان بالكلية ،والقتل فيه فساد البدان ،والزنا فيه فساد
ب { ]الفرقان : [70 :عن هذه المعاصي وغيرها بأن ن َتا َم ْالعراض } إ ِّل َ
أقلع عنها في الحال ،وندم على فعلها ،وعزم عزما جازما أن ل يعود ،
ن { ]الفرقان : [70 :بالله إيمانا صحيحا يقتضي فعل الواجبات ،وترك م َ
} َوآ َ
حا { ]الفرقان : [70 :فيدخل فيه جميع مًل َ
صال ِ ً ل عَ َم َالمحرمات } ،وَعَ ِ
الصالحات من واجب ومستحب .
) (1/113
ت { ]الفرقان : [70 :بأن يوفقهم للخير ، سَنا ٍح َ م َسي َّئات ِهِ ْ ل الل ّ ُ
ه َ } فَُأول َئ ِ َ
ك ي ُب َد ّ ُ
فتبدل أقوالهم وأفعالهم التي كانت مستعدة لفعل السيئات تتبدل حسنات ،
فيتبدل شركهم إيمانا ،ومعصيتهم طاعة ،وتتبدل نفس السيئات التي عملوها
،ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وندما وإنابة وطاعة ،تبدل حسنات كما هو
ظاهر الية ،وورد فيه حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه ،فعددها
عليه ; ثم أبدل مكان كل سيئة حسنة إلى آخر الحديث .
ما حي
َ ِ ً ر } ، كلها ذنوبه فوًرا { ]الفرقان : [70 :لمن تاب ،يغفر ه غَ ُ ن الل ّ ُ كا َ} وَ َ
{ ]الفرقان : [70 :بعباده إذ دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم ; ثم
ب إ َِلى الل ّهِ َ
مَتاًبا حا فَإ ِن ّ ُ
ه ي َُتو ُ صال ِ ً م َ
ل َ ب وَعَ ِ
ن َتا َ
م ْوفقهم لها ثم قبلها منهم } ،وَ َ
{ أي :فليعلم أن توبته في غاية الكمال ؛ لنها رجوع إلى الطريق الموصل
إلى الله ،الذي هو عين سعادة العبد وفلحه ،فليخلص فيها ،وليخلصها من
شوائب الغراض الفاسدة .
والمقصود من هذا الحث على تكميل التوبة ،وأن تكون على أكمل الوجوه
وأجلها ؛ لتحصل له ثمراتها الجليلة .
) (1/114
ن الّزوَر { ]الفرقان [72 :أي :ل يحضرون الزور ،أي : دو َ
شهَ ُ ن َل ي َ ْ
ذي َ} َوال ّ ِ
القول المحرم والفعل المحرم ،فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على كل
قول وفعل محرم ،كالخوض في آيات الله بالباطل ،والجدل الباطل ،
والغيبة والنميمة ،والسب والقذف ،والستهزاء وشرب الخمر ،والغناء
المحرم ،وفرش الحرير والصور ،ونحو ذلك ،وإذا كانوا ل يشهدون الزور
فإنهم من باب أولى ل يفعلونه ول يقولونه ; وشهادة الزور داخلة في قول
الزور .
ّ
مّروا ِباللغْوِ { ]الفرقان : [72 :وهو الكلم الذي ل فائدة فيه ،دينية } وَإ َِذا َ
ما { ]الفرقان [72 :أي : مّروا ك َِرا ً
ول دنيوية ،ككلم السفهاء ونحوهم َ } ،
نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه ،ورأوه سفها منافيا لمكارم الخلق
.
ّ
مّروا ِباللغْوِ { إشارة إلى أنهم ل يقصدون حضوره ،ول وفي قوله } :وَإ َِذا َ
سماعه ،ولكن يحصل ذلك بغير قصد ،فيكرمون أنفسهم عنه .
) (1/115
م { ]الفرقان : [73 :التي أمروا بالستماع لها ت َرب ّهِ ْ ن إ َِذا ذ ُك ُّروا ِبآَيا ِ } َوال ّ ِ
ذي َ
مَياًنا { ]الفرقان [73 :أي :لم ما وَعُ ْ ص ّخّروا عَل َي َْها ُ م يَ ِوالهتداء بها } ل َ ْ
يقابلوها بالعراض عنها ،والصمم عن سماعها ،وصرف القلب عنها كما
يفعله من لم يؤمن بها ويصدق ،وإنما حال هؤلء الخيار عند سماعها كما
مد ِح ْ
حوا ب ِ َ
سب ّ ُ
دا وَ َ
ج ً
س ّ ن إ َِذا ذ ُك ُّروا ب َِها َ
خّروا ُ ن ِبآَيات َِنا ال ّ ِ
ذي َ م ُ ما ي ُؤْ ِ
قال تعالى } :إ ِن ّ َ
ن { ]السجدة . [15 : ست َك ْب ُِرو َ م َل ي َ ْ
م وَهُ ْ َرب ّهِ ْ
يقابلونها بالقبول والفتقار إليها والنقياد والتسليم لها ; وتجد عندهم آذانا
سامعة ،وقلوبا واعية ،فيزداد بها إيمانهم ،ويتم بها يقينهم ،وتحدث لهم
فرحا ونشاطا واغتباطا ،لما يعلمون أنها أفضل المنن الواصلة إليهم من
ربهم .
) (1/116
) (1/117
) (1/118
والحاصل أن الله وصفهم بالوقار والسكينة ،والتواضع له ولعباده ،وحسن
الدب ،والحلم وسعة الخلق ،والعفو عن الجاهلين والعراض عنهم ،
ومقابلة إساءتهم بالحسان ،وقيام الليل والخلص فيه ،والخوف من النار ،
والتضرع لربهم أن ينجيهم منها ،وأنهم يخرجون الواجبات والمستحبات في
النفقات على وجه القتصاد ،وإذا كانوا مقتصدين في النفقات التي جرت
عادة أكثر الخلق بالتفريط فيها أو الفراط ،فاقتصادهم وتوسطهم في غيرها
من باب أولى ،ووصفهم بالسلمة من كبائر الذنوب وفواحشها ،وبالتوبة مما
يصدر منهم منها .
) (1/119
) (1/120
َ ْ
ن { ]العراف : [199 :هذه ن ال ْ َ
جاهِِلي َ ض عَ ِ مْر ِبال ْعُْر ِ
ف وَأعْرِ ْ خذِ ال ْعَ ْ
فوَ وَأ ُ } ُ
الية الكريمة جامعة لمعاني حسن الخلق مع الناس ،وما ينبغي للعبد سلوكه
فوَ { :وهو ما سمحت به في معاملتهم ومعاشرتهم ،فأمر تعالى بأخذ } ال ْعَ ْ
أنفسهم ،وسهلت به أخلقهم من العمال والخلق ،بل يقبل ما سهل ،ول
يكلفهم ما ل تسمح به طبائعهم ،ول ما ل يطيقونه ،بل عليه أن يشكر من
كل أحد ما قابله به من قول وعمل وخلق جميل ،وما هو دون ذلك ،ويتجاوز
عن تقصيرهم ،ويغض طرفه عن نقصهم ،وعما أتوا به وعاملوه به من
النقص ،ول يتكبر على صغير لصغره ،ول ناقص العقل لنقصه ،ول الفقير
لفقره ،بل يعامل الجميع باللطف ،وما تقتضيه الحال الحاضرة ،وبما تنشرح
له صدورهم ،ويوقر الكبير ،ويحنو على الصغير ،ويجامل النظير .
) (1/121
ْ
ف { :وهو كل قول حسن وفعل جميل وخلق كامل للقريب مْر ِبال ْعُْر ِ } وَأ ُ
والبعيد ،فاجعل ما يأتي إلى الناس منك :إما تعليم علم ديني أو دنيوي ،أو
نصيحة أو حث لهم على خير من عبادة الله ،وصلة رحم ،وبر الوالدين ،
وإصلح بين الناس ،أو رأي مصيب ،أو معاونة على بر وتقوى ،أو زجر عن
قبيح ،أو إرشاد إلى مصلحة دينية أو دنيوية ،أو تحذير من ضد ذلك .
ولما كان ل بد للعبد من أذية الجاهلين له بالقول أو بالفعل أمر الله بالعراض
عنهم ،وعدم مقابلة الجاهلين بجهلهم ،فمن آذاك بقوله أو فعله فل تؤذه ،
ومن حرمك فل تحرمه ،ومن قطعك فصله ،ومن ظلمك فاعدل فيه ،فبذلك
يحصل لك من الثواب من الله ،ومن راحة القلب وسكونه ،ومن السلمة
من الجاهلين ،ومن انقلب العدو صديقا ،ومن التبوء من مكارم الخلق
َ
ن فَإ َِذاس ُح َ يأ ْأعلها ،أكبر حظ وأوفر َنصيب ،قال تعالى } :اد ْفَعْ ِبال ِّتي هِ َ
ما صب َُروا وَ َن َ ها إ ِّل ال ّ ِ
ذي َ ما ي ُل َ ّ
قا َ م {} وَ َ
مي ٌ
ح ِ
ي َ داوَة ٌ ك َأن ّ ُ
ه وَل ِ ّ ه عَ َ ذي ب َي ْن َ َ
ك وَب َي ْن َ ُ ال ّ ِ
ظيم ٍ { ]فصلت . [35 - 34 : ظ عَ ِ ح ّ ها إ ِّل ُذو َ قا َي ُل َ ّ
) (1/122
ولنقتصر في هذا الموضوع على هذه اليات ،ففيها الهدى والشفاء والخير
كله .
) (1/123
فصل
في أحكام الشرع الفروعية المتنوعة في الصلة والزكاة مع ما ينضم إليهما
من المعاني الخرى
ْ ّ َ ُ َ َ
نجرِ إ ِ ّ ف ْن ال َ ل وَقُْرآ َق اللي ْ ِ ِ سس إ ِلى غَ َ ِ م
ش ْ ك ال ّصلة َ ل ِد ُلو ِقال تعالى } :أقِم ِ ال ّ
َ ة لَ َ جد ْ ب ِهِ َنافِل َ ً
ن ي َب ْعَث َ َ
ك سى أ ْ ك عَ َ ن الل ّي ْ ِ
ل فَت َهَ ّ م َشُهوًدا {} وَ ِ م ْ ن َكا َ جرِ َف ْن ال ْ َقُْرآ َ
موًدا { ]السراء 78 :و . [79 ح ُم ْ
ما َ
قا ً م َ
ك َ َرب ّ َ
هذا المر من الله لعباده بالصلة التي أمر بها في آيات متعددة ،ويأتي المر
صَلة َ { َ
موا ال ّ بها في القرآن بلفظ القامة كهذه الية ،ومثل } :وَأِقي ُ
]البقرة ، [43 :ونحوها ،وهو أبلغ من قوله ) :افعلوها ( ،فإن هذا أمر
بفعلها ،وبتكميل أركانها وشروطها ومكملتها ظاهرا وباطنا ،وبجعلها شريعة
ظاهرة قائمة من أعظم شعائر الدين .
) (1/124
وفي هذه الية زيادة عن بقية اليات ،وهي المر بها لوقاتها الخمسة أو
الثلثة ،وهذه هي الفرائض ،وإضافتها إلى أوقاتها من باب إضافة الشيء
س { أي :زوالها واندفاعها من
م ِ ش ْ ك ال ّإلى سببه الموجب له ف } ل ِد ُُلو ِ
المشرق نحو المغرب ،فيدخل في هذا صلة الظهر وهو أول الدلوك ،وصلة
ل { أي :ظلمته ; فدخل في ذلك ق الل ّي ْ ِ العصر وهو آخر الدلوك } إ َِلى غَ َ
س ِ
صلة المغرب وهو ابتداء الغسق ،وصلة العشاء الخرة ،وبها يتم الغسق
جرِ { أي :صلة الفجر ،وسماها قرآنا لمشروعية ن ال ْ َ
ف ْ والظلمة } ،وَقُْرآ َ
إطالة القراءة فيها ،ولفضل قراءتها لكونها مشهودة ،يشهدها الله ،
وتشهدها ملئكة الليل وملئكة النهار .
* ففي هذه الية الكريمة فوائد :
منها :ذكر الوقات الخمسة صريحا ; ولم يصرح بها في القرآن في غير هذه
ن
حي َ
ن وَ ِ
سو َ
م ُ
ن تُ ْ ن الل ّهِ ِ
حي َ حا َ الية ،وأتت ظاهرة في قوله } :فَ ُ
سب ْ َ
ن { ]الروم ، [17 :وفيها أن هذه المأمورات كلها فرائض ،لن المر حو َ
صب ِ ُ
تُ ْ
بها مقيد في أوقاتها ،وهذه هي الصلوات الخمس وقد تستتبع ما يتبعها من
الرواتب ونحوها .
) (1/125
ومنها :أن الوقت شرط لصحة الصلة ،وسبب لوجوبها ; ويرجع في مقادير
الوقات إلى تقدير النبي صلى الله عليه وسلم ،كما يرجع إليه في تقدير
ركعات الصلة وسجداتها وهيئاتها .
وفيها :أن العصر والظهر يجمعان للعذر ،وكذلك المغرب والعشاء ،لن الله
جمع وقتهما في وقت واحد للمعذور ،ووقتان لغير المعذور .
وفيها :فضيلة صلة الفجر ،وفضيلة إطالة القرآن فيها ،وأن القراءة فيها
ركن ،لن العبادة إذا سميت ببعض أجزائها دل ذلك على فضيلته وركنيته ،
وقد عبر الله عن الصلة بالقراءة وبالركوع وبالسجود وبالقيام ،وهذه كلها
أركانها المهمة .
ك { أي : َ
ةل َ َ ل فَت َهَ ّ
جد ْ ب ِهِ { أي :صل به في أوقاته } َنافِل ً ّ
ن اللي ْ ِ
م َ
قوله } :وَ ِ
لتكون صلة الليل زيادة لك في علو المقامات ورفع الدرجات ،بخلف غيرك
فإنها تكون كفارة لسيئاته .
) (1/126
ويحتمل أن يكون المعنى أن الصلوات الخمس فرض عليك وعلى المؤمنين ،
وأما صلة الليل فإنها فرض عليك وحدك دون المؤمنين لكرامتك على الله ،
إذ جعل وظيفتك أكثر من غيرك ،ومن عليك بالقيام بها ؛ ليكثر ثوابك ،
ويرتفع مقامك ،وتنال بذلك المقام المحمود ،وهو المقام الذي يحمده فيه
الولون والخرون ; مقام الشفاعة العظمى حين يستشفع الخلئق بأكابر
النبياء ،آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى -عليهم السلم ، -وكلهم يعتذر
ويتأخر عنها حتى يستشفعوا بسيد ولد آدم ؛ ليرحمهم الله من هم الموقف
وكربه ،ويفصل بينهم ،فيشفعه الله ،ويقيمه مقاما يغبطه به الولون
والخرون ،وتكون له اليد البيضاء على جميع الخلق ،صلى الله عليه وسلم
تسليما كثيرا ،وأدخلنا في شفاعته ،ومن علينا بالسعي في أسباب شفاعته
التي أهمها إخلص العمال لله ،وتحقيق متابعته في هديه وقوله وعمله .
) (1/127
ْ َ
ميًعا
ج ِ م الل ّ ُ
ه َ ت ب ِك ُ ُ ما ت َ ُ
كوُنوا ي َأ ِ ت أي ْن َ َ قوا ال ْ َ
خي َْرا ِ موَّليَها َفا ْ
ست َب ِ ُ ة هُوَ ُجهَ ٌ } وَل ِك ُ ّ
ل وِ ْ
ديٌر { ]البقرة : [148 :لما أمر الله تعالى رسوله يٍء قَ ِ
ش ْل َه عََلى ك ُ ّ ن الل ّ َإِ ّ
خصوصا والمؤمنين عموما باستقبال بيته الحرام ،أخبر أن كل أهل دين لهم
وجهة يتوجهون إليها في عباداتهم ،وليس الشأن في القبل والوجهات المعينة
،فإنها من الشرائع التي تختلف باختلف الزمنة ،ويدخلها النسخ والنقل من
جهة إلى أخرى ،ولكن الشأن كل الشأن في امتثال طاعة الله على
الطلق ،والتقرب إليه ،وطلب الزلفى عنده .
فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولية ،وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس
حصلت لها الخسارة في الدنيا والخرة ،كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة
على الحقيقة ،وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع ،وهو الذي خلق الله
له الخلق وأمرهم به .
) (1/128
والمر بالستباق إلى الخيرات قدر زائد على المر بفعلها ; فإن الستباق إليها
يتضمن :المر بفعلها ،وتكميلها ،وإيقاعها على أكمل الحوال ،والمبادرة
إليها ،ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الخرة إلى
ت { :تشمل جميع الجنات ،فالسابقون أعلى الخلق درجة ،و } ال ْ َ
خي َْرا ِ
الفرائض والنوافل من صلة وصيام وزكاة وصدقة وحج وعمرة وجهاد ،ونفع
متعد وقاصر .
فهذه الية تحث على التيان بكل ما يكمل هذه العبادات من ركن وواجب
وشرط ومستحب ،ومكمل ومتمم ظاهرا وباطنا :كالمبادرة في أول
الوقت ،وفعل السنن المكملت ،والمبادرة إلى إبراء الذمم من الواجبات ،
وفعل جميع الداب المتعلقة بالعبادات . . .فلله ما أجمعها من آية وأنفعها .
ولما كان أقوى ما يحث النفوس إلى المسارعة إلى الخيرات ما رتب الله
ما َ
عليها من الثواب ،وما يخشى بتفويتها من الحرمان والعقاب قال } :أي ْن َ َ
ه عََلى ك ُ ّ ْ
ديٌر { ؛ فيجمع الله العباد يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ن الل ّ َ
ميًعا إ ِ ّ
ج ِ م الل ّ ُ
ه َ ت ب ِك ُ ُ تَ ُ
كوُنوا ي َأ ِ
يوم القيامة بقدرته ،ويجازيهم بما أسلفوه من العمال خيرها وشرها .
) (1/129
م
فت ُ ْ
خ ْ
ن ِ موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ
ن {} فَإ ِ ْ طى وَُقو ُ س َصَلةِ ال ْوُ ْ
ت َوال ّ صل َ َ
وا ِ ظوا عََلى ال ّ
حافِ ُ} َ
جاًل أ َوْ ُرك َْباًنا { ]البقرة 238 :و . . [239إلى آخر الية :يأمر تعالى فَرِ َ
بالمحافظة على الصلوات عموما ،وعلى الصلة الوسطى وهي صلة العصر
خصوصا ،لفضلها وشرفها وحضور ملئكة الليل والنهار فيها ،ولكونها ختام
النهار ،والمحافظة على الصلوات عناية العبد بها من جميع الوجوه التي أمر
الشارع بها وحث عليها من :مراعاة الوقت ،وصلة الجماعة ،والقيام بكل
ما به تكمل وتتم ،وأن تكون صلة كاملة تنهى صاحبها عن الفحشاء
والمنكر ،ويزداد بها إيمانه ،وذلك إذا حصل فيها حضور القلب وخشوعه
ن { أي :مخلصين موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ
الذي هو لبها وروحها ،ولهذا قال } :وَُقو ُ
خاشعين لله ،فإن القنوت هو دوام الطاعة مع الخشوع ; ومن تمام ذلك
سكون العضاء عن كل كلم ل تعلق له بالصلة .
وفيها أن القيام في صلة الفريضة ركن إن كان المراد بالقيام هنا الوقوف ،
فإن أريد به القيام بأفعال الصلة عموما دل على المر بإقامتها كلها ،وأن
تكون قائمة تامة غير ناقصة .
) (1/130
جاًل أ َوْ ُرك َْباًنا { أي :فصلوا الصلة رجال ،أي :ماشين على م فَرِ َفت ُ ْ خ ْ ن ِ } فَإ ِ ْ
أرجلكم أو ساعين عليها ،أو ركبانا على البل وغيرها من المركوبات ،وحذف
المتعلق ليعم الخوف من العدو والسبع ،ومن فوات ما يتضرر بفواته أو
تفويته ،وفي هذه الحال ل يلزمه استقبال القبلة ،بل قبلته حيثما كان
وجهه .
ومثل ذلك إذا اشتبهت القبلة في السفر ،ومثل ذلك صلة النافلة في السفر
َ
ماب فَأي ْن َ َ شرِقُ َوال ْ َ
مغْرِ ُ على الراحلة ،وكل هذا داخل في قوله } :وَل ِل ّهِ ال ْ َ
م ْ
م { ]البقرة : [115 :فهذه صلة سعٌ عَِلي ٌ ن الل ّ َ
ه َوا ِ ه الل ّهِ إ ِ ّج ُ
م وَ ْ ت ُوَّلوا فَث َ ّ
المعذور بالخوف ،فإذا حصل المن صلى صلة كاملة ،ويدخل في قوله :
َ
ه { ]البقرة : [239 :تكميل الصلوات ; ويدخل فيه م َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ من ْت ُ ْ } فَإ َِذا أ ِ
أيضا الكثار من ذكر الله شكرا له على نعمة المن ،وعلى نعمة التعليم .
) (1/131
وفي الية الكريمة فضيلة العلم ،وأن على من علمه الله ما لم يكن يعلم
الكثار من ذكر الله ; وفيه تنبيه على أن الكثار من ذكر الله سبب لنيل علوم
أخر لم يكن العبد ليعرفها ،فإن الشكر مقرون بالمزيد ،وقد ذكر الله صلة
صَلة َ { َ
ت ل َهُ ُ
م ال ّ م فَأقَ ْ
م َ الخوف في سورة النساء في قوله } :وَإ َِذا ك ُن ْ َ
ت ِفيهِ ْ
]النساء ، [102 :فأمر بها على تلك الصفة تحصيل للجماعة لها ،وقياما
لللفة ،وجمعا بين القيام بالصلة والجهاد حسب المكان ،وبالقيام بالواجبات
مع التحرز من شرور العداء ; فسبحان من جعل في كتابه الهدى والنور
والرشاد ،وإصلح المور كلها .
) (1/132
فصل
خذ ْ ُ } : وقال ، [ 43 : ]البقرة { ة
ّ َ َ
كا ز ال توا وآ ة لَ ص ال موا قي َ أ و } : تعالى قال
ّ َ َ ُ َ ِ ُ
َ
ن ل َهُ ْ
م سك َ ٌ ك َ صَلت َ َ ن َ م إِ ّ ل عَل َي ْهِ ْ ص ّم ب َِها وَ َ كيهِ ْ م وَت َُز ّ ة ت ُط َهُّرهُ ْ صد َقَ ً م َ وال ِهِ ْم َنأ ْ م ِْ
ن م قوا ُ ف ن َ أ نوا م آ ن ذي ّ ل ا ها يَ أ يا } : وقال ، [ 103 : ]التوبة { م لي
ِ َ ع ع مي س ه ّ ل وال
ِ ْ ِْ ِ َ َ ُ َّ ٌ َ ُ َ ِ ٌ
ن قو ُ ف ن ت ه ن م ثَ بي خ
َ ْ لا موا م ي ت لَ و ض ر َ ْ
ل ا ن م م ُ ك َ ل نا ج ر خ
ْ ط َيبات ما ك َسبتم ومما أ َ
َ ِ ْ ُ ُ ْ ِ ِ َ ّ ُ َ ْ ِ َ َ ِ ْ َ َ ْ ِ
َ ْ ْ َ ّ ُ َّ ِ َ
ّ َ َ َ ّ
ميد ٌ { ]البقرة : ح ِي َ ه غَن ِ ّ ن الل َموا أ ّ ضوا ِفيهِ َواعْل ُ م ُ ن ت ُغْ ِ ذيهِ إ ِل أ ْ خ ِ م ِبآ ِ ست ُ ْ وَل َ ْ
صادِهِ { ]النعام . [141 : ح َ م َ ه ي َوْ َ ق ُ ح ّ ، [267وقال َ } :وآُتوا َ
) (1/133
قد جمع الله في كتابه في آيات كثيرة بين المر بإقام الصلة وإيتاء الزكاة ؛
لنهما مشتركتان في أنهما من أهم فروض الدين ،ومباني السلم العظيمة ،
واليمان ل يتم إل بهما ،ومن قام بالصلة وبالزكاة كان مقيما لدينه ،ومن
ضيعهما كان لما سواهما من دينه أضيع ،فالصلة فيها الخلص التام
للمعبود ،وهي ميزان اليمان ،والزكاة فيها الحسان إلى المخلوقين ،وهي
برهان اليمان ،ولهذا اتفق الصحابة على قتال مانعي الزكاة ،وقال أبو بكر
رضي الله عنه " :لقاتلن من فرق بين الصلة والزكاة " .
ة { :هذا المر موجه للنبي صلى الله صد َقَ ً خذ ْ م َ
م َ
وال ِهِ ْ
م َ
نأ ْفقوله تعالى ْ ِ ُ } :
عليه وسلم ،ومن قام مقامه أن يأخذ من أموال المسلمين صدقة ،وهي
الزكاة ،وهذا شامل لجميع الموال المتمولة من أنعام وحروث ونقود
م { :من سب ْت ُ ْ ما ك َ َ
ت َ ن ط َي َّبا ِ م ْ وعروض ،كما صرح به في الية الخرى ِ } :
ض { :منن الْر ِ
َ ْ م َ
م ِ ُ َ
جَنا لك ْ خَر ْما أ َ ْ
م ّ
النقود والعروض والماشية المنماة } ،وَ ِ
الحبوب والثمار .
) (1/134
وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم النصب في هذه النواع كلها ،وبين
مقدار الواجب منها ،وأنها عشر الخارج من الرض مما يسقى بل مؤنة ،
ونصف عشره فيما سقي بمؤنة ،وربع العشر من أموال التجارة ،وذلك إذا
حال الحول في أموال التجارة ،وحصل الحصاد والجذاذ وقت حصول الثمار ،
كما هو صريح الية المذكورة .
وأمر تعالى بإخراج الوسط ،فل يظلم رب المال فيؤخذ العالي من ماله -إل
أن يختار هو ذلك -ول يحل له أن يتيمم الخبيث -وهو الرديء من ماله -
فيخرجه ،ول تبرأ بذلك ذمته إن كانت فرضا ،ول يتم له الجر والثواب إن
كانت نفل ; وبين تعالى الحكمة في ذلك ،وأنها حكمة معقولة :فكما أنكم ل
ترضون ممن عليه حق لكم أن يعطيكم الرديء من ماله الذي هو دون حقكم
إل أن تقبلوه على وجه الكراهة والغماض ،فكيف ترضون لربكم ولخوانكم
ما ل ترضونه لنفسكم ؟ فليس هذا من النصاف والعدل .
) (1/135
وبين تعالى الحكمة في الزكاة وبيان مصالحها العظيمة ،فقال } :ت ُط َهُّرهُ ْ
م
طىمعْ َ طي وال ْ ُ معْ ِم ب َِها { فهذه كلمة جامعة ،يدخل فيها من المنافع لل ُ وَت َُز ّ
كيهِ ْ
م { أي : والمال والمور العمومية والخصوصية شيء كثير ،فقوله } :ت ُط َهُّرهُ ْ
من الذنوب ومن الخلق الرذيلة ،فإن من أعظم الذنوب وأكبرها منع
الزكاة ،وأيضا إعطاؤها سبب لمغفرة ذنوب أخرى ،فإنها من أكبر
الحسنات ،والحسنات يذهبن السيئات .
) (1/136
ومن أشنع الخلق الرذيلة البخل ،والزكاة تطهره من هذا الخلق الرذيل ،
ويتصف صاحبها بالرحمة والحسان ،والشفقة على الخلق ،وتطهر المال من
الوساخ والفات ،فإن للموال آفات مثل آفات البدان ،وأعظم آفاتها أن
تخالطها الموال المحرمة ; فهي للموال مثل الجرب تسحته ،وتحل به
النكبات والنوائب المزعجة ،فإخراج الزكاة تطهير له من هذه الفة المانعة
له من البركة والنماء ،فيستعد بذلك للنماء والبركة ،وتوجيهه للمور
م ب َِها { فالزكاة هي النماء والزيادة ،فهي النافعة ،وأما قوله } :وَت َُز ّ
كيهِ ْ
تنمي المؤتي للزكاة ،تنمي أخلقه ،وتحل البركة في أعماله ،ويزداد بالزكاة
ترقيا في مكارم الخلق ومحاسن الشيم ; وتنمي المال بزوال ما به ضرره
وحصول ما فيه خيره ،وتحل فيه البركة من الله .
) (1/137
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم » :ما نقصت صدقة من مال « ،بل
تزيده ،وتنمي أيضا المخرج إليه فتسد حاجته ،وتقوم المصلحة الدينية التي
تصرف فيها الزكاة كالجهاد والعلم والصلح بين الناس والتأليف ونحوها ،
وأيضا تدفع عادية الفقر والفقراء ،فإن أرباب الموال إذا احتكروها
واحتجزوها ،ولم يؤدوا منها شيئا للفقراء ،اضطر الفقراء وهم جمهور الخلق
وثاروا بالشر والفساد على أرباب الموال ،وبهذا ونحوه تسلطت البلشفة
على الخلق ; فالقيام بالدين السلمي على وجهه بعقائده وحقائقه وأخلقه
وأداء حقوقه هو السد المانع شرعا وقدرا لهذه الطائفة التي بها فساد الديان
والدنيا والخرة ،وأمر تعالى الخذ منهم الزكاة أن يصلي عليهم فيدعو لهم
بالبركة ،فإن في ذلك تطمينا لخواطرهم ،وتسكينا لقلوبهم ،وتنشيطا لهم ،
وتشجيعا على هذا العمل الفاضل ،وكما أن المام والساعي مأمور بالدعاء
للمزكي عند أخذها فالفقير المحتاج إذا أعطيها من باب أولى أن يشرع له
الدعاء للمعطي تسكينا لقلبه ،وفي هذا إعانة على الخير .
) (1/138
ودل تعليل الية الكريمة أن كل ما أعان على فعل الخير ،ونشط عليه ،
وسكن قلب صاحبه أنه مطلوب ومحبوب لله ،وأنه ينبغي للعبد مراعاته
وملحظته في كل شأن من شؤونه ،فإن من تفطن له فتح له أبوابا نافعة له
ولغيره بل تعب ول مشقة ،وأنه ينبغي إدخال السرور على المؤمنين .
َ
ميد ٌ { :
ح ِ
ي َ ن الل ّ َ
ه غَن ِ ّ ولما أمر في آية البقرة بالنفقات قال َ } :واعْل َ ُ
موا أ ّ
غني بذاته عن جميع المخلوقين ،وهو الغني عن نفقات المنفقين وطاعات
الطائعين ،وإنما أمرهم بها وحثهم عليها لمحض مصلحتهم ونفعهم ،وبمحض
فضله وكرمه عليهم ،إذ تفضل عليهم بالمر بهذه العمال ،والتوفيق لفعلها ،
التي توصل أصحابها إلى أعلى المقامات ،وأفضل الكرامات .
) (1/139
ومع كمال غناه وسعة عطاياه فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الحكام
الموصلة لهم إلى دار السلم ،وحميد في أفعاله التي ل تخرج عن الفضل
والعدل والحكمة ،وحميد الوصاف ؛ لن أوصافه كلها محاسن وكمالت ،ل
يدرك العباد كنهها ،ول يقدرونها حق قدرها ،فلما حثهم على النفاق النافع
نهاهم عن المساك الضار ! وبين لهم أنهم بين داعيين :داعي الرحمن
يدعوهم إلى الخير ،ويعدهم عليه الفضل ،والثواب العاجل والجل ،وخلف
ما أنفقوا ; وداعي الشيطان الذي يحثهم على المساك ،ويخوفهم إن أنفقوا
افتقروا ; فمن كان مجيبا لداعي الرحمن وأنفق مما رزقه الله فليبشر
بمغفرة الذنوب ،وحصول كل مطلوب ; ومن كان مجيبا لداعي الشيطان
فإنه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ; فليختر العبد أي المرين
أليق به ،وختم الية بالخبار بأنه " واسع عليم " أي :واسع الصفات ،كثير
الهبات ،عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين المخلصين الصادقين ،
وعليم بمن هو أهل لذلك ،فيوفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات .
) (1/140
) (1/141
فأما الفقراء والمساكين فهم خلف الغنياء ،والفقير أشد حاجة من
المسكين ،لن الله بدأ به ،والهم مقدم في الذكر غالبا ،ولكن الحاجة
ن عَل َي َْها { :وهم السعاة الذين يجبونها ويكتبونها مِلي َ تجمع الصنفين َ } ،وال َْعا ِ
ويحفظونها ،ويقسمونها على أهلها ،فهم يعطون ولو كانوا أغنياء لنها بمنزلة
م { :وهم سادات العشائر والرؤساء فةِ قُُلوب ُهُ ْ مؤَل ّ َ
الجرة في حقهم َ } ،وال ْ ُ
الذين إذا أعطوا حصل في إعطائهم مصلحة للسلم والمسلمين ،إما دفع
شرهم عن المسلمين ،وإما رجاء إسلمهم وإسلم نظرائهم ،أو جبايتها ممن
ب { أي :في فكها من الرق ل يعطيها أو يرجى قوة إيمانهم } ،وَِفي الّرَقا ِ
كإعانة المكاتبين ،وكبذلها في شراء الرقاب لعتقها ،وفي فك السارى من
ن { :للصلح بين الناس إذا كان الصلح مي َالمسلمين عند العداء َ } ،وال َْغارِ ِ
يتوقف على بذل مال ،فيعانون على القيام بهذه المهمة والمصلحة
العظيمة ،وهي الصلح بين الناس ،ولو أغنياء ،ومن الغارمين من ركبتهم
لسِبي ِ
ديون للناس وعجزوا عن وفائها ،فيعانون من الزكاة لوفائها } ،وَِفي َ
الل ّهِ { أي :بذلها في إعانة المجاهدين بالزاد والمزاد والمركوب والسلح
) (1/142
ونحوها مما فيه إعانة المجاهدين ،ومن الجهاد التخلي لطلب العلم الشرعي
ل { :وهو الغريب المنقطع به في غير
سِبي ِ
ن ال ّ
والتجرد للشتغال به } ،وَا ِب ْ ِ
بلده ،فيعان على سفره من الزكاة .
فالله تعالى فرضها لهؤلء الصناف بحسب حكمته وعلمه ،ووضعه الشياء
مواضعها ،فإن سد الكفايات وقيام المصالح العمومية النافعة من الفروض
على المسلمين ،وهي على أهل الموال شكر منهم لله تعالى على نعمته
بالمال ،وتطهير لهم ولها ،ونماء وبركة ،واتصاف بصفات الخيار ،وسلمة
من نعوت الشرار .
) (1/143
فصل
في الطهارة بالماء والتيمم
ُ ُ ْ َ َ َ ُ ّ َ
م
جوهَك ْ سلوا وُ ُ صلةِ فاغ ِ م إ ِلى ال ّ مت ُ ْ مُنوا إ َِذا ق ْ نآ َ ذي َ قال الله تعالى } :يا أي َّها ال ِ
َ َ
ن ك ُن ْت ُ ْ
م ن وَإ ِ ْ ِ م إ َِلى ال ْك َعْب َي ْ جل َك ُ ْ م وَأْر ُ سك ُ ْ
حوا ب ُِرُءو ِ س ُ م َق َوا ْ ِ مَرافِ م إ َِلى ال ْ َ وَأي ْدِي َك ُ ْ
ط أ َْو ن ال َْغائ ِ ِ م َ م ِ من ْك ُ ْ حد ٌ ِ
َ
جاَء أ َ
جنبا َفاط ّهروا وإن ك ُنتم مرضى أ َو عََلى س َ َ
فرٍ أوْ َ َ ْ َِ ْ ُْ ْ َ ْ َ ّ ُ ُ ًُ
جوهِك ُْ
م ِ ُ ُو ب حوا س
ْ َ ُ م َ
فا با
ًّ ي َ ط دا عي
َ ِ ً ص موا م
ََ ّ ُ ي تَ ف ً ء ماَ دوا ج
ْ َ ِ ُ ت م َ لَ ف َ ء سا
م ْ ُ ُ ّ َ
ن ال م ت س َل َ
َ
م
م وَل ِي ُت ِ ّ ريد ُ ل ِي ُط َهَّرك ُ ْ ن يُ ِحَرٍج وَل َك ِ ْ ن َ م ْ م ِل عَل َي ْك ُ ْ جعَ َ ه ل ِي َ ْريد ُ الل ّ ُ ما ي ُ ِ ه َ من ْ ُ م ِ ديك ُ ْ وَأي ْ ِ
ن { ]المائدة . [6 : شك ُُرو َ م تَ ْ م ل َعَل ّك ُ ْ ه عَل َي ْك ُ ْ مت َ ُن ِعْ َ
هذه اليات جمع الله فيها أحكام طهارة الماء وطهارة التيمم ،والتنبيه على
شروطهما ،وبيان كيفياتهما ،وذكر فوائد ذلك ،وثمراته الطيبة ،فبين فيها
الحكام وحكمها وأسرارها ،وهي أحكام كثيرة تستفاد من هذا الموضع .
) (1/144
م إ َِلىمت ُ ْ منها :أن الطهارة من الحدثين شرط لصحة الصلة ؛ لقوله } :إ َِذا قُ ْ
سُلوا { . .إلخ ،ومنها :أن ذلك عام للفرائض من الصلوات صَلةِ َفاغْ ِ ال ّ
والنوافل ،فكل ما يسمى صلة فل بد فيه من هذه الطهارة .
سلواُ صَلةِ فاغ ِ
ْ َ م إ َِلى ال ّ ومنها :اشتراط النية للطهارة ؛ لقوله } :إ َِذا قُ ْ
مت ُ ْ
م { أي :لجل الصلة ،فإن المتطهر إما أن ينوي رفع ما عليه من جوهَك ُ ْ
وُ ُ
الحداث ،أو ينوي الصلة ونحوها مما يحتاج إلى الطهارة ،أو ينويهما .
ومنها :أن غسل هذه العضاء ل بد منه في الحدث الصغر ،فحد الوجه ما
يدخل في مسماه ،وما تحصل به المواجهة ،وذلك من الذن إلى الذن
عرضا ،ومن منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طول مع
مسترسل اللحية ،لن هذا هو الذي تحصل به المواجهة ،وأما اليدان فقد
حدهما الله إلى المرفقين ،فقال العلماء :إن ) إ َِلى ( بمعنى مع المرفقين ،
وأيدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ،وكذلك
يقال في الرجلين إلى الكعبين ،وأما الرأس فإنه يتعين استيعاب مسحه ،
فإن الله أمر بمسحه ،والباء لللصاق الذي يقتضي إلصاق المسح بهذا
الممسوح ،وليست للتبعيض .
) (1/145
ومنها :أن الترتيب بين هذه العضاء الربعة شرط ،لن الله رتبها ،وأدخل
عضوا ممسوحا بين العضاء المغسولة ،ول يعلم لهذا فائدة سوى الترتيب
وعموم قوله صلى الله عليه وسلم » :ابدأ بما بدأ الله به « ،فهو وإن كان
واردا في الحج فإنه يعم كل شيء ،مع أن جميع الواصفين لوضوئه صلى الله
عليه وسلم ذكروه مرتبا .
ومنها :أن الموالة شرط أيضا ،ووجه ذلك أن الله تعالى ذكر الوضوء مقترنا
بعض العضاء ببعض بالواو الدالة على اجتماع هذه العبادة بوقت واحد ،فإذا
فرقها في وقتين لم تكن عبادة واحدة كما لو فرق الصلة ،وبفعل النبي
صلى الله عليه وسلم الدائم الذي كأنك تشاهده أنه كان يوالي بين أعضاء
وضوئه ،وهذا أولى من استدلل كثير من أهل العلم بقصة صاحب اللمعة
الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء كله ،فهو وإن كان
فيه بعض الدللة على هذه المسألة ،لكن يحتمل أن أمره بالعادة كأمر
المسيء في صلته أن يعيد ،لنه رآه مخل بوضوئه غير متمم له .
) (1/146
ومنها :بيان الطهارة الكبرى ،كيفيتها وذكر سببها ،فكيفيتها :أن يطهر العبد
جن ًُبا َفاط ّهُّروا { :فلم يخصه م ُن ك ُن ْت ُ ْ
جميع ظاهر بدنه بالماء ؛ لقوله } :وَإ ِ ْ
بعضو أو بأعضاء معينة ،بل جعل الله التطهير لجميع البدن ،فعلى المتطهر
أن يعمم التطهير لجميع ظاهر بدنه وما تحت الشعور ،خفيفة أو كثيفة ،وأن
يكون ذلك غسل ل مسحا .
ومنها :أن طهارة الحدث الكبر ل ترتيب فيها ول موالة .
ومنها :أن من أسبابها الجنابة ،والجنابة قد عرفها المسلمون عن نبيهم صلى
الله عليه وسلم أنها :إنزال المني يقظة أو مناما -وإن لم يكن جماع ، -أو
الجماع -وإن لم يحصل إنزال ، -أو وجود المرين كليهما .
وقد بين الله أيضا في سورة البقرة سببا آخر للغتسال وهو الحيض في قوله
قربوهُن حتى يط ْهرن فَإَذا تط َهرن فَأ ْتوهُن من حي ُ َ
ه{ م الل ّ ُ
مَرك ُ ُ
ثأ َ ّ ِ ْ َ ْ ُ ّ َ ّ َ ُ ْ َ ِ َ ّ ْ َ } :وََل ت َ ْ َ ُ
]البقرة [222 :فأضاف التطهير فيها إلى البدن كله كالجنابة ،ويشمل ذلك
النفاس ،وأما التطهير من إسلم الكافر وتطهير الميت فإنه يؤخذ من
السنة .
) (1/147
ومنها :ما استدل به كثير من أهل العلم في قراءة الجر في قوله :
َ
م { أنها تدل على مسح الخفين الذي بينته جل َك ُ ْ سك ُ ْ
م وَأْر ُ حوا ب ُِرُءو ِس ُ م َ} َوا ْ
َ
م( فإنها معطوفة على جل ِك ُ ْ
السنة وصرحت به ،وأما قراءة النصب في ) أْر ُ
المغسولت .
ومنها :مشروعية التيمم ،وأن سببه أحد أمرين :إما عدم الماء لقوله :
ضى { ، مْر َ ن ك ُن ْت ُ ْ
م َ ماًء { ،أو التضرر باستعماله لقوله } :وَإ ِ ْ دوا َ ج ُ } فَل َ ْ
م تَ ِ
فكل ضرر يعتري العبد إذا استعمل الماء فإنه يسوغ له العدول إلى التيمم ;
وأنواع الضرر كثيرة ; وأما ذكر السفر فلنه مظنة الحاجة إلى التيمم لفقد
الماء كتقييد الرهن في السفر ،ل لن السفر وحده مسوغ للتيمم كما ظنه
ماًء { .
دوا َ
ج ُ بعض الناس ،وهو مناف لقوله } :فَل َ ْ
م تَ ِ
ومنها :أن التيمم بكل ما تصاعد على وجه الرض سواء كان له غبار أم ل ،
إذا كان طيبا غير خبيث ،والخبيث هو النجس في هذا الموضع .
ومنها :أن التيمم خاص بعضوين :بالوجه واليدين ،وأن اليدين عند الطلق
وعدم التقييد هما الكفان كما في آية السرقة ،وإذا قيدت كما في آية
الوضوء إلى المرفقين تقيدت بذلك .
) (1/148
ومنها :التنبيه على ما يوجب الطهارة الصغرى ،وهو التيان من الغائط ،
يعني :خروج الخارج من أحد السبيلين ،وملمسة النساء لشهوة ،والسنة
بينت الوضوء من النوم الكثير ،ولمس الفرج ،وأكل لحوم البل على اختلف
من أهل العلم في ذلك .
ومنها :أن التيمم كما أنه مشروع في الحدث الصغر ،فكذلك في الحدث
الكبر ؛ لن الله تعالى ذكره بعد سبب الطهارتين .
ومنها :أنه في طهارة التيمم تستوي فيه الطهارة الصغرى بالكبرى في مسح
العضوين فقط .
ومنها :أن الية الكريمة تدل على أن طهارة التيمم تنوب وتقوم مقام طهارة
الماء عند عدمه ،أو التضرر باستعماله ؛ لن الله أنابه منابه ،وسماه
طهارة .
وكذلك الحاديث الكثيرة تدل على هذا ،وبهذا يعرف أن الصحيح أن طهارة
التيمم ل تبطل بخروج وقت ول دخوله ،ول غير ذلك مما قاله كثير من أهل
العلم ،بل إنها تبطل بأحد أمرين :إما حصول ناقض من نواقض الطهارة ،
وإما وجود الماء أو زوال الضرر المانع من استعمال الماء .
) (1/149
ومنها :أن الماء المتغير بالطاهرات -ولو تغيرا كثيرا -أنه يجب تقديمه على
ماًء { نكرة في سياق النفي ،فيعم دوا َ
ج ُ طهارة التيمم ،لن قوله } :فَل َ ْ
م تَ ِ
أي ماء سوى الماء النجس .
ومنها :ما استدل به كثير من أهل العلم أن من كان في موضع ليس فيه ماء
،وهو يشك في وجوده فيما يقاربه أن عليه أن يطلبه ،ويفتش فيما حوله
دوا { ل يقال إل بعد طلب ما ج ُ قبل أن يعدل إلى التيمم ،لن قوله } :فَل َ ْ
م تَ ِ
يمكن طلبه من دون مشقة ،وهو استدلل لطيف .
م ومنها :أنه ل بد في الطهارة من النية ؛ لقوله في طهارة الماء } :إ َِذا قُ ْ
مت ُ ْ
موا { م ُسُلوا { ( . . .إلى آخره ،وفي طهارة التيمم } :فَت َي َ ّ صَلةِ َفاغْ ِ
إ َِلى ال ّ
دا ط َي ًّبا { ومن لزم ذلك النية . صِعي ً
أي :اقصدوا } َ
ومنها :أن هذه الحكام التي شرعها الله لعباده إنما ذلك رحمة منه بعباده ؛
ليقوموا بالعبادات التي تتوقف سعادتهم وفلحهم عليها ،وأنه يريد إتمام
نعمته عليهم بالوامر الشرعية التي ل مشقة فيها ول حرج ؛ لينالوا الفضل
العظيم من ربهم ،فمنه التفضل على عباده بالسبب والمسبب .
) (1/150
ومنها :أن طهارة التيمم -وإن لم يشاهد فيها نظافة حسية -فإن فيها
طهارة معنوية ناشئة عن امتثال العبد لمر الله ورسوله .
حَرٍج { ،ن َ
م ْ ل عَل َي ْك ُ ْ
م ِ جعَ َ ريد ُ الل ّ ُ
ه ل ِي َ ْ ما ي ُ ِ
ومنها :القاعدة الكلية في قوله َ } :
وأن الحرج منفي شرعا في جميع ما شرعه الله لعباده ،فأصل العبادات في
غاية السهولة على المكلفين ،ثم إذا عرضت فيها عوارض عجز أو مرض أو
تعذر لبعض شروطها فإن الشارع يخففها تخفيفا يناسب ذلك العارض .
ومنها :أن هذه الحكام وغيرها من محاسن الدين السلمي ،لما فيها من
المنافع للعباد في قلوبهم وأبدانهم وأخلقهم ،والتقرب بها إلى الله ،
والتوسل بها إلى ثوابه العاجل والجل ،فجميع الحكام من أكبر الدلة على
حسن دين السلم ،وأنه الدين الحق الذي فيه الصلح والصلح ،وأن سعادة
الدنيا والخرة منوطة به ،مترتبة عليه ،فتأمل أحكام الله وما فيها من الحكم
والسرار والمنافع ودفع المضار ،تجد هذا مشاهدا فيها .
) (1/151
فصل
في صلة الجمعة والسفر والذان
َ
واسعَ ْ معَةِ َفا ْج ُ ن ي َوْم ِ ال ْ ُ
م ْ صَلةِ ِ مُنوا إ َِذا ُنودِيَ ِلل ّ نآ َ ذي َ قال تعالى } :يا أي َّها ال ّ ِ
ت ن {} فَإ َِذا قُ ِ
ضي َ ِ مو َ م ت َعْل َ ُن ك ُن ْت ُ ْم إِ ْخي ٌْر ل َك ُ ْم َ إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ وَذ َُروا ال ْب َي ْعَ ذ َل ِك ُ ْ
م ّ َ
ه ك َِثيًرا لعَلك ُ ْ ّ
ل اللهِ َواذ ْك ُُروا الل َ ّ ض ِ ن فَ ْ م ْ ض َواب ْت َُغوا ِ ِ شُروا ِفي اْل َْر صَلة ُ َفان ْت َ ِ ال ّ
هّ ما قُ ْ كو َ َ
ضوا إ ِلي َْها وَت ََر ُ َ َ َ
عن ْد َ الل ِما ِ ل َ ك َقائ ِ ً ف ّ وا ان ْ َجاَرة ً أوْ لهْ ً ن {} وَإ َِذا َرأْوا ت ِ َ حو َ فل ِ ُ
تُ ْ
ن { ]الجمعة . [11 - 9 : خي ُْر الّرازِِقي َ ه َ ّ
جاَرةِ َوالل ُ ن الت ّ َ م َ ّ
ن اللهْوِ وَ ِ م َ خي ٌْر ِ َ
) (1/152
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالحضور لصلة الجمعة ،والمبادرة إليها من حين
ينادى لها ; والمراد بالسعي هنا :الهتمام بها وعدم الشتغال بغيرها ،ل
المراد به العدو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند المضي إلى
الصلة ،فالمشي إلى الصلة بسكينة ووقار هو المراد بالسعي هنا } وَذ َُروا
ال ْب َي ْعَ { أي :اتركوه في هذه الحالة التي أمرتم بالمضي فيها إلى الصلة ;
وإذا أمر بترك البيع الذي ترغب فيه النفوس ،وتحرص عليه ،فترك غيره من
الشواغل من باب أولى ،كالصناعات وغيرها .
ن { :حقائق المور وثمراتها ،وذلك الخير هو م ت َعْل َ ُ
مو َ ن ك ُن ْت ُ ْ خي ٌْر ل َك ُ ْ
م إِ ْ } ذ َل ِك ُ ْ
م َ
امتثال أمر الله ورسوله ،والشتغال بهذه الفريضة ،التي هي من أهم
الفرائض ،واكتساب خيرها وثوابها ،وما رتب الشارع على السعي لها ،
والمبادرة والتقدم والوسائل ،والمتممات لها من الخير والثواب ،ولما في
ذلك من اكتساب الفضائل ،واجتناب الرذائل ،فإن من أرذل الخصال
الحرص والجشع الذي يحمل العبد على تقديم الكسب الدنيء على الخير
الضروري .
) (1/153
ومن الخير أن من قدم أمر الله ،وآثر طاعته على هوى نفسه ،كان ذلك
برهان إيمانه ،ودليل رغبته ،وإنابته إلى ربه ،ومن ترك شيئا لله عوضه الله
خيرا منه ،ومن قدم هواه على طاعة موله فقد خسر دينه ،وتبع ذلك
خسارة دنياه .
صَلةُ
ت ال ّ وهذا المر بترك البيع مؤقت إلى انقضاء الصلة } فَإ َِذا قُ ِ
ضي َ ِ
ل الل ّهِ { ن فَ ْ َْ َفان ْت َ ِ
ض ِ م ْ
ض { لطلب المكاسب المباحة َ } ،واب ْت َُغوا ِ شُروا ِفي الْر ِ
أي :ينبغي للمؤمن الموفق وقت اشتغاله في مكاسب الدنيا أن يقصد بذلك
الستعانة على قيامه بالواجبات ،وأن يكون مستعينا بالله في ذلك ،طالبا
لفضله جاعل الرجاء والطمع في فضل الله نصب عينيه ،فإن التعلق بالله
والطمع في فضله من اليمان ومن العبادات .
) (1/154
ولما كان الشتغال بالتجارة مظنة الغفلة عن ذكر الله وطاعته أمر الله
ن { أي :في حو َ فل ِ ُ ه ك َِثيًرا ل َعَل ّك ُ ْ
م تُ ْ بالكثار من ذكره ،فقال َ } :واذ ْك ُُروا الل ّ َ
حال قيامكم وقعودكم ،وفي تصرفاتكم وأحوالكم كلها ،فإن ذكر الله طريق
الفلح الذي هو الفوز بالمطلوب ،والنجاة من المرهوب ،ومن المناسب في
هذا أن يجعل المعاملة الحسنة والحسان إلى الخلق نصب عينيه ،فإن هذا
من ذكر الله ،فكل ما قرب إلى الله فإنه من ذكره ،وكل أمر يحتسبه العبد
فإنه من ذكره ،فإذا نصح في معاملته وترك الغش تقرب في هذه المعاملة
إلى الله ؛ لن الله يحبها ،ولنها تمنع العبد من المعاملة الضارة ،وكلما
سامح أحدا أو حاباه في ثمن أو مثمن أو تيسير أو إنظار أو نحوه فإنه من
م ُ
ل ب َي ْن َك ْض َ وا ال ْ َ
ف ْ س ُالحسان والفضل ،وهو من ذكر الله ،قال تعالى } :وََل ت َن ْ َ
{ ]البقرة . [237 :
) (1/155
) (1/156
وليس الصبر على طاعة الله مفوتا للرزق ; فإن الله خير الرازقين ،فمن
اتقى الله رزقه من حيث ل يحتسب ،ومن قدم الشتغال بالتجارة على طاعة
الله لم يبارك له في ذلك ،وكان هذا دليل على خلو قلبه من ابتغاء الفضل
من الله ،وانقطاع قلبه عن ربه ،وتعلقه بالسباب ،وهذا ضرر محض يعقب
الخسران .
* وفي هذه اليات فوائد عديدة :
منها :أن الجمعة فريضة على المؤمنين يجب عليهم السعي لها والهتمام
بشأنها ،وأن الخيرات المترتبة عليها ل يقابلها شيء .
ومنها مشروعية الخطبتين ،وأنهما فريضتان ،وأن المشروع أن يكون
وا إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ { ]الجمعة [9 :يشمل الخطيب قائما ؛ لن قوله َ } :فا ْ
سعَ ْ
السعي إلى الصلة وإلى الخطبتين ،وأيضا فإن الله ذم من ترك استماع
الخطبة .
ومنها :مشروعية النداء يوم الجمعة وغيرها ،لن التقييد بيوم الجمعة دليل
معلى أن هناك نداء لبقية الصلوات الخمس ،كما قال تعالى } :وَإ َِذا َناد َي ْت ُ ْ
ها هُُزًوا وَل َعًِبا { ]المائدة . [58 : صَلةِ ات ّ َ
خ ُ
ذو َ إ َِلى ال ّ
ومنها :النهي عن البيع والشراء بعد نداء الجمعة ،وذلك يدل على التحريم
وعدم النفوذ .
) (1/157
ومنها :أن الوسائل لها أحكام المقاصد ،فإن البيع في الصل مباح ،ولكن
لما كان وسيلة لترك الواجب نهى الله عنه .
ومنها :تحريم الكلم والمام يخطب ،لنه إذا كان الشتغال بالبيع ونحوه -
ولو كان المشتغل بعيدا عن سماع الخطبة -محرما فمن كان حاضرا تعين
عليه أن ل يشتغل بغير الستماع ،كما أيد هذا الستنباط الحاديث الكثيرة .
ومنها :أن المشتغل بعبادة الله وطاعته إذا رأى من نفسه الطموح إلى ما
يلهيها عن هذا الخير من اللذات الدنيوية والحظوظ النفسية شرع أن يذكرها
ما عند الله من الخيرات ،وما لمؤثر الدين على الهوى ،وما يترتب من
الضرر والخسران على ضده .
) (1/158
) (1/159
َ َ
فُروا ِبالل ّهِم كَ َ م عََلى قَب ْرِهِ إ ِن ّهُ ْ
ق ْ دا وََل ت َ ُ ت أب َ ً
ما َم َمن ْهُ ْ
حد ٍ ِل عََلى أ َ } وََل ت ُ َ
ص ّ
ن { ]التوبة . [84 : قو َس ُم َفا ِ ماُتوا وَهُ ْ
سول ِهِ وَ َوََر ُ
أي :ول تصل على أحد مات من المنافقين ،ول تقم على قبره بعد الدفن
لتدعو له ،فإن الصلة عليهم والوقوف على قبورهم للدعاء لهم شفاعة
م
ماُتوا وَهُ ْ سول ِهِ وَ َ فُروا ِبالل ّهِ وََر ُ م كَ َ لهم ،وهم ل تنفع فيهم الشفاعة } إ ِن ّهُ ْ
ن { :خارجون عن دين الله بالكلية ; ومن كان كافرا ومات على ذلك قو َ س َُفا ِ
فما تنفعه شفاعة الشافعين ،وفي ذلك عبرة لغيرهم وزجر ونكال لهم ،
وهكذا كل من علم منه الكفر والنفاق فإنه ل يصلى عليه ،ول يدعى له
بالمغفرة .
وفي هذه الية مشروعية الصلة على المؤمنين ،والوقوف على قبورهم
خصوصا وقت دفنهم للدعاء لهم ،وإن هذا كان عادته صلى الله عليه وسلم
مع المؤمنين ،وقد بينت السنة وجوب تجهيز الميت المسلم بالتغسيل
والتكفين والصلة عليه وحمله ودفنه كما هو معلوم .
) (1/160
فصل
في الصيام وتوابعه
َ
ب عَلى ُ َ ُ َ ُ ّ َ
ما كت ِ َ مك َ صَيا ُ
م ال ّ ب عَلي ْك ُ
مُنوا كت ِ َ
نآ َذي َقال الله تعالى } :يا أي َّها ال ِ
هّ َ ْ
ملوا العِد ّة َ وَل ِت ُكب ُّروا الل َ ُ ْ
ن { إلى قوله } :وَل ِت ُك ِ قو َ م ت َت ّ ُ م ل َعَل ّك ُ ْن قَب ْل ِك ُ ْ م ْ
ن ِ ال ّ ِ
ذي َ
ن { ]البقرة . [185 - 183 : شك ُُرو َ م تَ ْ م وَل َعَل ّك ُ ْ داك ُ ْ عََلى َ
ما هَ َ
يخبر تعالى بمنته على عباده المؤمنين بفرضه عليهم الصيام كما فرضه على
المم السابقة ،لنه من الشرائع الكبار التي هي مصلحة للخلق في كل زمان
،وفي هذا حث للمة أن ينافسوا المم في المسارعة إليه وتكميله ،وبيان
عموم مصلحته ،وثمراته التي ل تستغني عنها جميع المم ; ثم ذكر حكمته
ن { ،فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى ؛ لن فيه حو َ فل ِ ُ
م تُ ْ بقوله } :ل َعَل ّك ُ ْ
امتثال أمر الله واجتناب نهيه .
فالصيام هو الطريق العظم للوصول إلى هذه الغاية التي فيها سعادة العبد
في دينه ودنياه وآخرته ،فالصائم يتقرب إلى الله بترك المشتهيات ؛ تقديما
لمحبة ربه على محبة نفسه ،ولهذا اختصه الله من بين العمال حيث أضافه
إلى نفسه في الحديث الصحيح ،وهو من أعظم أصول التقوى ،فإن السلم
واليمان ل يتم بدونه .
) (1/161
وفيه من حصول زيادة اليمان ،والتمرن على الصبر والمشقات المقربة إلى
رب العالمين ،وأنه سبب لكثرة الطاعات من صلة وقراءة وذكر وصدقة
وغيرها ما يحقق التقوى ،وفيه من ردع النفس عن المور المحرمة من
أقوال وأفعال ما هو من أصول التقوى .
ومنها :أن في الصيام من مراقبة الله بترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه -
لعلمه باطلع ربه عليه -ما ليس في غيره ،ول ريب أن هذا من أعظم عون
على التقوى .
ومنها :أن الصيام يضيق مجاري الشيطان » فإنه يجري من ابن آدم مجرى
الدم « ،فبالصيام يضعف نفوذه ،وتقل معاصي العبد .
ومنها :أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك ،وحمله على مواساة
الفقراء المعدمين ،وهذا كله من خصال التقوى .
ت { أي :قليلة َ
دوَدا ٍمعْ ُولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام أخبر أنها } أّيام ٍ َ
سهلة ،ومن سهولتها أنها في شهر معين يشترك فيه جميع المسلمين ; ول
ريب أن الشتراك هذا من المهونات المسهلت ،ومن ألطاف المولى
كان منك ُم مريضا أوَ
ن َ َ ِ ْ ْ َ ِ ً ْ م ْومعونته للصائمين ،ثم سهل تسهيل آخر فقال } :فَ َ
خَر { وذلك للمشقة -غالبا -رخص الله لهما في ن أ َّيام ٍ أ ُ َ فرٍ فَعِد ّة ٌ ِ
م ْ س َعََلى َ
الفطر .
) (1/162
) (1/163
) (1/164
شهِد َن َ فلما قرر فرضيته ،وبين حكمته في ذلك وفي تخصيصه قال } :فَ َ
م ْ
ه { أي :من حضر الشهر وهو قادر تحتم عليه صيامه } ، م ُص ْ شهَْر فَل ْي َ ُ م ال ّ من ْك ُ ُ
ِ
خَر { :أعاد ذلك تأكيدا له ، ُ َ
ن أّيام ٍ أ َ َ َ َ َ
م ْ
فرٍ فعِد ّة ٌ ِ
س َ
ضا أوْ عَلى َ ري ً م ِن َ ن كا َ م ْوَ َ
ولئل يظن أنه أيضا منسوخ مع ما نسخ من التخيير للقادر .
سَر { أي :يريد الله أن ييسر ويسهل عليكم الطرق م ال ْي ُ ْ ه ب ِك ُ ُريد ُ الل ّ ُ
} يُ ِ
الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ليسهل سلوكها ،ويعين عليها بكل
وسيلة ؛ ليرغب فيها العباد ،وهذا أصل عظيم من أصول الشريعة ،بل كلها
تدور على هذا الصل ،فإن جميع الوامر ل تشق على المكلفين ،وإذا حصل
بعض المشاق والعجز خفف الشارع من الواجبات بحسب ما يناسب ذلك ،
فيدخل في هذا جميع التخفيفات في جواز الفطر ،وتخفيفات السفر ،
والعذار لترك الجمعة والجماعة .
) (1/165
مُلوا ال ْعِد ّة َ { وذلك لئل يتوهم متوهم أن صيام رمضان يحصل وقوله } :وَل ِت ُك ْ ِ
مُلوا ال ْعِد ّةَ { وأمر بشكره
المقصود ببعضه دفع هذا الوهم بقوله } :وَل ِت ُك ْ ِ
على إتمامه ؛ لن من أكبر منن الله على عبده توفيقه لتمامه وتكميله وتبيين
م { هداية التعليم وهداية داك ُ ْ ه عََلى َ
ما هَ َ أحكامه للعبيد } ،وَل ِت ُك َب ُّروا الل ّ َ
التوفيق والرشاد .
) (1/166
جيُبوا ن فَل ْي َ ْ
ست َ ِ داِع إ َِذا د َ َ
عا ِ ب د َعْوَةَ ال ّ
جي ُ
ُ
بأ ِ عَباِدي عَّني فَإ ِّني قَ ِ
ري ٌ ك ِ سأ َل َ َ} وَإ َِذا َ
ن { ]البقرة . [186 : دو َ
ش ُ م ي َْر ُ ّ َ
مُنوا ِبي لعَلهُ ْ ِلي وَل ْي ُؤْ ِ
هذا سؤال وجواب ،أي :إذا سألك العباد عن ربهم ،وبأي طريق يدركون منه
مطالبهم ،فأجبهم بهذا الجواب الذي يأخذ بمجامع القلوب ،ويوجب أن يعلق
العبد بربه بكل مطلوب ديني ودنيوي ،فأخبرهم أن الله قريب من الداعين ،
ليس على بابه حجاب ول بواب ،ول دونه مانع في أي وقت وأي حال ،فإذا
أتى العبد بالسبب والوسيلة ،وهو الدعاء لله المقرون بالستجابة له باليمان
به والنقياد لطاعته ،فليبشر بالجابة في دعاء الطلب والمسألة ،وبالثواب
والجر والرشد إذا دعا دعاء العبادة ،وكل القربات الظاهرة والباطنة تدخل
في دعاء العبادة ،لن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله من ربه
قبول تلك العبادة والثابة عليها .
) (1/167
وفي هذه الية تنبيه على السباب الموجبة لجابة الدعاء التي مدارها على
اليمان بالله ،وتحقيقه بالنقياد لله امتثال لمره واجتنابا لنهيه ; وتنبيه أيضا
على أن موانع الجابة ترك تحقيق اليمان وترك النقياد ،فأكل الحرام وعمل
المعاصي من موانع الجابة ،وهي تنافي الستجابة لله ،وفيه تنبيه على أن
اليمان بالله والستجابة له سبب إلى حصول العلم ،لن الرشد هو الهدى
التام علما وعمل ،ونظير هذا قوله تعالى :
َ
م فُْرَقاًنا { ]النفال [29 :أي : ل ل َك ْ
ُ جعَ ْ قوا الل ّ َ
ه يَ ْ ن ت َت ّ ُمُنوا إ ِ ْ نآ َ ذي َ } يا أي َّها ال ّ ِ
علما تفرقون به بين الحق والباطل ،وبين كل ما يحتاج إلى تفصيله .
هّ
ن الل ُ م { إلى قوله } :ك َذ َل ِ َ
ك ي ُب َي ّ ُ ث إ َِلى ن ِ َ
سائ ِك ُ ْ صَيام ِ الّرفَ ُ ة ال ّ م ل َي ْل َ َل ل َك ُ ْ
ح ّ } أُ ِ
ن { ]البقرة . [187 : : قو َ س ل َعَل ّهُ ْ
م ي َت ّ ُ آَيات ِهِ ِللّنا ِ
) (1/168
كان أول ما فرض الصيام منع المسلمون من الكل والشرب في الليل إذا
ناموا ،فحصلت المشقة لكثير منهم ،فخفف الله ذلك ،وأباح في ليالي
الصيام كلها الكل والشرب والجماع ،سواء نام أو لم ينم ؛ لكونهم يختانون
أنفسهم بترك بعض ما أمروا به لو بقي المر على ما كان أول ،فتاب الله
عليكم بأن وسع لكم أمرا لول توسعته لكان داعيا إلى الثم والقدام على
المعاصي ،وعفا عنكم ما سلف من التخون .
ن { :وطئا وقبلة شُروهُ ّ
ن { بعد هذه الرخصة والسعة من الله } َبا ِ } َفاْل َ
م { أي :اقصدوا في مباشرتكم لزوجاتكم ه ل َك ُ ْ
ب الل ّ ُ
ما ك َت َ َ
ولمسا َ } ،واب ْت َُغوا َ
التقرب إلى الله بذلك ،واقصدوا أيضا حصول الذرية وإعفاف الفرج وحصول
جميع مقاصد النكاح ; وابتغوا أيضا ليلة القدر ،فإياكم أن تشتغلوا بهذه اللذة
وتوابعها وتضيعوا ليلة القدر ،وهي مما كتبه الله لهذه المة ،وفيها من الخير
العظيم ما يعد تفويته من أعظم الخسران ،فاللذة مدركة ،وليلة القدر إذا
فاتت لم تدرك ،ولم يعوض عنها شيء .
) (1/169
خي ْ ِ َ خي ْ ُ َ
ن
م َ ط اْل ْ
سوَد ِ ِ ن ال ْ َ
م َ ط اْلب ْي َ ُ
ض ِ م ال ْ َ
ن ل َك ُ ُ
حّتى ي َت َب َي ّ َ } وَك ُُلوا َوا ْ
شَرُبوا َ
جرِ { :هذا غاية جواز الكل والشرب والجماع في ليالي الصيام ; وفيه أن ف ْال ْ َ
هذه الثلثة إذا وقعت وصاحبها شاك في طلوع الفجر فل حرج عليه ،ودليل
على استحباب السحور ،وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله
وتسهيله على العباد ،ودليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من
الجماع قبل أن يغتسل ؛ لن من لزم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر أن
يدركه الفجر وهو جنب ،ولزم الحق حق ،ثم إذا طلع الفجر أتموا الصيام ،
أي :أمسكوا عن المفطرات إلى الليل ،وهو غروب الشمس .
ولما كانت إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحة عامة لكل أحد ،
َ
ن ِفي
فو َ
عاك ِ ُ
م َ
ن وَأن ْت ُ ْ استثنى تعالى المعتكف بقوله } :وََل ت َُبا ِ
شُروهُ ّ
جد ِ { أي :وأنتم متصفون بذلك ; ودلت الية على مشروعية سا ِ ال ْ َ
م َ
العتكاف ؛ وهو لزوم المساجد لطاعة الله ،وأن العتكاف ل يصح إل بمسجد
; ويستفاد من تعريف المساجد باللف واللم أنها المساجد التي يعرفها
المسلمون ،وأنها التي تقام فيها الصلوات الخمس .
) (1/170
) (1/171
فصل
في الحج وتوابعه
ن
م ْ ً
سِبيل وَ َ َ َ
ست َطاع َ إ ِلي ْهِ َ نا ْ ْ َ ّ
م ِت َ ج الب َي ْ ِ ح ّ س ِ قال الله تعالى } :وَل ِلهِ عَلى الّنا ِ
ن { ]آل عمران . [97 : مي َ ن ال َْعال َ ِ ي عَ ِ ه غَن ِ ّن الل ّ َ
فَر فَإ ِ ّ كَ َ
مَرةَ ل ِل ّهِ { ]البقرة [196 :إلى آخر اليات َ
ج َوال ْعُ ْ ح ّموا ال ْ َ وقال } :وَأت ِ ّ
المتعلقة بالحج .
دى ً ّ ّ َ َ َ
مَباَركا وَهُ ً ة ُ ذي ب ِب َك َ س لل ِ ضعَ ِللّنا ِ ت وُ ِ ن أوّل ب َي ْ ٍ لما قال الله تعالى } :إ ِ ّ
مًنا { ]آل نآ ِ َ
ه كا َ َ
خل ُ ن دَ َ م ْم وَ َ هي َم إ ِب َْرا ِقا ُ م َت َ ت ب َي َّنا ٌ ن {} ِفيهِ آَيا ٌ مي َ ل ِل َْعال َ ِ
عمران 96 :و . [97
وكان في ذلك تنبيه على الحكم والسرار والمصالح والبركات المتنوعة
المحتوي هذا البيت العظيم عليها ،وكان ذلك داعيا إلى تعظيمه بغاية ما
يمكن من التعظيم ،أوجب الله على العباد حجه وقصده لداء المناسك التي
فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وعلمها أمته ،وأمرهم أن يأخذوا
عنه مناسكهم .
) (1/172
فأوجبه على من استطاع إليه سبيل بأن قدر على الوصول إليه بأي مركوب
متيسر ،وبزاد يتزوده ويتم به السبيل ،وهذا هو الشرط العظم لوجوب
الحج ،وهذه الية صريحة في فرضية الحج ،وأنه ل يتم للعبد إسلم ول إيمان
وهو مستطيع إل بحجه ،وأن الله إنما أمر به العباد رحمة منه بهم ،وإيصال
لهم إلى أجل مصالحهم وأعلى مطالبهم ،وإل فالله غني عن العالمين
وطاعتهم ،فمن كفر فلم يلتزم لشرع الله فهو كافر ،ولن يضر إل نفسه .
وأما آية البقرة فإن الله أمر فيها بإتمام الحج والعمرة بأركانهما وشروطهما
وجميع متمماتهما ; ول فرق في ذلك بين الفرض والنفل ،وبهذا تميز الحج
والعمرة عن غيرهما من العبادات ; وإن من شرع فيهما وجب عليه إتمامهما
لله مخلصا ،ويدخل في المر بإتمامهما أنه ينبغي للعبد أن يجتهد غاية
الجتهاد في فعل كل قول وفعل ووصف وحالة بها تمام الحج والعمرة ،وذلك
شيء كثير مفصل في كتب أهل العلم ،وأن من دخل فيهما فل يخرج منهما
إل بإتمامهما والتحلل منهما إل بما استثناه الله وهو الحصر .
) (1/173
) (1/174
) (1/175
) (1/176
وأما فدية قتل الصيد فقد ذكر الله التخيير فيها بين ذبح المثل من النعم ،أو
تقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدبر أو نصف صاع من غيره ،أو يصوم
عن إطعام كل مسكين يوما ; فهذه النواع فديتها تخيير .
وأما المتمتع والقارن فإن هديهما هدي نسك ،غير هدي جبران ،وهو على
الترتيب ،إن تيسر الهدي وجب الهدي ،فإن لم يتيسر فعليه صيام عشرة
أيام ،ثلثة في الحج -ول يؤخرها عن أيام التشريق ، -وسبعة إذا رجع -أي :
فرغ من جميع شؤون النسك ، -ودل إطلق إيجاب الصيام على أنه يجوز
فيها التتابع والتفريق .
ك ( أي :وجوب الهدي على المتمتع والقارن ; أو بدله لمن لم يجد من ) ذ َل ِ َ
َ
جدِ ال ْ َ
حَرام ِ { :وهم الفقية ؛ لن س ِ ري ال ْ َ
م ْ ض ِ
حا ِ ن أهْل ُ ُ
ه َ ن لَ ْ
م ي َك ُ ْ م ْ
الصيام } ،ل ِ َ
من الحكمة في إيجاب الهدي على الفقي أنه لما حصل نسكين في سفرة
واحدة كان هذا من أعظم نعم الله ،فكان عليه أن يشكر الله على هذه
النعمة الجليلة ،ومن جملة الشكر إيجاب الهدي عليه .
) (1/177
وأما المقيمون في مكة أو كانوا في قربها -بحيث ل يقال لهم مسافرون -
ه :في جميع قوا الل ّ َ فليس عليهم هدي ول بدله لما ذكرنا من الحكمة َوات ّ ُ
أموركم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ،ومن ذلك امتثالكم لهذه المأمورات
َ
ديد ُ
ش ِ ن الل ّ َ
ه َ موا أ ّ في هذه العبادة الجليلة ،واجتنابكم لمحظوراتها َ } ،واعْل َ ُ
ب { أي :لمن عصاه ،وذلك موجب للتقوى ،فإن من خاف عقاب الله ال ْعِ َ
قا ِ
انكف عن السيئات ،كما أن من رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب ،
وأما من لم يخف الله فإنه ل بد أن يتجرأ على المحارم ،ويتهاون بالفرائض .
) (1/178
ثم أخبر تعالى أن الحج واقع في أشهر معلومات عند المخاطبين ،بحيث ل
تحتاج إلى تعيين كما احتاج الصيام لتعيين شهره ،وكما بين تعالى أوقات
الصلوات الخمس ،وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم التي لم تزل
مستمرة في ذريته ،معروفة بينهم ،والمراد بالشهر المعلومات عند
الجمهور :شوال وذو القعدة ،وعشر أو ثلثة عشر من ذي الحجة ،فهي
التي يقع فيها الحرام بالحج غالبا ،وهي التي تقع فيها أفعال الحج :أركانه
ج { أي :عقده وأحرم به ؛ لن ن ال ْ َ
ح ّ ن فََر َ
ض ِفيهِ ّ وواجباته ومكملته } ،فَ َ
م ْ
الشروع فيه يصيره فرضا ولو كان قبل ذلك نفل .
) (1/179
واستدل بهذه الية الشافعي ،ومن قال بقوله :إنه ل يجوز الحرام بالحج
قبل أشهره ،ولو قيل :إن الية فيها دللة لقول الجمهور بصحة الحرام
ج { دليل ن ال ْ َ
ح ّ ن فََر َ
ض ِفيهِ ّ بالحج قبل أشهره لكان قريبا ،لن قوله } :فَ َ
م ْ
على أنه يقع الفرض فيهن وفي غيرهن ،وإل لما كان في القيد فائدة } فَلَ
ج { أي :يجب عليكم أن تعظموا حرمة ح ّل ِفي ال ْ َ
دا َ سوقَ وََل ِ
ج َ ث وََل فُ ُ
َرفَ َ
الحرام بالحج ،وخصوصا الواقع في أشهره ،وتصونوه عن كل ما يفسده أو
ينقضه من الرفث ،وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ،خصوصا التكلم
سوقَ { :وهو جميع المعاصي ، في أمور النكاح بحضرة النساء } ،وََل فُ ُ
ل { والجدال هو المماراة والمنازعة دا َج َومنها محظورات الحرام } ،وََل ِ
والمخاصمة ؛ لكونها تثير الشر وتوقع العداوة ،والمقصود من الحج الذل
والنكسار لله ،والتقرب إليه بما أمكن من القربات ،والتنزه عن مقارفة
السيئات ،فإنه يكون بذلك مبرورا ،والحج المبرور ليس له جزاء إل الجنة ،
وهذه الشياء -وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان -فإنه يتأكد المنع
منها في الحج .
) (1/180
واعلم أنه ل يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الوامر ،فلهذا
ن ( المفيدةم ْ ه الل ّ ُ
ه { أتى ) ب ِ َ خي ْرٍ ي َعْل َ ْ
م ُ ن َ فعَُلوا ِ
م ْ ما ت َ ْ
أتبعه بقوله } :وَ َ
لتنصيص العموم ؛ فكل عبادة وقربة فإنها تدخل في هذا ،والخبار بعلمه
يتضمن الحث على أفعال الخير خصوصا في تلك البقاع الشريفة والحرمات
المنيفة فإنه ينبغي اغتنام الخيرات والمنافسة فيها من صلة وصيام وصدقة
وقراءة وطواف وإحسان قولي وفعلي } ،وَت ََزوُّدوا { :لهذا السفر المبارك ؛
فإن التزود فيه الستغناء عن الخلق وعدم التشوف لما عندهم ،وإعانة
المسافرين ،والتوسعة على الرفقة ،والنبساط والسرور في هذا السفر ،
وزيادة التقرب إلى الله تعالى ،وهذا الزاد المراد به إقامة البنية بلغة ومتاع ،
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى
الذي هو زاد إلى دار القرار ،وهو الموصل لكمل لذة وأجل نعيم دائما أبدا ;
ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر وممنوع من
الوصول إلى دار المتقين .
) (1/181
وقد يتمكن الموفق من جعل الزاد الحسي يجمع الزادين :بأن يقصد به وجه
الله ،والقيام بواجب النفس والرفقة ومن يتصل به ،والقيام بالحسان
المستحب ،وقصد امتثال أمر الله ،فالنية هي الساس لكل خير ،التي
َ ُ
ب{ ن يا أوِلي اْلل َْبا ِ
قو ِ
تجعل الناقص كامل والعادة عبادة ،ثم قال َ } :وات ّ ُ
أي :يا أهل العقول الرزينة اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ،
وتركها دليل على فساد العقل والرأي .
ولما أمر بتقواه أخبر أن ابتغاء فضله بالشتغال بالتكسب في التجارة في
مواسم الحج وغيرها ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود
هو الحج ،وكان الكسب حلل منسوبا إلى فضل الله معترفا فيه بنعمة الله ،
ل منسوبا إلى حذق العبد والوقوف مع السبب ونسيان المسبب ،فإن هذا هو
الحرج بعينه في كل وقت ،فكيف إذا قارن النسك الفاضل .
ْ َ
حَرام ِ { م ْ
شعَرِ ال َ عن ْد َ ال ْ َ ت َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ
ه ِ ن عََرَفا ٍ
م ْ
م ِ وفي قوله } :فَإ َِذا أفَ ْ
ضت ُ ْ
دللة على أمور :
* أحدها :أن الوقوف بعرفة من المشاعر الجليلة ،ومن أركان الحج ،فإن
الفاضة من عرفات ل تكون إل بعد الوقوف الذي هو ركن الحج العظم بعد
الطواف .
) (1/182
* الثاني :المر بذكر الله عند المشعر الحرام ،وهو المزدلفة ،وذلك أيضا
معروف ،يكون الحاج ليلة النحر بائنا بها ،وبعد صلة الفجر يقف في
المزدلفة داعيا حتى يسفر جدا ،ويدخل في ذكر الله عند المشعر الحرام ما
يقع في المشعر من الصلوات فرضها ونفلها .
* الثالث :أن الوقوف بمزدلفة متأخر عن الوقوف بعرفة ،كما تدل عليه
) الفاء ( المفيدة للترتيب .
* الرابع والخامس :أن عرفات ومزدلفة كليهما من مشاعر الحج المقصود
فعلها وإظهارها .
* السادس :أن مزدلفة في الحرم ،كما قيده بالمشعر الحرام .
* السابع :أن عرفة بالحل كما هو مفهوم التقييد بمزدلفة .
) (1/183
) (1/184
ولما كانت هذه الفاضة يقصد بها ما ذكر ،والمذكورات آخر المناسك ،أمر
تعالى بعد الفراغ منها باستغفاره ؛ خشية الخلل الواقع من العبد في أداء
العبادة وتقصيره فيها ،وبالكثار من ذكره ؛ شكرا له على نعمة التوفيق لهذه
العبادة العظيمة وتكميلها ،وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة أن يستغفر
الله عن التقصير ،ويشكره على التوفيق ،فهذا حقيق بأن الله يجبر له ما
نقص منها ويتقبلها ،ويزيده نعما أخرى ،لن من جهل حق ربه فرأى نفسه
أنه قد كمل حقوق العبادة فأعجب بنفسه ،ومن بعبادته على ربه ،وتراءى له
أنه قد جعلت له محل ومنزلة رفيعة ،فهذا حقيق بالمقت ،ويخشى عليه من
رد العمل .
) (1/185
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ،وأن الجميع يسألونه مطالبهم ،
ويستدفعونه ما يضرهم ; ولكن هممهم ومقاصدهم متباينة ،فمنهم من
يقول َ } :رب َّنا آت َِنا ِفي الد ّن َْيا { أي :يسأل ربه من مطالب دنياه وشهواته
ق { ل رغبة له فيها ،ول حظ له منها ،خَل ٍ
ن َ
م ْ ه ِفي اْل ِ
خَرةِ ِ ما ل َ ُ
فقط } ،وَ َ
ومنهم عالي الهمة من يدعو الله لمصلحة الدارين ،ويفتقر إلى ربه في
مهمات دينه ودنياه ،وكل من هؤلء وهؤلء له نصيب من كسبهم وعملهم ،
وسيجازيهم الله على حسب أعمالهم ونياتهم ،جزاء دائرا بين الفضل
والحسان والكرم للمقبولين ،وبين العدل والحكمة لغيرهم ،وفي هذه الية
دليل على أن الله تعالى يقبل دعوة كل داع ،مسلما كان أو كافرا ،برا أو
فاجرا ،ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليل على محبته وقربه منه إل في
مطالب الخرة ومهمات الدين ،فمن أجيبت دعوته في هذه المور الدائم
نفعها كان من البشرى ،وكان أكبر دليل على بره وقربه من ربه .
) (1/186
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ،وما
به تكمل حياته ،من رزق هنيء واسع حلل ،وزوجة صالحة ،وولد تقر به
العين ،ومن راحة وعلم نافع وعمل صالح ،وما يتبع ذلك من المطالب
النافعة المحبوبة والمباحة .
وأما حسنة الخرة فهي السلمة من العقوبات التي يستقبلها العباد من عذاب
القبر والموقف وعذاب النار ،وحصول رضا الله ،والفوز بالنعيم المقيم ،
والقرب من الرب الرحيم ،فهذا الدعاء أجمع الدعية وأكملها وأولها باليثار ،
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ،ويحث عليه .
) (1/187
ولما أكمل الله تعالى أحكام النسك أمر بالكثار من ذكره في اليام
المعدودات ،وهي أيام التشريق في قول جمهور المفسرين ،وذلك لمزيتها
وشرفها وكون بقية المناسك تفعل بها ،ولكون الناس فيها أضيافا لله ،ولهذا
حرم صيامها ،فللذكر فيها مزية ليست لغيرها ; ولهذا قال النبي صلى الله
عليه وسلم » :أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله « ،ويدخل في ذكر
الله رمي الجمار ،والتكبير عند رميها ،والدعاء بين الجمرتين ،والذبح
والتسمية فيه ،والصلوات التي تفعل فيها من فرائض ونوافل ،والذكر المقيد
بعد الفرائض فيها ،وعند كثير من أهل العلم أنه يستحب فيها التكبير المطلق
ن{ مي ْ ِ ج َ
ل ِفي ي َوْ َ ن ت َعَ ّ كالعشر ،فجميع ما يقرب إلى الله داخل بذكره } :فَ َ
م ْ
أي :خرج من منى ،ونفر منها قبل غروب الشمس فل إثم عليه ،ومن تأخر
بأن بات بها ليلة الثالث من أيام التشريق ؛ ليرمي من غده فل إثم عليه ،
وهذا تخفيف من الله على عباده حين أباح المرين ،مع أن التأخر أرجح
نم ِلموافقته فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة العبادات ،وقوله } :ل ِ َ
قى { هذا من الحتراز العالي ،لن نفي الحرج يوهم العموم ،فقيل ذلك ات ّ َ
بهذا الشرط الذي هو
) (1/188
ه { :بامتثال أوامره ، قوا الل ّ َ شرط لنفي الحرج في كل شيء َ } ،وات ّ ُ
َ
ن { فمجازيكم بأعمالكم ،فمن شُرو َ ح َ م إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ موا أن ّك ُ ْ واجتناب نواهيه َ } ،واعْل َ ُ
اتقاه وجد عنده جزاء المتقين ،ومن لم يتقه عاقبه عقوبة تارك التقوى ،فإن
التقوى هي ميزان الثواب والعقاب في القائم بها والمضيع لها ،فالعلم
بالجزاء واليمان به هو أعظم الدواعي للقيام بالتقوى .
ّ َ ن َل ت ُ ْ َ ْ
ن
في َ
ي ِللطائ ِ ِ شي ًْئا وَطهّْر ب َي ْت ِ َ
ك ِبي َ شرِ ْ تأ ْ ن ال ْب َي ْ ِ م َ
كا َ م َ } وَإ ِذ ْ ب َوّأَنا ِل ِب َْرا ِ
هي َ
جود ِ { الية -وما تلها ] -الحج . [29 - 26 : ن َوالّرك ِّع ال ّ
س ُ مي َ قائ ِ ِ َوال ْ َ
يذكر الله تعالى عظمة البيت الحرام وجللته ،وعظمة بانيه ،وهو خليل
ْ
ت { أي :هيأناه له وأنزلناه إياه ن ال ْب َي ْ ِكا َم َ م َ هي َ الرحمن فقال } :وَإ ِذ ْ ب َوّأَنا ِل ِب َْرا ِ
،بحيث جعل قسما من ذريته هم سكانه ،وأمره الله ببنيانه ،فبناه وأسسه
على تقوى الله ورضوانه هو وابنه إسماعيل بنية صادقة وخضوع لله وإخلص
ودعاء منهما أن يتقبل منهما هذا العمل الجليل ،فتقبله الله .
) (1/189
فهذه آثار القبول لهذا البيت في كل وقت وجيل متواصلة ،ووصاه بأن ل
يشرك به شيئا ،بأن ينفي الشرك عنه ،وعن ذريته ،وعمن وصلت إليه
ي { أي :من الشرك والمعاصي ،ومن النجاس دعوته } ،وَط َهّْر ب َي ْت ِ َ
والدناس ،وأضافه إلى نفسه ليكتسب شرفا إلى شرفه ،ولتعظم محبته في
القلوب ،لكونه بيت محبوبها العظم ،وتنصب وتهوي إليه الفئدة من كل
جانب ،وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه للطائفين به ; والقائمين عنده
جودِ { أي :المصلين ،أي :طهره لهؤلء للعبادات المتنوعة َ } ،والّرك ِّع ال ّ
س ُ
الفضلء الذين ليس لهم هم إل طاعة مولهم وما يقربهم إليه ،فهؤلء لهم
الحق ،ومن إكرامهم تطهير هذا البيت لهم ،وتهيئته لما يريدونه عنده ،
ويدخل في تطهيره تطهيره من الصوات اللغية المرتفعة التي تشوش على
المتعبدين بالصلة والطواف والقراءة وغيرها ،وقدم الطواف لختصاصه بهذا
َ
ج{ س ِبال ْ َ
ح ّ البيت ،ثم العتكاف لختصاصه بجنس المساجد } ،وَأذ ّ ْ
ن ِفي الّنا ِ
أي :أعلمهم به وادعهم إليه ،وبلغ دانيهم وقاصيهم فرضه وفضيلته ،فإنك
جاًل { أي :مشاة على إذا دعوتهم عن أمر الله أتوك حجاجا وعمارا } رِ َ
أرجلهم من الشوق } ،وَعََلى ك ُ ّ
ل
) (1/190
مرٍ { أي :ناقة ضامر تقطع المهامه والمفاوز ،وتواصل السير حتى تأتي ضا َِ
ق { أي :مكان وبلد بعيد ،وقد فعل مي ٍج عَ ِ َ ّ ُ
ن كل ف ّم ْ
إلى أشرف الماكن } ِ
الخليل صلى الله عليه وسلم ذلك ،ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه
وسلم ،فدعيا الناس إلى حج هذا البيت ،وأبديا وأعادا فيه فحصل ما وعد
الله به ،أتاه الناس رجال وركبانا من مشارق الرض ومغاربها .
ع
مَنافِ َ
دوا َ ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام مرغبا فيه فقال } :ل ِي َ ْ
شهَ ُ
م { أي :لينالوا بوصولهم لبيت الله في النساك منافع متنوعة دينية ، ل َهُ ْ
ومنافع دنيوية كالتكسب وحصول الرباح ،وهذا أمر مشاهد يعرفه كل أحد ،
فجميع العلوم والعبادات الدينية التي تفعل في تلك البقاع الفاضلة ،وما جعل
الله لها من التضعيف داخل في هذه المنافع ،وجميع المنافع الدنيوية التي ل
تعد ول تحصى داخلة في ذلك ; فصدق الله وعده ،وأنجز ما قاله ،وكان ذلك
آية وبرهانا على توحيده وصدق رسله .
) (1/191
َ
مةِ
ن ب َِهي َ
م ْ
م ِ ت عََلى َ
ما َرَزقَهُ ْ معُْلو َ
ما ٍ م الل ّهِ ِفي أّيام ٍ َ وقوله } :وَي َذ ْك ُُروا ا ْ
س َ
اْل َن َْعام ِ { ،وهذه تجمع المرين :الدينية والدنيوية ; أي :ليذكروا اسم الله
عند ذبح الهدايا ؛ شكرا لله على ما رزقهم منها ويسرها لهم ،فإذا ذبحتموها
س ال ْ َ َ
قيَر { أي :شديد الفقر . ف ِ موا ال َْبائ ِ َ
من َْها وَأط ْعِ ُ} فَك ُُلوا ِ
) (1/192
) (1/193
فصل
في آيات تتعلق بالجهاد وتوابعه
َ َ ّ ُ َ ُ
ديٌر {
ق ِ
مل َصرِهِ ْ
ه عَلى ن َ ْ
ن الل َ
موا وَإ ِ ّ
م ظل ِ ُ قات َُلو َ
ن ب ِأن ّهُ ْ ن يُ َ ن ل ِل ّ ِ
ذي َ قال تعالى } :أذِ َ
] ...الحج 39 :و . [40
كان المسلمون في أول المر مأمورين بكف اليدي عن قتال الكفار ،وإنما
جهادهم بالدعوة لحكمة ظاهرة ،فلما اضطهدوا واضطرهم العداء إلى ترك
بلدهم وأوطانهم ،وقتلوا من قتلوا ،وحبسوا من حبسوا ،وجدوا في العداوة
البليغة بكل طريق ،وهاجر المسلمون بسبب ذلك إلى المدينة ،وقواهم الله
على قتال العداء ،وقد رماهم العداء عن قوس واحدة ،فحينئذ أذن الله
َ ُ
موا { لمنعهم من م ظ ُل ِ ُ قات َُلو َ
ن ب ِأن ّهُ ْ ن يُ َ ن ل ِل ّ ِ
ذي َ لهم في القتال ،ولهذا قال } :أذِ َ
ن الل ّ َ
ه دينهم ،وإخراجهم من ديارهم ،ومطاردتهم لهم في كل مكان } ،وَإ ِ ّ
ديٌر { ،وهذا مع أمره لهم بفعل السباب ،ومقاومة العداء م لَ َ
ق ِ عََلى ن َ ْ
صرِهِ ْ
بكل مستطاع أمر لهم بالتوكل عليه ،واستنصاره ،والطلب منه .
) (1/194
) (1/195
) (1/196
َ
ن{ حو َ فل ِ ُ ه ك َِثيًرا ل َعَل ّك ُ ْ
م تُ ْ ة َفاث ْب ُُتوا َواذ ْك ُُروا الل ّ َ م فِئ َ ً مُنوا إ َِذا ل َ ِ
قيت ُ ْ نآ َ ذي َ } يا أي َّها ال ّ ِ
َ
ن الل ّ َ
ه صب ُِروا إ ِ ّ م َوا ْ حك ُ ْب ِري ُ شُلوا وَت َذ ْهَ َ ف َ عوا فَت َ ْ ه وََل ت ََناَز ُ سول َ ُه وََر ُطيُعوا الل ّ َ } وَأ ِ
َ كال ّ ِ
كوُنوا َ ن {} وََل ت َ ُ
سم ب َطًرا وَرَِئاَء الّنا ِ ن دَِيارِهِ ْ م ْ جوا ِ خَر ُ ن َ ذي َ ري َ صاب ِ ِ
معَ ال ّ َ
حيط { ]النفال . [47 - 45 : ٌ م ِن ُ
ملو َ ُ ما ي َعْ َ ه بِ َ ّ
ل اللهِ َوالل ُ ّ سِبي ِ
ن َ ن عَ ْ دو َ ص ّ وَي َ ُ
هذه اليات تضمنت المر بجهاد العداء ،والرشاد إلى السباب التي ينبغي
للجيوش والمجاهدين الخذ بها ،فمن أعظمها وأهمها أمران :الصبر ،وهو
الثبات التام وإبداء كل مجهود في تحصيل ذلك ،والثاني :التوكل على الله ،
والتضرع إليه ،والكثار من ذكره ،فمتى اجتمع المران على وجه الكمال
والتكميل فقد أتى المجاهدون بالسباب الوحيدة للنصر والفلح ،فليبشروا
بنصر الله وليثقوا بوعده .
) (1/197
فيدخل بالمر بالصبر والثبات تمرين النفوس على ذلك ،فإنه من يتصبر
يصبره الله ،وتعلم الرمي والركوب والفنون العسكرية المناسبة للزمان ،
فإن التعليم وتعلم أمور الجهاد من أكبر العون على الثبات والصبر ; ومن ذلك
الحث على الشجاعة ،والسعي في أسبابها ،والترغيب في فضائل الجهاد ،
وما فيه من الثمرات العاجلة والجلة ،وما في تضييعه من ضياع الدين والدنيا
،واستيلء العداء ،والذل والدمار ،فإن النفوس البية والهمم العلية ل
ترضى لنفسها بغير هذا الخلق الفاضل الذي هو أعلى الخلق وأنفعها ،قال
تعالى :
ما لَ ّ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ
ن اللهِ َ
م َ
ن ِجو َ
ن وَت َْر ُ
مو َ
ما ت َأل ُ
نك َ مو َ
م ي َأل ُ
ن فإ ِن ّهُ ْ
مو َ
ن ت َكوُنوا ت َأل ُ
} إِ ْ
ن { ]النساء ، [104 :فحثهم على الصبر بتأملهم وطمعهم في الجر ي َْر ُ َ
جو
والثواب وإدراك المقامات العالية .
وقال أيضا في ذم الناكلين ،وترغيب التائبين الصابرين :
) (1/198
ك بأ َنهم َل يصيبهم ظ َ ٌ
ل الل ّهِ وََل ي َط َُئو َ
ن سِبي ِة ِفي َ ص ٌ
م َ خ َ م ْ ب وََل َ ص ٌ مأ وََل ن َ َ َ ُ ِ ُُ ْ } ذ َل ِ َ ِ ّ ُ ْ
هّ
ن الل َ ح إِ ّ
صال ِ ٌ ل َ م ٌ م ب ِهِ عَ َ َ
ب لهُ ْ ُ ّ ً
ن عَد ُوّ ن َي ْل إ ِل كت ِ َ م ْ ن ِ ُ َ
فاَر وَل ي ََنالو َ ُ
ظ الك ّ ْ موْط ًِئا ي َِغي ُ َ
َل يضيع أ َ
قط َُعو َ
ن صِغيَرة ً وََل ك َِبيَرة ً وََل ي َ ْ َ ة
ً َ ق َ فَ ن ن
َ قو ُ ِ ف ْ ن ُ ي َ
ل َ و {} ن
َ ني
ِ س
ِ ح ْ م
ُ ْ لا ر
َ ج
ْ ُ ِ ُ
واديا إّل ك ُت ِب ل َهم ل ِيجزيهم الل ّه أ َ
ن { ]التوبة 120 :و مُلو َ
كاُنوا ي َعْ َ ما َ ن َ َ سَ ح
ْ ُ ُ َ
ِ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ًِ ِ
. [121
حّر ْ
فُروا ِفي ال َ َ ُ َ
وقال عن المنافقين ونكولهم عن مشقة الجهاد } :وَقالوا ل ت َن ْ ِ
ن { ]التوبة [81 :أي :لو كان عندهم قُهو َ ف َ كاُنوا ي َ ْ حّرا ل َوْ َ شد ّ َ م أَ َ جهَن ّ َ ل َناُر َ قُ ْ
فقه نافع في تنزيل الشياء منازلها ،وتقديم ما ينبغي تقديمه لثروا مشقة
الجهاد على راحة القعود الضار عاجل وآجل .
وفي هذا أنه بحسب فقه العبد وعلمه ويقينه يكون قيامه بالجهاد ،وصبره
عليه وثباته ،ومن دواعي الصبر وهو من الفقه أيضا أنه إذا علم المجاهد أنه
على الحق ويجاهد أهل الباطل أن هذا أعلى الغايات وأشرفها وأحقها ،وأن
الحق منصور وعاقبته حميدة .
) (1/199
ومن دواعي الصبر الثقة بالله وبوعده ؛ فإن الله وعد الصابرين العون والنصر
،وأنه معهم في كل أحوالهم ،ومن كان الله معه فلو اجتمع عليه من
بأقطارها لم يخف إل الله ،ومما يعين على الصبر والثبات ) المر الثاني (
وهو التوكل على الله ،وقوة العتماد عليه ،والتضرع إليه في طلب النصر ،
والكثار من ذكره ،كما قال تعالى هنا حيث رتب على هذا الفلح َ } :واذ ْك ُُروا
ة ك َِثيَرةً ت فِئ َ ً ن فِئ َةٍ قَِليل َةٍ غَل َب َ ْ م ْ م ِ ن { وقال تعالى } :ك َ ْ حو َ فل ِ ُ
م تُ ْ ه ك َِثيًرا ل َعَل ّك ُ ْالل ّ َ
ن { ]البقرة . [249 : ري َ صاب ِ ِمعَ َال ّ ه َ ن الل ّهِ َوالل ّ ُ ب ِإ ِذ ْ ِ
َ
م
صاب َهُ ْ ما أ َ ما وَهَُنوا ل ِ َ ن ك َِثيٌر فَ َ ه رِب ّّيو َ معَ ُ
ل َ ي َقات َ َن ن َب ِ ّ م ْ ن ِ وقال تعالى } :وَك َأي ّ ْ
ن
كا َ ما َ ن {} وَ َ ري َ صاب ِ ِب ال ّ ح ّ ه يُ ِ كاُنوا َوالل ّ ُ ست َ َما ا ْ فوا وَ َ ضعُ ُ ما َ ل الل ّهِ وَ َ سِبي ِ
ِفي َ
َ َ َ
مَنادا َ ت أقْ َ مرَِنا وَث َب ّ ْ سَرافََنا ِفي أ ْ فْر ل ََنا ذ ُُنوب ََنا وَإ ِ ْ ن َقاُلوا َرب َّنا اغْ ِ م إ ِّل أ ْ قَوْل َهُ ْ
ة
خَر ِ ْ
ب ال ِ وا ِ ن ثَ َ س َح ْ ب الد ّن َْيا وَ ُ وا َ ه ثَ َ ّ
م الل ُ ن {} َفآَتاهُ ُ ري َكافِ ِ ْ
قوْم ِ ال َ ْ َ
صْرَنا عَلى ال َ َوان ْ ُ
{ ]آل عمران . [148 - 146 :
) (1/200
َ
ه { ] . . .محمد [6 :أي : صُروا الل ّ َ ن ت َن ْ ُمُنوا إ ِ ْ نآ َ ذي َوقال تعالى } :يا أي َّها ال ّ ِ
تقوموا بدينه وبالحق الذي جاء به رسوله مخلصين لله ،قاصدين أن تكون
كلمة الله هي العليا ينصركم ،ويثبت أقدامكم ،وقال تعالى :
ه
ن ب َعْدِ ِ م ْ
م ِ ُ
صُرك ْ ن َذا ال ّ ِ
ذي ي َن ْ ُ م ْم فَ َ خذ ُل ْك ُ ْ ن يَ ْ ب ل َك ُ ْ
م وَإ ِ ْ غال ِ َ ه فََل َ م الل ّ ُصْرك ُ ُن ي َن ْ ُ} إِ ْ
ن { ]آل عمران . [160 : مُنو َ مؤ ْ ِ ْ
ل ال ُ وَعََلى اللهِ فلي َت َوَك ِ
ّ ْ َ ّ
فإخباره بأنه المتفرد بنصرهم ،وأن غيره ل يملك من النصر شيئا ،وأمرهم
بالتوكل عليه أمر لهم بأقوى السباب النافعة في هذا المقام العظيم ; وقال
َ
س الل ّ ُ
ه ه { ]الطلق } ، [3 :أل َي ْ َ سب ُ ُح ْ ل عََلى الل ّهِ فَهُوَ َ ن ي َت َوَك ّ ْ
م ْ تعالى } :وَ َ
ف عَب ْد َهُ { ]الزمر . [36 : كا ٍ بِ َ
أي :الذي قام بعبوديته ،فبحسب توكلهم عليه ،وقيامهم بعبوديته يحصل لهم
النصر ،والكفاية التامة .
) (1/201
ومن أسباب النصر والصبر والثبات :اتفاق القلوب ،وعدم التفرق والتنازع ،
فإن ذلك محلل للقوة ،موجب للفشل ،وأما اجتماع الكلمة ،وقيام اللفة
بين المؤمنين ،واتفاقهم على إقامة دينهم وعلى نصره فهذا أقوى القوى
المعنوية التي هي الصل ،والقوة المادية تبع لها ،والكمال :الجمع بين
المرين كما أمر الله بذلك في هذه الية ،وفي قوله :
ن ب ِهِ عَد ُوّ الل ِّ
ه ل ُْ ُِ َ
بو هرت ط ال ْ َ
خي ْ ِ ن رَِبا ِ
م ْن قُوّةٍ وَ ِ م ْم ِست َط َعْت ُ ْما ا ْ
م َدوا ل َهُ ْع ّ} وَأ َ ِ
م { ]النفال . [60 : م َل ت َعْل َ ُ
مون َهُ ُ ن ُدون ِهِ ْ م ْن ِ
ري َ
خ ِم َوآ َوَعَد ُوّك ُ ْ
ومن أسباب الثبات والنصر :حسن النية ،وكمال الخلص في إعلء كلمة
الحق ; فلهذا حذر تعالى من مشابهة الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء
الناس ،ويصدون عن سبيل الله ،فهؤلء لما لم يعتمدوا على ربهم ،وأعجبوا
بأنفسهم ،وخرجوا أشرين بطرين ،وكان قتالهم لنصر الباطل باءوا بالخيبة
والفشل والخذلن ،ولهذا أدب خيار الخلق لما حصل من بعضهم العجاب
بالكثرة في غزوة حنين حيث قال القائل :لن نغلب اليوم عن قلة .فقال :
) (1/202
َ َ
م اْلْر ُ
ض ت عَل َي ْك ُ ُضاقَ ْ شي ًْئا وَ َ م َ ن عَن ْك ُ ْ م ت ُغْ ِ م فَل َ ْ م ك َث َْرت ُك ُ ْجب َت ْك ُ ْن إ ِذ ْ أعْ َ حن َي ْ ٍ
م ُ } وَي َوْ َ
ن { ]التوبة ، [25 :فلما زال هذا المر عنهم ، ري َمد ْب ِ ِم ُ ّ
م وَلي ْت ُ ْ تث ّ ُ حب َ ْ
ما َر ُ بِ َ
َ
سول ِهِ وَعَلى َ ّ َ َ
ه عَلى َر ُ كين َت َ ُ
س ِه َ وعرفوا ضعفهم وعاقبة العجاب } :أن َْزل الل ُ
ها { ]التوبة . [26 : م ت ََروْ َ جُنوًدا ل َ ْ ل ُ ن وَأ َن َْز َ مِني َمؤ ْ ِال ْ ُ
ومن السباب التي أرشد الله إليها في القتال :الثبات والصبر وحسن
التدبير ،والنظام الكامل في جميع الحركات العسكرية ،قال تعالى :
م { ]آل ميعٌ عَِلي ٌ س ِه َ ل َوالل ّ ُ عد َ ل ِل ْ ِ
قَتا ِ قا ِ م َ
ن َ مِني َ مؤ ْ ِك ت ُب َوّئُ ال ْ ُ ن أ َهْل ِ َ م ْ ت ِ } وَإ ِذ ْ غَد َوْ َ
عمران . [121 :
) (1/203
وكان صلى الله عليه وسلم يرتب الجيش ،وينزلهم منازلهم ،ويجعل في كل
جنبة كفئها ،ويسد الثغرات التي يخشى أن يتسرب منها العدو ،يحفظ
المكامن ،ويبعث العيون لتعرف أحوال العدو ،ويستعين بمشاورة أصحابه
كما أمر الله بذلك ،خصوصا في هذا المر المهم ،وتعرف أسرار العدو ،
وبث العيون ،ووضع الجواسيس السريين الذين ل يكاد يشعر بهم ،كما أن
من المهم التحرز من جواسيس العدو ،وعمل السباب لخذ الحذر من ذلك
بحسب ما يليق ،ويناسب الزمان والمكان .
ومن المهم أيضا أن تفعل جميع السباب الممكنة في إخلص الجيوش ،
وقتالها عن الحق ،وأن تكون غايتها كلها واحدة ل يزعزعها عن هذا الغرض
السامي فقد رئيس ،أو انحراف كبير ،أو تزعزع مركز قائد ،أو توقف في
صمودها في طريقها النافع على أمور خارجية ،فإنه متى كانت هذه الغاية
العالية هي التي يسعى لها أهل الحل والعقد ،ويعملون لها التعليمات القولية
والفعلية ،كانت الجيوش التي على هذا الوصف مضرب المثل في الكمال
وسداد الحوال ،وحصول المقاصد الجليلة ; ولهذا أرشد الله المؤمنين يوم
أحد إلى هذا النظام العجيب ،فقال تعالى :
) (1/204
قل َب ْت ُ ْ
م ت أ َوْ قُت ِ َ
ل ان ْ َ ما َ ن َ
خل َت من قَبل ِه الرس ُ َ
ل أفَإ ِ ْ ل قَد ْ َ ْ ِ ْ ْ ِ ّ ُ سو ٌ مد ٌ إ ِّل َر ُح ّ م َما ُ } وَ َ
زي الل ُّ
ه ج ي س و ً
ئا ي َ
ش ه ّ ل ال ر ض ي نَ لَ ف هي ب ق ع َ
لى عََلى ْ ِ ْ َ َ ْ َ ْ ِ ْ َ
ع ب ل َ قني ن مو م ُ ك ب قا
َ ع َ أ
ْ َ َ َ ْ ِ َ ْ َ ُ ّ َ ِ َْ ِ
ن { ]آل عمران . [144 : ري َ شاك ِ ِ ال ّ
فنبههم على أنه وإن كان محمد هو المام العظم ،والرسول المعظم ،فإنه
ل ينبغي لكم أن يفت فقده في عزيمتكم ،وانحلل قوتكم ،بل أنتم تقاتلون
لله ،وعلى الحق الذي بعث به رسوله ،ولدفع الباطل والشرور ،فاجعلوا
هذه الغاية نصب أعينكم ،وأساس عملكم ،وامضوا قدما في سبيل الله غير
هائبين ،ول متأثرين إذا أتت المور على خلف مرادكم ،فإن المور هكذا
تكون :تارة لك ،وتارة عليك ،والكمال كل الكمال أن يكون العبد عبدا لله
في الحالين ،في السراء والضراء ،في حال إتيان المور على ما يحب ،أو
ضد ذلك ،وهذا الوصف هو كمال الفرد ،وكمال الجماعات ،والله الموفق .
) (1/205
ومن المور المهمة جدا أن يكون الرئيس رحيما برعيته ،ناصحا محبا للخير ،
ساعيا فيه جهده ،كثير المراودة والمشاورة لهم ،خصوصا لهل الرأي
والحجا منهم ; وأن تكون الرعية مطيعة منقادة ،ليس عندهم منازعات ول
مشاغبات ،قال تعالى :
َ ُ َ َ َ
ن من ْك ُ ْ
م فَإ ِ ْ ل وَأوِلي اْل ْ
مرِ ِ سو َ
طيُعوا الّر ُ
ه وَأ ِ طيُعوا الل ّ َ
مُنوا أ ِنآ َ } يا أي َّها ال ّ ِ
ذي َ
ل { ]النساء [59 :أي :إذا حصل سو ِيٍء فَُرّدوهُ إ َِلى الل ّهِ َوالّر ُش ْم ِفي َ ت ََناَزعْت ُ ْ
النزاع في أي أمر من المور ،خصوصا في المور المتعلقة في سياسة
الحرب ،ردت إلى هذا الصل الذي يطمئن إليه المؤمنون ،ويلجأ إليه كبارهم
وصغارهم ،لعلمهم أنه فرض على جميعهم ،ولعلمهم أن حكم الله ورسوله
هو الخير والصلح ،وأن الله يعلم من مصالحهم ما ل يعلمون ،ويرشدهم
إلى كل ما به ينتفعون .
) (1/206
ومن المور المهمة جدا سلوك طريق الحق ،والعدل في قسمة الغنائم ،
وأن ل تكون ظالمة مستبدا بها القوياء ،محروما منها الضعفاء ،أو تكون
فوضى ،فإن هذين المرين مع ضررهما في الدين -وإن هذا ل يحل ول يجوز
،وهو من أعظم المحرمات -فإنهما يضران غاية الضرر في الجيوش في
وقوع العداوات ،وحصول الجشع والطمع ،وكون وجهتها تكون متباينة ،
فبذلك ينحل النظام ،ويقع الفشل ،ويكون هذا المر أعظم سلح للعداء
على المسلمين .
ومن المور المهمة جدا أيضا -وهي عون كبير في الحروب -السعي بقدر
الستطاعة في إيقاع النشقاق في صفوف العداء ،وفعل كل سبب يحصل
به تفريق شملهم وتفريق وحدتهم ،ومهادنة من يمكن مهادنته منهم ،وبذل
الموال للرؤساء إذا غلب على الظن أن ينكف شرهم عن المسلمين ،فكم
حصل بهذا الطريق من نكاية العدو ما ل يحصل بالجيوش الكثيرة ،ولهذا قال
:
ُ َ ُ َ َ ُ ّ ّ
م
دوُرهُ ْص ُ
ت ُ صَر ْ ح ِ م َجاُءوك ْ ميَثاقٌ أوْ َ م ِ م وَب َي ْن َهُ ْ
ن إ ِلى قوْم ٍ ب َي ْن َك ْ صلو َ ن يَ ِذي َ
} إ ِل ال ِ
ُ َ َ َ ّ َ ّ َ ُ َ َ
م{ ُ
قات َلوك ْ َ
م فل َ ُ
م عَلي ْك ْسلطهُ ْ هل َ شاَء الل ُ م وَلوْ َ مهُ ْ َ
قات ِلوا قوْ َم أوْ ي ُ َقات ُِلوك ْ
ُ ن يُ َ
أ ْ
]النساء . [90 :
) (1/207
فذكر الله هذه المصلحة العظيمة في الكف عن أمثال هؤلء الموصوفين .
وللموفقين من الرؤساء وقواد الجيوش في هذه المور مقامات معروفة صار
لهم فيها اليد البيضاء على المسلمين .
فانظر إلى هذه التعاليم اللهية التي هي النظام الكامل الوحيد في جميع
الزمنة والمكنة ،واستدل بذلك على أن السلم الحقيقي هو الدين الحق
الذي إليه ملجأ الخليقة ،وبه سعادتها وسلمتها من الشرور ،وأن النقص
والهبوط بتضييع تعاليم هذا الدين الذي أكمله الله ،وأتم به النعمة على
المؤمنين .
) (1/208
فصل
في البيوع وأنواع المعاملت
َ
م الّرَبا { ]البقرة . [275 : حّر َ ه ال ْب َي ْعَ وَ َ ل الل ّ ُ ح ّ قال الله تعالى } :وَأ َ
َ ْ َ
ة { ]آل عمران . [130 : ف ًضاعَ َ م َ ضَعاًفا ُ مُنوا َل ت َأك ُُلوا الّرَبا أ ْ نآ َ َ } يا أي َّها ال ّ ِ
ذي
َ َ ْ َ
ن
كو َ ل إ ِّل أ ْ
ن تَ ُ م ِبال َْباط ِ ِم ب َي ْن َك ُ ْوال َك ُ ْ مُنوا َل ت َأك ُُلوا أ ْ
م َ نآ َ وقال } :يا أي َّها ال ّ ِ
ذي َ
م { ]النساء . [29 : من ْك ُ ْض ِ ن ت ََرا ٍ جاَرة ً عَ ْ تِ َ
مى َفاك ْت ُُبوه ُ { إلى قوله : َ َ ّ َ
س ّ م َ ل ُ ج ٍن إ ِلى أ َ م ب ِد َي ْ ٍ مُنوا إ َِذا ت َ َ
داي َن ْت ُ ْ نآ َ ذي َ } يا أي َّها ال ِ
م { ]البقرة . [282 : يٍء عَِلي ٌ ش ْ ل َ ُ
ه ب ِك ّ ّ
ه َوالل ُ ّ
م الل ُ مك ُُ ّ
ه وَي ُعَل ُ قوا الل ّ َ } َوات ّ ُ
) (1/209
اشتملت هذه اليات الكريمات على أحكام جمة وفوائد مهمة ،منها أن
الصل في البيوع والمعاملت والتجارات كلها الحل والطلق ،كما هو صريح
هذه اليات ،ل فرق بين تجارة الدارة التي يديرها التجار بينهم ،هذا يأخذ
العوض ،وهذا يعطي المعوض ،ول بين التجارة في الديون الحال ثمنها ،
المؤجل مثمنها كالسلم ،وبيع السلع بأثمان مؤجلة لعموم قوله } :إ َِذا
ن { ،ول بين تجارة التربص والنتظار ،بأن يشتري السلع في م ب ِد َي ْ ٍ
داي َن ْت ُ ْ
تَ َ
أوقات رخصها ،وينتظر بها الفرص من مواسم وغيرها ،ول بين التجارة
بالتصدير والتوريد من محل إلى آخر ،ول بين التجارة والتكسب أفرادا
ومشتركين ،فكل هذه النواع وما يتبعها قد أباحها الشارع وأطلقها لعباده ؛
رحمة بهم ،وقياما لمصالحهم ،ودفعا للضرار عنهم ،وكلها جائزة بما يقترن
بها ويتبعها من شروط ووثائق ونحوها إذا سلمت من المحاذير الشرعية التي
نبه الله عليها ورسوله ،يدخل في هذا العموم جميع أجناس المبيعات
وأنواعها وأفرادها من عقارات وحيوانات وأمتعة وأطعمة وأوان وأشربة
وأكسية وفرش وغيرها ،وكلها ل بد أن تقترن بهذا الشرط الذي ذكره الله ،
وهو التراضي بين المتعاوضين ،الرضا
) (1/210
الصادر عن معرفة ،وأما السفيه والمجنون ومن ل يعتبر كلمه فوليه يقوم
مقامه في معاملته .
وأعظم المحاذير المانعة من صحة المعاملت :الربا والغرر والظلم .
فالربا الذي حرمه الله ورسوله يدخل فيه ربا الفضل ،وهو بيع المكيل
بالمكيل من جنسه متفاضل ،وبيع الموزون بالموزون من جنسه متفاضل ،
ويشترط في هذا النوع في حله ما شرط الشارع ،وهو التماثل بين المبيعين
بمعياره الشرعي ،مكيل كان أو موزونا ،والقبض للعوضين قبل التفرق ،
وربا النسيئة :وهو بيع المكيل بالمكيل إلى أجل ،أو غير مقبوض -ولو من
غير جنسه -وبيع الموزون بالموزون إلى أجل أو بل قبض ،ويستثنى من هذا
السلم .
) (1/211
وأشد أنواع هذا النوع قلب الديون في الذمم ،وهو الذي ذكره بقوله َ } :ل
َ ْ
ة { ]آل عمران . [130 : ف ًضاعَ َ
م َ ت َأك ُُلوا الّرَبا أ ْ
ضَعاًفا ُ
وذلك إذا حل ما في ذمة المدين ،قال له الغريم " :إما أن تقضيني ديني ،
وإما أن تزيد في ذمتك " ،فيتضاعف ما في ذمة المعسر أضعافا مضاعفة بل
نفع ول انتفاع ،وذلك أن المعسر قد أوجب الله على غريمه إنظاره كما قال
سَرةٍ { ]البقرة . [280 : سَرةٍ فَن َظ َِرة ٌ إ َِلى َ
مي ْ َ ن ُذو عُ ْ ن َ
كا َ تعالى } :وَإ ِ ْ
) (1/212
وسواء كان قلب الدين المذكور صريحا أو يتحيل عليه بحيلة ليست مقصودة ،
وإنما يراد بها التوصل إلى مضاعفة ما في ذمة الغريم ،فهذا الذي قد توعده
الله بهذا الوعيد الشديد ،وأن الذين يأكلون الربا ل يقومون من قبورهم إلى
بعثهم ونشورهم إل كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ،أي :من
الجنون ،فيقومون مرعوبين منزعجين قد اختلت حركاتهم لما يعلمون ما
أمامهم من القلقل والهوال المزعجة والعقوبات لكلة الربا ،وقد آذنهم الله
بمحاربته ومحاربة رسوله إذا لم يتوبوا ،ومن كان محاربا لله ورسوله فإنه
مخذول ،وإن عواقبه وخيمة ،وإن استدرج في وقت فآخر أمره المحق
ت { ]البقرة ، [276 : صد ََقا ِ حقُ الل ّ ُ
ه الّرَبا وَي ُْرِبي ال ّ م َوالبوار ،قال تعالى } :ي َ ْ
عن ْد َ الل ّهِ { ]الروم . [39 :
س فََل ي َْرُبو ِ َ
ل الّنا ِوا ِ م َ
ن رًِبا ل ِي َْرب ُوَ ِفي أ ْ
م ْ
م ِ
ما آت َي ْت ُ ْ
} وَ َ
) (1/213
) (1/214
ومن المحاذير في المعاملت محذور الميسر والغرر ،فإن الله حرم في
كتابه الميسر ،وقرنه بالخمر ،وذكر مضار ذلك ومفاسده ،والميسر يدخل
في المعاملت كما يدخل في المغالبات ،فكما أن المراهنات والمقامرات
وتوابعها من الميسر ،فالبيوع التي فيها غرر ومخاطرات وجهالت داخلة في
الميسر ،ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة » نهى عن بيع الغرر
« ،فيدخل في ذلك بيع الحمل في البطن ،وبيع البق والشارد ،والشيء
الذي لم ير ولم يوصف ،ودخل فيه بيع الملمسة والمنابذة ،وجميع العقود
التي فيها جهالة بينة ؛ وذلك لن أحد المتعاملين إما أن يغنم ،وإما أن يغرم ،
وهذا مخالف لمقاصد المعاوضات التي يقصد أن يكون العوض في مقابلة
المعوض على وجه يستوي فيه علم المتعاوضين ،فإذا جهل الثمن أو
المثمن ،أو كان الجل في الديون غير مسمى ول معلوم دخل هذا في بيع
الغرر والميسر الذي زجر الله عنه .
) (1/215
) (1/216
وفي آية الدين من الفوائد سوى ما تقدم :المر بكتابة المعاملت ،والشهاد
عليها ،وأن يكون الكاتب عدل عارفا بالكتابة وبما ينبغي أن يكتب ; وهذا
المر للندب والستحباب عند جمهور العلماء ،إل إذا وجب حفظ المال ،
وكان على دين مؤجل أو غير مقبوض ،فإنه ل يتم حفظه إل بذلك ،وما ل
يتم الواجب إل به فهو واجب ،وفيها أن الكاتب ل يكتب إل ما أمله من عليه
الحق إن كان رشيدا ،ووليه إن كان عاجزا ضعيفا كالمجنون والصغير
والسفيه ،وأن على صاحب الحق أن يقر بالحق كله من غير بخس ،أي :
نقص لعدده أو صفته .
وتدل الية أن القرار من أعظم الطرق التي تثبت بها الحقوق في الذمم ،
كما يثبت فيها براءة الذمم المشتغلة بالحقوق إذا أقر من له الحق بالقباض
أو البراء المعتبر ،وأنه ل يعذر من أقر لو ادعى الغلط أو الكذب ونحوه .
وفيها الرشاد إلى حفظ الحقوق بالشهاد والكتابة والرهن إذا احتيج إليه في
سفر أو غيره ،وأن نصاب الشهادة في المعاملت كلها من عقود وفسوخ
وثبوت وشروط وابراء ونحوها رجلن مرضيان إن أمكن ،وإل فرجل واحد
وامرأتان ،وثبت في السنة قبول شهادة الواحد مع يمين صاحب الحق .
) (1/217
وفيها أن شهادة الفساق والمجهولين غير مقبولة ،وأن العتبار بمن يرضاه
الناس ويعتبرونه .
وفيها أن شهادة المرأتين تقوم مقام شهادة الرجل لكمال حفظ الرجل وقوة
ما اْل ُ ْ َ
خَرى { داهُ َ ما فَت ُذ َك َّر إ ِ ْ
ح َ داهُ َ
ح َ ض ّ
ل إِ ْ ن تَ ِ
ذاكرته ،كما نبه عليه بقوله } :أ ْ
]البقرة . [282 :
وفيها دللة أن من نسي شهادة فتذكرها ،أو ذكرها فذكرها أن شهادته
صحيحة .
وفيها أنه ل يحل أن يشهد إل بما علمه وتيقنه ،فإن شك فيه لم يحل له أن
يشهد .
وفيها بيان الحكمة العظيمة في هذه الرشادات من الرب في حفظ
المعاملت ،وأن ذلك صلح للعباد في معاملتهم ،وأن تكون جارية على
القسط ،وأنها تقطع الخصومات والمنازعات ،وتبرئ الذمم ،وتمنع الظالم
من ظلمه ،فلهذا قال :
ّ َ َ َ } ذ َل ِك ُ َ
شَهاد َةِ وَأد َْنى أل ت َْرَتاُبوا { ]البقرة . [282 : عن ْد َ الل ّهِ وَأقْوَ ُ
م ِلل ّ ط ِس ُ
م أقْ َْ
فكم حصل بهذه الوثائق التي أرشد الله إليها من مصالح عظيمة ،وكم اندفع
بها من مفاسد وشرور كثيرة ،فسبحان من جعل شرعه صلحا لدين العباد
ودنياهم .
) (1/218
وفيها أن التجارة الحاضرة ل بأس بترك كتابتها لكون التقابض يغني غالبا عن
ذلك ،ولمشقة كثرة ذلك ،وأما الشهادة فل ينبغي تركها خصوصا في المور
المهمة وقوله :
َ
ب وَل َ
شِهيد ٌ { ]البقرة . [282 : ضاّر َ
كات ِ ٌ } وََل ي ُ َ
يحتمل أنه مبني للفاعل أو للمفعول ،والمعنى يشمل المرين ; فالكاتب
والشهيد يجب عليه أن يعدل في كتابته وشهادته ،ول يحل له أن يميل مع
أحدهما لغرض من أغراضه ،ول يضارهما بأخذ أجرة ل تحل له على شهادته ،
أو يماطل في شهادته وكتابته مماطلة تضرهما أو أحدهما ،وكذلك المعاملن
ل يحل أن يضارا الكاتب والشهيد بأن يكلفاه ما ل يطيقه ،أو يتضرر به ،لن
الشاهد والكاتب محسنان ،حقهما أن يشكرا على ذلك ،فمضارتهما تنافي
ذلك .
ّ
وفيها أن تعلم الكتابة من المور المحبوبة لله ،وأنه نعمة من الله على من
علمه الله الكتابة ،فمن شكر هذه النعمة -أن ل يأبى كاتب أن يكتب كما
علمه الله .
) (1/219
ويستفاد من المعنى المقصود أن الله شرع هذه المور حفظا للحقوق ،وأنه
ينبغي تعلم كتابة الوثائق والصطلحات الجارية بين الناس في المعاملت ؛
حتى يكون الكاتب بهذه الصفة التي يحرر فيها المعاملت ،فينتفع الناس
بحفظ حقوقهم ،فل يكفي مجرد الكتابة من غير معرفة بهذه المور ،كما أنه
ل بد أن يكون الكاتب معتبرا ثقة ؛ ليحصل العتماد على كتابته والطمأنينة
إليها .
ويستفاد من هذا أن الخط المعروف صاحبه وثقته أنه معتبر معمول به ؛ ليتم
المقصود من الكتابة في حياة الكاتب وبعد موته .
وفيها وجوب أداء الشهادة وتعينها على من تحملها ،وأن كتمان الشهادة من
كبائر الذنوب ،وكما أن شهادة الزور بأن يشهد بثبوت ما ليس بثابت ،أو
بالبراءة من الحق الثابت وهو كاذب من أكبر الكبائر ،فكذلك السكوت عن
أداء الشهادة ،وكل المرين ظلم لصاحب الحق بتفويت حقه ،وظلم أيضا
للنفس بوقوع الثم ،وظلم للظالم لعانته على الثم والعدوان .
وفيها مشروعية الوثائق بالحقوق ،وهي أربعة :الشهادة والرهن -كما هو
مذكور في هذا الموضع -والضمان والكفالة ،يؤخذ من العتبار على هذا
م { ]يوسف . [72 : المعنى ،ومن قوله } :وَأ ََنا ب ِهِ َز ِ
عي ٌ
) (1/220
أي :كفيل وضامن ،وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلفه ،
وتقييد الرهن بالسفر ل يدل على أنه ل يكون رهن في الحضر ،بل قيد لجل
الحاجة إليه لعدم الكاتب غالبا .
ن َ
وفيها ثبوت الولية على القاصرين -لجنون أو صغر أو سفه -لقوله } :فإ ِ ْ
َ كان ال ّذي عَل َيه ال ْحق سفيها أ َو ضِعي ً َ
ه
ل وَل ِي ّ ُ ل هُوَ فَل ْي ُ ْ
مل ِ ْ م ّن يُ ِ
طيعُ أ ْ ست َ ِ فا أوْ َل ي َ ْ ْ ِ َ ّ َ ِ ً ْ َ ِ َ َ
ل { ]البقرة . [282 : ِبال ْعَد ْ ِ
فأقامه في التصرفات في ماله مقام المالك الرشيد ،وعليه أن يفعل في
ل ال ْي َِتيم ِ إ ِّل ِبال ِّتي هِ َ
ي ما َ قَرُبوا َ أموالهم ما هو الصلح ،قال تعالى } :وََل ت َ ْ
ن { ]النعام . [152 : َ
س ُ ح َ أ ْ
ول يدفع إليهم حتى يرشدوا ،ويعرف ذلك بالختبار والتجربة كما قال تعالى :
مدا َفاد ْفَُعوا إ ِل َي ْهِ ْ ش ًم ُر ْمن ْهُ ْ
م ِ ست ُ ْ
ن آن َ ْ ح فَإ ِ ْ حّتى إ َِذا ب َل َُغوا الن ّ َ
كا َ } َواب ْت َُلوا ال ْي ََتا َ
مى َ
َ
م { ]النساء . [6 : وال َهُ ْ م َأ ْ
) (1/221
) (1/222
ن وفيها أنه يجوز التعامل بغير وثيقة ،بل بمجرد الستئمان لقوله } :فَإ َ
م َنأ ِ ِ ْ
ه { ]البقرة . [283 : بعضك ُم بعضا فَل ْيؤَد ال ّذي اؤْتم َ
مان َت َ ُنأ َُ ِ َ ُ ّ ِ َْ ُ ْ َْ ً
ولكن في هذه الحال تتوقف الثقة على التقوى والخوف من الله ،وإل
فصاحب الحق مخاطر ،فلهذا وعظ الله من عليه الحق أن يؤدي أمانته ،
ويؤخذ من هذا أن من عاملك ورضي بأمانتك ووثق فيك أنه قد فعل معك
معروفا ،ورآك موضع الثقة والمانة ; فيتأكد عليك أداء المانة من الجهتين :
أداء لحق الله ،ووفاء بحق من وثق فيك ومكافأة له .
فصل
ن { ]القصص ، [26 : َ ْ ْ ْ
مي ُ
قوِيّ ال ِت ال َجْر َست َأ َ نا ْ م ِخي َْر َ ن َقال الله تعالى } :إ ِ ّ
وقال يوسف :
م { ]يوسف . [55 : ٌ َ ْ جعَل ِْني عََلى َ
فيظ عَِلي ٌ ح ِ ض إ ِّني َن الْر ِ خَزائ ِ ِ }ا ْ
) (1/223
) (1/224
) (1/225
الحالة الثانية :أن يكون الولد ذكورا فقط ،فإنهم يتقاسمونه متساوين ،
ومن ارتفعت درجته حجب من دونه من الولد إذا كان الرفيع من الذكور .
الحالة الثالثة :إذا كن إناثا ،فإن كانت واحدة فلها النصف ،سواء كانت بنت
صلب أو بنت ابن ،وإن كانتا اثنتين فأكثر فلهما الثلثان ،ومن الحكمة في
ن { ]النساء [11 :التنبيه على أنه ل يزيد الفرض التيان بقوله } :فَوْقَ اث ْن َت َي ْ ِ
وهو الثلثان بزيادتهن على الثنتين ،كما زاد فرض النصف لما صرن أكثر من
واحدة ،وقد نص الله على أن الختين فرضهما الثلثان ،فالبنتان من باب
أولى وأحرى ،فإن كان البنتان بنات صلب لم يبق لبنات البن شيء ،وصار
البقية بعد فرض البنات للعاصب ،وإن كانت العالية واحدة أخذت النصف ،
وباقي الثلثين وهو السدس لبنت أو بنات البن .
هذا ميراث الولد قد استوعبته الية استيعابا ،وقد علمنا من ذلك أن لفظ
الولد يشمل الذكر والنثى من أولد الصلب وأولد البن وإن نزل ،وأما أولد
البنات فل يدخلون في إطلق اسم الولد في المواريث .
) (1/226
ثم ذكر الله ميراث البوين :الم والب ،فجعل الله للم سدسا وثلثا ،جعل
لها السدس مع وجود أحد من الولد مطلقا ،منفردين أو متعددين ،أولد
صلب أو أولد ابن ،وكذلك جعل لها السدس بوجود جمع من الخوة
والخوات اثنين فأكثر ،وجعل لها الثلث إذا فقد الشرطان المذكوران .
وأما ثلث الباقي في زوج أو زوجة وأبوين فقيل إنه يؤخذ من قوله } :وَوَرِث َ ُ
ه
واه ُ { ]النساء ، [11 :فإذا كان معهما أحد الزوجين خرجت عن هذا فلم َ
أب َ َ
يكن لها ثلث كامل ،أو يقال :إن الله أضاف الميراث للبوين -وهو الب
والم -فيكون لها ثلث ما ورثه البوان ،ويكون ما يأخذه الزوج أو الزوجة
بمنزلة ما يأخذه الغريم . .فالله أعلم .
وأما الب فقد فرض الله له السدس مع وجود أحد من الولد ،فإن كان
الولد ذكورا لم يزد الب على السدس ،وصار البناء أحق بالتقديم من الب
بالتعصيب بالجماع .
) (1/227
وإن كان الولد إناثا واحدة أو متعددات فرض له السدس ولهن أو لها الفرض
،فإن بقي شيء فهو لولى رجل ،وهو الب هنا ; لنه أقرب من الخوة
وبنيهم ومن العمام وبنيهم ،فجمع له في هذه الحال بين الفرض
والتعصيب ،وإن استغرقت الفروض التركة لم يبق للب زيادة عن السدس ،
كما لو خلف أبوين وابنتين ; فلكل واحد من البوين السدس ،وللبنتين الثلثان
.
ومفهوم الية الكريمة أنه إذا لم يكن أولد ذكور ول إناث ،أن الب يرث بغير
تقدير ،بل بالعصب ،بأن يأخذ المال كله إذا انفرد ،أو ما أبقت الفروض إن
كان معه أصحاب فروض ،وهو إجماع ،وحكم الجد حكم الب في هذه
الحكام إل في العمريتين ; فإن الم ترث ثلثا كامل مع الجد ; وأما ميراث
الجدة السدس عند عدم الم فهو في السنة .
ثم ذكر الله ميراث الزوجين ،وأن الزوج له نصف ما تركت زوجته إن لم
يكن لها ولد ،فإن كان لها ولد فله الربع ،وأن الزوجة واحدة أو متعددات لها
الربع مما ترك الزوج إن لم يكن له ولد ،فإن كان للزوج ولد منها أو من
غيرها ذكر أو أنثى ،ولد صلب أو ولد ابن فلها أو لهن الثمن .
) (1/228
ثم ذكر الله ميراث الخوة من الم ،وأنهم ل يرثون إل إذا كانت الورثة كللة
ليس فيهم أحد من الفروع ول الب والجد ،فللواحد من الخوة من الم أو
الخوات السدس ،وللنثيين فأكثر الثلث ،يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم ،وهذه
الفروض كلها ذكر الله أنها من بعد الوصية إذا حصل اليصاء بها ،ومن بعد
الدين ،وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم :أن الدين قبل الوصية ،وقد
اتفق العلماء على ذلك ،وشرط الله في الوصية أن ل تكون على وجه
المضارة بالورثة ،فإن كانت كذلك فإنها وصية إثم وجنف يجب تعديلها ورد
الظلم الواقع فيها .
وأخبر تعالى أن هذه التقديرات والفرائض حدود الله قدرها وحددها ،فل يحل
مجاوزتها ،ول الزيادة فيها والنقصان ،بأن يعطى وارث فوق حقه ،أو يحرم
وارث ،أو ينقص عن حقه .
) (1/229
ثم ذكر في آخر السورة ميراث الخوة لغير أم وأخواتهم بأن النثى الواحدة
لها النصف ،وللثنتين فأكثر الثلثان ،وإن اجتمع رجال ونساء فللذكر مثل حظ
النثيين ،ويقال فيهم كما يقال في الولد إذا كانوا ذكورا تساووا إذا كانوا
أشقاء أو لب ،فإن وجد هؤلء وهؤلء حجب الشقاء الخوة للب ،وإن كن
نساء شقيقات وأخوات لب ،واستغرق الشقيقات الثلثين لم يبق للخوات
للب شيء ; فإن كانت الشقيقة واحدة أخذت نصفها ،وأعطيت الخت للب
أو الخوات السدس تكملة الثلثين .
وما سوى هذه الفروض فإن الورثة من إخوة لغير أم وبنيهم وأعمام وبنيهم
وولء يدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الصحيح :
» ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لولى رجل ذكر « .رواه مسلم ،
فيقدم الخوة ثم بنوهم ثم العمام ثم بنوهم ثم الولء ; ويقدم منهم القرب
منزلة ،فإن استوت منزلتهم قدم القوى وهو الشقيق على الذي لب .والله
أعلم .
) (1/230
لما من الباري على عباده بالنكاح قدرا وأباحه شرعا ،بل أحبه ورضيه وحث
عليه ؛ لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة ،رتب عليه أحكاما كثيرة وحقوقا
متنوعة تدور كلها على الصلح وإصلح أحوال الزوجين ،ودفع الضرر والفساد
،وهي من محاسن الشريعة ،والشريعة كلها محاسن ،وجلب للمصالح ،
س ُ
طوا { أي :تقوموا ق ِ م أ َّل ت ُ ْ
فت ُ ْ
خ ْ ن ِ ودرء للمفاسد ،يقول تعالى هنا } :وَإ ِ ْ
بحق النساء اليتامى اللتي تحت حجوركم ووليتكم لعدم محبتكم إياهن
ساِء { أي :ينبغي أنن الن ّ َ م َم ِ ب ل َك ُ ْطا َ ما َحوا َفاعدلوا إلى غيرهن } َفان ْك ِ ُ
تختاروا منهن الطيبات في أنفسهن اللتي تطيب لكم الحياة بالتصال بهن ،
الجامعات للدين والحسب والعقل والداب الحسنة وغير ذلك من الوصاف
الداعية لنكاحهن .
وفي هذه الية الحث على الختيار قبل الخطبة ،وأنه ينبغي أن ل يتزوج إل
الجامعة للصفات المقصودة بالنكاح ،فإن النكاح يقصد لمور كثيرة من أهمها
كفاءة البيت والعائلة وحسن التدبير وحسن التربية ،وأهم صفة هذا النوع
الدين والعقل .
ويقصد به إحصان الفرج ،والسرور في الحياة ،وعمدة هذا حسن الخلق
الظاهرة ،وحسن الخلئق الباطنة .
) (1/232
) (1/233
ويستفاد من هذا المعنى أن تعرض العبد للمر الذي يخاف منه الجور والظلم
وعدم القيام بالواجب -ولو كان مباحا -ل ينبغي له أن يتعرض له ،بل يلزم
السعة والعافية ،فإن العافية خير ما أعطي العبد ،ولما كان كثير من الناس
يظلمون النساء ويهضمونهن حقوقهن ،وخصوصا الصداق الذي يكون شيئا
كثيرا دفعة واحدة يشق عليهم ،حثهم على إيتاء النساء صدقاتهن أي :
ة { أي :عن حال طمأنينة وطيب نفس من غير مطل ول حل َ ً
مهورهن } ن ِ ْ
بخس منه شيئا .
) (1/234
وفيه أن المهر للمرأة ،وأنه يدفع إليها أو إلى وكيلها إن كانت رشيدة ،أو
إلى وليها إن لم تكن رشيدة ،وأنها تملكه بالعقد لنه أضافه إليها وأمر
ه { أي : من ْ ُ
يٍء ِ ن َ
ش ْ ن ل َك ُ ْ
م عَ ْ بإعطائه لها ،وذلك يقتضي الملك } ،فَإ ِ ْ
ن ط ِب ْ َ
سا { بإسقاط شيء منه ،أو تأخيره ،أو المحاباة في ف ً من الصداق } ،ن َ ْ
ريئا { ل تبعة عليكم فيه ول حرج ; وهذا دليل ً م ِ ً ُ
التعوض عنه } فَك ُلوه ُ هَِنيئا َ
على أن للمرأة الرشيدة التصرف في مالها ،ولو بالتبرع ،وأنه ليس لوليها
من الصداق شيء إل ما طابت نفسها به إذا كانت رشيدة ،ويؤخذ من المر
بنكاح ما طاب من النساء تحريم نكاح الخبيثة التي ل يحل للمسلم نكاحها ،
وهي الكافرة غير الكتابية ،وكذلك الزانية حتى تتوب كما نص الله على
الثنتين .
وفي هذه الية دليل على أنه ل بد في النكاح من صداق ،وأنه يجوز في
الكثير واليسير للعموم ،وأنه ل يباح لحد أن يتزوج بدون صداق ،وإن لم
يسم فمهر المثل ،إل النبي صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك خاصة ،كما
قال تعالى :
) (1/235
) (1/236
كان أهل الجاهلية إذا مات أحدهم ورثت زوجته عنه كما يورث ماله ،فرأى
قريبه كأخيه وابن عمه أنه أحق بها من نفسها ،ويحجرها عن غيره ،فإن
رضي بها تزوجها على غير صداق ،أو على صداق يحبه هو دونها ،وإن لم
يرض بزواجها عضلها ومنعها من الزواج إل بعوض من الزوج أو منها ،وكان
منهم أيضا من يعضل زوجته التي هي في حباله ،فيمنعها من حقوقها ،ومن
التوسعة لها لتفتدي منه ،فنهى الله المؤمنين عن هذه الحوال القبيحة
ْ َ
مب َي ّن َةٍ { كالزنا والكلم الفاحش وأذيتها لزوجها ح َ
شةٍ ُ فا ِ
ن بِ َ الجائرة } إ ِّل أ ْ
ن ي َأِتي َ
ومن يتصل به ،فيجوز في هذه الحال أن يعضلها مقابلة لها على فعلها
ن
شُروهُ ّ
عا ِ
لتفتدي منه ; فإن هذا الفتداء بحق ل بظلم ،ثم قال } :وَ َ
ف { ،وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية ،فعلى الزوج أن ِبال ْ َ
معُْرو ِ
يعاشر زوجته ببذل النفقة والكسوة والمسكن اللئق بحاله ،ويصاحبها صحبة
جميلة بكف الذى ،وبذل الحسان ،وحسن المعاملة والخلق ،وأن ل يمطلها
بحقها ،وهي كذلك عليها ما عليه من العشرة ،وكل ذلك يتبع العرف في كل
زمان ومكان وحال ما يليق به ،قال تعالى :
) (1/237
ه َل ي ُك َل ّ ُ
ف ما آَتاهُ الل ّ ُ م ّ
فق ْ ِه فَل ْي ُن ْ ِ
ن قُدَِر عَل َي ْهِ رِْزقُ ُ
م ْ
سعَت ِهِ وَ َ
ن َ م ْ سعَةٍ ِ فقْ ُذو َ } ل ِي ُن ْ ِ
ها { ]الطلق . [7 : ما آَتا َ ّ
سا إ ِل َ ف ً
ه نَ ْ الل ّ ُ
َ
خي ًْراه ِفيهِ َ ل الل ّ ُ شي ًْئا وَي َ ْ
جعَ َ هوا َ ن ت َك َْر ُ سى أ ْ ن فَعَ َ موهُ ّن ك َرِهْت ُ ُوقوله } :فَإ ِ ْ
ك َِثيًرا { أي :ينبغي لكم يا معشر الزواج أن تمسكوا زوجاتكم ولو كرهتموهن
،فإن في ذلك خيرا كثيرا :
منها :امتثال أمر الله ورسوله الذي فيه سعادة الدنيا والخرة .
) (1/238
ومنها :أن إجباره نفسه ،ومجاهدته إياها مع عدم محبة زوجته تمرين على
التخلق بالخلق الجميلة ،وربما زالت الكراهة وخلفتها المحبة ،وربما زالت
السباب التي كرهها لجلها ،وربما رزق منها ولدا صالحا نفع الله به والديه
في الدنيا والخرة ،ول بد لهذه الكراهة من أسباب من الزوجة ،فينبغي إذا
كره منها خلقا لحظ بقية أخلقها ،وما فيها من المقاصد الخر ،ويجعل هذا
في مقابلة هذا ،وهذا عنوان النصاف والرأي الصيل ،فإن النزق الطائش
الذي ليس عنده إنصاف يلحظ بعض أغراضه النفسية ،فإذا لم يأت على ما
يريد أهدر المحاسن والمناقب الخر ،وهذا ل يكاد يصفو له خل في حياته ،ل
زوجة ول صاحب ول حبيب ،بل هو سريع التقلب .
أما الرجل الحازم الوفي الذكي فإنه يوازن بين المور ،ويقدم الحق
السابق ،ويفي بالسوابق ،ويكون نظره للمحاسن أرجح من نظره للمساوئ
.
) (1/239
فإن وصل إلى الدرجة العالية التي ل يصل إليها إل أفراد من كمل الرجال
جعل المحاسن نصب عينيه ،وأغضى عن المساوئ بالكلية ،وعفا عنها لله
ولحق صاحب الحق ،فهذا قد كسب الجر والراحة والخلق الذي ل يلحق ،
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ،وهذا الصبر المأمور به إنما هو مع المكان ،
فإن كان ل بد من الفراق ،ولم يبق للصبر والمساك موضع ،فالله قد أباح
ن َزوٍْج { أي :فل حرج م َ دا َ الفراق ،فلهذا قال } :وإ َ
كا َ ل َزوٍْج َ ست ِب ْ َ
ما ْ ن أَرد ْت ُ َُِ ْ
َ
عليكم ،ولكن إذا آتيتم إحداهن أي :الزوجة السابقة أو اللحقة ) قِن ْطاًرا (
ْ
شي ًْئا { ،بل وفروه لهن ول تمطلوهن ، ه َمن ْ ُذوا ِ وهو المال الكثير } ،فََل ت َأ ُ
خ ُ
وهذا يدل على جواز إعطاء النساء من المهور وغيرها المال الكثير ،وأنها
بذلك تملكه ،ولكن الكمل والفضل التساهل في المهور اقتداء بالنبي صلى
الله عليه وسلم ،وتسهيل للنكاح ولطرقه وبراءة للذمم .
) (1/240
ْ
ه خ ُ
ذون َ ُ ثم ذكر الحكمة في تحريم أخذ الزوج ما أعطاه لزوجته ،فقال } :أ َت َأ ُ
ْ
خذ ْ َ
ن ض وَأ َ َ ضك ُ ْ َ
م إ ِلى ب َعْ ٍ ضى ب َعْ ُ
َ
ه وَقَد ْ أفْ َ خ ُ
ذون َ ُ ف ت َأ ُ مِبيًنا {} وَك َي ْ َ ما ُ ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً
ميَثاًقا غَِليظا { ،وبيان ذلك أن النثى قبل عقد النكاح محرمة على ً م ِ من ْك ُ ْ
ِ
الزوج ،وهي لم ترض بهذا الحل إل بالعقد والميثاق الغليظ الذي عقد على
ذلك العوض المشروط ،فإذا دخل عليها وباشرها ،وأفضى إليها وأفضت إليه
،وباشرها المباشرة التي كانت قبل هذه المور حراما فقد استوفى المعوض
،فثبت عليه العوض تاما ،فكيف يستوفي المعوض ثم يرجع على العوض ؟ ل
ريب أن هذا من المنكرات القبيحة شرعا وعقل وفطرة .
ساِء { ]النساء . [22 : ن الن ّ َ م َم ِ ح آَباؤُك ُ ْ ما ن َك َ َحوا َ } وََل ت َن ْك ِ ُ
ثم عدد المحرمات إلى أن قال :
م { ]النساء . [24 : ما وََراَء ذ َل ِك ُ ْ م َ ل ل َك ُ ْ ح ّ} وَأ ُ ِ
) (1/241
) (1/242
وأما المحرمات بالنسب فتحرم المهات ،وهن كل أنثى لها عليك ولدة ،
وهي التي تخاطبها بالم والجدة وإن علت من كل جهة ،وتحرم البنات ،وهن
كل أنثى تخاطبك بالبوة أو بالجدودة من بنات البن وبنات البنات وإن نزلن ،
وتحرم الخوات شقيقات كن أو لب أو لم ،وبنات الخوة وبنات الخوات
مطلقا ،وتحرم العمات والخالت ،وهن كل أخت لحد آبائك وإن عل ،أو أحد
أمهاتك وإن علون ،وما سوى ذلك من القارب حلل كبنات العمام ،وبنات
العمات ،وبنات الخوال ،وبنات الخالت ،ولهذا ذكر الله هذا الحل والتحريم
المهم في موضعين :في هذا الموضع صرح بالمحرمات السبع وقال :
م { ،وفي سورة الحزاب أتى بها بأسلوب آخر ، ما وََراَء ذ َل ِك ُ ْ
م َ ل ل َك ُ ْ } وَأ ُ ِ
ح ّ
خاَلت ِ َ
ك ت َ خال ِ َ
ك وَب ََنا ِ ت َ مات ِ َ
ك وَب ََنا ِ ت عَ ّ م َ
ك وَب ََنا ِ ت عَ ّ فقال في الحل } :وَب ََنا ِ
ك { ]سورة الحزاب :الية [50أي :فهن حلل ،ومن معَ َن َجْر َ ها َالّلِتي َ
عداهن من القارب حرام .
) (1/243
وأما المحرمات بالرضاع فإنهن نظير المحرمات بالنسب من جهة المرضعة
وصاحب اللبن ،فالمرضعة أم للرضيع ،وأمهاتها جداته ،وإخوتها وأخواتها
أخواله وخالته ،وأولدها إخوته وأخواته ،وهو عم لولدهم أو خال ،وكذلك
صاحب اللبن .
وأما النتشار من جهة الطفل الراضع فل ينتشر التحريم لحد من أقاربه إل
ن
م ْم ِجورِك ُ ْ
ح ُ لذريته فقط ،وتقييد الية في الربيبة بقوله } :الّلِتي ِفي ُ
م { بيان لغلب أحوالها ،ولبيان أعلى حكمة تناسب حكمة التحريم ، سائ ِك ُ ُ
نِ َ
وأنها إذا كانت في حجرك بمنزلة بناتك ل يليق إل أن تكون من محارمك .
ل أ َبنائ ِك ُم ال ّذين م َ
م { يخرج ابن صَلب ِك ُ ْ
نأ ِْ َ ِ ْ ُ حَلئ ِ ُ ْ َ
وتقييدها الخر بقوله } :وَ َ
ن
م َت ِصَنا ُ ح َم ْ ْ
التبني ل يخرج ابن الرضاع في قول جمهور العلماء َ } ،وال ُ
ساِء { أي :ذوات الزواج ،فكل أنثى في عصمة زوج أو في بقية عدته ل الن ّ َ
تحل لغيره ؛ لن البضاع ليست محل اشتراك ،بل قصد تمييزها التام ،ولهذا
شرعت العدة والستبراء ،ونحو ذلك .
) (1/244
َ
م { :المراد بهذا الملك ملك السبي ،إذا سبيت مان ُك ُ ْ
ت أي ْ َمل َك َ ْ
ما َ وقوله } :إ ِّل َ
المرأة ذات الزوج من الكفار في القتال الشرعي حلت للمسلمين ،ولكن
بعد الستبراء أو العدة ،فزوجها الحربي الذي في دار الحرب لم يبق له فيها
حق ،ول له حرمة ،فلهذا حلت للمسلمين كما حل لهم ماله ودمه ،لنه
ليس له عهد ول مهادنة .
م { أي :ما سوى ما نص الله على ما وََراَء ذ َل ِك ُ ْ م َل ل َك ُ ْ
ح ّوقوله } :وَأ ُ ِ
تحريمه :سبع بالنسب ،وسبع بالرضاع ،وأربع بالصهر ،فما عداهن فإنه
حلل ،إل أنه حرم تعالى الجمع بين الختين ،وحرم النبي صلى الله عليه
وسلم الجمع بين المرأة وعمتها ،وحرم على الحرار نكاح المملوكات لما
فيه من إرقاق الولد ،ولما فيه من الدناءة والضرر العائد للولد ؛ لتنازع
الملك ،وتنقلت الرقاء ،لكن إذا رجحت مصلحة الباحة فقد أباحه الله
بشرط المشقة لحاجة متعة أو خدمة ،وأن ل يقدر على الطول للحرة ،وأن
تكون المة مؤمنة بإذن أهلها ،فعند اجتماع هذه الشروط كلها يحل للحر
نكاح الماء .
) (1/245
هذا خبر وأمر ،أي :الرجال قوامون على النساء في أمور الدين والدنيا ،
يلزمونهن بحقوق الله ،والمحافظة على فرائضه ،ويكفونهن عن جميع
المعاصي والمفاسد ،وبتقويمهن بالخلق الجميلة والداب الطيبة ،وقوامون
ما
أيضا عليهن بواجباتهن من النفقة والكسوة والمسكن وتوابع ذلك } ،ب ِ َ
قوا م َ ما أ َن ْ َ ضهُ ْ َ
م { أي :ذلك بسبب وال ِهِ ْ م َنأ ْ ِ ْ ف ُ ض وَب ِ َ
م عَلى ب َعْ ٍ ل الل ّ ُ
ه ب َعْ َ فَ ّ
ض َ
فضل الرجال عليهن وإفضالهم عليهن ،فتفضيل الرجال على النساء من
وجوه متعددة :من كون الوليات كلها مختصة بالرجال والنبوة والرسالة ،
وباختصاصهم بالجهاد البدني ،ووجوب الجماعة والجمعة ونحو ذلك ،وبما
تميزوا به عن النساء من العقل والرزانة والحفظ والصبر والجلد والقوة التي
ليست للنساء ،وكذلك يده هي العليا عليها بالنفقات المتنوعة ،بل وكثير من
النفقات الخر والمشاريع الخيرية ،فإن الرجال يفضلون النساء بذلك كما هو
م { ليدل قوا م َ ما أ َن ْ َ
وال ِهِ ْ
م َ
نأ ِْ ْ ف ُ مشاهد ،ولهذا حذف المتعلق في قوله } :وَب ِ َ
على هذا التعميم ،فعلم من ذلك أن الرجل كالوالي والسيد على امرأته ،
وهي عنده أسيرة عانية تحت أمره وطاعته ،فليتق الله في أمرها ،وليقومها
) (1/247
تقويما ينفعه في دينه ودنياه ،وفي بيته وعائلته يجد ثمرات ذلك عاجل وآجل ،
وإل يفعل فل يلومن إل نفسه ; وهن قسمان :
القسم الول :قسم هن أعلى طبقات النساء ،وخير ما حازه الرجال ،وهن
ه{ ظ الل ّ ُ
ف َح ِ ما َ ب بِ َت ل ِل ْغَي ْ ِ حافِ َ
ظا ٌ ت َت َقان َِتا ٌ
حا ُ المذكورات في قوله َ } :فال ّ
صال ِ َ
أي :مطيعات لله ولزواجهن ،قد أدت الحقين ،وفازت بكفلين من الثواب ،
حافظات أنفسهن من جميع الريب ،وحافظات لمانتهن ورعاية بيوتهن ،
وحافظات للعائلة بالتربية الحسنة ،والدب النافع في الدين والدنيا ،وعليهن
ه { أي : ظ الل ّ ُف َح ِما َ بذل الجهد والستعانة بالله على ذلك ؛ فلهذا قال } :ب ِ َ
إذا وفقن لهذا المر الجليل فليحمدن الله على ذلك ،ويعلمن أن هذا من
حفظه وتوفيقه وتيسيره لها ،فإن من وكل إلى نفسه فالنفس أمارة
بالسوء ،ومن شاهد منة الله ،وتوكل على الله ،وبذل مقدوره في العمال
النافعة ،كفاه الله ما أهمه ،وأصلح له أموره ،ويسر له الخير ،وأجراه على
عوائده الجميلة .
) (1/248
والقسم الثاني :هن الطبقة النازلة من النساء ،وهن بضد السابقات في كل
خصلة ،اللتي من سوء أخلقهن وقبح تربيتهن تترفع على زوجها ،وتعصيه
في المور الواجبة والمستحبة ،فأمر الله بتقويمهن بالسهل فالسهل ،فقال
ن { أي :بينوا لهن حكم الله ورسوله ن فَعِ ُ
ظوهُ ّ ن نُ ُ
شوَزهُ ّ َ } :والّلِتي ت َ َ
خاُفو َ
في وجوب طاعة الزواج ،ورغبوهن في ذلك بما يترتب عليه من الثواب ،
وخوفوهن معصية الزواج ،وذكروهن ما في ذلك من العقاب ،وما يترتب
عليه من قطع حقوقها ،وإباحة هجرها وضربها ،فإن تقومن بالوعظ والتذكير
فذلك المطلوب ،وحصل التفاق الذي ل يشوبه مكدر ،فإن لم يفد التذكير
فاهجروهن في المضاجع ،بأن ل ينام عندها ،ول يباشرها بجماع ول غيره ؛
لعل الهجر ينجع فيها ،ذلك بمقدار ما يحصل به المقصود فقط ،فإن القصد
بالهجر نفع المهجور وأدبه ،ليس الغرض منه شفاء النفس كما يفعله من ل
رأي له إذا خالفته زوجته أو غيرها ،ولم يحصل مقصوده ،هجر هجرا مستمرا
،أي :بقي متأثرا بذلك ،عاتبا على من لم يواته على ما يحب ،ووصلت به
الحال إلى الحقد الذي هو من الخصال الذميمة ،فهذا ليس من الهجر
الجميل النافع ،وإنما هو من
) (1/249
الحقد الضار بصاحبه ،الذي ل يحصل به تقويم ول مصلحة ،فإن نفع الهجر
للزوجة وإل انتقل إلى ضربها ضربا خفيفا غير مبرح ،فإن حصل المقصود ،
ورجعت إلى الطاعة ،وتركت المعصية ،عاد الزوج إلى عشرتها الجميلة ،ول
سبيل له إلى غير ذلك من أذيتها ؛ لنها رجعت إلى الحق .
وهذا الدواء لكل عاص ومجرم ،إن الشارع رغبه إذا ترك إجرامه عاد حقه
الخاص والعام كما في حق التائب من الظلم وقطع الطريق وغيرها ،فكيف
الزوج مع زوجته .
وفي هذه الية ونحوها فائدة نافعة ،وهي أنه ينبغي لمن عاد إلى الحق أن ل
يذكر المور السالفة ،فإن ذلك أحرى للثبات على المطلوب ،فإن تذكير
المور الماضية ربما أثار الشر ،فانتكس المرض ،وعادت الحال إلى أشد
من الولى .
) (1/250
) (1/251
هذه حالة أخرى غير الحالة السابقة التي يمكن للزوج معالجتها ،وهذه إذا
استطار الشر بين الزوجين ،وبلغت الحال إلى الخصام وعدم اللتئام ،ولم
ن أ َهْل َِها {
م ْ حك َ ً
ما ِ
ينفع في ذلك وعظ ول كلم } َفابعُثوا حك َما م َ
ن أهْل ِهِ وَ َ
َ ً ِ ْ َْ
عدلين عاقلين يعرفان الجمع والتفريق ،ويفهمان المور كما ينبغي ،فإن
الحكم ل بد أن يتصف بهذه الوصاف ،فيبحثان في السباب التي أدت بهما
إلى هذه الحال ،ويسألن كل منهما ما ينقم على صاحبه ،ويزيلن ما يقدران
عليه من المعتبة بترغيب الناقم على الخر بالغضاء عن الهفوات واحتمال
الزلت ،وإرشاد الخر إلى الوعد بالرجوع ،وإرشاد كل منهما إلى الرضى
والنزول عن بعض حقه ،فكم حصل بهذا الطريق من المصالح شيء كثير ،
وإن أمكنهما إلزام المتعصب على الباطل منهما بالحق فَعََل ،ومهما وجدا
طريقا إلى الصلح والتفاق والملءمة بينهما لم يعدل عنها ،إما بتنازل عن
بعض الحقوق ،أو ببذل مال ،أو غير ذلك ،فإن تعذرت الطرق كلها ،ورأيا
أن التفريق بينهما أصلح لتعذر الملءمة فرقا بينهما بما تقتضيه الحال بعوض
أو بغير عوض ،ول يشترط في هذا رضى الزوج ؛ لن الله سماهما حكمين ل
وكيلين ،ومن
) (1/252
قال إنهما وكيلن اشترط في التفريق رضى الزوج ،ولكن هذا القول
دا
ري َن يُ ِ ضعيف ،ولمحبة الباري للتفاق بينهما وترجيحه على الخر قال } :إ ِ ْ
ما { أي :بسبب الرأي الميمون ،والكلم اللطيف ، ه ب َي ْن َهُ َ ق الل ّ ُ
حا ي ُوَفّ ِ صَل ً إِ ْ
ما { : ن عَِلي ً َ
ه كا َ ّ
ن الل َ والوعد الجميل الذي يجذب القلوب ،ويؤثر فيها } :إ ِ ّ
بالسرائر والظواهر مطلعا على الخفايا ،فمن كمال علمه وحكمته شرع لكم
نم ْ هذه الحكام الجليلة التي هي الطريق الوحيد إلى القيام بالحقوق } :وَ َ
َ
ن { ]المائدة . [50 : قوْم ٍ ُيوقُِنو َ ما ل ِ َ حك ْ ً ن الل ّهِ ُ م َ ن ِ س ُ ح َ أ ْ
َ َ مَرأ َة ٌ َ
حا صل ِ َن يُ ْ ما أ ْ ح عَل َي ْهِ َجَنا َ ضا فََل ُ شوًزا أوْ إ ِعَْرا ً ن ب َعْل َِها ن ُ ُم ْ ت ِ خافَ ْ نا ْ } وَإ ِ ِ
َ ُ
ن الل ّ َ
ه قوا فَإ ِ ّ سُنوا وَت َت ّ ُ ح ِن تُ ْ ح وَإ ِ ْ س ال ّ
ش ّ ف ُ ت اْلن ْ ُضَر ِح ِ خي ٌْر وَأ ْ ح َ صل ْ ُحا َوال ّ صل ْ ً ما ُ ب َي ْن َهُ َ
خِبيًرا { ]النساء . [128 : ن َ مُلو َ ما ت َعْ َ ن بِ َ كا َ َ
) (1/253
هذه حالة من أحوال الزوجين غير الحوال السابقة ؛ لن الحالتين السابقتين :
حالة نشوز الزوجة ،وحالة وقوع الخصام واستطارة الشر بينهما ،وهذه إذا
كان الزوج هو الراغب عن زوجته ،إما عدم محبة وإما طمعا ،فأرشد الله
في هذه الحال إلى الطريق الذي تستقيم به المور ،وهو طريق الصلح من
المرأة أو وليها ليعود الزوج إلى الستقامة ،بأن تسمح المرأة عن بعض حقها
اللزم لزوجها على شرط البقاء معه ،وأن يعود إلى مقاصد النكاح أو
بعضها ،كأن ترضى ببعض النفقة أو الكسوة أو المسكن ،أو تسقط حقها
من القسم ،أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها بإذنه ،فمتى اتفقا على
شيء من ذلك فل حرج ول بأس ،وهو أحسن من المقاضاة في الحقوق
خي ٌْر { . صل ْ ُ
ح َ المؤدية إلى الجفاء أو إلى الفراق ،ولهذا قال َ } :وال ّ
وهذا أصل عظيم في جميع الشياء ،وخصوصا في الحقوق المتنازع فيها أن
المصالحة فيها خير من استقصاء كل منهما على حقه كله ؛ لما في الصلح
من بقاء اللفة ،والتصاف بصفة السماح ،وهو جائز بين المسلمين في كل
البواب -إل صلحا أحل حراما أو حرم حلل . -
) (1/254
) (1/255
قوا { أي :تحسنوا في عبادة الخالق ،والحسان سُنوا وَت َت ّ ُح ِ ن تُ ْثم قال } :وَإ ِ ْ
أن تعبد الله كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك ،وتحسنوا إلى
المخلوقين بكل إحسان قولي أو فعلي ،وتتقوا الله بفعل جميع المأمورات ،
وترك جميع المحظورات ،أو تحسنوا بفعل المأمور ،وتتقوا بترك المحظور }
خِبيًرا { فيجازيكم على قيامكم بالحسان والتقوى ، ن َ مُلو َما ت َعْ َ ن بِ َ كا َه َ ن الل ّ َ فَإ ِ ّ
أو على عدم ذلك بالجزاء بالفضل والعدل .
ْ ُ َ َ
ل
مي ْ ِ
ل ال َ ُ
ميلوا ك ّ َ
م فل ت َ ِ صت ُ ْ
حَر ْ ساِء وَل َوْ َن الن ّ َ ن ت َعْدُِلوا ب َي ْ َ طيُعوا أ ْ ست َ ِ ن تَ ْ } وَل َ ْ
ما { ]النساء : حي ً
فوًرا َر ِ ن غَ ُكا َ ن الل ّ َ
ه َ قوا فَإ ِ ّحوا وَت َت ّ ُ صل ِ ُ ن تُ ْ
قةِ وَإ ِ ْ معَل ّ َكال ْ ُ
ها َ فَت َذ َُرو َ
. [129
) (1/256
يخبر تعالى أنه ليس في قدرة الزواج العدل التام بين زوجاتهم ،فإن العدل
التام يقتضي أن يكون الداعي والحب على السواء ،والميل القلبي على
السواء ،ويقتضي مع ذلك اليمان الصادق ،والرغبة في مكارم الخلق
للعمل بمقتضى ذلك ،وهذا متعذر غير ممكن ،فلذلك عذر الله الزواج ،
وعفا عنهم عما ل يقدرون عليه ،ولكنه أمرهم بالعدل الممكن فقال } :فَلَ
قةِ { أي :ل تميلوا إلى إحداهن عن الخرى معَل ّ َ
كال ْ ُ
ها َ
ل فَت َذ َُرو َ ل ال ْ َ
مي ْ ِ ميُلوا ك ُ ّ
تَ ِ
ميل كثيرا ،بحيث ل تؤدون حقوقهن الواجبة ،بل افعلوا مستطاعكم من
العدل ،فالنفقة والكسوة والقسم في المبيت والفراش ونحو ذلك مقدور ،
فعليكم العدل فيها بينهن ،بخلف الحب والوطء وتوابع ذلك ،فالعبد ل يملك
معَل ّ َ
قةِ { يعني :أن الزوج إذا مال كال ْ ُ
ها َ
نفسه فعذره الله ،وقوله } :فَت َذ َُرو َ
عن زوجته وزهد فيها ولم يقم بحقوقها الواجبة ،وهي في حباله أسيرة عنده
صارت كالمعلقة التي ل زوج لها فتستريح ،ول ذات زوج يقوم بحقوقها ،وإن
تصلحوا فيما بينكم وبين زوجاتكم بوجه من وجوه الصلح كما تقدم ،
وبمجاهدة أنفسكم على فعل ما ل تهواه النفس احتسابا وقياما بحق الزوجة ،
وتصلحوا
) (1/257
أيضا فيما بينكم وبين الناس فيما تنازعتم به من الحقوق ،وتتقوا الله بامتثال
ما { . حي ً فوًرا َر ِن غَ ُكا َ ن الل ّ َ
ه َ أمره واجتناب نهيه } فَإ ِ ّ
ّ َ ه ك ُّل ِ ن الل ّ ُ
ما { ]النساء : كي ً
ح ِ
سًعا َ
ه َوا ِ ن الل ُ سعَت ِهِ وَكا َ
ن َ م ْ فّرَقا ي ُغْ ِ
ن ي َت َ َ
} وَإ ِ ْ
. [130
َ
فّرقا {ن ي َت َ َ
يعني :إذا تعذر التفاق واللتئام فل بأس بالفراق ،فقال } :وَإ ِ ْ
ن
م ْه ك ُّل { من الزوجين } ِ
ن الل ّ ُ
أي :بفسخ أو طلق أو خلع أو غير ذلك } ي ُغْ ِ
سعَت ِهِ { أي :من فضله وإحسانه العام الشامل ،فيغني الزوج بزوجة خير له َ
منها ،ويغنيها من فضله برزق من غير طريقه ،فإنها وإن توهمت أنه إذا
فارقها زوجها المنفق عليها القائم بمؤنتها ينقطع عنها الرزق ،فسوف يغنيها
الله من فضله ،فإن رزقها ليس على الزوج ول على غيره ،بل على
المتكفل القائم بأرزاق الخليقة كلها ،وخصوصا من تعلق قلبه به ورجاه رجاء
قلبيا طامعا في فضله كل وقت ،فإن الله عند ظن عبده به ،ولعل الله
سًعا { أي :واسع الرحمة كثير ه َوا ِن الل ّ ُ يرزقها زوجا خيرا لها منه وأنفع } وَ َ
كا َ
ما { في وضعه المور مواضعها . كي ً
ح ِ
الحسان } َ
) (1/258
وفي الية تنبيه على أنه ينبغي للعبد أن يعلق رجاءه بالله وحده ،وأن الله إذا
قدر له سببا من أسباب الرزق والراحة أن يحمده على ذلك ،ويسأله أن
يبارك فيه له ،فإن انقطع أو تعذر ذلك السبب فل يتشوش قلبه ،فإن هذا
السبب من جملة أسباب ل تحصى ول يتوقف رزق العبد على ذلك السبب
المعين ،بل يفتح له سببا غيره أحسن منه وأنفع ،وربما فتح له عدة أسباب ،
فعليه في أحواله كلها أن يجعل فضل ربه ،والطمع في بره نصب عينيه
وقبلة قلبه ،ويكثر من الدعاء المقرون بالرجاء ; فإن الله يقول على لسان
نبيه » :أنا عند ظن عبدي بي ،فإن ظن بي خيرا فله ،وإن ظن بي شرا فله
« ،وقال » :إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ول أبالي
«.
) (1/259
فصل
قال الله تعالى في أحكام الطلق والعدد :
ّ َ
م { ]البقرة :يٍء عَِلي ٌ
ش ْل َ ُ
ه ب ِك ّ ن الل َ موا أ ّ ن { إلى قوله َ } :واعْل َ ُ مّرَتا ِ } الط َّلقُ َ
. [231 - 229
ن { . .اليات ّ َ َ ّ َ
ي إ َِذا طل ْ َ
ن ل ِعِد ّت ِهِ ّ
قوهُ ّ ساَء فطل ُ م الن ّ َ قت ُ ُ وقال } :يا أي َّها الن ّب ِ ّ
]الطلق 1 :وما بعدها[ .
ذكر الله أحكام الفراق كما ذكر أحكام النكاح والدخول فيه ،تقدم أنه تعالى
حث الزوج على الصبر على زوجته ما دام متمكنا من الصبر ،وفي هذا ذكر
الله أنه إذا كان ل بد له من الطلق ،فعليه أن يطلق زوجته لعدتها ،أي :
لتستقبل عدتها ،وذلك أن يطلقها مرة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ،أو
يطلقها وهي حامل قد تبين حملها ،أو وهي آيسة أو صغيرة ؛ لنها في هذه
الحوال كلها تبتدئ بالعدة البينة الواضحة ،فمن طلقها أكثر من واحدة ،أو
وهي حائض أو نفساء ،أو في طهر قد وطئ فيه ولم يتبين حملها فإنه آثم
متعد لحدود الله ،وإذا طلقها هذا الطلق المشروع فله أن يراجعها ما دامت
في العدة كما قال تعالى :
َ َ َ } وبعول َته َ
حا { ]البقرة . [228 : صل ً ن أَراُدوا إ ِ ْ ن ِفي ذ َل ِك إ ِ ْ حقّ ب َِرد ّهِ ّ نأ َ َُُ ُُ ّ
وسواء رضيت أو كرهت .
) (1/260
وهذا الطلق الذي يتمكن فيه العبد من الرجعة هو الطلق بواحدة إلى ثنتين
بل عوض ،فإن طلقها الطلقة الثالثة فل تحل له حتى تنقضي عدتها ،وتنكح
زوجا غيره نكاح رغبة ل نكاح تحليل ،ويطأها ويطلقها رغبة في طلقها ،
وتنقضي عدتها منه فله أن ينكحها برضاها ،وببقية شروط النكاح من الولي
ومن الصداق وغيره ،فإن طلقها بعوض بلفظ الطلق أو الخلع أو الفداء ،أو
غيرها من اللفاظ ،فقد أباح الله هذا الفداء عند الحاجة ،وهي التي نص
فت َ
تما افْت َد َ ْ ح عَل َي ْهِ َ
ما ِفي َ دود َ الل ّهِ فََل ُ
جَنا َ ح ُ
ما ُ م أّل ي ُ ِ
قي َ خ ْ ُ ْ عليها بقوله } :فَإ ِ ْ
ن ِ
ب ِهِ { ]البقرة [229 :سواء كان العوض بقليل أو كثير لعموم الية ،فإذا
فارقها على هذا الوجه حصل لها الفكاك منه ،ولم يكن له عليها رجعة إل إذا
شاءت بنكاح جديد ،وعند التراجع بين الزوجين إذا رغب كل منهما في
الخر ،فليس لولي النثى أن يعضلها ويمنعها أن تراجع بعلها الول أو الذي
فارقها ،بغضا له أو نكاية له وغضبا عليه ،أو طمعا في بذلها أو بذله له شيئا
من المال ،فكل هذا ل يحل للولي أن يفعله ،بل عليه أن يسعى في التأليف
بينها وبين زوجها ،وأقل ما عليه أن ل يعارض في ذلك ،
) (1/261
وإذا كان منهيا عن ذلك بعد الطلق أو الفداء ونحوهما ،فكيف في ابتداء
المر ؟ ولكن بشرط أن يكون الزوج كفئا وترضى المرأة فيه .
وأما إذا منعها من تزوج من ليس كفئا لها في دينه أو غيره من الصفات
المعتبرة شرعا فهو محسن ،لن منعها عما فيه ضررها إحسان عليها ،وهذا
أحد السباب في اعتبار الولي للمرأة في النكاح ،وفي قوله في الرجعة :
) (1/262
}إ َ
حا { ]البقرة . [228 : صَل ًن أَراُدوا إ ِ ْ
ِ ْ
ك { اعتبار هذا الشرط في ْ ّ
دود َ اللهِ وَت ِل َ َ َ
ح ُ
ما ُ
قي َ
ن يُ ِ
ن ظّنا أ ْ
وفي التراجع } إ ِ ْ
الرجعة والتراجع ،وإل فل يراجع ،ول يتراجعا للضرار وللبقاء على غير ما
يحبه الله ،وفي هذا أن الفعال مبنية على مقاصدها ،وأن المر الذي يقصد
فيه الخير والصلح ل بد أن يجعل الله فيه بركة ،كما أن الذي يقصد به غير
ذلك ولو مكن منه العبد فإنه ضرر حاضر ،ويخشى أن تكون عواقبه ذميمة .
ويستفاد من هذا معنى كلي نافع ،وهو أنه ينبغي للعبد إذا أراد أن يدخل في
أمر من المور مثل المور التي يترتب عليها حقوق كثيرة ،ومثل الوليات
الكبار والصغار والمور المهمة أن يتأنى وينظر في نفسه وعاقبة أمره ،فإن
رأى من نفسه قوة على ذلك ،ووثق بقيامه بما فيها من الحقوق تقدم إليها
متوكل على الله ،وإل أحجم واغتنم السلمة عن الدخول في المور
الخطرة ،وأمر تعالى الزواج أن يمسكوا زوجاتهم بمعروف أو يسرحوهن
بمعروف ،فإن أمسكها أمسكها بعشرة حسنة ،وإن فارقها فليكن على وجه
الشرع بطمأنينة من غير مغاضبة ول مشاتمة ول عداوات تقع بينه وبينها ،أو
بينه وبين أهلها .
) (1/263
) (1/264
وقد ذكر عدة المفارقة بحسب أحوالها في كتابه ،فذكر أن المفارقة بطلق
إن كانت تحيض باستكمال ثلثة قروء من بعد وقوع الطلق عليها ،وأن
اليسة والتي لم تحض لصغر ونحوه عدتها ثلثة أشهر ،وأن المفارقة بموت
زوجها تربص أربعة أشهر وعشرا ،وأن الحامل من المفارقات في الحياة
وبعد الممات عدتها بوضع الحمل .
وفي هذه العدد وتقديرها من السرار والحكم والمنافع للزوجين وغيرهما ما
هو من آيات الله للمتأملين المستبصرين ،وقال تعالى :
َ م ط َل ّ ْ َ
ن
سوهُ ّم ّن تَ َ
لأ ْ ن قَب ْ ِ
م ْن ِموهُ ّقت ُ ُ ت ثُ ّمَنا ِمؤ ْ ِم ال ْ ُ
حت ُ ُمُنوا إ َِذا ن َك َ ْنآ َذي َ } يا أي َّها ال ّ ِ
ميًل { ج ِ
حا َ سَرا ًن َ حوهُ ّسّر ُ ن وَ َمت ُّعوهُ ّدون ََها فَ َ عد ّةٍ ت َعْت َ ّ ن ِم ْن ِ م عَل َي ْهِ ّما ل َك ُ ْ
فَ َ
]الحزاب . [49 :
ففي هذه الية أن المفارقة في الحياة بطلق ونحوه ليس لزوجها عليها عدة
إذا لم يدخل أو يخل بها ،بل بمجرد ما يطلقها لها التزوج في الحال .
وفي هذا أن العدة تثبت بالدخول ،وكذلك الخلوة ،كما ثبت عن الخلفاء
الراشدين ،ومفهوم الية أن الفراق بالموت تعتد له الزوجة المعقود عليها
ولو قبل الدخول ،وكما يؤخذ من مفهوم هذه فإنه يؤخذ من عموم قوله :
) (1/265
ن { . .الية ]البقرة . [234 : } وال ّذين يتوفّون منك ُم ويذ َرو َ
ص َ
جا ي َت ََرب ّ ْ
ن أْزَوا ً
َ ِ َ َُ َ ْ َ ِ ْ ْ ََ ُ َ
وفيها أن العدة من حقوق الزوج ؛ لتمكنه من الرجعة ولحفظ فراشه ومائه
من الختلط ،وحق لها أيضا ; فإن المعتدة نوعان :نوع حامل لها النفقة بكل
حال .قال تعالى :
ن { ]الطلق . [6 : مل َهُ ّ
ح ْ
ن َ
ضعْ َ
حّتى ي َ َن َ قوا عَل َي ْهِ ّل فَأ َن ْفِ ُ
م ٍح ْ
ت َ
} وإن ك ُ ُ
ن أوَل ِ
ّ َِ ْ
ونوع غير حامل ،وهي أيضا نوعان :مفارقة بائنة بموت أو فسخ أو خلع أو
ثلث أو عوض ،فهؤلء كلهن ل نفقة لهن ول كسوة ول مسكن إل على وجه
المعروف والحسان ،ومفارقة رجعية فما دامت في العدة فلها النفقة
والكسوة والمسكن وتوابعها على الزوج ،وحكمها حكم الزوجة التي في
حباله في كل حال إل في القسم فل قسم له ؛ لن الله سماه بعل لها في
ك { ]البقرة [228 :ولن له أن ن ِفي ذ َل ِ َ قوله } :وبعول َته َ
حقّ ب َِرد ّهِ ّ نأ َ َُُ ُُ ّ
يرجعها إلى الزوجية التامة رضيت أو كرهت ما دامت في العدة .
) (1/266
َ ل ل َه َ
ن { ]البقرة :مهِ ّ
حا ِ خل َقَ الل ّ ُ
ه ِفي أْر َ ما َ
ن َ م َ ن ي َك ْت ُ ْنأ ْ ح ّ ُ ّ وفي قوله } :وََل ي َ ِ
[228دليل على أمانتها على نفسها ،وقبول قولها في وجود الحيض
وانقطاعه ؛ لنه توعدها بكتمان ذلك ،وهذا دليل على أن قولها معتبر ،وفي
ن { ]الحزاب [49 :دليل على أنه موهُ ّ قت ُ ُم ط َل ّ ْ ت ثُ ّ مَنا ِ م ال ْ ُ
مؤ ْ ِ قوله } :إ َِذا ن َك َ ْ
حت ُ ُ
ل يقع الطلق إل بعد النكاح ،وأن من علق طلقا بنكاح امرأة لم ينعقد هذا
التعليق ،ولم يقع عليها شيء إذا نكحها ؛ لن النكاح ل يراد به خلف مقصوده
،وهذا بخلف تعليق عتق المملوك للغير بملكه إياه ،فإنه صحيح ويعتق إذا
ملكه ؛ لن تملك الرقيق يقصد به العتق ،وهو مقصود شرعي صحيح .
ن { ]الحزاب [49 :فيه المر بتمتيع المفارقة بالطلق مت ُّعوهُ ّ وقوله } :فَ َ
قبل المسيس مطلقا ،وفي آية البقرة المر بالتمتيع إذا لم يسم لها مهرا ،
فإن سمى لها مهرا فإنه يتنصف إذا طلقها قبل الدخول ،ويكون نصف
الصداق هو المتعة كما قال تعالى :
) (1/267
ة
ض ًري َ ن فَ ِ ضوا ل َهُ ّ فرِ ُ ن أ َوْ ت َ ْسوهُ ّ م ّم تَ َ ما ل َ ْ ساَء َ م الن ّ َ قت ُ ُن ط َل ّ ْ م إِ ْ ح عَل َي ْك ُ ْ جَنا َ } َل ُ
قا عََلى ح ّف َ معُْرو ِ عا ِبال ْ َ مَتا ً قت ِرِ قَد َُره ُ َ م ْسِع قَد َُره ُ وَعََلى ال ْ ُ مو ِ ن عََلى ال ْ ُ مت ُّعوهُ ّ وَ َ
َ َ ّ َ
ة
ض ًري َ َ
نف ِ م لهُ ّ ضت ُ ْ َ
ن وَقد ْ فَر ْ َ سوهُ ّ م ّ ن تَ َلأ ْ َ
ن قب ْ ِ م ْ ن ِ موهُ ّ قت ُ ُ ن طل ْ ن {} وَإ ِ ْ سِني َ ح ِ م ْال ْ ُ
َ َ َ
فوا ن ت َعْ ُ كاِح وَأ ْ قد َة ُ الن ّ َ ذي ب ِي َدِهِ عُ ْ فوَ ال ّ ِ ن أوْ ي َعْ ُ فو َ ن ي َعْ ُ م إ ِّل أ ْ ضت ُ ْما فََر ْ ف َ ص ُ فَن ِ ْ
وا ال ْ َ َ
م { ]البقرة . [237 - 236 : ل ب َي ْن َك ُ ْ ض َف ْ س ُ وى وََل ت َن ْ َ ق َب ِللت ّ ْ أقَْر ُ
فحث على العفو في هذا الموضع الخاص لنفعه وعظم موقعه ،وقال } :وََل
م { ]البقرة [237 :وهذا إرشاد عظيم نافع في جميع ل ب َي ْن َك ُ ْض َ ف ْ وا ال ْ َ س ُت َن ْ َ
المعاملت أنه ينبغي للعبد فيها أن ل يستقصي في كل شيء ،بل يجعل
للفضل محل من عفو ومحاباة وإعطاء أزيد مما في الذمة قدرا أو وصفا ،
وقبول أدنى من الحق كمية وكيفية ،فكم حصل بهذا الفضل -وإن كان
طفيفا -خير كثير وأجر كبير ،ومعروف وبركة ،وراحة فكر وطمأنينة قلب .
) (1/268
ن { ]البقرة :
قي َ قا عََلى ال ْ ُ
مت ّ ِ ح ّ
ف َ مَتاع ٌ ِبال ْ َ
معُْرو ِ ت َ مط َل ّ َ
قا ِ وفي قوله } :وَل ِل ْ ُ
. [241
وهذا العموم يقتضي أن كل مطلقة لها على زوجها متعة ،لكن إن كانت غير
مدخول بها ولم يسم لها مهر ،فالمتعة واجبة كما تقدم بحسب يسار الزوج
وإعساره ،وإن كان قد سمي لها مهر تنصف المهر وكان النصف الحاصل لها
هو المتعة ،فإن لم يكن المر كذلك كانت المتعة حقا معروفا وإحسانا
جميل ؛ لما فيها من جبر خاطرها وقضاء نوائبها التي هي مظنة الحاجة إليها
في تلك الحال ،وكون ذلك عنوانا على التسريح بالمعروف ،ودفعا
للمشاغبات والعداوات التي تحدث لكثير من الناس عند الطلق ،واحتياطا
لبراءة ذمته مما لعله لحقه لها من الحقوق ،وتسهيل للرجعة أو المراجعة إذا
تغيرت الحال ،وأحدث الله بعد ذلك أمرا ،ولها من الفوائد شيء كثير ،
ومدح الله هذه الحكام الجليلة بقوله :
ن { ]البقرة . [242 : ُ
قلو َ م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ
م ت َعْ ِ ه ل َك ُ ْ
ن الل ّ ُ } ك َذ َل ِ َ
ك ي ُب َي ّ ُ
فسمى هذه الحكام آيات ؛ لنها تدل أكبر دللة على عنايته ولطفه بعباده ،
وأنه شرع لهم من الحكام ،الحكام الصالحة لكل زمان ومكان ،ول يصلح
العباد غيرها .
) (1/269
) (1/270
من جملة الحكام المنتشرة المتعلقة بالزوجة أنه قد يؤلي منها أو يظاهر منها
،والفرق بين اليلء والظهار أن اليلء هو الحلف بالله على ترك وطء زوجته
أبدا ،أو مدة طويلة تزيد على أربعة أشهر إذا كان قادرا على الوطء ،فإذا
فعل ذلك وحلف هذا الحلف فل يخلو :إما أن تطالبه الزوجة بحقها من
الوطء أو ل تطالبه ،فإن لم تطالبه ترك وشأنه ،فإن وطئ في هذه المدة
فقد حنث ،وعليه كفارة يمين ،وإل فل كفارة عليه ،وإن طالبته بالوطء أمر
بذلك وجعل له أربعة أشهر ،فإن فاء ورجع إلى الوطء فذلك هو المطلوب
منه ،وهو أحب المرين إلى الله ،وإن أبى وامتنع ومضت الربعة الشهر وهو
مصر على عدم وطئها وهي مقيمة على طلب حقها ،أجبر على أحد أمرين :
إما أن يفيء ويكفر كفارة يمين ،وإما أن يطلق ،فإن امتنع من كل منهما
طلق الحاكم عليه .
وأما الظهار فأن يحرم زوجته ويقول لها :أنت علي كظهر أمي ،أو نحوه من
ألفاظ التحريم الصريحة ،فهذا قد أتى منكرا من القول وزورا ،وكذب أعظم
كذب إذ شبه من هي حلل بمن هي أعظم المحرمات ،وهي الم ،ولهذا قال
:
) (1/271
) (1/272
وأما اللعان فإن الزوج إذا رمى زوجته بالزنا ،ولم يكن له على ذلك أربعة
شهود ،ولم تعترف بل أقامت على النكار ،فعليه ما على من قذف
المحصنات من جلد ثمانين جلدة إل أن يلعنها ،وذلك بأن يشهد أربع مرات
أنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا ،ويقول في الخامسة داعيا على
نفسه ،وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ،فحينئذ يترتب عليها الحد أو
الحبس حتى تقر ،إل أن تقابله بلعان يدرأ عنها العذاب ،بأن تقول أربعا :
أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا ،وتزيد في الخامسة
وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ،فعند ذلك يحصل الفراق البدي
بينه وبينها .
والحكمة في تخصيص الزوج بسقوط حد القذف عنه إذا لعن أن الزوج
محتاج ،وربما كان مضطرا إلى رميها لنفي ما يلحقه من أولد غيره ولحقه
وإفساد فراشه ،وأما القاذف :إذا كان غير زوج ،إذا قذف غيره بالزنا ،فإن
الله قال في حده :
) (1/273
جل ْد َةًن َ
ماِني َم ثَ َ
دوهُ ْ داَء َفا ْ
جل ِ ُ م ي َأ ُْتوا ب ِأ َْرب َعَةِ ُ
شهَ َ م لَ ْ
ت ثُ ّ صَنا ِ ح َ ن ال ْ ُ
م ْ مو َن ي َْر ُ
ذي َ} َوال ّ ِ
ن َتاُبوا { ]النور : ذي َ ن { } إ ِّل ال ّ ِ قو َس ُ فا ِم ال ْ َك هُ ُ دا وَُأول َئ ِ َ َ
شَهاد َة ً أب َ ً قب َُلوا ل َهُ ْ
م َ وََل ت َ ْ
4و . [5
فصل في آيات الحدود
حّر ْ ْ َ ْ ْ ُ َ ُ ّ َ
حّر ِبال ُ
قت ْلى ال ُ ص ِفي ال َ صا ُ ق َم ال ِ ب عَلي ْك ُ مُنوا كت ِ َ نآ َ ذي َ قال تعالى } :يا أي َّها ال ِ
{ -إلى آخرها والتي بعدها ] -البقرة . [179 - 178 :
يمتن الله على عباده بأنه فرض عليهم القصاص في القتلى ،أي :المساواة
فيه ،وأن يقتل القاتل عمدا على الصفة التي قتل عليها المقتول ؛ إقامة
للعدل بين العباد ،وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين فيه دليل على أنه يجب
عليهم كلهم حتى أولياء القاتل ،حتى القاتل بنفسه ،إعانة ولي المقتول إذا
طلب القصاص وتمكينه من القاتل ،وأنه ل يحل لهم أن يحولوا بينه وبين
القاتل إذا تمت الشروط كما يفعله أهل الجاهلية ومن أشبههم من إيواء
المحدثين .
) (1/274
حّر { يدخل في منطوقها وفي منطوق حّر ِبال ْ ُثم فصل ذلك بقوله } :ال ْ ُ
س { ]المائدة [45 :أن الذكر يقتل بالنثى ،كما َ
ف ِ س ِبالن ّ ْ
ف َ
ن الن ّ ْ
قوله } :أ ّ
تقتل النثى بالذكر ،فيكون هذا المنطوق مقدما على مفهوم قوله :
} َواْل ُن َْثى ِباْل ُن َْثى { مع دللة صريح السنة الصحيحة قتل النبي صلى الله عليه
وسلم اليهودي بالجارية ،وخرج من هذا العموم البوان وإن علوا فل يقتلن
بالولد لورود السنة بذلك ،مع أن في لفظ القصاص ما يدل على أنه ليس
من العدل أن يقتل الوالد بولده ،ولن ما في قلب الوالدين من الرحمة
المانعة من صدور هذه الجريمة منهما على ولدهما ما يحدث الشبهة ،إما أنه
ل بد أن في عقلهما اختلل أو أذية شديدة أحوجته إلى قتل ولده ،أو لم يحرر
أن القتل عمد محض .
وخرج من هذا العموم أن المسلم ل يقتل بالكافر لثبوت السنة بذلك ،مع أن
الية في خطاب المؤمنين خاصة ،وليس أيضا من العدل أن يقتل ولي الله
بعدوه } َوال ْعَب ْد ُ ِبال ْعَب ْدِ { ذكرا كان أو أنثى تساوت قيمتهما أو اختلفت ،ودل
مفهومها على أن الحر ل يقتل بالعبد لكونه غير مساو له .
) (1/275
وفي هذه الية دليل على أن الصل وجوب القود في العمد العدوان ،وأن
يٌء { أي :عفا ولي
ش ْ ن أَ ِ
خيهِ َ م ْ ي لَ ُ
ه ِ ف َ
ن عُ ِ الدية بدل عنه ،فلهذا قال } :فَ َ
م ْ
المقتول عن القاتل إلى الدية ،أو عفا بعض الولياء فإنه يسقط القصاص
وتجب الدية ،وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي ،فإذا عفا عنه
وجب على ولي المقتول أن يتبع القاتل بالمعروف من غير أن يشق عليه ول
يحمله ما ل يطيق ،بل يحسن القتضاء والطلب ول يحرجه ،وعلى القاتل
أداء إليه بإحسان من غير مطل ول نقص ول إساءة فعلية أو قولية ،فهل
جزاء الحسان إليه بالعفو إل الحسان بحسن القضاء ؟ وهذا مأمور به في
كل ما ثبت في ذمم الناس للنسان :مأمور من له الحق بالتباع بالمعروف ،
ومن عليه الحق بالداء بإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم » :رحم الله
عبدا سمحا إذا قضى ،سمحا إذا اقتضى « .
) (1/276
) (1/278
ولما كان هذا الحكم ل يعرفه حقيقة المعرفة إل أهل العقول الكاملة قال } :
َ ُ
ن { ،وهذا يدل على أنه قو َ م ت َت ّ ُب ل َعَل ّك ُ ْحَياة ٌ يا أوِلي اْلل َْبا ِ ص َ صا ِ ق َ م ِفي ال ْ ِ وَل َك ُ ْ
يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبير ما في أحكامه من
الحكم والمصالح الدالة على كماله ،وكمال حكمته وحمده وعدله ورحمته
الواسعة ،وأن من كان بهذا الوصف فقد استحق الثناء والمدح بأنه من ذوي
اللباب ،الذين وجه إليهم الخطاب ،وكفى بذلك فضل وشرفا ،وقوله :
ن { وذلك أن من عرف ربه ،وعرف ما في دينه وشرعه من قو َ م ت َت ّ ُ } ل َعَل ّك ُ ْ
السرار العظيمة والحكم البديعة واليات الرفيعة أوجب له أن ينقاد لمر
الله ،ويخضع لشرعه طاعة لله ولرسوله .
ُ ْ َ ْ َ دوا ك ُ ّ
خذ ْك ْ
م جلد َةٍ وَل ت َأ ُ ة َ مائ َ
ما ِمن ْهُ َ
حد ٍ ِ ل َوا ِ جل ِ ُ ة َوالّزاِني َفا ْ قوله تعالى } :الّزان ِي َ ُ
ما شهَد ْ عَ َ
ذاب َهُ َ ْ
خرِ وَلي َ ْ ْ ْ ّ
ن ِباللهِ َوالي َوْم ِ ال ِ مُنو َ م ت ُؤْ ِ ُ
ن كن ْت ُ ْ ن الل ّهِ إ ِ ْ ة ِفي ِدي ِ ما َرأ ْفَ ٌ ب ِهِ َ
ن { ]النور . [2 : مِني َ ْ
مؤ ِ ْ
ن ال ُ م َ ة ِ ف ٌ َ
طائ ِ َ
) (1/279
هذا حد الزاني غير المحصن من ذكر أو أنثى يجلد مائة جلدة ،جلدات تؤلمه
وتزجره ول تهلكه ،ويتعين أن يكون ذلك علنا ل سرا بحيث يشهده طائفة من
المؤمنين ؛ لن إقامة الحدود من الضروريات لقمع أهل الجرائم ،واشتهارها
هو الذي يحصل به الردع والنزجار وإظهار شعائر الدين ،والستتار به أو
على أحد دون أحد فيه مفاسد كثيرة ،ووردت السنة بتغريب عام كامل عن
وطنه مع الجلد ،كما تواترت السنة وأجمع المسلمون على رجم الزاني
المحصن ،يرجم بالحجارة حتى يموت .
ً َ َ َ َ
ن
م َ
سَبا ن َكال ِ
ما ك َ
جَزاًء ب ِ َ ة َفاقْطُعوا أي ْدِي َهُ َ
ما َ سارِقَ ُ
سارِقُ َوال ّوقال تعالى َ } :وال ّ
م { ]المائدة . [38 : كي ٌ
ح ِ زيٌز َ الل ّهِ َوالل ّ ُ
ه عَ ِ
السارق هو من أخذ مال غيره المحترم بغير رضاه ،وهو من كبائر الذنوب
الموجبة لترتب هذه العقوبة ،وهو أنه يجب قطع يده اليمنى كما هي قراءة
بعض الصحابة ،واليد إذا أطلقت فهي الكف إلى الكوع فقط ،فإذا قطعت
حسمت وجوبا في زيت أو ودك مغلي لتنسد العروق فيقف الدم ،ولكن
السنة قيدت عموم الية الكريمة بأمور كلها ترجع إلى تحقيق السرقة
للموال .
) (1/280
فمنها :ل بد أن يكون المسروق نصابا ،وهو ربع دينار ،أو ثلثة دراهم ،أو ما
يساوي ذلك .
ومنها :ل بد أن يكون المأخوذ منه حرزا ،وحرز كل مال ما يحفظ به عادة ،
فلو سرق من مال غير محرز فل قطع عليه ،ويؤخذ هذا من لفظ السارق ؛
فإنه الذي يأخذ المال على وجه ل يمكن التحرز منه ،فإن عاد السارق
قطعت رجله اليسرى ،فإن عاد فقيل تقطع يده اليسرى ،ثم إن عاد قطعت
رجله اليمنى ،وقيل :يحبس حتى يموت ،وورد في ذلك آثار عن السلف
مختلفة .
سَبا { ]المائدة [38 :من التجري على أموال الناس ما ك َ َجَزاًء ب ِ َ وقوله َ } :
ن الل ّهِ { أي :ترهيبا منه للسراق ليرتدعوا إذا علموا أنهم يقطعون ، م َكاًل ِ} نَ َ
زيٌز
ه عَ ِ ّ
حَياة ٌ { َ } ،والل ُ
ص َ ْ َ
وهذا نظير قوله في القتل } :وَلك ُ ْ
صا ِ
ق َ
م ِفي ال ِ
م { أي :عز وحكم ،فقطع بحكمته يد السارق ؛ تنكيل للمجرمين ، كي ٌ ح ِ
َ
وحفظا للموال .
وقد ذكر الله قبل هذا حد قطاع الطريق المحاربين في قوله :
ه { ]المائدة . [33 : ن الل ّ َ
حارُِبو َن يُ َذي َ جَزاُء ال ّ ِما َ} إ ِن ّ َ
) (1/281
فقيل :إن المام مخير فيهم بين هذه المور ،وعليه أن يفعل ما تقتضيه
المصلحة ،ويحصل به النكاية ،وقيل :إن هذه العقوبة مرتبة بحسب الجريمة
; فإن جمعوا بين القتل وأخذ المال جمع لهم بين القتل والصلب ،وإن قتلوا
ولم يأخذوا مال قتلوا ولم يصلبوا ،وإن أخذوا مال ولم يقتلوا قطعت أيديهم
وأرجلهم من خلف ،وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا ول أخذوا مال نفوا من
الرض ،فل يتركون يأوون إلى بلد ،أو يحبسون كما قاله بعضهم .
) (1/282
) (1/283
يقول الباري :يا أيها الذين آمنوا اعملوا بمقتضى أيمانكم في تحليل ما أحل
الله ،وتحريم ما حرم الله ،فل تحرموا ما أحل الله لكم من المطاعم
والمشارب وغيرها ،فإنها نعم تفضل الله بها عليكم فاقبلوها ،واشكروا الله
عليها إذ أحلها شرعا ويسرها قدرا ،ول تردوا نعمة الله بكفرها ،أو عدم
قبولها ،أو اعتقاد تحريمها ،أو الحلف على عدم تناولها ،فإن ذلك كله من
ن { بل يبغضهم دي َ ب ال ْ ُ
معْت َ ِ ح ّ ه َل ي ُ ِ ن الل ّ َ العتداء ،ولهذا قال } :وََل ت َعْت َ ُ
دوا إ ِ ّ
حلل طي ًّبا { أي :كلوا من رزقه َ ً َ ه َ ّ
م الل ُ ما َرَزقَك ُ ُ م ّ ويمقتهم على ذلك } وَك ُُلوا ِ
الذي ساقه إليكم ،ويسره لكم بأسبابه المتنوعة ،إذا كان حلل ،ل سرقة ول
غصبا ،ول حصل في معاملة خبيثة ،وكان أيضا طيبا نافعا ل خبث فيه
َ
ه
م بِ ِ
ذي أن ْت ُ ْ ه { في امتثال أوامره ،واجتناب نواهيه } ال ّ ِ قوا الل ّ َ} َوات ّ ُ
ن { فإن اليمان ل يتم إل بذلك ،وهو يدعو إلى ذلك . مُنو َ مؤ ْ ِ
ُ
) (1/284
ودلت الية الكريمة أن العبد إذا حرم حلل عليه من طعام وشراب وكسوة
واستعمال وسرية ونحو ذلك ،فإن هذا التحريم منه ل يحرم ذلك الحلل ،
لكن إذا فعله فعليه كفارة يمين ،لن التحريم يمين كما قال تعالى } :يا أ َي َّها
َ َ
م{ حي ٌ
فوٌر َر ِه غَ ُك َوالل ّ ُ
ج َ ضاةَ أْزَوا ِ مْر َك ت َب ْت َِغي َه لَ َ ل الل ّ ُ ح ّما أ َ م َ حّر ُ
م تُ َ
ي لِ َ
الن ّب ِ ّ
َ
م{ كي ُ م ال ْ َ
ح ِ م وَهُوَ ال ْعَِلي ُموَْلك ُ ْ م َوالل ّ ُ
ه َ مان ِك ُ ْ
ة أي ْ َ حل ّ َ ه ل َك ُ ْ
م تَ ِ ض الل ّ ُ} قَد ْ فََر َ
]التحريم 1 :و . [2
وهذا عام في تحريم كل طيب ،إل أن تحريم الزوجة يكون ظهارا فيه كفارة
الظهار السابقة .
) (1/285
وكما أنه ليس له أن يحلف على ترك الطيبات فليس له أن يمتنع من أكلها ،
ولو بل حلف تنسكا وغلوا في الدين ; بل يتناولها مستعينا بها على طاعة ربه
َ
م { ويشمل هذا اليمان التي حلف بها من ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ
مان ِك ُ ْ م الل ّ ُ خذ ُك ُ ُؤا ِ } َل ي ُ َ
نغير نية ول قصد ،أو عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلف ذلك } ،وَل َك ِ ْ
َ
ن { أي :بما عقدت عليه قلوبكم ،كما قال في ما َ م اْلي ْ َ
قد ْت ُ ُ ما عَ ّ م بِ َخذ ُك ُ ْ يُ َ
ؤا ِ
م { ]البقرة . [225 :ت قُُلوب ُك ُْ ب
َ َ ْسَ ك ما ب
ْ ِ َ م ُ كُ ذ خ َ
ؤا ي
َ ِ ْ ُ ِ ن ك َ لو } : الخرى الية
فإذا عقد العبد اليمين وحنث -بأن فعل ما حلف على تركه ،أو ترك ما حلف
على فعله -خير في الكفارة بين إطعام عشرة مساكين من أوسط ما
تطعمون أهليكم ،وذلك يختلف باختلف الناس والوقات والمكنة ،أو
كسوتهم بما يعد كسوة ،وقيد ذلك بكسوة تجزي في الصلة ،أو تحرير رقبة
صغير أو كبير ،ذكر أو أنثى ،بشرط أن تكون الرقبة مؤمنة ،كما في الية
المقيدة باليمان ،وأن تكون تلك الرقبة سليمة من العيوب الضارة بالعمل ،
فمتى كفر بواحد من هذه الثلثة انحلت يمينه .
) (1/286
وهذا من نعمة الله على هذه المة أنه فرض لهم تحلة أيمانهم ،ورفع عنهم
اللزام والجناح ،فمن لم يجد واحدا من هذه الثلثة فعليه صيام ثلثة أيام ،
ظواف ُ
ح َ
أي :متتابعة مع المكان ،كما قيدت في قراءة بعض الصحابة َ } ،وا ْ
َ
م { عن أن تحلفوا بالله وأنتم كاذبون ،وعن كثرة اليمان ل سيما عند مان َك ُ ْ
أي ْ َ
البيع والشراء ،واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها ،إل إذا كان الحنث خيرا
من المضي فيها ،كما قال تعالى :
َ ض ً َ
س{ ن الّنا ِ
حوا ب َي ْ َ
صل ِ ُ
قوا وَت ُ ْ
ن ت َب َّروا وَت َت ّ ُ
مأ ْ مان ِك ُ ْ
ة ِلي ْ َ ه عُْر َجعَُلوا الل ّ َ
} وََل ت َ ْ
]البقرة . [224 :
) (1/287
أي :ل تقولوا :إننا قد حلفنا على ترك البر ،وترك التقوى ،وترك الصلح
بين الناس ،فتجعلوا أيمانكم مانعة لكم من هذه المور التي يحبها الله
ورسوله ،بل احنثوا وكفروا وافعلوا ما هو خير وبر وتقوى ،واحفظوا أيضا
أيمانكم إذا حلفتم وحنثتم بالكفارة ،فإن الكفارة بها حفظ اليمين الذي معناه
تعظيم المحلوف به ،فمن كان يحلف ويحنث ول يكفر فما حفظ يمينه ،ول
ه ل َك ُ ْ
م آَيات ِهِ { المبينة للحلل من الحرام ، ن الل ّ ُ قام بتعظيم ربه } ك َذ َل ِ َ
ك ي ُب َي ّ ُ
ن { فعلى العباد أن يشكروا ربهم على شك ُُرو َ م تَ ْ الموضحة للحكام } ل َعَل ّك ُ ْ
بيانه وتعليمه لهم ما لم يكونوا يعلمون ،فإن العلم أصل النعم وبه تتم .
) (1/288
) (1/289
) (1/290
فمن الخبائث المحرمة الميتة -سوى ميتة الجراد والسمك -وهي ما مات
حتف أنفه أو ذكي ذكاة غير شرعية ،والدم المسفوح كما قيدته الية
الخرى ،وأما الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد الذبح فإنه طيب حلل
ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ { بأن ذبح لغير الله من أصنام وملئكة ما أ ُهِ ّ زيرِ وَ َ م ال ْ ِ
خن ْ ِ ح ُ } وَل َ ْ
أو إنس أو جن أو غيرها من المخلوقات .
ومن الخبائث كل ذي ناب من السباع ،وكل ذي مخلب من الطير كما صح
بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ة { أي :التي تخنق بالحبال أو غيرها ،أو تختنق ق ُ
خن ِ َ
من ْ َومن الميتة } َوال ْ ُ
موُْقوذ َة ُ { وهي التي تضرب بالحصى أو بالعصا حتى تموت ، فتموت َ } ،وال ْ َ
ة { وهي ومن هذا إذا رمى صيدا فأصاب الصيد بعرضه فقتله َ } ،وال ْ ُ
مت ََرد ّي َ ُ
ة { التي ح ُ
طي َ التي تسقط من موضع عال كسطح وجبل فتموت َ } ،والن ّ ِ
تنطحها غيرها فتموت بذلك ،وما أكله ذئب أو غيره من السباع ،وكل هذه
المذكورات إذا لم تدرك ذكاتها ،فإن أدركها حية فذكاها حلت ؛ لقوله } :إ ِّل
ك أم ل . م { وسواء غلب على الظن بقاؤه أو تلفه إذا لم ي ُذ َ ّ ما ذ َك ّي ْت ُ ْ
َ
) (1/291
) (1/292
فصل في جوامع الحكم والقضايا في الصول والفروع
ه { ]المائدة . [49 : ل الل ّ ُ ما أ َن َْز َ
م بِ َ
م ب َي ْن َهُ ْ حك ُ ْ نا ْ
َ
قال الله تعالى } :وَأ ِ
ه { ]النساء . [105 : ك الل ّ ُ ما أ ََرا َ س بِ َ ن الّنا ِ م ب َي ْ َ حك ُ َ } ل ِت َ ْ
ط { ]المائدة . [42 : س ق ْ ل
ْ ْ ََُْ ْ ِ ِ ْ ِبا م ه ن ي ب م ُ ك ح فاَ ت َ
} وَإ ِ ْ َ ْ َ
م ك ح ن
ل { ]النساء . [59 : سو ِ يٍء فَُرّدوهُ إ َِلى الل ّهِ َوالّر ُ ش ْ م ِفي َ ن ت ََناَزعْت ُ ْ } فَإ ِ ْ
َ
حقّ وََل ت َت ّب ِِع ال ْهَ َ
وى س ِبال ْ َ
ن الّنا ِ حك ُ ْ
م ب َي ْ َ ض َفا ْ ْ
ة ِفي الْر ِ ف ًخِلي َ ك َ جعَل َْنا َ } يا َداوُد ُ إ ِّنا َ
ل اللهِ { ]ص . [26 : ّ سِبي ِ ن َ ك عَ ْ ضل ّ َ فَي ُ ِ
ّ َ
ن { ]المائدة . [50 : قوْم ٍ ُيوقُِنو َ ما ل ِ َ حك ْ ً ن اللهِ ُ م َ ن ِ س ُ ح َ نأ ْ م ْ } وَ َ
صد ًْقا وَعَد ْل { ]النعام . [115 : ً ك ِ ة َرب ّ َ م ُت ك َل ِ َ م ْ } وَت َ ّ
) (1/293
الحكم بين الناس بالحق والقسط ،هو الحكم بما أنزل الله ،وهو الرد إلى
الله ورسوله ; فإن هذه اليات يصدق بعضها بعضا ; وتدل على أن الحق
والعدل ل يخرج عما جاء به الرسول ،وأن حكم الله ورسوله أحسن الحكام
على الطلق ،أي :أعدلها وأقومها وأصلحها وأحسمها للشرور ،وأعظم
أحكام توسل بها إلى تحصيل درء المفاسد ،وأن رد مسائل النزاع
والختلفات الدينية والدنيوية إلى الله والرسول خير في الحال وأحسن عاقبة
،وأن كلمات الله تمت وكملت من كل وجه صدقا في إخبارها ،عدل في
أحكامها وأوامرها ونواهيها ،فكل مسألة خارجة عن العدل إلى الظلم ،وعن
الصلح إلى الفساد ،فليست من الشرع ،وقد جاء شرع الله محكم الصول
والفروع ،موافقا للمعقول الصحيح والعتبار والميزان العادل .
وقد حكم الله ورسوله بأحكام متنوعة متفرعة عن هذا الصل العظيم ،
وتفصيل لمجمله ،فحكم الله بأن إقرار من عليه الحق معتبر في القليل
والكثير كما تقدم التنبيه عليه في آية الد ّْين .
) (1/294
وحكم بأن البينة على المدعي لثبات حق ،أو المدعي براءة الذمة من
الحقوق الثابتة ،وأن اليمين على من أنكر ،وهاتان القاعدتان عليهما مدار
جمهور القضايا ،اعتبار إقرار من عليه الحق إذا كان جايز التصرف ،وتكليف
المدعين كلهم بالبينات .
والبيعة شرعا اسم جامع لكل ما بين الحق ،والبيان مراتب ،بعضها يصل إلى
درجة اليقين ،وبعضها كالقرائن ،وشواهد الحوال توصل إلى غلبة الظن ،
والترجيحات كثيرة جدا .
وعند تساوي الترجيحات ومقادير الشياء وكمياتها بالتوسط بينها ،إما
بقسمتها متساوية وجعل الزيادة والنقص بحسب ذلك ،وإل بالقرعة إذا
تعذرت القسمة ،ومن أحكام الشارع العادلة إلغاؤه المعاملت الظالمة
الجائرة :كأنواع الغرر والظلم والميل على أحد المتعاملين بغير حق .
ومن أحكامه الكلية اعتباره التراضي بين المتعاملين في عقود المعاوضات ،
وفي عقود التبرعات ،وأنه ل يحل مال امرئ مسلم أو معاهد إل بطيب
نفسه .
ومن أحكامه الكلية منع الضرر والضرار بغير حق في كل معاملة وخلطة
وجوار واتصال .
ومن أحكامه الكلية أن على العمال تكميل أعمالهم بغير نقص ،وعلى من
عمل لهم تكميل أجورهم .
) (1/295
ومن أحكامه الكلية إيجابه الوفاء بالعقود والشروط التي يشترطها أحد
المتعاقدين على الخر في أبواب العقود كلها ،مما لكل منهما أو لحدهما فيه
مصلحة ،إل شرطا أحل حراما أو حرم حلل ،فهذا قد أهدره الشارع وألغاه
وقال :من عمل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد .
ومن أحكامه الكلية اعتبار المقاصد والنيات في أبواب المعاملت والعمال ،
كما تعتبر في باب العبادات ،وبهذا الصل أبطل جميع الحيل التي يتوسل بها
إلى فعل محرم ،أو إسقاط حق مسلم ونحوها .
ومن أحكامه الكلية أن جميع العقود اللزمة والجائزة :عقود المعاوضة
وعقود التبرع ،وكذلك الفسوخ تنعقد بما دل عليها من اللفاظ التي يتعارفها
المتعاقدان ،ومن الفعال الدالة على ذلك .
ومن أحكامه الكلية أن تلف الشيء بيد الظالم كالغاصب ونحوه فيه
الضمان ،فرط أو لم يفرط ،فإن ثبوت يده على وجه الظلم والعدوان ،وأن
تلف الشيء تحت يد المين ل ضمان فيه إن لم يفرط أو يتعد .
) (1/296
ومن أحكامه الكلية أن الشيء المشكوك فيه يرجع فيه إلى اليقين في
العبادات والمعاملت ،فمن ادعى الصل فقوله مقبول ،ومن ادعى خلف
الصل لم يقبل إل ببينة ،وأن الصل بقاء ما كان على ما كان ،والصل براءة
الذمة حتى يتيقن اشتغالها ،كما أن الصل بقاء ما كان ثابتا في الذمة حتى
يتيقن البراءة بوفاء أو إسقاط أو سقوط ،وأن الصل في عقود المسلمين
الصحة والسلمة حتى نعرف أنه جرى ما يفسدها .
ومن أحكامه الكلية أن جميع الحكام من أصول وفروع ل تتم وتكمل ويحصل
مقتضاها إل باجتماع شروطها وأركانها ومقوماتها ،وانتفاء موانعها ومفسداتها
.
ومن أحكامه الكلية وجوب المماثلة في المتلفات والمضمونات بمثلها إن
أمكن المثل ،وبالقيمة إن تعذر المثل .
وكذلك العمال ،فمن عمل لغيره عمل بعوض لم يسم ،أو سمي تسمية
فاسدة ،أو جهلت التسمية ،أو عاوضه معاوضة تعذر معرفة العوض فيها ،
فإنه يرجع في ذلك إلى أجرة المثل وعوض المثل .
) (1/297
ومن أحكامه الكلية وجوب العدل بين الولد والزوجات ،ووجوب العدل بين
ذوي الحقوق الذي ل مزية لواحد منهم على الخر ،كالعول الداخل على أهل
الفروض بالسوية ،وكقسمة المال بين الغرماء إذا لم يف بحقوقهم يعطون
على قدر حقوقهم إذا لم يكن لحدهم مزية رهن ونحوه ،وكاشتراك الملك
في الزيادة المترتبة عليها على قدر أملكهم ،والنقص على قدر أملكهم إذا
اعتراها نقص ،وسواء كان النقص بحق تعلق بها أو بتلف أو خسارة أو وقع
ظلما فإنهم يشتركون في الزيادة والنقص على قدر أملكهم .
ومن أحكامه الكلية إثبات الخيار في كل عقد ظهر في العوض المعين أو
المعوض عيب ينقصه ; وأنه إذا لم يمكن الرد تعين الرش وإسقاط النقص ،
وعلى الصحيح ل فرق بين البيوع وغيرها ،فإن هذا من قاعدة العدل .
ومن أحكامه الكلية جعل المجهول كالمعدوم ،ويندرج تحت هذا الصل
مّلك َُها أنه يتصدق بها عنهم ،أو تبذل في المصالح نيابة جهِ َ
ل ُ الموال التي ُ
عنهم ،وتملك اللقطة ،ومن مات ل وارث له بفرض ول تعصيب ول رحم ،
تركته في بيت المال للمصالح العامة جعًل للمجهول في ذلك كالمعدوم .
) (1/298
ومن أحكامه الكلية الرجوع إلى العرف إذا تعذر التعيين شرعا ولفظا ،
كالرجوع للعرف في نفقة الزوجات والقارب والجراء ،وكالشروط العرفية
في المعاملت إذا اطردت بين الناس ،وكالقبض والحرز ونحوها مما ل يعد
ول يحصى .
ومن أحكامه الكلية أن الصل في العبادات الحظر ؛ فل يشرع منها إل ما
شرعه الله ورسوله ،والصل في المعاملت والستعمالت كلها الباحة ; فل
يحرم منها إل ما حرمه الله ورسوله ،وعلى هذا جميع أحكام العبادات
والمعاملت وغيرها مما ل يمكن إحصاؤه ،ولهذا من شرع في عبادة لم تنقل
عن الشارع فهو مبتدع ،ومن حرم من العادات شيئا لم يرد عن الشارع فهو
مبتدع .
ومن أحكامه الكلية حثه على الصلح والصلح بين من بينهم حقوق ،
وخصوصا عند اشتباهها أو عند تناكرهما ،وإذا تعذر استيفاء الحق كله أو
تعسر ،فقد شرع في ذلك كله الصلح بالعدل ،وسلوك الحالة المناسبة لتلك
القضية بما تقتضيه الحال ،وفيه من الفوائد والثمرات الطيبة ما ل يعد ول
يحصى .
) (1/299
ومن أحكامه الكلية اعتبار العدالة في الشهود ،وأن يكونوا ممن يرضى من
الشهداء ،وذلك يختلف باختلف الحوال والشخاص ،فالشارع اعتبر شهادة
العدل المرضي من الشهداء ،وأسقط شهادة الكاذب والقاذف قبل التوبة ،
وأمر بالتثبت في خبر الفاسق ،وكذلك المجهول ؛ لنه اعتبر المرضي العدل
عند الناس ،فل بد من تحقيق هذا الوصف ،وأما عدد الشهود ونصابها فذلك
يختلف باختلف المشهود به كما فصله أهل العلم .
ومن أحكامه الكلية أن من سبق إلى مباح فهو أحق به ،فيدخل في هذا
السبق إلى الجلوس في المساجد والسواق والفنية ،ويدخل فيه السبق إلى
النزول في المساكن والوقاف التي ل تتوقف على نظر ناظر ،ويدخل في
ذلك السبق إلى المباحات من الصيود البرية والبحرية ،وإلى ما يستخرج من
البحار والمعادن ،وإلى الحتشاش والحتطاب وغير ذلك ،وإلى إحياء الموات
وغيرها من المسائل المتنوعة الداخلة في هذا الصل .
) (1/300
ومن أحكامه الكلية قبول قول المناء على ما في أيديهم مما هم عليه أولياء
من قبل الشارع ،أو قبل المالك بالوكالة أو الوصاية أو النظارة للوقاف ،
فكل هؤلء مقبول قولهم فيما يدعونه من داخل وخارج ومصرف ونحوه إذا
كان ذلك ممكنا ،وهذا معنى تأمينهم وتوليهم ووليتهم ،واعلم أن قبول قول
هؤلء في هذه المور ل يمنع محاسبتهم ،وطلب الوقوف على كيفية تلك
المصارف الداخلية والخارجية ،وتبيين وجه النقص والتلف ونحو ذلك ،
ليستظهر بذلك على صدقهم وكذبهم ،وأما تمكينهم من إطلق سراحهم
بحجة أنهم أمناء مقبول قولهم ،فهذا غلط على الشريعة وعلى الحقيقة ،
فالشارع حاسب عماله واستدرك عليهم ،والحقيقة والوقوف عليها مطلوب
باتفاق أهل العتبار ; فكم من أمين ظهرت خيانته يقينا حين استدرك عليه .
ومن أحكامه الكلية أن الواجب يسقط بالعجز عنه بالكلية ،وأنه إذا قدر على
بعض الواجب وجب عليه ما يقدر عليه منه ،وسقط عنه ما يعجز عنه ،وهذا
مطرد في العبادات والحقوق الواجبة وغيرها ،كما أن الضرورة تبيح
المحظور وتقدر بقدرها .
) (1/301
ومن أحكامه الكلية أنه أقام البدل مقام مبدله في أحكام العبادات
والمعاملت والحقوق وغيرها ،فمتى كان للشيء بدل وتعذر الصل قام هذا
مقامه ،وحكم له بأحكامه ،وأن النماء تابع للصل .
ومن أحكامه الكلية أن من وجب عليه أمر من المور فإنه يجبر عليه بحق ،
وأن من أتلف شيئا لدفع أذاه له دفعا عن نفسه ،فل ضمان عليه ،فإن أتلفه
للنتفاع به ضمنه .
وأن ما ترتب على المأذون فيه من تلف فغير مضمون ،وما ترتب على غير
المأذون فإنه مضمون .
ومن أحكامه الكلية أن الستثناءات والقيود والوصاف الملحقة باللفاظ تعتبر
وتقيد الكلم ،ويرتبط بها بشرط التصال لفظا أو حكما ،ويدخل في هذا
ألفاظ العقود والفسوخ والوقف والوصايا والعتق والطلق واليمان
والقرارات وغيرها .
ومن أحكامه الكلية أن الشركاء في الملك والمنافع يلزمون بكل ما يعود
إلى حصول المنافع الضرورية ودفع المضار ،ويجبر الممتنع منهما من ذلك
من المصارف والنفقات والضرائب التي تلحق الملك هم فيها شركاء على
كل منهم بقدر ملكه .
) (1/302
ومن أحكامه الكلية أن المباشر لتلف الموال أو المتسبب لذلك ضامن لها
متعمدا كان أو ناسيا أو جاهل ،وأنه إذا اجتمع المباشر والمتسبب كان
الضمان على المباشر إل إن تعذر تضمينه لفقد أو امتناع أو عسر أو نحوه ،
فيحال الضمان على المتسبب بغير حق .
ومنها :أن من أدى عن غيره دينا واجبا بنية الرجوع ،فإنه يرجع ولو لم يأذن
له في ذلك .
ومنها :أن الوصف في الشيء الذي بيد الغير ،وذلك الغير ل يدعيه لنفسه
بينة .
ومنها :أن من تعجل شيئا قبل أوانه على وجه محرم عوقب بحرمانه .
ومن أحكامه الكلية أنه إذا تزاحمت المصالح قدم العلى منها ،وإن تزاحمت
المفاسد وكان ل بد من فعل إحداها ارتكب الخف منها لدفع الشد مفسدة ،
وعلى هذا من مسائل الفقه ما ل يعد ول يحصى ،لن الشارع شرع الشريعة
لتحصيل المصالح أو تكميلها ،ولتقليل المفاسد وتعطيلها بحسب المكان .
) (1/303
) (1/304
) (1/305
وفي قصصهم أيضا عبرة للمؤمنين يقتدون بهم في جميع مقامات الدين :
في مقام التوحيد والقيام بالعبودية ،وفي مقامات الدعوة والصبر والثبات
عند جميع النوائب المقلقة ،ومقابلة ذلك بالطمأنينة والسكون والثبات التام ،
وفي مقام الصدق والخلص لله في جميع الحركات والسكنات واحتساب
الجر والثواب من الله تعالى ،ل يطلبون من الخلق أجرا ول جزاء ول شكورا
إل المور النافعة للخلق .
وفيها أيضا عبرة لتفاقهم على دين واحد وأصول واحدة ،ودعوة إلى كل
خلق جميل وعمل صالح وإصلح ،وزجرهم عن كل ما يضاد ذلك .
وفيها أيضا من الفوائد الفقهية والحكام الشرعية والسرار الحكمية شيء
عظيم ل غنى لكل طالب علم عنها .
وفيها أيضا من الوعظ والتذكير والترغيب والترهيب ،والفرج بعد الشدة ،
وتيسير المور بعد تعسرها ،وحسن العواقب المشاهدة في هذه الدار ،
وحسن الثناء والمحبة في قلوب الخلق -ما فيه زاد للمتقين ،وسرور
للعابدين ،وسلوة للمحزونين ،ومواعظ للمؤمنين -فليس المقصود من
قصصهم أن تكون فقط سمرا ،وإنما الغرض العظم منها أن تكون تذكيرا
وعبرا .
) (1/306
واعلم قبل الشروع فيها أن كثيرا من قصصهم صلوات الله وسلمه عليهم
أعادها الله في كتابه مرات عديدة بأساليب مناسبة لمقاماتها ،وربما يكون
في موضع منها ما ليس في المواضع الخر من الزيادات والفوائد ،أو يأتي
بها بألفاظ غير ألفاظ القصة الخرى ،والمعاني متفقة أو متقاربة ،فعلى
حساب أن هذا التعليق مختصر سوف آتي بهذه القصص ،وأجمع القصة في
موضع واحد ،وأحرص على ما دلت عليه ألفاظ الكتاب من سياقها من أولها
إلى آخرها ،وأتبع كل قصة بما يفتح الله به من الفوائد الصولية والفروعية
والخلق والداب والمواضيع المتنوعة ،راجيا من الله أن يوفقني بذلك
للصواب اللفظي ،والخلص الباطني ،وموافقة رضاه ،وأن يجعل بذلك
النفع العام ،إنه جواد كريم .
) (1/307
) (1/308
فعرفهم تعالى بنفسه بكمال علمه ،وأنه يجب العتراف لله بسعة العلم ،
والحكمة التي من جملتها أنه ل يخلق شيئا عبثا ،ول لغير حكمة ،ثم بين لهم
على وجه التفصيل ،فخلقه بيده تشريفا له على جميع المخلوقات ،وقبض
قبضة من جميع الرض سهلها وحزنها ،وطيبها وخبيثها ،ليكون النسل على
هذه الطبائع ،فكان ترابا أول ،ثم ألقى عليه الماء فصار طينا ،ثم لما طالت
مدة بقاء الماء على الطين تغير ذلك الطين فصار حمأ مسنونا ،طينا أسود ،
ثم أيبسه بعدما صوره فصار كالفخار الذي له صلصلة . .وفي هذه الطوار
هو جسد بل روح ،فلما تكامل خلق جسده ،نفخ فيه الروح فانقلب ذلك
الجسد الذي كان جمادا حيوانا له عظام ولحم وأعصاب وعروق وروح هي
حقيقة النسان ،وأعده الله لكل علم وخير ،ثم أتم عليه النعمة ،فعلمه
أسماء الشياء كلها .
والعلم التام يستدعي الكمال التام ،وكمال الخلق ،فأراد الله أن يري
الملئكة كمال هذا المخلوق ،فعرض هذه المسميات على الملئكة وقال لهم
:
ُ َ َ ُ َ
ن { ]البقرة . [31 :صادِِقي َ
م َ ماِء هَؤُلِء إ ِ ْ
ن كن ْت ُ ْ س َ
} أن ْب ِئوِني ب ِأ ْ
) (1/309
في مضمون كلمكم الول الذي مقتضاه أن ترك خلقه أ َوَْلى ،هذا بحسب ما
بدا لهم في تلك الحال ،فعجزت الملئكة عليهم السلم عن معرفة أسماء
هذه المسميات ،وقالوا :
ْ ْ َ ّ
م { ]البقرة . [32 :
كي ُح ِ
م ال َ
ت العَِلي ُ ك أن ْ َ مت ََنا إ ِن ّ َما عَل ْ م ل ََنا إ ِّل َ
عل ْ َ
ك َل ِ حان َ َسب ْ َ
} ُ
قال الله :
َ َ َ َ َ } يا آد َ
م { ]البقرة . [33 : مائ ِهِ ْ
س َم ب ِأ ْ ما أن ْب َأهُ ْ م فَل ّمائ ِهِ ْ
س َم ب ِأ ْم أن ْب ِئ ْهُ ْ َ ُ
شاهد الملئكة من كمال هذا المخلوق وعلمه ما لم يكن لهم في حساب ،
وعرفوا بذلك على وجه التفصيل والمشاهدة كمال حكمة الله ،وعظموا آدم
غاية التعظيم ; فأراد الله أن يظهر هذا التعظيم والحترام لدم من الملئكة
ظاهرا وباطنا ،فقال للملئكة :
م { ]البقرة . [34 :
دوا ِلد َ َ
ج ُ
س ُ
}ا ْ
) (1/310
) (1/311
فلم يخضع الخبيث لربه ،ولم يتب إليه ،بل بارزه بالعداوة ،وصمم التصميم
التام على عداوة آدم وذريته ،ووطن نفسه لما علم أنه حتم عليه الشقاء
البدي أن يدعو الذرية بقوله وفعله وجنوده إلى أن يكونوا من حزبه الذين
كتبت لهم دار البوار ،فقال :
َ
ن { ]الحجر . [36 : ب فَأن ْظ ِْرِني إ َِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ } َر ّ
فيتفرغ لعطاء العداوات حقها في آدم وذريته .
ولما كانت حكمة الله اقتضت أن يكون الدمي مركبا من طبائع متباينة ،
وأخلق طيبة أو خبيثة ،وكان ل بد من تمييز هذه الخلق وتصفيتها بتقدير
أسبابها من البتلء والمتحان الذي من أعظمه تمكين هذا العدو من دعوتهم
إلى كل شر ،أجابه :
معُْلوم ِ { ]الحجر 37 :و . [38 ت ال ْ َ ن {} إ َِلى ي َوْم ِ ال ْوَقْ ِ ري َ من ْظ َ ِ
ن ال ْ ُم َك ِ } فَإ ِن ّ َ
فقال لربه معلنا معصيته ،وعداوته آدم وذريته :
َ َ
م
ديهِ ْ
ن أي ْ ِ
ن ب َي ْ ِ
م ْم ِ َ
م لت ِي َن ّهُ ْ م {} ث ُ ّ قي َ ست َ ِم ْك ال ْ ُ صَراط َ َ م ِ ن ل َهُ ْ ما أغْوَي ْت َِني َل َقْعُد َ ّ } فَب ِ َ
َ َ َ ْ
ن { ]العراف ري َشاك ِ ِ م َ جد ُ أك ْث ََرهُ ْم وَل ت َ ِ مائ ِل ِهِ ْ
ش َن َ م وَعَ ْ مان ِهِ ْ
ن أي ْ َم وَعَ ْ فهِ ْ خل ِ ن َ م ْوَ ِ
16 :و . [17
) (1/312
قال إبليس هذه المقالة ظنا منه ؛ لنه عرف ما جبل عليه الدمي .
ن { ]سبأ [20 :
مِني َ ن ال ْ ُ
مؤ ْ ِ م َ
قا ِ ه َفات ّب َُعوه ُ إ ِّل فَ ِ
ري ً س ظ َن ّ ُ صد ّقَ عَل َي ْهِ ْ
م إ ِب ِْلي ُ } وَل َ َ
قد ْ َ
.
فمكنه الله من المر الذي يريده إبليس في آدم وذريته ،فقال الله له :
ن
م ِفزِْز َ موُْفوًرا {} َوا ْ
ست َ ْ جَزاًء َ م َ جَزاؤُك ُ ْ م َ جهَن ّ َ ن َم فَإ ِ ّمن ْهُ ْ
ك ِن ت َب ِعَ َم ْ ب فَ َ} اذ ْهَ ْ
َ َ
ل
وا ِ م ِفي اْل ْ
م َ شارِك ْهُ ْ
ك وَ َجل ِ َ خي ْل ِ َ
ك وََر ِ م بِ َب عَل َي ْهِ ْجل ِ ْك وَأ ْصوْت ِ َم بِ َ من ْهُ ْت ِست َط َعْ َ
ا ْ
َواْلوَلد ِ { ]السراء 63 :و . [64 َ
) (1/313
أي :إن قدرت فاجعلهم منحرفين في تربية أولدهم إلى التربية الضارة ،في
صرف أموالهم المصارف الضارة ،وفي الكسب الضار ،وأيضا شارك منهم
من إذ تناول طعاما أو شرابا أو نكاحا ،ولم يذكر اسم الله على ذلك في
الموال الولد ،وعدهم أي :مرهم أن يكذبوا بالبعث والجزاء ،وأن ل يقدموا
على خير ،وخوفهم من أوليائك ،وخوفهم عند النفاق النافع بالفحشاء
والبخل ،وهذا من الله لحكم عظيمة وأسرار ،وإنك أيها العدو المبين ل تبقي
من مقدورك في إغوائهم شيئا ،فالخبيث منهم يظهر خبثه ،ويتضح شره ،
والله ل يعبأ به ،ول يبالي به .
وأما خواص الذرية من النبياء ،وأتباعهم من الصديقين والصفياء ،وطبقات
الولياء والمؤمنين فإن الله تعالى لم يجعل لهذا العدو عليهم تسلطا ،بل
أقام عليهم سورا منيعا ،وهو حمايته وكفايته ،وزودهم بسلح ل يمكن
كلهم عليه : لعدوهم مقاومتهم بكمال اليمان بالله ،وقوة تو ّ
ُ مُنوا وَعََلى َرب ّهِ ْ
م ي َت َوَك ّلو َ
ن { ]النحل : نآ َ ن عََلى ال ّ ِ
ذي َ سل ْ َ
طا ٌ س لَ ُ
ه ُ ه ل َي ْ َ
} إ ِن ّ ُ
. [99
) (1/314
ومع ذلك فأعانهم على مقاومة هذا العدو المبين بأمور كثيرة :أنزل عليهم
كتبه المحتوية على العلوم النافعة ،والمواعظ المؤثرة ،والترغيب إلى فعل
الخيرات ،والترهيب من فعل الشرور ،وأرسل إليهم الرسل مبشرين من
آمن بالله وأطاعه بالثواب العاجل ،ومنذرين من كفر وكذب وتولى
بالعقوبات المتنوعة ،وضمن لمن اتبع هداه الذي أنزل به كتبه وأرسل به
رسله أن ل يضل في الدنيا ،ول يشقى في الخرة ،وأنه ل خوف عليه ،ول
حزن يعتريه ; وأرشدهم قي كتبه ،وعلى ألسنة رسله إلى المور التي بها
يحتمون من هذا العدو المبين ،وبين لهم ما يدعو إليه هذا الشيطان ،وطرقه
التي يصطاد بها الخليقة .
وكما بينها لهم ووضحها فقد أرشدهم إلى الطرق التي ينجون بها من شره
وفتنته ،وأعانهم على ذلك إعانة قدرية خارجة عن قدرتهم ; لنهم لما بذلوا
المجهود ،واستعانوا بالمعبود ،سهل لهم كل طريق يوصل إلى المقصود .
) (1/315
ثم إن الله تعالى أتم نعمته على آدم ،فخلق منه زوجته حواء من جنسه
وعلى شكله ؛ ليسكن إليها ،وتتم المقاصد المتعددة من الزواج واللتئام ،
وتنبث الذرية بذلك ،وقال له ولزوجته :إن الشيطان عدو لكما ،فاحذراه
غاية الحذر ،فل يخرجنكما من الجنة التي أسكنكما الله إياها ،وأباحكما أن
تأكل من جميع ثمارها ،وأن تتمتعا بجميع لذاتها إل شجرة معينة في هذه
ه ما وََل ت َ ْ
قَرَبا هَذِ ِ شئ ْت ُ َ
ث ِ حي ْ ُ
ن َم ْ الجنة ،فحرمها عليهما ،فقال } :فَك َُل ِ
ن { ]العراف . [19 : مي َ ن ال ّ
ظال ِ ِ م َ جَرةَ فَت َ ُ
كوَنا ِ ش َ ال ّ
جوع َ ِفيَها وََل ت َعَْرى { َ
ك أّل ت َ ُ ن لَ َ
وقال الله لدم في تمتيعه بهذه الجنة } :إ ِ ّ
ك َل تظ ْ ُ } وَأ َن ّ َ
حى { ]طه 118 :و . [119 مأ ِفيَها وََل ت َ ْ
ض َ َ َ
) (1/316
فمكثا في الجنة ما شاء الله على هذا الوصف الذي ذكره الله ،وعدوهما
يراقبهما ويراصدهما ،وينظر الفرصة فيهما ،فلما رأى سرور آدم بهذه
الجنة ،ورغبته العظيمة في دوامها ،جاءه بطريق لطيف في صورة الصديق
الناصح ،فقال :يا آدم ،هل أدلك على شجرة إذا أكلت منها خلدت في هذه
الجنة ودام لك الملك الذي ل يبلى ؟ فلم يزل يوسوس ويزين ويسول ويعد
ويمني ويلقي عليهما من النصائح الظاهرة ،وهي أكبر الغش حتى غرهما ،
فأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها وحرمها عليهما ،فلما أكل منها بدت
لهما سوآتهما بعدما كانا مستورين ،وطفقا يخصفان على أنفسهما من أوراق
تلك الجنة ،أي :يلزقان على أبدانهما العارية ؛ ليكون بدل اللباس ،وسقط
في أيديهما ،وظهرت في الحال عقوبة معصيتهما ،وناداهما ربهما :
ن{ مِبي ٌ ن ل َك ُ َ
ما عَد ُوّ ُ طا َشي ْ َ
ن ال ّما إ ِ ّ جَرةِ وَأ َقُ ْ
ل ل َك ُ َ ش َ ما ال ّ ن ت ِل ْك ُ َما عَ ْ
} أ َل َ َ
م أن ْهَك ُ َ ْ
]العراف . [22 :
فأوقع الله في قلبيهما التوبة التامة ،والنابة الصادقة .
ت { ]البقرة . [37 : ما ٍن َرب ّهِ ك َل ِ َ م ْ م ِ
قى آد َ ُ } فَت َل َ ّ
) (1/317
ن{ري َ
س ِ خا ِ ن ال ْ َم َ ن ِ كون َ ّ مَنا ل َن َ ُح ْفْر ل ََنا وَت َْر َم ت َغْ ِن لَ ْ
سَنا وَإ ِ ْ ف َ مَنا أ َن ْ ُ وقال َ } :رب َّنا ظ َل َ ْ
]العراف . [23 :
فتاب الله عليهما ،ومحا الذنب الذي أصابا ،ولكن المر الذي حذرهما الله
منه ،وهو الخروج من هذه الجنة إن تناول منها تحتم ومضى ،فخرجا منها
إلى الرض التي حشي خيرها بشرها ،وسرورها بكدرها .
وأخبرهما الله أنه ل بد أن يبتليهما وذريتهما ،وأن من آمن وعمل صالحا
كانت عاقبته خيرا من حالته الولى ،ومن كذب وتولى فآخر أمره الشقاء
البدي والعذاب السرمدي ،وحذر الله الذرية منه فقال :
ْ خر َ طان ك َ َ
ماجن ّةِ ي َن ْزِع ُ عَن ْهُ َ
ن ال َ م َ م ِ ج أب َوَي ْك ُ ْما أ ْ َ َ شي ْ َ ُ َ م ال ّ م َل ي َ ْ
فت ِن َن ّك ُ ُ } يا ب َِني آد َ َ
م { ]العراف ث ل ت ََروْن َهُ َْ حي ْ ُن َ م ْ ه ِ ُ
م هُوَ وَقَِبيل ُ ُ
ه ي ََراك ْ ما إ ِن ّ ُ
وآت ِهِ َ س ْ ما َ ما ل ِي ُرِي َهُ َ
سهُ َ
ل َِبا َ
. [27 :
) (1/318
وأبدلهم الله بذلك اللباس الذي نزعه الشيطان من البوين بلباس يواري
السوآت ،ويحصل به الجمال الظاهر في الحياة ،ولباس أعلى من ذلك ،
وهو لباس التقوى ،الذي هو لباس القلب والروح باليمان والخلص والنابة ،
والتحلي بكل خلق جميل ،والتخلي عن كل خلق رذيل ; ثم بث الله من آدم
وزوجه رجال كثيرا ونساء ،ونشرهم في الرض ،واستخلفهم فيها ؛ لينظر
كيف يعملون .
* فوائد مستنبطة من هذه القصة أصولية وفروعية وأخلق وآداب :
فمنها أن هذه القصة العظيمة ذكرها الله في كتابه في مواضع كثيرة صريحة
ل ريب فيها ول شك ،وهي من أعظم القصص التي اتفقت عليها الرسل ،
ونزلت بها الكتب السماوية ،واعتقدها جميع أتباع النبياء من الولين
والخرين ،حتى نبغت في هذه الزمان المتأخرة فرقة خبيثة زنادقة أنكروا
جميع ما جاءت به الرسل ،وأنكروا وجود الباري ،ولم يثبتوا من العلوم إل
العلوم الطبيعية التي وصلت إليها معارفهم القاصرة .
) (1/319
فبناء على هذا المذهب الذي هو أبعد المذاهب عن الحقيقة شرعا وعقل
أنكروا آدم وحواء ،وما ذكره الله ورسوله عنهما ،وزعموا أن هذا النسان
كان حيوانا قردا ،أو شبيها بالقرد ،حتى ارتقى إلى هذه الحال الموجودة ،
وهؤلء اغتروا بنظرياتهم الخاطئة المبنية على ظنون عقول من أصلها فاسدة
،وتركوا لجلها جميع العلوم الصحيحة ،خصوصا ما جاءتهم به الرسل ،
وصدق عليهم قوله تعالى :
ما
م َحاقَ ب ِهِ ْ ْ ْ
ن العِلم ِ وَ َ
م َ
م ِ
عن ْد َهُ ْ
ما ِ
حوا ب ِ َ م ِبال ْب َي َّنا ِ
ت فَرِ ُ سل ُهُ ْ
م ُر ُ جاَءت ْهُ ْما َ } فَل َ ّ
ن { ]غافر . [83 : ست َهْزُِئو َكاُنوا ب ِهِ ي َ َْ
) (1/320
وهؤلء أمرهم ظاهر لجميع المسلمين ،ولجميع المثبتين وجود الباري ،
يعلمون أنهم أضل الطوائف ،ولكن تسرب على بعض المسلمين من هذا
المذهب الدهري بعض الثار والفروع المبنية على هذا القول ،إذ فسر طائفة
من العصريين سجود الملئكة لدم أن معناه تسخير هذا العالم للدميين ،وأن
المواد الرضية والمعدنية ونحوها قد سخرها الله للدمي ،وأن هذا هو معنى
سجود الملئكة ،ول يستريب مؤمن بالله واليوم الخر أن هذا مستمد من
ذلك الرأي الفن ،وأنه تحريف لكتاب الله ،ل فرق بينه وبين تحريف الباطنية
والقرامطة ،وأنه إذا أولت هذه القصة إلى هذا التأويل توجه نظير هذا
التحريف لغيرها من قصص القرآن ،وانقلب القرآن -بعدما كان تبيانا لكل
شيء وهدى ورحمة -رموزا يمكن كل عدو للسلم أن يفعل بها هذا الفعل ،
فيبطل بذلك القرآن ،وتعود هدايته إضلل ،ورحمته نقمة ،سبحانك ،هذا
بهتان عظيم .
) (1/321
والمؤمن في هذا الموضع يكفيه لبطال هذا القول الخبيث أن يتلو ما قصه
الله علينا من قصة آدم وسجود الملئكة ؛ فيعلم أن هذا مناف لما قصد الله
ورسوله غاية المنافاة ،وإن زخرفه أصحابه ،ولووا له العبارات ،ونسبوه إلى
بعض من يحسن بهم الظن ،فالمؤمن ل يترك إيمانه ،ول كتاب ربه لمثل
هذه الترويجات المغررة ،أو المغرور أصحابها .
ومنها فضيلة العلم ،وأن الملئكة لما تبين لهم فضل آدم بعلمه عرفوا بذلك
كماله ،وأنه يستحق الجلل والتوقير .
ن الله عليه بالعلم عليه أن يعترف بنعمة الله عليه ،وأن يقول م ّ
ن َ
م ْ
ومنها أن َ
كما قالت الملئكة والرسل :سبحانك ل علم لنا إل ما علمتنا ،وأن يتوقى
التكلم بما ل يعلم ،فإن العلم أعظم المنن ،وشكر هذه النعمة العتراف لله
بها ،والثناء عليه بتعليمها ،وتعليم الجهال ،والوقوف على ما علمه العبد ،
والسكوت عما لم يعلمه .
) (1/322
ومنها أن الله جعل هذه القصة لنا معتبرا ،وأن الحسد والكبر والحرص من
أخطر الخلق على العبد ،فكبر إبليس وحسده لدم صيره إلى ما ترى ،
وحرص آدم وزوجه حملهما على تناول الشجرة ،ولول تدارك رحمة الله لهما
لودت بهما إلى الهلك ،ولكن رحمة الله تكمل الناقص ،وتجبر الكسير ،
وتنجي الهالك ،وترفع الساقط .
) (1/323
ومنها أنه ينبغي للعبد إذا وقع في ذنب أن يبادر إلى التوبة والعتراف ،ويقول
ما قاله البوان من قلب خالص ،وإنابة صادقة ; فما قص الله علينا صفة
توبتهما إل لنقتدي بهما ،فنفوز بالسعادة ،وننجو من الهلكة ; وكذلك ما
أخبرنا بما قاله الشيطان من توعدنا وعزمه الكيد على إغوائنا بكل طريق إل
لنستعد لهذا العدو الذي تظاهر بهذه العداوة البليغة المتأصلة ،والله يحب منا
أن نقاومه بكل ما نقدر عليه من تجنب طرقه وخطواته ،وفعل السباب التي
يخشى منها الوقوع في شباكه ،ومن عمل الحصون من الوراد الصحيحة ،
والذكار القلبية ،والتعوذات المتنوعة ،ومن السلح المهلك له من صدق
اليمان ،وقوة التوكل على الله ،ومراغمته في أعمال الخير ،ومقاومة
وساوسه والفكار الرديئة التي يدفع بها إلى القلب كل وقت بما يضادها ،
ويبطلها من العلوم النافعة والحقائق الصادقة .
ومنها أن فيها دللة لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين لله ما أثبته لنفسه
من السماء الحسنى والصفات كلها ،ل فرق بين صفات الذات ،ول بين
صفات الفعال .
) (1/324
ومنها إثبات اليدين لله كما هو في قصة آدم صريحا :لما خلقت بيدي ،فله
يدان حقيقة ،كما أن ذاته ل تشبهها الذوات ،فصفاته تعالى ل تشبهها
الصفات .
) (1/325
) (1/326
فلما بادأهم بالمر بالخلص لله ،وتسفيه آرائهم ،وتخويفهم بعقوبات الدنيا
والخرة قالوا :
ْ ُ َ ّ ّ َ َ َ ك إ ِّل ب َ َما ن ََرا َ
ما
ي وَ َم أَراذِلَنا َبادِيَ الّرأ ِ ن هُ ْ
ذي َ
ما ن ََراك ات ّب َعَك إ ِل ال ِ مث ْلَنا وَ َ شًرا ِ } َ
ن { ]هود . [27 : م كاذِِبي ََ ُ ُ
ل ن َظن ّك ْ ل بَ ْ ض ٍ َ
نف ْ م ْ َ
م عَلي َْنا ِ ُ َ
ن ََرى لك ْ
وطلبوا منه أن يطرد من كان معه من المؤمنين استكبارا منهم ،واستنكافا
على الحق وعلى الخلق ،فبين لهم أنه ليس به ضلل ،وإنما به تزول
الضللة عن الخلق ،وأنه رسول أمين على بينة من ربه وبراهين واضحة ،
وأن المؤمنين ل يحل طردهم ،بل حقهم الكرام والحترام ،وأنه ل يدعي
لهم طورا يزاحم فيه الرب فقال :
َ
ك وََل أُقو ُ مل َ ٌ َ
ب وََل أُقو ُ َ } وََل أ َُقو ُ
ل ل إ ِّني َ م ال ْغَي ْ َ ن الل ّهِ وََل أعْل َ ُ خَزائ ِ ُ دي َ عن ْ ِم ِ ل ل َك ُ ْ
َ
خي ًْرا { ]هود . [31 : ه َم الل ّ ُ ن ي ُؤْت ِي َهُ ُ م لَ ْ ن ت َْزد َِري أعْي ُن ُك ُ ْ ل ِل ّ ِ
ذي َ
فلم يزل يدعوهم ليل ونهارا وسرا وجهرا ،فلم يزدهم دعاؤه إل فرارا ونفورا
وإعراضا وتواصيا منهم على القامة على ما هم عليه من عبادة غير الله
والتمسك بها ،فقال نوح :
) (1/327
مك َُرواساًرا {} وَ َ خ َ ه وَوَل َد ُه ُ إ ِّل َمال ُ ُ
م ي َزِد ْه ُ َ ن لَ ْ م ْصوِْني َوات ّب َُعوا َ م عَ َ ب إ ِن ّهُ ْ } َر ّ
ق
ث وَي َُعو َ َ
عا وَل ي َُغو َوا ً س َ َ
ن وَّدا وَل ُ َ
م وَل ت َذ َُر ّ ُ
ن آل ِهَت َك ْ َ ُ
مك ًْرا كّباًرا {} وَقالوا ل ت َذ َُر ّ
َ ُ َ
سًرا { ]نوح . [23 - 21 : وَن َ ْ
فلما رأى أن التذكير ل ينفع فيهم بوجه من الوجوه ; وأنه كلما جاء قرن كان
أخبث مما قبله ،قال :
ضّلوا ِ
عَباد َ َ ن د َّياًرا {} إ ِن ّ َ ن ال ْ َ َْ َ } َر ّ َ
ك م يُ ِن ت َذ َْرهُ ْك إِ ْ ري َ كافِ ِ م َض ِ ب ل ت َذ َْر عَلى الْر ِ
فاًرا { ]نوح 26 :و . [27 جًرا ك َ ّ ّ
دوا إ ِل َفا ِ وََل ي َل ِ ُ
) (1/328
فأجاب الله دعوته ،وأمره أن يصنع الفلك برعاية منه وحسن نظر وتعليم من
الله له هذه الصنعة التي امتن الله بها على العباد ،وصار نوح له الفضل
والبتداء بهذه الصناعة التي حصل بها من المنافع الدينية والدنيوية في جميع
الوقات ما ل يعد ول يحصى ،وأخبره الله بتحتم إغراقهم ،وأنه ل يخاطب
ربه فيهم فإنهم ظالمون ،وجعل يصنع الفلك ،وكلما مر عليه مل من قومه
سخروا منه ،فقال لهم :إن تسخروا منا اليوم فإنا نسخر منكم إذا وقع
الهلك بكم ،وأوحى الله إليه أنه إذا جاء ذلك الوقت وفار التنور ،أي :جعلت
الرض كلها تتفجر عيونا من كل جانب حتى المواضع البعيدة عن النار عادة ،
وأمره أن يحمل من البهائم من كل زوجين اثنين ذكر وأنثى ليبقى نسلها ؛
لنه يتعذر حملها كلها ،والحكمة تقتضي إبقاء هذه الحيوانات التي خلقها الله
مسخرة لمصالح البشر ،ويحمل معه جميع من آمن من رجال ونساء ،
والحال أنه ما آمن معه إل قليل ،وأمره أن يحمل أهله إل من سبق عليه
القول بالهلك ،فلما أركب جميع من أمر بهم قال لهم :سموا الله كلما
جرت وكلما رست ؛ لن السباب مهما عظمت فهي من لطف الله ،ول تمام
لها إل بالله .
) (1/329
فحينئذ فجر الله الرض عيونا ،وأمر السماء أن تصب الماء المنهمر الكثير ،
فالتقت مياه السماء بمياه الرض ،وساحت على الماكن المنخفضة ،ثم
ارتفعت شيئا فشيئا على كل المرتفعات حتى خفيت قمم الجبال الشاهقة ،
والسفينة تجري بهم في موج كالجبال تضرب يمينا وشمال ،وفي تلك الحال
المزعجة رأى نوح ابنه الكافر الذي كان على دين قومه وقد اعتزل أباه حتى
في هذه الحال ،فرآه مثل سائر قومه قد فر هاربا من المياه الجارفة ،
فناداه نوح مترققا فقال :
ن { ]هود . [42 : ري َكافِ ِ ْ
معَ ال َ ن َ معََنا وََل ت َك ُ ْب َ ي اْرك َ ْ
} يا ب ُن َ ّ
فتمادى به الغرور في تلك الحال التي تنقشع فيها الغياهب إل عن القلوب
المحجوبة ; فقال :
ماِء { ]هود . [43 : ْ
ن ال َ م َمِني ِ ص ُل ي َعْ ِ سآِوي إ َِلى َ
جب َ ٍ } َ
لم يخطر ببالهم أن المياه سترتفع فوق رؤوس الجبال ،فقال له نوح :
عاصم ال ْيوم م َ
م { ]من الية[ .ح َن َر ِم ْ مرِ الل ّهِ إ ِّل َ نأ ْ } َل َ ِ َ َ ْ َ ِ ْ
فل يعصم جبل ول حصن ول غير ذلك إل من رحم الله ،ورحمته في تلك
الحال متعينة في ركوب السفينة مع نوح .
ج { ]من الية[ . ما ال ْ َ
مو ْ ُ حا َ
ل ب َي ْن َهُ َ } وَ َ
فكان ذلك البن من المغرقين .
) (1/330
جى نوحا ومن معه أجمعين ،وكان في ذلك فأغرق الله جميع الكافرين ،ون َ ّ
آية على أن ما جاء به نوح من التوحيد والرسالة والبعث والدين حق ،وأن
من خالفه فإنه مبطل ،ودليل على الجزاء في الدنيا لهل اليمان بالنجاة
والكرامة ،ولهل الكفر بالهلك والهانة .
فلما حصل هذا المقصود العظيم أمر الله السماء أن تقلع عن الماء ،والرض
أن تبلع ما فيها ،وغيض الماء أي :نقص شيئا فشيئا ،واستوت السفينة بعد
غيض الماء على الجودي ،وهو جبل شامخ معروف في نواحي الموصل .
وهذا دليل على أن جميع الجبال قد غمرتها المياه وجاوزها الطوفان ،وحزن
نوح على ابنه فقال مناديا ربه مترققا متضرعا يا رب :
} إن ابِني م َ
حقّ { ]هود . [45 : ك ال ْ َ ن وَعْد َ َ ن أهِْلي وَإ ِ ّ ِ ْ ِ ّ ْ
أن أحمل معي أهلي وأنت أرحم الراحمين ،فقال له ربه :
ك { ]هود . [46 : ن أ َهْل ِ َم ْس ِ ه ل َي ْ َ
} إ ِن ّ ُ
أي :الموعود بنجاتهم ،لن الله قيد ذلك بقوله :
ل { ]هود . [40 : قو ْ ُسب َقَ عَل َي ْهِ ال ْ َ
ن َ م ْ } إ ِّل َ
صال ٍِح { ]هود . [46 : ل غَي ُْر َ م ٌه عَ َ } إ ِن ّ ُ
أي :هذا الدعاء لبنك الذي على دين قومه بالنجاة .
) (1/331
عظ ُ َ َ } فََل ت َ
ن { ]تتمة جاهِِلي َ ن ال ْ َ
م َن ِكو َ ن تَ ُ كأ ْ م إ ِّني أ َ ِ عل ْ ٌك ب ِهِ ِ س لَ َ ما ل َي ْ َ سأل ِْني َ َ ْ
الية[ .
وهذا عتاب منه لنوح وتعليم له وموعظة عن مثل هذا الدعاء الذي إنما حمله
عليه الشفقة البوية ،وإنما الواجب في الدعاء أن يكون الحامل له العلم
والخلص في طلب رضى الله تعالى ،فقال نوح :
مِني ح رت
ََْ َ ْ و لي ّ
م َِ َْ ِ ْ ِ
ر ف غ ت ل إ و عل ْ ٌس ِلي ب ِهِ ِ ما ل َي ْ َ ك َ سأ َل َ َ ك أَ َ
نأ ْ عوذ ُ ب ِ َ ْ ب إ ِّني أ َ ُ } َر ّ
ُ َ
مم ٍك وَعََلى أ َ ت عَل َي ْ َ مّنا وَب ََر َ
كا ٍ سَلم ٍ ِ ط بِ َح اهْب ِ ْ ل يا ُنو ُ ن {} ِقي َ ري َ
ِ س
خا ِ ن ال ْ َم َن ِأك ُ ْ
َ ممن مع َ ُ
م { ]هود 47 :و . [48 ب أِلي ٌ مّنا عَ َ
ذا ٌ م ِ سهُ ْ م ّ م ثُ ّ
م يَ َ مت ّعُهُ ْ
سن ُ َ
م َ م ٌك وَأ َ ِ ّ ْ َ َ
فهبط وبارك الله في ذريته ،وجعل ذريته هم الباقين ; فكان أولده يا فث مل
المشرق من الذرية ،وحام مل المغرب من النسل ،وسام مل ما بين ذلك ،
ومكث في قومه ألف سنة إل خمسين عاما ،ومكث بعد هلكهم ما شاء
الله ،وكان من أولي العزم من المرسلين ،ومن الخمسة الذين تدور عليهم
الشفاعة يوم القيامة ،وهو أول الرسل إلى الناس ،وهو الب الثاني للبشر ،
صلى الله عليه وسلم تسليما .
) (1/332
* يستفاد من هذه القصة أمور :
منها :أن جميع الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم متفقون
على الدعوة إلى التوحيد الخالص ،والنهي عن الشرك ،فنوح وغيره أول ما
ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ { ويكررون هذا الصل
م ْ ما ل َك ُ ْ
م ِ ه َدوا الل ّ َ
يقولون لقومهم } :اعْب ُ ُ
بطرق كثيرة .
ومنها :آداب الدعوة وتمامها ،فإن نوحا دعا قومه ليل ونهارا ،وسرا وجهارا .
.بكل وقت وبكل حالة يظن فيها نجاح الدعوة ،وأنه رغبهم بالثواب العاجل
بالسلمة من العقاب ،وبالتمتيع بالموال والبنين ،وإدرار الرزاق إذا آمنوا
وبالثواب الجل ; وحذرهم من ضد ذلك ،وصبر على هذا صبرا عظيما كغيره
من الرسل ،وخاطبهم بالكلم الرقيق والشفقة ،وبكل لفظ جاذب للقلوب
محصل للمطلوب ،وأقام اليات ،وبّين البراهين .
) (1/333
شَبه التي قدح فيها أعداء الرسل برسالتهم من الدلة على ومنها :أن ال ّ
إبطال قول المكذبين ،فإن القوال التي قالوها ،ولم يكن عندهم غيرها ،
كما ن ََرا َ ليس لها حظ من العلم والحقيقة عند كل عاقل ،فقول قوم نوح َ } :
ْ ك إّل ال ّذين هُ َ
مما ن ََرى ل َك ُ ْ م أَراذِل َُنا َبادِيَ الّرأ ِ
ي وَ َ ْ ِ َ ك ات ّب َعَ َ ِما ن ََرا َ مث ْل ََنا وَ َ
شًرا ِإ ِّل ب َ َ
ن { تأمل جملها تجدها تمويهات دالة على كاذِِبي َم َل ن َظ ُن ّك ُ ْ
ل بَ ْض ٍن فَ ْ عَل َي َْنا ِ
م ْ
مث ْل ََنا { فهل شًرا ِ ك إ ِّل ب َ َ
ما ن ََرا َ
أنهم مبطلون مكابرون للحقيقة ،فقولهم َ } :
في كون الحق جاء على يد بشر شيء من الشبهة تدل على أنه ليس بحق ؟
ومضمون هذا الكلم أن كل قول قاله البشر من أي مصدر يكون باطل ،وهذا
قدح منهم في جميع العلوم البشرية المستفادة من البشر ،ومعلوم أن هذا
يبطل العلوم كلها ،فهل عند البشر علوم إل مستفيدها بعضهم من بعض
وهي متفاوتة ؟ فأعظمها وأصدقها وأنفعها ما تلقاه الناس عن الرسل الذين
علومهم عن وحي إلهي .
ل { أي :نحن وأنتم بشر ،وقد ن فَ ْ
ض ٍ م ْ َ
م عَلي َْنا ِ ُ َ
ما ن ََرى لك ْ وكذلك قولهم } :وَ َ
أجابت الرسل كلهم عن هذه المقالة فقالوا :
) (1/334
عَبادِهِ { ]إبراهيم
ن ِ
م ْ ن يَ َ
شاُء ِ م ْن عََلى َ م ّ ن الل ّ َ
ه يَ ُ م وَل َك ِ ّ
مث ْل ُك ُ ْ ن إ ِّل ب َ َ
شٌر ِ ح ُ
ن نَ ْ
} إِ ْ
. [11 :
صهم بالوحي والرسالة ،مع أن إنكارهم عليهم ن الله على الرسل ،وخ ّ فم ّ
من هذه الجهة من أكبر الجهل وأعظم القدح في نعمة الله ،فإن رحمة الله
وحكمته اقتضت أن يكون الرسل من البشر ؛ ليتمكن العباد من الخذ عنهم ،
ذبون كفرواوتتيسر عليهم هذه النعمة ،ويسّهل الله لهم طرقها ،فهؤلء المك ّ
بأصل النعمة ،وبالطريق المستقيم النافع الذي جاءتهم به .
م أ ََراذِل َُنا { من المعلوم لكلن هُ ْ ك إ ِّل ال ّ ِ
ذي َ ك ات ّب َعَ َ
ما ن ََرا َ وكذلك قولهم } :وَ َ
أحد عاقل أن الحق يعرف أنه حق بنفسه ل بمن تبعه ،وأن هذا القول الذي
قالوه صدر عن كبر وتيه ،والكبر أكبر مانع للعبد من معرفة الحق ومن اتباعه
.
) (1/335
وأيضا قولهم } :أ ََراذِل َُنا { إن أرادوا الفقر فالفقر ليس من العيوب ،وإن
أرادوا أراذلنا في الخلق فهذا كذب معلوم بالبديهة ،وإنما الراذل الذين
قالوا هذه المقالة ،فهل اليمان بالله ورسله ،وطاعة الله ورسله ،والنقياد
للحق ،والسلمة من كل خصلة ذميمة ،هل هذا الوصف رذيلة وأهله أراذل ؟
أم الرذيلة بضده .. .من ترك أفرض الفروض توحيد الله وشكره وحده
وامتلء القلب من التكبر على الحق وعلى الخلق ؟ هذا والله أرذل الرذائل ،
ولكن القوم مباهتون فما نقموا من هؤلء الخيار إل أن يؤمنوا بالله العزيز
الحميد .
ي { أي :مبادرة منهم إلى اليمان بك يا نوح ،لم ْ
وقولهم َ } :بادِيَ الّرأ ِ
يشاوروا ولم يتأنوا ويترووا لو فرض أن هذا حقيقة فهذا من أدلة الحق ،فإن
الحق عليه من البراهين والنور والجللة والبهاء والصدق والطمأنينة ما ل
يحتاج إلى مشاورة أحد باتباعه ،وإنما التي تحتاج إلى مشاورة هي المور
الخفية ،التي ل تعلم حقيقتها ول منفعتها ،أما اليمان الذي هو أجلى من
الشمس في نورها ،وأحلى من كل شيء ،فما يتأخر عنه إل كل متكبر جبار
أمثال هؤلء الطغاة البغاة .
) (1/336
ل { هل في هذا الكلم شيء من ض ٍن فَ ْ م ْم عَل َي َْنا ِ ما ن ََرى ل َك ُ ْ وقولهم } :وَ َ
النصاف بوجه ،لنهم يخبرون عن أنفسهم ،وكلمهم يحتمل أنه الذي في
قلوبهم ،ويحتمل أنهم يقولون ما ل يعتقدون ،وعلى كل المرين فالحق يجب
قبوله ،سواء أقاله الفاضل أو المفضول ،الحق أعلى من كل شيء .
ن { معلوم أن الظن أكذب الحديث ،ثم لو م َ
كاذِِبي َ ل ن َظ ُن ّك ُ ْوكذلك قولهم } :ب َ ْ
قالوا :بل نعلمكم كاذبين ،فهذه كل مبطل يقدر أن يقولها ،ولكن بأي شيء
استدللتم أنهم كاذبون ؟ فهذه أدلتهم وبراهينهم أبطلت نفسها بنفسها كما
ترى ،فكيف وقد قابلها الرسل بالدلة والبراهين المتنوعة التي ل تبقى ريبا
لحد في بطلنها .
ومنها :أن من فضائل النبياء وأدلة رسالتهم إخلصهم التام لله تعالى في
عبوديتهم لله القاصرة ،وفي عبوديتهم المتعدية لنفع الخلق كالدعوة والتعليم
وتوابع ذلك ،ولذلك يبدون ذلك ويعيدونه على أسماع قومهم كل منهم يقول :
جرِيَ إ ِّل عََلى الل ّهِ { ]هود . [29 : } ويا قَوم َل أ َسأ َل ُك ُم عَل َيه ماًل إ َ
نأ ْ ِ ْ ْ ِ َ ْ ْ ْ ِ ََ
) (1/337
) (1/338
وأنه ينبغي أيضا الدعاء بالبركة في نزول المنازل العارضة كالمنازل في
إقامات السفر وغيره ،والمنازل المستقرة كالمساكن والدور ؛ لقوله :
ل رب أ َنزل ِْني منزًل مبار ً َ
ن { ]المؤمنون . [29 : خي ُْر ال ْ ُ
من ْزِِلي َ ت َ
كا وَأن ْ َ ُ َْ ُ َ َ } وَقُ ْ َ ّ ْ ِ
وفي ذلك كله من استصحاب ذكر الله ،ومن القوة على الحركات والسكنات
،ومن قوة الثقة بالله ،ومن نزول بركة الله التي خير ما صحبت العبد في
أحواله كلها ما ل غنى للعبد عنه طرفة عين .
ومنها :أن تقوى الله والقيام بواجبات اليمان من جملة السباب التي ُتنال
ُ
بها الدنيا وكثرة الولد والرزق وقوة البدان -وإن كان لذلك أيضا أسباب أخر
، -وهي السبب الوحيد الذي ليس هناك سبب سواه في نيل خير الخرة ،
والسلمة من عقابها .
) (1/339
) (1/340
) (1/341
ومن آيات هود الخاصة أنه متفرد وحده في دعوته وتسفيه أحلمهم وتضليلهم
وفوه بآلهتهم والقدح في آلهتهم ،وهم أهل البطش والقوة والجبروت ،وقد خ ّ
داهم علنا ،وقال لهم جهارا : إن لم ينته أن تمسه بجنون أو سوء فتح ّ
َ } إ ِّني أ ُ ْ
دوِني كي ُ َ
ن ُدون ِهِ ف ِم ْن {} ِ ُ
شرِكو َ ما ت ُ ْ
م ّ ريٌء ِ دوا أّني ب َ ِ شهَ ُ ه َوا ْ شهِد ُ الل ّ َ
ن َداب ّةٍ إ ِّل هُ َ
و م ْما ِ ت عََلى الل ّهِ َرّبي وََرب ّك ُ ْ
م َ م َل ت ُن ْظ ُِروِني {} إ ِّني ت َوَك ّل ْ ُ ميًعا ث ُ ّ ج َِ
قيم ٍ { ]هود . [56 - 54 : ست َ ِم ْ ط ُ صَرا ٍ َ
ن َرّبي عَلى ِ صي َت َِها إ ِ ّ خذ ٌ ب َِنا ِآ ِ
فلم يصلوا إليه بسوء .
فأي آية أعظم من هذا التحدي لهؤلء الحريصين على إبطال دعوته بكل
ذرهم نزول العذاب ،فجاءهم طريق ؟ فلما انتهى طغيانهم توّلى عنهم وح ّ
العذاب معترضا في الفق ،وكان الوقت وقت شدة عظيمة وحاجة شديدة
إلى المطر ،فلما استبشروا وقالوا :
مط ُِرَنا { ]الحقاف . [24 : م ْ ض ُ عارِ ٌ ذا َ } هَ َ
م ب ِهِ { ]الحقاف . [24 : ْ
جلت ُ ْ ست َعْ َ
ما ا ْ ل هُوَ َ قال الله } :ب َ ْ
بقولكم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين :
يٍء { ]الحقاف 24 :و . [25 ل َ مُر ك ُ ّ َ ح ِفيَها عَ َ
ش ْ م {} ت ُد َ ّ ب أِلي ٌذا ٌ } ِري ٌ
) (1/342
م ِفيَها ما فَت ََرى ال ْ َ ها عَل َيهم سبع ل َيال وث َمان ِي َ َ
قو ْ َ سو ً ح ُ ة أّيام ٍ ُ ِْ ْ َ ْ َ َ ٍ َ َ َ خَر َس ّ تمر عليه َ } :
خاوِي َةٍ { ]الحاقة . [7 : ل َ عى ك َأ َنه َ
خ ٍ
جاُز ن َ ْ م أع ْ َ ُّ ْ صْر َ
} َ فَأ َ
ن { ]الحقاف : مي ر
ُ ْ ِ ِ َج مْ لا م
ْ َ و ق
َ ْ لا زي ج ن
ِ َ ْ ِ كَ لَ ذ َ ك م ه ن كسا
ِ َ َ ُُِ ْ م لّ إ رى َُ ي َ
ل حوا ب
ْ َ ُص
. [25
فبعدما كانت الدنيا لهم ضاحكة ،والعز بليغ ،ومطالب الحياة متوفرة ،وقد
خضع لهم من حولهم من القطار والقبائل ،إذ أرسل الله إليهم ريحا صرصرا
في أيام نحسات ؛ لنذيقهم عذاب الخزي في الدنيا ،ولعذاب الخرة أخزى
وهم ل ينصرون :
دا َ َ َ َ َ ْ } وَأ ُت ْب ُِعوا ِفي هَذِهِ الد ّن َْيا لعْن َ ً
َ
م أل ب ُعْ ً فُروا َرب ّهُ ْ
عاًدا ك َ ن َ مةِ أل إ ِ ّ قَيا َ
م ال ِ ة وَي َوْ َ
هود ٍ { ]هود . [60 : ل َِعادٍ قَوْم ِ ُ
ونجى الله هودا ومن معه من المؤمنين ،إن في ذلك لية على كمال قدرة
الله وإكرامه الرسل وأتباعهم ،ونصرهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم
الشهاد ،وآية على إبطال الشرك ،وأن عواقبه شر العواقب وأشنعها ،وآية
على البعث والنشور .
* فوائد من هذه القصة :
) (1/343
فيها ما تقدم في قصة نوح من الفوائد المشتركة بين الرسل ،ومنها أن الله
بحكمته يقص علينا نبأ المم المجاورين لنا في جزيرة العرب وما حولها ; لن
القرآن يذكر أعلى الطرق في التذكير ،والله تعالى صرف فيه التذكيرات
تصريفا نافعا ،ول ريب أن القطار النائية عنا في مشارق الرض ومغاربها قد
بعث الله إليهم رسل ،ولهم معهم نظير ما للمذكورين من إجابة ورد ّ وإكرام
وعقوبة ،وما من أمة إل بعث الله فيهم رسول ،ولكن نفعنا بتذكيرنا بما
حولنا ،وما نتناقله جيل بعد جيل ،بل نشاهد آثارهم ،ونمر بديارهم كل
وقت ،ونفهم لغاتهم ،وطبائعهم أقرب إلى طبائعنا ،ل ريب أن نفع هذا
عظيم ،وأنه أولى من تذكيرنا بأمم لم نسمع لهم بذكر ول خبر ،ول نعرف
لغاتهم ،ول تتصل إلينا أخبارهم بما يطابق ما يخبرنا الله به ; فيؤخذ من هذا
أن تذكير الناس بما هو أقرب إلى عقولهم ،وأنسب لحوالهم ،وأدخل في
مداركهم ،وأنفع لهم من غيره أولى من التذكيرات بطرق أخرى وإن كانت
كر والمعّلم إذا سلك هذا الطريق واجتهد في حقا ،لكن الحق يتفاوت ،والمذ ّ
إيصال العلم والخبر إلى الناس بالوسائل التي يفهمونها ،ول ينفرون منها ،أو
تكون أقرب لقامة
) (1/344
الحجة عليهم نفع وانتفع ،وأشار الباري إلى هذا في آخر قصة عاد ،فقال :
} ول َ َ َ
ت { ]الحقاف . [27 : صّرفَْنا اْلَيا ِقَرى وَ َ ن ال ْ ُم َم ِ حوْل َك ُ ْ ما َ قد ْ أهْل َك َْنا َ َ
ن { ]الحقاف . [27 : جُعو َ أي :نوعناها بكل فن ونوع } ل َعَل ّهُ ْ
م ي َْر ِ
أي :ليكون أقرب لحصول الفائدة .
ومنها :أن اتخاذ المباني الفخمة للفخر والخيلء والزينة وقهر العباد بالجبروت
من المور المذمومة الموروثة عن المم الطاغية ،كما قال الله في قصة عاد
وإنكار هود عليهم ،قال :
ن{ دوُ ل خ ت مُ كّ ل عَ ل ع ن صا م ن ذو ُ خ ت تو {} ن ُ ن ب ِك ُ ّ َ
َ َ َ ِ َ َ ْ َ ْ ُ َ ََّ ِ ة ت َعْب َ َ
ثو ل ِريٍع آي َ ً } أت َب ُْنو َ
]الشعراء 128 :و . [129
وبالجملة فالبنايات للقصور والحصون والدور وغيرها من البنية :
إما أن تتخذ مساكن للحاجة إليها ،والحاجات تتنوع وتختلف ،فهذا النوع من
المور المباحة ،وقد يتوسل به بالنية الصالحة إلى الخير .
وإما أن تكون البنايات حصونا واقية لشرور العداء ،وثغورا تحفظ بها البلد
ونحوها مما ينفع المسلمين ،ويقيهم الشر ،فهذا النوع يدخل في الجهاد في
سبيل الله ،وهو داخل في المر باتخاذ الحذر من العداء .
) (1/345
وإما أن يكون للفخر والخيلء والبطش بعباد الله وتبذير الموال التي يتعين
صرفها في طرق نافعة ،فهذا النوع هو المذموم الذي أنكره الله على عاد
وغيرهم .
ومنها :أن العقول والذهان والذكاء وما يتبع ذلك من القوة المادية ،وما
ترتب عليها من النتائج والثار وإن عظمت وبلغت مبلغا هائل ،فإنها ل تنفع
صاحبها إل إذا قارنها اليمان بالله ورسله .
وأما الجاحد ليات الله المكذب لرسل الله ،فإنه وإن اسُتدرج في الحياة
وُأمهل فإن عاقبته وخيمة ،وسمعه وبصره وعقله ل يغني عنه شيئا إذا جاء
أمر الله ،كما قال الله عن عاد :
َ َ َ ْ } وَل َ َ
ما صاًرا وَأفْئ ِد َة ً فَ َ مًعا وَأب ْ َ س ْم َ جعَلَنا لهُ ْ م ِفيهِ وَ َ مك ّّناك ُ ْ ن َ ما إ ِ ْ م ِفي َ مك ّّناهُ ْ قد ْ َ
َ َ َ
ت
ن ِبآَيا ِ دو َ ح ُج َ يٍء إ ِذ ْ َ
كاُنوا ي َ ْ ش ْ ن َم ْ م ِ م وََل أفْئ ِد َت ُهُ ْ صاُرهُ ْ م وََل أب ْ َ معُهُ ْ س ْ م َ أغَْنى عَن ْهُ ْ
ن { ]الحقاف . [26 : ست َهْزُِئو َكاُنوا ب ِهِ ي َ ْ ما َ م َ حاقَ ب ِهِ ْ الل ّهِ وَ َ
َ
نم ْ ن الل ّهِ ِ ن ُدو ِ م ْن ِ عو َ م ال ِّتي ي َد ْ ُ م آل ِهَت ُهُ ُ ت عَن ْهُ ْ ما أغْن َ ْ وفي الية الخرى } :فَ َ
َ
ب { ]هود . [101 : م غي َْر ت َت ِْبي ٍ َ ما َزاُدوهُ ْ ك وَ َ مُر َرب ّ َ جاَء أ ْ ما َ يٍء ل َ ّ ش ْ َ
) (1/346
) (1/347
وهذا اعتراف منهم له بهذه المور قبل أن يقول ما قال ،فما نزله عن هذه
المرتبة عندهم إل أنه دعاهم إلى عبادة الخالق من عبادة العبيد ،وإلى
السعادة البدية ،وما ذنبه إل أنه خالف آباءهم الضالين ،وهم كانوا أضل
منهم ،ثم أقام لهم بينة عظيمة وبرهانا ونعمة على جميع القبيلة بأسرها ،
وقال :هذه ناقة الله -التي ل يشبهها شيء من النوق في ذاتها وشرفها
ومنافعها لكم -آية على صدقي وعلى سعة رحمة ربكم ،فذروها تأكل في
أرض الله ،على الله رزقها ،ولكم نفعها ،ترد الماء يوما فترد القبيلة بأسرها
على ضرعها ،كل يصدر عن ضرعها قد مل آنيته ،ثم تردون أنتم في اليوم
الثاني ،فمكثت على هذا ما شاء الله .
وكان في مدينتهم تسعة رهط من شياطينهم قد قاوموا ما جاء به صالح أشد
المقاومة ،يصدون عن سبيل الله ،ويفسدون في الرض ول يصلحون ،وكان
صالح قد حذرهم من عقر الناقة لما رأى من كبرهم وردهم الحق ،فأول ما
فعل أولئك المل الشرار أن عقدوا مجلسا عاما ليتفقوا على عقر الناقة ،
فاتفقوا ،فانتدب لذلك أشقى القبيلة ،ولهذا قال الله تعالى :
ها { ]الشمس . [12 : قا َ ث أَ ْ
ش َ } إ ِذِ ان ْب َعَ َ
) (1/348
أي :بعد اتفاقهم وندبهم إياه بعثوه لذلك ،فانبعث واستعد وتكفل لهم بعقرها
،وهم جميعهم راضون بل آمرون ،فعقرها فكان هذا العقر مؤذنا بهلك
القبيلة بأسرها .
) (1/349
فلما شعر صالح بالمر ،ورأى منظرا فظيعا علم أن العذاب قد تحتم ل
محالة ؛ لن الجريمة قد تفاقمت ،ولم يبق حالة يرجى فيها لهم تقويم ،
فقال لهم صالح :تمتعوا في داركم ثلثة أيام ،ذلك وعد غير مكذوب ،ونبه
بهذا الكلم دانيهم وقاصيهم ،ففي أثناء هذه المدة اتفق هؤلء الرهط التسعة
على أمر أغلظ من عقر الناقة ،على قتل نبيهم صالح ،وتعاهدوا وتعاقدوا
وحلفوا اليمان المغلظة ،وكتموا أمرهم خشية من منع أهل بيته ،لنه في
بيت عز وشرف ،وقالوا :لنبيتنه وأهله ،ثم إذا ظن بنا أننا قتلناه حلفنا
لوليائه أننا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ،فدبروا هذا المكر العظيم ،
ولكنهم يمكرون ويمكر الله لنبيه صالح ،فحين كمنوا في أصل جبل لينظروا
دما لقومهم إلى نار الفرصة في صالح بدأ الله بعقوبتهم ،فكانوا سلفا مق ّ
جهنم ،فأرسل الله صخرة من أعلى الجبل فشدختهم وقتلوا أشنع قتلة ،ثم
لما تمت ثلثة هذه اليام جاءتهم صيحة من فوقهم ،ورجفة من أسفل منهم ،
فأصبحوا خامدين ،ونجى الله صالحا ومن معه من المؤمنين ،وتولى عنهم
وقال :
) (1/350
ن َل ت ُ ِ } يا قَوم ل َ َ َ
ن{ حي َ
ص ِ
ن الّنا ِ
حّبو َ م وَل َك ِ ْ
ت ل َك ُ ْ
ح ُ
ص ْ سال َ َ
ة َرّبي وَن َ َ قد ْ أب ْل َغْت ُك ُ ْ
م رِ َ ْ ِ
]العراف . [79 :
* فوائد تتعلق بهذه القصة :
ذب ذب واحدا منهم فقد ك ّ منها :أن جميع النبياء دعوتهم واحدة ،وأن من ك ّ
ذب الحق الذي جاء به كل واحد منهم ،ولهذا يقول في كل الجميع ،لنه يك ّ
قصة :كذبت قوم نوح المرسلين ،كذبت عاد المرسلين ،كذبت هود
المرسلين .
ومنها :أن عقوبات الله للمم الطاغية عند تناهي طغيانها وتفاقم جرائمها ،
كفرهم وتكذيبهم موجب للهلك ،ولكن تحتم الهلك عند تناهي إجرامهم ؛ ف ُ
لن الله تعالى بالمرصاد فيمهل ثم يمهل حتى إذا أخذهم ،أخذهم أخذ عزيز
مقتدر .
ومنها :أن العقائد الباطلة الراسخة المأخوذة عمن يحسن بهم الظن من آباء
أو غيرهم من أكبر الموانع لقبول الحق ،والحال أنها ليست في العير ول في
النفير ،ول لها مقام في الحجج الصحيحة الداّلة على الحقائق ،فلهذا أكبر ما
رد به قوم صالح لدعوته أن قالوا :أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ،وقالت جميع
المم المكذبة راّدين لدعوة الرسل :
) (1/351
ُ
ن { ]الزخرف . [23 :
دو َ
قت َ ُ
م ْ
م ُمةٍ وَإ ِّنا عََلى آَثارِهِ ْ
جد َْنا آَباَءَنا عََلى أ ّ
} إ ِّنا وَ َ
وهذا سبيل ل يزال معمورا بالسالكين من أهل الباطل ،نهجته الشياطين
ليصدوا به العباد عن سبيل الله ،ومن المعلوم أن طريق الرسل هي طريق
الهدى والحق ،فماذا بعد الحق إل الضلل .
) (1/352
) (1/353
منها :أن المناظر يقول الشيء الذي ل يعتقده ليبني عليه حجته ،وليقيم
الحجة على خصمه ،كما قال في تكسيره الصنام لما قالوا له :
ََ
م { ]النبياء . [62 :هي ُ
ذا ِبآل ِهَت َِنا يا إ ِب َْرا ِت هَ َ ت فَعَل ْ َ } أأن ْ َ
فأشار إلى الصنم الذي لم يكسره فقال :
ذا { ]النبياء . [63 : م هَ َ ه ك َِبيُرهُ ْل فَعَل َ ُ
} بَ ْ
ومعلوم أن غرضه إلزامهم بالحجة ،وقد حصلت .
ذا َرّبي { أي :إن كان يستحق اللهية فهنا يسهل علينا فهم معنى قوله } :هَ َ
بعد النظر في حالته ووصفه فهو ربي ،مع أنه يعلم العلم اليقيني أنه ل
يستحق من الربوبية واللهية مثقال ذرة ،ولكن أراد أن يلزمهم بالحجة :
ل { ]النعام . [76 : ما أ َفَ َ
} فَل َ ّ
ُ
ن { ]النعام . [76 : ب اْلفِِلي َ ح ّل َل أ ِأي :غاب } َقا َ
فإن من كان له حال وجود وعدم ،أو حال حضور وغيبة ،قد علم كل عاقل
أنه ليس بكامل ،فل يكون إلها ،ثم انتقل إلى القمر ،فلما رآه بازغا َ } :قا َ
ل
ن{ ضاّلي َ ن ال ْ َ
قوْم ِ ال ّ م َ
ن ِ م ي َهْدِِني َرّبي َل َ ُ
كون َ ّ ن لَ ْ
ل ل َئ ِ ْ
ل َقا َما أ َفَ َ
ذا َرّبي فَل َ ّ هَ َ
]النعام . [77 :
) (1/354
يريهم صلوات الله وسلمه عليه ،وقد صور نفسه بصورة الموافق لهم ،لكن
على وجه التقليد ،بل يقصد إقامة البرهان على إلهية النجوم والقمر ،فالن
وقد أفلت ،وتبين بالبرهان العقلي مع السمعي بطلن إلهيتها ،فأنا إلى الن
لم يستقر لي قرار على رب وإله عظيم ،فلما رأى الشمس بازغة قال :هذا
أكبر من النجوم ومن القمر ،فإن جرى عليها ما جرى عليهما كانت مثلهما ،
فلما أفلت وقد تقرر عند الجميع فيما سبق أن عبادة من يأفل من أبطل
الباطل ،فحينئذ ألزمهم بهذا اللزام ووجه عليهم الحجة فقال :
ي { أي :ظاهري جهِ َ ت وَ ْ جهْ ُن {} إ ِّني وَ ّ
كو َشرِ ُما ت ُ ْ
م ّ
ريٌء ِ} يا قَوْم ِ إ ِّني ب َ ِ
َ َ
ن{كي َ م ْ
شرِ ِ ن ال ْ ُ
م َ
ما أَنا ِ فا وَ َ
حِني ً ت َواْلْر َ
ض َ ماَوا ِ
س َذي فَط ََر ال ّ وباطني } ل ِل ّ ِ
]النعام 78 :و . [79
) (1/355
هذا برهان عقلي واضح أن الخالق للعالم العلوي والسفلي هو الذي يتعين أن
ُيقصد بالتوحيد والخلص ،وأن هذه الفلك والكواكب وغيرها مخلوقات
مدبرات ،ليس لها من الوصاف ما تستحق العبادة لجلها ; فجعلوا يخوفونه
آلهتهم أن تمسه بسوء ،وهذا دليل على أن المشركين عندهم من الخيالت
ضر من تركها دها وت َ ُ الفاسدة والراء الرديئة ما يعتقدون أن آلهتهم تنفع من عَب َ َ
أو قدح فيها ،فقال لهم مبينا لهم أنه ليس عليه شيء من الخوف ،وإنما
الخوف الحقيقي عليكم فقال :
َ ّ ْ َ ُ َ م وََل ت َ َ ما أ َ ْ ف أَ َ
ه ْ
م ي ُن َّزل ب ِ ِ
ما ل ْ م ِباللهِ َ شَركت ُ ْ مأ ْ ن أن ّك ْ ُ
خافو َ شَرك ْت ُ ْ ف َ خا ُ } وَك َي ْ َ
َ َ َ
ن { ]النعام . [81 : مو َ م ت َعْل َ ُ ن ك ُن ْت ُ ْن إِ ْم ِ حقّ ِباْل ْ نأ َ قي ْ ِري َ ف ِطاًنا فَأيّ ال ْ َ سل ْ َ م ُ عَل َي ْك ُ ْ
أجاب الله هذا الستفهام جوابا يعم هذه القصة وغيرها في كل وقت فقال :
ن
م ُ
َ
م اْل ْك ل َهُ ُم ب ِظ ُل ْم ٍ { أي :بشرك } ُأول َئ ِ َ مان َهُ ْ
سوا ِإي َ م ي َل ْب ِ ُ
مُنوا وَل َ ْنآ َ ذي َ } ال ّ ِ
ن { ]النعام . [82 : دو َ مهْت َ ُ
م ُ وَهُ ْ
) (1/356
فرفع الله خليله إبراهيم بالعلم وإقامة الحجة ،وعجزوا عن نصر باطلهم ;
ولكنهم صمموا على القامة على ما هم عليه ،ولم ينفع فيهم الوعظ
والتذكير وإقامة الحجج ،فلم يزل يدعوهم إلى الله ،وينهاهم عما كانوا
صا ،وأخص من دعاه أبوه آزر ; فإنه دعاه بعدة طرق ما وخا ّ
يعبدون نهيا عا ّ
نافعة ،ولكن :
حّتى
ل آي َةٍ َ م كُ ّ
جاَءت ْهُ ْن {} وَل َوْ َ مُنو َك َل ي ُؤْ ِ ة َرب ّ َ م ك َل ِ َ
م ُ ت عَل َي ْهِ ْ ق ْ ح ّن َ ذي َن ال ّ ِ } إِ ّ
م { ]يونس 96 :و . [97 َ ْ ْ
ي ََرُوا العَ َ
ب الِلي َ ذا َ
فمن جملة مقالته لبيه إذ قال لبيه :
شيًئا {} يا أ َ َ َ
ْ دَ ق ني إ ت
َ ِ ِّ ب ْ َ ك َ ن
َْ ع ني
ص ُ َ ُِْ
غي ل و ر معُ وََل ي ُب ْ ِ س َ ما َل ي َ ْ م ت َعْب ُد ُ َ
ت لِ َ } يا أب َ ِ
ك { ]مريم 42 :و . [43 م ي َأ ْت ِ َ
ما ل َ ْ ن ال ْعِل ْم ِ َم َ جاَءِني ِ َ
) (1/357
انظر إلى حسن هذا الخطاب الجاذب للقلوب :لم يقل لبيه :إنك جاهل ؛
صَراطاً ك ِ لئل ينفر من الكلم الخشن ،بل قال له هذا القول َ } :فات ّب ِعِْني أ َهْدِ َ
ت َ ن َ شي ْ َ ن ال ّ شي ْ َ ت َل ت َعْب ُدِ ال ّ َ
صّيا {} يا أب َ ِ ن عَ ِ م ِ ح َ ن ِللّر ْ كا َ طا َ ن إِ ّ طا َ سوِّيا {} يا أب َ ِ َ
َ ُ َ َ َ
ن وَل ِّيا { ]مريم 53 : شي ْطا ِ ن ِلل ّ ن فَت َكو َ م ِح َن الّر ْ م َ ب ِ ذا ٌسك ع َ َ م ّ ن يَ َ فأ ْ خا ُ إ ِّني أ َ
. [45 -
فانتقل بدعوته من أسلوب لخر لعله ينجع فيه أو يفيد ،ولكنه مع ذلك قال له
أبوه :
مل ِّيا { َ َ َ َ َ َ َ
جْرِني َ من ّك َواهْ ُ ج َم ت َن ْت َهِ لْر ُ نل ْ م لئ ِ ْ هي ُن آل ِهَِتي يا إ ِب َْرا ِ ت عَ ْ ب أن ْ َ } أَراِغ ٌ
]مريم . [46 :
هذا وإبراهيم لم يغضب ولم يقابل أباه ببعض ما قال ،بل قابل هذه الساءة
الكبرى بالحسان فقال :
ك { ]مريم . [47 : م عَل َي ْ َسَل ٌ } َ
أي :ل أتكلم معك إل بكلم طيب ل غلظة فيه ول خشونة ،ومع ذلك فلست
فّيا { ]مريم . [47 : ه َ فُر ل َ َ َ
ح ِ ن ِبي َ كا َ ك َرّبي إ ِن ّ ُ ست َغْ ِسأ ْ بآيس من هدايتك َ } :
أي :برا رحيما قد عودني لطفه وأجراني على عوائده الجميلة ،ولم يزل
لدعائي مجيبا .
) (1/358
فلم يزل إبراهيم مع قومه في دعوة وجدال ،وقد أفحمهم وكسر جميع
شبههم ،فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقاومهم بأعظم الحجج ، حججهم و ُ
وأن يصمد لبطشهم وجبروتهم وقدرتهم وقوتهم ،غير هائب ول وجل ،فلما
خرجوا ذات يوم لعيد من أعيادهم وخرج معهم ،فنظر نظرة في النجوم
خّلف لغير هذه الوسيلة لم يدرك فقال :إني سقيم ؛ لنه خشي إن ت َ َ
مطلوبه ؛ لنه تظاهر بعداوتها والنهي الكيد عنها وجهاد أهلها ،فلما برزوا
جميعا إلى الصحراء كّر راجعا إلى بيت أصنامهم ،فجعلها جذاذا كلها إل صنما
كبيرا أبقى عليه ليلزمهم بالحجة ،فلما رجعوا من عيدهم بادروا إلى أصنامهم
ذا ن فَعَ َ
ل هَ َ م ْ
صبابة ومحبة ،فرأوا فيها أفظع منظر رآه أهلها فقالوا َ } :
م { ]النبياء 59 :و [60 معَْنا فًَتى ي َذ ْك ُُرهُ ْس ِ ن {} َقاُلوا َ مي َ ن ال ّ
ظال ِ ِ م َ ه لَ ِ ِبآل ِهَت َِنا إ ِن ّ ُ
.
أي :يعيبها ويذكرها بأوصاف النقص والسوء :
م { ]النبياء . [60 : هي ُ
ه إ ِب َْرا ِ ل لَ ُ قا ُ } يُ َ
فلما تحققوا أنه الذي كسرها :
ّ َ َ َ ْ ُ
ن { ]النبياء . [61 : دو َ م يَ ْ
شهَ ُ س لعَلهُ ْ } َقالوا فَأُتوا ب ِهِ عَلى أعْي ُ ِ
ن الّنا ِ
) (1/359
أي :بحضرة الخلق العظيم ،ووبخوه أشد التوبيخ ثم نكلوا به ،وهذا الذي
أراد إبراهيم ؛ ليظهر الحق بمرأى الخلق ومسمعهم ،فلما جمع الناس
ضروا إبراهيم قالوا : وحضروا ،وح ّ
َ ََ
م هَ َ
ذا { ]النبياء : َ ل فَعَل ُ
ه كِبيُرهُ ْ م {} َقا َ
ل بَ ْ هي ُ ت فَعَل ْ َ
ت هَ َ
ذا ِبآل ِهَت َِنا يا إ ِب َْرا ِ } أأن ْ َ
62و . [63
مشيرا إلى الصنم الذي سلم من تكسيره ،وهم في هذه بين أمرين :إما أن
يعترفوا بالحق ،وأن هذا ل يدخل عقل أحد أن جمادا معروفا أنه مصنوع من
مواد معروفة ل يمكن أن يفعل هذا الفعل ،وإما أن يقولوا :نعم هو الذي
فعلها وأنت سالم ناج من تبعتها ،وقد علم أنهم ل يقولون الحتمال الخير ،
قال :فاسألوهم إن كانوا ينطقون ،وهذا تعليق بالمر الذي يعترفون أنه
محال ،فحينئذ ظهر الحق وبان ،واعترفوا هم بالحق فرجعوا إلى أنفسهم
فقالوا :إنكم أنتم الظالمون ،ثم نكسوا على رؤوسهم ،أي :ما كان
اعترافهم ببطلن إلهيتها إل وقتا قصيرا ظهرت الحجة مباشرة التي ل يمكن
مكابرتها ،ولكن ما أسرع ما عادت عليهم عقائدهم الباطلة التي رسخت في
قلوبهم ،وصارت صفات ملزمة ،إن وجد ما ينافيها فإنه عارض يعرض ثم
يزول :
) (1/360
) (1/361
فلم تضره بشيء ،وأرادوا به كيدا لينصروا آلهتهم ،ويقيموا لها في قلوبهم
وقلوب أتباعهم الخضوع والتعظيم ،فكان مكرهم وبال عليهم ،وكان
انتصارهم للهتهم نصرا عظيما عند الحاضرين والغائبين والموجودين
والحادثين عليهم ،وانتصر الخليل على الخواص والعوام والرؤساء
َ
ن آَتاهُ
ج إبراهيم في َرّبه بغيا وطغيانا } ،أ ْ والمرؤوسين حتى إن ملكهم حا ّ
ك { فقال إبراهيم :مل ْ َ
ه ال ْ ُ
الل ّ ُ
ت { ]البقرة . [258 : ُ } ربي ال ّذي يحيي ويميت َقا َ َ ُ
مي ُ
حِيي وَأ ِ
ل أَنا أ ْ َُ ِ ُ ِ ُ ْ ِ َ ّ َ
فألزمه الخليل بطرد دليله بالتصرف المطلق ،فقال :
ّ ْ ْ ه ي َأ ِْتي ِبال ّ
َ
ذي كفََر
ت ال ِ َ
ب فب ُهِ َ
مغْرِ ِ
ن ال َم َ ق فَأ ِ
ت ب َِها ِ شرِ ِ ن ال ْ َ
م ْ م َس ِ م ِ ش ْ ن الل ّ َ} فَإ ِ ّ
ن { ]البقرة . [258 : مي َ م ال ّ
ظال ِ ِ دي ال ْ َ
قو ْ َ ه َل ي َهْ َِوالل ّ ُ
فصل
) (1/362
ثم خرج من بين أظهرهم مهاجرا وزوجته وابن أخيه لوط إلى الديار
الشامية ،وفي أثناء مدة إقامته بالشام ذهب إلى مصر بزوجته سارة ،
وكانت أحسن امرأة على الطلق ،فلما رآها ملك مصر وكان جبارا عنيدا لم
يملك نفسه حتى أرادها على نفسها ،فدعت الله عليه ،فكاد أن يموت ،ثم
أطلق ،ثم عاد ثانية ،وكلما أرادها دعت عليه فصرع ،ثم دعت له فأطلق ،
فكفاهما الله شره ،ووهب لها هاجر جارية قبطية ،وكانت سارة عاقرا منذ
كانت شابة ،فوهبت هذه الجارية لبراهيم ليتسررها لعل الله يرزقه منها ولدا
،فأتت هاجر بإسماعيل على كبر إبراهيم ففرح به فرحا شديدا ،ولكن سارة
رضي الله عنها أدركتها الغيرة فحلفت أن ل يساكنها بها ،وذلك لما يريده الله
،وهذا من جملة السباب لذهابه بها إلى موضع البيت الحرام ،وإل فهو
متقرر عنده ذلك عليه السلم .
فذهب بها وبابنها إسماعيل إلى مكة ،وهي في ذلك الوقت ليس فيها سكن
ول مسكن ول ماء ول زرع ول غيره ،وزودهما بسقاء فيه ماء وجراب فيه
تمر ،ووضعهما عند دوحة قريبة من محل بئر زمزم ثم قفى عنهما ،فلما
كان في الثنية بحيث يشرف عليهما دعا الله تعالى فقال :
) (1/363
َ
مواقي ُ
حّرم ِ َرب َّنا ل ِي ُ ِم َ ك ال ْ ُ
عن ْد َ ب َي ْت ِ َ
وادٍ غَي ْرِ ِذي َزْرٍع ِ ن ذ ُّري ِّتي ب ِ َ
م ْت ِ سك َن ْ ُ
} َرب َّنا إ ِّني أ ْ
الصَلة َ َفاجع ْ َ
مت ل َعَل ّهُ ْ مَرا ِن الث ّ َ م َم ِ م َواْرُزقْهُ ْ وي إ ِل َي ْهِ ْ
س ت َهْ ِ ن الّنا ِ م َل أفْئ ِد َة ً ِ ْ َ ّ
ن { ]إبراهيم [37 :إلى آخر الدعاء . شكُرو َ ُ يَ ْ
ثم استسلمت لمر الله ،وجعلت تأكل من ذلك التمر ،وتشرب من ذلك
الماء حتى نفدا ،فعطشت ثم عطش ولدها ،فجعل يتلوى من العطش ،ثم
ذهبت في تلك الحال لعلها ترى أحدا أو تجد مغيثا ،فصعدت أدنى جبل منها
وهو الصفا ،وتطلعت فلم تر أحدا ،ثم ذهبت إلى المروة فصعدت عليه
فتطلعت ،فلم تر أحدا ،ثم جعلت تتردد في ذلك الموضع وهي مكروبة
مضطرة مستغيثة بالله لها ولبنها ،وهي تمشي وتلتفت إليه خشية السباع
عليه ،فإذا هبطت الوادي سعت حتى تصعد من جانبه الخر ؛ لئل يخفى على
بصرها ابنها .
) (1/364
والفرج مع الكرب ،والعسر يتبعه اليسر ،فلما تمت سبع مرات تسمعت
حس الملك ،فبحث في الموضع الذي فيه زمزم فنبع الماء ،فاشتد فرح أم
إسماعيل به ،فشربت منه وأرضعت ولدها ،وحمدت الله على هذه النعمة
الكبرى ،وحوطت على الماء لئل يسيح ،قال النبي صلى الله عليه وسلم » :
رحم الله أم إسماعيل :لو تركت ماء زمزم -أي لم تحوطه -لكانت زمزم
عينا معينا « ثم عثر بها قبيلة من قبائل العرب يقال لهم جرهم ،فعزلوا
عندها وتمت عليها النعمة .
) (1/365
وشب إسماعيل شابا حسنا ،وأعجب القبيلة بأخلقه وعلو همته وكماله ،
فلما بلغ تزوج منهم امرأة ،ففي أثناء هذه المدة ماتت أمه رضي الله عنها ،
وجاء إبراهيم بغيبة إسماعيل يتصيد ،فدخل على امرأته فسألها عن زوجها
وعن عيشهم ،فأخبرته أن زوجها قد ذهب يتصيد ،وأن عيشهم عيش
الشدة ،فقال لها :إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلم ،وقولي له يغير عتبة
بابه ،ورجع من فوره لحكمة أرادها الله ،فلما جاء إسماعيل كأنه آنس
شيئا ،فسأل امرأته فأخبرته أنه جاءهم شيخ بهذا الوصف ،وأنه سأل عنك
فأخبرته ،وسألنا عن عيشنا فأخبرته أننا في شدة ،وأنه يقرأ عليك السلم ،
ويقول لك :غير عتبة بابك ،فقال :ذاك أبي ،وأنت العتبة ،الحقي بأهلك ،
ثم تزوج إسماعيل غيرها .
) (1/366
ثم جاء إبراهيم مرة أخرى وإسماعيل أيضا في الصيد ،فدخل على امرأته
فسألها عن إسماعيل فأخبرته ،وسألها عن عيشهم فأخبرته أنهم في نعمة
وخير ،وكانت امرأة طيبة شاكرة لله وشاكرة لزوجها ،ثم قال لها :إذا جاء
زوجك فاقرئي عليه السلم ،وقولي له يثبت عتبة بابه ،ثم رجع أيضا من
فوره قبل مواجهة إسماعيل لحكمة أرادها الله تعالى ،فلما رجع إسماعيل
من صيده قال :هل جاءكم من أحد ؟ فقالت :جاءنا شيخ بهذا الوصف ،
فقال :هل قال لكم من شيء ؟ فقالت :سألنا عنك فأخبرته ،وسألنا عن
عيشنا فأخبرته أنا في نعمة ،وأثنيت على الله ،فقال :فما قال ؟ قالت :هو
يقرأ عليك السلم ،ويأمرك أن تثبت عتبة بابك ،فقال :ذاك أبي ،وأنت
العتبة ،أمرني أن أمسكك .
ثم عاد إبراهيم المرة الثالثة فوجد إسماعيل يبري نبل عند زمزم ،فلما رآه
قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد الشفيق والولد الشفيق ،فقال :يا إسماعيل
إن الله أمرني أن أبني هنا بيتا يكون معبدا للخلق إلى يوم القيامة ،قال :
سأعينك على ذلك ،فجعل يرفعان القواعد من البيت ،إبراهيم يبني ،
وإسماعيل يناوله الحجارة ،وهما يقولن :
) (1/367
ل منا إن َ َ
ت
ك أن ْ َ قب ّ ْ ِ ّ ِ ّ ل َرب َّنا ت َ َعي ُ ما ِس َ ت وَإ ِ ْ ن ال ْب َي ْ ِ م َ عد َ ِ وا ِ ق َ م ال ْ َ } وَإ ِذ ْ ي َْرفَعُ إ ِب َْرا ِ
هي ُ
َ َ ُ َ ْ
َ
ة لك وَأرَِنا م ً
سل ِ َم ْة ُ م ً ن ذ ُّري ّت َِنا أ ّ م ْ َ
ن لك و َ ِ مي ْ ِسل ِ َ م ْ جعَلَنا ُ م {} َرب َّنا َوا ْ ميعُ ال ْعَِلي ُ س ِ ال ّ
م ً َ َ َ َ
من ْهُ ْسول ِ م َر ُ ث ِفيهِ ْ م {} َرب َّنا َواب ْعَ ْ حي ُ ب الّر ِ وا ُ ت الت ّ ّ ب عَلي َْنا إ ِن ّك أن ْ َ سكَنا وَت ُ ْ مَنا ِ َ
م{ ْ ْ َ َ ّ ْ ْ ْ ّ َ َ ُ
كي ُ ح ِزيُز ال َ ت العَ ِ م إ ِن ّك أن ْ َ ة وَي َُزكيهِ ْ م َ حك َ ب َوال ِ م الك َِتا َ مهُ ُ م آَيات ِك وَي ُعَل ُ ي َت ْلو عَلي ْهِ ْ
]البقرة . [129 - 127 :
م للخليل هذا الثر الجليل أمره الله أن يدعو الناس ويؤذنم بنيانه ،وت َ ّ
فلما ت َ ّ
فيهم بحج هذا البيت ،فجعل يدعو الناس وهم يفدون إلى هذا البيت من كل
ج عميق ؛ ليشهدوا منافع دنياهم وأخراهم ،ويسعدوا ويزول عنهم فَ ّ
شقاؤهم ،وفي هذه الثناء حين تمكن حب إسماعيل من قلبه ،وأراد الله أن
يمتحن إبراهيم لتقديم محبة ربه وخلته التي ل تقبل المشاركة والمزاحمة ،
فأمره في المنام أن يذبح إسماعيل ،ورؤيا النبياء وحي من الله ،فقال
لسماعيل :
) (1/368
) (1/369
) (1/370
) (1/371
) (1/372
ن{ موقِِني َ ن ال ْ ُم َ ن ِ كو َ ت َواْل َْرض وَل ِي َ ُ ماَوا ِ س َ ت ال ّ كو َ مل َ ُ
م َ هي َ
ري إ ِب َْرا ِ ك نُ ِ } وَك َذ َل ِ َ
ِ
]النعام . [75 :
م
كي ٌ
ح ِ َ
ن َرب ّك َ َ
ن ن َشاُء إ ِ ّ م ْت َ جا ٍ َ
مهِ ن َْرفعُ د ََر َ َ
م عَلى قوْ ِ َ هي َ ها إ ِب َْرا ِ جت َُنا آت َي َْنا َ ح ّ ك ُ } وَت ِل ْ َ
م { ]النعام . [83 : عَِلي ٌ
ومن شوقه إلى الوصول إلى غاية العلم ونهايته أن سأل ربه :
ن قَل ِْبي ف تحي ال ْموتى َقا َ َ ب أ َرِ ِ
ن ل ِي َط ْ َ
مئ ِ ّ ل ب ََلى وَل َك ِ ْ ن َقا َ م ْ م ت ُؤْ ِل أوَل َ ْ َ َْ ني ك َي ْ َ ُ ْ ِ } َر ّ
ل عَلى ك ُ ّ َ َ
ن إ ِلي ْ َ ّ َ
جْزًءا ن ُ من ْهُ ّ ل ِ جب َ ٍ ل َ جعَ ْ ما ْ ك ثُ ّ صْرهُ ّ ن الطي ْرِ فَ ُ م َة ِ خذ ْ أْرب َعَ ً
ْ
ل فَ ُ َقا َ
ّ َ َ ن ي َأِتين َ َ
م { ]البقرة . [260 : كي ٌ
ح ِ زيٌز َ ه عَ ِ ن الل َ مأ ّ سعًْيا َواعْل ْ ك َ م اد ْعُهُ ّ ثُ ّ
ومنها :أن من عزم على فعل الطاعات وبذل مقدوره في أسبابها ،ثم حصل
مانع يمنع من إكمالها ،أن أجره قد وجب على الله ،كما قال الله ذلك في
المهاجر الذي يموت قبل أن يصل إلى مهاجره ،وكما ذكره الله في قصة
م الجر لبراهيم وإسماعيل حين أسلما لله وأذعنا لمره ، الذبح ،وأن الله أت َ ّ
ثم رفع عنهما المشقة ،وأوجب لهما الجر الدنيوي والخروي .
) (1/373
) (1/374
ومنها :أن المشاعر ومواضع النساك من جملة الحكم فيها ،أن فيها
تذكيرات بمقامات الخليل وأهل بيته في عبادات ربهم ،وإيمان بالله ورسله ،
وحث على القتداء بهم في كل أحوالهم الدينية وكل أحوال الرسل دينية ،
لقوله تعالى :
ّ
صلى { ]البقرة . [125 :م َ
م ُ
هي َ
قام ِ إ ِب َْرا ِ
م َ
ن َ
م ْ خ ُ
ذوا ِ } َوات ّ ِ
ومنها :المر بتطهير المسجد الحرام من النجاس ،ومن جميع المعاصي
القولية والفعلية ؛ تعظيما لله وإعانة وتنشيطا للمتعبدين فيه ،ومثله بقية
المساجد لقوله عز وجل :
جود ِ { ]الحج . [26 : س ُ ن َوالّرك ِّع ال ّ مي َ قائ ِ ِن َوال ْ َفي َ ي ِلل ّ
طائ ِ ِ } وَط َهّْر ب َي ْت ِ َ
َ َ
ه { ]النور . [36 :
م ُ ن ت ُْرفَعَ وَي ُذ ْك ََر ِفيَها ا ْ
س ُ هأ ْ ن الل ّ ُ ت أذِ َ وقال ِ } :في ب ُُيو ٍ
ومنها :أن أفضل الوصايا على الطلق ما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب ،
وهو الوصية بملزمة القيام بالدين وتقوى الله والجتماع على ذلك ،وهي
وصيته تعالى للولين والخرين ،إذ بها السعادة البدية والسلمة من شرور
الدنيا والخرة .
) (1/375
ومنها :أن العامل -كما عليه أن يتقن عمله ويجتهد في إيقاعه على أكمل
الوجوه -فعليه مع ذلك أن يكون بين الخوف والرجاء ،وأن يتضرع إلى ربه
في قبوله وتكميل نقصه ،والعفو عما وقع فيه من خلل أو نقص ،كما كان
إبراهيم وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت ،وهما بهذا الوصف الكامل .
ومنها :أن الجمع بين الدعاء لله بمصالح الدنيا والدين من سبيل أنبياء الله ،
وكذلك السعي في تحصيلهما الدين هو الصل والمقصود الذي خلق له الخلق
والدنيا وسيلة ومعونة عليه لدعاء الخليل لهل البيت الحرام بالمرين ،
وتعليله الدعاء بالمور الدنيوية أنه وسيلة إلى الشكر فقال :
شك ُُرو َ
ن { ]إبراهيم . [37 : ت ل َعَل ّهُ ْ
م يَ ْ ن الث ّ َ
مَرا ِ م َ } َواْرُزقْهُ ْ
م ِ
ومنها :ما اشتملت عليه قصة إبراهيم من مشروعية الضيافة وآدابها ،فإن
الله أخبر عن ضيفه أنهم مكرمون ،يعني :أنهم كرماء على الله ،وأيضا
إبراهيم أكرمهم بضيافته قول وفعل ،فإكرام الضيف من اليمان ،وأنه
خدمهم بنفسه وبادر بضيافتهم قبل كل شيء ،وأتى بأطيب ماله :عجل حنيذ
سمين ،وقّربه إليهم ولم يحوجهم إلى الذهاب إلى عمل آخر ،وعرض عليهم
الكل بلفظ رقيق فقال :أل تأكلون ؟
) (1/376
ومنها :مشروعية السلم ،وأن المبتدئ فيه هو الداخل وهو الماشي ،وأنه
يجب رده ،ومشروعية الوقوف على اسم من يتصل بك من صاحب ومعامل
وضيف لقوله :
من ْك َُرو َ
ن { ]الذاريات . [25 : م ُ } قَوْ ٌ
أي ل أعرفكم فأحب أن تعرفوني بأنفسكم ،وهذا ألطف من قوله أنكرتكم
ونحوه .
ومنها :الترغيب في أن يكون أهل النسان ومن يتولى شؤون بيته حازمين
مستعدين لكل ما يراد منهم من الشؤون والقيام بمهمات البيت ،فإن
إبراهيم في الحال بادر إلى أهله فوجد طعام ضيوفه حاضرا ل يحوج إل إلى
تقديمه .
ومنها :أن إتيان الولد والبشارة به من سارة ،وهي عجوز عقيم ،يعد معجزة
لبراهيم وكرامة لسارة ،ففيه معجزة نبي وكرامة ولي ،ونظيره بشارة
الملئكة لمريم بعيسى ،وبشارتهم بيحيى لزكريا وزوجته ،وكون زكريا جعل
الله آية وجود المبشر به أن ل يكلم الناس ثلثة أيام ،وهو سويّ ل آفة فيه إل
بالرمز والشارة ،وكل هذا وما أشبهه من آيات الله ،وأعجب من هذا إيجاده
آدم من تراب ،فسبحان من هو على كل شيء قدير .
ومنها :ثناء الله على إبراهيم أنه أتى ربه بقلب سليم ،وقد قال :
) (1/377
) (1/378
) (1/379
لعلمه بما عليه قومه من هذه الجراءة الشنيعة ،ووقع ما خاف منه ،فجاءه
إليه يريدون فعل الفاحشة بأضياف لوط ،فقال } :يا قَوْم ِ َ
قومه يهرعون
م { ]هود . [78 : ُ َ ْ
ن أطهَُر لك ْهَؤَُلِء ب ََناِتي هُ ّ
لعلمه أنه ل حق لهم فيهن ،كما عرض سليمان للمرأتين حين اختصمتا في
الولد فقال :ائتوني بالسكين أشقه بينكما ،ومن المعلوم أنه ل يقع ذلك ،
وهذا مثله ،ولهذا قال قومه :
ريد ُ { ]هود . [79 : ن ما مَ
َْ ُ َ ُ ِ ل عتَ ل َ
ك ك ِ ْ َ ّ َ ِّ
ن إ و ق ح ن م ما ل ََنا ِفي ب ََنات ِ َ
ت َ
م َ } لَ َ
قد ْ عَل ِ ْ
وأيضا يريد بعض العذر من أضيافه ،وعلى هذا التأويل ل حاجة إلى العدول
إلى قول بعض المفسرين } هَؤَُلِء ب ََناِتي { يعني :زوجاتهم ،يعني :لن
النبي أب لمته ،فإن هذا يمنعه أمران :
أحدهما :قوله } :هَؤَُلِء ب ََناِتي { يشير إليهن إشارة الحاضر .
ثانيا :هذا الطلق على زوجاتهم ل نظير له ،وأيضا النبي إنما هو بمنزلة الب
للمؤمنين به ،ل للكفار ،والمحذور الذي توهموه يزول بما ذكرنا ،وأنه يعلم
أنه ل حق لهم فيهن ،وإنما يريد مدافعتهم بكل طريق ،فاشتد المر بلوط
وقال :
) (1/380
) (1/381
وفيها وفي قصة إبراهيم ،جواز التعريض ،أما قصة إبراهيم ففي قوله :
م { ]الصافات 88 :و . [89 قي ٌس ِ
ل إ ِّني َ جوم ِ {} فَ َ
قا َ } فَن َظ ََر ن َظ َْرة ً ِفي الن ّ ُ
وأما لوط ففي قوله } :هَؤَُلِء بناِتي هُ َ
م { والتعريض يكون في ن أط ْهَُر ل َك ُ ْ
ّ ََ
القوال ،ويكون في الفعال ،وهو أن يقصد المتكلم أو العامل لعمل أمرا
من المور التي ل بأس بها ،ويوهم السامع والرائي أمرا آخر ؛ ليستجلب
منفعة ،أو يدفع مضرة .
ومنها :أن من علمة الرجل الرشيد أنه هو المسدد في أقواله وأفعاله ،ومن
ذلك أنه ينصر المظلومين ،ويفرج الكرب عن المكروبين ،ويأمر بالخير ،
َ
من ْك ُ ْ
م وينهى عن الشر ،هذا هو الرشيد حقيقة ،فلهذا قال لوط } :أل َي ْ َ
س ِ
شيد ٌ { ؟ أي :فيأمر بمعروف ،وينهى عن منكر ،ويدفع أهل الشر ج ٌ
ل َر ِ َر ُ
والبغي .
) (1/382
ومنها :الحث على السعي في العوان على أمور الخير ودفع الشر ،ولو كان
المعاون على ذلك من أهل الشر ،فإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر
َ َ
وبأقوام ل خلق لهم عند الله ،ولهذا قال لوط } :ل َوْ أ ّ
ن ِلي ب ِك ُ ْ
م قُوّة ً أوْ آِوي
َ
ديدٍ { ،وأكثر النبياء يبعثهم الله في أشراف قومهم ،ويحصل ش ِ إ ِلى ُرك ْ ٍ
ن َ
بذلك من تأييد الحق وقمع الباطل ،والتمكن من الدعوة ما ل يحصل لو لم
يكن كذلك ،واعتبر هذا بحال شعيب وقول قومه له :
) (1/383
َ
ت عَل َي َْنا ب ِعَ ِ
زيزٍ { ]هود [91 :وكذلك نبينا ما أن ْ َ مَنا َ
ك وَ َ ك ل ََر َ
ج ْ } وَل َوَْل َرهْط ُ َ
محمد بعث في أشرف بيت في قريش وأعزه ،وقد رماه قومه بالعداوة
البليغة ،وعقدوا المجالس المتعددة في إبطال قوله ودينه ،بل وفي كيفية
الفتك به ،ومن السباب التي أوقفتهم عند حدهم خوفهم من قبيلته ،وانظر
إلى حالته في تضييقهم عليه بالشعب ،وانحياز قبيلته معهم -مسلمهم
وكافرهم -ولم يخطر ببالهم أنهم يصلون إلى الفتك بشخصه الكريم حتى
مكروا ذلك المكر العظيم ،إذ اتفق رأيهم على أن ينتدب لقتله من كل قبيلة
رجل ليتفرق دمه في القبائل ،فيعجز قومه عن الخذ بثأره ،ولكنهم يمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين .
) (1/384
أي :ما نهيتكم عن المعاملت الخبيثة وظلم الناس فيها ،إل وأنا أول تارك
ي وأنا محتاج إلى المعاملة ،ولكني متقيد سع عل ّ لها ،مع أن الله أعطاني وو ّ
بطاعة ربي ،إن أريد في فعلي وأمري لكم إل الصلح ،أي :أن تصلح
أحوالكم الدينية والدنيوية ما استطعت :
ُ
ب { ]هود . [88 : ت وَإ ِل َي ْهِ أِني ُ قي إ ِّل ِبالل ّهِ عَل َي ْهِ ت َوَك ّل ْ ُ ما ت َوِْفي ِ } وَ َ
ثم خوفهم أخذات المم التي حولهم في الزمان والمكان فقال :
َ َ َ َ
م َ
هود ٍ أوْ قوْ َ م ُ م ُنوٍح أوْ قَوْ َ ب قَوْ َصا َ ما أ َ ل َ مث ْ ُم ِ صيب َك ُ ْ ن يُ ِ قاِقي أ ْ ش َ
م ِ من ّك ُ ْ
جرِ َ } َل ي َ ْ
م ب ِب َِعيد ٍ { ]هود . [89 : من ْك ُ ْ
ط ِم ُلو ٍ ما قَوْ ُ صال ٍِح وَ َ َ
ه يَ ل إ بوا تو
َ ّ ْ ّ ُ ُ ِ ْ ِ م ُ ث م ُ كب ر روا فْ غ ت
َ ْ َ ِ ُس وا } : فقال فيها ورغبهم ، التوبة عليهم عرض ثم
م وَُدود ٌ { ]هود . [90 : حي ٌ ن َرّبي َر ِ إِ ّ
ل{. قو ُما ت َ ُم ّ ه ك َِثيًرا ِ ق ُف َ ما ن َ ْ
فلم يفد فيهم ،فقالوا َ } :
) (1/386
كفا وَل َوَْل َرهْط ُ َ ضِعي ً ك ِفيَنا َ وهذا لعنادهم وبغضهم البليغ للحق } وَإ ِّنا ل َن ََرا َ
َ َ َ
ن الل ّ ِ
ه م َ م ِ طي أعَّز عَل َي ْك ُ ْ ل يا قَوْم ِ أَرهْ ِ زيزٍ {} َقا َ ت عَل َي َْنا ب ِعَ ِ ما أن ْ َ ك وَ َمَنا َ ج ْ ل ََر َ
ط{. حي ٌم ِن ُ مُلو َ ما ت َعْ َن َرّبي ب ِ َم ظ ِهْرِّيا إ ِ ّ موه ُ وََراَءك ُ ْ خذ ْت ُ َُوات ّ َ
]ثم لما رأى عتوهم قال [:
ْ َ
بذا ٌ ن ي َأِتيهِ عَ َ م ْ ن َ مو َ ف ت َعْل ُ سو ْ َ ل َ م ٌعا ِ م إ ِّني َ ُ
كان َت ِك ْم َ مُلوا عََلى َ } وََيا قَوْم ِ اعْ َ
َ
جي َْنا ُ
شعَي ًْبا مُرَنا ن َ ّ جاَء أ ْ ما َ ب {} وَل َ ّ م َرِقي ٌ معَك ُ ْقُبوا إ ِّني َ ب َواْرت َ ِ كاذِ ٌ ن هُوَ َ م ْزيهِ وَ َ خ ِ يُ ْ
مّنا { ]هود . [94 - 91 : مةٍ ِ ح َ
ه ب َِر ْ معَ ُ مُنوا َنآ َ ذي َ ّ
َوال ِ
ظ { ]هود . [58 : ٍ ِ ٍ لي َ غ ب َ
ذا } وَ َ ّ ْ َ ُ ْ ِ ْ َ
ع ن م م ه نا ي ج ن
فأرسل الله عليهم حرا أخذ بأنفاسهم حتى كادوا يختنقون من شدته ،ثم في
أثناء ذلك أرسل سحابة باردة فأظلتهم ،فتنادوا إلى ظلها غير الظليل ،فلما
اجتمعوا فيها التهبت عليهم نارا ،فأحرقتهم وأصبحوا خامدين معذبين
مذمومين ملعونين في جميع الوقات .
* وفي قصة شعيب فوائد متعددة :
) (1/387
منها :أن بخس المكاييل والموازين خصوصا ،وبخس الناس أشياءهم عموما
من أعظم الجرائم الموجبة لعقوبات الدنيا والخرة .
ومنها :أن المعصية الواقعة لمن عدم منه الداعي والحاجة إليها أعظم ،
ولهذا كان الزنا من الشيخ أقبح من الشباب ،والكبر من الفقير أقبح من
الغني ،والسرقة ممن ليس بمحتاج أعظم من وقوعها من المحتاج ؛ لهذا
قال شعيب لقومه :
َ
خي ْرٍ { ]هود . [84 : } إ ِّني أَراك ُ ْ
م بِ َ
أي :بنعم كثيرة ،فأي أمر أحوجكم إلى الهلع إلى ما بأيدي الناس بطرق
محرمة .
ومنها :قوله :
م { ]هود . [86 : خي ٌْر ل َك ُ ْ
ة الل ّهِ َقي ّ ُ
} بَ ِ
فيه الحث على الرضا بما أعطى الله ،والكتفاء بحلله عن حرامه ،وقصر
النظر على الموجود عندك من غير تطلع إلى ما عند الناس .
ومنها :فيه دللة على أن الصلة سبب لفعل الخيرات ،وترك المنكرات ،
كصَلت ُ َ َ
وللنصيحة لعباد الله ،وقد علم ذلك الكفار بما قالوا لشعيب } :أ َ
شاُء إن ّ َ َ َ َ َ تأ ْمر َ َ
م ت ال ْ َ
حِلي ُ ك َلن ْ َ ِ ما ن َ َ
وال َِنا َ
م َ فعَ َ
ل ِفي أ ْ ما ي َعْب ُد ُ آَباؤَُنا أوْ أ ْ
ن نَ ْ ك َ ن ن َت ُْر َ
كأ ْ َ ُ ُ
شيد ُ { ،وقال تعالى : الّر ِ
) (1/388
شاِء َوال ْ ُ
من ْك َرِ { ]العنكبوت . [45 : ح َ ن ال ْ َ
ف ْ ن ال ّ َ
صلة َ ت َن َْهى عَ ِ } إِ ّ
ومن هنا تعرف حكمة الله ورحمته في أنه فرض علينا الصلوات ،تتكرر في
اليوم والليلة لعظم وقعها ،وشدة نفعها ،وجميل آثارها ،فلّله على ذلك أتم
الحمد .
ومنها :أن العبد في حركات بدنه وتصرفاته ،وفي معاملته المالية ،داخل
تحت حجر الشريعة ،فما أبيح له منها فعله ،وما منعه الشرع تعين عليه
تركه ،ومن يزعم أنه في ماله حر له أن يفعل ما يشاء من معاملت طيبة
وخبيثة ،فهو بمنزلة من يرى أن عمل بدنه كذلك ،وأنه ل فرق عنده بين
الكفر واليمان ،والصدق والكذب ،وفعل الخير والشر ،الكل مباح ،ومن
المعلوم أن هذا هو مذهب الباحيين الذين هم شر الخليقة ،ومذهب قوم
شعيب يشبه هذا ؛ لنهم أنكروا على شعيب لما نهاهم عن المعاملت
الظالمة ،وأباح لهم سواها ،فردوا عليه أنهم أحرار في أموالهم ،لهم أن
يفعلوا فيها ما يريدون ،ونظير هذا قول من قال :إنما البيع مثل الربا ،فمن
وى بين ما أباحه وبين ما حرمه الله فقد انحرف في فطرته وعقله بعدما س ّ
انحرف في دينه .
) (1/389
ومنها :أن الناصح للخلق الذي يأمرهم وينهاهم من تمام قبول الناس له :أنه
إذا أمرهم بشيء أن يكون أول الفاعلين له ،وإذا نهاهم عن شيء كان أول
َ ن أُ َ َ ُ
ه{. م عَن ْ ُ ما أن َْهاك ُ ْ م إ َِلى َ فك ُ ْخال ِ َ ما أِريد ُ أ ْالتاركين ؛ لقول شعيب } :وَ َ
ومنها :أن النبياء جميعهم ُبعثوا بالصلح والصلح ،ونهوا عن الشرور
والفساد ،فكل صلح وإصلح ديني ودنيوي فهو من دين النبياء ،وخصوصا
إمامهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ،فإنه أبدا وأعاد في هذا الصل
،ووضع للخلق الصول النافعة التي يجرون عليها في المور العادية والدنيوية
،كما وضع لهم الصول في المور الدينية ،وأنه كما أن على العبد السعي
والجتهاد في فعل الصلح والصلح ،فعليه أن يستمد العون من ربه على
ذلك ،وأن يعلم أنه ل يقدر على ذلك ،ول على تكميله إل بالله ؛ لقول شعيب
}:إ ُ
ت وَإ ِل َي ْ ِ
ه قي إ ِّل ِبالل ّهِ عَل َي ْهِ ت َوَك ّل ْ ُ ما ت َوِْفي ِت وَ َست َط َعْ ُ
ما ا ْ صَل َ
ح َ ن أِريد ُ إ ِّل اْل ِ ْ
ِ ْ
ب{. ُ
أِني ُ
) (1/390
ومنها :أن الداعي إلى الله يحتاج إلى الحلم وحسن الخلق ومقابلة المسيئين
بأقوالهم وأفعالهم بضد ذلك ،وأن ل ُيحبطه أذى الخلق ول يصده عن شيء
من دعوته ،وهذا الخلق كماله للرسل صلوات الله عليهم وسلم ،فانظر إلى
شعيب عليه السلم ،وحسن خلقه مع قومه ،ودعوته لهم بكل طريق وهم
يسمعونه القوال السيئة ،ويقابلونه المقابلة الفعلية ،وهو صلى الله عليه
وسلم يحلم عليهم ويصفح ،ويتكلم معهم كلم من لم يصدر منهم له وفي
خل ُقٌ من ظفر به وحازه فقد فاز حقه إل الحسان ،ويهون هذا المر أن هذا ُ
بالحظ العظيم ،وأن لصاحبه عند الله المقامات العالية والنعيم المقيم ،
ويهونه أنه يعالج أمما قد طبعوا على أخلق إزالتها وقلعها أصعب من قلع
الجبال الرواسي ،ومرنوا على عقائد ومذاهب بذلوا فيها الموال والرواح ،
وقدموها على جميع المهمات عندهم ،أفتظن مع هذا أن أمثال هؤلء
يقتنعون بمجرد القول بأن هذه مذاهب باطلة وأقوال فاسدة ،أم تحسبهم
يغتفرون لمن نالها بسوء ؟ . .كل والله ،إن هؤلء يحتاجون إلى معالجات
متنوعة بالطرق التي دعت إليها الرسل ،يذكرون بنعم الله ،وأن الذي تفرد
بالنعم يتعين أن يفرد بالعبادة ،ويذكر لهم من
) (1/391
) (1/392
) (1/393
فلما ألقته ذات يوم انفلت رباط التابوت ،فذهب الماء بالتابوت الذي في
وسطه موسى ،ومن قدر الله أن وقع في يد آل فرعون ،وجيء به إلى
امرأة فرعون آسية ،فلما رأته أحبته حبا شديدا ،وكان الله قد ألقى عليه
المحبة في القلوب ،وشاع الخبر ووصل إلى فرعون ،فطلبه ليقتله ،فقالت
امرأته :ل تقتلوه . .قرة عين لي ولك ،عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ،فنجا
بهذا السبب من قتلهم ،وكان هذا الثر الطيب والمقدمة الصالحة من السعي
المشكور عند الله ،فكان هذا من أسباب هدايتها وإيمانها بموسى بعد ذلك .
) (1/394
أما أم موسى فإنها فزعت ،وأصبح فؤادها فارغا ،وكاد الصبر أن يغلب فيها ،
إن كادت لتبدي به لول أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ،وقالت
لخته :قصيه وتحسسي عنه ،وكانت امرأة فرعون قد عرضت عليه
المراضع فلم يقبل ثدي امرأة ،وعطش وجعل يتلوى من الجوع ،وأخرجوه
إلى الطريق ؛ لعل الله أن ييسر له أحدا ،فحانت من أخته نظرة إليه ،
وبصرت به عن جنب وهم ل يشعرون بشأنها ،فلما أقبلت عليه وفهمت منهم
أنهم يطلبون له مرضعا قالت لهم :هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم
وهم له ناصحون ،فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ول تحزن ،ثم ذكر الله في
هذه السورة قصة مفصلة واضحة ،وكيف تنقلت به الحوال ،قراءتها كافية
صل لنا إل ما ننتفع به
عن شرح معناها لوضوحها وتفصيلتها ،والله تعالى ما ف ّ
ونعتبر ،ولكن في قصته من العبر والفوائد شيء كثير ننبه على بعضها .
* ذكر الفوائد المستنبطة نصا أو ظاهرا أو تعميما أو تعليل من قصة موسى
صلى الله عليه وسلم :
) (1/395
منها :لطف الله بأم موسى بذلك اللهام الذي به سلم ابنها ،ثم تلك البشارة
من الله لها برده إليها ،التي لولها لقضى عليها الحزن على ولدها ،ثم رده
إليها بإلجائه إليها قدرا بتحريم المراضع عليه ،وبذلك وغيره يعلم أن ألطاف
الله على أوليائه ل تتصورها العقول ،ول تعبر عنها العبارات ،وتأمل موقع
هذه البشارة ،وأنه أتاها ابنها ترضعه جهرا ،وتأخذ عليه أجرا ،وتسمى أمه
شرعا وقدرا ،وبذلك اطمأن قلبها ،وازداد إيمانها ،وفي هذا مصداق لقوله
تعالى :
م { ]البقرة . [216 : ُ َ ً هوا َ ْ َ
خي ٌْر لك ْ
شي ْئا وَهُوَ َ ن ت َكَر ُ
سى أ ْ
} وَعَ َ
فل أكره لم موسى من وقوع ابنها بيد آل فرعون ،ومع ذلك ظهرت عواقبه
الحميدة ،وآثاره الطيبة .
ومنها :أن آيات الله وعبره في المم السابقة إنما يستفيد منها ،ويستنير بها
المؤمنون ،والله يسوق القصص لجلهم ،كما قال تعالى في هذه القصة :
ن { ]القصص . [3 : قوْم ٍ ي ُؤْ ِ
مُنو َ ن ِبال ْ َ
حق ّ ل ِ َ سى وَفِْرعَوْ َ
مو َن ن َب َإ ِ ُ
م ْ } ن َت ُْلوا عَل َي ْ َ
ك ِ
ومنها :أن الله إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ،وأتى به شيئا فشيئا بالتدريج ل دفعة
واحدة .
) (1/396
ومنها :أن المة المستضعفة ،ولو بلغت في الضعف ما بلغت ،ل ينبغي أن
يستولي عليها الكسل عن السعي في حقوقها ،ول اليأس من الرتقاء إلى
أعلى المور ،خصوصا إذا كانوا مظلومين ،كما استنقذ الله بني إسرائيل
على ضعفها واستبعادها لفرعون وملئه منهم ،ومكنهم في الرض ،وملكهم
بلدهم .
ومنها :أن المة ما دامت ذليلة مقهورة ل تطالب بحقها ل يقوم لها أمر دينها
كما ل يقوم لها أمر دنياها .
ومنها :أن الخوف الطبيعي من الخلق ل ينافي اليمان ول يزيله ،كما جرى
لم موسى ولموسى من تلك المخاوف .
ومنها :أن اليمان يزيد وينقص لقوله :
ن { ]القصص . [10 : مِني َ ن ال ْ ُ
مؤ ْ ِ م َ
ن ِ } ل ِت َ ُ
كو َ
والمراد باليمان هنا زيادته وزيادة طمأنينته .
ومنها :أن من أعظم نعم الله على العبد تثبيت الله له عند المقلقات
والمخاوف ،فإنه كما يزداد به إيمانه وثوابه فإنه يتمكن من القول الصواب
والفعل الصواب ،ويبقى رأيه وأفكاره ثابتة ،وأما من لم يحصل له هذا
الثبات ،فإنه لقلقه وروعه يضيع فكره ،ويذهل عقله ،ول ينتفع بنفسه في
تلك الحال .
) (1/397
ومنها :أن العبد وإن عرف أن القضاء والقدر حق ،وأن وعد الله نافذ ل بد
منه ،فإنه ل يهمل فعل السباب التي تنفع ،فإن السباب والسعي فيها من
قدر الله ،فإن الله قد وعد أم موسى أن يرده عليها ،ومع ذلك لما التقطه
آل فرعون سعت بالسباب ،وأرسلت أخته لتقصه ،وتعمل السباب
المناسبة لتلك الحال .
ومنها :جواز خروج المرأة في حوائجها وتكليمها للرجال إذا انتفى المحذور ،
كما صنعت أخت موسى وابنتا صاحب مدين .
ومنها :جواز أخذ الجرة على الكفالة والرضاع ،كما فعلت أم موسى ،فإن
شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد من شرعنا ما ينسخه .
ومنها :أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد أو عرف ل يجوز ،فإن موسى ندم
على قتله القبطي ،واستغفر الله منه وتاب إليه .
ومنها :أن الذي يقتل النفوس بغير حق يعد من الجبارين المفسدين في
الرض ،ولو كان غرضه من ذلك الرهاب ،ولو زعم أنه مصلح حتى يرد
الشرع بما يبيح قتل النفس .
ومنها :أن إخبار الغير بما قيل فيه وعنه على وجه التحذير له من شر يقع به
ل يكون نميمة ،بل قد يكون واجبا ،كما ساق الله خبر ذلك الرجل الذي جاء
ذرا لموسى على وجه الثناء عليه .من أقصى المدينة يسعى مح ّ
) (1/398
ومنها :إذا خاف التلف بالقتل بغير حق في إقامته في موضع ،فل يلقي بيده
إلى التهلكة ويستسلم للهلك ،بل يفّر من ذلك الموضع مع القدرة كما فعل
موسى .
ومنها :إذا كان ل بد من ارتكاب إحدى مفسدتين تعين ارتكاب الخف منهما ،
السلم دفعا لما هو أعظم وأخطر ،فإن موسى لما دار المر بين بقائه في
مصر ولكنه يقتل ،أو ذهابه إلى بعض البلدان البعيدة التي ل يعرف الطريق
إليها ،وليس معه دليل يدله غير هداية ربه ،ومعلوم أنها أرجى للسلمة ،ل
جرم آثرها موسى .
ومنها :فيه تنبيه لطيف على أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى العمل أو
التكلم به ،إذا لم يترجح عنده أحد القولين ،فإنه يستهدي ربه ،ويسأله أن
يهديه إلى الصواب من القولين بعد أن يقصد الحق بقلبه ويبحث عنه ،فإن
الله ل يخيب من هذه حاله ،كما جرى لموسى لما قصد تلقاء مدين ول يدري
الطريق المعين إليها قال :
ل { ]القصص . [22 : َ
سِبي ِ
واَء ال ّ
س َ
ن ي َهْدِي َِني َ
سى َرّبي أ ْ} عَ َ
وقد هداه الله وأعطاه ما رجاه وتمناه .
) (1/399
ومنها :أن الرحمة والحسان على الخلق ،من عرفه العبد ومن ل يعرفه ،
من أخلق النبياء ،وأن من جملة الحسان العانة على سقي الماشية ،
وخصوصا إعانة العاجز ،كما فعل موسى مع ابنتي صاحب مدين حين سقى
لهما لما رآهما عاجزتين عن سقي ماشيتهما قبل صدور الرعاة .
ومنها :أن الله كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته ،ونعمه
العامة والخاصة ،فإنه يحب منه أن يتوسل إليه بضعفه وعجزه وفقره ،
وعدم قدرته على تحصيل مصالحه ،ودفع الضرار عن نفسه كما قال موسى
:
َ ْ َ
خي ْرٍ فَ ِ
قيٌر { ]القصص . [24 : ن َ
م ْ
ي ِ
ت إ ِل ّ
ما أن َْزل َ
ب إ ِّني ل ِ َ
} َر ّ
لما في ذلك من إظهار التضرع والمسكنة ،والفتقار لله الذي هو حقيقة كل
عبد .
ومنها :أن الحياء والمكافأة على الحسان لم يزل دأب المم الصالحين .
ومنها :أن العبد إذا عمل العمل لله خالصا ،ثم حصل به مكافأة عليه بغير
قصده فإنه ل يلم على ذلك ،ول يخل بإخلصه وأجره ،كما قبل موسى
مكافأة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يطلبه ،ولم يستشرف له على
معاوضة .
) (1/400
ومنها :جواز الجارة على كل عمل معلوم في نفع معلوم أو زمن مسمى ،
وأن مرد ذلك إلى العرف ،وأنه تجوز الجارة وتكون المنفعة البضع ،كما
قال صاحب مدين :
ن { ]القصص . [27 : َ } إني أ ُريد أ َ ُ
هات َي ْ ِ
ي َ دى اب ْن َت َ ّ ح َ
حك إ ِ ْ ن أن ْك ِ َ
ِ ُ ْ ِّ
وأنه يجوز للنسان أن يخطب الرجل لبنته ،ونحوها ممن هو ولي عليها ول
نقص في ذلك ،بل قد يكون نفعا وكمال ،كما فعل صاحب مدين مع
موسى .
ومنها قوله :
ْ
ن { ]القصص . [26 : مي ُ قوِيّ اْل َ ِ ت ال ْ َ جْر َ ست َأ َنا ْ م ِخي َْر َ
ن َ
} إِ ّ
هذان الوصفان بهما تمام العمال كلها ،فكل عمل من الوليات أو من
الخدمات أو من الصناعات ،أو من العمال التي القصد منها الحفظ
والمراقبة على العمال والعمال إذا جمع النسان الوصفين ،أن يكون قويا
على ذلك العمل بحسب أحوال العمال ،وأن يكون مؤتمنا عليه ،تم ذلك
العمل وحصل مقصوده وثمرته ،والخلل والنقص سببه الخلل بهما أو
بأحدهما .
ومنها :من أعظم مكارم الخلق تحسين الخلق مع كل من يتصل بك من
خادم وأجير وزوجة وولد ومعامل وغيرهم ،ومن ذلك تخفيف العمل عن
العامل لقوله :
) (1/401
) (1/402
ومنها :اليات البينات التي أّيد الله بها موسى من انقلب عصاه التي كان
يعرفها :
سَعى { ]طه . [20 :ة تَ ْ
حي ّ ٌ
} َ
ثم عودها سيرتها الولى ،وأن يده إذا أدخلها في جيبه ثم أخرجها صارت
بيضاء من غير سوء للناظرين ،ومن رحمة الله وحمايته لموسى وهارون من
فرعون وملئه ،ومن انفلق البحر لما ضربه موسى بعصاه فصار اثني عشر
طريقا ،وسلكه هؤلء فنجوا ،وقوم فرعون فهلكوا ،وغير ذلك من اليات
المتتابعات التي هي براهين وآيات لمن رآها وشاهدها ،وبراهين لمن
سمعها ،فإنها نقلتها معظم مصادر اليقين الكتب السماوية ،ونقلتها القرون
كلها ،ولم ينكر مثل هذه اليات إل جاهل مكابر زنديق ،وجميع آيات النبياء
بهذه المثابة .
) (1/403
ومنها :أن آيات النبياء ،وكرامات الولياء ،وما يخرقه الله من اليات ،ومن
تغيير السباب ،أو منع سببيتها ،أو احتياجها إلى أسباب أخر ،أو وجود موانع
تعوقها هي من البراهين العظيمة على وحدانية الله ،وأنه على كل شيء
قدير ،وأن أقدار الله ل يخرج عنها حادث جليل ول حقير ،وأن هذه
المعجزات والكرامات والتغييرات ل تنافي ما جعل الله في هذه المخلوقات
من السباب المحسوسة والنظامات المعهودة ،وإنك ل تجد لسنة الله تبديل
ول تحويل ; فإن سنن الله في جميع الحوادث السابقة واللحقة قسمان :
) (1/404
) (1/405
والقسم الثاني :حوادث معجزات النبياء التي تواترت تواترا ل يتواتر مثله
في جميع الخبار ،وتناقلتها القرون كلها ،وكذلك ما يكرم الله به عباده من
إجابة الدعوات ،وتفريج الكربات ،وحصول المطالب المتنوعة ،ودفع
المكاره التي ل قدرة للعبد على دفعها ،والفتوحات الربانية ،واللهامات
اللهية ،والنوار التي يقذفها الله في قلوب خواص خلقه ،فيحصل لهم بذلك
من اليقين والطمأنينة والعلوم المتنوعة ما ل يدرك بمجرد الطلب وفعل
السبب ،ومن نصره للرسل وأتباعهم ،وخذلنه لعدائهم وهو مشاهد في
كثير من الوقات :فهذا القسم ليس عند الخلق اهتداء إلى أسباب هذه
الحوادث ،ول جعل لهم في الصل وصول إلى حقيقتها وكنهها ،وإنما هي
حوادث قدرها الرب العظيم الذي هو على كل شيء قدير بأسباب وحكم
وسنن ل يعقلها الخلق ،ول لحواسهم وتجاربهم وصول إليها بوجه من
الوجوه ،وبها آمن الرسل من أولهم إلى آخرهم ،وأتباعهم الولون منهم
والخرون ،وبها يعرف عظمة الباري ،وأن نواصي العباد بيده ،وأنه ما شاء
الله كان وما لم يشأ لم يكن ،ويعرف بذلك صحة ما جاءت به الرسل ،كما
يعرف أيضا بالقسم الول ،وكما أنه ل سبيل إلى العباد في هذه
) (1/406
الدار إلى إدراك كنه صفات اليوم الخر ،وكنه ما في الجنة والنار ،وإنما
يعلمون منها ما علمتهم به الرسل ،ونزلت به الكتب ،ول سبيل إلى أهل هذا
الكون الرضي للوصول إلى العالم السماوي ،ول سبيل لهم إلى إحياء
الموتى وإيجاد الرواح في الجمادات ،فكذلك هذا النوع العظيم من حوادث
الكون ،وإنما أطلنا الكلم على هذه المسألة ،وإن كانت تستحق من البسط
أكثر من هذا ؛ لمرين :
) (1/407
* الول :أن الزنادقة المتأخرين الذين أنكروا وجود الباري ،وأنكروا جميع ما
أخبرت به الرسل والكتب السماوية من أمور الغيب ،ولم يثبتوا من العلوم
إل ما وصلت إليه حواسهم وتجاربهم القاصرة على بعض علوم الكون ،
وأنكروا ما سوى ذلك ،وزعموا أن هذا العالم وهذا النظام الموجود فيه ل
يمكن أن يغيره مغير ،أو يغير شيئا من أسبابه ،وأنه وجد صدفة من غير
إيجاد موجد ،وأنه آلة تمشي بنفسها وطبيعتها ،ليس لها مدبر ول رب ول
خالق ،وهؤلء جميع أهل الديان يعرفون مكابرتهم ومباهتتهم ؛ لنهم كما
عدموا الدين بالكلية فقد اختلت عقولهم الحقيقة ،إذ أنكروا أجلى الحقائق
وأوضحها ،وأعظمها براهين وآيات ،وتاهوا بعقولهم القاصرة وآرائهم
الفاسدة ،هؤلء أمرهم معلوم ولكن .
) (1/408
* المر الثاني :أن بعض أهل العلم العصريين الذين يتظاهرون بنصر
السلم ،والدخول مع هؤلء الزنادقة في الجدال عنه يريدون باجتهادهم أو
اغترارهم أن يطبقوا السنن اللهية وأمور الخرة على ما يعرفه العباد
بحواسهم ،ويدركونه بتجاربهم ،فحرفوا لذلك المعجزات ،وأنكروا اليات
البينات ،ولم يستفيدوا إل الضرر على أنفسهم ،وعلى من قرأ كتاباتهم في
هذه المباحث ؛ إذ ضعف إيمانهم بالله بتحريفهم لمعجزات النبياء تحريفا
يؤول إلى إنكارها ،وإنكارهم هذا النوع العظيم من قضاء الله وقدره ،
وضعف إيمان من وقف على كلمهم ممن ليست له بصيرة ،ول عنده من
العلوم الدينية ما يبطل هذا النوع ،ولم يحصل ما زعموه من جلب الماديين
إلى الهدى والدين ،بل زادوهم إغراء في مذاهبهم ،لما رأوا أمثال هؤلء
يحاولون إرجاع النصوص الدينية ،ومعجزات النبياء ،وأمور الغيب إلى علوم
هؤلء القاصرة على التجارب المدركات بالحواس ،فيا عظم المصيبة ،ويا
شدة الجرم المزوق ،ولكن ضعف البصيرة والعجاب بزنادقة الدهريين
أوجب الخضوع لقوالهم ،فل حول ول قوة إل بالله .
) (1/409
ومنها :أن من أعظم العقوبات على العبد أن يكون إماما في الشر وداعيا
إليه ،كما أن من أعظم نعم الله على العبد أن يجعله إماما في الخير هاديا
مَلئه : مهديا ،قال تعالى في فرعون وَ َ
ن إ َِلى الّنارِ { ]القصص . [41 : } وجعل ْناهُ َ
عو َ ة ي َد ْ ُ م ً
م أئ ِ ّ َ َ َ َ ْ
مرَِنا { ]النبياء . [73 : َ َ ْ
ن ب ِأ ْ دو َ ة ي َهْ ُم ًم أئ ِ ّ جعَلَناهُ ْ وقال } :وَ َ
ومنها :ما في هذه القصة من الدللة على رسالة محمد صلى الله عليه
صل مطابقا وتأصيل موافقا ،قصه وسلم إذ أخبر بهذه القصة وغيرها خبرا مف ّ
صا صدق به المرسلين ،وأيد به الحق المبين ،وهو لم يحضر في شيء من ق ّ
تلك المواضع ،ول درس شيئا عرف به أحوال هذه التفصيلت ،ول جالس
وأخذ عن أحد من أهل العلم ،إن هو إل رسالة الرحمن الرحيم ،ووحي أنزله
عليه الكريم المنان ينذر به العباد أجمعين ،ولهذا يقول في آخر هذه القصة :
طورِ { ]القصص . [46 : ب ال ّ جان ِ ِ ت بِ َ ما ك ُن ْ َ} وَ َ
َ ْ َ ْ
مَر { ]القصص . [44 : سى ال ْمو َضي َْنا إ ِلى ُي إ ِذ ْ قَ َ ب الغَْرب ِ ّ جان ِ ِ ت بِ َ ما ك ُن ْ َ} وَ َ
َ ُ
ن { ]القصص . [45 : مد ْي َ َل َ ت َثاوًِيا ِفي أهْ ِ ما كن ْ َ } وَ َ
وهذا نوع من أنواع براهين رسالته .
) (1/410
ومنها :ذكر كثير من أهل العلم أنه يستفاد من قوله تعالى عن جواب موسى
لربه لما سأله عن العصا فقال :
َ
ش ب َِها عَلى َ َ ُ ّ َ َ َ مين ِ َ ما ت ِل ْ َ
صايَ أت َوَكأ عَلي َْها وَأهُ ّ ي عَ َسى {} قال هِ َ مو َ
ك يا ُ ك ب ِي َ ِ } وَ َ
مي { ]طه . [18 - 17 : غَن َ ِ
ب استصحاب العصا لما فيه من هذه المنافع المعينة والمجملة في استحبا ُ
خَرى { ]طه . [18 : ُ
بأ ْ مآرِ ُ قوله َ } :
وأنه يستفاد منها أيضا الرحمة بالبهائم ،والحسان إليها ،والسعي في إزالة
َ
ري { ]طه [14 :أي صَلة َ ل ِذِك ْ ِ ل ذكره } :وَأقِم ِ ال ّ ضررها ،ومنها :أن قوله ج ّ
خلق له العبد ،وبه صلحه وفلحه ،وأن المقصود أن ذكر العبد لربه هو الذي ُ
من إقامة الصلة إقامة هذا المقصود العظم ،ولول الصلة التي تتكرر على
كرهم بالله ،ويتعاهدون فيها قراءة القرآن ، المؤمنين في اليوم والليلة لتذ ّ
والثناء على الله ،ودعائه والخضوع له الذي هو روح الذكر ،لول هذه النعمة
لكانوا من الغافلين .
) (1/411
وكما أن الذكر هو الذي خلق الخلق لجله ،والعبادات كلها ذكر لله ،فكذلك
قت ،ويهون عليه الوقوف بين الذكر يعين العبد على القيام بالطاعات وإن َ
ش ّ
يدي الجبابرة ،ويخفف عليه الدعوة إلى الله ،قال تعالى في هذه القصة :
ك ك َِثيًرا { ]طه 33 :و . [34 ك ك َِثيًرا {} وَن َذ ْك َُر َح َ سب ّ َ } كَ ْ
ي نُ َ
َ َ َ
ري { ]طه . [42 : ك ِبآَياِتي وَل ت َن َِيا ِفي ذِك ْ ِ خو َ ت وَأ ُ وقال } :اذ ْهَ ْ
ب أن ْ َ
ومنها :إحسان موسى صلى الله عليه وسلم على أخيه هارون ،إذ طلب من
ربه أن يكون نبيا معه ،وطلب المعاونة على الخير والمساعدة عليه إذ قال :
شرِك ْ ُ
ه شد ُد ْ ب ِهِ أ َْزِري {} وَأ َ ْ ن أَ ِ
خي {} ا ْ ن أ َهِْلي {} َ
هاُرو َ م ْ جعَ ْ
ل ِلي وَِزيًرا ِ } َوا ْ
ري { ]طه . [32 - 29 : َ
م ِ
ِفي أ ْ
ومنها :أن الفصاحة والبيان مما يعين على التعليم ،وعلى إقامة الدعوة ،
لهذا طلب موسى من ربه أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله ،وأن اللثغة
ل عيب فيها إذا حصل الفهم للكلم ،ومن كمال أدب موسى مع ربه أنه لم
يسأل زوال اللثغة كلها ،بل سأل إزالة ما يحصل به المقصود .
) (1/412
ومنها :أن الذي ينبغي في مخاطبة الملوك والرؤساء ودعوتهم وموعظتهم :
الرفق والكلم اللين الذي يحصل به الفهام بل تشويش ول غلظة ،وهذا
يحتاج إليه في كل مقام ،لكن هذا أهم المواضع ؛ وذلك لنه الذي يحصل به
الغرض المقصود ،وهو قوله :
شى { ]طه . [44 : خ َ ه ي َت َذ َك ُّر أ َوْ ي َ ْ} ل َعَل ّ ُ
ومنها :أن من كان في طاعة الله ،مستعينا بالله ،واثقا بوعد الله ،راجيا
ثواب الله ،فإن الله معه ،ومن كان الله معه فل خوف عليه ،لقوله تعالى :
معُ وَأ ََرى { ]طه . [46 :
س َ
خاَفا { ]ثم علله بقوله[ } إنِني معك ُ َ
ما أ ْ َ َ َ ِّ ل َل ت َ َ } َقا َ
معََنا { ]التوبة . [40 : ن الل ّ َ
ه َ ن إِ ّ حَز ْ حب ِهِ َل ت َ ْصا ِل لِ َ قو ُوقال تعالى } :إ ِذ ْ ي َ ُ
ومنها :أن أسباب العذاب منحصرة في هذين الوصفين :
ب وَت َوَّلى { ]طه . [48 : َ } إ ِّنا قَد ْ ُأو ِ
ن ك َذ ّ َم ْ ب عََلى َ ذا َن ال ْعَ َ
ي إ ِل َي َْنا أ ّ ح َ
أي :كذب خبر الله وخبر رسله ،وتولى عن طاعة الله وطاعة رسله ،
ونظيرها قوله تعالى :
ب وَت َوَلى { ]الليل 15 :و . [16ّ َ
ذي كذ ّ َ ّ
قى {} ال ِ ها إ ِّل اْل َ ْ
ش َ صَل َ } َل ي َ ْ
) (1/413
) (1/414
* الرابع :الستمرار على اليمان والهداية والزدياد منها ،فمن كمل هذه
السباب الربعة فَل ْي ُْبشر بمغفرة الله العامة الشاملة ؛ ولهذا أتى فيه بوصف
فاٌر { ،ولنكتف من قصة موسى بهذه الفوائد ،مع المبالغة فقال } :وَإ ِّني ل َغَ ّ
أن فيها فوائد كثيرة للمتأملين .
) (1/415
) (1/416
أي :المغلوبين في القرعة ،فألقوا فابتلعه حوت في البحر ابتلعا ،لم يكسر
له عظما ،ولم يمضغ له لحما .
فلما صار في جوف الحوت في تلك الظلمات نادى :
ن ال ّ َ
ن { ]النبياء . [87 :
مي َ
ظال ِ ِ م َ ك إ ِّني ك ُن ْ ُ
ت ِ حان َ َ
سب ْ َ
ت ُ ه إ ِّل أن ْ َ
} َل إ ِل َ َ
فأمر الله الحوت أن تلقيه بالعراء ،فخرج من بطنها كالفرخ الممعوط من
البيضة في غاية الضعف والوهن ،فلطف الله به ،وأنبت عليه شجرة من
يقطين ،فأظلته بظلها الظليل حتى قوي واشتد ،وأمره الله أن يرجع إلى
قومه فيعلمهم ويدعوهم ،فاستجاب له أهل بلده مائة ألف أو يزيدون ،
فآمنوا فمتعناهم إلى حين .
وفي هذه القصة عتاب الله ليونس صلى الله عليه وسلم اللطيف ،وحبسه
في بطن الحوت ؛ ليكون كفارة وآية عظيمة وكرامة ليونس ،ومن نعمة الله
عليه أنه استجاب له هذا العدد الكثير من قومه ،فكثرة أتباع النبياء من
جملة فضائلهم .
) (1/417
وفيها استعمال القرعة عند الشتباه في مسائل الستحقاق والحرمان إذا لم
يكن مرجح سواها ،وفي عمل أهل السفينة هذا العمل دليل على القاعدة
المشهورة أنه يرتكب أخف الضررين لدفع الضرر الذي هو أكبر منه ،ول ريب
أن إلقاء بعضهم وإن كان فيه ضرر ،فعطب الجميع إذا لم يلق أحد أعظم .
وفيها أن العبد إذا كانت له مقدمة خاصة مع ربه وقد تعرف إلى ربه في حال
الرخاء ،أن الله يشكر له ذلك ،ويعرفه في حال الشدة بكشفها بالكلية أو
تخفيفها ،ولهذا قال في قصة يونس :
َ ْ ن {} ل َل َب ِ َ َ
ن{ ث ِفي ب َطن ِهِ إ ِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ حي َسب ّ ِ
م َن ال ْ ُ م َ ن ِ ه َ
كا َ } فَل َوَْل أن ّ ُ
]الصافات 143 :و . [144
وفيها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم » :دعوة أخي ذي النون ما دعا بها
َ
ن
م َت ِ ك إ ِّني ك ُن ْ ُ
حان َ َ سب ْ َ
ت ُه إ ِّل أن ْ َ مكروب إل فرج الله عنه َ } :ل إ ِل َ َ
ن {« . مي َ ال ّ
ظال ِ ِ
وفيها أن اليمان ينجي من الهوال والشدائد لقوله تعالى :
ن { ]النبياء . [88 : مِني َمؤ ْ ِجي ال ْ ُ ك ن ُن ْ ِ } وَك َذ َل ِ َ
أي :إذا وقعوا فيها ليمانهم .
) (1/418
) (1/419
فوصفه بالقوة العظيمة على ما أمر الله ،وبأنه أواب لكمال معرفته بالله .
خر له الطير والجبال تسّبح الله معه ،وكان قد ُأعطي وكان الله تعالى قد س ّ
من حسن الصوت ورخامته ما لم يؤت أحد من العالمين ،وكان ينام نصف
الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ،ويصوم يوما ويفطر يوما ،وكان إذا لقى
العدو رأى الخلق من شجاعته ما يعجب الناظرين ،وقد ألن الله له الحديد ،
وعّلمه صنعة الدروع الواقية في الحروب ،وهو أول من صنع الدروع السردية
ذوات الحلق التي يحصل فيها الوقاية وهي خفيفة المحمل ،وقد عاتبه الله
بسبب ذنب أذنبه بأن أرسل إليه ملكين بصورة خصمين ،فدخل عليه وهو في
محرابه ففزع منهما ; لنهما دخل عليه في وقت ل يدخل عليه فيه أحد ،
وتسورا المحراب وقال :
شط ِ ْ
ط حقّ وََل ت ُ ْ
م ب َي ْن ََنا ِبال ْ َ
حك ُ ْ
ض َفا ْ َ } َل ت َ َ
ضَنا عَلى ب َعْ ٍ
ن ب ََغى ب َعْ ُ
ما ِ
ص َخ ْ
ف َ
خ ْ
ط { ]ص . [22 : صَرا ِ واِء ال ّ َواهْدَِنا إ َِلى َ
س َ
) (1/420
ثم قص عليه أحدهما القصة فقال :إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة -
والمراد بها المرأة -ولي نعجة واحدة ،فقال َ :أكفلنيها ،وعزني في الخطاب
،أي :صار خطابه أقوى مني فغلبني ،فقال داود عليه السلم :لقد ظلمك
بسؤال نعجتك إلى نعاجه ،وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض
إل الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ،وعلم داود أنه هو المراد
بهذه القضية فانتبه لذلك :
َ َ َ
َ
ه ذ َل ِك وَإ ِ ّ
ن فْرَنا ل ُ َ
ب {} فغَ َ خّر َراك ًِعا وَأَنا َ ه وَ َفَر َرب ّ ُ
ست َغْ َما فَت َّناه ُ َفا ْ ن َداوُد ُ أن ّ َ } وَظ َ ّ
ب { ]ص 24 :و . [25 مآ ٍ ن َ س َ ح ْ فى وَ ُ عن ْد ََنا ل َُزل ْ َ
ه ِ لَ ُ
فمحا الله عنه الذنب ،وعاد به بعد التوبة أحسن مما كان قبل ذلك :حصل
له القرب العظيم من ربه وحسن العاقبة ،وقال الله له :
َْ
وى حقّ وََل ت َت ّب ِِع ال ْهَ َ س ِبال ْ َن الّنا ِ حك ُ ْ
م ب َي ْ َ ض َفا ْ ة ِفي الْر ِ ف ً
خِلي َك َ جعَل َْنا َ } يا َداوُد ُ إ ِّنا َ
ل اللهِ { ]ص . [26 : ّ سِبي ِ ن َ ك عَ ْ ضل ّ َ فَي ُ ِ
) (1/421
وأما سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم فإن الله أعطاه النبوة وورث أباه
كه ،وزاده الله ملكا عظيما لم يحصل لحد قبله ول بعده : مه ونبوته ومل َ :عل َ
خر الله له الريح تجري بأمره وتدبيره برخاء ،أي :بسهولة حيث أراد ، س ّ
غدوها شهر ورواحها شهر ،وسخر الله له الجن والشياطين والعفاريت
يعملون له العمال الفخمة بحسب إرادته ،يعملون له ما يشاء من محاريب
وتماثيل وجفان كالجواب ،وقدور راسيات ،وتذهب وتجيء بأمره إلى حيث
أراد ،وسخر له من الجنود من النس والجن والطير ،فهم يوزعون بتدبير
عجيب ونظام غريب ،وعّلمه منطق الطير وسائر الحيوانات ،فكانت تخاطبه
ويفهم ما تكلم به ،ولهذا خاطب الهدهد وراجعه تلك المراجعة ،وسمع النملة
إذ نادت في قومها :
م لَ َ َ َ
جُنود ُه ُ وَهُ ْ
ن وَ ُ
ما ُ
سلي ْ َ من ّك ُ ْ
م ُ حط ِ َ ساك ِن َك ُ ْ
م ل يَ ْ خُلوا َ
م َ م ُ
ل اد ْ ُ } يا أي َّها الن ّ ْ
ن { ]النمل . [18 : شعُُرو َ يَ ْ
فحذرت وأمرت بما يقي من الخطر ،واعتذرت عن سليمان وجنوده ; فلهذا
ابتسم سليمان ضاحكا من قولها وقال :
) (1/422
ك ال ِّتي أ َنعمت عَل َي وعََلى وال ِدي وأ َ َ ن أَ ْ َ َ
لم َ
ن أع ْ َ َ َ ّ َ ْ ّ َ َْ ْ َ شك َُر ن ِعْ َ
مت َ َ ب أوْزِعِْني أ ْ } َر ّ
ن { ]النمل . [19 : َ َ ْ َ
حي َصال ِ ِ
عَبادِك ال ّ
مت ِك ِفي ِ ح َخلِني ب َِر ْ ضاه ُ وَأد ْ ِ حا ت َْر َصال ِ ً
َ
ومن حسن نظامه وحزمه أنه يتفقد الجنود بنفسه ،مع أنه قد جعل لهم
ن { ]النمل [83 :دليل على ذلك ،حتى عو َ
م ُيوَز ُ مدبرين ،فإن قوله } :فَهُ ْ
َ
ي َل أَرى ما ل ِ َ
أنه تفقد الطيور لينظر هل هي لزمة لمراكزها ،فقال َ } :
َ
ن { ]النمل . [20 : ن ال َْغائ ِِبي َم َ ن ِ كا َ م َ ال ْهُد ْهُد َ أ ْ
وليس المر كما يقول كثير من المفسرين أنه طلبه لينظر له الرض وبعد
مائها ،فإن هذا خلف اللفظ القرآني ،فإن الله لم يقل وطلب الهدهد ،بل
قد َ الط ّي َْر { ]النمل . [20 : ف ّوقال } :وَت َ َ
ثم توعده لمخالفته لمره ،ولما كان ملكه مبنيا على كمال العدل استثنى
فقال :
) (1/423
) (1/424
حده ،وتحب هذا من الدلة على أن الحيوانات تعرف ربها وتسّبحه وتو ّ
المؤمنين وتدين لربها بذلك ،وتبغض الكفار المكذبين ،وتدين بذلك ،فقال
له سليمان :
َ َ َ
مم ثُ ّقهِ إ ِل َي ْهِ ْ
ذا فَأل ْ ِ ب ب ِك َِتاِبي هَ َن {} اذ ْهَ ْ كاذِِبي َن ال ْ َ
م َ ت ِ م ك ُن ْ َ تأ ْ سن َن ْظ ُُر أ َ
صد َقْ َ } َ
ن { ]النمل 27 :و . [28 جُعو َ ماَذا ي َْر ِ م َفان ْظ ُْر َ ل عَن ْهُ ْ ت َوَ ّ
فذهب بالكتاب فألقاه في حجر المرأة :ملكة سبأ ،فلما قرأته عظمته جدا ،
وُأرعبت منه فزعا ،وجمعت رؤساء قومها فقالت :
ُ َ
سم ِ الل ّ ِ
ه ه بِ ْ ن وَإ ِن ّ ُما َسل َي ْ َ
ن ُم ْه ِ م {} إ ِن ّ ُ ب كَْ ِ
ري ٌ ي ك َِتا ٌي إ ِل َ ّق َ مَل ُ إ ِّني أل ْ ِ } يا أي َّها ال ْ َ
َ
ن { ]النمل . [31 - 29 : مي َسل ِ ِ م ْي وَأُتوِني ُ حيم ِ {} أّل ت َعُْلوا عَل َ ّ ن الّر ِ م ِ ح َ الّر ْ
كتاب مختصر جامع فيه المقصود كله ،قالت :
َ } يا أ َيها ال ْ ُ َ
ري { ]النمل . [32 : مَل أفُْتوِني ِفي أ ْ
م ِ َ َّ
ي ،وهذا من حزمها وحسن تدبيرها استعملت المشورة مع أي :أشيروا عل ّ
رؤساء قومها .
) (1/425
ُ ُ ْ ح ُ ُ ُ } ما ك ُنت َقاطع ً َ
سن أولو قُوّةٍ وَأولو ب َأ ٍ ن {} َقاُلوا ن َ ْ دو ِ شهَ ُ حّتى ت َ ْ مًرا َ ةأ ْ ِ َ ْ ُ َ
ن { ]النمل 32 :و . [33 ري م ْ أ ت ذاَ ما ري ُ ظ ن فاَ ك يَ ل إ ر م َ لْ وا د دي َ
ِ َ ُ َ َ ِ ْ ِ ْ ُ ِ ْ َ ٍ ش ِ
أي :مستعدون لما تقولين حربا وسلما ،وأرجعنا المر إلى ما تختارين ،فمن
عزمها وحزمها وبعد نظرها عدلت عن الحرب ،واختارت السلم لكن بصورة
حازمة ،فقالت :سأهدي له هدية حاضرة :
ن { ]النمل . [35 : سُلو َمْر َ جعُ ال ْ ُ م ي َْر ِ } فََناظ َِرةٌ ب ِ َ
إن كان من الملوك الذي ليس لهم هم إل الدنيا فربما أن الهدية كسرت
سورته ،وفّلت عزيمته ،وسالمنا وسالمناه من بعيد ،وإن كان غير ذلك بان
لنا المر .
فأرسلت أناسا ذوي عقل وحزم وخبرة ومعرفة ،فلما جاءوا لسليمان بالهدية
قال :
َ ّ َ
ن{ حو َ
فَر ُ م ب ِهَدِي ّت ِك ُ ْ
م تَ ْ م بَ ْ
ل أن ْت ُ ْ ما آَتاك ُ ْ
م ّخي ٌْر ِ ه َ ي الل ُ ما آَتان ِ َ ل فَ َ ما ٍ دون َِني ب ِ َ م ّ } أت ُ ِ
]النمل . [36 :
فبين لهم أنه ل غرض له في الدنيا ،وإنما غرضه إقامة الدين ،ودخول عباد
الله في السلم .
ثم وصى الرسل ،واستغنى بذلك عن الكتاب ،وقال للرسول :
) (1/426
ْ
م
ة وَهُ ْمن َْها أ َذِل ّ ًم ِ جن ّهُ ْ
خرِ َم ب َِها وَل َن ُ ْ ل ل َهُ ْ
جُنود ٍ َل قِب َ َ م بِ ُ م فَل َن َأت ِي َن ّهُ ْجعْ إ ِل َي ْهِ ْ
} اْر ِ
ن { ]النمل . [37 : صاِغُرو ََ
وعلم سليمان أنهم سينقادون ويسلمون ،فقال لهل مجلسه :
ن أ ََنا ْ } أ َيك ُم يأ ِْتيِني بعرشها قَب َ َ
ن ال ْ ِ
ج ّ م َ
ت ِ فري ٌ ع ْل ِ ن {} َقا َ مي َ سل ِ ِ م ْ ن ي َأُتوِني ُ لأ ْ ْ َِ ْ ِ َ ّ ْ َ
ن { ]النمل 38 :و [39 مي قوي أ َ َ َ ل ه يَ ل ع ني إ و كَ م قا
َ م ن م م قو ُ ت ن ل أََ َ آِتي َ
ِ ّ ِ ٌ ْ ِ َ َ ِّ ْ َ َ ِ ْ َ ِ ك ب ِهِ ْ
ب ق
.
وسليمان بالديار الشامية ،وبينه وبينها مسافة شهرين ذهابا وشهرين إيابا ،
ثم قال الذي عنده علم من الكتاب :
ك ط َْرفُ َ ن ي َْرت َد ّ إ ِل َي ْ َ ك به قَب َ َ َ
ك { ]النمل . [40 : لأ ْ } أَنا آِتي َ ِ ِ ْ
ُ
يحتمل أنه كما قال أكثر المفسرين :إنه رجل صالح قد أعطي السم العظم
الذي إذا دعي الله به أجاب ،وأنه دعا الله فأتي به قبل أن يرتد إليه طرفه ،
ويحتمل أن الذي عنده علم من الكتاب عنده من السباب التي يسخرها الله
لسليمان أسباب يحصل بها تقريب المواصلت وجلب الشياء البعيدة .
ل فهذا ملك عظيم بلحظة يحضر له هذا العرش العظيم ; ولهذا لما وعلى ك ُ ّ
رآه مستقرا عنده حمد الله على ذلك ،فقال :
) (1/427
ه
س ِ شك ُُر ل ِن َ ْ
ف ِ شك ََر فَإ ِن ّ َ
ما ي َ ْ ن َ
م ْ م أ َك ْ ُ
فُر وَ َ
َ ل َرّبي ل ِي َب ْل ُوَِني أ َأ َ ْ
شك ُُر أ ْ ن فَ ْ
ض ِ م ْذا ِ } هَ َ
م { ]النمل . [40 : ري ٌي كَ ِ ن َرّبي غَن ِ ّ فَر فَإ ِ ّن كَ َم ْ
وَ َ
شَها { أي :غيروا فيه وزيدوا َ
ل ن َك ُّروا لَها عَْر َ ثم خاطب من حوله َ } :قا َ
َ َ
ن { ]النمل . [41 : ن َل ي َهْت َ ُ
دو َ ن ال ّ ِ
ذي َ م َن ِ كو ُم تَ ُ
دي أ ْ وأنقصوا } ،ن َن ْظ ُْر أت َهْت َ ِ
ت
جاَء ْ ب أن يقف على الحقيقة ،فَل َ ّ
ما َ مدح له رأيها وعقلها ،فأح ّ وكان قد ُ
ك { ]النمل . [42 : ُ َ َ َ ِقي َ
ل } :أهَكذا عَْرش ِ
وعرض عليها ،فلما رأته عرفته ،ورأت ما فيه من التنكير ،فأنكرته فقالت
َ
ه هُوَ { ]النمل . [42 : مرددة للحتمالين } :ك َأن ّ ُ
لم تقل :هو ; لما فيه من التغيير ،ولم تنف أنه هو ; لما كانت تعرفه ،فأتت
بلفظ صالح للمرين ،فعرف سليمان رجاحة عقلها .
ُ
ن { ]النمل . [42 : مي َ
سل ِ ِم ْن قَب ْل َِها وَك ُّنا ُ م ْ
م ِ} وَأوِتيَنا ال ْعِل ْ َ
) (1/428
إن كان هذا من كلم سليمان فمعناه إننا ُأخبرنا عن عقلها ،وعلمنا بذلك قبل
هذه الحالة فتحققناها لما سبرناها ،وإن كان الكلم كلم ملكة سبأ ،فإنها
ُ
م { عن ملك سليمان ،وأنه ملك نبوة ورسالة وقوة تقول } :وَأوِتيَنا ال ْعِل ْ َ
ن { مذعنين لما قاله سليمان مي َ
سل ِ ِم ْ هائلة من قبل هذه الحالة } ،وَك ُّنا ُ
بعدما تحققنا أمره ،فكأنه قيل :مع عقلها هذا ورأيها السديد فكيف كانت
تعبد غير الله ؟ وكيف اجتمع العقل وعبادة من ل ينفع ول يضر ،وإنما يضر
من عبده ؟
حاصل الجواب قوله :
ن { ]النمل : ري َ ن قَوْم ٍ َ
كافِ ِ م ْ
ت ِ ن الل ّهِ إ ِن َّها َ
كان َ ْ ن ُدو ِ
م ْ
ت ت َعْب ُد ُ ِ ما َ
كان َ ْ ها َ
صد ّ َ
} وَ َ
. [43
أي :العقائد التي نشأت عليها ،والمذاهب الفاسدة تسيطر على عقل العاقل
،وتذهب لب اللبيب حتى يقيض له من السباب المباركة ما يبين له الحق ،
ويمن عليه باتباعه .
وكان له صرح من قوارير أجرى تحته النهار ،فكان من ينظر إليه يظنه ماء
يجري ؛ لن الزجاج شفاف ،فلما قيل لها :ادخلي الصرح ،فرأته لجة
وكشفت عن ساقيها ،قال :إنه صرح ممرد من قوارير ،قالت :
) (1/429
َ
ن { ]النمل : ب ال َْعال َ ِ
مي َ ن ل ِل ّهِ َر ّ سل َي ْ َ
ما َ مع َ ُت َ سل َ ْ
م ُ سي وَأ ْ ف ِت نَ ْ ب إ ِّني ظ َل َ ْ
م ُ } َر ّ
. [44
فأسلمت لله ،واتبعها قومها ،فيقال :إن سليمان تزوجها ،فالله أعلم .
ولما كانت الشياطين زمن سليمان قد سخرهم الله له ،وبّلغه أنهم
باجتماعهم بالنس يعلمونهم السحر ،فجمعهم وتوعدهم وأخذ كتبهم ودفنها ،
فلما توفي سليمان جاءت الشياطين للناس وقالوا :إن ملك سليمان مشيد
على السحر ،واستخرجوا الكتب التي دفنها ،وأشاعوا من إغوائهم للناس
أنها مأخوذة من سليمان ،وأن سليمان ساحر ،وروج ذلك طائفة من اليهود ،
فبرأ الله سليمان من هذا المر ،وبين أن السحر من العلوم الضارة فقال
تعالى :
ن { ]البقرة :ما ُ َ
سلي ْ َفَر ُ َ
ما ك َن وَ َ ما َ َ
سلي ْ َ ك ُ ْ
مل ِ َ
ن عَلى ُ طي ُ
شَيا ِ ُ
ما ت َت ْلو ال ّ
} َوات ّب َُعوا َ
. [102
أي :بتعليم السحر والرضاء به .
حَر { ]البقرة . [102 :
س ْ
س ال ّ
ن الّنا َ
مو َفُروا ي ُعَل ّ ُ
ن كَ َ
طي َ
شَيا ِ } وَل َك ِ ّ
ن ال ّ
وهذا من عظمة القرآن أنه يأمر الخلق باليمان بجميع الرسل ،ويذكرهم
بأوصافهم الجميلة وينّزههم عما قاله الناس فيهم مما ينافي رسالتهم .
) (1/430
وكان الله قد ابتلى سليمان ،وألقى على كرسّيه جسدا ،أي :شيطانا عتابا
له على بعض الهفوات ،وإرجاعا له إلى كمال الخضوع لربه ،ولهذا قال
ب { ]ص . [34 : تعالى } :ث ُ َ
م أَنا َ ّ
إلى الله بقلبه ولسانه وبدنه بظاهره وباطنه فقال :
ت ال ْوَ ّ كا َل ينبِغي ِل َحد من بعدي إن َ َ مل ْ ً
ب{ ها ُ ك أن ْ َ َ ٍ ِ ْ َ ْ ِ ِّ ََْ ب ِلي ُ فْر ِلي وَهَ ْ ب اغ ْ ِ} َر ّ
]ص . [35 :
فاستجاب الله له دعاءه وأعطاه ما طلبه من مغفرة الذنب ،وأعطاه جميع
ما طلب كما تقدم .
وقد أثنى الله على داود وسليمان بالعلم والحكم ،وخص سليمان بزيادة
الفهم فقال :
قوْم ِ { م ال ْ َت ِفيهِ غَن َ ُ ف َ
ش ْ ث إ ِذ ْ ن َ َ ن ِفي ال ْ َ
حْر ِ ما ِحك ُ َ
ن إ ِذ ْ ي َ ْ سل َي ْ َ
ما َ } وََداوُد َ وَ ُ
]النبياء . [78 :
) (1/431
أي :دخلت الغنم بستانهم ليل فرعت زرعه وأشجاره ،فحكم داود بحسب
اجتهاده وتقديره أن الغنم تكون لصاحب الحرث ؛ لظنه أن الذي تلف من
الحرث يقابل قيمتها ،ثم رفعت القضية إلى سليمان ،فحكم على صاحب
الغنم أن يقوم على حرث صاحب البستان بالسقي والتعمير والملحظة حتى
يعود كما كان قبل نفشها ،ويدفع له صاحب الغنم الغنم ينتفع بدرها ولبنها
ودهنها وصوفها ومغلها مقابل ما كان بصدد أن ينتفع بحرثه في هذه المدة ،
فكان هذا الحكم من سليمان أقرب إلى الصواب ،وأنفع لصاحب الغنم
والحرث ،فلهذا قال تعالى :
عل ًْ
ما { ]النبياء . [79 : ن وَك ُّل آت َي ْ َ ُ ً َ ِ
و ماْ ك ح نا سل َي ْ َ
ما َ ها ُ
مَنا َ } فَ َ
فهّ ْ
) (1/432
ونظير هذه القضية حكم داود وسليمان بين المرأتين اللتين خرجتا ومع كل
واحدة ابنها ،فعدا الذئب على ابن الكبرى ،فادعت الكبرى على الصغرى أن
الذئب أكل ابن الصغرى ،وأن الذي سلم من الذئب ابنها ،والمرأة الصغرى
نكرت وقالت :بل الذئب أكل ابن الكبرى فتحاكما إلى داود ،فلم ير لكل
منهما بّينة إل قولها ،رأى أن يحكم به للكبرى اجتهادا ورحمة بها لكبرها ،وأن
الصغرى في مستقبل عمرها سيرزقها الله ولدا بدله ،ثم رفعت القضية إلى
سليمان فقال لهما :ائتوني بالسكين أشقه بينكما ،فرضيت الكبرى ،وقالت
الصغرى :لما دار المر بين تلفه أو بقائه بيد غيرها وهو أهون المرين عليها :
هو ابنها يا نبي الله ،فعلم سليمان بهذا المر الطبيعي الذي هو من أقوى
البينات أنه ليس ابنا للكبرى لكونها رضيت بشقه وإتلفه ،وأن دعواها على
الخرى إنما حملها عليه الحسد ،وأنه ابن الصغرى حين فزعت من شقه إلى
التنازل عن دعواها ،فقضى به سليمان للصغرى ،ول ريب أن استخراج
الصواب في القضايا بالبينات والقرائن وشواهد الحوال من الفهم الذي يخص
الله به من يشاء .
فصل
في بعض الفوائد المستنبطة من قصة داود وسليمان عليهما السلم
) (1/433
فمنها :أن الله يقص على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أخبار من قبله
لتثبيت فؤاده وتطمين نفسه ،ويذكر له من عباداتهم ،وشدة صبرهم وإنابتهم
ما يشوق إلى منافستهم ،والتقرب إلى الله الذي تنافسوا في قربه والصبر
على أذى قومه ،ولهذا ذكر تعالى في أول سورة ) ص ( ما قاله المكذبون
لمحمد صلى الله عليه وسلم وما آذوه به ،قال بعدها :
قوُلون واذ ْك ُر عَبدنا داود َذا اْل َيد إن َ
ب { ]ص . [17 : هأ ّ ٌ
وا ْ ِ ِّ ُ ْ ْ ََ َ ُ َ َ َ صب ِْر عََلى َ
ما ي َ ُ }ا ْ
َ َ
ب { مدح عظيم من الله لهذين الوصفين : ومنها :أن قوله َ } :ذا اْلي ْد ِ إ ِن ّ ُ
ه أّوا ٌ
قوة القلب والبدن على طاعة الله والنابة ،باطنا وظاهرا ،إلى الله
المستلزمة لمحبته وكمال معرفته ،وأن هذين الوصفين للنبياء على وجه
الكمال ،ولمن بعدهم من أتباعهم على حسب اتباعهم ،والثناء من الله
عليهما يقتضي الحث على جميع السباب التي تعين على القوة والنابة ،وأن
ضراء ،وفي جميع الحوال . سراء وال ّ جاعا إلى الله في حال ال ّ يكون العبد ر ّ
) (1/434
ومنها :ما أكرم الله به نبيه داود صلى الله عليه وسلم من حسن الصوت
ورخامته ،وأن الجبال والطيور تسبح الله معه وتجاوبه ،وذلك من زيادة
درجاته ومقاماته العالية .
ومنها :أن من أكبر نعم الله على عبده أن يرزقه العلم النافع ،ويعرف
الحكم بين الناس في المقالت والمذاهب ،وفي الخصومات والمشاحنات
ب{. خ َ
طا ِ ل ال ْ ِ ة وَفَ ْ
ص َ م َ كما قال تعالى َ } :وآت َي َْناهُ ال ْ ِ
حك ْ َ
ومنها :كمال اعتناء المولى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الهفوات
بفتنة إياهم ،وابتلئهم بما يزول عنهم المحذور حتى يعودوا أكمل من أحوالهم
الولى ،كما جرى لداود وسليمان .
ومنها :أن النبياء معصومون فيما يبلغون عن الله ،فإن الله أمر بطاعتهم
مطلقا ،ومقصود الرسالة ل يحصل إل بذلك ،وقد يجري منهم أحيانا بعض
مقتضيات الطبيعة من المخالفات ،ولكن الله تعالى يبادرهم بلطفه ،
ويتداركهم بالتوبة والنابة .
ومنها :أن داود في أغلب أوقاته ملزما محرابه لخدمة ربه ،وله وقت يجلس
فيه لحوائج الخلق ،فقد أتم القيام بحق الله وحق عباده .
) (1/435
ومنها :أنه ينبغي استعمال الدب في الدخول على الناس ،خصوصا الحكام
والرؤساء ; فإن الخصمين لما دخل على داود في حالة غير معتادة ،ومن غير
الباب فزع منهم ،واشتد عليه ذلك ،ورآه غير لئق بالحال .
ومنها :أنه ل يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم ،وفعله ما ل
ينبغي .
ومنها :كمال حلم داود ; فإنه ما غضب منهما حين جاءاه بغير استئذان ،ول
انتهرهما ول وبخهما .
ومنها :جواز قول المظلوم لمن ظلمه أنت ظلمتني ،أو :يا ظالم ونحوه ،أو
ض{. َ
ضَنا عَلى ب َعْ ٍن ب ََغى ب َعْ ُ
ما ِ
ص َخ ْ :يا باغي لقوله َ } :
ومنها :أن المنصوح ولو كان كبير القدر كثير العلم عليه أن ل يغضب ول
يشمئز ،بل يبادر بقبول النصيحة والشكر لمن نصحه ،ويحمد الله إذ قيض له
حك ُ ْ
م النصيحة على يد الناصح ،فإن داود لم يشمئز من قول الخصمين َ } :فا ْ
ط { بل حكم بالحق الصرف . صَرا ِواِء ال ّ
س َط َواهْدَِنا إ َِلى َشط ِ ْحقّ وََل ت ُ ْ
ب َي ْن ََنا ِبال ْ َ
) (1/436
) (1/437
) (1/438
ومنها :أن سليمان كان ملكا نبيا مباح له أن يفعل ما يريد ،ولكنه لكماله ل
يريد إل الخير والعدل ،وهذا بخلف النبي العبد ،فإنه ل يكون له إرادة
مستقلة ،بل إرادته تابعة لمراد الله منه ،فل يفعل ول يترك إل تبعا للمر ،
كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ومنها :أن الله أعطى سليمان ملكا عظيما ،فيه أمور ل يمكن أن تدرك
بالسباب ،وإنما هي من تقدير الملك الوهاب مثل تسخير الريح تبعا لمره ،
وتسخير الشياطين ،وكون جنوده من النس والجن والطير ،وأن الطيور
كانت تخدمه الخدمة العظيمة ،يرسلها للجهات توصل منه الخبار ،وتأتيه
بأخبار تلك الجهات ،وقد أعطاها الله من الفهم ومعرفة أحوال الدميين ما
قص الله علينا نبأه في هذه القصة ،وكذلك الذي عنده علم من الكتاب حين
استعد أن يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه طرفه ،وهذه آيات أنبياء ،
فلهذا مهما بلغ الخلق في الترقي في علوم الطبيعة والمهارة بالمخترعات
فلن يصلوا إلى ما ُأعطيه سليمان .
) (1/439
) (1/440
) (1/441
فركض ،فنبعت بركضته عين ماء بارد ،فقيل له :اشرب منها واغتسل ،
ففعل ذلك ،فأذهب الله ما في باطنه وظاهره من البلء ،ثم أعاد الله له
أهله وماله ،وأعطاه من النعم والخيرات شيئا كثيرا ،وصار بهذا الصبر قدوة
للصابرين ،وسلوة للمبتلين ،وعبرة للمعتبرين ،وكان في مرضه قد وجد
على زوجته المرأة البارة الرحيمة في بعض شيء ،فحلف أن يجلدها مائة
جلدة ،فخفف الله عنه وعنها ،وقيل له :خذ بيدك ضغثا حزمة حشيش أو
علف أو شماريخ أو نحوها فيها مائة عود فاضرب به ول تحنث ،أي :ينحل
بذلك يمينك ،وفي هذا دليل على أن كفارة اليمين لم تشرع لحد من قبل
شريعتنا ،وأن اليمين عندهم بمنزلة النذر الذي ل بد من وفائه ،وفي هذا
دليل على أن من ل يحتمل إقامة الحد عليه لضعفه ونحوه أنه يقام عليه
مسمى ذلك ؛ لن الغرض التنكيل ليس التلف والهلك .
قصة الخضر مع موسى ومحلها في أثناء قصص موسى
) (1/442
وذلك أن موسى صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم في بني إسرائيل مقاما
مة ،وأعجب الناس بكمال علمه ،فقال له قائل عظيما ،عّلمهم فيه علوما َ
ج ّ
:يا نبي الله ،هل يوجد ،أو هل تعلم في الرض أحدا أعلم منك ؟ فقال :ل ،
بناء على ما يعرفه ،وترغيبا لهم في الخذ عنه ،فأخبره الله أن له عبدا في
مجمع البحرين عنده علوم ليست عند موسى ،وإلهامات خارجة عن الطور
المعهود ،فاشتاق موسى إلى لقياه رغبة في الزدياد من العلم ،فطلب من
الله أن يأذن له في ذلك ،وأخبره بموضعه وتزودا حوتا وقيل له :إذا فقدت
الحوت فهو في ذلك المكان ،فذهب فوجده ،وكان ما قص الله من نبأهما
في الكهف :
قًبا {
ح ُ َ َ ْ ُ َ َ َ } وَإ ِذ ْ َقا َ
ي ُ
ض َ
م ِ
ن أوْ أ ْ
حَري ْ ِ
معَ الب َ ْ
ج َ
م ْ حّتى أب ْلغَ َ ح َ فَتاه ُ ل أب َْر ُسى ل ِ َ مو َل ُ
ْ
صب ًْرا { ]الكهف . [82 - 60 : سط ِعْ عَل َي ْهِ َم تَ ْما ل َ ْل َك ت َأِوي ُ]إلى قوله[ } :ذ َل ِ َ
وفي هذه القصة من الفوائد والحكام والقواعد شيء كثير ننبه على بعضه
م منه . بعون الله ،ونذكر المه ّ
) (1/443
) (1/444
ومنها :إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ،وكذلك النقص ،لقول فتى
ن أ َذ ْك َُره ُ { . طا َ
نأ ْ شي ْ َ ُ ه إ ِّل ال ّ ساِني ُ
َ
ما أن ْ َ موسى } :وَ َ
ومنها :جواز إخبار النسان عما يجده مما هو مقتضى الطبيعة البشرية ،من
نصب أو جوع أو عطش ،إذا لم يكن على وجه التسخط ،وكان صدقا
صًبا { . ذا ن َ َفرَِنا هَ َس َ ن َ م ْقيَنا ِ قد ْ ل َ ِ
لقوله } :ل َ َ
ومنها :أنه ينبغي أن يتخذ النسان خادما ذكيا فطنا كّيسا ليتم له أمره الذي
يريد .
ومنها :استحباب إطعام النسان خادمه من مأكله ،وأكلهما جميعا ؛ لن
داَءَنا { أنه للجميع ،ومنها :أن المعونة تنزل على العبد ظاهر قوله } :آت َِنا غَ َ
بحسب قيامه بالمر الشرعي ،وأن ما وافق رضا الله يعان عليه ما ل يعان
صًبا { والشارة إلى السفر فرَِنا هَ َ
ذا ن َ َ س َ ن َ م ْ قيَنا ِقد ْ ل َ ِ
على غيره لقوله } :ل َ َ
المجاوز لمجمع البحرين ،وأما الول فلم يشتك منه مع طوله .
) (1/445
ومنها :أن ذلك العبد الذي لقياه ليس نبيا ،بل هو عبد صالح عالم مل َْهم ؛ لن
الله ذكره بالعلم والعبودية الخاصة والوصاف الجميلة ،ولم يذكر معها أنه
ري { فإنه ل نبي أو رسول ،وأما قوله في آخر القصة } :وما فَعل ْته عَ َ
م ِ
نأ ْْ َ ُ ُ َ َ
يدل على أنه نبي ،وإنما يدل على اللهام والتحديث ،وذلك يكون لغير النبياء
،قال تعالى :
َ
ل { ]النحل . [68 : ح ِ ك إ َِلى الن ّ ْ حى َرب ّ َ } وَأوْ َ
ُ َ
سى { ]القصص . [7 : مو َ حي َْنا إ َِلى أ ّ
م ُ } وَأوْ َ
ومنها :أن العلم الذي يعلمه الله للعبد نوعان :علم مكتسب ،يدركه العبد
ده ،وعلم إلهي لدّني ،يهبه الله لمن يمن عليه من عباده ،لقوله : بطلبه وج ّ
ما { ]الكهف . [65 : عل ًْ َ
ن لد ُّنا ِ م ْمَناه ُ ِ } وَعَل ّ ْ
فالخضر أعطي من هذا النوع الحظ الوفر ،ومنها التأدب مع المعلم
والتلطف في خطابه لقول موسى :
ّ َ ل أ َت ّب ِعُ َ
دا { ]الكهف . [66 : ت ُر ْ
ش ً م َ
ما عُل ْ
م ّ ن ت ُعَل ّ َ
مِني ِ ك عََلى أ ْ } هَ ْ
) (1/446
فأخرج الكلم بصورة الملطفة والمشاورة ،وأنك هل تأذن لي أم ل ؟
وإظهار حاجته إلى المعلم ،وأنه يتعلم منه ومشتاق إلى ما عنده ،بخلف
حال أهل الكبر والجفاء الذين ل يظهرون حاجتهم إلى علم المعلم ،فل أنفع
للمتعلم من إظهار الحاجة إلى علم المعلم وشكره على تعليمه .
ومنها :تواضع الفاضل للتعلم ممن هو دونه ،فإن موسى بل ريب أفضل من
الخضر .
ومنها :تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ممن مهر فيه ،وإن
كان دونه في العلم درجات ; فإن موسى من أكابر أولي العزم من الرسل ،
الذين منحهم الله ،وأعطاهم من العلوم ما لم يعط سواهم ،ولكن في هذا
العلم الخاص كان عند الخضر ما ليس عنده ،فلهذا اشتد حرصه على التعلم
منه .
ومنها :أنه يتعين إضافة العلم وغيره من الفضائل إلى فضل الله ورحمته ،
دا { . ت ُر ْ
ش ً ما عُل ّ ْ
م َ م ّ والعتراف بذلك ،وشكر الله عليه لقوله } :ت ُعَل ّ َ
مِني ِ
) (1/447
ومنها :أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير ،وكل علم فيه رشد
وهداية لطريق الخير ،وتحذير عن طريق الشر ،أو وسيلة إلى ذلك ،فإنه
من العلم النافع ،وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارا ،أو ليس فيه فائدة
َ
دا { . ش ًت ُر ْ م َما عُل ّ ْ
م ّ ن ت ُعَل ّ َ
مِني ِ لقوله } :أ ْ
ومنها :أن من ليس له صبر على صحبة الَعالم ،ول قوة على الثبات على
طريقة التعلم ،فإنه قاصر ليس بأهل لتلقي العلم ; فمن ل صبر له ل يدرك
العلم ،ومن استعمل الصبر ولزمه أدرك به كل أمر سعى إليه ،فإن الخضر
اعتذر عن موسى أنه ل يصبر على علمه الخاص .
ومنها :أن مما يعين على الصبر على الشياء إحاطة العبد بها علما ،
وبمنافعها وثمراتها ونتائجها ،فمن ل يدري هذه المور يصعب عليه الصبر
خب ًْرا { . ح ْ
ط ب ِهِ ُ ما ل َ ْ
م تُ ِ صب ُِر عََلى َ
ف تَ ْ لقوله } :وَك َي ْ َ
ومنها :المر بالتأّني والتثبت وعدم المبادرة على الحكم على الشياء حتى
يعرف ما يراد منه ،وما هو المقصود .
) (1/448
ومنها :مشروعية تعليق إيجاد المور المستقبلة على مشيئة الله لقوله :
مًرا { ،وإن العزم على شاَء الل ّه صابرا وَل أ َعْصي ل َ َ َ
ن َ
كأ ْ ِ ُ َ ًِ َ جد ُِني إ ِ ْ
ست َ ِ
} َ
الشيء ليس بمنزلة فعله ،فموسى عزم على الصبر ،ولكن لم يفعل .
ومنها :أن المعلم إذا رأى من المصلحة أن يخبر المتعلم أن يترك البتداء في
السؤال عن بعض الشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ،فإن
المصلحة تتبع ،كما إذا كان فهمه قاصرا ،أو نهاه عن التدقيق الشديد أو
السئلة التي ل تتعلق بالموضوع ،ومنها :جواز ركوب البحر إذا لم يكن في
ذلك خطر .
ومنها :أن الناسي غير مؤاخذ ،ل في حق الله ول في حق العباد ،إل إن
ترتب على ذلك إتلف مال ،ففيه الضمان حتى على الناسي لقوله } :لَ
ت{. سي ُ خذ ِْني ب ِ َ
ما ن َ ِ تُ َ
ؤا ِ
ومنها :أنه ينبغي للعبد أن يأخذ من أخلق الناس ومعاملتهم العفو منها ،وما
سمحت به أنفسهم ،ول ينبغي له أن يكلفهم ما ل يطيقون ،أو يشق عليهم
أو يرهقهم ،فإن هذا داع إلى النفور ،بل يأخذ المتيسر ليتيسر له المر .
) (1/449
ومنها :أن المور تجري على ظاهرها ،وتعلق بها الحكام الدنيوية في كل
شيء ،فإن موسى عليه السلم أنكر على الخضر خرق السفينة ،وقتل
صله ،هوالغلم بحسب أحكامها العامة ،ولم يلتفت إلى الصل الذي أ ّ
والخضر ،أنه ل يسأله ول يعترض عليه حتى يكون الخضر هو المبتدئ .
ومنها :فيه تنبيه على القاعدة المشهورة الكبيرة ،وهو أنه يدفع الشر الكبير
بارتكاب الشر الخفيف ،ويراعى أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما ; فإن قتل
الغلم الصغير شر ،ولكن بقاءه حتى يبلغ ويفتن أبويه عن دينهما أعظم
شرا ،وبقاء الغلم من دون قتل وإن كان في ظاهر الحال أنه خير ،فالخير
ببقاء أبويه على دينهما خير من ذلك ،فلذلك قتله الخضر بعدما ألهمه الله
الحقيقة ،فكان إلهامه الباطني بمنزلة البينات الظاهرة في حق غيره .
ومنها :القاعدة الكبيرة الخرى ،وهي :أن عمل النسان في مال غيره -إذا
كان على وجه المصلحة ودفع المضرة -يجوز بل إذن ،حتى ولو ترتب عليه
إتلف بعض المال ،كما خرق الخضر السفينة لتعيب ،فتسلم من غصب
الملك الظالم ،وتحت هاتين القاعدتين من الفوائد ما ل حصر له .
) (1/450
ن ِفي مُلو َ ومنها :أن العمل يجوز في البحر كما يجوز في البر ،لقوله } :ي َعْ َ
حرِ { .ال ْب َ ْ
ومنها :أن القتل من أكبر الذنوب .
ومنها :أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه ،وفي ذريته ،وما يتعلق به ،
كا َ
حا { وأن خدمة الصالحين وعمل مصالحهم أفضل صال ِ ً ما َ ن أُبوهُ َ لقوله } :وَ َ َ
حا { . َ من غيرهم ؛ لنه عّلل أفعاله بالجدار بقوله } :وَ َ
صال ِ ً ما َ ن أُبوهُ َ كا َ
ومنها :استعمال الدب مع الله حتى في اللفاظ ؛ فإن الخضر أضاف عيب
َ
عيب ََها { وأما الخير فأضافه إلى الله ن أَ ِ َ
تأ ْ السفينة إلى نفسه بقوله } :فَأَرد ْ ُ
ن ي َب ْل َُغا أ َ ُ لقوله } :فَأ َراد رب َ َ
ك{. ن َرب ّ َ م ْ ة ِ م ً
ح َ ما َر ْ جا ك َن َْزهُ َخرِ َ
ست َ ْما وَي َ ْ شد ّهُ َ كأ ْ َ َ َ ّ
ن { ]الشعراء . [80 : ْ ه َ
وقال إبراهيم ِ ِ َ ُ َ ُ َ ُ ْ ِ َ ِ َ َ } :
في ش ي و ف ت ض ر م َ
ذا إ و
م َ َ َ ْ وقالت الجن } :وَأّنا َل ن َد ِْري أ َ
م َرب ّهُ ْ م أَراد َ ب ِهِ ْ ضأ ْ ن ِفي الْر ِ م ْ شّر أِريد َ ب ِ َ
دا { ]الجن ، [10 :مع أن الكل بقضاء الله وقدره . ش ً َر َ
) (1/451
) (1/452
قصة ذي القرنين
وكان ذو القرنين ملكا صالحا ،وقد أعطاه الله من القوة وأسباب الملك
والفتوح ما لم يكن لغيره ،فذكر الله من حسن سيرته ورحمته وقوة ملكه
وتوسعه في المشارق والمغارب ما يحصل به المقصود التام من سيرته
ومعرفة أحواله ،ولهذا قال :
ْ
ه ذِكًرا { ]الكهف . [83 : ُ َ ُ َ ن قُ ْ ن ِذي ال ْ َ سأ َُلون َ َ
من ْ ُ
م ِ
سأت ْلو عَلي ْك ْ ل َ قْرن َي ْ ِ ك عَ ْ } وَي َ ْ
أي :من بعض أخباره ،ومن المعلوم أن ما قصه الله في كتابه هو أحسن
وأنفع ما يقص على العباد ،فأخبر أنه أعطاه من كل شيء سببا يحصل به
ضع للمم وكثرةخ ِ
م ْ قوة الملك وعلم السياسة وحسن التدبير والسلح ال ْ ُ
الجنود وتسهيل المواصلت وجميع ما يحتاجه ،ومع ذلك فقد عمل بالسباب
طى السباب النافعة ،ول كل من ُأعطيها يتبعها التي أعطيها ،فما كل أحد يع َ
ويعمل بها .
م له المران :أعطي سببا فأتبع سببا ،فغزا بجيوشه ُ
أما ذو القرنين فإنه ت َ ّ
الجرارة أدنى أفريقية وأقصاها حتى بلغ البحر المحيط الغربي ،فوصل إلى
محل إذا غربت الشمس :
مئ َةٍ { ]الكهف . [86 : ح ِ ن َ ب ِفي عَي ْ ٍ ها ت َغُْر ُ
جد َ َ} وَ َ
) (1/453
أي :رآها في رؤية العين كأنها تْغرب في البحر ،والبحر لونه أسود كالحمئة ،
والقصد أنه وصل إلى حيث منتهى الخف والحافر من بلد أفريقية ،ووجد في
ذلك المحل وتلك القطار قوما ،منهم المسلم والكافر ،والبر والفاجر ،
بدليل قوله :
َ َ } قُل َْنا يا َذا ال َ
ْ
سًنا { ]الكهف . [86 : ح ْ م ُ خذ َ ِفيهِ ْن ت َت ّ ِما أ ْ ب وَإ ِ ّ ن ت ُعَذ ّ َ ما أ ْن إِ ّ قْرن َي ْ ِ
إما أن القائل له نبي من أنبياء الله أو أحد العلماء ،أو أن المعنى أنه بسبب
وي بين المرين قدرته كان مخّيرا قدرا ،وإل فمن المعلوم أن الشرع ل يس ّ
المتفاوتين في الحسان والساءة .
َ
ذاًبا ن ُك ًْرا {
ه عَ َم ي َُرد ّ إ َِلى َرب ّهِ فَي ُعَذ ّب ُ ُ ه ثُ ّف ن ُعَذ ّب ُ ُسو ْ َ م فَ َ ن ظ َل َ َ م ْ ما َ فقال } :أ ّ
ل ل َه م َ َ
مرَِنانأ ْ قو ُ ُ ِ ْ سن َ ُ
سَنى وَ َ ح ْ جَزاًء ال ْ ُ ه َ حا فَل َ ُصال ِ ً ل َم َ ن وَعَ ِ م َ نآ َ م ْ
ما َ } وَأ ّ
سًرا { ]الكهف . [88 - 87 : يُ ْ
وهذا يدل على عدله ،وأنه ملك صالح ،وعلى حسن تدبيره .
سب ًَبا { ]الكهف . [89 : } ثُ َ
م أت ْب َعَ َّ
) (1/454
أي :ثم عمل بالسباب التي أوتيها بعدما أخضع أهل المغارب رجع يفتح
الرض قطرا قطرا حتى وصل إلى مطلع الشمس من بلد الصين وشواطئ
البحر المحيط الهادي ،وهذا منتهى ما وصل إليه الفاتحون .
ست ًْرا { ]الكهف . [90 :
ن ُدون َِها ِ
م ْ ل ل َهُ ْ
م ِ جعَ ْ ها ت َط ْل ُعُ عََلى قَوْم ٍ ل َ ْ
م نَ ْ جد َ َ
} وَ َ
أي :ل ستر لهم عن الشمس ،ل ثياب ينسجونها ويلبسونها ،ول بيوت يبنونها
ويأوون إليها ،أي :وجد هؤلء القوم الذين في أقصى المشرق بهذه الصفة
والوحشية بمنزلة الوحوش التي تأوي إلى الغياض والغيران والسراب
منقطعين عن الناس ،وكانوا في ذلك الوقت على هذه الحالة التي وصف
الله ،والمقصود من هذا أنه وصل إلى ما لم يصل إليه أحد .
ثم كر راجعا وأتبع سببا ; يمكنه من مناهج البلد وتخضيع العباد قاصدا نحو
الشمال :
ن { ]الكهف . [93 : َ
حّتى إ َِذا ب َلغَ ب َي ْ َ
سد ّي ْ ِ
ن ال ّ } َ
) (1/455
سدين الموجودين منذ خلق الله الرض ،وهما أي :بلغ محل متوسطا بين ال ّ
سلسل جبال عظيمة شاهقة متواصلة من تلك الفجوة ،وهي الريع إلى
البحار الشرقية والغربية وهي في بلد الترك ،على هذا اتفق المفسرون
والمؤرخون ،وإنما اختلفوا :هل هي سلسل جبال القفقاس أم دون ذلك
في أذربيجان ،أم سلسل جبال ألتاي ،أم الجبال المتصلة بالسور الصيني
في بلد منغوليا ؟ وهو الظاهر ،وعلى القوال كلها فوجد عند تلك الفجوة
التي بين سلسل هذه الجبال قوما ل يكادون يفقهون قول ؛ من ُبعد لغتهم ،
وثقل فهمهم للغات المم :
ض { ]الكهف : َ ْ ْ ْ } َقاُلوا يا َذا ال ْ َ
ن ِفي الْر ِ دو َ س ُ ف ِ م ْج ُ جو َمأ ُ ج وَ َجو َ
ن ي َأ ُ
ن إِ ّقْرن َي ْ ِ
. [94
وهم أمم عظيمة من نسل يا فث بن نوح من العناصر التركية وغيرهم ،كما
هو مذكور مفصل من أحوالهم ومشروح من صفاتهم :
َ
ّ
مكّني ِفيهِما َ
ل َدا {} َقا َ س ّ
م َ جعَ َ
ل ب َي ْن ََنا وَب َي ْن َهُ ْ جا عََلى أ ْ
ن تَ ْ خْر ًك َ ل لَ َ جعَ ُ } فَهَ ْ
ل نَ ْ
خي ٌْر { ]الكهف 94 :و . [95 َرّبي َ
من القوة والسباب والقتدار خير فأعينوني بقوة ،أي :إن هذا بناء عظيم
يحتاج في العانة عليه إلى مساعدة قوية في البدان .
) (1/456
َ
ما { ]الكهف . [95 : م َرد ْ ًم وَب َي ْن َهُ ْ ل ب َي ْن َك ُ ْ
جعَ ْ
}أ ْ
دا ؛ لن الذي بني فقط هو تلك الثنية والريع الواقع بين السدين ولم يقل :س ّ
الطبيعيين ،أي :بين سلسل تلك الجبال ،فدبرهم على كيفية آلته وبنيانه
فقال :
ديد ِ { ]الكهف . [96 : ح ِ ْ
} آُتوِني ُزب ََر ال َ
أي :اجمعوا لي جميع قطع الحديد الموجودة من صغار وكبار ،ول تدعوا من
الموجود شيئا ،واركموه بين السدين ،ففعلوا ذلك حتى كان الحديد تلول
عظيمة موازنة للجبال ،ولهذا قال :
ن { ]الكهف . [96 : صد َفَي ْ ِ
ن ال ّ ساَوى ب َي ْ َ حّتى إ َِذا َ } َ
أي :الجبلين المكتنفين لذلك الردم قال :
ل آُتوِني أ ُفْرِغ ْ عَل َي ْهِ قِط ًْرا { ]الكهف . [96 : جعَل َ ُ
ه َناًرا َقا َ حّتى إ َِذا َخوا َ ف ُ
} ان ْ ُ
أي :أمر بالنحاس ،فأذيب بالنيران ،وجعل يسيل بين قطع الحديد ،فالتحم
بعضها ببعض ،وصارت جبل هائل متصل بالسدين ; فحصل بذلك المقصود من
عيث يأجوج ومأجوج ،ولهذا قال :
طا ُ َ
عوا ل َ ُ
ه ست َ َ
طا ُ ن ي َظ ْهَُروهُ { أي ] :يصعدوا ذلك الردم[ } وَ َ
ما ا ْ عوا أ ْ س َ ما ا ْ} فَ َ
ن َرّبي { ]الكهف 97 :و . [98 م ْة ِ م ٌ ح َ
ذا َر ْ قًبا {} َقا َ
ل هَ َ نَ ْ
) (1/457
أي :ربي الذي وفقني لهذا العمل الجليل ،والثر الجميل ،فرحمكم إذ
منعكم من ضرر يأجوج ومأجوج بهذا السبب الذي ل قدرة لكم عليه .
كاَء { ]الكهف . [98 : ه دَ ّ جعَل َ ُجاَء وَعْد ُ َرّبي َ } فَإ َِذا َ
أي :هذا العمل والحيلولة بينكم وبين يأجوج ومأجوج مؤقت إلى أجل ،فإذا
جاء ذلك الجل قدر الله للخلق من أسباب القوة والقدرة والصناعات
والختراعات الهائلة ما يمكن يأجوج ومأجوج من وطء بلدكم أيها
المجاورون ،بل ومن وطء مشارق الرض ومغاربها وأقطارها ،كما قال
تعالى :
ْ ْ
ن { ]النبياء [96 : سُلو َ
ب ي َن ْ ِ
حد َ ٍ ن كُ ّ
ل َ م ْ
م ِ
ج وَهُ ْ
جو ُمأ ُج وَ َ جو ُت ي َأ ُ حّتى إ َِذا فُت ِ َ
ح ْ } َ
.
أي :من كل مكان مرتفع ،سواء مثل هذه السدود والبحار وجو السماء
ن { أي :يسرعون فيها غير مكترثين ،ول حاجز يحجزهم ،فلفظة " سُلو َ } ي َن ْ ِ
من كل حدب " تشمل جميع المواضع والقطار :سهلها وصعبها ،منخفضها
ومرتفعها ،وإنما نص الله على المرتفعات لن السهول والماكن المنخفضة
من باب أولى وأحرى .
) (1/458
) (1/459
) (1/460
فجمع الله لها بين التربية الجسدية والتربية الروحية ،حيث قدر أن يكون
كافلها أعظم أنبياء بني إسرائيل في ذلك الوقت ; فإن أمها لما جاءت بها
لهل بيت المقدس تنازعوا أيهم يكفلها ؛ لنها ابنة رئيسهم ،فاقترعوا وألقوا
أقلمهم ،فأصابت القرعة زكريا رحمة به وبمريم ،فكفلها أحسن كفالة ،
وأعانه على كفالتها بكرامة عظيمة منه ،فكانت قد نشأت نشأة الصالحات
ديقات ،وعكفت على عبادة ربها ،ولزمت محرابها ،فكان زكريا كلما الص ّ
دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا ،قال :أنى لك هذا ؟ فإنه ليس لها
كافل غير زكريا ،قالت :
ب { ]آل عمران . [37 : سا ٍ
ح َ ن يَ َ
شاُء ب ِغَي ْرِ ِ م ْ ن الل ّ َ
ه ي َْرُزقُ َ عن ْدِ الل ّهِ إ ِ ّ
ن ِم ْ
} هُوَ ِ
أي :رزقه تعالى يأتي بطرق معهودة وبطرق أخرى ،والله على كل شيء
قدير .
فحين رأى هذه الحالة ذكره ذلك لطف ربه ،ورجاه إلى رحمته ،فدعا الله
أن يهب له ولدا يرثه علمه ونبوته ،ويقوم بعده في بني إسرائيل في تعليمهم
وهدايتهم :
) (1/461
َ
صد ًّقام َ حَيى ُ
ك ب ِي َ ْشُر َ ن الل ّ َ
ه ي ُب َ ّ بأ ّ حَرا ِم ْصّلي ِفي ال ْ ِ م يُ َة وَهُوَ َقائ ِ ٌ مَلئ ِك َ ُ
ه ال ْ َ } فََناد َت ْ ُ
دا { ]آل عمران . [39 : سي ّ ًن الل ّهِ { ]أي :بعيسى[ } وَ َ م َ مةٍ ِ ب ِك َل ِ َ
أي :عظيما عند الله ،وعند الخلق لما جبله الله عليه من الخلق الحميدة ،
والعلوم العظيمة ،والعمال الصالحة .
صوًرا { ]آل عمران . [39 : ح ُ } وَ َ
أي :ممنوعا بعصمة الله وحفظه ،ووقايته من مواقعة المعاصي ; فوصفه
الله بالتوفيق لجميع الخيرات ،والحماية من السيئات والزلت ،وهذا غاية
كمال العبد ،فتعجب زكريا من ذلك وقال :
ل عت ِّيا {} َقا َ ْ
ن الك ِب َرِ ِ م َت ِ َ
عاقًِرا وَقَد ْ ب َلغْ ُ مَرأ َِتي َ تا ْ كان َ ِم وَ َ ن ِلي غَُل ٌ كو ُ } أ َّنى ي َ ُ
شي ًْئا { ]مريم 8 : ك َ م تَ ُ ل وَل َ ْ ن قَب ْ ُ
م ْك ِ قت ُ َخل َ ْ
ن وَقَد ْ َي هَي ّ ٌ ك هُوَ عَل َ ّ ل َرب ّ َ ك َقا َ ك َذ َل ِ َ
و . [9
وهذا أعجب من حملها وهي عاقر على كبرك ،فمن فرحه ورغبته العظيمة
في طمأنينة قلبه قال :
ل آيت َ َ
سوِّيا { ]مريم : ث ل ََيا ٍ
ل َ س ث ََل َ ك أّل ت ُك َل ّ َ
م الّنا َ ة َقا َ َ ُ جعَ ْ
ل ِلي آي َ ً با ْ
} َر ّ
. [10
) (1/462
كارِ { ]آل عمران . [41 : ي َواْل ِب ْ َ ش ّح ِبال ْعَ ِ ك ك َِثيًرا وَ َ
سب ّ ْ } َواذ ْك ُْر َرب ّ َ
وهذه آية كبرى ،يمنع من الكلم الذي هو أسهل ما يقدر عليه النسان ،وهو
سويّ ،فل يقدر أن يكلم أحدا إل بالشارة ،ومع ذلك لسانه منطلق بذكر الله
وتسبيحه وتحميده ،فحينئذ تمت له البشارة من الله ،وعرف أنه ل بد أن
يكون ،فولدت زوجته يحيى ،وأنشأه الله نشأة عجيبة ،فتعلم وهو صغير ،
ومهر في العلم وهو صغير ،ولهذا قال :
صب ِّيا { ]حتى قيل :إن الله نبأه وهو صغير ،وكما أعطاه م َ حك ْ َ } َوآت َي َْناهُ ال ْ ُ
ن ل َد ُّنا
م ْحَناًنا ِالله العلم العظيم فقد من عليه بأكمل الصفات فقال } [:وَ َ
م َ
م عَلي ْهِ ي َوْ َ
سل ٌ َ صّيا {} وَ َ
جّباًرا عَ ِ م ي َك ُ ْ
ن َ وال ِد َي ْهِ وَل َ ْ
قّيا {} وَب َّرا ب ِ َ ن تَ ِ كا َكاةً وَ َ وََز َ
حّيا { ]مريم . [15 - 12 : ث َ م ي ُب ْعَ ُ ت وَي َوْ َمو ُ م يَ ُوُل ِد َ وَي َوْ َ
ومضمون هذا وصفه بالقيام بحقوق الله ،وحقوق والديه ،وحقوق الخلق ،
وأن الله سيحسن له العواقب في أحواله كلها .
وأما مريم فإنها انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ،متجردة لعبادة ربها :
جاًبا { ]مريم . [17 : ح َ م ِن ُدون ِهِ ْ م ْ ت ِ خذ َ ْ} َفات ّ َ
) (1/463
لئل يشغلها أحد عما هي بصدده ; فأرسل الله لها الروح المين جبريل في
صورة بشر سوي من أكمل الرجال وأجملهم ،فظنت أنه يريدها بسوء ،
فقالت :
قّيا { ]مريم . [18 : ت تَ ِ ُ
ن كن ْ َ َ
من ْك إ ِ ْ ن ِ م ِ ح َعوذ ُ ِبالّر ْ } إ ِّني أ َ ُ
فتوسلت بالله في حفظها وحمايتها ،وذكرته وجوب التقوى على كل مسلم
يخشى الله ،فكان هذا الورع العظيم منها في هذه الحالة التي يخشى منها
الوقوع في الفتنة ،ورفع الله بذلك مقامها ،ونعتها بالعفة الكاملة ،وأنها
أحصنت فرجها ،فقال لها جبريل :
َ َ
م َ ل
ٌ َ ْ و م َ
ل ُ غ ليُ ِ ن كوُ ي نى
ْ ّ َ أ ت َ ل َ
قا {} ك غُ َ ً َ ِ ّ
يا ك ز ما ل ب لَ ِ ك ِل َهَ َ ل َرب ّ ِ سو ُ ما } أَنا َر ُ إن ّ َ
َ
ة
ه آي َ ً جعَل َ ُ
ن وَل ِن َ ْ ك هُوَ عَل َ ّ
ي هَي ّ ٌ ل َرب ّ ِ ك َقا َل ك َذ َل ِ ِ ك ب َغِّيا {} َقا َ مأ ُ شٌر وَل َ ْ سِني ب َ َ س ْ م َ يَ ْ
ضّيا { ]مريم - 19 : َ مّنا { ]به وبك وبالناس[ } وَ َ
ق ِم ْ
مًرا َ نأ ْ كا َ ة ِم ً ح َس وََر ْ ِللّنا ِ
. [21
فل تعجبي مما قد َّره ُ الله وقضاه :
) (1/464
كاًنا قَ ِ
صّيا { ]خشية م َ
ت ب ِهِ { ]أي :ابتعدت به عن الناس[ } َ مل َت ْ ُ
ه َفان ْت َب َذ َ ْ } فَ َ
ح َ
ْ َ
ض { ]أي :الطلق[ خا ُ م َ
ها { ]أي :ألجأها[ } ال َ جاَء َ التهام والذية منهم[ } فَأ َ
سّيا { ]مريم :
من ْ ِ
سًيا َت نَ ْ ُ
ذا وَكن ْ ُ ت قَب ْ َ
ل هَ َ م ّ َ
ت يا لي ْت َِني ِ خل َةِ َقال َ ْ
جذ ِْع الن ّ ْ } إ َِلى ِ
22و . [23
لما تعرفه مما هي متعرضة له من الناس ،وأنهم ل يصدقونها ،ولم تدر ما
الله صانع لها .
حت َِها { ]مريم . [24 :
ن تَ ْ
م ْ } فََناَدا َ
ها { ]الملك[ } ِ
وكانت في مكان مرتفع ،وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين .
) (1/465
َ
كسرِّيا { ]أي :نهرا جاريا[ } وَهُّزي إ ِل َي ْ ِ ك َحت َ ِك تَ ْ
ل َرب ّ ِ جعَ َ حَزِني قَد ْ َ } أّل ت َ ْ
ك ُرط ًَبا َ
جن ِّيا { ط عَل َي ْ ِ ساقِ ْ خل َةِ { ]من دون أن تحوجك إلى صعود[ } ت ُ َ جذ ِْع الن ّ ْ بِ ِ
ي[سر ّ شَرِبي { ]من ال ّ ُ
]أي :طريا ناضجا[ } فَكِلي { ]من الرطب[ } َوا ْ
ن
م َ ن ِ ما ت ََري ِ ّ } وَقَّري عَي ًْنا { بولدة عيسى ،وليذهب روعك وخوفك } فَإ ِ ّ
دا فَ ُ ال ْب َ َ
ما { ]أي :سكوتا ،وكان معهودا صو ْ ًن َ م ِ
ح َ
ت ِللّر ْقوِلي إ ِّني ن َذ َْر ُ ح ً شرِ أ َ َ
َ
عندهم أنهم يتعبدون بالصمت في جميع النهار ،ولذا فسره بقوله } [:فَل ْ
ن
ُ
سّيا { ]مريم . [26 - 24 : م إ ِن ْ ِم ال ْي َوْ َ أك َل ّ َ
فاطمأن قلبها ،وزال عنها ما كانت تجد .
ثم لما تعالت من نفاسها ،وأصلحت من شأنها ،وقويت بعد الولدة :
َ
ه { ]مريم . [27 : مل ُ ُ
ح ِ مَها ت َ ْت ب ِهِ قَوْ َ } فَأت َ ْ
علنا غير هائبة ول مبالية ،فلما رآه قومها ،وقد علموا أنه ل زوج لها ،جزموا
أنه من وجه آخر فقالوا :
َ َ ما َ ُ
شي ًْئا فَرِّيا {} يا أ ْ م لَ َ
ما
سوٍْء وَ َ مَرأ َ كا ْ ن أُبو ِ كا َ ن َ هاُرو َ
ت َ خ َ ت َ جئ ْ ِقد ْ ِ مْري َ ُ } يا َ
ت إ ِلي ْهِ { ]مريم . [29 - 27 : َ َ
ك ب َغِّيا {} فَأ َ ُ َ
شاَر ْ م ِ تأ ّ كان َ ْ
) (1/466
) (1/467
وقسم غلوا فيه وهم النصارى ،فقالوا فيه المقالت المعروفة ،ونزلوه منزلة
الرب ،تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
وقسم كفروا به وجفوه -وهم اليهود -ورموا أمه بما برأها الله منه ،ولهذا
م م ْ
شهَدِ ي َوْ ٍ ن َ
م ْ ن كَ َ
فُروا ِ ل ل ِل ّ ِ
ذي َ م فَوَي ْ ٌ
ن ب َي ْن ِهِ ْ م ْ ب ِ حَزا ُف اْل َ ْ
خت َل َ َ
قال تعالى َ } :فا ْ
ظيم ٍ { ]مريم . [37 : عَ ِ
ولما أرسله الله إلى بني إسرائيل آمن به من آمن ،وكفر به من كفر ،وجعل
يريهم اليات والعجائب ،فكان يصور الطين فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله
،ويبرئ الكمه والبرص ،ويحيي الموتى بإذن الله ،وينبئهم عن كثير مما
يأكلون ،ويدخرون في بيوتهم ،ومع ذلك فتكالبت عليه أعداؤه وأرادوا قتله ،
فألقى الله شبهه على واحد من الحواريين أصحابه أو من غيرهم ،ورفعه الله
إليه ،وطّهره من قتلهم ،فأخذوا شبيهه فقتلوه وصلبوه ،وباءوا بالثم
جرم الجسيم ،وصدقهم النصارى أنهم قتلوه وصلبوه ،ونّزهه الله العظيم وال ْ ُ
من هذه الحالة فقال :
م { ]النساء . [157 : ه لهُ ْ َ ن ُ
شب ّ َ صل َُبوه ُ وَلك ِ ْ
َ ما َ ما قَت َُلوه ُ وَ َ
} وَ َ
) (1/468
شر وأعلن برسالة محمد صلى الله عليه وقد قام عيسى في بني إسرائيل فب ّ
وسلم ،فلما جاءهم محمد الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم قالوا :
ن { ]النمل . [13 : مِبي ٌ
حٌر ُس ْ } َقاُلوا هَ َ
ذا ِ
ن{ مِبي ٌ
حٌر ُ
س ْ ّ ن هَ َ
ذا إ ِل ِ م إِ ْ
من ْهُ ْ ن كَ َ
فُروا ِ ذي َ ّ
ل ال ِ كما قالوا في عيسى } :فَ َ
قا َ
]المائدة . [110 :
* وفي هذه القصة من الفوائد أمور :
منها :أن النذر ما زال مشروعا في المم السابقة ،والنبي صلى الله عليه
وسلم قال فيه كلمة جامعة للصحيح النافذ منه للباطل فقال » :من نذر أن
يطيع الله فليطعه ،ومن نذر أن يعصي الله فل يعصه « .
ومنها :أن من نعمة الله على العبد أن يكون في كفالة الصالحين الخيار ;
فإن المربي والكافل له الثر العظم في حياة المكفول وأخلقه وآدابه ،
مَر الله المربين بالتربية الطيبة المشتملة على الحث على الخلق َ
ولهذا أ َ
الجميلة ،والترهيب من مساوئ الخلق .
) (1/469
سر لها أن تكونومنها :إثبات كرامات الولياء ; فإن الله كّرم مريم بأمور :ي ّ
في كفالة زكريا بعدما حصل الخصام في شأنها ،وأكرمها بأن كان رزُقها
يأتيها من الله بل سبب ،وأكرمها بوجود عيسى ،وولدتها إياه ،وبخطاب
من قلبها ،ثم بكلمه في المهد ،فهذه الخيرة جمعت كرامة الملك لها بما يط ّ
ي ومعجزة نبي . ول ّ
ومنها :اليات العظيمة التي أجراها الله على يد عيسى ابن مريم :من إحياء
الموتى ،وإبراء الكمه والبرص ونحوهما .
ومنها :ما أكرم الله به عيسى بأن جعل له حواريين وأنصارا في حياته وبعد
مماته في بث دعوته والنصر لدينه ،ولذلك كثر تابعوه ،ولكن منهم المستقيم
،وهو الذي آمن به حقيقة ،وآمن بجميع الرسل ،ومنهم المنحرف ،وهم
الذين غلوا فيه ،وهم جمهور من يدعي أنه من أتباعه ،وهم أبعد الناس
عنه .
ومنها :أن الله أثنى على مريم بالكمال بالصديقية ،وأنها صدقت بكلمات
ربها وكتبه ،وكانت من القانتين ،وهذا وصف لها بالعلم الراسخ ،والعبادة
الدائمة ،والخشوع لله ،وأنه اصطفاها وفضلها على نساء العالمين .
) (1/470
ومنها :أن إخبار الله للنبي بهذه القصة وغيرها مفصلة مطابقة للحقيقة من
أدلة رسالته وآيات نبوته لقوله :
حيهِ إ ِل َي ْك { ]آل عمران . [44 : كم َ
َ ن أن َْباِء ال ْغَي ْ ِ
ب ُنو ِ } ذ َل ِ َ ِ ْ
) (1/471
) (1/472
ومنها :ما فيها من أصول تعبير الرؤيا المناسبة ،وأن علم التعبير علم مهم
يعطيه الله من يشاء من عباده ،وأن أغلب ما تبنى عليه المناسبات وضرب
المثال والمشابهة في الصفات .
فوجه مناسبة رؤيا يوسف :أنه رأى الشمس والقمر والكواكب الحد عشر
ساجدين له ،أن هذه زينة للسماء ،وفيها منافعها ،فكذلك النبياء والعلماء
والصفياء زينة الرض ،وبهم يهتدى في الظلمات كما يهتدى بالنوار
السماوية ،ولن أباه وأمه أصل ،وإخوته فرع عنهما ،فمن المناسب أن
يكون الصل أعظم نورا وجرما من الفرع ،فلذلك كانت الشمس أمه أو أبوه
،والقمر الخر منهما ،والكواكب إخوته ،ومن المناسب أن الساجد محترم
لمن سجد له ،والمسجود له معظم محترم ،فدل ذلك على أن يوسف يصير
معظما محترما لبويه وإخوته ،ول يتم هذا إل بمقدمات تقتضي الوصول إلى
هذا :من علوم وأعمال واجتباء من الله ،فلهذا قال :
ْ
ك{ ه عَل َي ْ َ
مت َ ُ
م ن ِعْ َ
ث وَي ُت ِ ّ ل اْل َ َ
حاِدي ِ ن ت َأِوي ِ
م ْ
ك ِ ك وَي ُعَل ّ ُ
م َ ك َرب ّ َ
جت َِبي َ } وَك َذ َل ِ َ
ك يَ ْ
]يوسف . [6 :
) (1/473
ومنها :المناسبة في رؤيا الفتيين ،حيث عبر رؤيا من رأى أنه يعصر خمرا أن
الذي يعمل هذا العمل يكون في العادة خادما لغيره ،وأيضا العصر مقصود
لغيره ،والخادم تابع لغيره ،ويؤول أيضا إلى السقي الذي هو خدمته ،فلذلك
أّوله بما يؤول إليه ،وأما تعبيره لرؤيا من رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا
تأكل الطير منه ،بأنه يقتل ويصلب مدة حتى تأكل الطير من مخ رأسه الذي
هو يحمل .
وعبر رؤيا الملك بالبقرات والسنبلت :بأنها السنين المخصبة والمجدبة ،
ووجه المناسبة أن الملك به ترتبط أمور الرعية ومصالحها ،وبصلحه تصلح ،
وبفساده تفسد ،فهذه نسبته إذ رأى هو الرؤيا ،وكذلك السنون بخصبها
وجدبها تنتظم أمور المعاش أو تختل ،والبقر هي آلة حرث الرض واستخراج
مغلها ،والمغل هو الزرع ،فرأى السبب والمسبب ،فرؤيته السبع السمان
من البقر ثم السبع العجاف ،والسبع السنبلت الخضر ،ثم السبع اليابسات ،
أي :ل بد أن تتقدم السبع السنين المخصبات ،ثم تتلوها المجدبات ،وتأكل
ما حصل فيها من غلل ،ول تبقي إل شيئا يحصنونه عنها ،وإل فهي بصدد
أكلها كلها .
فإن قيل :من أين أخذ قوله :
) (1/474
ن ب َعْد ِ ذ َل ِ َ ْ
ن { ]يوسف : صُرو َس وَِفيهِ ي َعْ ِ ث الّنا ُ م ِفيهِ ي َُغا ُ عا ٌك َ م ْ م ي َأِتي ِ} ثُ ّ
. [49
فإن بعض المفسرين قال :هذه زيادة من يوسف في التعبير بوحي أوحي
إليه .
فالجواب ليس المر كذلك ،وإنما أخذها من رؤيا الملك ،فإن السنين
المجدبة سبع فقط ،فدل على أنه سيأتي بعدها عام الخصب ،كثير
البركات ،يزيل الجدب العظيم الحاصل من السنين المجدبة التي ل يزيلها
عام خصب عادي ،بل ل بد فيه من خصب خلف العادة ،وهذا واضح وهو
من مفهوم العدد .
ومنها :ما فيها من الدلة والبراهين على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم ،حيث قص عليه هذه القصة المفصلة المبسوطة الموافقة للواقع
التي أتت بالمقصود كله ،وهو لم يقرأ كتب الولين ،ول دارس أحدا كما هو
معلوم لقومه ،وهو بنفسه ُأمي ل يقرأ ول يكتب ،ولهذا قال :
َ َ كم َ
م
م وَهُ ْ
مَرهُ ْ
مُعوا أ ْ
ج َ ت ل َد َي ْهِ ْ
م إ ِذ ْ أ ْ ما ك ُن ْ َ
ك وَ َحيهِ إ ِل َي ْ َب ُنو ِ ن أن َْباِء ال ْغَي ْ ِ} ذ َل ِ َ ِ ْ
ن { ]يوسف . [102 : مك ُُرو َ
يَ ْ
ومنها :أنه ينبغي للعبد البعد عن أسباب الشر ،وكتمان ما تخشى مضّرته ،
لقول يعقوب ليوسف :
) (1/475
) (1/476
) (1/477
ومنها :الحذر من شؤم الذنوب ،فكم من ذنب واحد استتبع ذنوبا كثيرة ،
وتسلسل الشر المؤسس على الذنب الول ،وانظر إلى جرم إخوة يوسف ،
فإنهم أرادوا التفريق بينه وبين أبيه الذي هو من أعظم الجرائم ،احتالوا على
ذلك بعدة حيل ،وكذبوا عدة مرات ،وزوروا على أبيهم في القميص والدم
الذي فيه ،وفي صفة حالهم حين أتوا عشاء يبكون ،ول بد أن الكلم في
هذه القضية تسلسل وتشعب ،بل ربما أنه اتصل إلى الجتماع بيوسف ،
وكلما بحث في هذا الموضوع فهو بحث كذب وزور مع استمرار أثر المصيبة
على يعقوب ،بل وعلى يوسف ،فليحذر العبد من الذنوب ،خصوصا الذنوب
المتسلسلة ،وضد ذلك بعض الطاعات تكون طاعة واحدة ،ولكن يتسلسل
نفعها وبركتها حتى تستتبع طاعات من الفاعل وغيره ،وهذا من أعظم آثار
بركة الله للعبد في علمه وعمله .
) (1/478
ومنها :أن العبرة للعبد في حال كمال النهاية ،ل بنقص البداية ،فإن أولد
يعقوب عليهم السلم جرى منهم ما جرى في أول المر من الجرائم المتنوعة
،ثم انتهى أمرهم إلى التوبة النصوح ،والعتراف التام ،والعفو التام عنهم
من يوسف ومن أبيهم ،والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة ،وإذا سمح العبد
بحق فالله أولى بذلك وهو خير الراحمين الغافرين ،ولهذا في أصح القوال
إن الله جعلهم أنبياء لمحو ما سبق منهم ،وكأنه ما كان ،ولقوله :
ط
سَبا ِ َ ْ
ب َوال ْ
قو َحاقَ وَي َعْ ُ
س َ عي َ
ل وَإ ِ ْ ما ِ
س َ
م وَإ ِ ْ
هي َ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي َْنا وَ َ } وَ َ
{ ]البقرة . [136 :
وهم أولد يعقوب الثنا عشر وذريتهم ،ومما يؤيد هذا أن في رؤيا يوسف
أنهم هم الكواكب التي فيها النور والهداية ،وهي من صفات النبياء ،فإن لم
يكونوا أنبياء فإنهم علماء عباد .
) (1/479
ن الله به على يوسف من العلم والحلم ،والخلق الكاملة ، ومنها :ما م ّ
والدعوة إلى الله وإلى دينه ،وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوا بادرهم به ،
مم ذلك بأن أخبرهم أنه ل يثرب عليهم بعد هذا العفو ،ثم بره العظيم بأبيه وت َ ّ
وأمه وإحسانه على إخوته ،وإحسانه على عموم الخلق ،كما هو بّين في
سيرته وقصته .
ومنها :أن بعض الشر أهون من بعض ،وارتكاب أخف الضررين أولى من
ارتكاب أعظمهما ؛ فإن إخوة يوسف لما قالوا :
َ } اقْتُلوا يوس َ َ
ضا { ]يوسف . [9 : حوهُ أْر ً ف أوِ اط َْر ُ ُ ُ ُ
وقال قائل منهم :
ْ ْ ْ ْ ف وأ َ
م ت نُ ك نإ ة ريا
ّ ّ َ ِ ِ ْ ُْ ْ سال ض ع ب ه ط ق ت لي ب
َ َ ِ ُ ّ َ َِ ُ َْ ُج لا ةب ياَ غ فيُ ِ ه قو
ُ ل س َ َ قت ُُلوا ُيو ُ} َل ت َ ْ
ن { ]يوسف . [10 : عِلي َ َفا ِ
كان قوله أحسن منهم وأخف ،وبسببه خف عن إخوته الثم الكبر ،وهو من
جملة السباب التي قدر الله ليوسف في وصوله إلى الغاية التي يريد .
) (1/480
ومنها :أن الشيء إذا تداولته اليدي ،وصار من جملة الموال ،ولم يعلم
المعاملون أنه على غير وجه الشرع ،فل إثم على من باشره ببيع أو شراء أو
خدمة أو انتفاع أو استعمال ،فإن يوسف باعه إخوته بيعا محّرما عليهم ،
واشترته السيارة بناء على أنه عبد لخوة يوسف البائعين ،ثم ذهبوا به إلى
مصر فباعوه بها ،وبقي عند سيده غلما رقيقا ،وسماه الله سيدا ،وكان
عندهم بمنزلة الرقيق المكرم ،وسمى الله شراء السيارة وشراءه في مصر
معاملة لما ذكرنا .
ومنها :الحذر من الخلوة بالنساء الجنبيات ،وخصوصا اللتي يخشى منهن
الفتنة ،والحذر أيضا من المحبة التي يخشى ضررها ؛ فإن امرأة العزيز جرى
حدها بيوسف ،وحبها الشديد له الذي ما تركها حتى
منها ما جرى بسبب تو ّ
راودته تلك المراودة ،ثم كذبت عليه فسجن ذلك السجن الطويل .
) (1/481
م به يوسف ثم تركه لله ولبرهان اليمان الذي وضعه ومنها :أن الهم الذي ه ّ
الله في قلبه مما يرّقيه إلى الله زلفى ؛ لن الهم داع من دواعي النفس
طبع عليها الدمي ،فإذا حصل الهم بالمعصية مارة بالسوء ،وهو طبيعة ُ ال ّ
ولم يكن عند العبد ما يقاوم ذلك من اليمان والخوف من الله وقع الذنب ،
وإن كان العبد مؤمنا كامل اليمان فإن الهم الطبيعي إذا قابله ذلك اليمان
الصحيح القوي منعه من ترتب أثره ،ولو كان الداعي قويا ،ولهذا كان
يوسف من أعلى هذا النوع ،قال تعالى :
سوَء
ّ ال ه ن ع ف رص ن ل
ِ َِ ْ ِ َ َْ ُ َ
ك لَ ذَ ك } [: ن َرب ّهِ { ]بدليل قوله ها َن َرَأى ب ُْر َ َ
} ل َوَْل أ ْ
ن { ]يوسف . [24 : خل َ ِ
صي َ عَبادَِنا ال ْ ُ
م ْ ن ِ م ْ ه ِ
شاَء إ ِن ّ ُ ح َ َوال ْ َ
ف ْ
لستخلص الله إياه ،وقوة إيمانه وإخلصه ،خّلصه الله من الوقوع في
الذنب ،فكان ممن خاف مقام ربه ،ونهى النفس عن الهوى ،ومن أعلى
السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم ل ظل إل ظله ،فذكر صلى الله عليه
وسلم منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال :إني أخاف الله ،
مها لما كان ل معارض له استمرت في مراودته ،وهمه عارض عرض ،ثم فه ّ
زال في الحال ببرهان ربه .
) (1/482
ومنها :أن من دخل اليمان قلبه استنار بمعرفة ربه ونور اليمان به ،وكان
مخلصا لله في كل أحواله ،فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه وإخلصه من
أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء ليمانه وإخلصه ; لن
ن{ خل َ ِ
صي َ م ْعَبادَِنا ال ْ ُ
ن ِ
م ْه ِالله علل صرف هذه المور عن يوسف بقوله } :إ ِن ّ ُ
على قراءة من قرأها بكسر اللم ،ومن قرأها بالفتح فإن من أخلصه الله
واجتباه فل بد أن يكون مخلصا ،فالمعنيان متلزمان .
ومنها :أنه ينبغي للعبد إذا ابتلي بالوقوع في محل فيه فتنة وأسباب معصية
أن يفر ويهرب غاية ما يمكنه ؛ ليتمكن من التخلص من ذلك الشر ،كما فر
يوسف هاربا للباب ،وهي تمسك بثوبه وهو مدبر عنها .
ومنها :أن القرائن يعمل بها عند الشتباه في الدعاوى ،وذلك أن الشاهد
الذي شهد أي :حكم على يوسف وعلى المرأة اعتبر القرينة فقال :
ل { ]يوسف . [26 : ن قُب ُ ٍ ه قُد ّ ِ
م ْ ص ُ ن قَ ِ
مي ُ ن َ
كا َ } إِ ْ
إلى آخر القضية ،وصار حكمه هذا موافقا للصواب ،ومن القرائن وجود
الصواع في رحل الخ ،وقد اعتبر هذا وهذا .
) (1/483
ومنها :ما عليه يوسف من الجمال الباهر ظاهرا وباطنا ،فإن جماله الظاهر
أوجب لمرأة العزيز ما أوجب من الحب المفرط والمراودة المستمرة ،ولما
لمها النساء دعتهن :
ً َ
مان فَل َ ّ ج عَل َي ْهِ ّ خُر ْ
تا ْ كيًنا وََقال َ ِ س ّن ِ من ْهُ ّحد َةٍ ِ ل َوا ِ ت كُ ّ مت ّك َأ َوآت َ ْ ت ل َهُ ّ
ن ُ } وَأعْت َد َ ْ
مل َ ٌ رأ َينه أ َك ْبرنه وقَط ّع َ
ك ذا إ ِّل َ ن هَ َ شًرا إ ِ ْ ذا ب َ َ
ما هَ َ ش ل ِل ّهِ َ
حا َ ن َ ن وَقُل ْ َ ن أي ْدِي َهُ ّ ْ َ َْ َ ُ َ َ َْ ُ
م { ]يوسف . [31 : ري ٌ كَ ِ
وأما جماله الباطن فهو العفة العظيمة منه مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع
السوء منه ،ولكن اليمان ونوره ،والخلص وقوته ل يشذ عنهما فضيلة ،ول
تجامعهما رذيلة ،وقد بينت امرأة العزيز للنساء من يوسف المرين ،فإنها
لما أرتهن جماله الظاهر الذي اعترفن أن هذا الجمال ل يوجد في الدميين
قالت :
م { ]يوسف . [32 : ص َست َعْ َ َ
سهِ فا ْ ف ِ ن نَ ْ ه عَ ْ
قد ْ َراوَد ْت ُ ُ } وَل َ َ
َ
نم َه لَ ِ سهِ وَإ ِن ّ ُ ف ِ ن نَ ْه عَ ْ حقّ أَنا َراوَد ْت ُ ُ ص ال ْ َ ح َ ص َح ْ ن َ وقالت بعد ذلك } :اْل َ
ن { ]يوسف . [51 : صادِِقي َ ال ّ
) (1/484
ومنها :أن يوسف صلى الله عليه وسلم اختار السجن على المعصية ،فهكذا
إذا ابتلي العبد بأحد أمرين ،إما أن يلجأ إلى فعل المعصية ،وإما أن يعاقب
عقوبة دنيوية ،فعليه أن يختار العقوبة الدنيوية التي فيها الثواب من هذا
الوجه بعدة أمور :ثواب من جهة اختياره اليمان على السلمة من العقوبة
الدنيوية ،وثواب من جهة أن هذا من باب التخليص للمؤمن والتصفية ،وهو
يدخل في الجهاد في سبيل الله ،وثواب من جهة المصيبة التي نالته واللم
الذي أصابه ،فسبحان من ينعم ببلئه ،ويلطف بأصفيائه ،وهذا أيضا عنوان
اليمان ،وعلمة السعادة .
ومنها :أنه ينبغي للعبد أن يلتجئ إلى ربه ،ويحتمي بحماه عند وجود أسباب
المعصية ،ويتبرأ من حوله وقوته لقول يوسف :
ْ َ ف عَني ك َيدهُ َ
ن { ]يوسف . [33 : جاهِِلي َ
ن ال َم َ
ن ِ ب إ ِل َي ْهِ ّ
ن وَأك ُ ْ ص ُ
نأ ْْ َ ّ } وَإ ِّل ت َ ْ
صرِ ْ ّ
فالعبد الموفق يستعين ربه على دفع المعاصي وأسبابها ،كما يستعين به عند
فعل الطاعات والخيرات ،والله كافي المتوكلين .
) (1/485
ومنها :أن العلم والعقل الصحيح يدعوان صاحبهما إلى الخير ،وينهيانه عن
َ َ
ن
م َ
ن ِ ب إ ِل َي ْهِ ّ
ن وَأك ُ ْ ص ُ
الشر ،وأن الجهل يدعو صاحبه إلى ضد ذلك لقوله } :أ ْ
ن { أي :الجاهلين بالمور الدينية ،والجاهلين بالحقائق النافعة ال ْ َ
جاهِِلي َ
والحقائق الضارة .
ومنها :أنه كما على العبد عبودية لربه في حال رخائه ،فعليه عبودية في
حال الشدة ،فيوسف صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو إلى الله ،فلما
دخل السجن استمر على ذلك ،ودعا من يتصل به من أهل السجن ،ودعا
الفتيين إلى التوحيد ،ونهاهما عن الشرك ،ومن كمال رأيه وحكمته أنه لما
رأى فيهما قابلية لدعوته حين احتاجا إليه في تعبير رؤياهما وقال له :
ن { ]يوسف . [36 : سِني َ
ح ِ ن ال ْ ُ
م ْ م َ } إ ِّنا ن ََرا َ
ك ِ
رأى ذلك فرصة ،فدعاهما إلى الله قبل أن يعبر رؤياهما ؛ ليكون أقرب إلى
حصول المطلوب ،وبّين لهما أن الذي أوصله إلى هذه الحال التي رأياه فيها
كه لملة المشركين ،وهذا دعاء لهما ده وتر ُ
من الكمال والعلم إيمانه وتوحي ُ
بالحال ،ثم دعاهما بالمقال ،وبرهن لهما على حسن التوحيد ووجوبه ،وعلى
قبح الشرك وتحريمه .
) (1/486
ومنها :أنه يبدأ بالهم فالهم ،وأنه إذا سئل المفتي وكان السائل حاجته في
غير سؤاله أشد ّ أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله ،
فإن هذا علمة على نصح المعلم وفطنته وحسن إرشاده وتعليمه ; فإن
يوسف لما سأله الفتيان عن رؤياهما ،وكانت حاجتهما إلى التوحيد واليمان
دمها .
أعظم من كل شيء ،ق ّ
ومنها :أن من وقع في مكروه وشدة ل بأس أن يستعين بمن له قدرة على
تخليصه بفعله ،أو الخبار بحاله ،وأن هذا ل يكون نقصا ول شكوى إلى
المخلوق ممنوعة ،فإن هذا من المور العادية التي جرى العرف باستعانة
الناس بعضهم ببعض فيها ،ولهذا قال يوسف للذي ظن أنه ناج منهما :
ك { ]يوسف . [42 : } اذ ْك ُْرِني ِ
عن ْد َ َرب ّ َ
) (1/487
ومنها :أنه يتعين على المعلم والداعي إلى الله استعمال الخلص التام في
تعليمه ودعوته ،وأن ل يجعل ذلك وسيلة إلى معاوضة في مال أو جاه أو نفع
،وأن ل يمتنع من التعليم إذا لم يفعل السائل ما كلفه به المعلم ،فإن
يوسف قد وصى أحد الفتيين أن يذكره عند ربه فلم يذكره ونسي ،فلما بدت
حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى ،وجاءه سائل مستفتيا عن تلك
م تذكرني عند م لَ ْ
الرؤيا ،فلم يعنفه يوسف ول وبخه ،بل ول قال له :ل ِ َ
ربك ؟ وأجابه جوابا تاما من جميع الوجوه .
ومنها :أنه ينبغي للمسؤول إذا أجاب السؤال أن يدل السائل على المر
الذي ينفعه مما يتعلق بسؤاله ،ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه
ودنياه ،فإن هذا من كمال نصحه ،وجزالة رأيه ،وحسن إرشاده ; فإن
يوسف لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك ،بل دلهم مع ذلك ،وأشار عليهم بما
يصنعونه في تلك السنين المخصبات من الكثار من الزراعة ،وحسن الحفظ
والجباية .
ومنها :أنه ل يلم العبد على دفع التهمة عن نفسه ،بل ذلك مطلوب كما
امتنع يوسف من الخروج من السجن حتى تتبين لهم براءته مع النسوة اللتي
قطعن أيديهن .
) (1/488
ومنها :فضيلة العلم ،علم الشرع والحكام ،وعلم تعبير الرؤيا ،وعلم
التدبير والتربية ،وعلم السياسة ،فإن يوسف صلى الله عليه وسلم إنما
حصلت له الرفعة في الدنيا والخرة بسبب علمه المتنوع ،وفيه أن علم
التعبير داخل في الفتوى ،فل يحل لحد أن يجزم بالتعبير قبل أن يعرف
ذلك ،كما ليس له أن يفتي في الحكام بغير علم ؛ لن الله سماها فتوى في
هذه السورة .
ومنها :أنه ل بأس أن يخبر النسان عما في نفسه من الصفات الكاملة ،من
العلم وغيره ،إذا كان في ذلك مصلحة وسلم من الكذب ،ولم يقصد به
الرياء ،لقول يوسف :
م { ]يوسف . [55 : ٌ َ ْ جعَل ِْني عََلى َ } َقا َ
فيظ عَِلي ٌ
ح ِ
ض إ ِّني َ
ن الْر ِخَزائ ِ ِ لا ْ
وكذلك ل تذم الولية إذا كان المتولي لها يقوم بما يقدر عليه من إقامة
الشرع ،وإيصال الحقوق إلى أهلها ،وأنه ل بأس بطلبها إذا كان أهل ،
وأعظم كفاءة من غيره ،وإنما المذموم إذا لم يكن فيه كفاءة ،أو كان
موجودا من هو أمثل منه أو مثله ،أو لم يرد بها إقامة أمر الله بل أراد
الترؤس والمأكلة المالية .
) (1/489
ومنها :أن الله واسع الجود والكرم ،يجود على عبده بخير الدنيا والخرة ،
وأن خير الخرة له سببان ل ثالث لهما :اليمان بكل ما أوجب الله اليمان به
،والتقوى التي هي امتثال الوامر الشرعية واجتناب النواهي ،وأن خير
الخرة خير من ثواب الدنيا وملكها ،وأنه ينبغي للعبد أن يدعو نفسه ويشوقها
لثواب الله ،ول يدعها تحزن إذا رأت لذات الدنيا ورياساتها وهي عاجزة
عنها ،بل يسليها بالثواب الخروي ليخف عليها عدم حصول الدنيا ،لقول
يوسف :
ن { ]يوسف . [57 : قو َ َ
مُنوا وَكاُنوا ي َت ّ ُ
نآ َ
ذي َ ّ
خي ٌْر ل ِل ِ
خَرةِ َ ْ } وََل َ ْ
جُر ال ِ
ومنها :أن جباية الرزاق إذا أريد بها التوسعة على الناس من غير ضرر
يلحقهم ل بأس به ،بل ذلك مطلوب ؛ لن يوسف أمرهم بجباية الرزاق
والطعمة في السنين المخصبات للستعداد به للسنين المجدبات ،وقد حصل
به الخير الكثير .
) (1/490
ومنها :حسن تدبير يوسف لما تولى خزائن الديار المصرية من أقصاها إلى
أقصاها ،فنهض بالزراعة حتى كثرت الغلل جدا ،فصار أهل القطار
يقصدون مصر لطلب الميرة منها عندما فقدوا ما عندهم ؛ لعلمهم بوفورها
في مصر ،ومن عدله وتدبيره وخوفه أن يتلعب بها التجار أنه ل يكيل لحد
إل مقدار الحاجة الخاصة أو أقل ،ل يزيد كل قادم على كيل بعير وحمله ،
وظاهر حاله هذا أنه ل يعطي أهل البلد إل أقل من ذلك بكثير لحضورهم
عنده .
ومنها :مشروعية الضيافة ،وأنها من سنن المرسلين ،وإكرام الضيف ،
لقول يوسف :
ن { ]يوسف . [59 : من ْزِِلي َ ل وَأ ََنا َ
خي ُْر ال ْ ُ ن أ َّني ُأوِفي ال ْك َي ْ َ َ
} أَل ت ََروْ َ
ومنها :أن سوء الظن مع وجود القرائن الدالة عليه غير ممنوع ول محرم ;
فإن يعقوب قال لولده :
ن قَب ْ ُ ل آمنك ُم عَل َيه إّل ك َما أ َمنتك ُم عََلى أ َِ
ل { ]يوسف . [64 : م
ِ ِ ْ ه خي َ ِ ُْ ْ ْ ِ ِ } هَ ْ َ ُ ْ
َ َ
مًرا { ]يوسف . [83 : مأ ْ سك ُ ْ
ف ُ م أن ْ ُ ت ل َك ُ ْ
سوّل َ ْ وقال } :ب َ ْ
ل َ
فهم في الخيرة ،وإن لم يكونوا مفرطين ،فقد جرى منهم ما أوجب لبيهم
أن يقول ما قال من غير لوم عليه .
) (1/491
ومنها :أن استعمال السباب الدافعة للعين وغيرها من المكاره ،أو الرافعة
لها بعد نزولها غير ممنوع ،وإن كان ل يقع شيء إل بقضاء الله وقدره ،فإن
السباب أيضا من القضاء والقدر ; لقول يعقوب :
خُلوا م َ
َ
فّرقةٍ { ]يوسف : مت َ َ
ب ُ
وا ٍن أب ْ َ
ِ ْ حد ٍ َواد ْ ُب َوا ِ ن َبا ٍم ْ خُلوا ِ ي َل ت َد ْ ُ
} يا ب َن ِ ّ
. [67
ومنها :جواز استعمال الحيل والمكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق ،وأن
العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد ،وأما
الحيل التي يراد بها إسقاط واجب أو فعل محرم فإنها محرمة غير نافذة .
ومنها :أنه ينبغي لمن أراد أن يوهم غيره بأمر ل يحب بيانه له أن يستعمل
المعاريض القولية والفعلية المانعة له من الكذب ،كما فعل يوسف حين
ألقى الصواع في رحل أخيه ،ثم استخرجها معه موهما أنه سارق ،وليس
في ذلك تصريح بسرقته ،وإنما استعمل المعاريض ،ومثل هذا قوله :
ْ َ
عن ْد َه ُ { ]يوسف . [79 : مَتاعََنا ِ جد َْنا َن وَ َم ْخذ َ إ ِّل َن ن َأ ُمَعاذ َ الل ّهِ أ ْ } َ
ولم يقل :من سرق متاعنا .
) (1/492
ومنها :أنه ل يجوز أن يشهد إل بما علمه ،وتحققه برؤية أو سماع لقولهم :
مَنا { ]يوسف . [81 : ما عَل ِ ْشهِد َْنا إ ِّل ب ِ َ ما َ } وَ َ
ن { ]الزخرف . [86 : مو َ َ
م ي َعْل ُ
حقّ وَهُ ْ ْ
شهِد َ ِبال َ ن َ م ْ ّ
وقوله } :إ ِل َ
ومنها :هذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها نبيه وصفيه يعقوب عليه
السلم ،إذ قضى بالتفريق بينه وبين ابنه يوسف الذي ل يقدر على فراقه
ساعة واحدة ،ويحزنه أشد الحزن ،فتم لهذه الفرقة مدة طويلة ويعقوب لم
يفارق الحزن قلبه ،وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ،ثم ازداد به المر
حين اتصل فراق البن الثاني بالول ،وهو في ذلك صابر لمر الله ،محتسب
الجر من الله ،وقد وعد من نفسه الصبر الجميل ،ول ريب أنه وّفى بما وعد
به ،ول ينافي ذلك قوله :
ّ َ
حْزِني إ ِلى اللهِ { ]يوسف . [86 : كو ب َّثي وَ ُ ش ُ ما أ َ ْ
} إ ِن ّ َ
فإن الشكوى إلى الله ل تنافي الصبر ،وإنما الذي ينافيه الشكوى إلى
المخلوقين ،ول ريب أن الله رفعه بهذه المحنة درجات عالية ومقامات
سامية ،ل تنال إل بمثل هذه المور .
) (1/493
ومنها :أن الفرج مع اشتداد الكرب ،فإنه لما تراكمت الشدائد المتنوعة ،
وضاق العبد ذرعا بحملها ،فرجها فارج الهم ،كاشف الغم ،مجيب دعوة
المضطرين ،وهذه عوائده الجميلة ،خصوصا لوليائه وأصفيائه ،ليكون لذلك
الوقع الكبر ،والمحل العظم ،وليجعل من المعرفة بالله والمحبة له ما
يوازن ويرجح بما جرى على العبد بل نسبة .
ومنها :جواز إخبار العبد بما يجد ،وما هو فيه من مرض أو فقر غيرهما على
خط ،لقول يعقوب : غير وجه التس ّ
َ
ف { ]يوسف . [84 : س َ فى عََلى ُيو ُ س َ
} يا أ َ
َ
ضّر { ]يوسف . [88 : سَنا وَأهْل ََنا ال ّ م ّوقول إخوة يوسف َ } :
وأقرهم يوسف .
ومنها :فضيلة التقوى والصبر ،وأن كل خير في الدنيا والخرة فمن آثار
التقوى والصبر ،وأن عاقبة أهلهما أحسن العواقب لقوله :
ْ َ
ن{ سِني َ
ح ِ
م ْ
جَر ال ُ ه َل ي ُ ِ
ضيعُ أ ْ ن الل ّ َ
صب ِْر فَإ ِ ّ
ق وَي َ ْن ي َت ّ ِ
م ْه َه عَل َي َْنا إ ِن ّ ُ
ن الل ّ ُ
م ّ } قَد ْ َ
]يوسف . [90 :
ومنها :أنه ينبغي للعبد إذا أنعم عليه بنعمة بعد ضدها أن يتذكر الحالة
السابقة ؛ ليعظم وقع هذه النعمة الحاضرة ،ويكثر شكره لله تعالى ،ولهذا
قال يوسف :
) (1/494
) (1/495
) (1/496
فأووا إلى غار يسره الله غاية التيسير ،واسع الفجوة ،بابه نحو الشمال ل
تدخله الشمس ،ل في طلوعها ول في غروبها ،فناموا في كهفهم بحفظ الله
ورعايته ثلثمائة سنة وازدادوا تسعا ،وقد ضرب الله عليهم نطاقا من الرعب
على قربهم من مدينة قومهم ،ثم إنه في الغار تولى حفظهم بقوله :
ل { ]الكهف . [18 : ما ِ ش َ ت ال ّ ن وََذا َ مي ِ ت ال ْي َ ِ م َذا َ قل ّب ُهُ ْ
} وَن ُ َ
ض أجسادهم ،ثم أيقظهم بعد هذه المدة الطويلة : وذلك لئل ُتبلي الر ُ
م { ] ،وليقفوا في آخر المر على الحقيقة . [: ساَءُلوا ب َي ْن َهُ ْ } ل ِي َت َ َ
َ َ
ما م أعْل َ ُ
م بِ َ ض ي َوْم ٍ َقاُلوا َرب ّك ُ ْ ما أوْ ب َعْ َ م َقاُلوا ل َب ِث َْنا ي َوْ ً م ل َب ِث ْت ُ ْم كَ ْ من ْهُ ْ ل ِل َقائ ِ ٌ } َقا َ
َ َ َ
ماكى ط ََعا ً دين َةِ فَل ْي َن ْظ ُْر أي َّها أْز َ
م ِم هَذِهِ إ َِلى ال ْ َ م ب ِوَرِقِك ُ ْ حد َك ُ ْ م َفاب ْعَُثوا أ َ ل َب ِث ْت ُ ْ
ْ
ف { ]الكهف [19 :إلى آخر القصة . ه وَل ْي َت َل َط ّ ْ من ْ ُق ِ م ب ِرِْز ٍفَل ْي َأت ِك ُ ْ
* ففيها آيات بينات وفوائد متعددة :
منها :أن قصة أصحاب الكهف وإن كانت عجيبة فليست من أعجب آيات الله
،فإن لله آيات عجيبة وقصصا فيها عبرة للمعتبرين .
) (1/497
منها :أن من أوى إلى الله أواه الله ،ولطف به ،وجعله سببا لهداية الضالين
; فإن الله لطف بهم في هذه القومة الطويلة إبقاء على إيمانهم وأبدانهم من
فتنة قومهم وقتلهم ،وجعل هذه النومة من آياته التي يستدل بها على كمال
قدرة الله ،وتنوع إحسانه ،وليعلم العباد أن وعد الله حق .
منها :الحث على تحصيل العلوم النافعة والمباحثة فيها ؛ لن الله بعثهم لجل
ذلك ،وببحثهم ثم بعلم الناس بحالهم حصل البرهان والعلم بأن وعد الله حق
،وأن الساعة آتية ل ريب فيها .
منها :الدب فيمن اشتبه عليه العلم أن يرده إلى عالمه ،وأن يقف عند ما
يعرف .
منها :صحة الوكالة في البيع والشراء وصحة الشركة في ذلك ،لقولهم :
ْ دين َةِ فَل ْي َن ْظ ُْر أ َي َّها أ َْز َ َ
ما فَل ْي َأت ِك ْ
م ُ كى ط ََعا ً م هَذِهِ إ َِلى ال ْ َ
م ِ م ب ِوَرِقِك ُ ْ
حد َك ُ ْ } َفاب ْعَُثوا أ َ
ه{. من ْ ُق ِب ِرِْز ٍ
منها :جواز أكل الطيبات ،والتخير من الطعمة ما يلئم النسان ويوافقه ،
كى إذا لم تخرج إلى حد السراف المنهي عنه ،لقوله } :فَل ْي َن ْظ ُْر أ َي َّها أ َْز َ
ْ
ه{. من ْ ُ
ق ِ م ب ِرِْز ٍ ما فَل ْي َأت ِك ُ ْ
ط ََعا ً
) (1/498
ومنها :الحث والتحرز والستخفاء ،والبعد عن مواقع الفتن في الدين ،
واستعمال الكتمان الذي يدرأ عن النسان الشر .
ومنها :بيان رغبة هؤلء الفتية في الدين ،وفرارهم من كل فتنة في دينهم ،
وتركهم لوطانهم وعوائدهم في الله .
ومنها :ذكر ما اشتمل عليه الشر من المضار والمفاسد الداعية لبغضه وتركه
،وأن هذه الطريقة طريقة المؤمنين .
ومنها :أن قوله :
َ َ َ
دا { ]الكهف [21 :فيه ج ً
س ِم ْم َ خذ َ ّ
ن عَلي ْهِ ْ م لن َت ّ ِ ن غَل َُبوا عَلى أ ْ
مرِهِ ْ َ ذي َل ال ّ ِ } َقا َ
دليل على أن هؤلء القوم الذين بعثوا في زمانهم أناس أهل تدين ؛ لنهم
عظموهم هذا التعظيم حتى عزموا على اتخاذ مسجد على كهفهم ،وهذا إن
كان ممنوعا -وخصوصا في شريعتنا -فالمقصود بيان أن ذلك الخوف العظيم
من أهل الكهف وقت إيمانهم ودخولهم في الغار أبدلهم الله به بعد ذلك أمنا
وتعظيما من الخلق ،وهذه عوائد الله فيمن تحمل المشاق من أجله أن
يجعل له العاقبة الحميدة .
ومنها :أن كثرة البحث وطوله في المسائل التي ل أهمية لها ل ينبغي
النهماك به لقوله :
ظاهًِرا { ]الكهف . [22 : مَراًء َم إ ِّل ِ
مارِ ِفيهِ ْ } فََل ت ُ َ
) (1/499
) (1/500
) (2/1
فأول مقاماته في إنزال القرآن عليه أنه كان قبل البعثة قد بغضت إليه عبادة
الوثان ،وبغض إليه كل قول قبيح وفعل قبيح ،وفطر صلى الله عليه وسلم
فطرة مستعدة متهيئة لقول الحق علما وعمل ،والله تعالى هو الذي طّهر
مله ،فكان من رغبته العظيمة فيما يقرب إلى الله أنه كان قلبه وزكاه وك ّ
يذهب إلى غار حراء اليام ذوات العدد ،ويأخذ معه طعاما يطعم منه
المساكين ويتعّبد ويتحنث فيه ،فقلبه في غاية التعلق بربه ،ويفعل من
العبادات ما وصل إليه علمه في ذلك الوقت الجاهلي الخالي من العلم ،ومع
ذلك فهو في غاية الحسان إلى الخلق ،فلما تم عمره أربعين سنة ،وتمت
ح لتلقي أعظم رسالة أرسل الله بها أحدا من خلقه ، صل ُ َ
قوته العقلية ،وَ َ
دى له جبريل صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا هاله وأزعجه ،إذ لم يتقدم تب ّ
دم الله له الرؤيا ،التي كان ل يرى رؤيا إل جاءت له شيء من ذلك ،وإنما ق ّ
مثل فلق الصبح .
فأول ما أنزل الله عليه :
َ ْ
خلقَ { ]العلق . [1 : ذي َ ك ال ّ ِسم ِ َرب ّ َ
} اقَْرأ ِبا ْ
فجاءه بها جبريل وقال له :اقرأ ،فأخبره أنه ليس بقارئ -أي ل يعرف أن
دى { ]الضحى . [7 : ضاّل فَهَ َ جد َ َ
ك َ يقرأ -كما قال تعالى } :وَوَ َ
) (2/2
) (2/3
) (2/4
فكان أعظم مقامات دعوته :دعوته إلى التوحيد الخالص ،والنهي عن ضده ;
دعا الناس لهذا ،وقرره الله في كتابه ،وصرفه بطرق كثيرة واضحة تبين
وجوب التوحيد وحسنه ،وتعينه طريقا إلى الله وإلى دار كرامته ،وقرار
إبطال الشرك والمذاهب الضارة بطرق كثيرة احتوى عليها القرآن ،وهي
أغلب السور المكية ،فاستجاب له في هذا الواحد بعد الواحد على شدة
عظيمة من قومه ،وقاومه قومه وغيرهم ،وبغوا له الغوائل ،وحرصوا على
إطفاء دعوته بجهدهم وقولهم وفعلهم ،وهو يجادلهم ويتحداهم أن يأتوا بمثل
هذا القرآن ،وهم يعلمون أنه الصادق المين ،ولكنهم يكابرون ويجحدون
آيات الله ،كما قال تعالى :
ن { ]النعام . [33 :دو َ
ح ُ
ج َ ّ
ت اللهِ ي َ ْ
ن ِبآَيا ِ
مي َ ّ ك وَل َك ِ ّ
ن الظال ِ ِ م َل ي ُك َذ ُّبون َ َ
} فَإ ِن ّهُ ْ
) (2/5
ولهذا لما كان استماعهم للقرآن على وجه الكفر والجحد والتكذيب ،وتوطين
نفوسهم على معاداته ،أخبر الله تعالى أنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه
،وفي آذانهم وقرا ،وأنهم ل يهتدون بسبب ما أسسوا من هذا الصل الخبيث
،المانع لصاحبه من كل خير وهدى ،وهذا مما يعلم به حكمة الباري في
إضلل الضالين ،وأنهم لما اختاروا لنفسهم الضلل ورغبوا فيه وّلهم الله ما
تولوا لنفسهم ،وتركهم في طغيانهم يعمهون ،وأنهم لما ردوا نعمة الله
عليهم حين جاءتهم قلب الله أفئدتهم ،وأصم أسماعهم ،وأعمى أبصارهم
وأفئدتهم ،وهذا الوصف الذي أشرنا إليه قد ذكره الله في كتابه عنهم ،وهو
يعينك على فهم آيات كثيرة يخبر الله فيها بضللهم وانسداد طرق الهداية
عليهم ،وعدم قبول محالهم وقلوبهم للهدى ،والذنب ذنبهم وهم السبب في
ذلك ; قال تعالى :
َ َ َ َ
ن
م ْ
ن أوْل َِياَء ِ
طي َ ذوا ال ّ
شَيا ِ خ ُ
م ات ّ َ
ة إ ِن ّهُ ُ
ضلل ُ م ال ّ
حقّ عَلي ْهِ ُ
قا َ دى وَفَ ِ
ري ً قا هَ َ } فَ ِ
ري ً
ن اللهِ { ]العراف . [30 : ّ ُدو ِ
) (2/6
وبضده تعرف الحكمة في هدايته للمؤمنين ،وأنهم لما كانوا منصفين ليس
غرضهم إل الحق ،ول لهم قصد إل طلب رضا ربهم ،هداهم الله بالقرآن ،
وازدادت به علومهم ومعارفهم وإيمانهم وهدايتهم المتنوعة ،قال تعالى :
ت إ َِلى ن الظ ّل ُ َ
ما ِ م َم ِ
جهُ ْ سَلم ِ وَي ُ ْ
خرِ ُ ل ال ّسب ُ َ
ه ُ وان َ ُ
ض َ
ن ات ّب َعَ رِ ْم ِ
ه َدي ب ِهِ الل ّ ُ } ي َهْ ِ
قيم ٍ { ]المائدة . [16 : ست َ ِ
م ْط ُ صَرا ٍ م إ ِلى َِ ديهِ ْ ْ
الّنورِ ب ِإ ِذن ِهِ وَي َهْ ِ
وهذا الوصف الجليل للمؤمنين هو الساس لهدايتهم ،وزيادة إيمانهم ،
وانقيادهم ،وبه ينفتح لك الباب في فهم اليات في أوصاف المؤمنين ،
وسرعة انقيادهم للحق :أصوله وفروعه .
) (2/7
ومن مقامات النبي صلى الله عليه وسلم مع المكذبين له أنه يدعوهم
بالحكمة والموعظة الحسنة ،ويجادلهم بالتي هي أحسن ،ويدعوهم أفرادا
ومتفرقين ،ويذكرهم بالقرآن ،ويتلوه في الصلة وخارجها ،وكانوا إذا
سمعوه صموا آذانهم ،وقد يسبونه ويسبون من أنزله ،فأنزل الله على
رسوله آيات كثيرة في هذا المعنى يبين حالهم مع سماع القرآن وشدة
نفورهم كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ،وأن شياطينهم ورؤساءهم
في الشر فكروا وقدروا ونظروا فيما يقولون عن القرآن ويصفونه به ؛
لينفروا عنه الناس ،حتى قرار رئيسهم الوليد بن المغيرة الذي سماه الله
وحيدا فقال :إن هذا إل سحر يؤثر ،إن هذا إل قول البشر ،ولكن أبى الله
ل كلم ،ويزهق هذا الحق كل باطل ،وكانوا من إل أن يعلو هذا الكلم ك ّ
إفكهم يقولون في القرآن القوال المتناقضة ،يقولون :إنه سحر ،إنه
كهانة ،إنه شعر ،إنه كذب ،إنه أساطير ; فجعلوا القرآن عضين ،كل هذا
أثر البغض الذي أحرق قلوبهم ،حتى قالوا فيه مقالة المجانين ،وكلما قالوا
قول من هذه القوال أنزل الله آيات يبطل بها ما قالوا ،ويبين زورهم
وافتراءهم وتناقضهم .
) (2/8
وكان من الدلة والبراهين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ،وأن
القرآن من عند الله ،مقابلة المكذبين له ،فإن من نظر إليها علم أنها سلح
عليهم ،وأكبر دليل على أنهم مقاومون للحق ،ساعون في إبطاله ،وأنهم
على الباطل الذي ليس له حظ من العقل ،كما ليس له حظ من الدين ،
وكانوا أيضا يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم القوال التي ليس فيها
دللة على ما كانوا يعتقدون ،وليس فيها نقص بالنبي صلى الله عليه وسلم ،
يقولون :لو أن محمدا صادق لنزل الله ملئكة يشهدون له بذلك ،ولغناه
الله عن المشي في السواق ،وطلب الرزق كما يطلبه غيره ،ولجعل له كذا
وكذا مما توحي إليه عقولهم الفاسدة ،ويذكرها الله في القرآن في مواضع
متعددة ،تارة يصورها للعباد فقط ؛ لن من تصورها عرف بطلنها ،وأنها
شَبه القادحة ،فضل عن الحجج المعتبرة ،وتارة يصورها ويذكر ليست من ال ّ
ما يبطلها من المور الواضحة ،وهذا كثير في القرآن .
) (2/9
ومن مقاماتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يسعون أشد السعي أن
يكف عن عيب آلهتهم ،والطعن في دينهم ،ويحبون أن يتاركهم ويتاركوه ،
لعلمهم أنه إذا ذكر آلهتهم ،ووصفها بالصفات التي هي عليه من النقص ،
وأنه ليس فيها شيء من الصفات يوجب أن تستحق شيئا من العبادة ،
يعرفون أن الناس يعرفون ذلك ،ويعترفون به ،فل أحب إليهم من التزوير ،
وإبقاء المور على علتها من غير بحث عن الحقائق ؛ لنهم يعرفون حق
المعرفة أن الحقائق إذا بانت ظهر للخلق بطلن ما هم عليه :وهذا الذي منه
يفرون ،وهذا المقام أيضا ذكره الله في آيات متعددة مثل قوله :
ن { ]القلم [9 :ونحوها من اليات . } وَّدوا ل َوْ ت ُد ْهِ ُ
ن فَي ُد ْهُِنو َ
عل ْم ٍ { سّبوا الل ّ َ
ه عَد ًْوا ب ِغَي ْرِ ِ ن الل ّهِ فَي َ ُ
ن ُدو ِ
م ْ
ن ِ
عو َ
ن ي َد ْ ُ سّبوا ال ّ ِ
ذي َ وأما } :وََل ت َ ُ
]النعام . [108 :
فهذا إذا ترتب على السب المذكور سبهم لله ،فإنه يترك لما يترتب عليه من
الشر .
) (2/10
ومن مقاماتهم المتنوعة مع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترحون
اليات بحسب أهوائهم ،ويقولون :إن كنت صادقا فأتنا بعذاب الله ،أو بما
تعدنا ،أو أزل عنا جبال مكة ،واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا ،وحتى يحصل لك
كذا وكذا مما ذكره الله عنهم ،فيجيبهم الله عن هذه القوال بأن رسوله
صلى الله عليه وسلم قد أيده الله باليات ،والله أعلم بما ينزل من آياته ،
وأعلم بما هو أنفع لهم ،وأنه قد حصل المقصود من بيان صدقه ،وقامت
الدلة والبراهين على ذلك ،فقول الجاهل الحمق :لو كان كذا وكذا . .جهل
منه وكبر ومشاغبة محضة ،وتارة يخبرهم أنه ل يمنعه من التيان بها إل
البقاء عليهم ،وأنها لو جاءت ل يؤمنون ،فعند ذلك يعاجلهم الله بالعقاب .
وتارة يبين لهم أن الرسول إنما هو نذير مبين ،ليس له من المر شيء ،ول
من اليات شيء ،وأن هذا من عند الله ،فطلبهم من الرسول محض الظلم
والعدوان ،وهذه المعاني في القرآن كثيرة بأساليب متعددة .
) (2/11
وأحيانا يقدحون في الرسول قدحا يعترضون فيه على الله ،وأنه لول نزل هذا
القرآن على رجل من القريتين عظيم ،ومحمد ليس كذلك ،وأنك يا محمد
لست بأولى بفضل الله منا ،فلي شيء تفضل علينا بالوحي ؟ . . .ونحوه
من القوال الناشئة عن الحسد ،فيجيبهم الله بذكر فضله ،وأن فضله يؤتيه
من يشاء ،وأنه أعلم حيث يجعل رسالته والمحل اللئق بها ،ويشرح لهم من
صفات رسوله التي يشاهدونها رأي عين ما يعلمون هم وغيرهم أنه أعظم
رجل في العالم ،وأنه ما وجد ولن يوجد أحد يقاربه في الكمال ،مؤيدا ذلك
بالمور المحسوسة والبراهين المسلمة ،وقد أبدا الله هذه المعاني وأعادها
معهم في مواضع كثيرة .
ومن مقاماته صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين الرأفة العظيمة ،والرحمة
لهم ،والمحبة التامة ،والقيام معهم في كل أمورهم ،وأنه لهم أرحم وأرأف
من آبائهم وأمهاتهم ،وأحنى عليهم من كل أحد ،كما قال تعالى :
ص عَل َي ْك ْ
م ُ ري ٌ
ح ِ
م َ زيٌز عَل َي ْهِ َ
ما عَن ِت ّ ْ سك ُ ْ
م عَ ِ ن أ َن ْ ُ
ف ِ م ْل ِسو ٌ جاَءك ُ ْ
م َر ُ قد ْ َ } لَ َ
م { ]التوبة . [128 : حي ٌ
ف َر ِن َرُءو ٌ مؤ ْ ِ
مِني َ ِبال ْ ُ
) (2/12
) (2/13
سرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد القصى ؛ ليريه من آياته ، ُ
ثم أ ْ
وعرج به إلى فوق السماوات السبع ،وفرض الله عليه الصلوات الخمس
بأوقاتها وهيئاتها ،وجاءه جبريل على أثرها فعّلمه أوقاتها وكيفّياتها ،وصلى به
يومين ،اليوم الول صّلى الصلوات الخمس في أول وقتها ،واليوم الثاني
في آخر الوقت ،وقال :الصلة ما بين هذين الوقتين ،ففرضت الصلوات
الخمس قبل الهجرة بنحو ثلث سنين ،ولم يفرض الذان في ذلك الوقت ،
ول بقية أركان السلم ،وانتشر السلم في المدينة وما حولها .
ومن جملة السباب :أن الوس والخزرج كان اليهود في المدينة جيرانا لهم ،
وقد أخبروهم أنهم ينتظرون نبيا قد أظل زمانه ،وذكروا من أوصافه ما دلهم
عليه ; فبادر الوس والخزرج واجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة
وتيقنوا أنه رسول الله ،وأما اليهود فاستولى عليهم الشقاء والحسد ،فلما
جاءهم ما عرفوا كفروا به ،وكان المسلمون في مكة في أذى شديد من
قريش ،فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة أول إلى الحبشة ،
ثم لما أسلم كثير من أهل المدينة صارت الهجرة إلى المدينة .
) (2/14
وحين خاف أهل مكة من هذه الحال اجتمع ملؤهم ورؤساؤهم في دار الندوة
يريدون القضاء التام على النبي صلى الله عليه وسلم ; فاتفق رأيهم أن
ينتخبوا من قبائل قريش من كل قبيلة رجل شجاعا ،فيجتمعون ويضربونه
بسيوفهم ضربة واحدة .قالوا :لجل أن يتفرق دمه في القبائل ،فتعجز بنو
هاشم عن مقاومة سائر قريش فيرضون بالدية ،فهم يمكرون ويمكر الله
والله خير الماكرين ،فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعزم
على الهجرة ،وأخبر أبا بكر بذلك وطلب منه الصحبة ،فأجابه إلى ذلك
وخرج في تلك الليلة التي اجتمعوا على اليقاع به ،وأمر علّيا أن ينام على
فراشه ،وخرج هو وأبو بكر إلى الغار ،فلم يزالوا يرصدونه حتى برق
ي فقالوا :أين صاحبك ؟ قال :ل أدري . الفجر ،فخرج إليهم عل ّ
ثم ذهبوا يطلبونه في كل وجهة ،وجعلوا الجعالت الكثيرة لمن يأتي به ،
وكان الجبل الذي فيه الغار قد امتل من الخلق يطلبون رسول الله صلى الله
عليه وسلم ،فقال أبو بكر :يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه
لبصرنا .فقال :يا أبا بكر ،ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ وأنزل الله تعالى :
) (2/15
) (2/16
وفي السنة الثانية أيضا كانت وقعة بدر ،وسببها أن عيرا لقريش تحمل تجارة
عظيمة من الشام ،خرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن خف من أصحابه
لطلبها ،فخرجت قريش لحمايتها ،وتوافوا في بدر على غير ميعاد ،فالعير
نجت والنفير التقوا مع الرسول وأصحابه ،وكانوا ألفا كاملي العدد والخيل ،
والمسلمون ثلثمائة وبضعة عشر على سبعين بعيرا يعتقبونها ،فهزم الله
المشركين هزيمة عظيمة ،قتلت سرواتهم وصناديدهم ،وُأسر من ُأسر منهم
،وأصاب المشركين مصيبة ما ُأصيبوا بمثلها ،وهذه الغزوة أنزل الله فيها
وفي تفاصيلها سورة النفال ،وبعدما رجع إلى المدينة منها مظفرا منصورا
ذل من بقي ممن لم ُيسلم من الوس والخزرج ،ودخل بعضهم في السلم
نفاقا ،ولذلك جميع اليات نزلت في المنافقين إنما كانت بعد غزوة بدر .
) (2/17
ثم في السنة الثالثة كانت غزوة أحد ،غزا المشركون وجيشوا الجيوش على
المسلمين حتى وصلوا إلى أطراف المدينة ،وخرج إليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأصحابه وعبأهم ورتبهم ،والتقوا في ُأحد عند الجبل
المعروف شمالي المدينة ،وكانت الدائرة في أول المر على المشركين ،ثم
لما ترك الرماة مركزهم الذي رتبهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
غلبنا ،وجاءت الخيل مع تلك الثغرة وقال لهم :ل تبرحوا عنه ،ظَهرنا أو ُ
ُ
وكان ما كان ،حصل على المسلمين في أحد مقتلة أكرمهم الله بالشهادة
في سبيله ،وذكر الله تفصيل هذه الغزوة في سورة آل عمران ،وبسط
متعلقاتها ،فالوقوف على هذه الغزوة من كتب السير يعين على فهم اليات
الكثيرة التي نزلت فيها كبقية الغزوات .
ثم في السنة الرابعة تواعد المسلمون والمشركون فيها -في بدر -فجاء
المسلمون لذلك الموعد ،وتخلف المشركون معتذرين أن السنة مجدبة ،
فكتبها الله غزوة للمسلمين :
هّ ّ
ن اللهِ َوالل ُ
وا َ
ض َ
سوٌء َوات ّب َُعوا رِ ْ
م ُ
سهُ ْ س ْ
م َ م يَ ْ َ
لل ْ ن الل ّهِ وَفَ ْ
ض ٍ م َ قل َُبوا ب ِن ِعْ َ
مةٍ ِ } َفان ْ َ
ظيم ٍ { ]آل عمران . [174 : ل عَ ِ ض ٍ ُذو فَ ْ
) (2/18
ثم في سنة خمس كانت غزوة الخندق ،اتفق أهل الحجاز وأهل نجد ،
وظاهرهم بنو قريظة من اليهود على غزو النبي صلى الله عليه وسلم ،
وجمعوا ما يقدرون عليه من الجنود ،فاجتمع نحو عشرة آلف مقاتل وقصدوا
المدينة ،ولما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم خندق على المدينة ،
وخرج المسلمون نحو الخندق ،وجاء المشركون كما وصفهم الله بقوله :
َ } إذ ْ جاُءوك ُم من فَوقك ُم وم َ
بقُلو ُت ال ْ ُ
صاُر وَب َل َغَ ِ
ت اْلب ْ َ من ْك ُ ْ
م وَإ ِذ ْ َزاغَ ِ ف َ
ل ِ س َ
نأ ْْ ِ ْ ْ ِ ْ َ ِ ْ ِ َ
جَر { ]الحزاب . [10 : ال ْ َ
حَنا ِ
ومكثوا محاصرين المدينة عدة أيام ،وحال الخندق بينهم وبين اصطدام
الجيوش ،وحصل مناوشات يسيرة بين أفراد من الخيل ،وسبب الله عدة
أسباب لنخذال المشركين ،ثم انشمروا إلى ديارهم ،فلما رجعوا خائبين لم
ينالوا ما كانوا جازمين على حصوله ،تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم لبني
قريظة الذين ظاهروا المشركين بقولهم وتشجيعهم على قصد المدينة ،
ومظاهرتهم الفعلية ونقضهم ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم
فحاصرهم ،فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم أن تقتل مقاتلتهم ،
وتسبى ذراريهم ،وفي هذه الغزوة أنزل الله صدر سورة الحزاب من قوله :
) (2/19
َ َ
سل َْنا عَل َي ْهِ ْ
م جُنود ٌ فَأْر َم ُجاَءت ْك ُ ْ ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ
م إ ِذ ْ َ مُنوا اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ
م َ نآ َ ذي َ} يا أي َّها ال ّ ِ
َ ها { ]إلى قوله } [:وأ َورث َك ُ َ
موال َهُ ْم َ
م وَأ ْ م وَدَِياَرهُ ْ
ضهُ ْم أْر َ ْ َ َْ جُنوًدا ل َ ْ
م ت ََروْ َ حا وَ ُ ِري ً
َ
ه عَلى ك ُ ّ ّ ها وَ َ َ َ َ
ديًرا { ]الحزاب . [27 - 9 : يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ن الل ُكا َ م ت َطُئو َ ضا ل ْ وَأْر ً
) (2/20
ثم في سنة ست من الهجرة اعتمر صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرة
الحديبية ،وكان البيت ل ُيصد ّ عنه أحد ،فعزم المشركون على صد النبي
صلى الله عليه وسلم عنه ،ولما بلغ الحديبية ورأى المشركين قد أخذتهم
الحمية الجاهلية جازمين على القتال دخل معهم في صلح لحقن الدماء في
بيت الله الحرام ،ولما في ذلك من المصالح ،وصار الصلح على أن يرجع
النبي صلى الله عليه وسلم عامه هذا ول يدخل البيت ،ويكون القضاء من
العام المقبل ،وتضع الحرب أوزارها بينهم عشر سنين ; فكره جمهور
المسلمين هذا الصلح حين توهموا أن فيه غضاضة على المسلمين ،ولم
يطلعوا على ما فيه من المصالح الكثيرة ،فرجع صلى الله عليه وسلم عامه
ذلك ،وقضى هذه العمرة في عام سبع من الهجرة ،فأنزل الله في هذه
مِبيًنا { ]الفتح . [1 :
حا ُ حَنا ل َ َ
ك فَت ْ ً القضية سورة الفتح بأكملها } :إ ِّنا فَت َ ْ
) (2/21
فكان هذا الفتح لما فيه من الصلح الذي تمكن فيه المسلمون من الدعوة
إلى السلم ،ودخول الناس في دين الله حين شاهدوا ما فيه من الخير
والصلح والنور ،وقد تقدم أن قصة بني قريظة دخلت في ضمن قصة
الخندق ،أما قبيلة بني النضير من اليهود فإنها قبل ذلك حين هموا بالفتك
بالنبي صلى الله عليه وسلم ،وكانوا على جانب المدينة غزاهم صلى الله
عليه وسلم واحتموا بحصونهم ،ووعدهم المنافقون حلفاؤهم بنصرتهم ،
فألقى الله الرعب في قلوبهم ،وأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
على أن يجلوا عن ديارهم ولهم ما حملت إبلهم ،ويدعوا الرض والعقار وما
لم تحمله البل للمسلمين ; فأنزل الله في هذه القضية أول سورة الحشر :
َ فروا م َ ذي أ َ ْ
شرِ { ل ال ْ َ
ح ْ م ِلوّ ِ
ن دَِيارِهِ ْ
م ْ ل ال ْك َِتا ِ
ب ِ ن أهْ ِ
ِ ْ ن كَ َ ُ ج ال ّ ِ
ذي َ خَر َ } هُوَ ال ّ ِ
]الحشر [2 :إلى آخر القصة .
وفي سنة ثمان من الهجرة ،وقد نقضت قريش العهد الذي بينهم وبين النبي
صلى الله عليه وسلم غزا مكة في جند كثيف من المسلمين يقارب عشرة
آلف ،فدخلها فاتحا لها ،ثم تممها بغزو حنين على هوازن وثقيف ،فتم بذلك
نصر الله لرسوله وللمسلمين ،وأنزل الله في ذلك أول سورة التوبة .
) (2/22
وفي سنة تسع من الهجرة غزا تبوك وأوعب المسلمون معه ،ولم يتخلف إل
أهل العذار وأناس من المنافقين ،وثلثة من صلحاء المؤمنين :كعب بن
مالك وصاحباه ،وكان الوقت شديدا ،والحر شديدا ،والعدو كثيرا ،والعسرة
مشتدة ،فوصل إلى تبوك ومكث عشرين يوما ولم يحصل قتال فرجع إلى
المدينة ; فأنزل الله في هذه الغزوة آيات كثيرة من سورة التوبة ،يذكر
تعالى تفاصيلها وشدتها ،ويثني على المؤمنين ،ويذم المنافقين وتخلفهم ،
ويذكر توبته على النبي والمهاجرين والنصار الذين اتبعوه في ساعة
العسرة ،ويدخل معهم الثلثة الذين خلفوا بعد توبتهم وإنابتهم .
وفي مطاوي هذه الغزوات يذكر الله آيات الجهاد وفرضه وفضله وثواب
أهله ،وما للناكلين عنه من الذل العاجل والعقاب الجل ،كما أنه في أثناء
هذه المدة ينزل الله الحكام الشرعية شيئا فشيئا بحسب ما تقتضيه حكمته .
) (2/23
وفي سنة تسع من الهجرة أو سنة عشر فرض الله الحج على المسلمين ،
وكان أبو بكر حج بالناس سنة تسع ،ونبذ إلى المشركين عهودهم ،وأتم
عهود الذين لم ينقضوا ،ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سنة
عشر واستوعب المسلمين معه ،وأعلمهم بمناسك الحج والعمرة بقوله
وفعله ،وأنزل الله اليات التي في الحج وأحكامه ،وأنزل الله يوم عرفة :
) (2/24
َ } ال ْيو َ
م ِديًنا {سَل َم اْل ِ ْ ت ل َك ُ ُضي ُ مِتي وََر ِ م ن ِعْ َت عَل َي ْك ُ ْ م ُ م ْم وَأت ْ َ م ِدين َك ُ ْ ت ل َك ُ ْ مل ْ ُم أك ْ َ َ ْ َ
]المائدة . [3 :
فلم يبق من العلوم النافعة علم إل بّينه لهم ،فإن القرآن تبيان لكل شيء ،
فعلوم الصول وعلوم الفروع والحكام ،وعلوم الخلق والداب ،وعلوم
الكون ،وكل ما يحتاجه الخلق من ذلك اليوم إلى أن تقوم الساعة ،ففي
القرآن بيانه والرشاد إليه ،وهو الذي إليه المرجع في جميع الحقائق
الشرعية والعقلية ،ومحال وممتنع أن يأتي علم صحيح ل محسوس ول
ميد ٍ { ، ح ِ كيم ٍ َ ح ِ ن َ م ْ ل ِ زي ٌ معقول ينقض شيئا مما جاء به القرآن ؛ فإنه } ت َن ْ
ن وَل َْ ْ َ خل ْفه { ِ } ،أ َ } َل ي َأ ِْتيهِ ال َْباط ِ ُ
و رآ
ْ َ ُ ق لا ن رو
ََ َُّ َ بد ت ي ل َ ف ن َ ِ ِ م ْن ي َد َي ْهِ وََل ِ ن ب َي ْ ِم ْ ل ِ
خت َِلًفا ك َِثيًرا { . دوا ِفيهِ ا ْ ج ُ عن ْد ِ غَي ْرِ الل ّهِ ل َوَ َ ن ِ م ْ ن ِ َ
كا َ
َ
م{: ي أقْوَ ُ دي ل ِل ِّتي هِ َ ن ي َهْ ِ قْرآ َذا ال ْ ُ ن هَ َ } إِ ّ
ل { ]الحزاب . [4 : سِبي َ دي ال ّ حقّ وَهُوَ ي َهْ ِ ل ال ْ َقو ُ ه يَ ُ } َوالل ّ ُ
) (2/25
فهذه الية جمعت بين نوعي العلوم ،فإن العلوم وسائل ومقاصد ،وهو الحق
الذي يقول الله في كتابه ،وعلى لسان رسوله ،ونوع وسائل ،وهو الهداية
إلى السبيل إلى كل علم وعمل ،كما أن قوله تعالى :
سيًرا { ]الفرقان . [33 :
ف ِ
ن تَ ْ
س َح َ
َ
حقّ وَأ ْ ك ِبال ْ َ جئ َْنا َل إ ِّل ِ مث َ ٍ
ك بِ َ} وََل ي َأ ُْتون َ َ
جمعت الكمال في ألفاظه ومعانيه ؛ فألفاظه أوضح اللفاظ وأبلغها وأحسنها
تفسيرا لكل ما تفسره من الحقائق ،بوضوحها وأحكامها وقوامها ،ومعانيه
كلها حق ،وذلك أنه تمت كلمة ربك صدقا وعدل ،صدقا في أخبارها ،وعدل
في أحكامها :أوامرها ونواهيها :
} وم َ
ن { ]المائدة . [50 : قوْم ٍ ُيوقُِنو َما ل ِ َحك ْ ً ن الل ّهِ ُ م َ ن ِ س ُح َ نأ ْ َ َ ْ
فأحكامه على الطلق أحسن الحكام وأنفعها للعباد ،فهذا في شرعه ودينه
ونظيره في خلقه ،الذي أحسن كل شيء خلقه ،وبدأ خلق النسان من طين
.
وقد جمع الله في كتابه بين المتقابلت العامة ،وذلك لكمال هذا الكتاب
وأحكامه كالمثلة السابقة ،وكما في قوله تعالى :
وى { ]المائدة . [2 : } وَت ََعاوَُنوا عََلى ال ْب ِّر َوالت ّ ْ
ق َ
) (2/26
فإن البر اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد والخلق والعمال ،
والتقوى اسم جامع لما يجب اتقاؤه من جميع المآثم والمضار ،ولهذا قال } :
ن { ]سورة المائدة . [2 : وََل ت ََعاوَُنوا عََلى اْل ِث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ
فالثم المعاصي المتعلقة بحقوق الله ،والعدوان البغي على الخلق في
الدماء والموال والعراض والحقوق .
وكذلك قوله تعالى :
وى { ]البقرة . [197 : ق َخي َْر الّزادِ الت ّ ْ ن َ } وَت ََزوُّدوا فَإ ِ ّ
فجمع بين زاد سفر الدنيا ،وزاد سفر الخرة بالتقوى .
وكذلك قوله تعالى :
ُ ُ َ ْ َ
شا { ]العراف :م وَِري ً
وآت ِك ْ
س ْواِري َ
سا ي ُ َ
م ل َِبا ً م قَد ْ أن َْزلَنا عَلي ْك ْ } يا ب َِني آد َ َ
. [26
فهذا اللباس الحسي الضروري والكمالي ،ثم قال :
خي ٌْر { ]العراف . [26 : ك َ وى ذ َل ِ َ ق َس الت ّ ْ } وَل َِبا ُ
فهذا اللباس المعنوي ،وإن شئت قلت عن الول إنه لباس البدن ،وعن
لباس التقوى إنها لباس القلب والروح .
وكذلك قوله تعالى :
سُروًرا { ]النسان . [11 : ضَرةً وَ ُ م نَ ْ } وَل َ ّ
قاهُ ْ
جمع لهم بين نعيم الظاهر بالنضرة والحسن والبهاء ونعيم الباطن بكمال
الفرح والسرور .
وكذلك قوله في صفة نساء الجنة :
) (2/27
) (2/28
فاعبده وتوكل عليه تجمع جميع ما يراد من العبد ; فالعبادة حق الله على
العبد ،والعانة من ربه إسعافه بما استعان عليه من عبودية ربه وغيرها من
منافعه ; فالعبد في عبادة لله واستعانة به .
وكذلك قوله :
ُ َ
م ة وَل َن َ ْ
جزِي َن ّهُ ْ حَياة ً ط َي ّب َ ً
ه َ ن فَل َن ُ ْ
حي ِي َن ّ ُ م ٌ مؤ ْ ِ ن ذ َك َرٍ أوْ أن َْثى وَهُوَ ُ م ْ حا ِ صال ِ ًل َ م َ ن عَ ِ م ْ } َ
َ َ
ن { ]النحل . [97 : مُلو َ كاُنوا ي َعْ َ ما َ ن َ س ِ ح َ م ب ِأ ْ جَرهُ ْ أ ْ
فجمع للمؤمن العامل للصالحات بين طيب الحياة في الدنيا والخرة ،
ونظيره :
َ
ة { ]النحل . [30 : سن َ ٌ ح َسُنوا ِفي هَذِهِ الد ّن َْيا َ ح َ نأ ْ ذي َ } ل ِل ّ ِ
خَرةِ أ َك ْب َُر { ]النحل . [41 : جُر اْل ِ } وََل َ ْ
ة { ]البقرة . [201 : سن َ ًح َ خَرةِ َ ة وَِفي اْل ِ سن َ ًح َ } َرب َّنا آت َِنا ِفي الد ّن َْيا َ
ن { ]البقرة . [277 : حَزُنو َ م يَ ْ َ
م وَل هُ ْ َ
ف عَلي ْهِ ْ خو ْ ٌ وكذلك قوله } :وََل َ
في مواضع نفي جميع المكروه الماضي ينفي الحزن والمستقبل بنفي
الخوف .
ة ن َِعيم ٍ { ]الواقعة . [89 : جن ّ ُن وَ َ حا ٌ ح وََري ْ َ َ
وكذلك قوله تعالى } :فَروْ ٌ
فالروح اسم جامع لنعيم القلب ،والريحان اسم جامع لنعيم البدان ،وجنة
نعيم تجمع المرين .
) (2/29
) (2/30
) (2/31
) (2/32
) (2/33
) (2/34
وهذه المعية تقتضي العناية من الله والنصر والتأييد والتسديد بحسب قيام
العبد بذلك الوصف الذي رتبت عليه المعية .
ونظير هذا التقسيم وصف العباد بأنهم عبيد لله يرد في القرآن على نوعين :
نوع عام مثل قوله :
دا { ]مريم . [93 :
ن عَب ْ ً ض إ ِّل آِتي الّر ْ َ ْ ن كُ ّ
م ِ
ح َ ت َوالْر ِ ماَوا ِس َن ِفي ال ّ م ْ ل َ } إِ ْ
أي :معبدا مملوكا لله ،والنوع الثاني العبودية الخاصة ،وهي تقتضي أن
العبد بمعنى العابد المتعبد لربه القائم بعبوديته ،وذلك مثل قوله :
ن { ]الفرقان . [63 : م ِ ح َ
عَباد ُ الّر ْ } وَ ِ
ن عَلى عَب ْدِهِ { ]الفرقان . [1 : َ فْرَقا َ ْ
ل ال ُ ذي ن َّز َ ّ
ك ال ِ } ت ََباَر َ
ّ َ
ف عَب ْد َهُ { ]الزمر . [36 : َ
ه ب ِكا ٍ س الل ُ } أل َي ْ َ
فبحسب قيام العبد بعبودية ربه تحصل له كفاية الله .
ونظير هذا القنوت يرد في القرآن على قسمين :قنوت عام مثل قوله :
َْ
ن { ]الروم . [26 : ل لَ ُ
ه َقان ُِتو َ ض كُ ّ
ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ
ن ِفي ال ّ م ْ ه َ } وَل َ ُ
) (2/35
أي :الكل عبيد خاضعون لربوبيته وتدبيره .النوع الثاني :وهو الكثر في
القرآن :القنوت الخاص ،وهو دوام الطاعة لله على وجه الخشوع مثل قوله
َ
ما { ]الزمر . [9 : دا وََقائ ِ ً
ج ًسا ِ
ل َ ت آَناَء الل ّي ْ ِ ن هُوَ َقان ِ ٌ م ْ م َ }:أ ْ
ن { ]البقرة . [238 : موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ } وَُقو ُ
دي { ]آل عمران . [43 : ج ِ س ُ ك َوا ْم اقْن ُِتي ل َِرب ّ ِ مْري َ ُ } يا َ
ت { ]الحزاب . . [35 :ونحوها . قان َِتا ِ ْ
ن َوال َ قان ِِتي َ } َوال ْ َ
* فائدة :طغيان الرئاسة وطغيان المال يحملن صاحبهما على الكبر والبطر
والبغي على الحق وعلى الخلق ،برهان ذلك قوله تعالى :
مل ْ َ َ َ
ك { ]البقرة [258 : ه ال ْ ُ
ن آَتاهُ الل ّ ُم ِفي َرب ّهِ أ ْ هي َج إ ِب َْرا ِحا ّذي َ م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ } أل َ ْ
.
وقوله :
َ ْ َ
ست َغَْنى { ]العلق 6 :و . [7 ن َرآهُ ا ْ ن لي َطَغى {} أ ْ سا َ ن اْل ِن ْ َ } إِ ّ
) (2/36
فعلل هذا التجرؤ والطغيان بحصول الملك ورؤيته لنفسه الستغناء ،أما
الموفقون الصفياء فإنهم في هذه الحوال يخضعون لله ويعترفون له بالنعمة
ويزداد تواضعهم ; ولهذا لما رأى سليمان عليه السلم من ملكه ملكا كبيرا ،
ورأى عرش ملكة سبأ مستقرا عنده لم يطغ ويقل :هذا من حولي وقوتي ،
فُر { ،وقال م أ َك ْ ُ َ
شك ُُر أ ْ ل َرّبي ل ِي َب ْل ُوَِني أ َأ َ ْ ض ِ ن فَ ْم ْ ذا ِ ل هَ َ ونحوه ،بل قال َ } :قا َ
َ َ َ ّ َ َ َ
ي
ي وَعَلى َوال ِد َ ّ ت عَل ّ م َ ك الِتي أن ْعَ ْ مت َ َ شك َُر ن ِعْ َنأ ْ ب أوْزِعِْني أ ْ قبل ذلك َ } :ر ّ
ن{. عَبادِ َ مت ِ َ ْ َ م َ وأ َ َ
حي َ صال ِ ِ ك ال ّ ك ِفي ِ ح َخلِني ب َِر ْ ضاه ُ وَأد ْ ِ حا ت َْر َ صال ِ ً
ل َ ن أعْ َ َ ْ
* فائدة :من الحكمة استعمال اللين في معاشرة المؤمنين ،وفي مقام
الدعوة للكافرين ،كما قال تعالى :
حوْل ِكَن َ م ْ ضوا ِ ف ّ ب لن ْ ََ ْ
قل ِ ْ َ
ت فَظا غِليظ ال ََ ّ م وَل َوْ كن ْ َ
ُ ت ل َهُ ْ ن الل ّهِ ل ِن ْ َ م َ مةٍ ِ ح َ
ما َر ْ } فَب ِ َ
{ ]آل عمران . [159 :
َ
شى { ]طه . [44 : خ َ ّ
ه ي َت َذ َكُر أوْ ي َ ْ ه قَوًْل لي ًّنا لعَل ُ
ّ َ َ قوَل ل َ ُ وقال } :فَ ُ
) (2/37
فأمر باللين في هذه المواضع ،وذكر ما يترتب عليه من المصالح ،كما أن
من الحكمة استعمال الغلظة في موضعها .قال تعالى :
َ
ظ عَل َي ْهِ ْ
م { ]التحريم . [9 : ن َواغْل ُ ْ قي َ مَنافِ ِفاَر َوال ْ ُ جاهِدِ ال ْك ُ ّ ي َ } يا أي َّها الن ّب ِ ّ
لن المقام هنا مقام ل تفيد فيه الدعوة ،بل قد تعين فيه القتال ،فالغلظة
فيه من تمام القتال ،وقد جمع الله بين المرين في قوله في وصف خواص
م { ]الفتح . [29 : داُء عََلى ال ْك ُ ّ َ
ماُء ب َي ْن َهُ ْح َ فارِ ُر َ ش ّالمة } :أ ِ
َ
ت { ]القصص [56 :وبين قوله : حب َب ْ َنأ ْ م ْ دي َ ك َل ت َهْ ِ والفرق بين قوله } :إ ِن ّ َ
قيم ٍ { ]الشورى [52 :أن هداية الرشاد ست َ ِم ْ ط ُ صَرا ٍ دي إ َِلى ِ ك ل َت َهْ ِ
} وَإ ِن ّ َ
والتعليم والبيان هي التي أثبتها لرسوله ،بل ولكل من له تعليم وإرشاد
للخلق كما قال :
مرَِنا { ]النبياء . [73 : َ } وجعل ْناهُ َ
ن ب ِأ ْ دو َ ة ي َهْ ُ
م ًم أئ ِ ّ َ َ َ َ ْ
وقال } :وَل ِك ُ ّ
ل قَوْم ٍ َ
هاد ٍ { ]الرعد . [7 :
وأما هداية التوفيق ووضع اليمان في القلوب فإنها مختصة بالله ،فكما ل
يخلق ول يرزق ول يحيي ويميت إل الله ،فل يهدي إل الله .
) (2/38
) (2/39
الوجه الثاني :ما قاله كثير من المفسرين :إن القيامة لها أحوال ومقامات ،
ففي بعض الحوال والمقامات يتكلمون ،وفي بعضها ل يتكلمون ،وهذا
الوجه ل ينافي الول ،فيقال :هذه الحوال والمقامات تبع لذن الله لهم أو
عدمه .
والفرق بين إثبات الله في القرآن النساب بين الناس في مواضع كثيرة ،
ونفيها في مواضع :إن المواضع المنفية المراد بها أن النساب ل تنفع ،كما
أن جميع السباب ل تنفع يوم القيامة إل سبب واحد ،وهو اليمان والعمل
الصالح ،كما ذكره في كتابه في مواضع ،وأما المواضع المثبتة فهو المطابق
للحقيقة ،ويذكر في كل مقام بحسبه .
ففي مقامات الفضل والثواب يذكر الله فضله على الجميع بإلحاق الناقص
من المؤمنين بالكامل من غير نقص لدرجة الكامل مثل قوله :
َ َ } وال ّذين آمنوا واتبعتهم ذ ُريتهم بإيما َ
ن
م ْ
م ِ
ما ألت َْناهُ ْ م وَ َ م ذ ُّري ّت َهُ ْقَنا ب ِهِ ْ ن أل ْ َ
ح ْ َ ِ َ َ ُ َ ََّ ُْ ْ ّ ُُّ ْ ِِ َ ٍ
يٍء { ]الطور . [21 : ش ْ ن َ م ْ
م ِ مل ِهِ ْ
عَ َ
أي :ما نقصناهم ،ومثل :
َ َ
م { ]الرعد : م وَذ ُّرّيات ِهِ ْ جهِ ْ م وَأْزَوا ِ ن آَبائ ِهِ ْ
م ْ
ح ِصل َن َ خُلون ََها وَ َ
م ْ ن ي َد ْ ُت عَد ْ ٍجّنا ُ } َ
، [23ونحوها .
) (2/40
وفي مقامات العدل والعقوبة يذكر النساب ،وأنها ل تنفع ،وأن المر أعظم
من أن يلتفت النسان إلى أقرب الناس إليه مثل قوله :
َ م ل َوْ ي َ ْ
خيهِ { حب َت ِهِ وَأ ِصا ِ
مئ ِذ ٍ ب ِب َِنيهِ {} وَ َ
ب ي َوْ ِ ن عَ َ
ذا ِ م ْدي ِ فت َ ِ جرِ ُ } ي َوَد ّ ال ْ ُ
م ْ
صيل َت ِهِ ال ِّتي ت ُؤِْويهِ { ]المعارج . [13 - 11 : } وَفَ ِ
َ ُ َ
حب َت ِهِ وَب َِنيهِ {} ل ِك ُ ّ
ل صا ِمهِ وَأِبيهِ {} وَ َ خيهِ {} وَأ ّ نأ ِ م ْمْرُء ِ فّر ال ْ َ م يَ ِ ومثل } :ي َوْ َ
ن ي ُغِْنيهِ { ]عبس . [37 - 34 : ْ مئ ِذ ٍ َ
شأ ٌ م ي َوْ َمن ْهُ ْ
ئ ِ مرِ ٍ ا ْ
ونظير هذا الخبار عن المجرمين أنهم ُيسألون عن أعمالهم ،وذلك على وجه
إظهار العدل والتوبيخ والتقريع لهم والفضيحة ،وفي بعض المواضع مثل :
ن { ]الرحمن . [39 : جا ّس وََل َن ذ َن ْب ِهِ إ ِن ْ ٌل عَ ْ سأ َ ُمئ ِذ ٍ َل ي ُ ْ } فَي َوْ َ
أي :ل يحتاج في علم ذلك وجزائه عليه إلى سؤاله سؤال استعلم ؛ لنها
مسطرة عليهم قد حفظت بالشهود من الملئكة والجوارح والرض وغيرها .
) (2/41
) (2/42
وكذلك نفى عن كتابه القرآن الريب والعوج والشك ونحوها ،وذلك يدل على
أنه الحق في أخباره وأحكامه ،فأخباره أصدق الخبار وأحكمها وأنفعها
للعباد ،وأحكامه كلها محكمة في كمال العدل والحسن والستقامة على
الصراط المستقيم .
وى {ما غَ َ
م وَ َ ُ
حب ُك ْ
صا ِ ض ّ
ل َ ما َ
وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم َ } :
]النجم . [2 :
فنفى عنه الضلل من جميع الوجوه ،وهو عدم العلم أو قلته أو نقصه أو عدم
ي وهو سوء القصد ،فيدل ذلك أنه أعلم الخلق على الطلق ، جودته والغ ّ
وأهداهم وأعظمهم علما ويقينا وإيمانا ،وأنه أنصح الخلق للخلق ،وأعظمهم
إخلصا لله وطلبا لما عنده ،وأبعدهم عن الغراض الرديئة ،وكذلك نفى عنه
كل نقص قاله أعداؤه فيه ،وأنه في الذروة العليا من الكمال المضاد لذلك
النقص .
وكذلك نفى الله عن أهل الجنة الحزن والكدر والنصب واللغوب والموت
وغيرها من الفات ،فيدل ذلك على كمال سرورهم وفرحهم واتصال نعيمهم
وكماله ،وكمال حياتهم وقوة شبابهم وكمال صحتهم ،وتمام نعيمهم الروحي
والقلبي والبدني من كل وجه ،وأنه ل أعلى منه حتى يطلب عنه حول .
) (2/43
وعكس هذا ما نفى القرآن عنه صفات الكمال ،فإنه يثبت له ضد ذلك من
النقص ،كما نفى عن آلهة المشركين جميع الكمالت القولية والفعلية
والذاتية ،وذلك يدل على نقصها من كل وجه ،وأنها ل تستحق من العبادة
مثقال ذرة .
* فائدة :قوله تعالى :
سم ِ { ]البقرة [247 :
ج ْ ْ ْ ْ
ة ِفي العِلم ِ َوال ِ َ
سط ً فاهُ عَل َي ْك ْ
م وََزاد َه ُ ب َ ْ ُ صط َ َ
ها ْن الل ّ َ} إِ ّ
.
أي :القوة والشجاعة في هذه الية ،على أن الملك إذا اجتمعت فيه هاتان
الخصلتان :العلم بالولية والسياسة وحسن التدبير والشجاعة والقوة ،فهو
الذي يصلح للولية والملك ،وإن لم يكن من بيت الملك ول ذا مال ،فإن
العبرة بجميع الوليات إمكان إقامتها والنهوض بها على أكمل الحالت ،وولية
الملك ل تتم إل بالعلم والشجاعة القلبية والبدنية .
* فائدة :قوله تعالى :
واب َِها { ]البقرة . [189 : } وأ ْتوا ال ْبيوت م َ
ن أب ْ َ
ُُ َ ِ ْ َ ُ
) (2/44
) (2/45
* فائدة :إذا أمرنا الله في كتابه بأمر كان أمرا بذلك ،وبكل أمر ل يتم إل
به ،فالمر مثل بالصلة أمر بالطهارة وستر العورة واجتناب النجاسة
واستقبال القبلة وبجميع شروطها وأركانها ،وكذلك هو أمر بمعرفتها ومعرفة
ما ل تتم إل به ،وهذا من أعظم الدلة على وجوب طلب العلم ،فإن
المأمورات يتوقف تكميلها على معرفتها ،وكذلك إذا نهانا الله عن شيء كان
نهيا عن كل وسيلة توصل إليه ،والمر بالجهاد أمر به ،وبكل ما يتوقف عليه
في كل زمان ومكان ،والمر بتبليغ الشريعة أمر بكل ما يحصل به التبليغ
ويتم ويكمل ويشمل ،ويدخل في هذا إيصال الحكام الشرعية وتبليغها للناس
بجميع المقربات الحادثة .
* فائدة :قد أخبر الله في عدة آيات بهدايته الكفار على اختلف مللهم
ونحلهم ،وتوبته على كل مجرم ،وأخبر في آيات ُأخر أنه :
ن { ]البقرة . [258 :مي َ م ال ّ
ظال ِ ِ قو ْ َدي ال ْ َ} َل ي َهْ ِ
ن { ]المائدة . [108 :قي َس ِفا ِ م ال ْ َقو ْ َدي ال ْ َ} َل ي َهْ ِ
فما الجمع بينها ؟ فيقال :قوله تعالى :
) (2/46
حّتى م كُ ّ
ل آي َةٍ َ ن {} وَل َوْ َ
جاَءت ْهُ ْ ك َل ي ُؤْ ِ
مُنو َ ة َرب ّ َ
م ُ ت عَل َي ْهِ ْ
م ك َل ِ َ ق ْ ح ّ
ن َ ن ال ّ ِ
ذي َ } إِ ّ
َ
م { ]يونس 96 :و . [97 ب اْلِلي َ ي ََرُوا ال ْعَ َ
ذا َ
هي الفاصلة بين من هداهم الله ومن لم يهدهم ،فمن حقت عليه كلمة
العذاب -لعنادهم ،ولعلم الله أنهم ل يصلحون للهداية ،بحيث صار الظلم
والفسق وصفا لهم ،ملزما غير قابل للزوال ،ويعلم ذلك بظاهر أحوالهم
وعنادهم ومكابرتهم للحقائق -فهؤلء يطبع الله على قلوبهم فل يدخلها خير
أبدا ،والجرم جرمهم ،فإنهم رأوا سبيل الرشد فزهدوا فيه ،ورأوا سبيل
الغي فرغبوا فيه ،واتخذوا الشياطين أولياء من دون الله .
) (2/47
* فائدة :ورد في كثير من اليات إضافة المور إلى قدرة الله ومشيئته
وعموم خلقه ،وفي آيات كثيرة إضافتها إلى عامليها وفاعليها ،وهذه اليات
المتنوعة تنزل على الصل العظيم المتفق عليه بين سلف المة ،والذي دل
عليه العقل والنقل ،وهو أن جميع المور واقعة بقضاء الله وقدره :أعيانها
وأوصافها وأفعالها ،وجميع ما حدث ويحدث ،ل يخرج شيء منه عن قضائه
وقدره ،ومع ذلك فقد جعل الله الحوادث تبعا لسبابها ،ولرادة الفاعلين لها
وقدرتهم عليها ،فاليات المتعددة المضافة إلى عموم قدرة تدل على الصل
الول ،واليات المتعددة المضافة إلى فاعليها تدل على الصل الثاني ،ول
منافاة بينهما ،فإن أعمال العباد مثل تقع بفعلهم وإرادتهم وقدرتهم ،والله
خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم وخالق السبب التام خالق للمسبب ،ومع
ذلك فقد جعلهم في أفعالهم وتروكهم مختارين غير مجبورين .
* فائدة :يختم الله كثيرا من اليات عندما يبين للعباد الصول والحكام
قُلو َ
ن { ]البقرة . [73 : النافعة بقوله } :ل َعَل ّك ُ ْ
م ت َعْ ِ
وهذا يدل على أمور :
) (2/48
منها :أن الله يحب منا أن نعقل أحكامه وإرشاداته وتعليماته ،فنحفظها
ونفهمها ونعقلها بقلوبنا ،ونؤيد هذا العقل ونثبته بالعمل بها .
ومنها :أنه كما يحب منا أن نعقل هذا الحكم الذي بينه بيانا خاصا ،فإنه يحب
أن نعقل بقية ما أنزل علينا من الكتاب والحكمة ،وأن نعقل آياته المسموعة
وآياته المشهودة .
ومنها :أن في هذا أكبر دليل على أن معرفة ما أنزل الله إلينا من أعظم ما
يربي عقولنا ،ويجعلها عقول تفهم الحقائق النافعة والضارة ،وترجح هذه
على هذه ،ول تميل بها الهواء والغراض والخيالت والخرافات الضارة
المفسدة للعقول .
) (2/49
وإذا أردت معرفة مقادير عقول الخلق على الحقيقة ،فانظر إلى عقول
المهتدين بهداية القرآن والسنة ،وإلى عقول المنحرفين عن ذلك تجد الفرق
العظيم ،ول تحسبن العقل هو الذكاء وقوة الفطنة والفصاحة اللفظية وكثرة
القيل والقال ،وإنما العقل الصحيح أن يعقل العبد في قلبه الحقائق النافعة ،
عقل يحيط بمعرفتها ،ويميز بينها وبين ضدها ،ويعرف الراجح من المور
فيؤثره ،والمرجوح أو الضار فيتركه ،وبعبارة أخرى مختصرة نقول :العقل
هو الذي يعقل به العلوم النافعة ،ويعقل صاحبه ويمنعه من المور الضارة .
* فائدة :ورد في القرآن آيات عامة عطف عليه بعض أفرادها الداخلة فيها ،
وذلك يدل على فضيلة المخصوص وآكديته ،وأن له من المزايا ما أوجب
النص عليه مثل قوله :
ن الل ّ َ
ه عَد ُّو ل فَإ ِ ّ مي َ
كا َ ري َ
ل وَ ِ جب ْ ِ مَلئ ِك َت ِهِ وَُر ُ
سل ِهِ وَ ِ ن عَد ُّوا ل ِل ّهِ وَ َ كا َ ن َ م ْ } َ
ن { ]البقرة . [98 : ري َ كافِ ِ ل ِل ْ َ
ح ِفيَها { ]القدر [4 :وهو جبريل . ة َوالّرو ُ َ
ملئ ِك َ ُ ْ
ل ال َ } ت َن َّز ُ
سطى { ]البقرة . [238 : َ ْ
صلةِ الوُ َْ ت َوال ّ وا ِ َ
صل َ َ
حافِظوا عَلى ال ّ ُ } َ
ب { ]العراف . [170 : ْ
ن ِبالك َِتا ِ كو َ س ُ م ّ ن يُ َ ذي َ ّ
} َوال ِ
) (2/50
) (2/51
فيستفاد أن الفيئة يحبها الله ،وأنه يغفر لمن فاء ويرحمه ،وأن الطلق كريه
إلى الله ،وأما المؤلي إذا طلق فإن الله تعالى سيجازيه على ما فعل من
السبب ،وهو اليلء ،والمسبب ،وهو ما ترتب عليه ،ومثل هذا قوله تعالى :
َ } إّل ال ّذين تابوا من قَب َ
م{ حي ٌ
فوٌر َر ِ ن الل ّ َ
ه غَ ُ موا أ ّ م َفاعْل َ ُ قدُِروا عَل َي ْهِ ْ ن تَ ْلأ ْ ِ ْ ْ ِ ِ َ َ ُ ِ
]المائدة . [34 :
أي :فإنكم إذا علمتم ذلك رفعتم عنه العقوبة المتعلقة بحق الله ،وهذا
كثير ،وقد يصرح الله بالحكم ويعلله بذكر السماء الحسنى المناسبة له .
* فائدة :قوله تعالى :
ن { ]العراف . [31 : سرِِفي َ م ْ ب ال ْ ُ ح ّ ه َل ي ُ ِ
سرُِفوا إ ِن ّ ُشَرُبوا وََل ت ُ ْ} وَك ُُلوا َوا ْ
) (2/52
جمع الله فيها أمورا كثيرة نافعة في الدين والبدن والحال والمآل ،فالمر
بالكل والشرب يدل على الوجوب ،وأن العبد ل يحل له ترك ذلك شرعا ،
كما ل يتمكن من ذلك قدرا ما دام عقله معه ،وأن الكل والشرب مع نية
امتثال أمر الله يكون عبادة ،وأن الصل في جميع المأكولت والمشروبات
الباحة ،إل ما نص الشارع على تحريمه لضرره لطلق ذلك ،وعلى أن كل
أحد يأكل ما ينفعه ويناسبه ويليق به ،ويوافق لغناه وفقره ،ويوافق لصحته
ومرضه ولعادته وعدمها ،ولنه حذف المأكول ،والية ساقها الله لرشاد
العباد إلى منافعهم ،وهي تدل على ذلك كله ،وعلى أن أصل صحة البدن
تدبير الغذاء بأن يأكل ويشرب ما ينفعه ،ويقيم صحته وقوته ،وعلى المر
بالقتصاد في الغذاء والتدبير الحسن ؛ لنه لما أمر بالكل والشرب نهى عن
السرف ،وعلى أن السرف منهي عنه ،وخصوصا في الطعمة والشربة ،
فإن السرف يضر الدين والعقل والبدن والمال .
أما ضرره الديني فكل من ارتكب ما نهى الله ورسوله عنه فقد انجرح دينه ،
وعليه أن يداوي هذا الجرح بالتوبة والرجوع .
) (2/53
وأما ضرره العقلي فإن العقل يحمل صاحبه أن يفعل ما ينبغي على الوجه
الذي ينبغي ،ويوجب له أن يدبر حياته ومعاشه ; ولهذا كان حسن التدبير في
المعاش من أبلغ ما يدل على عقل صاحبه ،فمن تعدى الطور النافع إلى
طور السراف الضار فل ريب أن ذلك لنقص عقله ،فإنه يستدل على نقص
العقل بسوء التدبير .
وأما ضرره البدني فإن من أسرف بكثرة المأكولت والمشروبات انضر بدنه
واعتراه أمراض خطرة ،وكثير من المراض إنما تحدث بسبب السراف في
ود بدنه شيئا اعتاده ،فإذا
الغذاء ،ثم إنه ينضّر أيضا من وجه آخر ،فإن من ع ّ
وده كثرة الكل أو أكل الطعمة المتنوعة فربما تعذرت في بعض الحوال ع ّ
لفقر أو غيره ،وحينئذ يفقد البدن ما كان معتادا له فتنحرف صحته .
وأما ضرره المالي فظاهر فإن السراف يستدعي كثرة النفقات ،ولهذا قال
تعالى :
سوًرا { ]السراء . [29 :ح ُ
م ْ
ما َ ُ
ملو ً ط فَت َ ْ
قعُد َ َ س ِ ْ
ل الب َ ْ ْ
سطَها ك ُ ّ} وََل ت َب ْ ُ
) (2/54
) (2/55
فمرض الشبهات والشكوك الذي هو مرض المنافقين لما اختل علمهم وبقيت
قلوبهم في شكوك واضطراب ،ولم تتوجه إلى الخير ،كان مرضها مهلكا .
ومرض الشهوات الذي هو ميل القلب إلى المعاصي مخل بقوة القلب
العملية ،فإن القلب الصحيح ل يريد ول يميل إل إلى الخير ،أو إلى ما أباحه
الله له ،فمتى رأيت القلب ميال إلى المعاصي سريع النقياد لها فهو
مريض ،هو سريع الفتتان عند وجود أسباب الفتنة ،كما قال تعالى :
ض { ]الحزاب . [32 : ذي ِفي قَل ْب ِهِ َ
مَر ٌ معَ ال ّ ِ
} فَي َط ْ َ
) (2/56
وأما القلب القاسي فهو الذي ل يلين لمعرفة الحق ،وإن عرفه ل يلين
للنقياد له ،فتأتيه المواعظ التي تلين الحديد وقلبه ل يتأثر بذلك ،إما
لقسوته الصلية أو لعقائد منحرفة اعتقدها ورسخ قلبه عليها ،وصعب عليه
النقياد للحق إذا خالفها ،وقد يجتمع المران ،وأما الران والكنة والغطية
التي تكون على القلوب فإنها من آثار كسب العبد وجرائمه ،فإذا أعرض عن
الحق وعارض الحق ،وجاءه الحق فرّده وفتح الله له أبواب الرشد فأغلقها
عن نفسه عاقبه الله بهذا العمل بأن سد ّ عنه طرق الهداية التي كانت
مفتوحة له ومتيسرة ،فتكبر عنها ورّدها ،فطبع على قلبه وختم عليه ،
وأحاطت به الجرائم ورانت عليه الذنوب وغطت قلبه ،وجعلت بينه وبين
الحق حجابا وأقفلت القلب ،فهذه المعاني التي أكثر الله من ذكرها في
كتابه ،إذا عرفت هذه الضوابط المذكورة في هذه الفائدة اتضحت لك
معانيها ،وعرفت بذلك حكمة الله وعدله في عقوبة هذه القلوب ،وأن الله
ولهم ما تولوه لنفسهم ورضوه لها .
* فائدة :قوله تعالى :
ً َ
صيل { ]الفتح : ْ
حوه ُ ب ُكَرة ً وَأ ِ
سب ّ ُ ّ مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ
سول ِهِ وَت ُعَّزُروهُ وَت ُوَقُروه ُ وَت ُ َ } ل ِت ُؤْ ِ
. [9
) (2/57
جمع الله فيها الحقوق الثلثة :الحق المختص بالله الذي ل يصلح لغيره ،وهو
صيًل { ،والحق المختص بالرسول ، َ
حوه ُ ب ُك َْرةً وَأ ِ
سب ّ ُ
العبادة في قوله } :وَت ُ َ
وهو التوقير والتعزير ،والحق المشترك ،وهو اليمان بالله ورسوله .
* فائدة :ذكر الله اليقين في مواضع كثيرة من القرآن في المحل العالي من
الثناء ،أخبر أن اليقين هو غاية الرسل بقوله :
ن { ]النعام . [75 : موقِِني َن ال ْ ُ
م َن ِ } وَل ِي َ ُ
كو َ
وأنه بالصبر واليقين تنال المامة في الدين ،وأن اليات إنما ينتفع بها النتفاع
ن ( ،فحقيقة اليقين هو العلم الثابت الراسخ التام المثمر موقِِني َ الكامل ) ال ْ ُ
للعمل القلبي والعمل البدني .
) (2/58
أما آثار اليقين العلمية فثلث مراتب :علم اليقين ،وهي العلوم الناتجة عن
الدلة والبراهين الصادقة الخبرية ،كجميع علوم أهل اليقين الحاصلة عن خبر
الله وخبر رسوله وأخبار الصادقين ،وعين اليقين وهي مشاهدة المعلومات
بالعين حقيقة ،كما طلب الخليل إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي
الموتى ،فأراه الله ذلك بعينه ،وغرضه عليه السلم النتقال من مرتبة علم
قق بالذوق ،
اليقين إلى عين اليقين ،وحق اليقين :وهي المعلومات التي تح ّ
كذوق القلب لطعم اليمان ،والذوق باللسان للشياء المحسة .
وأما آثاره القلبية فسكون القلب وطمأنينته ،كما قال إبراهيم :
ن قَل ِْبي { ]البقرة . [260 : ن ل ِي َط ْ َ
مئ ِ ّ } وَل َك ِ ْ
وقال صلى الله عليه وسلم :البر ما اطمأن إليه القلب ،وفي لفظ :الصدق
ما اطمأن إليه القلب ،فإن العبد إذا وصل إلى درجة اليقين في علومه
اطمأن قلبه لعقائد اليمان كلها ،واطمأن قلبه لحقائق اليمان وأحواله التي
تدور على محبة الله وذكره ،وهما متلزمان ،قال تعالى :
َ
ب { ]الرعد . [28 :قُلو ُ
ن ال ْ ُ } أَل ب ِذِك ْرِ الل ّهِ ت َط ْ َ
مئ ِ ّ
) (2/59
) (2/60
) (2/61
* فائدة :الفرح ورد في القرآن محمودا مأمورا به في مثل قوله :
ن { ]يونس : مُعو َ
ج َ
ما ي َ ْم ّ خي ٌْر ِ حوا هُوَ َ فَر ُ ك فَل ْي َ ْمت ِهِ فَب ِذ َل ِ َح َ ل الل ّهِ وَب َِر ْ ض ِ ف ْ ل بِ َ } قُ ْ
. [58
فهذا فرح بالعلم والعمل بالقرآن والسلم ،وكذلك قوله :
ضل ِهِ { ]آل عمران [170 :فهذا فرح بثواب ن فَ ْ م ْ ه ِ م الل ّ ُ ما آَتاهُ ُ ن بِ َحي َ } فَرِ ِ
الله .
وورد منهيا عنه مذموما مثل الفرح بالباطل وبالرياسات والدنيا المشغلة عن
خوٌر { ]هود . [10 : ح فَ ُ فرِ ٌ ه لَ َالدين في مثل قوله تعالى } :إ ِن ّ ُ
وقوله عن قارون :
ن { ]القصص . [76 : حي َ فرِ ِ ْ
ب ال َ ح ّ ه ل يُ َِ ّ
ن الل َ ح إِ ّ فَر ْه َل ت َ ْ ه قَوْ ُ
م ُ ل لَ ُ } َقا َ
وما أشبه ذلك ،فصار الفرح تبعا لما تعلق به ; إن تعلق بالخير وثمراته فهو
محمود ،وإل فهو مذموم .
* فائدة :ورد السعي في القرآن في آيات كثيرة ،والمراد به الهتمام والجد
في العمل مثل قوله :
ش ُ
كوًرا م ْ م ه ي ع س ن َ
كا َ
ك ئَ ل } ومن أ َراد اْلخرة وسعى ل َها سعيها وهو مؤْمن فَ ُ
أو
َ َ ْ ُُ ْ َ ِ َ َ ْ ََ َ ُ َ ُ ِ ٌ ِ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ
{ ]السراء . [19 :
وا إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ { ]الجمعة : سعَ ْ معَةِ َفا ْ ج ُن ي َوْم ِ ال ْ ُ م ْصَلةِ ِ وقوله } :إ َِذا ُنودِيَ ِلل ّ
. [9
) (2/62
) (2/63
) (2/64
) (2/65
أما الظالم لنفسه فهو المؤمن الذي خلط عمل صالحا وآخر سيئا ،وترك من
واجبات اليمان ما ل يزول معه اليمان بالكلية ،وهذا القسم ينقسم إلى
قسمين :
فر عنه السيئات كلها ،إما بدعاء أو شفاعة أوأحدهما :من يرد القيامة وقد ك ّ
آثار خيرية ينتفع بها في الدنيا ،أو عذب في البرزخ بقدر ذنوبه ،ثم رفع عنه
العقاب وعمل الثواب عمله ،فهذا من أعلى هذا القسم ،وهو الظالم لنفسه
.
القسم الثاني :من ورد القيامة وعليه سيئات ،فهذا توزن حسناته وسيئاته
ثم هم بعد هذا ثلثة أنواع :
أحدها :من ترجح حسناته على سيئاته ،فهذا ل يدخل النار ،بل يدخل الجنة
برحمة الله وبحسناته ،وهي من رحمة الله .
ثانيها :من تساوت حسناتهم وسيئاتهم ،فهؤلء هم أصحاب العراف ،وهي
موضع مرتفع بين الجنة والنار يكونون عليه ،وفيه ما شاء الله ،ثم بعد ذلك
يدخلون الجنة ،كما وصف ذلك في القرآن .
) (2/66
ثالثها :من رجحت سيئاته على حسناته فهذا قد استحق دخول النار ،إل أن
يمنع من ذلك مانع ،من شفاعة الرسول له ،أو شفاعة أحد أقاربه أو معارفه
ممن يجعل الله لهم في القيامة شفاعة لعلو مقاماتهم على الله وكرامتهم
عليه ،أو تدركه رحمة الله المحضة بل واسطة ،وإل فل بد له من دخول النار
يعذب فيها بقدر ذنوبه ،ثم مآله إلى الجنة ،ول يبقى في النار أحد في قلبه
أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان ،كما تواترت بذلك الحاديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم ،وأجمع عليه سلف المة وأئمتها .
وأما المقتصد فهو الذي أدى الواجبات وترك المحرمات ،ولم يكثر من نوافل
العبادات ،وإذا صدر منه بعض الهفوات بادر إلى التوبة فعاد إلى مرتبته ،
فهؤلء أهل اليمين ،وأما من كان من أصحاب اليمين :
كم َ
ن { ]الواقعة . [91 : ب ال ْي َ ِ
مي ِ حا ِ
ص َ
نأ ْم لَ َ ِ ْ
سَل ٌ
} فَ َ
فهؤلء سلموا من عذاب البرزخ وعذاب النار ،وسلم الله لهم إيمانهم
وأعمالهم ،فأدخلهم بها الجنة ،كل على حسب مرتبته .
) (2/67
وأما السابق إلى الخيرات فهو الذي كمل مراتب السلم ،وقام بمرتبة
الحسان ،فَعَب َد َ الله كأنه يراه ،فإن لم يكن يراه فإنه يراه ،وبذل ما
استطاع من النفع لعباد الله ،فكان قلبه ملنا من محبة الله والنصح لعباد
الله ،فأدى الواجبات والمستحبات ،وترك المحرمات والمكروهات وفضول
المباحات المنقصة لدرجته ،فهؤلء هم صفوة الصفوة ،وهم المقربون في
جنات النعيم إلى الله ،وهم أهل الفردوس العلى ،فإن الله كما أنه رحيم
واسع الرحمة فإنه حكيم ينزل المور منازلها ،ويعطي كل أحد بحسب حاله
ومقامه ،فكما كانوا هم السابقين في الدنيا إلى كل خير كانوا في الخرة في
أعلى المنازل ،وكما تخيروا من العمال أحسنها جعل الله لهم من الثواب
أحسنه ; ولهذا كانت عين التسنيم أعلى أشربة أهل الجنة ،يشرب منها هؤلء
المقربون صرفا ،وتمزج لصحاب اليمين مزجا في بقية أشربة الجنة ،التي
ل نقص فيها بوجه من الوجوه كما قال تعالى :
ن { ]المطففين 27 :و قّرُبو َ ب ب َِها ال ْ ُ
م َ سِنيم ٍ {} عَي ًْنا ي َ ْ
شَر ُ ن تَ ْ
م ْ
ه ِ
ج ُ
مَزا ُ
} وَ ِ
. [28
) (2/68
وهكذا بقية ألوان وأصناف نعيم الجنة لهؤلء السابقين منه أعله وأكمله
وأنفسه ،وإن كان ليس في نعيم الجنة دني ول نقص ول كدر بوجه من
الوجوه ،بل كل من تنعم بأي نعيم من نعيمها لم يكن في قلبه أعلى منه ;
فإن الله أعطاهم وأرضاهم ،وخيار هؤلء النبياء على مراتبهم ،ثم
الصديقون على مراتبهم ،ولكل درجات مما عملوا ،فسبحان من فاوت بين
عباده هذا التفاوت العظيم ،والله يختص برحمته من يشاء ،والله ذو الفضل
العظيم .
* فائدة :ورد في القرآن ) الظلم ( بمعنى الكفر والشرك الكبر ،كما قال
تعالى :
ن { ]البقرة . [254 : مو َ ّ
م الظال ِ ُ ن هُ ُكافُِرو َ } َوال ْ َ
م { ]لقمان [13 :ونحوها . ظي ٌ
م عَ ِ ك ل َظ ُل ْ ٌ شْر َ ن ال ّ وقال } :إ ِ ّ
وورد كثيرا بمعنى الجرائم التي دون الشرك كما سبق في الظالم لنفسه
َ
فوًرا جدِ الل ّ َ
ه غَ ُ فرِ الل ّ َ
ه يَ ِ ست َغْ ِ ه ثُ ّ
م يَ ْ س ُ
ف َ سوًءا أوْ ي َظ ْل ِ ْ
م نَ ْ ل ُ م ْن ي َعْ َ
م ْومثل } :وَ َ
ما { ]النساء . [110 : حي ًَر ِ
) (2/69
وورد أيضا عدة آيات يدخل فيها هذا وهذا ،ومثل هذا ) :الفسق ( والمعصية
والذنب والسيئة والجرم والخطيئة ونحوها ،فإنها وردت في القرآن لكل واحد
من هذه الثلثة ،فتفسر في كل مقام بما يناسب ذلك المقام .
ن أ َعْ َ َ
سَنى { صد ّقَ ِبال ْ ُ
ح ْ قى {} وَ َ طى َوات ّ َ م ْ
ما َ* فائدة :قوله تعالى } :فَأ ّ
سَرى { ]الليل :اليات . [7 - 5 سُره ُ ل ِل ْي ُ ْ سن ُي َ ّ} فَ َ
جمعت السعادة وجميع السباب التي تنال بها السعادة ،وهي ثلثة أشياء :
فعل المأمور ،واجتناب المحظور ،وتصديق خبر الله ورسوله ،فهذه الثلثة
طى ( أي :جميع ما أمر به من يدخل فيها الدين كله ،وذلك أن قوله ) :أ َعْ َ
قى ( :جميع ما نهي عنه من كفر وفسوق وعصيان ، قول وعمل ونية َ ) ،وات ّ َ
دق بالتوحيدسَنى { :بما أخبر الله به ورسوله من الجزاء ،فص ّ ح ْ صد ّقَ ِبال ْ ُ } وَ َ
وحقوقه وجزاء أهله . .فمن جمع ثلثة المور يسره الله لليسرى ،أي :لكل
حالة فيها تيسير أموره وأحواله كلها ،ومقابل هذا قوله :
ل { ]الليل . [8 : خ َ ن بَ ِ َ
م ْ ما َ } وَأ ّ
أي :ترك ما أمر به ليس خاصا بالنفقة ،بل معنى البخل المنع ،فإذا منع
الواجبات المتوجهة إليه القولية أو الفعلية أو المالية فقد بخل .
) (2/70
) (2/71
) (2/72
) (2/73
) (2/74
فما الجمع بينها وبين النصوص المتواترة من الكتاب والسنة أنه ل يخلد في
النار إل الكفار ،وأن جميع المؤمنين مهما عملوا من المعاصي التي دون
الكفر فإنهم ل بد أن يخرجوا منها ،فهذه اليات قد اتفق السلف على تأويلها
وردها إلى هذا الصل المجمع عليه بين سلف المة ،وأحسن ما يقال فيها إن
ذكر الخلود على بعض الذنوب التي دون الشرك والكفر أنها من باب ذكر
السبب ،وأنها سبب للخلود في النار لشناعتها ،وأنها بذاتها توجب الخلود إذا
لم يمنع من الخلود مانع ،ومعلوم بالضرورة من دين السلم أن اليمان مانع
من الخلود ،فتنزل هذه النصوص على الصل المشهور ،وهو أنه ل تتم
الحكام إل بوجود شروطها وأسبابها وانتفاء موانعها ،وهذا واضح ولله
الحمد ،مع أن بعض اليات المذكورة فيها ما يدل على أن الخطيئة المراد بها
َ
ه { دليل على ذلك ؛ لن المعاصي طيئ َت ُ ُ
خ ِت ب ِهِ َحاط َ ْ الكفر ؛ لن قوله } :وَأ َ
التي دون الكفر ل تحيط بصاحبها ،بل ل بد أن يكون معه إيمان يمنع من
إحاطتها ،وكذلك قوله :
دا ِفيَها { ]النساء :
خال ِ ً
ه َناًرا َ ْ
خل ُدود َه ُ ي ُد ْ ِ
ح ُه وَي َت َعَد ّ ُ َ
سول ُ ص الل ّ َ
ه وََر ُ ن ي َعْ ِ
م ْ} وَ َ
. [14
) (2/75
فالمعصية تطلق على الكفر وعلى الكبائر وعلى الصغائر ،ومن المعلوم أنه
إذا دخل فيها الكفر زال الشكال .
* فائدة :ورد في القرآن آيات كثيرة فيها مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها ،
وورد أيضا آيات ُأخر فيها مضاعفة أكثر من ذلك ،فما وجه ذلك ؟
فيقال :أما مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها فل بد منها في كل عمل صالح كما
مَثال َِها { ]النعام . [160 : قال تعالى } :من جاَء بال ْحسنة فَل َه عَ ْ َ
شُر أ ْ ُ ِ َ َ َ ِ َ ْ َ
وأما مضاعفة العمل أكثر من ذلك فله أسباب ،إما متعلقة بنفس العامل ،أو
بالعمل ومزيته أو نتائجه وثمراته أو بزمانه أو مكانه .
فمن أعظم أسباب مضاعفة العمل إذا حقق العبد في عمله الخلص للمعبود
،والمتابعة للرسول ،فمضاعفة العمال تبع لما يقوم بقلب العامل من قوة
الخلص وقوة اليمان .
وكذلك من السباب إذا كان العمل ناشئا عن عقيدة صحيحة سلفية خالصة
متلقاة من الكتاب والسنة ،فهذا العبد يكون اليسير من عمله أبرك من
الكثير من عمل من ليس كذلك .
ومن ذلك ترك ما تهواه النفوس من الفواحش ،مع قوة الداعي إليها لبرهان
اليمان والتوكل والخلص .
) (2/76
ومن أسباب المضاعفة أن يكون العمل فيه نفع للمسلمين وغناء ،وذلك
كالجهاد في سبيل الله ،الجهاد بالحجة والبرهان ،وبالسيف والسنان ،كما
قال تعالى في نفقات أهل هذا الصنف :
َ ّ قو َ
ل ِفيسَناب ِ َ
سب ْعَ َ
ت َ حب ّةٍ أن ْب َت َ ْ مث َ ِ
ل َ َ
ل اللهِ ك َ سِبي ِم ِفي َ وال َهُ ْم َ نأ ْن ي ُن ْفِ ُ َ ل ال ّ ِ
ذي َ مث َ ُ
} َ
م { ]البقرة : سعٌ عَِلي ٌ ه َوا ِ ّ
شاُء َوالل ُن يَ َم ْف لِ َ
ع ُ
ضا ِه يُ َ ّ
حب ّةٍ َوالل ُ
ة َ َ
مائ ُ َ
سن ْب ُلةٍ ِل ُ كُ ّ
. [261
ويدخل في هذا سلوك طريق التعليم والتعلم للعلوم الشرعية وما يعين عليها
،وفى الحديث » :من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى
الجنة « .
ومن ذلك العمل والسعي في المشاريع الخيرية التي ينتفع بها المسلمون في
دينهم ودنياهم ويتسلسل نفعها ،ومن ذلك العمل الذي إذا عمله العبد كثر
مشاركوه والمقتدون به فيه .
ومن ذلك إذا كان العمل له وقع عظيم ونفع كبير ،كإنجاء المضطرين ،
وكشف كربات المكروبين ،فكم من عمل من هذا النوع هدم الله به ذنوب
العبد كلها ،وأوصله به إلى رضوانه ،وقصة البغي التي سقت الكلب الذي
كاد يموت من العطش شاهدة بذلك .
ومن ذلك علو مقام العامل عند الله ورفعة درجته ،كما قال تعالى :
) (2/77
َ
ن { ]الحزاب . [32 : قي ْت ُ ّ
ن ات ّ َ
ساِء إ ِ ِ
ن الن ّ َم َ حد ٍ ِن ك َأ َ ي لَ ْ
ست ُ ّ ساَء الن ّب ِ ّ} يا ن ِ َ
ها ر جَ أ هاتْ ؤن
َ ِ ً ُ َِ ْ َ َ حا لصا ْ
ل م ع ت و ه لسو ر و هّ ل ل ن ُ ك ن م ت ن ْ قي ن مو } : قبلها وقوله
َ َ ْ َ ُ ْ ِ ْ ّ ِ ِ ََ ُ ِ ِ ََْ َ
ن { ]الحزاب . [31 : مّرت َي ْ ِ
َ
ومن ذلك الصدقة من كسب طيب وقوة إخلص .
ومن ذلك العمل الواقع في زمان فاضل ،أو مكان فاضل .
ومن أهم وأعظم ما يضاعف به العمل تحقيق مقام الحسان في القيام
بعبودية الله ،وفي الحديث » :ليس لك من صلتك إل ما عقلت منها «
فالصلة والقراءة والذكر وغيرها من العبادات إذا كانت بقوة حضور قلب
وإيمان كامل فل ريب أن بينها وبين عبادة الغافل درجات تنقطع دونها أعناق
المطي .
وأسباب مضاعفة الثواب كثيرة ،ولكن نبهنا على أصولها .
ومما هو كالمتفق عليه بين العلماء الربانيين أن التصاف في جميع الوقات
بقوة الخلص لله ،والنصح لعباد الله ،ومحبة الخير للمسلمين مع اللهج
بذكر بقوة ل يلحقها شيء من العمال ،وأهلها سابقون لكل فضيلة وأجر
وثواب ،وبقية العمال تبع لها ،فأهل الخلص والحسان والذكر هم
السابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم .
) (2/78
* فائدة :قد أمر الله في كتابه بالتفكر والتدبر والنظر والتبصر ،وغيرها من
الطرق التي تنال بها العلوم ،وأثنى على أهلها ،وأخبر أن كتابه أنزل لهذه
الحكم ،وأثنى على العلم واليقين ومدح أهلهما ،ونهج جميع طريق يوصل
إليها .
فاعلم أن الذي يجمع أشتات هذه الطرق وأنواعها وأجناسها ثلثة طرق كلية :
أحدها :طريق الخبارات الصادقة ،والثاني :طريق الحس ،والثالث :طريق
العقل ،ووجه الحصر أن المعلومات إما أن تدرك بحاسة السمع أو البصر أو
اللمس أو الذوق ،وإما أن تدرك بالعقل ،وإما أن تنال بالخبار ،وكل واحد
من هذه الثلثة قد يقارن الخر ،وخصوصا العقل والخبار الصادقة فإنهما ل
يتفارقان .
وقد يكون العلم ضروريا بديهيا يضطر النسان إلى علمه ،والتصديق به من
غير حاجة إلى زيادة نظر وتفكر ،وقد يكون نظريا يحتاج إلى ذلك .
ثم العلم بهذه المور مراتب متفاوتة .
وأعلى درجات العلم واليقين وأوضحها وأنفعها للعباد خبر الله وخبر رسله ،
فإنه ل أصدق من الله قيل ،ول أصدق منه حديثا .
ل { ]الحزاب . [4 : سِبي َ
دي ال ّ ل ال ْ َ
حقّ وَهُوَ ي َهْ ِ قو ُ } َوالل ّ ُ
ه يَ ُ
) (2/79
فكل ما قاله الله وقاله رسوله فهو الحق والصدق ،وماذا بعد الحق إل
الضلل وهو يهدي إلى كل دليل عقلي ونقلي ؟ وفي خبر الله وخبر رسله من
البيان العظيم والتفصيلت لجميع أجناس العلوم النافعة ما ل تصل إليه علوم
الخلئق كلهم ،أولهم وآخرهم .
وإذا أردت أن تعرف أن الحق الصحيح هو ما قاله الله وقاله رسوله ،وأن ما
ناقضه ونافاه فهو باطل بل ريب مبني على جهالت ومواد فاسدة ،فانظر
إلى أصول الدين وقواعده وأسسه كيف اتفقت عليها الدلة النقلية والعقلية
والحسية ؟ انظر إلى توحيد الله ووجوب تفرده وإفراده بالوحدانية ،وتوحده
بصفات الكمال ،كيف كانت الكتب السماوية مشحونة منها ؟ بل هي
المقصود العظم منها ،وخصوصا القرآن الذي هو من أوله إلى آخره يقرر
هذا الصل الذي هو أكبر الصول وأعظمها .
) (2/80
وانظر كيف اتفقت جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم ،وخصوصا إمامهم
وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم على تقرير توحيد الله وتفرده
بالوحدانية ،وسعة الصفات وعظمتها :من سعة العلم والحكمة ،وعموم
القدرة والرادة ،وشمول الحمد والملك والمجد والجلل والجمال والحسن ،
والحسان في أسمائه وصفاته وأفعاله ؟ ثم انظر إلى هذا الصل العظيم في
قلوب سادات الخلق أولي اللباب الكاملة والعقول التامة كيف تجده أعظم
من كل شيء ،وأقوى وأكبر من كل شيء ،وأوضح من كل شيء ،وأنه
مقدم عندهم على الحقائق كلها ،وأنهم يعلمونه علما ضروريا بديهيا قبل
الدلة النظرية ،ويعلمون أن كل ما عارضه فهو أبطل الباطل ؟ ثم انظر إلى
كثرة البراهين المنقولة والمعقولة والمحسوسة الشاهدة لله بالوحدانية .
فوجود جميع الشياء في العالم العلوي والسفلي وبقاؤها وما هي عليه من
الوصاف المتنوعة ،كل ذلك من الدلة والبراهين على وجود مبدعها ومعدها
وممدها بكل ما تحتاج إليه ،ومن أنكر هذا فقد باهت وكابر وأنكر أجلى
المور وأعظم الحقائق .
) (2/81
ومن هاهنا تعلم أن الماديين الملحدين أضل الخلق وأجهلهم وأعظمهم غرورا
واغترارا حيث اغتروا حين وقفوا على بعض علوم الكون الرضي المادي
الطبيعي ،وقفت عقولهم القاصرة عندها ،واستولت عليهم الحيرة وتكبروا
بمعارفهم الضئيلة وقالوا :نثبت ما وصلت إليه معارفنا وننفي ما سواه ،
فتعرف بهذا أن نفيهم هذا جهل وباطل باتفاق العقلء ،فإن من نفى ما ل
يعرفه فقد برهن على كذبه وافترائه ،فكما أن من أثبت شيئا بل علم فهو
ضال غاو ،فكذلك من نفى شيئا بل علم ،وتعرف أيضا أن إثباتهم لعلوم
الطبيعة التي عرفوها وانتهت إليها معارفهم أن هذا الثبات منهم قاصر لم
يصلوا إلى غايته وحقيقته ،فلم يصلوا بذلك إلى خالق الطبيعة ومبدعها ،ولم
يعرفوا المقصود من نظامها وسببيتها ; بل عرفوا ظاهرا منها وهم عن النافع
غافلون ،فأثبتوا بعض السبب وعموا عن المقصود ،وهم في علمهم هذا
حائرون ،ل تثبت لهم قدم على أمر من المور ،ول تثبت لهم نظرية صحيحة
مستقيمة ،فهم دائما في خلط وخبط وتناقض ،وكلما جاءهم من البراهين
الحق ما يبطل قولهم قالوا :هذا من فلتات الطبيعة ،وكلما برز مبرز من
فحولهم وأذكيائهم ابتكر له طريقة غير طريقة إخوانه ;
) (2/82
) (2/83
وانظر إلى الصل الثاني وهو إثبات الرسالة ،وأن الله قد أقام على صدق
رسله من اليات ما على مثله يؤمن البشر ،وخصوصا محمد صلى الله عليه
وسلم ،فإن آيات نبوته وأدلة رسالته وصدقه متنوعة :سيرته وأخلقه وما
جاء به من الدين القويم ،وحّثه على كل خلق كريم وعمل صالح ونفع
وإحسان وعدل ،ونهيه عن ضد ذلك ،وما جاء به من الوحي :الكتاب والسنة
،كله جملة وتفصيل براهين على نبوته وصدقه ،مع ما أكرمه الله به من
النصر العظيم وإظهار دينه على الديان كلها ،ومن إجابة الدعوات وحلول
أنواع البركات التي ل تعد أنواعها فضل عن أفرادها ،وهذا بقطع النظر عن
شهادة الكتب السابقة ،وعن عجز المعارضين له في مقامات التحدي كلها ،
وعجزهم عن نصر باطلهم .
) (2/84
ول يزال الباطل بين يدي ما جاء به الرسول مخذول راهقا ،بحيث إن
القائمين بما جاء به الرسول القائمين بمعرفة دينه يتحد ّْون جميع أهل الرض
أن يأتوا بصلح أو فلح أو رقي حقيقي أو سعادة حقيقية بجميع وجوهها ،وأنه
محال أن يتوصل إلى شيء من ذلك بغير ما جاء به الرسول وأرشد إليه ودل
الخلق عليه ،ولول الجهل بما جاء به الرسول ،والتعصبات الشديدة من
العداء والمقاومات العنيفة ،وإقامة الحواجز المتعددة العنيفة لمنع الجماهير
والدهماء من رؤية الحق الصريح والدين الصحيح ،لم يبق على وجه الرض
دين سوى دين محمد صلى الله عليه وسلم لدعوته وإرشاده وحثه على كل
صلح وإصلح وخير ورشد ،ولكن مقاومات العداء ونصر القوة للباطل
بالتمويهات والتزويرات وتقاعد أهل الدين عن القيام به ونصرته هي التي
منعت أكثر الخلق من الوقوف على حقيقته .
) (2/85
ثم انظر إلى الصل الثالث ،وهو إثبات المعاد والجزاء كيف اتفقت الكتب
السماوية والرسل العظام وأتباعهم على اختلف طبقاتهم ،وتباين أقطارهم
وأزمانهم وأحوالهم على اليمان به والعتراف التام به ؟ وكم أقام الله عليه
من الدلة النقلية والعقلية ،وكذلك الحسية المشاهدة ما يدل أكبر دللة عليه
،وكم أشهد عباده في هذه الدار أنموذجا من الثواب والعقاب ،وأراهم حلول
المثلت بالمكذبين ،وأنواع العقوبات الدنيوية بالمجرمين ،كما أراهم نجاة
الرسل ومن تبعهم من المؤمنين ،وإكرامهم في الدنيا قبل الخرة ،وكم
أبطل الله كل شبهة يقدح بها المكذبون بالمعاد ،كما أقام الدلة على إبطال
الشبه الموجهة من المكذبين إلى توحيده وصدق رسله ،وبين سفههم وفساد
عقولهم ،وأنه ليس لهم من المستندات على إنكار ذلك إل استبعادات مجردة
،وقياس قدرة رب العالمين على قدر المخلوقين .
) (2/86
) (2/87
وبعد هذا إخبار الصادقين عن المواضع والحوادث والوقائع التي شاهدوها ،
وهذا النوع بحسب صدق المخبرين ،وتواتر خبرهم يفيد العلم القطعي ،
وكذلك إخبار الصادقين عن العلوم التي سمعوها ،واللفاظ التي نقلوها ،
وأصدق الناقلين هنا حملة الشريعة المحمدية ؛ لشدة عنايتهم ،وكمال
صدقهم ،وقوة دينهم ،وأنهم بالخصوص حفظوا عن الخطأ العمومي ،
والتفاق على غير الصواب .
) (2/88
ومن المور التي تعلم بالعقل أن العقول الصحيحة التي لم تغير فطرتها ،
ولم تفسد بالعقائد الفاسدة ،تعلم علما يقينا حسن التوحيد والخلص لله ،
كما تعلم قبح الشرك ،وتعلم حسن الصدق والعدل والحسان إلى
المخلوقين ،كما تعلم قبح ضده ،وتعلم وجوب شكر المنعم ،ووجوب بر
الوالدين وصلة القارب ،والقيام بحق من له حق عليك ،وتستحسن كل
صلح وإصلح ،وتستقبح كل فساد وضرر ،ومن أشرف ما يعلم بالعقل أنه
مركوز في العقول أن الكمال المطلق لله وحده ،وأن له الحكمة التامة في
خلقه وشرعه ،وأنه ل يليق به أن يترك خلقه سدى ل يؤمرون ول ينهون ،ول
يثابون ول يعاقبون ،ومن المعلوم بالحس ما يدرك بالحواس كسمع الصوات
وإبصار العيان وهو من أتم المعارف ،فإنه ليس الخبر كالمعاينة ،ومما
يدرك بالحس ما يدرك بالشم كشم الروائح الطيبة والخبيثة ،وما يدرك
باللمس كالحرارة والبرودة ،وما يدرك بتحليل الشياء والوقوف على موادها
وجواهرها وصفاتها ،كل هذا من مدركات الحس ،وبالجملة فطرق العلم إلى
المعلومات كثيرة جدا ،وكلما كان الشيء أعظم ومعرفته أهم كانت الطرق
الموصلة إليه أكثر وأوضح وأصح وأقوى ،كما تقدمت الشارة إلى التوحيد
) (2/89
) (2/90
ذكر فيها أركان الشكر الثلثة :وهي العتراف والتذكر لنعمة الله ،والتحدث
بها ،والثناء على الله بها ،والخضوع لله ،والستعانة بها على عبادته ؛ لن
ن { العتراف بالجزاء والستعداد قل ُِبو َ المقصود من قوله } :وَإ ِّنا إ َِلى َرب َّنا ل َ ُ
من ْ َ
له ،وأن المقصود من هذه النعم أن تكون عونا للعبد على ما خلق له من
م عَل َي ْهِ { تقييدها ة َرب ّك ُ ْ
م إ َِذا ا ْ
ست َوَي ْت ُ ْ م َ م ت َذ ْك ُُروا ن ِعْ َطاعة الله ،وفي قوله } :ث ُ ّ
في هذه الحالة وقت تبوء النعمة ; لن كثيرا من الخلق تسكرهم النعم ،
وتغفلهم عن الله ،وتوجب لهم الشر والبطر ،فهذه الحالة التي أمر الله بها
هي دواء هذا الداء المهلك ،فإنه متى ذكر العبد أنه مغمور بنعم الله ،وأن
أصولها وتيسيرها وتيسير أسبابها وبقائها ودفع ما يضادها أو ينقصها كله من
ل وشكره وأثنى فضل الله وإحسانه ليس من العبد شيء ،خضع لله وذ ّ
عليه ،وبهذا تدوم النعمة ويبارك الله فيها ،وتكون نعمة حقيقية ،فأما إذا
قابلها بالشر والبطر ،ونسي المنعم ،وربما تكبر بها على عباد الله ،فهذه
نقمة في صورة نعمة ،وهي استدراج من الله للعبد سريعة الزوال ،وشيكة
بالعقاب عليها والنكال ،نسأل الله أن
) (2/91
) (2/92
فائدة بل فوائد عظيمة في ذكر شيء من السباب التي ذكرها الله في كتابه
موصلة إلى المطالب العالية
ل ريب أن من حكمة الله ورحمته أنه جعل العباد مفتقرين إلى جلب المنافع
الدينية والدنيوية ،وإلى دفع المضار الدينية والدنيوية ،فاقتضت حكمته
وسنته التي ل تتبدل أن هذه المنافع المتنوعة -وخصوصا المور العظام -ل
تحصل إل بالسعي بأسبابها الموصلة إليها ،وكذلك المضار ل تندفع ل بالسعي
بالسباب التي تدفعها ،وقد بين في كتابه غاية التبيين هذه السباب ،وأرشد
العباد إليها ،فمن سلكها فاز بالمطلوب ،ونجا من كل مرهوب .
فأصل السباب كلها اليمان والعمل الصالح ،جعل الله خيرات الدنيا والخرة
وحصولها بحسب قيام العبد بهذين المرين ،وقد ذكر الله في القرآن من هذا
شيئا كثيرا جدا ،وقد تقدم في هذا الكتاب شيء من ذلك عند ذكر فوائد
اليمان .
وجعل الله القيام بالعبودية والتوكل سببا لكفاية الله للعبد جميع مطالبه ،
شاهده قوله تعالى :
ه { ]الطلق . [3 : سب ُ ُ ل عََلى اللهِ فَهُوَ َ
ح ْ ّ ن ي َت َوَك ّ ْ
م ْ
} وَ َ
ّ َ
ف عَب ْد َهُ { ]الزمر . [36 : َ
ه ب ِكا ٍس الل ُ } أل َي ْ َ
أي :بمن يقوم بعبوديته ظاهرا وباطنا .
) (2/93
وجعل الله التقوى والسعي والحركة سببا للرزق ،شاهده قوله تعالى :
ب{ س ُ حت َ ِ ث َل ي َ ْ حي ْ ُ ن َ م ْ ه ِ جا {} وَي َْرُزقْ ُ خَر ً م ْ ه َ ل لَ ُ جعَ ْ ه يَ ْ ق الل ّ َ ن ي َت ّ ِ م ْ } وَ َ
]الطلق 2 :و . [3
ن رِْزقِهِ { ]الملك . [15 : م ْ مَناك ِب َِها وَك ُُلوا ِ شوا ِفي َ م ُ وقوله َ } :فا ْ
وجعل الله التقوى واليمان وتكرار دعوة ذي النون سببا للخروج من كل
كرب وضيق وشدة ،شاهده الية السابقة ،وكذلك قوله :
ن لَ قدر عَل َيه فَنادى في الظ ّل ُمات أ َ } وَذا النون إذ ْ ذ َهَب مَغاضبا فَظ َ َ
َ ِ ْ ِ ْ ِ َ َ ن نَ ْ ِ َ ن لَ ْ نأ ْ ّ ِ ً َ ُ َ ّ ِ ِ َ
مّ َ غْ ل ا ن
َ م
ِ ُ ه نا
َ ْ ي ج
ّ َ ن و
ُ َ ه َ ل نا
َ ْ ب ج
َ َ ت س
ْ َ
فا {} نَ مي ِ ِ ل ّ
ظا ال ن
َ م
ِ تُ ْ نُ ك ني ّ ِ إ َ
ك َ ن حا َ ْ ب س
َ ُ ت ْ نأ لّ ه ِ
إ إ ِل َ َ
ن { ]النبياء 87 :و . [88 مِني َ مؤ ْ ِ جي ال ْ ُ ك ن ُن ْ ِ وَك َذ َل ِ َ
وجعل الله الدعاء والطمع في فضله سببا لحصول جميع المطالب ،دليله
َ
م { ]غافر . [60 : ب ل َك ُ ْ ج ْست َ ِ عوِني أ ْ م اد ْ ُ ل َرب ّك ُ ُ قوله تعالى } :وََقا َ
ن{ سِني َ ح ِ م ْ ْ
ن ال ُ م َ ب ِ ري ٌ ّ
ة اللهِ قَ ِ م َ ح َ ن َر ْ مًعا إ ِ ّ َ
خوًْفا وَط َ عوه ُ َ وقوله َ } :واد ْ ُ
]العراف . [56 :
) (2/94
وجعل الله الحسان في عبادة الخالق ،والحسان إلى الخلق سببا يدرك به
ة الل ّ ِ
ه م َ
ح َ
ن َر ْ
فضله وإحسانه العاجل والجل ،شاهده الية السابقة } :إ ِ ّ
ن { ،وقوله : سِني َ ح ِ م ْ ن ال ْ ُ م َ ب ِ ري ٌ قَ ِ
ن { ]الرحمن . [60 : سا ُ ح َ ْ
ن إ ِل ال ِ ّْ سا ِ ح َ ْ
جَزاُء ال ِ ْ ل َ } هَ ْ
ن { ]البقرة . [195 : ْ ّ َ
سِني َح ِ م ْ ب ال ُ ح ّ ه يُ ِ ن الل َ سُنوا إ ِ ّ ح ِ } وَأ ْ
ومن أحبه الله نال جميع ما يطلب .
وجعل الله التوبة والستغفار واليمان والحسنات والمصائب مع الصبر عليها
أسبابا لمحو الذنوب والخطايا ،شاهده قوله تعالى :
دى { ]طه . [82 : م اهْت َ َحا ث ُ ّ
صال ِ ًل َم َن وَعَ ِ م َ ب َوآ َ ن َتا َ م ْ فاٌر ل ِ َ } وَإ ِّني ل َغَ ّ
ت { ]هود . [114 : سي َّئا ِ ن ال ّ ت ي ُذ ْهِب ْ َ سَنا ِ ح َ ن ال ْ َ } إِ ّ
ن { ]يوسف . [90 : ْ َ َ ّ َ
سِني َ
ح ِ م ْ
جَر ال ُ ضيعُ أ ْ
ه ل يُ ِ ن الل َ صب ِْر فإ ِ ّ ق وَي َ ْ ن ي َت ّ ِ
م ْ ه َ } إ ِن ّ ُ
وجعل الله الصبر سببا وآلة تدرك بها الخيرات ،ويستدفع بها الكريهات ،
شاهده الية السابقة ،وقوله :
صَلةِ { ]البقرة . [45 :
صب ْرِ َوال ّ
ست َِعيُنوا ِبال ّ
} َوا ْ
) (2/95
أي :على جميع أموركم ،ولما ذكر الله ما وصل إليه أهل الجنة من كمال
النعيم ،وزوال كل محذور ،ذكر أن هذا أثر صبرهم ،فقال :
م { ]الرعد . [24 : صب َْرت ُ ْ ما َ م بِ َ م عَل َي ْك ُ ْ سَل ٌ } َ
صب َُروا { ]الفرقان . [75 : ما َ ة بِ َ ن الغُْرفَ َ ْ جَزوْ َ ك يُ ْ} ُأولئ ِ َ
َ
ومنه أنه جعل الصبر واليقين تنال بهما أعلى مقامات ،وهي المامة في
الدين ،دليله قوله تعالى :
ن{ َ َ َ } وجعل ْنا منه َ
صب َُروا وَكاُنوا ِبآَيات َِنا ُيوقُِنو َ ما َ مرَِنا ل ّ ن ب ِأ ْ دو َ ة ي َهْ ُم ً م أئ ِ ّ َ َ َ َ ِ ُْ ْ
]السجدة . [24 :
وجعل الله مفتاح العلم حسن السؤال وحسن النصات والتعلم والتقوى
وحسن القصد ،شاهده قوله تعالى :
ن { ]النحل . [43 : م َل ت َعْل َ ُ َ
مو ن ك ُن ْت ُ ْ ل الذ ّك ْرِ إ ِ ْ سأ َُلوا أ َهْ َ } َفا ْ
َ
سأُلوا عَن َْها َ َ َ
ن تَ ْ سؤْك ُ ْ
م وَإ ِ ْ م تَ ُ ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْشَياَء إ ِ ْنأ ْ سأُلوا عَ ْ مُنوا َل ت َ ْ نآ َ ذي َ } يا أي َّها ال ّ ِ
م { ]المائدة . [101 : ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ قْرآ ُ ل ال ْ ُ ن ي ُن َّز ُ حي َ
ِ
م فُْرَقاًنا { ]النفال [29 : ل ل َك ُْ جعَ ْ ي هّ ل ال قوا ُ ت ت ن إ نوا م آ ن ذي ّ ل ا ها ي َ أ يا } : وقوله
َ َ ْ ِ َ َ ُ ِ ْ َّ َّ
.
أي :نورا وعلما تفرقون به بين الحقائق كلها ،وقوله :
) (2/96
سَلم ِ { ]المائدة . [16 : ل ال ّسب ُ َ ه ُ وان َ ُض َن ات ّب َعَ رِ ْ م ِ ه َ دي ب ِهِ الل ّ ُ } ي َهْ ِ
سب ُلَنا { ]العنكبوت . [69 : َ م ُ َ
دوا ِفيَنا لن َهْدِي َن ّهُ ْ جاهَ ُ ن َ ذي َ ّ
وقوله َ } :وال ِ
حذر منهم سببا وجعل الله الستعداد للعداء بكل مستطاع من القوة ،وأخذ ال َ
ن ّ َ
ذي َلحصول النصر والسلمة من شرورهم ،شاهده قوله تعالى } :يا أي َّها ال ِ
نم ْ م ِ ست َط َعْت ُ ْ
ما ا ْ دوا ل َهُ ْ
م َ م { ]النساء ، [71 :وقوله } :وَأ َ ِ
ع ّ حذ َْرك ُ ْ ذوا ِ خ ُمُنوا ُ آ َ
قُوّةٍ { ]النفال . [60 :
وجعل الله اليسر يتبع العسر ،والفرج عند اشتداد الكرب ،شاهده قوله
تعالى :
سًرا { ]الشرح . [6 : سرِ ي ُ ْ معَ ال ْعُ ْ ن َ } إِ ّ
سًرا { ]الطلق . [7 : سرٍ ي ُ ْ ه ب َعْد َ عُ ْ ّ
ل الل ُ جعَ ُ سي َ ْ } َ
عاه ُ { ]النمل . [62 : ضطّر إ َِذا د َ َ َ ْ َ
م ْ ب ال ُ جي ُن يُ ِ م ْ }أ ّ
وجعل الله الشكر سببا للمزيد منها ومن غيرها ،وكفران النعم سببا لزوالها ،
شاهده قوله تعالى :
َ َ َ
ديد ٌ { ]إبراهيم . [7 : ش ِ ذاِبي ل َن عَ َم إِ ّ فْرت ُ ْ نك ََ م وَلئ ِ ْ م َلِزيد َن ّك ْ
ُ شك َْرت ُ ْ ن َ } ل َئ ِ ْ
وجعل الله الصبر والتقوى سببا للعواقب الحميدة والمنازل الرفيعة ،شاهده
قوله تعالى :
) (2/97
ن { ]العراف . [128 : قي َ مت ّ ِة ل ِل ْ ُ } َوال َْعاقِب َ ُ
َ
ن { ]يوسف . [90 : سِني َ ح ِ م ْجَر ال ْ ُ ضيعُ أ ْ ه َل ي ُ ِ ن الل ّ َ صب ِْر فَإ ِ ّ ق وَي َ ْ ن ي َت ّ ِ م ْ ه َ } إ ِن ّ ُ
وجعل الله الجهاد سببا للنصر ،وحصول الغراض المطلوبة من العداء ،
والوقاية من شرورهم ،شاهده قوله تعالى :
} َقاتُلوهم يعذ ّبهم الل ّ َ
م { ]التوبة . [14 : م عَل َي ْهِ ْ صْرك ُ ْ م وَي َن ْ ُ خزِهِ ْ م وَي ُ ْ ديك ُ ْ ه ب ِأي ْ ُِ ِ ُ ْ َُ ُْ ُ
َ ّ ْ س َ ّ ّ َ
ل اللهِ ل ت ُك َل ُ ّ قات ِ ْ } فَ َ
ن
هأ ْ سى الل ُ ن عَ َ مؤ ْ ِ
مِني َ ض ال ُ حّر ِ ك وَ َ ف َف إ ِل ن َ ْ سِبي ِ ل ِفي َ
ن كَ َ ّ ْ
فُروا { ]النساء . [84 : ذي َ س ال ِ ف ب َأ َ ي َك ُ ّ
وجعل الله لمحبته التي هي أعلى ما ناله العباد أسبابا ،أهمها وأعظمها
متابعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في القوال والفعال وسائر
ه { ]آل م الل ّ ُ
حب ِب ْك ُ ُ
ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ ن الل ّ َ حّبو َ م تُ ِ ن ك ُن ْت ُ ْل إِ ْ الحوال ،قال تعالى } :قُ ْ
عمران . [31 :
ومن أسبابها ما ذكره بقوله :
ن { ]آل عمران . [146 : ري َ صاب ِ ِ ب ال ّ ح ّ ه يُ ِ } َوالل ّ ُ
ن { ]آل عمران . [134 : سِني َ ح ِ م ْ ب ال ْ ُ ح ّ } يُ ِ
ن { ]آل عمران . [76 : قي
ُ ِّ َ ت م ْ ل ا ب} يُ ِ ّ
ح
) (2/98
َ
ص { ]الصف . [4 : صو ٌ مْر ُ ن َ م ب ُن َْيا ٌ فا ك َأن ّهُ ْ ص ّ
سِبيل ِهِ َ ن ِفي َ قات ُِلو َن يُ َ ذي َ ب ال ّ ِ ح ّ } يُ ِ
وجعل الله النظر إلى النعم ،والفضل الذي أعطيه العبد ،وغض النظر مما
لم يعطه سببا للقناعة ،شاهده قوله تعالى :
ما آت َي ْت ُ َ
ك خذ ْ َمي فَ ُ َ َ
سالِتي وَب ِكل ِ َ س ب ِرِ َ في ْت ُ َ َ صط َ َ } َقا َ
ك عَلى الّنا ِ سى إ ِّني ا ْ مو َ ل يا ُ
ن { ]العراف . [144 : ري َ
شاك ِ ِ ن ال ّ م َ ن ِ وَك ُ ْ
وجعل الله القيام بالعدل في المور كلها سببا لصلح الحوال ،وضده سببا
لفسادها واختلفها ،شاهده قوله تعالى :
ْ َ ْ َ
ن
موا الوَْز َ ن {} وَأِقي ُ ميَزا ِ وا ِفي ال ِ ن {} أّل ت َطغَ ْ
ْ ميَزا َ ضعَ ال ْ ِ ماَء َرفَعََها وَوَ َ س َ } َوال ّ
ن { ]الرحمن . [9 - 7 : ميَزا َ ْ
سُروا ال ِ خ ِ َ
ط وَل ت ُ ْ س ِ ق ْ ِبال ْ ِ
وجعل الله كمال إخلص العبد لربه سببا يدفع به عنه المعاصي وأسبابها
وأنواع الفتن ،شاهده قوله تعالى :
ن { ]يوسف : خل َ ِ
صي َ عَبادَِنا ال ْ ُ
م ْ ن ِ م ْ ه ِ شاَء إ ِن ّ ُح َ سوَء َوال ْ َ
ف ْ ه ال ّ ف عَن ْ ُ صرِ َ ك ل ِن َ ْ } ك َذ َل ِ َ
. [24
) (2/99
وجعل الله قوة التوكل عليه مع اليمان حصنا حصينا يمنع العبد من تسلط
الشيطان ،خصوصا إذا انضم إلى ذلك الكثار من ذكر الله ،والستعاذة بالله
من الشيطان ،شاهده قوله تعالى :
ن { ]النحل : ُ ّ
م ي َت َوَكلو َ َ
مُنوا وَعَلى َرب ّهِ ْ
نآ َ ن عََلى ال ّ ِ
ذي َ طا ٌسل ْ َ ه ُ س لَ ُ ه ل َي ْ َ
} إ ِن ّ ُ
. [99
َ ْ َ ُ
وقال } :ق ْ
ق { ]الفلق . [1 : فل ِ ب ال َعوذ ُ ب َِر ّ لأ ُ
س { ]الناس [1 :إلى آخرهما . ب الّنا ِ عوذ ُ ب َِر ّ ل أَ ُ
و } قُ ْ
وجعل الله مفتاح اليمان واليقين التفكر في آيات الله المتلوة ،وآياته
المشهودة ،والمقابلة بين الحق والباطل بحسن فهم وقوة بصيرة ،شاهده
قوله تعالى :
ْ َ ْ ُ ك ل ِيدبروا آيات ِه ول ِيتذ َك ّر ُ َ
ب { ]ص . [29 : با
َ ِ ل ل ا لو أو َ ِ َ ََ َ َ ُّّ ٌ ر با
ُ َ َم كَ ب أن َْزل ْ َ ُ ِ ْ
يَ لإ ه نا } ك َِتا ٌ
والمر بالتفكر بالمخلوقات في عدة آيات ،وقوله :
ن { ]الحجر . [77 : مؤ ْ ِ
مِني َ ة ل ِل ْ ُ
ك َلي َ ًن ِفي ذ َل ِ َ
} إِ ّ
فهي سبب لليمان ،واليمان موجب للنتفاع بها .
وجعل الله القيام بأمور الدين سببا لتيسير المور ،وعدم القيام بها سببا
للتعسير ،وشاهده قوله تعالى :
) (2/100
ن أ َعْ َ َ
سَرى { سُرهُ ل ِل ْي ُ ْسن ُي َ ّ سَنى {} فَ َ ح ْ صد ّقَ ِبال ْ ُ قى {} وَ َ طى َوات ّ َ م ْ ما َ } فَأ ّ
َ
سَرى { سُره ُ ل ِل ْعُ ْ سن ُي َ ّ سَنى {} فَ َ ح ْ ب ِبال ْ ُ ست َغَْنى {} وَك َذ ّ َ ل َوا ْ خ َ ن بَ ِ م ْ ما َ } وَأ ّ
]الليل . [10 - 5 :
وجعل الله العلم النافع للرفعة في الدنيا والخرة ،شاهده قوله تعالى :
} يرفَع الل ّه ال ّذين آمنوا منك ُم وال ّذي ُ
ت { ]المجادلة . [11 : جا ٍ م د ََر َن أوُتوا ال ْعِل ْ َ ِ ْ ْ َ ِ َ ُ ِ َ َ ُ َْ ِ
وجعل الله كون العبد طيبا في عقيدته وخلقه وعمله سببا لدخول الجنة ،
وللبشارة عند الموت ،شاهده قوله تعالى :
ن { ]الزمر . [73 : دي َخال ِ ِ ها َ خُلو َ م َفاد ْ ُ } ط ِب ْت ُ ْ
ن { ]النحل . [32 : َ
ة طي ِّبي َ ملئ ِك َ ُ َ ْ
م ال َن ت َت َوَّفاهُ ُ ذي َ ّ
وقوله } :ال ِ
وجعل الله مقابلة المسيء بالحسان ،وحسن الخلق سببا يكون به العدو
صديقا ،وتتمكن فيه صداقة الصديق ،دليله قوله تعالى :
ّ َ
ه َ
ذي ب َي ْن َك وَب َي ْن َ ُ ن فَإ َِذا ال ِ س ُ ح َ يأ ْ ة اد ْفَعْ ِبال ِّتي هِ َ سي ّئ َ ُة وََل ال ّ سن َ ُ ح َوي ال ْ َ } وََل ت َ ْ
س َت َ ِ
م { ]فصلت . [34 : مي ٌ ح ِي َ ه وَل ِ ّ داوَة ٌ ك َأن ّ ُ عَ َ
) (2/101
حوْل ِ َ
ك ن َم ْ ضوا ِف ّب َلن ْ َ قل ْ ِ ظ ال ْ َظا غَِلي َ ت فَ ّ م وَل َوْ ك ُن ْ َ ت ل َهُ ْ ن الل ّهِ ل ِن ْ َ م َمةٍ ِ ح َ ما َر ْ } فَب ِ َ
{ ]آل عمران . [159 :
وبذلك تحصل الراحة للعبد ،ويتيسر له كثير من أحواله .
وجعل الله النفاق في محله سببا للخلف العاجل والثواب الجل ،شاهده
قوله تعالى :
ن { ]سبأ . [39 : خي ُْر الّرازِِقي َ ه وَهُوَ َ ف ُخل ِ ُيٍء فَهُوَ ي ُ ْ ش ْ ن َ م ْم ِ قت ُ ْ
ف ْ ما أ َن ْ َ } وَ َ
وجعل الله لرزقه أبوابا وأسبابا متنوعة ،فمتى انغلق عن العبد باب منها فل
يحزن ؛ فإن الله يفتح له غيره ،وقد يكون أقوى منه وأحسن ،وقد يكون
مثله ودونه ،شاهده قوله تعالى :
سعَت ِهِ { ]النساء . [130 : ن َ م ْه ك ُّل ِ ن الل ّ ُ فّرَقا َي ُغْ ِ ن ي َت َ َ} وَإ ِ ْ
م
حَرا َ ْ
جد َ ال َس ِم ْ ْ
قَرُبوا ال َ َ
س فَل ي َ ْ ج ٌ ن نَ َ ُ
شرِكو َ م ْ ْ
ما ال ُ مُنوا إ ِن ّ َنآ َ ذي َ ّ
وقوله } :يا أي َّها ال ِ
ضل ِهِ { ]التوبة [28 : ن فَ ْ م ْ ه ِ ّ
م الل ُ ُ
ف ي ُغِْنيك ُ سو ْ َ ة فَ َ َ
م عَي ْل ً فت ُ ْ
خ ْ ن ِ ذا وَإ ِ ْ م هَ َ مهِ ْ عا ِ ب َعْد َ َ
.
وجعل الله التحرز والبعد عن الموبقات المهلكة والحذر من وسائلها طريقا
سهل هينا لتركها ،شاهده قوله تعالى :
) (2/102
ها { ]البقرة . [187 : قَرُبو َ دود ُ الل ّهِ { ]أي :محارمه[ } فََل ت َ ْ ح ُك ُ } ت ِل ْ َ
أي :ل تفعلوها ول تحوموا حولها ؛ فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع
ها { كان المراد قَرُبو َدود ُ الل ّهِ فََل ت َ ْ ح ُ ك ُ فيه ،وإذا قيل مثل هذه الية } :ت ِل ْ َ
بالحدود المحارم ،وأما إذا قيل :
ها { ]البقرة . [229 : دو َدود ُ الل ّهِ فََل ت َعْت َ ُح ُك ُ } ت ِل ْ َ
فهذه الحدود التي حددها الله للمباحات ،فعلى العبد أن ل يتجاوزها ؛ لنه إذا
تجاوز المباح وقع في المحّرم ،فافهم الفرق بين المرين .
وجعل الله السبب الوحيد القوي المثمر للثمرات الجليلة للدعوة إلى سبيله
ما تضمنته هذه الية :
ي ّ
م ِبالِتي هِ َ ْ
جادِلهُ ْسن َةِ وَ َ
ح َ ْ
عظةِ ال َ َ مو ْ ِ ْ
مةِ َوال َ ْ
حك َ ْ
ك ِبال ِ ل َرب ّ َ } اد ْع ُ إ َِلى َ
سِبي ِ
ن { ]النحل . [125 : َ
س ُ ح َ أ ْ
) (2/103
) (2/104
وقد علم الله مع ذلك أن الناس ثلثة أقسام ،كل يدعى بالطريق التي
تناسبه :
القسم الول :المنقادون الملتزمون الراغبون في الخير ،الراهبون من الشر
،فهؤلء لما عندهم من الستعداد لفعل المأمورات وترك المنهيات ،
والشتياق إلى العتقاد الصحيح ،فقط يكتفى ببيان المور الدينية لهم
والتعليم المحض .
والقسم الثاني :الذين عندهم غفلة وإعراض واشتغال بأمور صاّدة عن
الحق ،فهؤلء مع هذا التعليم يدعون بالموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب ؛
لن النفوس ل تلتفت إلى منافعها ،ول تترك أغراضها الصاّدة لها عن الحق
علما وعمل إل مع البيان لها أن ترغب وترهب بذكر ما يترتب على الحق من
المنافع وعلى الباطل من المضار ،والموازنة بين المور النافعة والضارة .
) (2/105
) (2/106
) (2/107
) (2/108
) (2/109
ومثل وحيه بمنزلة الغيث النافع ،وقلوب الخلق بمنزلة الراضي الطيبة
القابلة والخبيثة ،وبّين ذلك ،وهي أمثلة محسوسة يوضح الله بها المطالب
قسم تعالى على أصول الدين التي يجب على الخلق اليمان النافعة ،وهو ي ُ ْ
بها :كالتوحيد والرسالة والمعاد ،وما يتفرع عنها ،وضرب المثال من
تصريف الله اليات لعباده بأعلى أساليب الكلم المؤثرة الموضحة للحقائق ،
ث الله عليها ،ومدح من فتأمل إقسامات القرآن تجدها كذلك ،ولذلك ح ّ
يتفكر فيها ويعقلها فقال :
} وت ِل ْ َ َ
ن { ]الحشر . [21 : فك ُّرو َ س ل َعَل ّهُ ْ
م ي َت َ َ ضرِب َُها ِللّنا ِل نَ ْ ك اْل ْ
مَثا ُ َ
وفي الية الخرى :
ن { ]العنكبوت . [43 : مو َ قل َُها إ ِّل ال َْعال ِ ُ
ما ي َعْ ِ
} وَ َ
فصل في ذكر حدود ألفاظ كثر مرورها في القرآن أمرا بها أو نهيا عنها أو
مدحا لها أو ذما لها
) (2/110
م من جهلها ،فالله تعالى أثنى على من عرف حدود ما أنزل على رسوله ،وذ َ ّ
وهذه ألفاظ جليلة يتعين على طالب العلم معرفة حدودها ؛ ليعرف ما يدخل
فيها وما يخرج منها ،وتتفق اللفاظ المأمور بها في كثير من المور ،وقد
يكون بينها فروق ،وكذلك المنهيات ،وهذا من إحكام القرآن ،وأنه يصدق
بعضه بعضا :
َ ً َ
خت ِلفا كِثيًرا { ]النساء . [82 :
دوا ِفيهِ ا ْ
ج ُ َ ّ َ
عن ْد ِ غي ْرِ اللهِ لوَ َ
ن ِ
م ْ
ن ِ } وَل َوْ َ
كا َ
السلم واليمان :أما السلم فهو استسلم القلب لله وإنابته ،والقيام
بالشرائع الظاهرة والباطنة ،وأما اليمان فهو التصديق التام والعتراف
بأصوله التي أمر الله باليمان بها ،ول يتم ذلك إل بالقيام بأعمال القلوب
وأعمال الجوارح ،ولهذا سمى الله كثيرا من الشرائع الظاهرة والباطنة إيمانا
،وبعض اليات يذكر أنها من لوازم اليمان فعلى هذا :
اليمان عند الطلق يدخل فيه السلم ،وكذلك بالعكس ،وإذا جمع بين
اليمان والسلم فسر اليمان بما في القلب من التصديق والعتراف وما يتبع
ذلك ،وفسر السلم بالقيام بعبودية الله كلها ،الظاهرة والباطنة .
) (2/111
) (2/112
العلم واليقين :فالعلم هو تصور المعلومات على ما هي عليه ،ولهذا يقال :
العلم ما قام عليه الدليل ،والعلم النافع :ما كان مأخوذا عن الرسول ،
واليقين أخص من العلم بأمرين :
أحدهما :أنه العلم الراسخ القوي الذي ليس عرضة للريب والشك والموانع ،
ويكون علم يقين إذا ثبت بالخبر ،وعين يقين إذا شاهدته العين والبصر ،
ولهذا يقال :ليس الخبر كالمعاينة ،وحق يقين إذا ذاقه العبد وتحقق به .
المر الثاني :أن اليقين هو العلم الذي يحمل صاحبه على الطمأنينة بخبر الله
،والطمأنينة بذكر الله ،والصبر على المكاره ،والقوة في أمر الله ،
والشجاعة القولية والفعلية ،والستحلء للطاعات ،وأن يهون على العبد في
ذات الله المشقات وتحمل الكريهات ،فهذه الثار الجميلة -التي هي أعلى
وأحلى من كل شيء -من آثار اليقين .
الصبر :حبس النفس على المشقات طلبا لرضا الله ،وينقسم إلى ثلثة
أقسام :
) (2/113
صبر على طاعة الله ،وخصوصا الطاعات الشاقة حتى يؤديها على وجه
الكمال ،وصبر عن معصية الله ،خصوصا المعصية التي تدعو النفس إليها
دعاء قويا ،حتى يجاهد نفسه فيتركها لله ،وصبر على أقدار الله المؤلمة ،
خصوصا إذا عظمت المصيبة حتى ل يتسخطها ،وربما وصلت به الحال إلى
الرضا عن الله .
الشكر لله :هو العتراف بنعم الله الظاهرة والباطنة ،العامة والخاصة ،
والتحدث بها ،والستعانة بها على طاعة المنعم دون معصيته ،ول بد أن
يقترن هذا بالخضوع للمنعم ومحبته ،فبهذه الركان الخمسة يكون الشكر
تاما .
البر والتقوى لله :إذا أطلق أحدهما دخل فيه الخر ،فإنه اسم جامع للقيام
بكل ما يحبه الله ورسوله ظاهرا وباطنا ،وترك ما يكرهه الله ورسوله ظاهرا
وى { ]المائدة [2 : وباطنا ،وإذا جمع بينهما نحو } :وَت ََعاوَُنوا عََلى ال ْب ِّر َوالت ّ ْ
ق َ
فسر البر بالقيام بعقائد اليمان وأخلقه ،وأعمال البر كلها القاصرة
والمتعدية ،وفسرت التقوى باتقاء ما يسخط الله من الكفر والفسوق
والعصيان .
الصدق والكذب :الصدق هو استواء الظاهر والباطن على الستقامة على
الصراط المستقيم .
) (2/114
فالصدق في العقائد :أن تكون عقيدة العبد صادقة سلفية متلقاة عن كتاب
الله ،وسنة رسوله ،وما كان عليه الصحابة .
والصدق في الخلق :أن يكون القلب ملنا من اليمان والخلص والرغبة ،
والنصيحة لعباد الله ،ومحبة الخير لهم .
والصدق في القوال :أن يكون قائل للصدق مصدقا به .
والصدق في العمال :الجتهاد في تكميلها وإتقانها .
والكذب ما ناقض ذلك كله ،ولذلك كان الصدق والكذب مراتب ،ول يزال
ديقا ،ول يزال العبد
العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله ص ّ
يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا .
العدل والظلم :العدل :هو سلوك الطريق المستقيم المعتدل في العقائد
والخلق والقوال والفعال كما يقال في الصدق ،والظلم :ما ناقض ذلك ،
ولهذا انقسم الظلم إلى ثلثة أقسام كلها منافية للعدل :الظلم في التوحيد
بالشراك بالله ،قال تعالى :
م { ]لقمان . [13 :ظي ٌ ك ل َظ ُل ْ ٌ
م عَ ِ شْر َ
ن ال ّ
} إِ ّ
) (2/115
وظلم الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم ،وظلم العبد نفسه
فيما دون الشرك ،ول يتم للعبد العدل الكامل حتى يدع جميع هذه القسام ،
ويتوب إلى ربه مما وقع معه ،ويخرج من حق العباد إليهم ،ولهذا كان القيام
بالدين كله من العدل والقسط .
" العبادة والعبودية لله " :اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد
وأعمال القلوب وأعمال الجوارح ،فكل ما يقرب إلى الله من الفعال
والتروك فهو عبادة ; ولهذا كان تارك المعصية لله متعبدا متقربا إلى ربه
بذلك ،ول تتم العبادة إل بالخلص " :الخلص لله وحده " :بأن يقصد العبد
وجه الله ورضاه وثوابه في أعماله الظاهرة والباطنة ،وضده العمل للرياء
والسمعة ،ولجل عرض الدنيا ،وميزان هذا قوله تعالى عن خيار الخلق :
واًنا { ]المائدة . [2 :
ض َ
م وَرِ ْ
ن َرب ّهِ ْ ضًل ِ
م ْ ن فَ ْ
} ي َب ْت َُغو َ
) (2/116
وقوله صلى الله عليه وسلم » :إنما العمال بالنيات ،وإنما لكل امرئ ما
نوى ،فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ،ومن
كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه « ،
وجميع العمال على هذا النمط ،وقد يراد بالهجرة هنا الهجرة العامة التي
قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم » :والمهاجر من هجر ما نهى الله
ورسوله عنه « .
" الخوف والخشية والخضوع والخبات والوجل " :معانيها متقاربة ،فالخوف
يمنع العبد عن محارم الله ،وتشاركه الخشية في ذلك وتزيد أن خوفه
مقرون بمعرفة الله ،وأما الخضوع والخبات والوجل :فإنها تنشأ عن الخوف
والخشية لله ،فيخضع العبد لله ويخبت إلى ربه منيبا إليه بقلبه ويحدث له
الوجل ،وأما الخشوع فهو حضور القلب وقت تلبسه بطاعة الله وسكون
ظاهره وباطنه ،فهذا خشوع خاص ،وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف
خواص المؤمنين فينشأ من كمال معرفة العبد بربه ومراقبته ،فيستولي ذلك
على القلب كما تستولي المحبة .
" القنوت " :ورد في القرآن على أحد معنيين :معنى خاص بمعنى
الخشوع ،ومعنى عام وهو قنوت المخلوقات كلها لخلق الله وتدبيره
وتصريفه .
) (2/117
" الذكر لله " :الذي ورد في القرآن المر به والثناء على أهله ،وما رتب
عليه من الجزاء يطلق على جميع الطاعات الظاهرة والباطنة ،القولية
والفعلية ،فك ّ
ل ما تصوره القلب أو أراده أو فعله العبد أو تكلم به مما يقرب
إلى الله فهو ذكر الله ،والله تعالى شرع العبادات كلها لقامة ذكره ،فهي
ذكر الله ،ويطلق على ذكر الله باللسان بذكر أوصافه وأفعاله والثناء عليه
بنعمه وتسبيحه وتكبيره وتحميده والتهليل والصلة على النبي صلى الله عليه
وسلم ،ومن ذكره ذكر أحكامه تعلمها وتعليمها ،ولهذا مجالس التعلم
والتعليم يقال لها مجالس الذكر ،وأفضل أنواع الذكر ما تواطأ عليه القلب
واللسان .
دود ُ
ح ُ َ ْ
دود ُ اللهِ { :يراد بها ما حرمه ومنعه عباده ،فيقال فيها } :ت ِلك ُ ّ ح ُ
} ُ
ها { ،ويراد بها كذلك ما أباحه وأحله لعباده وقدره وفرضه ، بو ر
َ َ ُ َْ قت لَ َ ف الل ّهِ
ها { ]البقرة [229 :أي :ل تجاوزوا دود ُ الل ّهِ فََل ت َعْت َ ُ
دو َ ح ُ فيقال فيها } :ت ِل ْ َ
ك ُ
ما أحل الله إلى ما حرم الله ،ول تتجاوزوا ما قدره الله للعباد إلى ما يخالف
تقديره .
) (2/118
" المانة " :هي المور التي يؤتمن عليها العبد ،فيشمل المانة التي بينه
وبين الله ،فإنه ائتمن عبده على إقامة الواجبات وترك المحرمات ،فالقيام
بذلك أداء للمانة ومراعاة لها ،وترك بعض الواجبات وخصوصا السرية التي
ل يطلع عليها إل الله ،أو التجرؤ على بعض المحرمات ترك للمانة واتصاف
بالخيانة ،ويشمل أيضا المانات التي بينك وبين الخلق في الدماء والموال
والحقوق ،فمن قام بها فقد أدى المانة وحفظها ،ومن تعدى فيها أو فرط
أو خان فقد تجرأ على الخيانة .
" العهد والعقد " :يشمل العهود والعقود التي بين العبد وبين ربه ،فإن الله
عقد بينه وبين المكلفين عقدا ،وعاهدهم عهدا بإقامة ما خلقوا له من عبادته
،والقيام بحقوقه ،فإقامة ذلك وفاء لهذا العقد والعهد ،وإهماله نقض للعهد
والعقد والثقة ،وكذلك العهود والعقود التي بينه وبين الخلق يتعين الوفاء
بها ،ويشمل ذلك عقود المعاملت كلها من دون استثناء .
) (2/119
جبن والتهور " :أثنى الله في كتابه على الشجاعة ،ومدح " الشجاعة وال ُ
أهلها ،وأمر بها ،وذم الجبن والتهور ،فالشجاعة قوة القلب وثباته وإقدامه
على القوال والفعال في موضع القدام بحكمة وحنكة ،فإن أقدم عليها في
حال ل يحل له القدام قيل لذلك :تهور وجراءة وحمق وإلقاء بالنفس إلى
جبن فهو ضد الشجاعة ضعف القلب وخوره ،ويتبع ذلك خور التهلكة ،وأما ال ُ
العمال والخوف مما ل يخاف ،وهيبة من ل يهاب ،فالشجاعة خلق فاضل
جليل بين خلقين ذميمين رذيلين :بين التهور ،الذي هو غلو وزيادة عن
الحد ،وبين الجبن ،الذي هو تفريط وتقصير وضعف وخور ،ونظير ذلك
) القوام والبخل والتبذير ( في تصريف الموال ،بذلها فيما ينبغي من واجب
ومستحب ونافع على الوجه الذي ينبغي ،يقال لذلك :قوام واعتدال وتوسط
واقتصاد ،فإن منع الواجبات فهو البخل ،وصاحبه بخيل ،وإن أسرف وزاد
ن إ َِذا في النفقة عما ينبغي قيل لذلك :إسراف وتبذير ،قال تعالى َ } :وال ّ ِ
ذي َ
ما { ]الفرقان . [67 : وا ً ن ذ َل ِ َ
ك قَ َ ن ب َي ْ َ قت ُُروا وَ َ
كا َ سرُِفوا وَل َ ْ
م يَ ْ قوا ل َ ْ
م يُ ْ أ َن ْ َ
ف ُ
) (2/120
" الستقامة " :هي لزوم الصراط المستقيم بأن يستقيم العبد على اليمان
بالله ،وأداء فرائضه ،وترك محارمه ،مداوما لذلك ،تائبا مما أخل به من
حقوقها ،ولهذا قال :
موا إ ِل َي ْهِ َوا ْ َ ْ ِ
فُروه ُ { ]فصلت . [6 : غ ت س قي ُ } َفا ْ
ست َ ِ
أي :مما وقع منكم من الخلل في الستقامة .
" التوبة والستغفار " :أما التوبة فهي الرجوع إلى الله مما يكرهه الله
ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه الله ظاهرا وباطنا ؛ ندما على ما مضى ،وتركا في
الحال ،وعزما على أن ل يعود ،والستغفار :طلب المغفرة من الله ،فإن
اقترن به توبة فهو الستغفار الكامل الذي رتبت عليه المغفرة ،وإن لم
تقترن به التوبة فهو دعاء من العبد لربه أن يغفر له ،فقد يجاب دعاؤه وقد ل
يجاب ،وهو بنفسه عبادة من العبادات ،فهو دعاء عبادة ودعاء مسألة .
" التوكل على الله والستعانة به " :بمعنى واحد هو اعتماد القلب على الله
في جلب المنافع ودفع المضار الدينية والدنيوية ،الخاصة والعامة ،مع الثقة
بالله في ذلك المطلوب .
) (2/121
" المحبة لله والنابة إلى الله " :هي قوة الود لله لكماله ونعمه الظاهرة
والباطنة ،وانجذاب القلب إلى الله تألها ورغبة ورهبة في كل المطالب ،
وطمأنينة القلب بذكره واللهج بدعائه ،والرجوع إليه في المور الدينية
والدنيوية الجليلة والحقيرة ،فمن كان قلبه منيبا إلى الله فهو محب لله ،
جاع إلى الله الّواب إليه .والمنيب هو الّواه الر ّ
" المعروف والمنكر " :متقابلن ،فالمعروف اسم جامع لكل ما عرف حسنه
شرعا وعقل ،والمنكر ضده .
" الخبيث والطيب " :متقابلن ،فالطيب ما كان طيب الصفات كثير
المنافع ،والخبيث بالعكس .
خلقه ،فحسن الخلق مع خُلق " :يكون مع الله ومع َ خُلق وسوء ال ُ حسن ال ُ
" ُ
الله القيام بعبوديته ظاهرا وباطنا ،مع قوة محبته والطمأنينة إليه ،واللهج
بذكره وقوة الثقة به ،ومع الخلق بذل الحسان لهم ومنع الذى لهم واحتمال
الذى منهم ،وسوء الخلق بعكس ذلك كله .
) (2/122
" الشرك والكفر " :الكفر أعم من الشرك ،فمن جحد ما جاء به الرسول
صلى الله عليه وسلم أو جحد بعضه بل تأويل فهو الكافر من أي دين يكون ،
سواء كان صاحبه معاندا أو جاهل ضال ،والشرك نوعان :شرك في ربوبيته
كشرك الثنوية الذين يثبتون خالقا مع الله ،وشرك في ألوهيته كشرك سائر
المشركين الذين يعبدون الله ويعبدون غيره ،ويشركون بينه وبين المخلوقين
،ويسوونهم في الله في شيء من خصائص إلهيته ،وقد يكون هذا الشرك
أكبر جليا كأن يصرف العبد نوعا من أنواع العبادة لغير الله ،وقد يكون أصغر
كوسائل الشرك من الرياء والحلف بغير الله ،ونحو ذلك .
" النفاق " :هو أن يظهر الخير ويبطن الشر ،وهو نوعان :نفاق أكبر كأن
يظهر اليمان بالله ورسوله ،وقلبه منطو على الكفر ،ونفاق أصغر كالكذب
وإخلف المواعيد والفجور في الخصومة .
" الكبر والتواضع " :فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه بطر الحق
وغمط الناس ،يعني وضده التواضع للحق :قبوله حيث كان ومع من كان
ولين الجانب والتواضع للخلق .
) (2/123
) (2/124
بخط الفقير إلى الله من كافة الوجوه :عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله
السعدي ،غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين . .آمين .
ووقع الفراغ من نقله من خط المؤلف في سابع من الشهر المذكور والسنة
المذكورة بقلم الفقير إلى ربه :محمد السليمان العبد العزيز البسام ،غفر
الله له ولوالديه والمسلمين . .آمين .
) (2/125