Professional Documents
Culture Documents
هشام الشرقاوي
على الرغم من إنشاء المجتمع الدولي أنظمة دولية وإقليمية لحماية حقوق النسان على امتداد
نصف القرن الماضي ،إل أن مليين البشر ظلوا يقعون ضحايا للبادة الجماعية ولجرائم ضد
النسانية وجرائم حرب• وما يبعث على الخجل ،أنه لم يقدم للعدالة إلى المحاكم الوطنية سوى
حفنة من المسؤولين عن هذه الجرائم ،ودأبت الحكومات في معظم الحوال على التراجع لتطبيق
سياسة واقعية ملئمة يتم من خللها التفاوض بالمسؤولية الجنائية والعدالة في مقابل الوصول
إلى حل سياسي• ونتاجا لهذه السيـاسة فإن الجرائم المنصوص عليها في قوانين الشعوب قد
انتشرت في جميع أرجاء المعمور ،وبدل من أن تقوم الحكومات بمنعها أو الحد منها ،فإنها وللسف
استمرت سلبية وبل تغيير في معظم الحوال ،بل وفي أحوال أخرى مساندة لتلك النتهاكات ،ورغم
ذلك فقد أبدى المجتمع المدني الدولي معارضة متصاعدة إزاء منح منع العقاب خاصة للقادة الذين
أصدروا الوامر بارتكاب تلك الفظائع وكذلك الضباط المسؤولين عن تنفيذ هذه الوامر غير
المشروعة ،ومن هنا بدأ الرأي العام العالمي ينادي بضرورة إنشاء نظام عدالة جنائية دولية ،إذ أنه
لم يعد من المقبول بعد ذلك أن تكون الحصانة هي المكافأة التي ينالها أولئك الذين يرتكبون أفظع
الجرائم الدولية وانتهاكات حقوق النسان ،فبالضافة إلى العديد من أولئك الذين أفلتوا من
المحاكم الخاصة والتي أنشأت عقب بعض النزاعات الدولية ،فإن هناك مجرمين آخرين لم يمثلوا
أمام العدالة لما ارتكبوه من جرائم في منازعات داخلية عديدة• ونظرا لتكرار هذه الجرائم و
بخاصة خلل الحروب أو خلل النظمة الستبدادية ،فقد تمكن المجتمع الدولي من إنشاء محكمة
جنائية دولية تختص بالمحاكمات الجزائية ضد مرتكبي الجرائم الدولية• وباتخاذ هذا القرار
التاريخي في روما ،1998يتحقق إنجاز إنساني ضخم من شأنه أن يفتح الطريق أمام تحقيق حلم
الشعوب المقهورة والدول المغلوب على أمرها ،فقد أنعش هذا الحدث التاريخي آمال الذين ظلوا
لعقود طويلة عرضة لجرائم الدول الستعمارية والعنصرية والنظمة الديكتاتورية• إن إنشاء
المحكمة يمثل بحق خطوة غير مسبوقة في التاريخ النساني من شأنها خلق سلطة قضائية دولية
تختص بتأمين سيادة القانون الدولي وتطبيق أحكام القانون الدولي النساني• فما هي السس التي
تقوم عليها المحكمة ؟ وما هي صلحياتها ؟ وما هي المعوقات التي تحول دول نفاذ قوانينها من
خلل مواقف الطراف الدولية والقليمية منها؟ وما هي آفاقها لتطبيق مبدأ عدم الفلت من
العقاب؟ المطلب الول تأسيس المحكمة الجنائية الدولية و اختصاصاتها إن إنشاء المحكمة الجنائية
الدولية يعتبر أحد أهم المطالب لتوفير الليات والضمانات الكفيلة بالوقاية من النتهاكات
1
الصارخة لحقوق النسان ومحاسبة مرتكبيها والمسؤولين عنها ومعاقبتهم وذلك من أجل حفظ
حقوق البشرية في المن والسلم ،ولذلك فإن التأسيس لم يأت وليد الصدفة ،بل جاء نتيجة
لمجهودات فقهاء القانون الدولي واللجان الخاصة بالمم المتحدة الذين حددوا صلحيات
واختصاصات المحكمة• أول :إنشاء المحكمة الجنائية الدولية المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة
قضائية دائمة مستقلة أوجدها المجتمع الدولي لمقاضاة مرتكبي أشد الجرائم المحتملة جسامة
بمقتضى القانون الدولي ،أي جريمة البادة الجماعية والجرائم الخرى ضد النسانية وجرائم
الحرب• أ• مسار النشأة :إن المحكمة الجنائية الدولية لم تكن وليدة لحظة معينة ،بل هي عصارة
لعمل وجهد طويلين وممتدين كما سبقت الشارة إلى ذلك منذ محاكمات نورمبرغ إلى حدود
إنشاء المحكمتين الجنائيتين ليوغسلفيا ورواندا ،إذ أنه بعد ذلك في سنة 1994قامت لجنة
القانون الدولي بإعداد مشروع إنشاء محكمة جنائية دولية ،ثم شكلت الجمعية العامة سنة 1995
لجنة بمتابعة هذا المشروع ،إلى أن تم إصدار القرار 51/207لعام 1996والذي بموجبه انكبت
اللجنة على التحضير لمؤتمر دبلوماسي لهذا الغرض• وهذا ما تم بالفعل ،إذ عقد المؤتمر من أجل
تشكيل محكمة جنائية بين 15يونيو و 17يوليوز 1998في مقر FAOمنظمة الغذية والزراعة
التابعة للمم المتحدة في العاصمة اليطالية روما ،شاركت في أعمال المؤتمر وفود تمثل 190
دولة و 31منظمة دولية و 132منظمة غير حكومية بصفة أعضاء مراقبين• يتكون النظام
الداخلي المحكمة الجنائية من 13فصل و 128مادة ،وصوتت لصالح إنشاء المحكمة 120دولة
وامتنعت 21دولة عن التصويت ،في حين عارضته سبع دول وهي الوليات المتحدة المريكية،
إسرائيل ،الهند ،الصين ،ليبيا وقطر• وقد دخلت المحكمة حيز التنفيذ منذ 1يوليوز 2002بعد
اكتمال عدد التصديقات وهو 60تصديقا ،وإلى يومنا هذا صادقت على التفاقية 97دولة• ب•
أجهزة المحكمة :تتكون أجهزة المحكمة من- :رئاسة المحكمة التي تتكون من الرئيس والنائب
الول والنائب الثاني للرئيس• -دائرة الستئناف ،ودائرة المحاكمة ،ودائرة المحاكمة المسبقة•
-مكتب المدعي العام ،ويختص بتلقي البلغات والمعلومات الخاصة بالجرائم التي تدخل في
اختصاص المحكمة وفحصها وإجراء التحقيق بشأنها ،وتأييد التهام أمام المحكمة• وتجدر الشارة
إلى أن عدد قضاة المحكمة هو ثمانية عشر قاضيا ،يتم اختيارهم من أفضل العناصر التي تتوافر
فيهم المؤهلت المطلوبة لشغل هذه الوظيفة الهامة ،وبشرط أل تضم المحكمة أكثر من قاض
ينتمون إلى نفس الدولة ،ويمارس قضاة المحكمة وظائفهم باستقلل تام ،ويتمتع قضاة المحكمة
والمدعي العام والمدعون المساعدون ومسجل المحكمة في ممارساتهم لوظائفهم ،بالمزايا
والحصانات الممنوحة لرؤساء البعثات الدبلوماسية• ثانيا :اختصاص المحكمة الجنائية الدولية
2
المحكمة الجنائية الدولية هي مؤسسة قائمة على معاهدة ملزمة فقط للدول العضاء فيها ،فهي
ليست كيانا فوق الدول ،وليست بديل عن القضاء الجنائي الوطني وإنما هي مكمل له ،غرضها هو
التحقيق ومحاكمة الشخاص الذين يرتكبون أشد الجرائم خطورة بحيث تكون موضع الهتمام
الدولي• أ• الختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية يشمل اختصاص المحكمة الجنائية
الدولية في الوقت الراهن من حيث الموضوع وفقا لنص المادة الخامسة ثلث جرائم دولية محددة
بشكل دقيق ،وهي جريمة البادة الجماعية ،جرائم الحرب ،والجرائم ضد النسانية ،وهذه الجرائم
معرفة في المواد 7 - 6و 8وهي متوافقة مع القانون الجنائي الدولي القائم وكذا مع مفهوم
قانون الشعوب الملزم لجميع الدول• ويدرج النظام الساسي جريمة العدوان والتي أجل النظر في
إدماجها إلى حين صياغة تعريفها• ومن ثم فهي تخضع لختصاص المحكمة الجنائية الدولية،
وعلوة عل ذلك فإن للمحكمة أيضا اختصاصا بالجرائم التي ترتكب ضد إقامة العدالة ،ولها أن
تقضي بعقوبات في هذا الخصوص كما في المادتين 70و 71أما فيما يخص مبدأ التكامل بين
المحكمة الجنائية الدولية والنظم القانونية الوطنية ،فإن اختصاص المحكمة يمتد ليشمل الدول
العضـاء ويتم ممارسة اختصاص المحكمة بالتكامل ،مع اختصاص نظم القضاء الوطني للدول
العضاء )المادتين 1و • (17فالختصاص الجنائي الوطني دائما يكون له الولوية على اختصاص
المحكمة الجنائية الدولية ،ولكن المحكمة تستطيع ممارسة اختصاصها في حالتين فقط )المادة
،(17وهما الولى :عند انهيار النظام القضائي الوطني ،والثانية عند رفض أو فشل النظام الوطني
القيام بالتزاماته القانونية بالتحقيق ومحاكمة الشخاص المشتبه في ارتكابهم الجرائم الثلث
الموجودة حاليا في اختصاص المحكمة أو بمعاقبة أولئك الذين أدينوا• وفي حالة انحسار
اختصاص القضاء الوطني وفقا للمادة 17أو المادة 20ف ،3وانعقاد الختصاص للمحكمة الجنائية
الدولية ،صار اختصاصها التكميلي إلزاميا ،وأصبحت الدولة التي انحسر اختصاصها القضائي على
الدعوى ملزمة بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية وفقا لما جاء بأحكام الباب التاسع من النظام
الساسي ،ل سيما وأن الدول العضاء ملزمة بالتعاون تعاونا تاما مع المحكمة فيما تجريه في إطار
اختصاص المحكمة من تحقيقات في الجرائم والمقاضاة عليها )المادة 86من النظام الساسي( ،
وهو ذلك اللتزام الذي تتعهد فـيه كافة الدول الطراف حتى إن لم تكن قد انحسر اختصاصها
الولى على الدعوى • ب• قواعد الختصاص الزماني والمكاني للمحكمة الجنائية الدولية 1- :من
حيث الزمان :إن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مستقبلي فقط )المادتان 11و ،(24ولذلك ل
يسري اختصاصها على الجرائم التي ارتكبت قبل سريان المعاهدة ،وفيما يتعلق بالدول التي تنضم
إلى المعاهدة ،فإن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ينطبق فقط على الجرائم التي ترتكب بعد
3
انضمام الدولة ،وهذا ما يعرف بمبدأ شرعية الجريمة والعقوبة في القانون الجنائي الدولي ،وقد
نصت المادة 24ف 1من نظام المحكمة الساسية على أنه ل يسأل الشخص جنائيا بموجب هذا
النظام الساسي عن سلوك سابق لبدء نفاذ النظام• ومؤدى هذا النص ،أنه ل يسأل أي شخص جنائيا
عن أي سلوك اقترف قبل بدء العمل بنظام المحكمة المذكورة ،حتى في حالة ما إذا كان هذا
السلوك يشكل جريمة حسب النظام الساسي المحكمة الجنائية• وهذا ما سيؤدي إلى إفلت العديد
من مرتكبي النتهاكات من العقاب على الجرائم التي ارتكبت قبل دخول قانون للمحكـمة حيز
التنفيذ• كما ينص النظام الساسي على أنه يجوز للدولة عندما تصبح طرفا ،أن تختار تأجيل
تطبيق اختصاص للمحكـمة الجنائية الدولية فيما يتعلق بجرائم الحرب )المادة (8لمدة 7سنوات
)المادة 2 •(124من حيث الشخاص :يطبق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية فقط على الفراد
)المادتان 1و (25والذين يرتكبون جريمة بعد بلوغ سن 18سنة )المادة ،(26وليس للمحكمة
اختصاص على الدول أو الهيئات العتبارية ،وعلوة على ذلك ل يستثنى شخص من المسؤولية
الجنائية بسبب صفته الرسمية مثلما قد يكون واردا في القانون الداخلي )المادة •(27ونخلص إلى
أن المحكمة الجنائية الدولية ل تهدف إلى الحلول محل المحاكم الوطنية ولكن يتم اللجوء إلى
اختصاصها فقط عندما قد يؤدي عدم القيام بذلك إلى الفلت من العقاب ،ويعتبر اختصاص
المحكمة الجنائية الدولية مكمل لعمل المحاكم الوطنية ويعني ذلك أنها ل تتصرف إل عندما
تكون البلدان غير قادرة أو ل ترغب في التحقيق أو متابعة بعض الحالت على المستوى الوطني
وبالتالي يتم ذلك داخل الدول التي ل تتوفر على نظام قانوني فعال ،أو قد ل تكون راغبة في
المتابعة عندما يتضح أن المساطر تشكل غطاء لحماية شخص ما ،وهذا المعيار عالي المستوى إذ
يعكس تصور المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها محكمة درجة أخيرة تستهدف فقط استخدام
اختصاصها لمنع الفلت من العقاب•
4