Professional Documents
Culture Documents
السلمية
1
وضع القليات في الدولة السلمية
محمد
بن شاكر الشريف
باحث
شرعي بمجلة البيان
تقديم:
منذ عقدين من الزمن -من القرن المنصرم -أو أزيد قليل بدأ
الحديث يكثر عن أوضاع القليات وأخذ يتبلور حتى صار لفظ
القليات مصطلحا له تعريفه الخاص به وكذلك الغايات التي
يسعى واضعوا هذا المصطلح لتحقيقها وترويجها في العالم
من وراء ذلك ،وقد استغلت حكومات الدول القوية في
العصر الحاضر)أمريكا والدول الغربية( الراغبة في إعادة
السيطرة على العالم مرة أخرى ورقة القليات وما تثيرها
من مشاكل في بعض البلدان بحجة الحفاظ على حقوق
القليات انطلقا من مفهوم حقوق النسان ذريعة للضغط
على حكومات الدول المعنية والتدخل في شئونها الداخلية
لتحقيق المصالح الستراتيجية الكبرى لتلك الدول الطامعة،
وفي هذه الورقة نحاول أن نقوم بمقاربة لمفهوم " القليات"
وما يتعلق أو يرتبط به من تصورات أو أحكام في الدولة
بوصفه شريحة من شرائح المجتمع من منظور إسلمي.
تعريف القليات:
البشرية من لدن آدم عليه السلم إلى يومنا هذا تنوعت
وتعددت في العراق والجناس واللوان واللغات وفي العقائد
والتصورات وكذلك في العمال والسلوك ،وتبعا لذلك توزع
الناس على هذه التصنيفات واختلف تعدادهم زمانيا ومكانيا،
فعرق يكثر تعداده في مكان بينما يقل في مكان آخر في
الفترة الزمنية نفسها ،وعرق آخر قد يكثر في زمان بينما
يقل في زمان آخر في البقعة الجغرافية نفسها ،وقل مثل
ذلك بالنسبة للعقائد والتصورات والجناس واللغات ،فأصبحنا
نجد على المتداد التاريخي والجغرافي كتل بشرية قد
تمحورت حول عدة قواسم مشتركة فيما بينها وتتميز بها في
الوقت نفسه عن مجموعات أخر ،وقد جرى الصطلح
المعاصر أن يطلق على أحدى تلك الكتل لفظ " القلية"
انطلقا من عدة محددات 0
2
محددات مفهوم القلية:
ترجع لفظة أقلية لغة إلى مادة قلل وبالرجوع لهذه المادة
في المعاجم نجد أنها تنتظم ثلثة معان :فمنها معنى الِقْلة
التي هي ضد الكثرة قال الله تعالى ":واذكروا إذ كنتم قليل
فكثركم" قال في اللسان ":الِقْلة خلف الكثرة" ،1ومنها
ذهاب البركة قال أبو عبيد في تفسير قول ابن مسعود "الربا
2
وأن كثر فهو إلى ُقل" قال :هو وإن كثر فليست له بركة"
ذلة يعني ذل وال ّقلة كال ّ وكذلك قال الزمخشري " :الُقل وال ِ
أنه ممحوق البركة" 3وقال في اللسان ":وفـي حديث ابن
ل؛ معناه ِإلـى قِّلة َأي َأنه مسعود :الّربا ،وِإن ك َُثر ،فهو ِإلـى قُ َ
ؤول ِإلـى النقص، وِإن كان زيادة فـي الـمال عاجل ً فإنه ي َ ُ
دقات" ،ومنها الضعة
4
ص َ حق الله الّربا وي ُْربـي ال ّ
كقوله :يمـ َ
والدونية :قال في اللسان ":الُقل من الرجال :الخسيس
الدين" 5ومن الشياء اللطيفة أن التجاهات المعاصرة في
بيان مفهوم القلية وتعريفها تكاد تعود إلى هذه المعاني
اللغوية ،فمفهوم القلية له فيها ثلثة اتجاهات :اتجاه ينظر
إلى العدد وبناء عليه ينظر إلى القلية على أنها القل عددا
بالنسبة للجماعة الخرى الكثر عددا وانطلقا من ذلك تعرف
القلية أنها ":مجموعة من السكان لهم عادة جنسية الدولة
غير أنهم يعيشون بذاتيتهم ويختلفون عن غالبية المواطنين
في الجنس أو اللغة أو العقيدة أو الثقافة أو التاريخ أو
العادات أو كل ذلك« ،وأيضا القلية في هذا التجاه هي» :أي
طائفة من البشر المنتمين إلى جنسية دولة بعينها متى تميز
عن أغلبية المواطنين المكونين لعنصر السكان في الدولة
المعنية من حيث العنصر أو الدين أو اللغة«،6ومن الممكن أن
تكون هذه الجماعة صاحبة النفوذ والتأثير في المجتمع و
اتجاه ينظر إلى القوة والسيطرة والتأثير وبناء عليه ينظر إلى
القلية على أنها الجماعة الضعف التي ل سيطرة لها في
المجتمع بالنسبة لبقية الجماعة القوى التي يتكون منها
1لسان العرب 11/563
2الغريب لبن سلم 4/92
3الفائق 3/222
4اللسان 11/563
5اللسان 11/564
6الملف السياسي مؤسسة البيان للصحافة والطباعة والنشر عدد الجمعة 10
ذوالقعدة 1424هـ 2 -يناير -2004العدد 659
3
المجتمع وانطلقا من ذلك تعرف القلية أنها " مجموعة من
الشخاص في الدولة ليست لها السيطرة أو الهيمنة ،تتمتع
بجنسية الدولة إل أنها تختلف من حيث الجنس أو الديانة أو
اللغة عن باقي الشعب ،وتصبو إلى حماية ثقافتها وتقاليدها
ولغتها الخاصة" 7ومن الممكن أن تكون هذه الجماعة هي
الكثر عددا في المجتمع ،واتجاه ينظر إلى المكانة والرفعة
والوجاهة وبناء عليه ينظر إلى القلية على أنها الجماعة
المستضعفة مهضومة الحقوق التي ينظر إليها نظرة دونية
وانطلقا من ذلك تعرف القلية أنها "مجموعة من مواطني
الدولة تختلف عن بقية مواطنيها من حيث الجنس أو الدين
أو اللغة أو الثقافة تقبع في ذيل السلم الجتماعي " ومن
الممكن أن تكون هذه الجماعة هي الكثر من حيث العدد،
وقد يظهر أن تكون النظرة إلى القلية من وجهة القوة
والتأثير ومن وجهة المكانة متلزمة من حيث الواقع في
أغلب الحيان والحوال للنظر إليها من ناحية العدد ،إذ غالبا
ما تكون الكثرية العددية هي القوى صاحبة المكانة
والوجاهة -إل في القليل النادر ،-وعلى ذلك فإنه يمكننا
تعريف " القلية" :أنها مجموعة من مواطني الدولة -أية
دولة -تشكل أقلية عددية بالنسبة لتعداد بقية المواطنين
تتميز عنهم إما عرقيا أو قوميا أو دينيا أو ثقافيا أو لغويا أو
كل ذلك ،وهي في الغالب العم تعاني من ضعف أو نقص
في القوة أو المكانة تؤثر على وضعها السياسي والجتماعي
في المجتمع" ومن البين أن هذا المعنى الصطلحي للقليات
ل وجود له إل في ظل الوحدة السياسية التي يطلق عليها
لفظ " دولة " والتي تفرض سلطانها على جميع القاطنين
لقليم هذه الدولة ،وأما خارج إطار الدولة القومية فل معنى
للحديث عن القليات ؛ فإن كل مجموعة عرقية أو لغوية أو
دينية تكون وحدة مستقلة .
مطالب القليات:
القليات مع شعورها بالتمايز العرقي أو الديني أو الثقافي
عن بقية المجتمع ترى أن لها مطالب تجاه الكثرية ،وهذه
المطالب ترتبط ارتباطا وثيقا بوضع القلية في هذه البلدة أو
تلك ،وهي ليست بالضرورة مطالب واحدة بالنسبة لجميع
المرجع السابق 7
4
القليات في الدول المختلفة ،وإن كان يغلب عليها التقارب
انطلقا من تقارب الوضاع في الدول المختلفة ،كما أن هذه
المطالب هي مطالب القلية على وجه العموم وليست
مطالب أقلية محددة ) إذ إن بعضها يتعارض مع بعض بحسب
وضع القلية في مجتمعها ( فمن أهم تلك المطالب:
المحافظة على الهوية 0 .1
المساواة في الحقوق السياسية 0 .2
الستقلل التام 0 .3
.4الحكم الذاتي 0
.5إلغاء قوانين التفرقة والتمييز 0
.6الندماج التام في الكثرية 0
مشاكل القليات:
يترتب على وجود القليات بما تعنيه من التباين والتمايز عن
الغلبية-إذا لم يتم التعامل معها على أساس العدل -مشاكل
كثيرة من أهمها :تفتيت وحدة المجتمع ،ونشوء المصادمات
بين القلية والكثرية ،ومحاولة القلية النفصال أو الستقلل،
والتعاون مع أعداء الغلبية)المة(فالقليات عرضة للختراق
من قبل العداء.
وقد حاولت بعض النظمة المستبدة التغلب على مشاكل
القليات عن طريق محاولة إلغاء القليات والقضاء عليها
وليس عن طريق التعاون والتفاهم معها واللتقاء على كلمة
سواء ،فقامت بأمور كثيرة منها ،:إنكار وجود القليات،
والتهميش ،والتمييز ،وعدم العتراف بلغاتهم وثقافاتهم،
والتشتيت والتهجير ،والتصفيات والقمع ،والطرد والنفي،
والمحاكمات والسجون ،والحرمان من الوظائف الحكومية
المهمة ،والبعاد عن القوات المسلحة والشرطة ،غير أن
هناك أنظمة ترفع شعارات حقوق النسان والعتراف بالخر
حاولت استيعاب القليات والستفادة منها ودمجها في
المجتمع أو إقامة العلقات معها على أساس من التوازي
والمقابلة لوضع القلية ومكانتها ،وذلك عن طريق اللجوء إلى
خيار العلمانية الذي يقوم بتحييد دور الدين بحيث ل يتدخل
في شئون المجتمع ،وكذلك اللجوء إلى خيار الديمقراطية
الذي يقوم بتحييد دور اللغة والعرق والثقافة ،وأصبحت
المواطنة في هذه الدول هي العلقة الساسية التي تربط
بين جميع مواطني الدولة المعينة بصرف النظر عن
5
النتماءات الدينية والعرقية والثقافية وغيرها ،لكن هذا الحل
رغم نجاعته في كثير من البلد التي توصف بأنها متقدمة إل
أن عليه ثلث مؤاخذات :الولى :إضاعة الدين وإزاحته عن
التدخل أو التأثير في الحياة ،وهذا يعني بالنسبة للمسلم أن
يهجر الشريعة على مستوى اللتزام والتصرفات والحتكام
مما يكون له خطورته على تدين المسلم نفسه حيث قد
يخرجه ذلك خارج حظيرة الدين.
الثانية:أن الحزاب السياسية المنبثقة عن الحل الديمقراطي
قد تكون وسيلة لتأكيد النقسامات العرقية واللغوية ،حيث
يصبح التصويت وسيلة لتأكيد الهوية والتمسك بها بديل عن
الندماج في المواطنة ،كما قد تكون الديمقراطية هي
الوسيلة القانونية المشروعة في إجحاف الغلبية بحقوق
القلية ،إذ أن المبدأ الديمقراطي يبين أن الذي يحصل على
الغلبية هو الذي يمثل سيادة الشعب ،وانطلقا من هذه
السيادة فإن له أن يسن ما شاء من القوانين ،ففي ظل
أقلية ل يتجاوز تعدادها مثل %5أو نحوا من ذلك تكون
الديمقراطية وسيلة لفرض ديكتاتورية الغلبية على القلية
الثالثة :أن هذا الحل وإن كان موجودا من الناحية النظامية
أو القانونية فإنه حل ظاهري في كثير من وجوهه أو بعضها ،
ويمكننا أن ندرك ذلك بمتابعة حالة القليات المسلمة في
البلد الغربية ،فرغم أن بعض هذه القليات تعد من مواطني
تلك الدول وتتمتع ظاهريا بالحقوق التي يتمتع بها المواطن،
إل أنه ل زالت هناك تفرقة ولو على مستوى العلقات
الجتماعية ،أو نفسيات الشعوب ،إذ لم تستطع تلك القوانين
النظرية أن تغير كثيرا من نظرة المجتمع الغربي تجاه
المسلم ولو كان مواطنا ،فحتى الن لم نجد مسلما من
مواطني هذه الدول يحتل مكانا مرموقا أو منصبا مهما من
مناصب الدولة العليا ،مما يدل على وجود التمييز الديني في
تلك البلد المتقدمة خاصة في مقابل السلم ،هذا ملخص
سريع لوضع القليات في المجتمع الدولي في عصرنا الحاضر
،فكيف تعاملت شريعة السلم مع موضوع القليات؟هذا ما
سنعرض له في هذا البحث إن شاء الله ،ويتوقع أن يغطي
البحث النقاط التالية:
-1قواعد أو أصول عامة في الموضوع.
-2أنواع القليات.
6
-3القليات بين التمايز والندماج.
القليات والمشاركة السياسية -4
القليات وتولي الوزارة: -5
تحيز القلية وتجمعهم في مكان: -6
القليات والجهاد في سبيل الله: -7
القليات والدارة: -8
القليات وحرية التعبير عن الخصوصيات: -9
-10القليات بين التمييز والتهميش:
ولما كان الكتاب والسنة هما أصل الصول اللذان يعتمد
عليهما في تقرير الحكام ،فإن البحث يجري على هذه
القاعدة مع الستعانة والسترشاد بفهم سلف هذه المة
وخاصة زمن الخلفة الراشدة وصدر السلم ،مع الجتهاد
في التمييز بين ما كان من أقوال أهل العلم معبرا عن
التشريع العام الذي تطالب به المة في كل وقت ومكان،
وما كان من قبيل السياسات الجزئية التي تمثل حلول وقتية
مرتبطة بواقعها في إطار النصوص الشرعية ،والتفريق بين
المرين مهم جدا ،إذ التشريع العام هو شرع الله ودينه ل
يملك أحد تغييره أو تبديله ،بينما السياسات الجزئية تمثل
الجتهاد الذي يحاول أن يطبق النص على الواقع محققا
لمرين:الول :اللتزام بالنص وعدم الخروج عليه ،والثاني:
مراعاة خصوصية ذلك الواقع بما ل يتعارض مع النصوص،
ومن البين أنه في هذه الحالة إذا اختلف الواقع بفعل عوامل
التغيير فإن التطبيق أيضا يختلف ،لكن الواقع الذي يعول
عليه في تغيير التطبيق هو الواقع الناتج عن تطور الحياة في
أشكالها ووسائلها وليس الختلف الناتج عن المعصية
والمخالفة لشرع الله ،وهذا أوان الشروع في المقصود ،
نسأل الله بعونه ومنه وكرمه التوفيق والسداد وأن يعين
على التمام.
7
الناظرين بحيث ل يرى رابطا يربط بعضها ببعض فمن تلك
القواعد ما يلي:
-1السلم دين الحق الذي يجب على الكافة اليمان به
والدخول فيه واتباعه وهو الرسالة الوحيدة التي بقيت
على صفائها ونقائها لم تشبها شائبة فلم يدخلها تحريف
أو تزييف ،ولذا فإن الحكام التي اشتملت عليها أصول
السلم ) الكتاب والسنة ( هي أحكام صحيحة شرعها
الله تعالى وهو يحبها ويحب العمل بها ويثيب على ذلك،
ويبغض مخالفتها أو تركها كما يبغض مخالفيها أو تاركيها
ويعاقب على ذلك.
-2كل كتب الرسالت السابقة على السلم دخلها
التحريف والتبديل والتزييف فاختلط فيها الحق بالباطل
ولم تعد أصول تلك الرسالت ) التوراة والنجيل (
الموجودة الن في أيدي اليهود والنصارى تمثل كلمة
الله أو وحيه الصافي الذي لم يدخله تغيير أو تبديل ،لذا
فل يحل اتباع تلك الرسالت لمن بلغته دعوة السلم.
-3السلم ليس جنسية أو قومية ولكنه عقيدة وعمل
كل من آمن وعمل به فهو مسلم من أي جنس أو قوم
كان ،فالسلم ليس حكرا على قوم معينين ،أو أنه
مرتبط بجنسية معينة ،أو مكان ما ،أو لغة أو ثقافة،
وبالتالي فإن كل إنسان يمكنه أن يكون مسلما بالدخول
فيه وشهادة شهادة الحق من غير توقف ذلك على
موافقة أحد أو اعترافه بذلك أو تسجيله في وثيقة
رسمية ،ومن غير أن يؤثر ذلك على جنسيته أو لغته أو
إقليمه الذي ينتمي إليه .
-4هداية البشرية وإرشادها إلى منهاج السلم ودعوتها
إليه وبذل المجهود في ذلك وتحمل المشاق وتجاوز
العقبات واتخاذ الوسائل المحققة لذلك ،مهمة انيطت
بأمة المسلمين ويجب عليهم الوفاء بذلك.
-5المسلمون أمة واحدة من دون الناس ل تفرقهم
اللوان أو اللغات أو القوام أو البلدان
-6ل إكراه في الدين ،فل يجبر كافر أصلي على أن يغير
دينه ويدخل في السلم ،ول يضيق عليه من أجل ذلك .
-7العدل قيمة عظيمة من القيم التي حرصت عليها
الشريعة وأكدتها سواء مع الموافق أو المخالف ،ومع
8
القريب والبعيد ومع الصديق والعدو ،وقد ربط الشرع
بين العدل والتقوى فل يمكن أن يحقق المسلم التقوى
إذا كان بعيدا عن العدل قال الله تعالى ":ول يجرمنكم
شنئان قوم على أل تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"
فمع وجود الشنئان وهو الكره والبغض فإن المسلم
مأمور بالعدل.
-8لم يكتف السلم بإيجاب العدل وإنما حض على
الحسان الذي هو التنفل والزيادة على الواجب فقال
تعالى ":إن الله يأمر بالعدل والحسان" .
-9الوفاء بالعهود والعقود التي تعقد حتى وإن كان ذلك
مع العداء فقد قال الله تعالى ":أوفوا بالعقود" وقال":
إن الله ل يحب الخائنين" .
-10النهي عن الظلم والبغي قال تعالى في الحديث
القدسي ":يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي
وجعلته بينكم محرما فل تظالموا" 8فالظلم محرم ولو
كان للعداء.
هذه بعض القواعد التي سوف نصطحبها معنا في هذا البحث
لكي تقود المسيرة وتعصمها بإذن الله من الوقوع في الزلل.
11
يكون مدعاة للتنافر ،بينما اللفاظ المستخدمة في الشرع
تحمل دللت ذات قيم أخلقية تساهم في احترام تلك العقود
والوفاء بها ،كما قال أهل العلم) :الذمة :المان في قوله "
َ
ه أجاره( 13وفي اللسان: ويسعى بذمتهم أدناهم " و أذ َ ّ
م ُ
َ مة و ال ّ
ن
ن والضما ِذمام ،وهما بمعنى العَْهد والما ِ ) الذ ّ ّ
َ
مةِ لدخولهم فـي عهد ي أهل الذ ّ ّ
مة ِ ذ ِ ّ م َ
س ّ
مةِ والـحق ،و ُحْر َوالـ ُ
الـمسلـمين وَأمانهم( 14والمستأمن هو الذي أعطي له المان
)الذي هو ضد الخوف( على نفسه وماله وعرضه ودينه ،وهو
قريب من معنى "الذمة " والفرق بينهما في الصطلح من
وجهين :أن عقد الذمة ل يعقده إل المام أو نائبه بينما عقد
المان يجوز أن يقع عقده من آحاد المسلمين ،وأن عقد
الذمة مؤبد بينما عقد المان مؤقت.
ول يجوز أن يعد المرتدون من القليات التي يسمح بوجودها
في الدولة السلمية ،لن المرتد-سواء ولد على السلم أو
كان كافرا فأسلم -إذا لم يرجع ويتوب إلى الله مما وقع فيه
فل يجوز إقراره بجزية أو عهد أو أمان أو غير ذلك وليس
أمامه إل التوبة أو القتل.
عقد الذمة:
هو عقد بين الكفار الصليين الذين يجوز إقرارهم في بلد
المسلمين وبين الدولة السلمية يلتزم بمقتضاه أهل الذمة
بأداء الجزية ) وهي مقدار مالي أو ما يقابله يؤدى لدولة
السلم ( كما يلتزمون بإجراء أحكام السلم عليهم في غير
عقائدهم وعباداتهم الخاصة بهم ول يمتنعون من ذلك ،ويكون
لهم في مقابل ذلك المان والحماية .
وقد بلغ من عناية المسلمين بالوفاء للقليات الدينية في
بلدهم بما عاقدوهم عليه أن الرسول حرض المسلمين
على معاملتهم المعاملة الحسنة فقال " :من قتل نفسا
معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة
أربعين عاما" وقد بوب عليه البخاري في صحيحه بقوله :باب
إثم من قتل ذميا بغير جرم ،15قال ابن حجر في شرحه":
والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو
13مختار الصحاح ،1/94قاله أبو عبيد
14لسان العرب 12/221
15أخرجه البخاري كتاب الديات رقم 6403
12
هدنة من سلطان أو أمان من مسلم" 16وقال ": أل من
قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة
الله فل يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين
خريفا " 17وهذا عمر رضي الله تعالى عنه وهو على فراش
الموت يقول ":أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الولين
خيرا أن يعرف لهم حقهم وأن يحفظ لهم حرمتهم وأوصيه
بالنصار خيرا والذين تبوؤوا الدار واليمان أن يقبل من
محسنهم ويعفى عن مسيئهم ،وأوصيه بذمة الله وذمة
رسوله أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن
ل يكلفوا فوق طاقتهم"18فهو في هذا الموقف الشديد لم
يفته أن يوصي الخليفة من بعده بأهل الذمة ويجعل الوصية
بهم بجوار وصيته بالسابقين من المهاجرين والنصار ،وينص
في وصيته على الوفاء بعهدهم وحمايتهم والذب عنهم ،
والرفق بهم.
17
القليات بين الندماج والتمايز:
هناك عوامل سواء من جانب القلية أو من جانب الكثرية
تدعو وتساعد على اندماج القلية في الكثرية ،كما أن هناك
عوامل تدعو أيضا وتساعد على الختلف والتمايز ،فعوامل
الندماج من جانب القلية كثيرة من أهمها شعورها أن
اختلفها وتمايزها عن الكثرية ليس عامل حاسما في حصولها
على حقوقها أو مساواتها بالكثرية ،فهي من ثم ل تحرص
على البقاء أو الحرص على التمايز،وخاصة في النظمة
العادلة التي تتعامل مع طبقات وشرائح المجتمع بالعدل
والقسط ،وأما العوامل التي تساعد على الندماج من جانب
الكثرية فعلمها بأن موقفها من القلية ليس من باب الفضل
والحسان ،وإنما هو حق كفلته لهم التشريعات ،إضافة إلى
رحابة صدر الكثرية وحرصها على التآلف ،وهذا يفسر حالة
المجتمع السلمي الول في صدر السلم حيث لم تظهر
مشاكل القليات رغم وجودها ،بل ذابت كثير من القليات
واندمجت في الكثرية ) العرب( ،وتغلبت عوامل التوحد
والتفاق بل والندماج على عوامل النعزال والبتعاد ،وذلك
أن السلم يوحد بين المسلمين ويساوي بينهم ،ول يعتد بتلك
الفروقات القائمة على أساس المميزات الجسمية أو اللغوية
أو الفيزيائية أو العرقية ،ويتعامل مع المسلمين جميعا على
أنهم إخوة ،وقد ترتب على ذلك أن تحولت كثير من البلد
التي لم تكن يوما ما بلدا عربية إلى العربية فجميع البلد
العربية الموجودة اليوم باستثاء جزيرة العرب لم تكن عربية
قبل ذلك كمصر والسودان والشام والعراق وبلد المغرب
وإنما تعربت بعد الفتح السلمي لها ،ومن الممكن أن ننظر
إلى مثال مبكر جدا في ذلك وهي قضية المؤاخاة بين النصار
أصحاب البلد الصليين يثرب ) المدينة( وبين المهاجرين
القلية القادمة من بلدها مهاجرة إلى الله ورسوله قد تركت
ديارها وأموالها فجاءت فقيرة ليس معها شيء ،فكان
النصاري يشاطر أخاه المهاجري ماله وعقاره حتى أن
أحدهم ليطلق إحدى زوجتيه حتى يتزوجها أخوه المهاجري
وهو أعظم ما يكون الندماج والمتزاج ،وقد حدث ذلك
بمحض اليمان والرغبة وليس بالقهر أو الرهبة ،وهذا المتزاج
والندماج لم يكن يعني زوال الخصوصيات والتمايزات
المحمودة ،فقد ظل النصاري أنصاريا كما ظل المهاجري
18
مهاجريا ولم يسع الرسول ول خلفاؤه من بعده في
القضاء على هذه التسميات لنها لم تكن قائمة على
العصبية ،وكذلك القبائل لم يشرع القضاء عليها أو إلغاؤها بل
قال الله تعالى ":يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"
فحافظ عليها وأظهر المتنان بوجودها ،لكنه هذب مما يمكن
أن يوجد معها مما يضر فنهى عن العصبية وعن التناصر
القائم على آصرة الدم ،ولذلك عندما حدثت مشادة بين رجل
مهاجري كان يمزح مع رجل من النصار وقال النصاري :يا
للنصار يستنصر برهطه ،وقال المهاجري :يا للمهاجرين
يستنصر برهطه ،قال لهم الرسول ": ما بال دعوى أهل
الجاهلية-ثم لما استفسرهم عن سبب ذلك التنادي-قال:
دعوها فإنها خبيثة" 28وفي رواية " فإنها منتنة" وهذا بعكس
ما إذا لم تشعر القلية بالمان على نفسها والحصول على
حقوقها فإنها تخشى من الذوبان في الكثرية إذا تخلت عن
خصوصياتها ،لذلك فهي تجتهد في المحافظة على تميزها ،
فإذا تمت عملية الندماج بناء على القتناع وتوفر شروط
ذلك كان هذا من أكبر السباب في تآلف المجتمع وتماسكه ،
أما إذا حدثت عملية الدمج من غير توفر شروطها ،أو حدثت
بالقهر والعنف أوشك أن يعود التمايز أشد مما كان بمجرد
زوال المؤثر الضاغط ،ومشاكل القليات اللغوية أو العرقية
وغيرها في الدولة السلمية لم تبرز إلى الوجود بهذا الشكل
إل مع تفتت الدولة وتمزقها وضياع معاني الخلفة الحقيقية-
وإن ظلت أزمانا باقية من الناحية الشكلية-وقد زاد ذلك
بصورة قوية مع قيام الدول العلمانية على أنقاض دولة
الخلفة ،واستعمار تلك الدول من قبل الدول الغربية التي
بدأت في النفخ في أتون هذه المشكلة وتضخيمها ،إن الظلم
أو التهميش الذي يمكن أن يقال إنه وقع على القليات فيما
مضى من الزمان لم يكن إل ظلما وتهميشا للمجتمع كله
القلية والكثرية لصالح النظمة الحاكمة المستبدة ،فالظلم
الواقع على هذه الفئة هو نفسه الواقع على تلك ،وذلك نتيجة
البعد أو التغافل عن الشريعة ،وإن مما يذهب بهذه المشكلة
وينقضها من أساسها :التمسك بشريعة السلم والعمل بها،
ونشر أحكامها بين الناس وتطبيقها على الجميع وفق
أخرجه البخاري كتاب المناقب رقم 3257ومسلم كتاب البر والصلة رقم 4682 28
19
تشريعها الذي ل يفرق بين المسلمين ،وإن الحلول القائمة
على إفساد الدين بالدعوة إلى العلمانية أو استيراد النموذج
الديموقراطي لحل تلك المشكلة هي أفكار ضالة شاردة تزيد
أوار المشكلة ول تقوم بحلها ،فهي كمن يحاول إطفاء
الحريق بسكب النفط عليه ،وإذا كان لنا أن نقدم بعض ما
يمكن فعله في هذا المجال فإننا نوصي بما يلي:إفساح
المجال أمام تلك القوى والمجموعات للتعبير عن نفسها
وممارسة خصوصياتها ) في حدود المسموح به شرعا ( بدل
من ضغطها ومحاولة جعلها تابعة لنموذج الكثرية في الدولة،
وعدم التضييق عليها في التكلم بلغاتها الخاصة وتعليمها
لبنائهم ) ،وأما قيام الدولة بتعليم تلك اللغات الخاصة
والنفاق عليها فهي قضية مصلحية تعتمد على إمكانات
الدولة وحاجتها لتلك اللغة والفائدة العامة الراجعة من
تعليمها( ،وفتح باب الوظائف في جميع المجالت بحيث تكون
الكفاءة والقدرة على تحقيق الهداف مع الصلح هي المعيار،
والبتعاد عن استخدام وسائل الدمج القسري والقهر لن ذلك
سرعان ما يزول بزوال القوة المؤثرة ،وعدم التدخل في
إعادة توزيع النتشار الجغرافي للتأثير على تجمعاتهم سواء
بالتشتيت والتفريق على مساحة واسعة ،أو بالحصر
والتضييق في مكان واحد ،وإذا كانت تلك القلية موجودة
على بقعة جغرافية واحدة بمعنى أنها ليست منتشرة في
أرجاء الدولة فإن الولى أن يعهد في إدارتها من حيث التعليم
والقضاء والمامة والشرطة ونحو ذلك إلى الفراد المؤهلين
الصالحين من هذه القلية ،وإذا احتاجت إلى المعونة
والمساعدة إما لعدم الكفاية أو عدم الخبرة أو عدم
المؤهلت التي يحتاج إليها فل مانع أن يقوم بذلك أناس
يصلحون لذلك من غير هذه القلية إذ "المؤمنون أخوة " ول
يصلح أن تكون السياسة العامة المتبعة في مثل ذلك أن تدار
هذه القليات بأفراد من خارجها حتى وإن وجد فيها
المؤهلون الصالحون للدارة ،فإن هذا مما يخالف السياسة
الشرعية.
20
وإذ تبين بما تقدم أن القليات اللغوية والعرقية ونحوها
)المسلمة التي لم تتميز باعتقاد فاسد ( ل يخرج أصحابها عن
الدخول في الحكام العامة التي تعم جماعة المسلمين ،فإننا
نقصر الحديث هنا على القليات الدينية والعقدية:
-1المشاركة السياسية:
الدولة السلمية دولة ذات عقيدة ولها رسالة ،ورسالتها
ليست قاصرة على توفير الرفاهية ورغد العيش في الحياة
الدنيا لفرادها ،وإنما هي مكلفة بالعمل وفق هذه العقيدة
وتبليغ تلك الرسالة إلى كل من يمكن أن تصل إليهم ،وهذا
يتطلب جهدا كبيرا وبذل عظيما مع ما تحتاج إليه الدولة من
الجهاد في سبيل الله لبلوغ هذه الغاية ،وهذا يعني أنه ل يقوم
بهذه المهمة ول يقدر على ذلك إل من هو مؤمن بهذه
الرسالة معتقد لها ،مستعد للبذل والعطاء في سبيلها ،يرى
في نشرها وتبليغها الفلح في الدنيا والفوز في الخرة ،لذا
كان من المور المنطقية أل يقوم على هذه الدولة إل
المؤمنون برسالتها ،ومن هنا يتبين أن ولي المر ل يجوز أن
يكون ممن ل يؤمنون بهذه الرسالة ،أو ممن يفهمونها فهما
فاسدا يخرج بها عن المر الذي جاءت له ،وهذا يعني أن
القليات الدينية أو العقدية )المقبول وجودها في الدولة
السلمية( ل يسمح لها بتولي هذا المنصب ،لنها غير مؤتمنة
على هذا المر ،وتكليفها بتولي المر ،يعني أحد أمرين :إما
تكليفها بالعمل والسعي في نصرة ما يناقض أو يخالف دينها
أو عقيدتها وهذا يعد إكراها ،وإما التفريط في رسالة الدولة
وإضاعتها وكل المرين غير مقبول ،يقول محمد أسد رحمه
الله ":إننا يجب أل نتعامى عن الحقائق فنحن ل نتوقع من
شخص غير مسلم مهما كان نزيها مخلصا وفيا محبا لبلده
متفانيا في خدمة مواطنيه أن يعمل من صميم فؤاده لتحقيق
الهداف ]اليديولوجية[ للسلم وذلك بسبب عوامل نفسية
محضة ل نستطيع أن نتجاهلها ،إنني أذهب إلى حد القول أنه
ليس من النصاف أن نطلب منه ذلك ،ليس هناك في الوجود
نظام ]أيديولوجي[ سواء قام على أساس الدين أو غير ذلك
من السس الفكرية من نوٍع يمكن أن يرضى بأن يضع مقاليد
أموره في يد شخص ل يعتنق الفكرة التي يقوم عليها هذا
النظام" 29ومن هذا المنطلق أيضا فل تقبل مشاركتهم في
منهاج السلم في الحكم ص 84-83 29
21
اختيار من يقوم بهذا المر من صالح المسلمين ،لنهم قد ل
يختارون الصالح لتولي المر وإنما يختارون حسب مصالحهم
أو عقائدهم ،وقد ل يدركون تحديد الصالح لتولي المر لن
مقاييسهم في الختيار ليست قائمة على أساس الشريعة
السلمية التي هي كل شيء في الدولة السلمية ،وما جاء
في النصوص الشرعية وكلم أهل العلم دال على ما ذكرناه
قال الله تعالى ":يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي المر منكم" وقال تعالى ":وإذا جاءهم أمر
من المن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى
أولي المر منهم "..الية فدلت اليتان على أن ولي المر إنما
يكون من المؤمنين العدول ليس من الكافرين وعلى ذلك
اتفقت كلمة المسلمين ،وقد حكى الجماع على ذلك غير
واحد من العلماء ،قال القاضي عياض رحمه الله ":أجمع
العلماء على أن المامة لتنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه
الكفر انعزل" 30ونقل ابن القيم عن ابن المنذر قوله ":أجمع
كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر ل ولية له على
مسلم بحال " 31وكذلك المسلم غير العدل فل تجوز توليته
اختيارا ، 32سواء كانت عدم عدالته من قبل الفسق والظلم
أو من قبل البتداع ومفارقة الجماعة ،فالخارجي أو الرافضي
أو الجهمي أو القدري ونحوهم ل يجوز أن تعقد لهم المامة
على الختيار ،وهذا المنع ليس قاصرا على الولية الكبري
فإن الوليات جميعها يشترط لها السلم والعدالة إلى جانب
شروط أخرى ،فمن لم يتحقق بهذه الشروط فل تجوز
توليته ،وهذا ينطبق على القليات الدينية كما ينطبق على
القليات العقدية.
-2تولي الوزارة:
الوزير هو شخص يساعد ولي المر فيما تحمله من أمانة
القيادة ،ويشير عليه بما يراه من المصلحة ويشد من أزره
عند المهمات ،وقد يفوض ولي المر وزيره في تدبير أمور ما
استوزره فيه حتى يدبره على رأيه ووفق اجتهاده ،فيكون له
الستقلل في ذلك ،وقد يعهد إليه بتنفيذ ما يدبره ولي المر
شرح النووي على صحيح مسلم ج 12 :ص229 : 30
22
وفق التعليمات والوامر التي يصدرها إليه أو وفق النظمة
المعمول بها والتي ينبغي عليه اللتزام بها وعدم مجاوزتها،
ويشار للولى على أنها وزارة تفويض ويشار للثانية على أنها
وزارة تنفيذ ،ومن الممكن أن يقال إن غالبية الوزارات اليوم
إن لم يكن جميعها وزارات تنفيذ وليس وزارات تفويض إذ
المور في الوزارة إنما تسير وفق القوانين واللوائح المنظمة
لعمل الوزارة ،فجل عمل الوزير مقصور على التنفيذ ،وما
كان فيه من تدبير فهو تدبير في إطار التنفيذ ،وأيا ما كان
المر فإن السلم والعدالة مطلوبان فيمن يتولى هذه
الوزارة سواء كانت وزارة تفويض أو وزارة تنفيذ ،ووزارة
التنفيذ عند أهل العلم حكمها أضعف من حكم وزارة
التفويض وشروطها أقل ،نظرا للختلف بين طبيعة المرين،
وقد ذكر الماوردي في أوصاف وزير التنفيذ سبعة أوصاف
قال ":والسابع أن ل يكون من أهل الهواء فيخرجه الهوى
من الحق إلى الباطل ويتدلس عليه المحق من المبطل فإن
الهوى خادع اللباب وصارف له عن الصواب" 33أما شروط
وزارة التفويض فهي أشد وقد ذكرها الماوردي فقال ":ويعتبر
في تقليد هذه الوزارة شروط المامة إل النسب وحده لنه
ممضي الراء ومنفذ الجتهاد فاقتضى أن يكون على صفات
المجتهدين ،ويحتاج فيها إلى شرط زائد على شروط المامة
وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكل ًإليه" ،34وهذا مما
يبين أن القليات الدينية أو العقدية ليس لها أن تشغل هذا
المنصب العالي ،لكن الماوردي رحمه الله رغم كلمه عن
الوصف السابع لوزير التنفيذ إل أنه ذكر أنه" يجوز أن يكون
هذا الوزير من أهل الذمة" ، 35ولعل الذي دعا الماوردي
رحمه الله لذلك هو تصويره لهذا النوع من الوزارة على أنه
ليس ولية " فهو معين في تنفيذ المور وليس بوال عليها ول
متقلدا لها" 36وذلك لما تقرر عنده أن الولية ل يجوز عقدها
لغير المسلم ،لكن الماوردي مع ذلك محجوج بالنصوص
الشرعية التي تنهى عن ذلك ومحجوج بعمل الخلفاء
الراشدين وأصحاب السيرة المستقيمة من الخلفاء المويين
23
أو العباسيين،37وقد رد عليه الجويني الشافعي رحمه الله
بكلم شديد فقال":ذكر مصنف الكتاب المترجم بالحكام
السلطانية أن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذميا ،وهذه
عثرة ليس لها مقيل ،وهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن
التحصيل ،فإن الثقة ل بد من رعايتها ،وليس الذمي موثوقا
به في أفعاله وأقواله وتصاريف أحواله ،وروايته مردودة
وكذلك شهادته على المسلمين ،فكيف يقبل قوله فيما
يسنده ويعزيه إلى إمام المسلمين" ثم ذكر بعضا من الدلة
إلى أن يقول ":وقد نص الشافعي رحمة الله عليه أن
جم الذي ينهي إلى القاضي معاني لغات المدعين يجب متر ِ
ال ُ
أن يكون مسلما عدل رضيا ولست أعرف في ذلك خلفا بين
علماء القطار فكيف يسوغ أن يكون السفير بين المام
38
والمسلمين من الكفار"
37انظر أحكام أهل الذمة لبن القيم ،تحطيم الصنم العلماني ص 110-108
38غياث المم في التياث الظلم ص 116-114
39وذلك في غير ما منعت منه الشريعة كدخول الحرم قال الماوردي ":ليس لجميع من
خالف دين السلم من ذمي أو معاهد أن يدخل الحرم ل مقيما ول مارا به وهذا مذهب
الشافعي رحمه الله وأكثر الفقهاء وجوز أبو حنيفة دخولهم إليه إذا لم يستوطنوه"
الحكام السلطانية ص 170وأما الحجاز-دون الحرم -فل يستوطنه مشرك من ذمي
أو معاهد ،وإن جاز لمن قدم منهم تاجرا أو صانعا مقام ثلثة أيام يخرجون بعد
انقضائها كما عمل عمر رضي الله عنه واستقر عليه الحكم انظر الحكام السلطانية
ص 171
24
المطيرة والليلة الشاتية" 40و" قالوا :يا رسول الله ربما جاء
السيل يقطع بيننا وبين الوادي ،ويحول بيننا وبين القوم،
فنصلي في مسجدنا ،فإذا ذهب السيل صلينا معهم "41ولكن
حقيقتهم كانت مغايرة لذلك وإنما كانت للضرار كما ذكر الله
تعالى ذلك عنهم " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا
وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله" فمنع
الله رسوله من الصلة فيه وأمر الرسول أصحابه
بهدم هذا المسجد وإحراقه ،فإذا تبين أن هذه القليات قد
انحازت إلى مكان أو بقعة بقصد الضرار بالمسلمين فل
يمكنون من ذلك ،وليس في هذا ظلم لهم لن هذا من باب
منع الضرر ،والشريعة تمنع الضرر عنهم وعن غيرهم ،قال
رسول الله ": ل ضرر ول ضرار" ،42وفي عهد الخليفة
الراشد علي رضي الله تعالى عنه خرجت الطائفة التي
عرفت باسم الخوارج وتميزوا عن بقية المسلمين وتحيزوا
إلى مكان لكن عليا لم يجعل ذلك داعيا لقتالهم أو محاربتهم
حتى يسفكوا الدم الحرام ،فراسلهم رضي الله عنه وأرسل
جمان القرآن عبد الله بن إليهم من أهل العلم حبر المة وت َْر ُ
عباس ليناظرهم ويزيل الشبهة عنهم ويوضح لهم المحجة
فرجع كثير منهم ،وبقيت منهم بقية أفسدوا في الرض
وسفكوا الدم الحرام فلم يقاتلهم ولكن أرسل إليهم يطلب
منهم القصاص فلما رفضوا عند ذلك قاتلهم رضي الله عنه
وجنده ،وقد ذكر البيهقي في سننه قصة الخوارج وبوب عليها
بقوله " باب القوم يظهرون رأي الخوارج لم يحل به
قتالهم" 43أي مجرد التكلم والعتقاد لرأي الخوارج فإنه وإن
كان خطأ وضلل إل إنه ل يحل قتالهم بمجرد ذلك ما لم
يفعلوا فعل يستوجب القتال ،وقد ذكر القصة مرة أخرى
وبوب عليها بقوله" باب الخوارج يعتزلون جماعة الناس
ويقتلون واليهم من جهة المام العادل قبل أن ينصبوا إماما
ويعتقدوا ويظهروا حكما مخالفا لحكمه كان في ذلك عليهم
القصاص" 44وقد ذكر ابن تيمية قصتهم في الفتاوى فقال":
خرجت الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
40تفسير ابن جرير الطبري 11/22
41تفسير ابن جرير الطبري 11/25وانظر أيضا أحكام القرآن للجصاص 4/367
42أخرجه أحمد رقم 2719وابن ماجه كتاب الحكام رقم 2331
43سنن البيهقي 8/148
44سنن البيهقي الكبرى ج 8ص 184
25
وفارقوه وفارقوا جماعة المسلمين إلى مكان يقال له
حروراء فكف عنهم أمير المؤمنين وقال :لكم علينا أن ل
نمنعكم حقكم من الفيء ول نمنعكم المساجد إلى أن
استحلوا دماء المسلمين وأموالهم فقتلوا عبد الله بن خباب
وأغاروا على سرح المسلمين ; فعلم علي أنهم الطائفة التي
ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال " :يحقر
أحدكم صلته مع صلتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع
قراءتهم يقرءون القرآن ل يجاوز حناجرهم يمرقون من
الدين كما يمرق السهم من الرمية آيتهم فيهم رجل مخدج
اليد عليها بضعة عليها شعرات " 45وفي رواية " :يقتلون أهل
السلم ويدعون أهل الوثان " فخطب الناس وأخبرهم بما
سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :هم هؤلء
القوم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا على سرح الناس
46
فقاتلهم ووجد العلمة بعد أن كاد ل يوجد فسجد لله شكرا"
وقد قال الماوردي نحو ذلك حيث يقول ":فإذا اعتزلت هذه
الفئة الباغية أهل العدل وتحيزت بدار تميزت فيها عن
مخالطة الجماعة فإن لم تمتنع عن حق ولم تخرج عن طاعة
47
لم يحاربوا ما أقاموا على الطاعة وتأدية الحقوق"
27
جوا ْ طآئَفة منهم َفاستأ ْ
خُر ُ ج فَُقل ّلن ت َ ْ ِ رو ُ خ
ُ ك ل ِل ْ َ نوُ َ ذ ْ َ ه إ َِلى َ ِ ٍ ّ ْ ُ ْ الل ّ ُ
ضيُتم ِبال ُْقُعودِ أ َوّ َ
ل م َر ِ ي عَد ُّوا إ ِن ّك ُ ْ مع ِ َ دا وََلن ت َُقات ُِلوا ْ َ
َ
ي أب َ ً مع ِ َ َ
ن" فقد منع الله السماح للمنافقين خال ِِفي َ مع َ ا ل ْ َدوا ْ َ مّرةٍ َفاقْعُ ُ َ
بالخروج للجهاد عقوبة لهم على تخلفهم وقعودهم عن نصرة
رسول الله في خروجه لغزوة تبوك ،وقد بين الله تعالى
أن خروج مثل هؤلء فيه الضرر الكبير فقال تعالى ":ل َ ْ
و
مم ي َب ُْغون َك ُ ُ خل َل َك ُ ْ ضُعوا ْ ِ خَبال ً ول َوْ َ م إ ِل ّ َ دوك ُ ْ ما َزا ُ كم ّ جوا ْ ِفي ُ خَر ُ َ
ن" كما منع مي َ ظال ِ ِم ِبال ّ ه عَِلي ٌ م َوالل ّ ُ ن ل َهُ ْ عو َ ما ُ س ّم َ ة وَِفيك ُ ْ ال ِْفت ْن َ َ
الله تعالى خروج العراب للقتال في خيبر عقوبة لهم على
سي َُقو ُ
ل تخلفهم في الخروج للحديبية فقال تعالىَ ":
ْ
مها ذ َُروَنا ن َت ّب ِعْك ُ ْ ذو َخ ُ م ل ِت َأ ُ مَغان ِ َ م إ َِلى َ ذا انط َل َْقت ُ ْ ن إِ َ خل ُّفو َ م َ ال ْ ُ
يريدو َ
منه ِ ل الل ّ ُ م َقا َ م الل ّهِ ُقل ّلن ت َت ّب ُِعوَنا ك َذ َل ِك ُ ْ ن أن ي ُب َد ُّلوا ك ََل َ ُ ِ ُ َ
ن إ ِّل قَِليًل" كاُنوا َل ي َْفَقُهو َ ل َ دون ََنا ب َ ْ س ُ ح ُ ل تَ ْ ن بَ ْ سي َُقوُلو َ ل فَ َ قَب ْ ُ
وقد نص كثير من العلماء على عدم جواز السماح للمخذل
بالخروج مع الجيش قال القرطبي في تفسيره ليات منع
المنافقين ":وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في
الغزوات ل يجوز" 51وقال في المبدع ":ويمنع المحذل وهو
الذي يفند الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج إليه،
والمرجف وهو الذي يحدث بقوة الكفار وضعفنا لقوله تعالى
"ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع
مكاتب بأخبارنا ،ورام القاعدين " ...الية التوبة ،وكذا يمنع ُ
بيننا بالفتن ومعروف بنفاق وزندقة؛ لن هؤلء مضرة على
المسلمين فلزم المام منعهم إزالة للضرر" 52وقال
الغزالي ":وأما المخذل الذي يضعف القلوب ويكثر
الراجيف فيخرج عن الصف إذا حضر فإن شره عظيم ،ول
53
يستحق السهم والرضخ وإن حضر ،وهو أقل ما يعاقب به "
وقال النووي ":المخذل للجيش يمنع الخروج مع الناس
وحضور الصف ،فإن حضر لم يعط سهما ول رضخا" 54وقد
قال أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله للذين
قاتلهم من المرتدين لما أظهروا التوبة والعودة :اختاروا إما
الحرب المجلية وإما السلم المخزية ،قالوا :هذه الحرب
المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية؟ فقال رضي الله
تفسير القرطبي 8/18 51
52
المبدع 3/335
الوسيط 7/17 53
28
تعالى عنه لهم كلما كان مما جاء فيه" تنزع منكم الحلقة
والسلح وتمنعون من ركوب الخيل" أي عدم تمكينهم من
الحصول على السلح والقوة وعدم المشاركة في الجهاد،
لنهم موضع ريبة وعدم ثقة ،قال ابن تيمية رحمه الله تعالى
معلقا على ذلك ":فهذا الذي فعله الصحابة بأولئك المرتدين
بعد عودهم إلى السلم يفعل بمن أظهر السلم والتهمة
ظاهرة فيه ،فيمنع أن يكون من أهل الخيل والسلح والدرع
55
التي تلبسها المقاتلة"
-5القليات والدارة:
قد توجد في الدارة معاني الولية وقد ل توجد فيها تلك
المعاني ،فأما الدارة التي لتوجد فيها تلك المعاني فإنه يجوز
أن يعهد للقليات الدينية في القيام بها ،وذلك مثل الدارة
الفنية التخصصية ،فل بأس في استخدامهم فيما ليس لهم
فيه سلطان على المسلمين بحيث ل يكونوا تحت أيديهم،
فقد استخدم رسول الله في الهجرة دليل مأمونا من
الكفار يدله على الطريق وكذلك استخدم بعض أسرى غزوة
بدر من المشركين في تعليم أبناء النصار الكتابة وجعل ذلك
فداءهم ،وأما الولية أو ما فيه اطلع على أسرار المسلمين
فليس لهم أن يتولوا من ذلك شيئا ، 56وأما القليات العقدية
" فهؤلء أقسام :أحدها الجاهل المقلد الذي ل بصيرة له
فهذا ل يكفر ول يفسق ول ترد شهادته وليمنع من الستعانة
به في أمور المسلمين ،الثاني :المتمكن من السؤال وطلب
الهداية ومعرفة الحق لكنه يترك ذلك اشتغال بدنياه ومعاشه
فهذا مفرط مستحق للوعيد ،آثم بترك ما وجب عليه من
تقوى الله بحسب استطاعته ،فإن غلب ما فيه من البدعة
والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته ولم
يستعمل في أمور المسلمين ،وإن غلب ما فيه من السنة
والهدى ما فيه من البدعة والهوى جاز استعماله في أمور
المسلمين ،الثالث :من يعرف الحق ويتبين له الهدى بعد
السؤال والطلب فيترك ذلك تقليدا وتعصبا لصحابه ،أو بغضا
ومعاداة لمخالفهم ،فهذا أقل أحواله أن يكون فاسقا وتكفيره
محل اجتهاد ،فإن كان معلنا داعية ردت شهادته وفتاويه
مجموع الفتاوى 35/158 55
29
وأحكامه ،ولم تقبل له شهادة ول فتوى ول حكم ول يستعان
به في أمور المسلمين إل عند عدم القدرة على تنفيذ ذلك،
أو عند الضرورة كحال غلبة هؤلء واستيلئهم" 57وقال ابن
مفلح ":تحرم الستعانة بأهل الهواء في شيء من أمور
المسلمين لنهم أعظم ضررا لكونهم دعاة" 58فعلل ذلك
بكونهم دعاة أي يدعون الناس إلى بدعتهم ،فمن لم يكن
داعية لم يجر عليه الحكم السابق؛ إذ ليس من كان مصرا
على البدع داعيا إليها كمن كان ساكتا ،وينبغي عدم
المسارعة في التكفير بل ينبغي التأني والتريث واستيضاح
المور حتى ل يكون القدام على ذلك إل ببينة ل تداخلها
الشكوك ،وقد نقل المباركفوري عن القاري قوله ":الصواب
عند الكثرين من علماء السلف والخلف أنا ل نكفر أهل البدع
والهواء إل إن أتوا بمكفر صريح ل استلزامي لن الصح أن
لزم المذهب ليس بلزم ومن ثم لم يزل العلماء يعاملونهم
معاملة المسلمين في نكاحهم وإنكاحهم والصلة على
موتاهم ودفنهم في مقابرهم لنهم وإن كانوا مخطئين غير
معذورين حقت عليهم كلمة الفسق والضلل إل أنهم لم
يقصدوا بما قالوه اختيار الكفر وإنما بذلوا وسعهم في إصابة
الحق فلم يحصل لهم ،لكن لتقصيرهم بتحكيم عقولهم
وأهويتهم وإعراضهم عن صريح السنة واليات من]غير[ تأويل
سائغ ،وبهذا فارقوا مجتهدي الفروع فإن خطأهم إنما هو
لعذرهم بقيام دليل آخر عندهم مقاوم لدليل غيرهم من
جنسه فلم يقصروا ،ومن ثم أثيبوا على اجتهادهم " ،59وهذه
القليات العقدية ينبغي السعي في إزالة أخطائهم وجهلهم
عن طريق الدعوة الواضحة بالحكمة والموعظة الحسنة،
ونشر العلم الصحيح بينهم ،ومناظرة من يحسن المناظرة
منهم مناظرة من يريد هدايتهم وإخراجهم من ظلمات
البتداع والتفرق إلى نور السنة والجماعة ،ل مناظرة من
يريد إفحامهم ولقامة الحجة وكفى ،وقد تكون مثل هذه
المناظرات ذات جدوى إذا تمت مثنى مثتى أو نحوا من ذلك،
حتى إذا أقيمت الحجة وأزيلت الشبهة ولم يبق إل مجرد
30
العناد والصرار على الباطل فإنهم والحالة هذه يعاقبون
المعاقبة الشرعية التي تناسب ذلك.
31
كما أراده الله تعالى ،وكما أنزله على رسوله محمد ولذا
فإن دولة السلم ل يجب عليها تعليم مذاهبهم البدعية أو
نشرها ،بل ل يجوز لها ذلك لن مهمتها في الحفاظ على
السلم وتبليغه للعالمين.
32
والباطل ،وبين اليمان والكفر وعدم المساواة بينهما ،ول
تفسد الحياة بشيء أكثر من فسادها بالتسوية بين الحق
والباطل ،غير أن هذا التمييز ليس تمييزا أبديا لنه ل يقوم
على أمور ل دخل للنسان فيها كاللون والجنس والقوم،
وإنما هو قائم على عمل كسبي يمكن لكل أحد أن يسعى أو
يقوم بتغييره ،فبإمكان الكافر أن يسلم وبإمكان أهل الفرق
أن يعودوا للسنة ،وبذلك ل يكون هناك تمييز بالنسبة لهم
وذلك بعكس التمييز الباطل القائم على صفات لزمة في
النسان ل هي من كسبه ول يقدر على تغييرها ،فسيظل هذا
التمييز قائما دون وجود بارقة أمل في انتهائه ،وقد دل على
هذا التمييز القائم على أساس عمل النسان آيات كثيرة من
كتاب الله تعالى فقال عز من قائل ":أفنجعل المسلمين
كالمجرمين" وقال تعالى ":قل هل يستوي الذين يعلمون
والذين ل يعلمون" وقال تعالى ":ل يستوي أصحاب النار
وأصحاب الجنة" وقال ":أم حسب الذين اجترحوا السيئات
أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم
ومماتهم ساء ما يحكمون" وغير ذلك من اليات ،كما ميزت
الدلة الشرعية بين الناس على أساس اليمان في أسمائهم
وأحكامهم في الدنيا وفي الخرة ،ول ينبغي لحد أن يغتر بما
هو قائم في دول الغرب عندما منعوا التمييز القائم على
أساس الدين،60فإنما ذلك لهوان الدين عندهم حيث ل
يستحق أن يكون عامل من عوامل التمييز ،ولعل ذلك راجع
عندهم إلى ما وجدوه في دينهم من الفساد والباطيل التي ل
يمكن قبولها ،ولن الذي في هذه الدول ليس أكثر من رغد
العيش ،لكنهم ل يقيمون حقا أو يرفعونه ول يرفضون باطل
أو يضعونه إل ما فيه مصلحة لهم ،فالحق والباطل عندهم
تابع للمصالح والمنافع التي يجنونها من وراء ذلك حسب
المذهب النفعي ) البراجماتي ( الذي يسيرون عليه،
وتاريخهم القديم والحديث دليل على ذلك ،فقد احتلوا كثيرا
من الدول بغير مسوغ :فأكلوا خيراتها ونهبوا ثرواتها ،وساموا
أهلها سوء العذاب :فقتلوا الرجال ورملوا النساء ويتموا
الطفال ،وأفسدوا في الرض ونشروا فيها الرذائل
والموبقات ،في أمور كثيرة يصعب حصرها ،فما قدمت هذه
60مع العلم أن التمييز الديني عندهم موجود خاصة إذا كان السلم طرفا في
الموضوع
33
النظمة للنسانية من الدمار والفساد والظلم ،أكثر بكثير مما
قدمته من العدل والحرية والعمار ،لكن التمييز في ديننا ل
يعني الظلم ول إضاعة الحقوق ،سواء حقوق القليات الدينية
أو القليات العقدية ،فالظلم حرام حتى مع العداء ول يبيحه
شيء ،فمع إقرارنا بالتمييز القائم على أساس اليمان فإنه
ينبغي أن ينال كل إنسان حقه بمقتضى ما شرع الله من غير
بخس.
وفي الختام:
إن مشاكل القليات التي بدأت تظهر في بلد المسلمين لم
تكن إل نتيجة الحتلل الذي وقعت تحته أغلبية دول
المسلمين ،ثم ظهور الدولة القومية بعد الستقلل وما نتج
عن ذلك من ضعف دولة الخلفة وتفككها وزوال الرابطة
الدينية التي كان يرتبط بها المسلمون جميعهم ،فل توجد
مشكلة تتعلق بالقليات في الدولة التي تقوم على أساس
السلم؛ إذ القليات الموجودة فيها جميعها من رعاياها سواء
كانت أقليات دينية أو أقليات عقدية وهي تخضع للتشريعات
السائدة فيها ،وهي إما أمور جاءت بها النصوص وإما اجتهاد
سائغ لهل العلم مبني على النصوص ومراع فيه تحقيق
مقاصد الشريعة في التعامل مع المخالفين:وهي تقوم على
أمرين الول :دعوتهم إلى الحق ومحاولة إقناعهم به
والجتهاد في ذلك وتيسير أسبابه من غير إكراه أو إجبار،
والثاني :معاملتهم بالعدل وعدم الظلم لهم أو التعدي عليهم
عند استحكام الخلف وفق ما ترشد إليه الشريعة ،والله
الموفق لكل خير.
34