Professional Documents
Culture Documents
أحمد الرفاعي
578 -512هـ
رضي هللا عنه
3
4
بسم اهلل الرحمن الرحيم
الحمد هلل رب العالمين وصلى اهلل على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وأتباعه ،وسلم
الكروي .
ّ اليقطين :القرع ()1
()3
أيْ :أداة نداء مثل يا.
ً
الالش :الذي ليس شيئا (ال شيء). ()4
5
وحْل ِم ْك(.)2
أن تدعو لي وال تُ ْخِليني من ِحلّك(ِ )1
َ ما يشاء ،وإ ني أريد من صدقاتك ْ
تلك من أنباء الشيخ اإلمام السيد أحمد الرفاعي الذي كان يقال به شيخ
وسيد العارفين ،أبي العباس ،وأبي
والسيد الكبير ّ ،
ّ الطرائق ،وأستاذ الجماعة ،
ذرّية
العلمين ،محيي الدين أحمد بن علي بن يحيى بن ثابت ،وهو ينحدر من ّ
()3
جده السابع الحسن بن المهدياإلمام علي رضي اهلل عنه ويقال له الرفاعي نِ ْسبة إلى ّ
المكرمة إلى
ّ ة ك
ّ م من هاجر قد وكان ، برفاعة ب ق
ّ يل وكان ()4
الهاشمي المكي
ذريته بالمغرب إلى زمن يحيى بن ثابت ،جد
المغرب ،وقَّر وقطن فيه ،وبقيت ّ
لكنه لم يلبث فيها طويالً حتى
السيد أحمد الرفاعي ،الذي رجع إلى مكة المكرمة ّ ،
السّيد الرفاعي .
ابنه علياً والد ّ
ق َ غادرها إلى العراق ،وهناك في بلدة أم عبيدة ُر ِز َ
وولدت له
ْ وتزوج من فاطمة األنصارية ابنة خاله ،
كان علي بن يحيى فقيهاً َّ
أحمد في " قرية حسن " من أرض البطائح بين واسط والبصرةـ في العراق سنة 512
هـ .
أن أباه مات وهو في السنة السابعة من عمره فكفله
وأكثر الروايات تذهب إلى ّ
فعني به وبتربيته وتعليمه ،وكان منصور
ُ ، ()5
الرّباني البطائحي
السيد منصور ّ
خاله ّ
أهمهم القاضي المقرئ
نفسه عالماً ،ويعد في جملة شيوخه .ومن شيوخه أيضاً أو ّ
أبو الفضل علي الواسطي ،وهو شيخه في التصوف ،ألبسه ِ
الخ ْرقة وأجازه في ّ
طريقة وهو ابن عشرين سنة ،أما أبو الفضل علي فكان قد أخذ
علوم الشريعة وال ّ
الطريقة
وقال اإلمام الشعراني " :منسوب إلى بني رفاعة ،قبيلة من العرب " [ الطبقات الكبرى .]1/187 ()4
مقدمة الدكتور الويسي لكتاب سواد العينينـ لعبد الكريم الرافعي المتوفى سنة 623هـ (اليمامة ط) 1
منصور [ ّ
ص.] 8 ، 7
6
عن ابن كافح ،عن غالم بن تركان عن أحمد الروذباري عن علي العجمي ،عن أبي
بكر الشبلي ،عن أبي القاسم الجنيد ،وتنتهي هذه السلسلة بالحسن البصري عن
ومم ْن ذكر في شيوخه خاله أبو بكر بن يحيى َّ
النجاري ، علي رضي اهلل عنهَّ .
اإلمام ّ
وابن عمه سيف الدين عثمان ،وعبد السميع الخرتوني ،وعبد الملك الخرتوني .
ودرس اإلمام السيد أحمد الرفاعي الفقه الشافعي ،وحفظ كتاب التنبيه ألبي إسحاق
الشيرازي .
ومنذ أن نضجت معارفه أخذ يعقد حلقات التعليم والتوجيه في بلدة أم عبيدة ،
ِ
والتفسير والعقيدة
َ والحديث
َ الع ْذ ِب الفقهَ
فالتفّت حوله جموع كثيرة ،لتنهل من َمعينه َ
وعلوم الطريقة أو الحقيقة ،وإ لى طريقته ينتمي كثير من مشاهير المتصوفة ،مثل
أحمد البدوي ،وإ براهيم الدسوقي ،وأبي الحسن الشاذلي ،وشيخه عبد السالم ابن
مشيش ،واإلمام الشعراني ،واإلمام عبد الرحمن بن الكمال السيوطي .وما برح
دنية،
الكس ّبية واللّ ّ
والصوفيةْ ،
ّ اإلمام أحمد يفيض على َم ْن حولَه ِم ْن علومه الشرعية
ربه ظهر يوم الخميس في الثانيأن ّلبى نداء ّ
ما يقارب أربعة عقود من الزمن ،إلى ْ
ألمه ،الشيخ يحيى
جده ّ
عشر من شهر جمادى األولى عام 587هـ ،فدفن في ّقبة ّ
النجاري ،في بلدته أم عبيدة .
كان السيد الرفاعي رضي اهلل عنه إماماً قدوة ،عالماً عابداً زاهداً ،طويل
الصمت ،فإذا نطق َّبز القائلين ،وسالت ِمن فيه الكلم الحسان ،بل ُدرر ِ
الع ْقيان(،)1 َُ
الذ ْكر ،وماالخلُق ّ ،لين العريكة ،كريم النفس ،حسن المعاشرة كثير ِّ
سهل ُوكان َ
َ
ف
ص ُأكثر ما كان يختم تالوة القرآن الكريم في نهار وليلة ،وكان يخدم نفسه ،وي ْخ ِ
َ َ
ويج ّل العلماء ،ويقول :
نعله ،ويحدب على األرامل واليتامى وذوي الحاجات ُ ،
هؤالء أركان األمة وقادتها ،وكان ذا ثروة واسعة ُي ُّ
مده مواله سبحانه بها من َر ْيع
أمالكه ،ومن أوقافه المحبوسة على رواقه ،ومما كان يبعث به إليه أتباعه في
األقاليم ،ولكن اإلمام
7
يجود به على َم ْن حوله
ُ الرفاعي كان غيثاً ِم ْدراراً ال ُي ْمسك من ك ّل ذلك شيئاً ،وإ نما
وآمي رواقه ،وعلى البؤساء والمساكين .
من مريديه ِّ
الن ّجاري ،واقترن بابنته خديجة ،
وكان قد أصهر إلى خاله أبي بكر بن يحيى ّ
ورزق منها ابنتين فاطمة وزينب ،ثم ماتت ابنة خاله خديجة ،فاقترن بأختها رابعة ،
سماه صالحاً ،وفي الطبقات الكبرى للشعراني وصية لإلمام أحمد ورزق منها ولداً ّ
وجهها إلى ابنه صالح ( ،)1ولكن خير الدين الزركلي قال " :مات ولم يخلف َع ِقباً ، ّ
()2
ب فألخيه " ِ
أما العق ُ
وقد صنف اإلمام الرفاعي كتباً كثيرة ،ذهب كثير منها لدى غزو المغول
والتتار ،ومما ُذ ِكر له من تلك الكتب :معاني بسم اهلل الرحمن الرحيم ،تفسير سورة
القدر ،الرواية (حديث شريف) ،الطريق إلى اهلل ،الصراط المستقيم ،البهجة ،
ْ
رحيق الكوثر ،النظام الخاص ألهل االختصاص ،المجالس األحمدية ،كتاب ِ
الح َكم
،شرح التنبيه ،راتب الرفاعي (حزبه ،وهو آيات وأذكار وأدعية) ،أو المصباح
ِّر المصون ،البرهان المؤيد ،حالة أهل
المنير في ورد السيد الرفاعي الكبير ،الس ّ
الحقيقة مع اهلل ،وفي " حالة أهل الحقيقة مع اهلل " روى هو نفسه بأسانيد متصلة
مرفوعة إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم أربعين حديثاً ،ودرسها دراسة مستفيضة ،
وأودع هذه الدراسة مواعظه وطريقته .
: وكان اإلمام الرفاعي يجيد القريض ،ومنه قوله
ران
س ُالنوم ُخ ْ
َ فإن
ّ س َه َر اللَّْي ِل
تعو ْد َ
َّ
نيران
ُ فعقبى َّ
الذ ْنب وال تَْر َك ْن إلى الَّذ ْن ِب
ُ
فللقرآن ِخالّ ُن وقُ ْم للواحد الفَ ْر ِد
ومن األبيات ال ّذائعة قوله مخاطباً رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو واقف
بحذاء قبره
8
الشريف :
()1
َّ
فمد له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يده الشريفة من قبره الكريم ،فقبلها
أمام جمع من الحجيج .
عبد الكريم الرافعي :سواد العينينـ في مناقب أبي العلمين (اليمامة) 40 ()1
9
بسم اهلل الرحمن الرحيم
قال الشيخ اإلمام السيد محيي الدين أحمد األخضر بن السيد سلمان بن السيد
أحمد بن السيد سليمان ،نزيل الرحبة ،ابن السيد إبراهيم بن السيد أبو المعالي
بواسط ،الرفاعي ()1
عبدالمنعم بن السيد أبي العباس أحمد البطايحي نزيل الهُمامية
الحسيني رضي اهلل عنه وعن أسالفه الطاهرين أجمعين .
كتاب "حالة أهل ِ
عام تسعة وأربعين وخمسمائة للقوم ُ أُْلق َي ُبرواق عبيدةَ َ
العديم المثيل ،الذي انتظم من أربعين
َ والس ْف َر
الحقيقة مع اهلل" أعني الكتاب الجليل ِّ ،
خميس مجلس ،وأولها أول خميس من شهر رجب من ذلك العام ، ٍ كل ِ
يوم مجلساً َّ ،
وقد صدر من ِ
لسان قُطب األقطاب ( )2المتم ّكنين ،سلطان األولياء والعارفين ُ ،محيي
بتقبيل ِيد َج ِّده سيد المرسلين ،مصباح
ِ مشر ِ
ف جهاراً َّ
الحق والشريعة والدين ،الُ َ
وم ْرشدنا إلى اهلل تعالى السيد أحمد الرفاعي الحسينيالمعرفة المنير ،موالنا وشيخنا ُ
وعنا به ،ونفعنا والمسلمين بعلومه ،
الحسني األنصاري الكبير رضي اهلل عنه ّ ،
حال حضر ِة األنس ُّ ،
يدل على الطريق ، روح من وروح القدس ،وحا ٌل من ِ
فهو ٌ
التزام منهج أهل ويفرغ في القلب ِ
َ ويلزم باالستقامة ُ ،
ويأخذ للتمسُّك بالعهد الوثيق ُ ،
السالمة ،وإ ني قد قرأته في أربعين مجلساً بعد اإلجازة به على سيدي وموالي ،
األوحد السيد شمس الدين أحمد المستعجل بن الرفاعي رضي اهلل عنه
طب الفَ ْرد ْ
القُ ْ
أربعين مجلساً بعد اإلجازة به على ِّ
جدي َ في ُرواق أم عبيدة ،وهو قال :قرأته في
طب العارف باهلل تعالى
ألمي السيد القُ ْ
( )1الهُ َمامية :بلدة من نواحي واسط بينها وبين خوزستان ،منسوبة إلى همام الدولة منصور بن دبيس بن عفيف
األسدي ،وليس هذا بصاحب ِ
الحلّة [ معجم البلدان (صادر) .]5/410
طب :السيد ،أي سيد األولياء في وقته .
القُ ْ
()2
10
أربعين مجلساً بعد
َ نجم الدين أحمد بن الرفاعي رضي اهلل عنه ،وهو قال :قرأتُه في
اإلجازة به على أخي وسيدي وموالي القطب األعظم أبي إسحاق السيد إبراهيم
أربعين مجلساً من لسان جدي القطب
َ األعزب رضي اهلل عنه ،وهو قال :سمعته في
الغوث األكبر ،سلطان األولياء والعارفين ،سيدنا السيد أحمد الرفاعي رضي اهلل
استجزتُهُ به فأجاز.
ْ عنه ونفعنا بعلومه ،وقد
وسمعته أيضاً من جامعه الشيخ العارف باهلل الفقيه أبي شجاع بن منجح
الشافعي رضي اهلل عنه انتهى.
وقد أجازني بقراءته الشيخ الفقية عفيف الدين أبو طالب المقري الصوفي ،
وهو قال :أجازني بقراءته الشيخ العارف العالم الشريف شرف الدين أبو طالب بن
عبد السميع العباسي الهاشمي ،وهو قال :قد أجازني بقراءته القاضي الشيخ الصالح
الفقيه الجليل جامعه أبو شجاع بن منجح الشافعي الواسطي ،وهو قال :قد أجاز
جم غفير من ناثر ُد َر ِر ِه الشريفة ،وناظم أساليبه
بقراءته بعد جمعه كما تلقيناه في ٍّ
الغوث األعظم ،حجة اهلل على أوليائه العارفين ، ِ المنيفة ،سيدنا وموالنا القطب
ُ
السيد محيي الدين الكبير الرفاعي الحسيني رضي اهلل عنه ونفعنا به .
اإلذن بقراءة كتاب "البرهان المؤيد" الذي
ُ ولنا من طريق الشيخ عفيف الدين
الشريف العالّمةُ شرف
ُ جمعه من كالم سيدنا السيد أحمد الرفاعي رضي اهلل عنه
الدين بن عبدالسميع العباسي رحمه اهلل عن الشريف شرف الدين عن صاحبه اإلمام
11
بسم اهلل الرحمن الرحيم
[ مقدمة الكتاب]
الغوث القطب ِ
رسول الثقلين ، وارث العلَ َم ْين
ُ ُ ُ قال شيخنا وسيدنا شيخ الطوائف أبو َ
أحمد محيي الدين أبوالعباس الكبير
السيد ُ
ُ إمام األولياء
العارف القدوةُ ُ
ُ الجامعُ الحجةُ
الرفاعي الحسيني بن السيد أبي الحسن علي بن السيد يحيى بن السيد ثابت ،ابن
السيد الحازم بن السيد أحمد بن السيد علي بن السيد الحسن ،بن السيد المهدي ،ابن
السيد أبي القاسم محمد ،بن السيد الحسن بن السيد الحسين ،بن السيد أحمد ،ابن
السيد موسى الثاني ،بن السيد إبراهيم المرتضىـ ،بن اإلمام موسى الكاظم ،بن
اإلمام جعفر الصادق ،بن اإلمام محمد الباقر ،بن اإلمام زين العابدين علي ابن ُزبدة
وعمدة قادة األمة ،الذي امتُ ِح َن بأنواع البالء ،أمير المؤمنين أبي
السادة األئمة ُ ،
أزمة
عبداهلل اإلمام الحسين الشهيد بكربالء ،ابن إمام األئمة األولياء ،وقائد ّ
الو ْف َرى ،باب مدينة العلوم
األصفياء ذوي السوابق الكبرى ،والمفاخر والمناقب ُ
َّ
المشبه بكبار األنبياء كآدم وإ براهيم ونوح ، كل ٍ
مقام له ممنوح ، ِ
والح َكم ،السيد الذي ُّ
الذي قدرهُ كاسمه حسن وعلي ،أمير المؤمنين أبي الحسن علي رضوان اهلل عليه
وعليهم أجمعين .
ونع َُد به من األحباب ،ونشهد أن
الحمد هلل حمداً نص ُل به إلى كشف الحجاب َ ،
ونشهد أن محمداً صلى اهلل عليه وسلم عبده ورسوله
ُ ك له ، ال إله إال اهلل وحده ال شري َ
الساطع ،والبيان الالمع ، ِ
بالنور ّ وصفيهُ ،وخيرتُهُ ِم ْن خلقه ،بعثه اهلل
ُّ ،وحبيبه
وأسس الشريعة ،
السنةَ ّ ،
وأدى األمانة ،وأوضح ّ والسيف القاطع ،فبلّغ الرسالة ّ ،
وعَب َداهللَ حتى أتاه اليقين ،فصلوات اهلل عليه وعلى آله وصحبه
ونصح األمة َ ،
أجمعين.
أما بعد فهذه ُج َم ٌل نذكر فيها (حالة أهل الحقيقة مع اهلل) ،وال حول وال قوةَ
12
القلوب بنسبة ما ألفت إليه ،وإ ال
ُ ولتتروح
ّ ، النفوس ()1
إال باهلل ،وذلك لترتاض
طري ،من مائدة النبي صلى اهلل عليه وسلمُّ ،
بالتنزل ّ
()2
فمنبعنا وقتي ،وثريدنا
اإللهي ،ما فيه قَديد(.)3
الحديث األول
[ من يذوق طعم اإليمان؟ ]
13
أحمد ابن جعفر القطيعي ،قال :أنبأنا عبداهلل بن أحمد بن حنبل ،قال :حدثني أبي ،
قال :حدثنا قتيبة بن سعيد بن الليث بن سعد ،عن ابن الهادي ،عن محمد بن إبراهيم
بن الحرث ،عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب ،أنه سمع رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم يقول " :ذاق طعم اإليمان من رضي باهلل رباً ،وباإلسالم ديناً ،
وبمحمد صلى اهلل عليه وسلم نبياً( ،")1وهذا الذوق المنبعث عن هذا الرضا هو
نور أسكنه اهلل تعالى قلب من أحبه من عباده ،وال
المعرفة باهلل تعالى .والمعرفة ٌ
بالمحيي ( َأو َمن كان
شي أجل وأعظم من ذلك النور ،وحقيقة المعرفة حياة القلب ُ
حيينه حياةً ن فل ( تعالى وقال ،()3
ّ ُ ) ا
ً حي كان من نذرلي
ُ ( : تعالى وقال ()2
َميتاً فأحييناه)
طيبة)( ،)4وقال :سبحانه ( :استجيبوا هلل وللرسول إذا دعاكم لما ُيحييكم)( ،)5فمن
وسئل ابن السماك(:)6
ماتت نفسه ؛ بعدت عنه دنياه ،ومن مات قلبه بعد عنه مواله ُ ،
متى يعرف العبد أنه على حقيقة المعرفة ؟ قال :إذا شاهد الحق بعين اعتباره فانياً
عن كل من
صحيح .رواه اإلمام أحمد في مسنده (دار الحديث) 2/383و 384برقم 1778و ( 1779مسند العباس بن ()1
عبد المطلب رضي اهلل عنه) ومسلم :اإليمان ،باب :الدليل على أن من رضي باهلل رباً وباإلسالم ديناً وبمحمد
صلى اهلل عليه وسلم رسوالً فهو مؤمن ،رقم.34
سورة األنعام.122 : ()2
أبو العباس بن السماك ،كان يقول ،يا أخي هب أن الدنيا كلها في يديك،ـ فانظر ما في يديك منها عند الموت. ()6
14
سواه ،وقيل :المعرفة فقدان رؤية ما سواه ،بحيث يصير ما دون اهلل تعالى عنده
أصغر ِمن خردلة ،قال تعالى( :قل اهلل ثم َذ ْر ُهم)(َ ،)1من نظر إلى اهلل تعالى لم
ينظر ال إلى الدنيا وال إلى العقبى ،وشمس قلب العارف أضوأ من شمس النهار ،
وأبهج منها في مطلع األنوار.
غروب
ُ فاستنارت فما لديها
ْ أح ّب َك ليالً
شمس من َ
ُ طلعت
ْ
تغيب ِ
القلوب ليست ُ وشموس
ُ تغرب ليالً
ُ ِ
النهار شمس
َ إن
ّ
قال ذو النون( :)2إطالع الحق سبحانه على األسرار بمواصلة المدد ،كإطالع
الشمس على األرض بإشراق األنوار ،فعليكم بتصفية القلوب ،فإنها مواضع نظره ،
ومواطن سره ،فإن من عرف اهلل ال يختار غيره حبيباً سواه ،وفي الخبر" :إن اهلل
ق في ظُلمة ،ثم ألقى عليهم شيئاً من نوره ،فمن أصابه من ذلك
الخْل َ
تعالى خلق َ
ضل وغوى"( )3وهو نور يخرج من سرادق ِ
المّنة ،فيقع النور اهتدى ،ومن أخطأه َّ
فيستنير به الفؤاد ،ويبلغ شعاعه إلى ُح ُجب الجبروت ،وال يحجبه عن
ُ في القلب ،
الحق الجبروت ،وال الملكوت ،فيصير العبد في جميع أفعاله وأقواله وحركاته
(اهلل نور السموات واألرض) وإ رادته في حياته ومماته صائراً إلى النور،
()4
. (يهدي اهلل لنوره من يشاء)
ت عن بصري
يراك وإ ن ُغي ِّْب َ
قلبي َ فالذكر منك معي
ُ لست معي
كنت َ
إن َ
أبوالفيض ثوبان بن إبراهيم توفي سنة 245هـ .ومن قوله" :من عالمات المحب هلل عز وجل :متابعة حبيب ()2
اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أخالقه وأفعاله وأوامره وسننه" (الرسالة القشيرية (دار إحياء التراث العربي) .)33
صحيح :أخرجه أحمد برقم 6644و 6659و 6854عن عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنه والهيثمي في ()3
15
قرب القلب إلى القريب ،ومراقبة الروح ()1
قال يحيى بن معاذ :المعرفةُ ُ
للحبيب ،واالنفراد عن الكل بالملك المجيب ،وقال ذو النون :هي تخلية السر عن
كل إرادة ،وترك ما عليه العادة ،وسكون القلب إلى اهلل بال عالقة .وقال بعضهم:
هيئتها جنون ،وصورتها جهل ،ومعناها َح ْيرة ؛ فإن العارف يشغله علم اهلل تعالى
الخْلق استجهلوه ،ويكون أبداً في ميدان العظمة
عن جميع األسباب ،فإذا نظر إليه َ
ُّ
استجنوه ،ويكون بكلّيته فانياً بحب جالل عظمته تعالى ، وِلهاً بين َ
الخْلق ،فإذا رأوه
مشغوالً عن َمن سواه ،فإذا أبصروه استدهشوه ،وال يقدر أحد أن ُيخبِر عن المعرفة
ق فان تحت ِّ
اطالع الحق تعالى ،با ٍ باهلل تعالى ،فإنها منه َبدت وإ ليه تعود .فالعارف ٍ
ومحجوب
ٌ ميت ،وحي ّ
ت حي ٌّ ، مي ٌ
على بساط الحق بال نفس وال سبب ،فهو ّ
ومكشوف محجوب ،تراه والهاً على باب أمره ،هائماً في ميدان ّبره،
ٌ مكشوف ،
مدالالً تحت جميل ستره ،فانياً تحت سلطان حكمه ،باقياً على بساط لُطفه .
ْ
العارفون صارت أنفسهم فانية تحت بقائه وسلطانه عن كل حول وقوة ،تراهم باقين
بحوله وقوته ،متالشين عن كونهم وأسبابهم تحت جالل ألوهيته ،ملوكاً به دون
وعزهم به وذلّهم به.
مملكته ،فقرهم به وغناهم به ّ ،
روى أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه السالم :يا داود اعرفني واعرف
ُي َ
نفسك .فتف ّكر داود فقال :إلهي عرفتك بالفردانية والقدرة والبقاء ،وعرفت نفسي
بالعجز والفناء .فقال :اآلن عرفتني .وروي في الخبر :لو عرفتم اهلل تعالى حق
معرفته لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل ،ولزالت الجبال بدعائكم مع أنه ال ينتهي
أحد وال
:أبو زكريا يحيى بن معاذ بن جعفر الواعظ الرازي ..أقام ببلخ مدة ثم عاد إلى نيسابور ومات بها سنة 258 ()1
هـ .ومن كالمه رضي اهلل عنه :كيف يكون زاهداً من ال ورع له ،تورع عما ليس لك ،ثم ازهد فيما لك
[الطبقات الكبرى للشعراني .]1/106
16
أعظم من أن ينتهي أحد إلى منتهى معرفته(.)1
ُ يبلغ منتهى معرفته أن اهلل تعالى
أخرج ابن السني عن معاذ رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :لو عرفتم اهلل حق معرفته ()1
لمشيتم على البحور ،ولزالت بدعائكم الجبال ،ولو خفتم اهلل حق مخافته لعلمتم العلم الذي ليس معه جهل ،ولكن لم
يبلغ ذلك أحد .قيل :يا رسول اهلل ،وال أنت؟ قال :وال أنا؛ اهلل عز وجل أعظم من أن يبلغ أحد أمره كله [ كنز
العمال (الرسالة) 3/144برقم .]5893وإ تحاف السادة المتقين 9/75و 477والدر المنثور 1/196وحلية
األولياء 8/156وقال الحافظ العراقي في المغني :4/97وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند
ضعيف من حديث معاذ بن جبل رضي اهلل عنه " :لو عرفتم اهلل حق معرفته لمشيتم على البجور ولزالت بدعائكم
الجبال "وانظر المغني .4/267
أبو عبد اهلل جعفر الصادق بن محمد الباقر ..وكان رضي اله عنه يقول " :إذا سمعتم عن مسلم كلمة ()2
فاحملوها على أحسن ما تجدون ،حتى ال تجدوا لها محمالً فلوموا أنفسكم "توفي بالمدينةـ سنة 148هـ
( الشعراني )1/42أي لوموا أنفسكم بسبب عجزكم عن إيجاد عذر أو محمل لتلك الكلمة.
الترهات :األباطيل . ()3
محمد بن واسع بن جابر األزدي ،أبو بكر :فقيه ورع ،من ثقات أهل الحديث ،توفي عام 123هـ. ()4
أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي مات سنة 261وقيل 234هـ. ()5
17
قال أبو يزيد :ليس على تحقيق بالمعرفة ،من رضي بالحال دون ولي الحال
لسانه ،ودهش عقله .العارف إن تكلم ِ
بحاله َهلَ ْك ،وإ ن .فإن من عرف اهلل َك َّل ُ
سكت احترق .قال أبو بكر الواسطي( :)1المعرفة على وجهين :معرفة اإليقان ،
واإلقرار
ُ المِلك ّ
الديان ، ومعرفة اإليمان ،فمعرفة اإليمان شهادةُ اللسان بتوحيد َ
بالجنان ،
الديان َ
بصدق ما في القرآن ،وأما معرفة اإليقان فهي دوام مشاهدة الفرد ّ
وقال بعضهم :هي على ضربين ،األول هو أن يعرف أن النعمة من اهلل تعالى ،قال
اهلل تعالى (وما بكم من ٍ
نعمة فمن اهلل)( )2فيقوم بشكره ،فيستزيد به النعمة من اهلل
بدليل قوله تعالى ( :لئن شكرتم ألزيدنكم)( ،)3والثاني رؤية الم ِ
نعم من غير أن يلتفت ُ
نعم ،ويقوم بحق معرفته ومحبته ،وذلك قوله تعالى: إلى النعمة فيزيد شوقه إلى الم ِ
ُ
(يا أيها النبي حسبك اهلل)(( ،)4فإن تولّوا فقل حسبي اهلل) ،وقال ذو النون
()5
المصري :هي على ثالثة أوجه :أولها معرفة التوحيد ،وهي لعامة المؤمنين ،
الح ّج ِة والبيان ،وهي للعلماء والبلغاء والحكماء ،والثالث معرفة
والثاني معرفة ُ
صفات الفردانية ،وهي ألهل والية اهلل تعالى وأصفيائه الذين أظهر اهلل لهم ما لم
ي َمن ال
ُيظهر لمن دونهم ،وأعطاهم من الكرامات ما لم يجز أن يوصف ذلك بين َي َد ْ
خصهم اهلل من بين الخالئق واصطفاهم لنفسه واختارهم له ،فحياتهم
يكون أهالً له ؛ ّ
رحمة ومماتهم غبطة ،طوبى لهم .وقال غيره :هي على وجهين :معرفة التوحيد ،
وهو إثبات وحدانية الواحد القهّار ،ومعرفة المزيد ،وهي التي ال سبيل ألحد إليها .
أقول :هي كشجر ٍة لها ثالثة أغصان توحيد وتجريد وتفريد ،فالتوحيد بمعنى
اإلقرار ،والتجريد بمعنى اإلخالص ،والتفريد بمعنى االنقطاع إليه بالكلية في كل
حال .وأول مدارج المعرفة التوحيد ،وهو قطع األنداد( ،)1والتجريد ،وهو قطع
:أبو بكر محمد بن موسى الواسطي ،من فرغانة ،صحب الجنيد والنوري ،أقام بمرو ،ومات بها بعد عام ()1
320هـ.
سورة النحل .53 ()2
18
األسباب ،والتفريد وهو بمعنى االتصال بال سير وال عين وال دون ،ولها خمس
طرائق .أولها :الخشية في السر والعالنية ،والثانية :االنقياد له في العبودية ،
والنية ،
بالكلية ،والرابعة :اإلخالص له بالقول والفعل ّ
ّ والثالثة :االنقطاع إليه
والخامسة :المراقبة في كل خطرة ولحظة.
ِ
الحبيب لقاهُ ِ
الحبيب من ومنى ِ
الحبيب رضاهُ ِ
الحبيب من ب
طلَ ُ
َ
ُ
يالحظُه بعيني ِ
أبداً ِ
َّه ويراهُ
يعرف رب ُ
ُ والقلب
ُ قلبه َ
يريد ِسواهُ ِ
العباد ،فما ُ دون
َ ِ
الحبيب بقربـه الحبيب من يرضى
َ
ُ
19
الحديث الثاني
الكيس والعاجز ]
[ ِّ
أحمد في المسند (مسند شداد بن أوس رضي اهلل عنه) 13/272برقم 17059والترمذي :صفة القيامة، ()1
باب :الكيس من دان نفسه (الباب )26رقم 2461وقال أبو عيسى الترمذي :هذا حديث حسن .وابن ماجه:
وصححه في الموضعين ووافقه الذهبي
ّ الزهد ،باب ذكر الموت واالستعداد له 4260والحاكم 4/251و 1/57
راو في سنده ،هو ابن أبي مريم ،قال الحاكم عنه " ٍ
واه " في الجزء الرابع ،وخالفه في الجزء األول ،من أجل ٍ
وصححه ].
ّ وتمنى على اهلل األماني" [ الجامع الصغير للسيوطي (الفكر) 2/303برقم 6468
ويروىّ .." :
ُ
20
األمن ،فإذا اجتمعت في العبد هذه الخصال ،أشرق فؤاده بنور ،فيرى ما دون ُح ُج ِب
لهبات النيران ،ولو أن المعرفة نقشت
ُ الجبروت ،وتشتاق إليه ال ِجنان ،ويخمد منه
على شيء ما نظر إليها أحد إال مات ِمن حسنها وجمالها ،لكل أحد رأس مال ،وهي
رأس مال المؤمن .
ُ
عرفت اهلل فحسبك اهلل ،
َ كنت
وقال رجل لذي النون ّ :إني ألحبك ،فقال :إن َ
وإ ن لم تعرفه فاطلب َمن يعرفه حتى يدلك عليه .
ك في بستانه ٍ ،
ثمينة جواهرها ،مثمر ٍة وعندي أن المعرفة كشجرة يغرسها مل ٌ
ٍ
رفيعة فروعها ،نقية أرضها ،عذب ٍ
طريفة أوراقها ، أغصانها ،حلو ٍة ثمارها ،
مسرور بحسن زهرتها ،يدفع
ٌ لعزتها ،
مشفق عليها ّ
ٌ طيب ريحها .صاحبها
ماؤها ّ ،
البليات ،وكذلك شجرةُ المعرفة التي يغرسها اهلل تعالى في
عنها اآلفات ،ويمنع عنها ّ
سحائب
َ بستان قلب عبده المؤمن ،فإنه يتعهّ ُدها بكرمه ،ويرسل عليها كل ساعة
قطرات الكرامة ،برعد القُدرة ،وبرقِ فيمطر عليها ِ ِ
المّنة من خزائن الرحمة ُ ،
نسيم لطائف الرأفة ، ِ ِ المشيئة ،ليطهِّرها من ُغ ِ
بار رؤية العبودية ،ثم ُيرسل عليها َ
يطوف بالصيانة والوقاية ،فالعارف أبداً ِ ِ
ُ ليتم لها شرف الوالية ّ من ُح ُجب العناية ّ ،
منجل األدب ما فسد من ويشم من رياحينها ،ويقطع منها بِ ْ
ُّ ِ
بس ّره تحت ظاللها ،
ِ
العارف تحتها ،ودام وحل فيها من الخبث واآلفة ،فإذا طال مقام ِس ّر
ثمارها َّ ،
ثمارها بأنام َل
فيمد إليها يد الصفاء ،ويجتبي َ جوالنه حولها ،هاج أن يتلذذ ِ
بثمارها ّ ،
يد االنبساط
نار االستغراق ،فيضرب َ ِ
الحرمة ،ثم يأكلها بفم االشتياق ،حتى تغلبه ُ
ُ
الحق سكرةً ال ُيفيق
ّ إلى بحر الوداد ،ويشرب منه شربةً يسكر بها عن كل ما سوى
منها إال عند المعاينة ،ثم يطير بجناح ال ِه ّمة ،إلى ما ال تدركه أوهام الخالئق .
وقيل للواسطي :أي الطعام أشهى ؟ قال :لُقمةٌ ِمن ِذكر اهلل تعالى ،تُرفَعُ بيد
الخْل ِد ،عند ُحسن ال ّ
ظن باهلل تعالى . اليقين ،من مائدة ُ
21
يخرج أكثر أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا طيباتها المقصودة ُ قال النساج (:)1
المحبة وأنس ِ
ّ سرور المعرفة ،وحالوةُ المّنة ،ولذائ ُذ القُربة ُ ،
ُ ،قيل :وما هي ؟ قال:
.
أن ال ُي ِذ ّل نفسه لغيره ،
أعزه اهلل بمعرفته ْ
ق لمن ّوقال محمد بن واسع ُ :ح َّ
ق لمن أكرمه اهلل بصحبته أن ال يميل وح َّ وح َّ ِ
ق ل َم ْن وااله اهلل بواليته أن يقوم بحقه ُ ، ُ
إلى غيره ،وال يعمل بهوى نفسه .
حباً هلل
تطير به قلوبهم ّ
وقال أبو يزيد :إن في الليل شراباً لقلوب العارفين ُ ،
إن الناظرين إليه ال إلى غيره ذهبوا بصفو ِة الدنيا واآلخرة .
وشوقاً إليه ،أال ّ
التحير ،وهو على ضربين :تحير َوحشة وتحير أقول :وهذا الشراب هو ُّ
ِ
الدهشة للعارفين المشتاقين ،يا دليل الوحش ْة للمطرودين ُّ ،
وتحي ُر َدهشة ُّ ،
فتحي ُر ْ
المتحيرين زدني ُّ
تحيراً.
يقول :العمل الذي يبلغ فيه العبد إلى الغايات هو رؤية التقصير والعجز والضعف (الطبقات الكبرى للشعراني
النساج) ،ألنه خرج إلى الحج ،فأخذه رجل
.)1/136وقيل كان اسمه محمد بن إسماعيل ،وإ نما ُس ّمي (خيراً ّ
على باب الكوفة وقال :أنت عبدي ،وإ سمك خير ،وكان (محمد بن إسماعيل) أسود ،فلم يخالفه ،واستعمله
الخز( ..الرسالة القشيرية .)89
الرجل في نسج ّ
22
الحديث الثالث
[ اإلسالم واإليمان]
أخبرنا العبد الصالح الثقة الشيخ أبو محمد بن عبداهلل بن الحسين بن أحمد بن
الواسطي ،قال :أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن كاتب
ّ اآلمدي
ُّ جعفر
إمالء بجامع واسط ،
ً الوقف بواسط ،قال :أنبأنا أبوالحسن محمد بن علي الرواسي
قال :أنبأنا أبو القاسم عبيداهلل بن تميم ،قال :أنبانا أحمد بن إبراهيم اإلمام ،قال:
أنبأنا علي بن حرب بن زيد بن الحباب ،قال :أنبأنا علي بن َم ْسعدة الباهلي ،قال:
أنبأنا قُتادة ،أنه سمع أنس بن مالك يقول :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
واإليمان في القلب والتقوى ها ُهنا" ،يقولها ثالثاً ويشير بيده إلى
ُ "اإلسالم عالنيةٌ
تقر في القلب ،فتُ ْح ِكم فيه اإليمان ،
()1
صدره صلى اهلل عليه وسلم ،والتقوى التي ُّ
هي روح المعرفة .
أي سادة ،إن اهلل تعالى جعل لكل شيء قَ ْدراً ،ولكل قَ ْد ٍر ّ
حداً ،ولكل حد سبباً
،ولكل سبب أجالً ،ولكل أجل كتاباً ،ولكل كتاب أمراً ،ولكل أمر معنى ،ولكل
معنى صدقاً ،ولكل صدق حقا ،ولكل حق حقيقة ،ولكل حقيقة أهالً ،ولكل أهل
المبطل ،وكل قلب أقعده على بساط تحقي ِ
ق المحق من ُ
ّ ف
عالمة ،فبالعالمة ُي ْع َر ُ
المعرفة ،وقع بسيماء المعرفة على وجهه ،ويظهر أثرها في حركاته وأفعاله
إسناده حسن .ورواه أحمد في المسند (دار الحديث) 10/437برقم 12322والسيوطي في الجامع الصغير ()1
1/474رقم 3060عن ابن أبي شيبة ورمز إلى ضعفه ،وفي الدر المنثور 6/100وصححه في كنز العمال
للهندي (الكتاب األول من حرف الهمزة /حقيقة اإليمان) برقم 44عن أحمد والنسائي وأبي يعلى .وهو في الكنز
أيضاً برقم 19عن ابن أبي شيبة .ورواه الذهبي في ميزان االعتدال 5941والهيثمي في مجمع الزوائد (الفكر)
1/212برقم 160وقال " :رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه ،والبزار باختصار ،ورجاله رجال الصحيح ما خال
وضعفه آخرون".
ّ حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين ،
علي ابن مسعدة ،وقد وثقه ابن ّ
23
يماهم)( ،)1وقال صلى اهلل عليه وسلم " : ِ
وأقواله ،كما قال اهلل تعالى( :تَ ْع ِرفُ ُهم ِبس ْ
أسر سريرة ألبسه اهلل رداءها ،إن خيراً فخير ،وإ ن شراً فشر"(.)2
من َّ
وقيل ليحيى بن معاذ :ما بال العارفين أحسن وجوهاً ،وأكثر هيبةً ِم ْن
غيرهم ؟ فقال :ألنهم خلوا باهلل مستأنسين ،وقربوا إلى اهلل متوجهين ،وفزعوا إليه
متوالهين فكساهم اهلل بنور معرفته ،فيه ينطقون ،وله يعملون ،ومنه يطلبون ،وإ ليه
خواص اهلل السابقون ،سعيهم في طاعة اهلل من غير عالقة ،
ّ يرغبون ،أولئك
قلوبهم له ِ
وجلة ، وينصحون العامة من غير طمع ،مشتاقون منيبون إلى اهلل تعالى ُ ،
مغشية ،وأرواحهم ياسينية ،كلهم
ّ نفوسهم وحشية وقلوبهم َع ْرشية ،وعقولهم
ُ
كر اهلل يحميه من شر الوسواس ،صدره مشروح ، ِ
معصوم بلقبه عن فتنة الناس ،وذ ُ
ٌ
قلبه مثل القنديل ،
وجسمه مطروح ،وقلبه مجروح ،وباب الملكوت له مفتوح ُ ،
وجوارحه خاضعة كالمنديل ،لسانه مشغو ٌل بتالوة القرآن ،ولونه ُمصفٌَّر من خوف
نفسه مشغولةٌ
زاهر بنور اإليمان ُ ،
الهجران ،ونفسه ذائبةٌ في خدمة الرحمن ،وقلبه ٌ
وروحهُ مشغولةٌ بقُرب الرب ،على لسانه وصف الربوبية ،وعلى أركانه ُ بالطلب ،
أثر العبودية ،وفي قلبه هيبة الفردانية ،وفي ِس ِّره
خدمةُ الديمومية ،وعلى نفسه ُ
أفواههُم إليه ضاحكة ،وأعينهمُ الطرب باأللوهية ،وفي روحه شغف الوجدانية ،
ُ
وأسرارهم إليه ناظرة ،
ُ وهمومهم إليه واصلة ،
ُ وقلوبهم به متعلقة ،
ُ نح َوه طامحة ،
ْ
رموا ذنوبهم في بحر التوبة ،وطرحوا طاعاتهم في بحر ِ
المّنة ،وضمائرهم في بحر َ َْ
العظم ،ومرادهم في بحر الصفو ،وهممهم في بحر المحبة ،في ميدان خدمته
يتقلّبون ،وتحت ظالل كرمه
الجامع ألحكام القرآن للقرطبي 13/326وكشف الخفاء (العرفان والغزالي) 2/226برقم 2375وقال ()2
الشيخ إسماعيل العجلوني :رواه ابن أبي الدنيا في اإلخالص عن عثمان رضي اهلل عنه بلفظ :ما من عبد َي ُس ُّر
رده اهلل رداءها عالنية ،إن خيراً فخير ،وإ ن شراً فشر ..قال النجم :وسنده صحيح .
سريرة إال ّ
24
يشمون .ينظرون إلى
يتنفسون ،وفي رياض رحمته يرتَ ُعون ومن رياحين امتنانه ّ
الدنيا بعين االعتبار ،وإ لى اآلخرة بعين االنتظار ،وإ لى أنفسهم بعين االحتقار ،
وإ لى طاعتهم بعين االعتذار ال االستكثار ،وإ لى الغفران بعين االفتقار ،وإ لى
المعرفة بعين االستبشار ،وإ لى المعروف سبحانه بعين االفتخار .يرمون أنفسهم
إلى البلوى ،وأرواحهم إلى العقبى ،وقلوبهم إلى النجوى ،وأسرارهم إلى المولى.
أنفسهم تاركةٌ للدنيا ،وأرواحهم للعقبى ،وقلوبهم مستأنسة بالذكرى ،وأسرارهم
بحب المولى .قلوبهم معدن التعظيم والهيبة ،وألسنتهم معادن الحمد ِ
والم ْدحة ،
وأرواحهم مواطن الشوق والمحبة ،وأنفسهم مقهورة تحت سلطان العقل والفطنة ،
وأكثر همتهم التفكير والعبرة ،وأكثر كالمهم الثناء ِ
والم ْدحة .عملهم الطاعة
فراً من خوف ِ
صّ والخدمة ،ونظرهم إلى لطائف صنع رب الع ّزة .أحدهم تراه ُم ْ
ذائب األطراف من هيبة جالله ،طويل االنتظار شوقاً إلى لقائه ،سلك
فراقه َ ،
طريق المصطفى صلى اهلل عليه وسلم ،ورمى الدنيا خلف القفا ،وأذاق الهوى طعم
الجفا ،وقام على قدم صدق الوفا ،حاله في الدنيا غريب ،وقلبه في صدره غريب ،
وو ْح َشتها ،ما لم يصل إلى
الغ ْربة َ
وسره في نفسه غريب ،فال يستريح من َغ ّم ُ
ُّ
فرداني ،
ّ وجداني ،وقلبه
ّ الحبيب ،فأمره عجيب ،والمولى له طبيب ،وكالمه
صمداني ،وعي ُشه روحاني ،وعمله نوراني ،وحديثه سماوي رباني ،وهمه َوعقله ّ
بحِل ّي ربوبيته ،وأدخله دار
وزينه ُ
.جعل اهلل قلبه موضع سره وموطن نظره ّ ،
عزته ،ويرتع في روضات قُ ْدسه ،ويطير اإلمارة من سلطانه ،يدور بالفؤاد حول ّ
وح ُج ِب جبروته ،لو
بجناح المعرفة في سرادقات غيبه ،ويجول في ميادين قدرته ُ ،
عالمتُه في الدنيا أن يكون
َ رآه الجاهل بشأنه مات فزعاً بعد معرفته له من ساعته .
البالء عنده عسالً ،واألحزان رطباً .وفي اآلخرة كل واحد يقول :نفسي نفسي ،
ُ
ربي ُ ،مرادي مرادي .العارف عالمته أربعة ُّ :
حبهُ الجلي َل ، ربي ّ
وهو يقول ّ :
صب ،
العابد ذو َن َ
ُ باعه التنزيل ،وخوفه من التحويل .
الكثير والقليل ،واتّ ُ
َ وتركه
والخائف ذو َهرب ،والمحب ذو َش َغب ،والعارف ذو طرب .
25
الحديث الرابع
[ ذو الوجهين]
أبو داود :األدب ،باب في ذي الوجهين 4873والهيثمي في موارد الظمآن (مؤسسة الرسالة) 2/879 ()1
26
أي سادة ،اعلموا أن العارفين على أصناف مختلفة ،ومناهج متفاوتة ،
وأنواع متفرقة ،ومناز َل متنوعة ،فمنهم َم ْن عرف اهلل بالقَ ْد ِر
ٍ متلونة ،
ومراتب ّ
َ
فخافه ،ومنهم من عرفه بالفضل فأحسن الظن به ،ومنهم َم ْن عرفه بالمراقبة فاعتقد
الصدق ،ومنهم من عرفه بالعظمة فاعتقد الخشية ،ومنهم َم ْن عرفه بالكفاية فاعتقد
االفتقار إليه ،ومنهم من عرفه بالفرادنية فاعتقد الصَّفوة ،ومنهم َم ْن عرفه به فاعتقد
وو ْجدان حسن الظن على قدر الوصلة ِ ،
فوج َد أن الخوف على قدر عرفان القدرة ُ ،
ُ
ِع ْرفان العظمة ،ووجدان االفتقار على قدر عرفان الكفاية ،ووجدان الصَّفوة على
ِّ
الرب تعالى ،وكذلك أهل قدر عرفان الفردانية ،ووجدان الوصلة على قدر عرفان
والح ْرمة ،ومقام بعضهم
الحياء ُ
ُ السموات في العبادة على مقامات ،فمقام بعضهم
القُربةُ والمؤانسة ،ومقام بعضهم رؤيةُ ِ
المَّنة ،ومقام بعضهم المراقبة ،ومقام َُ ْ
()1
مقام معلوم) ،فأهل المعرفة ِ
بعضهم الهيبة ،كما قال اهلل تعالى ( :وما م ّنا إال له ٌ
عامتُهم يعرفونه على سبيل الخبر في التوحيد عن الصادق األمين ،سيدنا وسيد
َّ
العالمين محمد صلى اهللُ عليه وسلم َّ ،
فصدقوه بقلوبهم وعملوا بأبدانهم ،إال أنهم
َّ
دنسوا أنفسهم بالذنوب والمعاصي ،فعاشوا في الدنيا على الجهل والتقصيرـ ،فهم
وأناس فوقهم يعرفونه بالدالئل ،
ٌ أرحم الراحمين ،
ُ يرحمهم
َ على ٍ
خطر عظيم ،إال أن
والف ْكر ،أيقنوا بالتوحيد من ِقَب ِل الدالئل واآلثار وآيات
وهم أهل النظر والع ْقل ِ
َ
صحة الداللة ،فهم على طريقالربوبية ،استدلوا بالشاهد على الغائب ،واستيقنوا ّ
وخواص أهل
ُّ حسن ،إال ّأنهم عاشوا محجوبين عن اهلل تعالى برؤية دالئلهم ،
متمكنين مع معرفتهم ،الالمعرفة من أولي اليقين ،عرفوه به سبحانه ،فوقفوا ِّ
طفُهم األدلّة ،وال تصرفهم ِ
العلّة ،دليلهم رسول اهلل صلى اهللُ عليه وسلم ، تَ ْخ َ
كمثَ ِل إخوة
مامهم القرآن ،ونورهم يسعى بين أيديهم ،فمن عرفه تعالى بالخبر َ ، وإ ُ
يوسف ،إذ عرفوا لونه وغفلوا عنه حتى افتضحوا بين
( )1
سورة الصفات.164 :
27
كمثَ ِل
َ بالدالئل عرفه ومن ()1
يديه ،حيث( :قالوا إن يسرق فقد سرق أ ٌخ له من قبل)
يعقوب ،إذ عرف أن يوسف ُي َع ُّد في األحياء فازداد ُحزناً وبكاء ،واحتمل ما احتمل
ابيضت عيناه من الحزن ِعْلماً منه بحياته ،وشوقاً إلى لقائه ،
من أنواع البالء ،حتى َّ
ريح يوسف) ،حتى قال (إني ألجد َ
َّسوا من يوسف) ،وقالّ : حتى قال( :اذهبوا فتحس ُ
()3
ف)
يوس َ ِ م ْن غفل عنه ( :قالوا ِ
تاهلل َّإن َك لفي
تفتؤا تذ ُك ُر ُ
ضالل َك القديم) وقالواُ ( :
()2
َ
حين أخذه يوسف لنفسه ،فقال :يا أخي ()4
ومثَ ُل َم ْن عرفه به ،كبنيامين
اآلية َ ،
أمشاهدتي تريد أم الرجوع إلى أبيك؟ قال :بل مشاهدتك أريد ،قال :فإن أردتني
فاصبر على ِم ْحنتي ،قال :نعم أحتمل ألجلك كل بلوى ،أليس أني أبقى معك وال
َّرقة ،حتى عابه أه ُل مصر على الصاع من وعائه ،ونسبه إلى الس ِ
َ أفارقك ،ثم أخرج
فك في ِس ِّره ،ولم َي َخ ْ
مسرور ضاح ٌ
ٌ ذلك والموه ،وشتمه إخوته ،وهو في ذلك كلِّه
من لومة الالئمين ،فهذا َمثَ ُل َم ْن عرفه من أهل اليقين .
وقال شيخ الطائفة اإلمام الحسن البصري( )5رضي اهلل عنه :أهل المعرفة في
ودمه ،وفزع إليها
لحمه َ
الدنيا على ثالث منازل ،رجل لقي العبادة فعانقها وخلط بها َ
وعِل َم أن اهلل تعالى رازقُه وكافيه ،فوثِ َ
ق بوعده فلم يشغل نفسه بشيء من قلبه ً ،
ُ
هو شقيق يوسف بن يعقوب عليهما السالم ،وأمهما راحيل بنت البان (بنت خال يعقوب) وسائر إخوة يوسف ()4
عليه السالم إنما هم إخوته ألبيه فقط ،هكذا ذكر الحافظ ابن كثير في قصص األنبياء (الفكر) .267
الحسن بن يسار البصري ،أبو سعيد 110-21هـ ،من أفضل التابعين وأعلمهم ،كان يقول " :شر الناس ()5
للميت أهله يبكون عليه وال يهون عليهم قضاء َد ْيَنهُ " (طبقات الشعراني .)1/38وكان اإلمام الغزالي يقول" :
كان الحسن البصري أشبه الناس كالماً بكالم األنبياء".
28
واألرض بساطه ،وال يبالي على ُي ٍ
سر أصبح أم َ أمور الدنيا ،جعل السماء سقفه ،
يأتيه اليقين ،فهذا الضرب في الدنيا أعز من على ُعسر ،أمسى يعبد اهلل تعالى حتى َ
الكبريت األحمر .ورجل آخر لم يصبر كما صبر األول ،فطلب ِك ْس َرةً من ِحلِّها(،)1
ُّ
يستعف بها ،وهو يقيم بها صْلبه ِ ،
وخ ْرقة يواري بها عورته ،وبيتاً يسكنه ،وزوجة ُ َُ
مع ذلك شديد الخوف عظيم الرجاء ،فهو على طريق حسن وأما الثالث فإنه ال
القصر المشيد ،ويركب المركب الفَ ِرهَ( ،)2ويستخدم الخدم ،
َ يصدق اهلل بقوله ،فيبني
فليس له في اآلخرة من َخالق( ،)3إال من يرحمه أرحم الراحمين.
( )4ومن أسماء اهلل تعالى :المؤمن ،ألنه سبحانه " منبع كل أمن وتصديق ،فكل َم ْن يدخل في حصنه فهو آمن..
فهو المؤمن من كل خوف "الدكتور ضياءالدين الجماسُّ :
التفكر في األسماء (دار الهجرة ط )1ص 110وما ّ
بعدها".
سورة فاطر .32 ()5
29
والناس في مشهد المعرفة على مرتبتين ،إما في يقظة المعرفة فهم في تربية
ُ
الوالية فينظرون الكرامة ،وإ ما في نوم الفضلة فهم في تربية العداوة ،فهم ينظرون
ص ِم ْن عبيده َم ْن شاء
األمانة ،إال أن يرحمهم أرحم الراحمين .فسبحان َم ْن َخ َّ
وأعطاهم ثم دعاهم إلى نفسه بفضله حيث قال( :وأنيبوا إلى ربكم)( ،)1فأجابوه
بر ْجل الندامة على قدم الحياء ٍ
أصناف شتى ،فالتائبون يمشون ِ وأنابوا إليه ،فهم على
،والزاهدون يمشون برجل التوكل على قدم الرضا ،والخائفون يمشون برجل الهيبة
على قدم الوفاء ،والمحبون يمشون برجل الشوق على قدم الصفاء ،والعارفون
طعام أطعمه اهلل َم ْن شاء من عباده
ٌ يمشون برجل المشاهدة على قدم الفناء ،فالمعرفة
،فمنهم َم ْن يذوقه ذوقاً ،ومنهم َمن يأكل منه بالغاً ،ومنهم َمن يأكل منه َكفافاً ،
ومنهم َمن يأكل ِشَبعاً ،والناس في المعرفة على منازل ،فمنهم من يكون منزله
صر ،ومنهم من يكون منزله ِ ِ
كش ْعب ،ومنهم َمن يكون كقرية ،ومنهم من يكون كم ْ
منها كالدنيا واآلخرة ُ .روي أن النبي عليه الصالة والسالم قال " :إذا كان يوم
مناد أخرجوا ِمن النار َمن قال ال إله إال اهلل وفي قلبه حبة خردل منالقيامة نادى ٍ
()2
اإليمان"
عن أنس رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال :يخرج من النار من قال ال إله إال اهلل وفي قلبه ()2
وزن شعيرة من خير ،ويخرج من النار من قال ال إله إال اهلل وفي قلبه وزن ُب ّرة من خير ،ويخرج من النار من
قال ال إله إال اهلل وفي قلبه وزن َذ ّرة من خير" .قال أبو عبد اهلل (البخاري) :قال أبان :حدثنا قتادة :حدثنا أنس
رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ( :من إيمان) مكان( :من خير) [ البخاري :اإليمان ،باب زيادة
اإليمان ونقصانه ،رقم ،44ومسلم :اإليمان ،باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ]193وعن أبي سعيد الخدري
رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :يخرج ِمن النار َمن كان في قلبه مثقال ذرة من
اإليمان" أخرجه الترمذي (في صفة جهنم ،الباب العاشر ،رقم 2601وقال الترمذي :هذا حديث حسن صحيح)
وفي رواية ذكرها رزين أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :يدخل أهل الجنة الجنة ،وأهل النار النار ،ثم
يقول اهلل :أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان "[جامع األصول البن األثير
(المبارك بن محمد 606-544هـ) (ط 2دار الفكر) 9/357رقم الحديث .]700
30
وقد قال عليه أفضل الصالة والسالم " :اإلحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه( ،)1فإن لم
تكن تراه فإنه يراك" ،وما ذلك إال حقيقة المعرفة ،فيقول لهم الرب تعالى :أنتم
إلي ،وشوقي إليكم ،السالم عليكم عبيدي ،فها أنا
عبيدي حقاً ،فقد طال شوقكم ّ
خلقت الجنة إال من أجلكم ،فلكم اليوم ما شئتم .
ُ حبيبكم ،فبعزتي ما
وحكي أن مالك بن دينار( )2وثابتاً البناني( )3رحمهما اهلل ،دخال على رابعة
ُ
فقالت لمالك :أخبرني لم تعبد ربك؟ قال :شوقاً إلى الجنان ،فقالت لثابت ()4
البصرية
:وأنت يا غالم؟ فقال :خوفاً من النيران ،فقالت :أنت يا مالك مثل أجير السوء ال
يعمل إال طمعاً ،وأنت يا ثابت مثل عبد السوء ،تعمل خوفاً من الضرب ،فقاال:
ِ
وأنت يا رابعة ،فقالت :حباً هلل تعالى ،وشوقاً إليه.
كي أن ذا النون المصري رضي اهلل عنه كان يعظ الناس ذات يوم وهم
وح َ
ُ
فتى؟ فقال ينشد ويقول: يبكون ،وفيهم ٌّ
شاب يضحك ،فقال له :ما لك يا
ويرون النجاة حظاً جزيال كلُّهم يعبدون من خوف ٍ
نار
ٍ
رياض عيونها سلسبيال في فيضحوا
أو بأن يسكنوا الجنان ُ
بحبي بديال
أنا ال أبتغي ّ ليس في الخلد ِ
والجنان هوائي
مسلم :اإليمان ،باب بيان اإليمان واإلسالم واإلحسان 8والترمذي :اإليمان ،باب ما جاء في وصف جبريل ()1
للنبي صلى اهلل عليه وسلم اإلسالم واإليمان 2613وأبو داود في السنة ،باب في القدر 4695والنسائي:
اإليمان ،باب نعت اإلسالم .8/97
مالك بن دينار ،من رواة الحديث ،بصري ورع ،مات سنة 131هـ. ()2
ثابت بن أسد البناني .كان يقول :إن أهل الذكر يجلسون للذكر وعليهم من الذنوب أمثال الجبال ،فيقومون ()3
أحبت (رابعة) ربلمحمد حسني مصطفى ،العصر العباسي األول ،العدد التاسع (رابعة العدوية) ،،وفيه :لقد ّ
واتقاء لعذابه ،حتى لو أنه
ً العالمين جل جالله ،وتجردت لعبادته ،وأيقنت أنه أه ٌل أن ُيعبد،ـ طمعاً برضاه وجنته،
عز وجل ما جعل ثواب المتقين جنة ،وعذاب العاصين النار ،لكان يستحق أن ُيعبد ؛ لجالل وجهه ،وعظيم
ّ
صفاته ،وإ حسانه الذي ال ُي َحد ،وآالئه الغامرة" ({رابعةالعدوية ص )6وهذا يحتاج الذين يتعرضون لهذه الفكرة
إلى دقة بالغة لدى التعبير عنها؛ فإن العالمة أبا العباس أحمد بن زروق يقول تعظيم ما عظم اهلل ُمتعيِّن واحتقار
ذلك ربما كان كفراً [ قواعد التصوف (مكتبة الكليات األزهرية ط.]136 ) 2
31
الحديث الخامس
انصر أخاك]
ْ [
أخبرنا شيخنا الصالح الثقة العارف باهلل القاضي أبو الفضل علي الواسطي
رضي اهلل عنه ،قال :أنبأنا القاضي أبو بكر محمد بن عبدالباقي بن محمد البزاز،
قال :أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي ،قال :أنبأنا أبو محمد بن
عبداهلل بن محمد البزاز ،قال :أنبأنا أبو مسلم إبراهيم بن عبداهلل بن مسلم البصري ،
قال :أنبأنا أبو عبداهلل األنصاري ،قال :حدثنا حميد عن أنس قال :قال رسول صلى
أنص ُرهُ مظلوماً فكيف
اهلل عليه وسلم " :انصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً ،قالُ :
ك إياه"( )1أقول :هذا بشأن أخيك ،
نصر َ
أنصره ظالما ً؟ قال :تمنعه من الظلم فذلك ُ
نفوسكم وامنعوها وازجروها.
فكيف بك بشأنك ،أخيفوا َ
أي سادة ،للعارف أربع أجنحة ،الخوف ،والرجاء ،والمحبة ،والشوق ،
فال هو بجناح الخوف فيستريح من الهرب ،وال بجناح الرجاء فيستريح من الطلب ،
وال بجناح المحبة فيستريح من الطرب ،وال بجناح الشوق فيستريح من الشغب ،
الدمع مما عرفوا
ِ أعي َنهم تفيض من واهلل تعالى َّبي َن في كتابه ْ
نعتَهم بقوله ( :ترى ُ
من الحق)( ،)2وقوله تعالى ( :ال تلهيهم تجارة)( )3اآلية ،وذلك ألن عمل العارف
خالص للمولى ،
ٌ
وهو في صحيح البخاري هكذا :عن أنس رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :انصر ()1
أخاك ظالماً أو مظلوماً قالوا :يا رسول اهلل ،هذا ننصره مظلوماً ،فكيف ننصره ظالماً؟ قال :تأخذ فوق يديه
(البخاري :المظالم ،باب :أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً رقم .)2312وفي رواية" :تحجزه ،أو تمنعه،ـ من الظلم،
فإن ذلك نصره" [ البخاري :اإلكراه ،باب :يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه ،رقم .]6552
سورة المائدة.83 : ()2
32
وسره دائم النجوى ،وفكره
وقوله مستأنس بالذكرى ،ونفسه صابرة في البلوى ّ ،
ٍ
فحينئذ ومرةً يجول حول سرادقات قدسه ،
فمرةً يتفكر في نعم ربه َّ ،
باألفق األعلى َّ ،
طرداً يصير ُح ّراً عبدا ً ،وعبدا ُح ّراً ،وغنياً فقيرا ،وفقيراً غنياً ،هكذا ُّ
يعد ما أمكنه َ
وعكساً من األلفاظ ،مثل الموجود والمعروف ،والعزيز والمسرور ،والقريب
والمحمود ،والناطق والساكت ،والمقبول والخائف ،والشاهد والغائب ،والباكي
والضاحك ،وذلك ألن ضحكه وسروره في حزنه ،وحزنه في سروره ِ ،
وع ُّزه
ممزوج بخوفه ،
ٌ ممزوج برجائه ،ورجاؤه
ٌ مختلطٌ ب ُذلِّه ،و ُذلّه مختلطٌ ِ
بع ِّزه ،وخوفه
يعيش مع الناس ،
ال خوف يذهب برجائه ،وال رجاء يذهب بخوفه ،وهو بنفسه ُ
وبقلبه مع اهلل تعالى ،ال تغلب معاملةُ نفسه مع الناس معاملةَ قلبه مع اهلل تعالى ،
غني ،كما قال أبو يزيد رضي اهلل عنه في مناجاته :إلهي،فقير ّعزيز ذليل ٌ ،
ٌ
قََّيدوني وأوثقوا ِ
الم ْسمــاراـ قلت قد دنا َح ُّل قَيدي
كلّما ُ
وكان يسي ُل الدمعُ من عينيه عند هذه الكلمة ،وليس كل َم ْن ُيرى عليه أثر
أثر الرغبة والحماقة والجنون والبطالة والغفلة.
الزهد فهو زاهد ،وكذلك ُ
إن اهلل تعالى كلما نظر إلى قلب عبد من عبيده بالفضل والرحمة كشف عنه
حجاب الغفلة ،وأظهر له لطائف القدرة ،فعند ذلك البد له من إحدى ثالث ،إما أن
يصير حكيماً يتصل به الخلق إلى اهلل ،وإ ما أن َّ
يكل لسانه فيصير مدهوشاً مبهوتاً ،
وإ ما أن يصير مستوراً في ُح ُجبِه ،محفوظاً في قبضته ،حتى ال يراه غيره لشدة
غيرته عليه ،فسبحان من حجب أهل معرفته عن جميع خلقه ،حجبهم عن أبناء
الدنيا بأستار اآلخرة ،وعن أبناء اآلخرة بأستار الدنيا ،وذلك أن أهل المعرفة
عرائس اهلل تعالى في أرضه ،واهلل َم ْح َر ُمهُم ،ال َم ْح َر َم لهم غيره ،فهم عند اهلل
مخدورون.
وقد روي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه السالم :يا داود أوليائي في قباب
ال يعرفهم إال أوليائي ،فطوبى ألوليائي ،ثم طوبى ألحبائي ،يقال :لو بدت َذ َّرةٌ من
نور النبي عليه الصالة والسالم الحترق ما بين العرش إلى الثرى.
33
قيل لرابعة :ما كمال حال العارف ؟ قالت :احتراقُهُ بحبه لربه ،وعالمته أن
وبالمكو ِن عن الكون ،مستغرقاً في بحار
ِّ بالمعطي عن العطاء ،
يكون مستغنياً ُ
سرور ِو ْجدانِه ،ساكناً بقلبه معه ،مع ترك كل اختيار لنفسه ،وال يجزع عند الشدائد
والبلوى لرؤيته ،ويعلم أن اهلل تعالى أقرب إليه من كل شيء ،وأرحم عليه من كل
وأكبر من كل شيء ،وأن لكل شيء خلفاً ما خال اهلل تعالى. ُ أحد ُّ ،
وأعز
الحبيب ِم ْن َخلَ ْ
ف ِ وما لف ْق ِد ف ٍ
شيء عدمتُ ُه َخلَ ْ ِّ
لكل
ميز الخواطر النفسية من الخواطر الروحية ،
وإ نما ُيعرف العارف ،إذا ّ
الس ْفلية ،فمن ُر ِز َ
ق التوفيق إلى ُخ َر ِوّية ،والهمم ُ
العْلوية من ُّ واإلرادة الدنيوية من األ ْ
حفظ حدود صدق وفاء العبودية ،والقيام بشروطها ،ووجد السبي َل إلى طريق حفظ
ِ
النفس فيصير مع
ُ تحقيقها ،ثم قام بذكره ،و َذ َك َر ِذ ْك َره ،ثم شكره ،و َش َك َر ُش ْك َرهُ ،
ق بال خلق. الخْل ِ
بال نفس ،ومع الروح بال روح ،ومع َ
كما قال اإلمام ابن عباس رضي اهلل عنهما :بلغنا أن عيسى ويحيى عليهما
الصالة والسالم بينما كانا يسيران في بعض الطُُرق ،فصدم يحيى امرأة ،فقال له
عيسى :يا بن خالتي ،لقد أصبت اليوم ذنباً عظيماً ،قال :ما هو؟ قال :امرأة
نفسك معي ،
شعرت بها ،فقال عيسى :سبحان اهلل ُ
ُ صدمتَها ،قال يحيى :واهلل ما
قلبك وروحك ؟ فقال :عند اهلل ،يا عيسى لو سكن قلبي إلى جبريل ،أو إلى
فأين ُ
عرفت اهلل َّ
حق معرفته. ُ لظننت ّأني ما
ُ أحد غير اهلل طرفةَ عين ،
وقيل :المعرفةُ خمسة أحرف ،فمن وجد في نفسه معناها فليعلم أنه من أهلها
ك نفسه ،وبالعين عب َداهلل على ِ
ص ْدق الوفاء ،وبالراء رغب إلى اهلل ََ ،بالميم َملَ َ َ
فوض أمره إلى اهلل ،وبالهاء هرب من كل ما دون اهلل إلى اهلل ،فكل بال ُكلّية ،وبالفاء ّ
قدرويعبد ربه على ْ
ُ عارف يملك نفسه بقدر معرفته بكبريائه تعالى وعظمته ،
ويفوض أمره إليه
معرفته بربوبيته ،ويرغب إليه على قدر معرفته بفضله وامتنانه ِّ ،
على قدر معرفته بقدرته ،ويهرب إليه على قدر معرفته بملكه وسلطانه ،فهو
عارف.
34
الحديث السادس
[ استجابة الدعوة]
()1
( وهو معكم أين ما كنتم)
هو أبوعبيد مولى ابن أزهر (البخاري (الخدمات الطباعية) .)5/2335 ()1
( )2البخاري :الدعوات ،باب :يستجاب للعبد ما لم َي ْع َج ْل 5981ومسلم :الذكر والدعاء والتوبة ،باب بيان أنه
ُيستجاب للداعي ما لم يعجل .2735
سورة مريم .41 ()3
إحياء علوم الدين (المعرفة) ،2/231قال الحافظ العراقي :ليس له أصل في الحديث المرفوع ،وإ نما هو من ()5
قول سفيان بن عيينة ،كذا رواه ابن الجوزي في مقدمة صفة الصفوة =
35
ت
بيت المقدس فأضلَْل ُ
قصدت َ
ُ ُح ِك َي أن عبدالواحد بن زيد( )2رحمه اهلل قال:
فقلت لها :يا غريبة ،أنت ضالَّة؟ قالت :كيف يكونإلي ُ طريقي ،فإذا بامرأة أقبلت َّ
غريباً َم ْن يعرفه ،وكيف يكون ضاالً من ُي ِحُّبهُ ،ثم قالت :خذ رأس عصاي َّ
وتقدم
رأس عصاها ،ومشيت بين يديها سبعة أقدام أقل أو أكثر، فأخذت َ
ُ يدي مشيا ً،
بين َّ
كت عيني ،قلت :لعل هذا غلط مني ،فقالت :يا فإذا أنا في مسجد بيت المقدس ،فدلَّ ُ
والعارف يطير ،
ُ هذا سيرك سير الزاهدين ،وسيري سير العارفين ،فالزاهد يسير ،
وأنى يلحق السََّّي ُار الطََّّي َار؟ ثم غابت فلم أرها بعدها.
َّ
البحر ،إذ انكسرت
قال أبو عمران الواسطي رحمه اهلل :كنت راكباً َ
(= [ المغني (بهامش اإلحياء) ] 2/231وإ تحاف السادة المتقين ،6/350وأسنى المطالب 140وفيه:
"حديث" "عند ذكر أهل الصالح تنزل الرحمة" :ال أصل له .قال العراقي وابن حجر :قيل :هو من كالم
ابن عيينة" .وكشف الخفاء 2/70برقم 1772وفيه" :قال الحافظ ابن حجر :ال أصل له ..لكن قال ابن
الصالح في علوم الحديث :روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن مجيد أنه ساير أبا جعفر أحمد بن حمدان ،
وكانا عبدين صالحين ،فقال له :بأي نية أكتب الحديث؟ فقال :ألستم (ترون) أن عند ذكر الصالحين
تنزل الرحمة؟ قال :بلى .قال :فرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رئيس الصالحين .انتهى.ـ قال القاري:
لكن اللفظ إن كان (تروون)ـ بواوين ،من الرواية ،فيدل في الجملة على أنه حديث ،وله أصل ،وإ ن كان
(ترون) من الرؤية ،مجهوالً (أي بضم التاء) أو معلوماً (بفتحها) فال داللة فيه .وقال الزمخشري في
الع َش َرة :ورد في صحيح اآلثار المسندة عن العلماء الكبار أن رسول اهلل صلى
خطبة رسالة في فضائل َ
اهلل عليه وسلم قال :عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة" وهو في الفوائد المجموعة للشوكاني (السُّّنة
المحمدية) 508واألسرار المرفوعة لعلي القاري (الرسالة) ( 249موسوعة أطراف الحديث )5/499
وأورده محمد طاهر الهندي الفتني في تذكرة الموضوعات 193باب فضل األولياء واألبدال.
()1
سورة الحديد .4
()2
أدرك الحسن البصري (الطبقات الكبرى للشعراني .)1/60
36
فرفعت رأسي إلى
ُ وبقيت أنا وامرأتي ،فولدت ولداً ،فأرادت الماء ،
ُ السفينة ،
ٍ
ياقوتة حمراء في سلسلة جالس على الهواء ،وفي يده ركوة من
السماء ،فإذا رج ٌل ٌ
تركت هواي ،فأجلسني في الهواء.ُ من ذهب ،وقال :خ ْذ ،فسألته عن ذلك ،فقال:
صنعت حين
َ وح ِك َي أن عبدالواحد بن يزيد قال :ألبي عاصم الربعي :كيف ُ
فصرت
ُ الح َّجاج ؟ قال :كنت في بيتي فوقفوا على الباب ليدخل َّ
علي الرسو ُل طلبك َ
فنظرت فإذا أنا علي ِ
جبل أبي ُ قدماً أو أكثر ،
وجرتني َ
بيد أخذت بيدي َّ مدهوشاً ،فإذا ٍ
قبيس.
براع فقلت له :هل
مررت ٍ
ُ قال: عنه اهلل رضي ()1
وح ِك َي أن إبراهيم بن أدهم
ُ
عندك ُشربةً من الماء أو من اللبن؟ قالُّ :أيهما ُّ
أحب إليك؟ قلت :الماء ،قال :فضرب
فشربت منه وهو أبرد من
ُ ع فيه ،فانبجس من الماء ،
صد َ
صلداً ال ْ
بعصاه حجراً َ
وبقيت متعجباً ،فقال الراعي :ال تتعجب فإن العبد إذا
ُ الثلج ،وأحلى من العسل ،
أطاع اهلل أطاعه ُّ
كل شيء.
َسلَّةٌ معلقة في بيتها ،فكلما أرادت الطعام ،ضربت ()2
وكانت لرابعة البصرية
فوجدت فيها أي الطعام شاءت.
ْ بيدها إلى السلة
سلمان الفارسي )رضي اهلل
ُ وقال شيخ الطائفة الحسن()3رضي اهلل عنه :خرج
ٍ
بظباء تسير في الصحراء ،وطيور تطير في عنه من المدائن ومعه ضيف ،فإذا
ضيف أحب إكرامه،
ٌ وطير سمينان ،فقد جاءني
ٌ ظبي
الهواء ،فقال سلمان :ليأتني ٌ
تتعجب
ُ الطير في الهواء ،قالَ :أو
َ فجاء كالهما ،فقال الرجل سبحان الذي َّ
سخر لك
رأيت عبداً أطاع اهلل فعصاه اهلل.
َ من هذا؟ هل
إبراهيم بن أدهم التميمي البلخي أبو إسحاق ،توفي سنة 161هـ. ()1
37
قال عبد الواحد بن زيد :بينما أنا وأيوب السختياني( )1نسير في طريق الشام،
ربك؟ قال :ألمثلي
أسود َمن ُ
ُ بأسود أقبل إلينا يحمل كارة حطب ،فقلت :يا
َ فإذا نحن
حول هذا الحطب ذهباً ،فإذا هو ذهب
تقول هذا ،فرفع رأسه إلى السماء ،وقال :إلهي ِّ
،ثم قال :أرأيتم هذا؟ قلنا :نعم ،قال :اللهم ُر َّده حطباً ،فصار كما كان أوالً ،ثم قال:
واستحييت
ُ بقيت َخ ِجالً من العبد،
َسلُوا فإن العارفين ال تفنى عجائبهم ،فقال أيوبُ :
شيء من الطعام؟
ٌ ك
أم َع َ
حياء ما استحييت مثله من قبل ذلك من أحد قط ،ثم قلتَ :
منه ً
جام( )2فيها عسل ،أشد بياضاً من الثلج ،وأطيب ريحاً منقال :فأشار فإذا بين أيدينا ٌ
المسك ،قال :كلوا فواهلل الذي ال إله إال هو ليس هذا من بطن النحل ،فأكلنا فما رأينا
تعجب من اآليات ،ومن تعجب فهو ٍ
بعارف من ّ شيئاً أحلى منهَّ ،
فتعجبنا ،فقال :ليس
بعيد من اهلل ،ومن عبده على رؤية اآليات فهو جاهل باهلل.
وأردت التلبية ،فأخذت
ُ كنت حاجاً
األسود ،ما أعرفَه باهلل .وقد ُ
َ رحم اهلل ذلك
منديالً لي فغسلته ،وقطعته نصفين ،ثم اتزرت بنصف ،وارتديت بنصف آخر لحاجة،
فغمضت عيني
ُ فنظرت فإذا الباديةُ فضةٌ كلُّها،
ُ فإذا بهاتف يهتف :انظر ما بين يديك،
ٍ
إرادة سواك. ومضيت ،وقلت :اللهم إني أعوذ بك من كل
وحكي أن رجالً من العارفين فرغ من أعمال الحج وأركانه ،ثم أخذ ُيحرم
مرة أخرى ،وقال :لبيك اللهم لبيك ،فقيل له :يا هذا ،إن وقت الحج والتلبية قد مضى،
أحرمت من الوطن إلى زيارة البيت ،واآلن أحرمت من البيت إلى صاحب
ُ فقال :قد
البيت ،فقيل هنيئاً لمن أحرم عن غيره.
38
أسير على شاطئ الدجلة فإذا
ُ كنت
ُ قال: اهلل رحمه ()1
حيان
وحكي أن هرم بن ّ
ُ
إلي وعليه سيما العارفين ،فسلمت عليه فقلت له :كيف حالك وشأنك؟ أنا ُ ٍ
برجل أقبل ّ
اشتغل بما يعنيك،
ْ حيان ()2
فقال( :سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعوال) يا هرم بن ّ
واسم أبي ،وما رأيتك قبل اليوم؟ فقال :أما ِ
عرفت اسمي ََ أين
فقلت :رحمك اهلل من َ
فتعجبت من حسن
ُ بعضهم بعضاً بنور المعرفة ،قال: عرفت َّ
أن العارفين يتعارف ُ َ
رت من هيبته. فصاحتهَّ ،
وتحي ُ
والناس يصيحون، ٍ
بقرية وقال ذو النون رضي اهلل عنه :بينما أنا أسير فإذا أنا
ُ
قدر اهلل ،وال
إلي وقال :يا ذا النون اعرف َ
أسود يسخرون به ،فرفع رأسه ّ ُ فدنوت فإذا
ُ
فسألت عن حاله ،قيل إنه مجنون ال
ُ يم ُّن على الحبيب،
الحبيب ال ُ
َ تم َّن على اهلل ،فإن
ُ
يجالس الناس ،وال يأك ُل في أربعين يوماً إال أكلةً واحدة ،ثم نظر إلى السماء وقال :يا
ك فبمواهبك ،وإ ن شكرتك فبعصمتك. غايةَ ِه َمم العارفين ،إن عرفتُ َ
أسير على شاطئ النيل فإذا أنا بجارية منطلقة
وقال ذو النون أيضاً :بينما أنا ُ
في النيل ،وقد اضطربت أمواجه ،وتقول :إلهي ترى ما تفعل بي ،فقلت :يا جارية
شكرت أنت الذي إذا
ين منه وهو صاحب كل َبٍّر وفاجر ،فقالت :يا ذا النون َ ِ
َ أتشك َ
طت عليه ،قلت :يا جارية ،من أين عرفت اسمي وما سخ َ سخطت ِ
َ شكرت منه ،وإ ذا
َ
للوحدة؟ قالت: رأيتِني؟ فقالت :عرفتك بنور معرفة ّ
الجبار ،فقلت لها :اتجدين وحشةً َ
مؤنس األبرار في
ُ ط إلى غيره ،فإنه
نور قلبي بنور معرفته ،ما سكن قلبي ق ّال والذي َّ
وصاحب الغرباء في الفلوات.
ُ الخلوات،
العارف الواسطي رحمه اهلل :بينما أنا أمشي في البادية ،إذ
ُ جد والدتيوقال ُّ
علي السالم وأبي أن أكلِّمه، َّ
مت عليه ،فرد ّ أعرابي جالس منفرداً ،فدنوت منه وسلّ ُ
ّ
شفاء القلوب.
ذكر اهلل ُ
اشتغل بذكر اهلل فإن َ
ْ فقال:
39
ناظر
ثم قال :كيف يتفرغ ابن آدم من ذكره وخدمته ،والموت في أثره ،واهلل ٌ
إليه؟ ثم بكى وبكيت معه ،فقلت له :ما لي أراك فريداً وحيداً؟ قال :ما أنا بوحيد واهلل
معي ،وما أنا بفريد واهلل مؤانسي ،ثم قام ومضى مسرعاً ،وهو يقول :سيدي ،أكثر
ض عن جميع ما فات ،يا صاحب كل خلقك مشغولون عنك بغيرك ،وأنت ِع َو ٌ
إلى
يم ُّر وأنا أتبعه ،ثم أقبل َّ
غريب ،ويا مؤنس كل وحيد ،ويا مأوى كل فريد ،وجعل ُ
ارجع عافاك اهلل إلى من هو خير لك مني ،وال تشغلني عمن هو خير لي منك،
ْ وقال:
ثم غاب عن بصري.
ٍ
براهب فسألته :منذ كم أنت في هذا مررت
ُ وحكي أن عبدالواحد بن زيد قال:
ُ
المكان؟ فقال :منذ أربع وعشرين سنة ،قلت :من أنيسك؟ قال :الفرد الصمد ،قلت:
من المخلوقين؟ قال :الوحش ،قلت ،فما طعامك؟ قال :ذكر اهلل ،قلتِ :م َن المأكول،
قال :ثمار هذه األشجار ،ونبات األرض ،فقلت :أما تشتاق إلى أحد؟ قال :نعم إلى
حبيب قلوب العارفين ،قلت :إلى المخلوقين ،قالَ :من كان شوقه إلى اهلل فكيف يشتاقِ
الخْلق؟ قال :ألنهم َس َّراق العقول ،وقُطّاع طريق
اعتزلت عن َ
َ إلى غيره ،قلتِ :فل َم
الهدى ،قلت :ومتى يعرف العبد طريق الهدى؟ قال :إذا هرب إلى ربه من كل ما
سواه ،واشتغل بذكره عن كل َمن سواه.
فسلمت عليه ،فقال :وعليك
ُ
()1
قال هرم بن حيان :رأيت أويس بن عامر
السالم يا َه ِر ُم بن حيان ،فقلت :كيف عر ْف َ
ت اسمي واسم أبي؟ قالَ :ع َرفَت روحي
روحك بنور معرفة ربي ،قلت :إني أحبك في اهلل ،قال :ما أظن أن أحداً يحب غير
َ
اهلل فكيف يحب غير اهلل هلل ،قلت :أريد الصحبة معك ،واألنس بك ،قال :ما ظننت
عارفاً يستوحش عن اهلل حتى يستأنس بغيره ،قلت :أوصني ،قال :أوصيك باهلل
ض عن كل ما فاتك. سبحانه ،فإنه ِع َو ٌ
40
كنت أسير في بعض المفاوز ،فإذا أنا برجل ُمتَِّزر
وقال ذو النون المصريُ :
علي السالم ،ثم قال :من أين الفتى؟ قلت:
فسلمت عليه فرد ّ
ُ بحشيش ،مرتد بحشيش،
والعقبى،
من مصر ،قال :إلى أين؟ قلت :أطلب األنس بالمولى ،قال :اترك الدنيا ُ
كالم صحيحَّ ،
صح ْحهُ لي ،قال ،أتتهمنا فيما نقول ،وقد يصح لك الطلب ،قلت :هذا ٌ
أُعطينا خيراً مما نقول ،وهو المعرفة ،قلت :ما أتهمك ،ولكني أريد أن تزيدني نوراً
على نور ،فقال :يا ذا النون ،انظر فوقك ،فإذا السماء واألرض كأنهما ذهب يتوقد
ويتألأل ،قال :اغضض بصرك ،فصارتا كما كانتا ،فقلت :كيف السبيل إلى هذا؟ قال:
تفرد بالفرد إن كنت له عبداً.
َّ
دخلت دار المجانين يوماً بالشام ،فرأيت
ُ وقال محمد المقدسي( )1رحمه اهلل:
فيها شاباً على رقبته ُغ ٌل ،وعلى رجليه قَيد ،مشدود بالسلسلة ،فلما وقع بصره
علي ،قال لي :يا محمد أترى ما فعل بي ،وأشار بطرفه نحو السماء ،ثم قال: ّ
جعلت السموات غالً على عنقي ،واألرضين َ جعلتك رسوالً إليه أن تقول له :لو
ُّ
التفت منك إلى غيرك طرفة عين ،ثم أنشأ يقول: قيداً على رجلي ،ما
ب
َمن عادته القُْر ُ يصبر
ُ عدك ال
على ُب َ
بالح ُّ وال يقوى على ِ
َّم ُه ُ
َمن تي َ قطع َك
القلب
ُ فقد أبصر َك ين
الع ُ
إذا لم تََر َك َ
يلقب بطاهر" ،وهو من أجلة مشايخ الشام سماه الشبلي" حبر الشام" (الشعراني .)1/133 ()1
41
الحديث السابع
ُخر مكروهات]
[ ثالثة مرضيات ،وثالثة أ ُ
حدثنا شيخنا المقري اإلمام الصالح القاضي أبو الفضل علي الواسطي القرشي
رضي اهلل عنه :قال :قرأت أنا وسديد الدولة محمد بن عبدالكريم بن إبراهيم بن عبد
الكريم بن عبدالقاهر بن زيد بن رفاعة الشيباني ويعرف بابن األنباري على أبي
عبداهلل بن أحمد ابن عمر الحافظ قلنا :أنباك أبوالحسين أحمد بن محمد فأقر به قال:
أنبأنا الحسين محمد ابن عبداهلل الدقاق عن يحيى بن محمد إسحاق بن شاهين عن خالد
بن عبداهلل عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :إن اهلل تعالى عز وجل يرضى لكم ثالثاً ويكره لكم
ثالثاً ،يرضى لكم أن تعبدوه وال تشركوا به شيئاً ،وأن تعتصموا بحبل اهلل جميعاً وال
أمركم ،ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ِ
تفرقوا ،وأن تُناصحوا من والّه اهلل َ
()1
وإ ضاعة المال"
وفي هذا الحديث الشريف من رقائق أحكام المعرفة باهلل ،ما يكفي العارف
عن غيره ،فإن األسرار المطلوبة فيه هي سلم المصطفَين األخيار إلى اهلل تعالى.
أي سادة ،إن هلل تعالى عباداً اصطفاهم لمعرفته ،وخصهم بمحبته ،واختارهم
وحرضهم على ذكره ،وأنطقهم
وقربهم لمناجاتهّ ،
لصحبته ،واجتباهم لمؤانستهّ ،
الموطأ :الجامع ،باب جامع الكالم ،2089وأحمد (مسند أبي هريرة رضي اهلل عنه) 8785والبخاري في ()1
األدب المفرد :السرف في المال ،برقم 442وفي صحيحه :الزكاة ،باب قول اهلل تعالى (ال يسألون الناس إلحافاً)
(سورة البقرة )273رقم 1407واالستقراض ،باب :ما ينهى عن إضاعة المال 2277واألدب ،باب :عقوق
الوالدين من الكبائر 5630ومسلم :األقضية ،باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة .1715ورواه
السيوطي عن أحمد ومسلم (كنز العمال لعلي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري (الرسالة) 15/824رقم
.)43275
42
بحكمته ،وأذاقهم من كأس محبته ،وفضلهم على جميع خلقه حتى لم يريدوا به بدالً،
وال سواه كفيالً ،وال دونه ناصراً ومعيناً ووكيالً ،ولقد سبقوا َمن دونهم َسبقاً ال بكثرة
األعمال ،ولكن بصحة اإلرادات ،وحسن اليقين ،مع دقائق الورع ،واالنقطاع بالقلب
إليه ،وتصفية السر عن كل ما دون الحق ،فأذاقهم اهلل طعم لُباب معرفته ،وأنزلهم في
حظيرة قدسه ،ال يصبرون عن ذكره ،وال يشبعون من بِِّره ،وال يستريحون لغيره،
طراً ،بهم يحفظ اهلل محبته ،حتى
فيا طوبى لهم ،هم األقلون عدداً ،واألعظمون َخ َ
يؤدوها إلى نظرائهم ،فيا طوبى لهم ،هم الزاهدون فيما رغب فيه الغافلون،
والمستأنسون فيما استوحش منه الجاهلون ،والمشتاقون إلى ما هرب عنه الساهون،
أرواحهم في الملكوت،
ُ وجالت
ْ هم الذين نظروا بأعين القلوب ،إلى ُح ُج ِب الغيوب،
وس ُّرهم عند ربهم ،به يستمعون ،وبه ينظرون ،وبه يريدون ،وبهفَ ِه َّمتُهم في ِس ِّرهمِ ،
ُ
يتحركون ،قلوبهم بحبها مستأنسة بأنسها.
قال أبو يزيد رحمه اهلل :الناس يصيحون من إبليس ،وهو يصيح مني ،قيل له:
كيف هذا والمصطفىـ عليه السالم كان مأموراً بالصياح منه ،في قوله تعالى( :وقل
رب أعوذ بك من همزات الشيطين)(.)1
قال :ألن اهلل تعالى أمره في هذه اآلية باالعتصام به ،وتفويض األمر إليه،
ق بين الصياح من إبليس ،وبين االعتصام باهلل ،وقد قال اهلل تعالى( :إن عبادي
وفَ ْر ٌ
ليس لك عليهم سلطان)(.)2
قال ذو النون :للعارف نار ونور ،نار الخشية ،ونور المعرفة ،فظاهره
محترق بنار الخشية ،وباطنه ُمَن َّوٌر بنور المعرفة ،فالدنيا تبكي بعين الفناء عليه،
واآلخرة تضحك بِ َس ِّن البقاء إليه ،فكيف يقدر الشيطان أن يدنو منه ظاهراً وباطناً
()3
إال
(َ )3س ّن :وضع .إذا مات العبد الصالح بكت عليه السماء واألرض ،وفرحت الحور العين له ،والمالئكة ،لتخلّصه
بالسالمة من دنياه ،واستبشارا بسعادته في أخراه التي جعلها اهلل تعالى هي دار الخلود والبقاء.
43
العين ،أحرقته نار ِ ِ
عارض من قَبل َ
ٌ كالبرق الخاطف ،أو كالريح العاصف( ،)1فإن أتاه
الع ْبرة ،وإ ن أتاه ِمن قبل النفس ،أحرقته نار الخدمة ،وإ ن أتاه من قبل العقل ،أحرقته
َ
نار الفكرة ،وإ ن أتاه من قبل القلب ،أحرقته نار الشوق والمحبة ،وإ ن أتاه من قبل
السر ،أحرقته نار القرب والمشاهدة ،فتارةً يحترق قلبه بنار الخشية ،وتارة يتشفى
بنور المعرفة ،فإذا امتزجت نار الخشية ونور المعرفة ،هاجت ريح اللطف من
سرادقات األنس والقُربة ،فيظهر صفاء الحق للعبد ،فتراها تالشت األنانية ،وبقيت
األلوهية كما هو في األزل.
قال أبو سليمان(ُ :)2يفتح للعارف وهو نائم على فراشه ،ما ال يفتح لغيره وهو
في صالته.
قال أبو يزيد رحمه اهلل :أدنى مقامات العارف أن يمر على الماء ،ويطير في
يلتفت إلى َمن سواه.
َ الهواء ،وأعالها أن يمر على الدارين من غير أن
قال أبو بكر الواسطي رحمه اهلل :دوران العارف مع محبوبه على أربعة
أوجه :سرور المعرفة ،وهو ممزوج برؤية حسن العناية ،وحالوة الخدمة ،وهو
ممزوج بذكر ِ
المّنة ،وأنس الصحبة ،وهو ممزوج بلذائذ القربة ،وخوف المفارقة،
وهو ممزوج بتحقيق كمال القدرة ،وقال ذو النون :العارف بين البر والذكر ،ال اهللُ
يمل من بِِّره ،وال العارف يشبع من ذكره.
سئل بعضهم عن قوله تعالى (وأنه هو أضحك وأبكى)( ،)3فقال :أضحك
العارفين بسرور معرفته ثم أبكاهم من خوف مفارقته ،وأمات من شاء
أبو سليمان الداراني :عبد الرحمن بن عطية مات سنة 285وقيل 215هـ (جامع كرامات األولياء (دار الفكر ()2
– بيروت) ]1/144وأظنه هو المراد ،وثمة أبو سليمان :داود بن نصير الطائي ،مات سنة 162هـ (المصدر
نفسه )1/63والداراني أشهر.
سورة النجم.43 : ()3
44
صلَتِه ،ليعلم الخالئق أنه فعال لما يريد.
بسيف قطيعته ،أوحيى من شاء بروح َو ْ
وقيل لعائشة رضي اهلل عنها :كيف يحاسب المؤمنون العارفون؟ فقالت :ليس
مع العارفين حساب ،ولكن معهم عتاب.
وروي أن سليمان عليه الصالة والسالم نظر إلى مملكته يوماً ،فأمر اهلل
علي ثوبي ،فقال الريحُ ،ر َّد قلبك
تعالى الريح حتى كشف عورته ،فقال للريحُ ،ر َّد َّ
إلى مكانه ،فطوبى ألهل المعرفة ،عرفهم أنفسهم قبل أن يعرفوه ،وأكرمهم قبل أن
يعرفوا الكرامة ،أولئك أقوام أنفسهم روحانية ،وقلوبهم سماوية ،وهمومهم مر ِ
ضَّية، َْ
وأعينهم دامعة ،عقلوا فعلموا ،ووجدوا فرحلوا ،وانفتح لهم
ُ وصدورهم َج ِزعة ،وقلوبهم خائفة،
نور القلب.
ِ
األزمان ِ
سالف إختارهم( )1من لنفس ِه
ون ِ طفَ َ
صَ
َ قوم ُم ْ
هلل ٌ
ِ
وبيان فيهم ودائع ِح ٍ
كمة قبل ِفطر ِة َخ ِ
لق ِهم اختارهم من ِ
ُ َ
( )1
قطع همزة الوصل لضرورة الشعر.
45
الحديث الثامن
[ الحياء من اإليمان ]
أخبرنا الشيخ صالح الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان ،قال:
أنبأنا أبو عبداهلل مالك بن أحمد بن علي المالكي ،قال :أنبأنا أبو الحسن أحمد ابن
محمد بن موسى القرشي ،قال :أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبدالصمد الهاشمي ،قال:
أنبأنا أبومصعب أحمد بن أبي بكر الزهري ،عن مالك ،عن ابن شهاب الزهري ،عن
سالم ،عن أبيه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مر على رجل وهو يعظ أخاه في
والحياء الذي ()1
الحياء ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :الحياء من اإليمان"
يشمل الوجه من الناس ،أنموذج عن الحياء الذي يشمل القلب من اهلل تعالى ،والحياء
ط ْو ُر العارفين باهلل سبحانه وتعالى،
الشامل للوجه وللقلب ،هو من اإليمان باهلل وهو َ
خزائن اهلل في أرضه،
ُ الذي جعل قلوبهم َع ْيَبةَ أسراره( ،)2وكذلك فإن قلوب العارفين
وضع فيها ودائع سره ،ولطائف حكمته ،ودقائق محبته ،وأنوار علمه ،وإ مامةَ
معرفته ،فكالمهم هو الكشف عما يشاهد القلب ،وإ ظهار علوم السر ،وبيان معاملة
تميز االنفصال عن االتصال ،وبيان األسباب الشاغلة عن الحق ،من
الضمير ،من ّ
األسباب الداعية إلى الحق ،أما الداعي إلى الخلق فالدنيا والنفس والخلق ،وأما الداعي
صحيح .رواه الموطأ :الجامع ،باب ما جاء في الحياء 1890ومسند أحمد( :حديث ابن عمر رضي اهلل ()1
عنهما) 4554وحديث أبي هريرة رضي اهلل عنه (صحيفة وهب بن منبه) 10460والبخاري :اإليمان ،باب:
الحياء من اإليمان 24واألدب ،باب :الحياء 5767وأخرجه في األدب المفرد 602ومسلم :اإليمان ،باب بيان
عدد شعب اإليمان وأفضلها وأدناها ،وفضيلة الحياء ،وكونه من اإليمان .36
( " )2ومن المستعار :هو عَيبة فالن إذا كان موضع سره ،وعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" :األنصار َك ِرشي
وعيبتي " أي أضع فيهم أسراري [ "..الزمخشري :أساس البالغة (دار المعرفة) .]318
46
"م ْن عرف نفسه عرف به"( ،)1يعني
إلى الحق فالعقل واليقين والمعرفة ،كما وردَ :
من عرف ما لنفسه ،عرف ما لربه ،وكالمهم يدور على خمسة أوجه ،به وله ومنه
وإ ليه وعليه ،وليس في كالمهم أنا وإ ني ونحن ولي وبي ألن ألفاظهم فردانية،
وحركاتهم صمدانية ،وأخالقهم ربانية ،وإ رادتهم وحدانية ،ال يعرف إشارتهم إال َم ْن
له قلب حريق ،فيه خزائن األسرار ،وجواهر القدس ،وس ِ
رادقات األنوار ،وبحار ُ
الوداد ،ومفاتيح الغيب ،وأودية الشوق ،ورياض األنس ،فكلما أبرز العارف لسان
الحكمة من ينبوع المعرفة بإشارات استأنس بها قلوب المريدين والمشتاقين.
قال يحيى بن معاذ :القلوب كالقدور ،ومغارفها األلسن ،فكل ٍ
لسان يغرف لك
ما في قلبه.
وقيل ألبي بكر الواسطي ما تقول في كالم أهل المعرفة؟ فقال :إن َمثَ َل
المعرفة ،كمثل سراج في قنديل ،والقنديل معلق في بيت ،فما دام السراج في البيت،
يكون البيت مضيئاً ،وربما يفتح الباب فيقع ضوء السراج خارج البيت ويضيء.
كالم أهل المعرفة يقع ضياؤه على قلوب أهل النور فتصير أعينهم دامعة،
وألسنتهم ذاكرة .يقول اهلل تعالى( :وإ ذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول)( ،)2اآلية ،مثل
نفس العارف كمثل البيت ،ومثل قلبه كمثل القنديلُ ،د ْهُنهُ من اليقين ،وماؤه
الحاوي للفتاوي للسيوطي (السعادة) 2/412وكشف الخفاء (دار التراث) 2/362واألسرار المرفوعة لعلي ()1
القاري (الرسالة) 351والدرر المنتثرة في األحاديث المشتهرة للسيوطي (الحلبي) ( 152موسوعة اطراف
الحديث (ط )8/395 )1والمقاصد الحسنة للسخاوي ،419وأسنى المطالب للبيروتي (مطبعة مصطفى البابي
الحلبي بمصر) ص 214وفيه" :حديث( :من عرف نفسه فقد عرف ربه) قال السمعاني :إنه ال ُيعرف مرفوعاً.
وقال النووي :ليس بحديث .ونسبه بعضهم إلى أبي سعيد الخراز وبعضهم إلى يحيى بن معاذ الرازي".
سورة المائدة 83وتتمة اآلية (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ،يقولون :ربنا آمنا فاكتبنا ()2
مع الشاهدين).ـ
47
من الصدق ،وفتيله من اإلخالص ،والزجاجة من الصفاء والرضاء ،وعالئقه من
العقل ،فالخوف نار في نور ،والرجاء نور في نار ،والمعرفة نور في نور ،فالقنديل
معلق بباب ال ُك َّوة ،إذا فتح العارف فاهُ بالحكمة التي في قلبه ،هاج في ُك َّو ِة فمه ٌ
نور
من األنوار التي في قلبه ،فيقع ضياؤه على قلوب أهل النور ،فيتعلق النور بالنور،
أشد ظلمةً من الليل ،وكالم أهل وإ َّن بعض القول ُّ
أشد ضوءاً من النهار ،وبعضها ّ
قلوب أهل المعرفة ،أمرهم اهلل تعالى
ُ كنز من كنوز الرب سبحانه ،معادنه
المعرفة ٌ
باإلنفاق منه على أهله في قوله تعالى( :ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(.)1
قيل لبعض العارفين :أي شيء أضوأ من الشمس؟ قال :المعرفة ،قيل :أي
شيء أنفع من الماء؟ قال :كالم أهل المعرفة ،قيل :وأي شيء أطيب من المسك؟
الربوبية ،وأعالم
صنع ُّ
النظر إلى ُ
ُ قال :وقت العارف ،قيل :وما ِحرفةُ العارف؟ قال:
لطائف القُدرة.
أنفع من كالم الخلف؟ قال :ألن (ِ )2
قيل ألبي سعيد البلخي :ل َم كان كالم السلف َ
مرادهم كان ِع َّز اإلسالم ،ونجاة النفوس ،والشفقةَ على اإلخوان ،ورضا الرحمن،
وطلب التنعُّم في الدنيا ،فالعبد إذا أطاع ربه ،رزقه
ُ ومرادنا ِع ُّز النفس ،وثناء الناس،
ُ
نهلةً من عين المعرفة ،وأنطق بها لسانه ،وإ ذا ترك طاعته لم يسلبها ،ولكن أبقاها في
الم َحن ،وما ِمن
قلبه ،ولم ينطق بها لسانه ،ليكون ذلك حسرةً عليه ،وابتاله بأنواع ِ
ُ
نور المعرفة ،قبل أن
مؤمنين يلتقيان فيذكران اهلل إال ويزيد اهلل تعالى في قلوبهما َ
َ
أهل المعرفة على تالطم أمواج بحار خواطر القلوب،
لع َط َ
يتفرقا ،وإ ن اهلل تعالى أ ْ
وأشرفهم على خزائن األسرار ،وبواطن العلوم التي ال ُيحصى عددها ،وال ينقطع
ك قعرها ،وال تُفنى عجائبها ،حتى يغوصوا بنور
در ُ
مددها ،وال ُي َ
(يوسف أحمد بن عبداهلل البلخي ،مات بعد سنة 315هـ"انظر جامع كرامات األولياء للنبهاني ()2
48
عجائب
َ المعرفة في قَ ْع ِر بواطن إشاراتها المكنونة في معانيها المخزونة ،فيستخرجوا
قلوب المحبين ،وتستأنس بها
ُ وحقائق إشارات ،تحترق منها
َ ولطائف زوائد،
َ فوائد،
نور من أنوار الهداية ،يهتدي به العبد إلى طريق حسن
أرواح المريدين ،وهي ٌ
الرعاية ،إذا أدركه من الحق التوفيق والعناية.
مفاليس ،يفتحون من كيس
َ لقيت الحكماء فوجدت أكثرهم
قال يحيى بن معاذُ :
أخ ،وكان باإلسكندرية ،فلما قدم إليه قال :إني كنت ()1
غيرهم ،وكان للّيث المصري
فوائد إقبالك على ربك؟ فسكت ،فقال الليث :العبد إذا أقبل
مقبالً على ربي ،قال :فأين ُ
على اهلل بصدق الوفاء ،يمده اهلل بفوائد لم تخطر على قلب بشر.
وكان يحيى بن معاذ يتكلم ذات يوم ،فصاح رجل في مجلسهَّ ،
ومزق ثوبه،
فقيل له :ما تقول فيه؟ قال كالم أهل المعرفة كلما نبع من عين سر الوحدانية ،قرع
قلب المحترق بنيران الشوق والمحبة ،فتالشت عن صاحبه صفات اإلنسانية ،كالم
المتقين بمنزلة الوحي ،وجرت كلمة على لسان بعضهم ،فقيل لهَ :من َح َّدثك بهذا؟
وجودها ،وهي ُ فإسناد الحكمة
ُ حدثني قلبي عن فكري عن ِس ِّري عن ربي،
قالَّ :
ضالّة المريد ،حيثما وجدها أخذها ،فال ُيبالي من أي وعاء خرجت ،وبأي لسان
طقَت ،ومن أي قلب ُن ِقلَت ،أو على أي حائط ُكتِبت ،أو ِمن أي كافر ُس ِم َعت.
َن َ
وهدى من غير هداية، "من أراد أن يؤتيه اهلل علماً من غير تعلمُ ، وقد ورد َ
فليزهد في الدنيا"( ،)2وإ ن للحكمة أهالً وزماناً ،وقد مضي زمنها ،واألكثرون ِمن
الليث بن سعد ،أبو الحارث ( 175-94هـ) شيخ مصر لعصره ،مجتهد مطلق صاحب مذهب فقهي ،لكن ()1
أتباعه ذابوا من بعده في بوتقة المذهبين المالكي والشافعي (البوتقة :الوعاء الذي يذاب في المعدن).
تذكرة الموضوعات للهندي الفتني 20وقال" :لم يوجد" أي لم يوجد له أصل في األحاديث المرفوعة .وإ حياء ()2
علوم الدين (دار المعرفة) 4/224وقال الحافظ العراقي :لم أجد له أصال .وإ تحاف السادة المتقين .9/333
وكشف الخفاء (التراث اإلسالمي) 2/305برقم 2346وفيه :قال القاري :لم يوجد له أصل ،كما في المختصر،
ومعناه صحيح مستفاد من قوله عليه الصالة والسالم " :من َع ِمل بما َعِلم أورثه اهلل علم ما لم يعلم".
49
مصابيح
َ أهلها ،وليس علينا إال أثر المصيبة ،فإنا هلل وإ نا إليه راجعون ،اطلبوا
لقمان
ُ كالم العارفين قبل وفاتهم ،نعمة اعرفوا شرفها ،وكمال فضلها ،وإ نما اختار
الحكمة لشرفها ،هي برهان ِ
الص َّديقين ،ونزهة المتقين ،وفردوس العارفين ،وميراث النبيين
والمرسلين فاطلبوها قبل ذهابها:
50
الحديث التاسع
[ أولئك يبدل اهلل سيئاتهم حسنات ]
أخبرنا العبد الصالح الثقة أبو غالب عبداهلل بن منصور بجامع واسط ،أخبرنا
أبو عبداهلل محمد بن علي بن الحسين السلمي ،قال :أنبأنا أبو الحسن بن أبي الفتح
الضرير العثماني ،قال :أنبأنا عمر بن محمد المقري ،قال :أنبأنا عبدالرحمن بن
أحمد ابن الحجاج ،قال :أنبأنا أحمد بن محمد بن أبي الرجاء ،قال :أنبأنا وكيع بن
الجراح ،قال حدثنا األعمش ،عن المعرور بن سويد ،عن أبي ذر رضي اهلل تعالى
عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال:
ويخفى عنه كبارها ،فيقال له :عملت كذا وكذا ،وعملتاعرضوا عليه صغار ذنوبهُ ،
جاء ِ
يوم كذا :كذا وكذا ،قال :وهو ُمقٌّر ليس ينكر ،قال :وهو مشفق من الكبار أن ُي َ
بها ،فإذا أراد اهلل به خيراً ،قال :أعطوه مكان كل سيئة حسنة ،فيقول حين طمع :إن
لي ذنوباً ما رأيتها ها هنا "قال :فلقد رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ضحك
حتى بدت نواجذه( .)1ثم تال( :فأولئك يبدل اهلل سيئاتهم حسنات)(.)2
سلم :اإليمان ،باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ،رقم ،190ولفظه" :عن أبي ذر قال :قال رسول اهلل صلى اهلل ()1
عليه وسلم" :إني ألعلم آخر أهل الجنة دخوالً الجنة ،وآخر أهل النار خروجاً منها .رجل يؤتى به يوم القيامة،
فيقال :اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها ،فتُعرض عليه صغار ذنوبه ،فيقال :عملت يوم كذا
وكذا :كذا وكذا .وعملت يوم كذا وكذا :كذا وكذا .فيقول :نعم .ال يستطيع أن ينكر ،وهو مشفق من كبار ذنوبه
أن تُعرض عليه ،فيقال له :فإن لك مكان كل سيئة حسنة .فيقول :رب قد عملت أشياء ال أراها ها هنا "فلقد رأيت
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه .وأخرجه الترمزي في صفة جهنم ،الباب العاشر ،رقم
2599وقال :هذا حديث حسن صحيح.
سورة الفرقان" 70 ()2
51
وهذا اإلشفاق هو شيء من أسرار اليقين باهلل ،وحال من سلطانه ،يفرغه في
قلوب أهل المعرفة به ،ولهذا الحديث الشريف شأن جليلُ ،ينبئ عن كرم إلهي فوق
تعبير اللسان ،يعرفه العارفون ،ويزلق به الغافلون ،ويزداد خوفاً من اهلل به
الموفقون.
أي سادة ،من أراد أن يتكلم بلسان أهل المعرفة ،فينبغي أن يحفظ أدب كالمه،
المريد فوق طاقته ،وال يمنع كالمه َمن
َ فال يكشف دقائقه إال عند أهله ،وأن ال ُي َح ِّم َل
كان ِمن أهله ،ويكون كالمه مع أهل المعرفة بلسان أهل المعرفة ،ومع أهل الصفا
بلسان الصفا ،ومع أهل المحبة بلسان المحبة ،ومع أهل الزهد بلسانهم ،ومع كل
صنف على قدر مراتبهم ومنازلهم ،وقدر عقولهم ،فإن اهلل تعالى جعل للعارف هذه
األلسن ،نعم كلها تتالشى عند ظهور سلطان الحق ،وينبغي أن ال ِّ
يحدث بحديث ال
يبلغ عقل المستمع إليه ،فيكون ذلك فتنة ،فإن أكثر الناس جاهلون ،اشتغلوا بعلوم
الظاهر ،وتركوا علم تصحيح الضمائر ،فال يحتملون دقائق كالم العارفين ،ألن
كلماتهم الهوتية ،وإ شاراتهم قدسية ،وعباراتهم أزلية ،فلذلك ينبغي للمستمع أن يكون
معه السراج األزلى ،والنور الديمومي ،ويقال :لسان الحال أفصح من لسان المقال،
لي الحال ،صار مخذوالً عن الحال ،ومحجوباً عن ذي
فمن رضي بالحال دون َو ِّ
الجالل ،وأي دهشه أشد من دهشة العارف ،إن تكلم عن حاله هلك ،وإ ن سكت
ومن غاب قلبه عن الحضرة كثر كالمه. احترق ،فمن َو َر َد قلبه الحضرةَ َك َّل ُ
لسانهَ ،
قال ذو النون رحمه اهلل :ما رأيت محدثاً في قوم يحدثهم بغفلة إال كان ذلك
قسوة ،وقال بعضهم :سكوت العارف حكمة ،وكالمه نعمة ،ويقال :ليس على تحقيق
في المعرفة َمن ِّ
يحدث بحديث المعرفة عند أبناء اآلخرة ،فكيف أبناء الدنيا؟ ما تكلمت
مع أحد من الناس ،إال ودعوته إلى اهلل ثم كلمته.
52
من لم يكن له حالوة المعرفة ،ورؤية ِ
المَّنة ،وشكر النعمة ،ولذائذ القُربة،
الصحبة ،وإ خالص العبادة ،وسرور الهداية ،فليس له أنوخوف المفارقة ،وأُنس ُ
يحمل فوق الطاقة ،وال يمنع أهل الحاجة ،وال
يتكلم بكالم أهل المعرفة ،وإ ن تكلم فال ِّ
يضيع أهل الغفلة.
وحكي أن رجالً جاء إلى عارف قال :حدثني ،فقال :إن مثلي معك كرجل ُ
وقع في القاذورات ،فذهب إلى العطار ،وقال :أين الطِّ ْيب ،فقال العطار :اذهب اشتر
األشنان( ،)1واغسل نفسك ولباسك ،ثم تعال فتطيب ،وكذلك أنت ،لطخت( )2نفسك
بأنجاس الذنوب ،فخذ أشنان الحسرة ،وطين وطين الندامة ،وماء التوبة واإلنابة،
الجرم والجفاء ،ثم اذهب ()3
إجانة الخوف والرجاء ،من أنجاس ُ وطهر ظواهرك في ّ
إلى حمام الزهد والتقى ،واغسل نفسك بماء الصدق والصفاء ،ثم ائتني حتى أطيِّبك
بعطر معرفتي.
قال بعض الناس لعارف :إني ألعرف كالمكم ،قال :كالم األخرس ال يعرفه
أمه ،ومن كالم عيسى عليه الصالة والسالم :يا صاحب الحكمةُ ،كن كالطيب
إال ُّ
الناصح ،يضع الدواء حيث ينفع ،ويمنع الدواء حيث يضر ،ال تضع الحكمة في غير
أهلها ،فتكون جاهالً ،وال تمنعها من أهلها ،فتكون ظالماً ،وال تكشف سرك عند كل
أحد ،فتصير مفتضحاً.
وقال ذو النون رحمه اهلل :رأيت رجالً أسود يطوف حول البيت ويقول:
به، ت
أنت أنت أنت ،وال يزيد على ذلك اللفظ شيئاً ،فقلت :يا عبداهلل ،أي شيء َعَن ْي َ
فأنشأ يقول:
ِ
فيحيكه قلم عنه ٌّ المحبين ِسٌّر ليس ي ِ
َخط وال ٌ فشيه ُ َ بين
بعض ما ِ
ِ
فيه يخب ُرهُ عن
نور ِّ
ٌ ُنس ِ
يماز ُج ُه نار تقا ِبلُ ُه ،أ ٌ
ٌ
تمان تُ ِ
ناجيه سرائر ِك ٍ هذي شوقي إليه وال أبغي له بدالً
ُ
األشنان (بضم الهمزة وكسرها) :شجر من الفصيلة الرمرامية ينبت في األرض الرملية ،يستعمل هو أو ()1
53
الحديث العاشر
أخبرنا الشيخ أبو طالب محمد بن علي ،عن أبي القاسم علي بن أحمد الرزاز،
قال أنبأنا أبوالحسين محمد بن مخلد في سنة ثمان عشرة وأربعمائة ،قال :أنبأنا
عرفة العبدي ،قال :أنبأنا
أبوعلي إسماعيل بن محمد الصفار ،قال :أنبأنا الحسن بن َ
أبوالنضر هاشم بن القاسم ،عن سليمان بن المغيرة ،عن ثابت البناني ،عن أنس بن
مالك رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :آتى باب الجنة يوم
أفتح فأستفتح ،فيقول الخازنَ :من أنت؟ فأقول محمد ،فيقول :بِ َ
ك أمرت أن ال َ ُ القيامة
(.)1
ك" ٍ
ألحد قَبلَ َ
وقد علم أهل العلم باهلل ،أن الجنة التي هي باب الخير اإللهي األبدي ،ال تُفتح
والعلم
ُ خير دنيوي وأخروي، الفاتح لكل ٍ
ُ إال بفتح محمد صلى اهلل عليه وسلم لها ،فهو
بشأنه هو سر العلم باهلل تعالى ،فمن أراد أن ُيفتح له أبواب الخير الدنيوي واألخروي
فعليه أن يتعلق بأذياله صلى اهلل عليه وسلم ،فإن في نفحاتها علم المعرفة.
أي سادة ،علم المعرفة هو العلم باهلل تعالى ،وهو نور من أنوار ذي الجالل،
وخصلة من أشرف الخصال ،أكرم اهلل به قلوب العقالء ،فزينها بحسن جماله،
وعظيم شأنه ،وخص به أهل واليته ومحبتهَّ ،
وفضله على سائر العلوم ،وأكثر الناس
عن شرفه غافلون ،وبلطائفه جاهلون ،وعن عظيم َخطره ساهون ،وعن غوامض
أساس ُبنيت عليه
معانيه الهون ،فال ُيدركه إال أرباب القلوب الموفقون ،وهذا العلم ٌ
سائر العلوم ،به ُينال خير الدارين ،وعز المنزلين ،وبه َيعرف العبد عيوب
ُ
:صحيح .رواه أحمد في مسنده (دار الحديث) ( 10/442مسند أنس رضي اهلل عنه( برقم 12337 (.)1
ومسلم :اإليمان ،باب في قول النبي صلى اهلل عليه وسلم" :أنا أول الناس يشفع في الجنة ،وأنا أكثر األنبياء تبعاً"
رقم .197
54
يطير ِس ُّر العبد بجناح المعرفة ِ
نفسه ،ومَنن ربه ،وجالل ربوبيته ،وكمال قدرته ،به ُ
في سرادقات لطائف القدرة ،ويجول حول منتهى العزة ،ويرتعُ في روضات القدس،
فال تتم العلوم كلها دون امتزاج شيء منه بها ،وال تفسد األعمال إال بفقده ،ولم تسكن
قلوب نظر اهلل إليها بالرأفة والرحمة ،وأمطر عليها أمطار الفهم والبالغة،
ٌ إليه
والفطنة ،وجعلها موضع العقل والفراسة ،وطهرها من أدناس وطيبها برياحين اليقين ِ
ونورها بمصابيح العلم والحكمة ،قال اهلل تعالى:
الجهالة والغفلةَّ ،
(يرفع اهلل الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)( ،)1وكل عارف
يخشى اهلل تعالى ويتقيه على مقدار علمه باهلل عز وجل ،لقوله تعالى:
(إنما يخشى اهلل من عباده العلماء)( ،)2بنوره يعرف وساوس الشيطان ،الدافعة إلى
المعاصي والزالت ،ويحذر به آفات اإلرادات ،قال اهلل تعالى( :أفمن شرح اهلل
صدره لإلسالم فهو على نور من ربه)( ،)3وقال اهلل تعالى( :ومن لم يجعل اهلل له
نوراً فما له من نور)(.)4
وفي الخبر" :إن من العلم كهيئة المكنون المخزون ،ال يعرفها إال أهل العلم
الغرة"( )5وجاء رجل إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال:
باهلل ،وال ينكرها إال أهل َّ
أي األعمال أفضل؟ فقال" :العلم باهلل"(.)6
وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال :يا رب ،أي العباد أكثر حسنة،
ُ
وأرفع درجة عندك؟ قال :أعلمهم بي .وقال اإلمام الجليل سيدنا علي بن أبي طالب
ضعيف .رواه الحافظ عبدالعظيم المنذري وقال" :رواه أبو منصور الديلمي في المسند (مسند الفردوس)799 ()5
وأبو عبد الرحمن السلمي في األربعين التي له في التصوف" [ الترغيب والترهيب (دار ابن كثير وشركائها)
1/135برقم ]141ورواه اإلمام الغزالي في إحياء علوم الدين (دار المعرفة) 1/20وقال الحافظ العراقي في
تخريجه" :رواه أبو عبد الرحمن السلمي في األربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه
بإسناد ضعيف".
رواه ابن عبد البر في فضل العلم بسند ضعيف عن أنس رضي اهلل عنه [ كشف الخلفاء (التراث اإلسالمي) ()6
.]2/111
55
رضي اهلل عنه وكرم اهلل وجهه :أعلم الناس باهلل أشدهم تعظيماً لحرمة ال إله إال اهلل،
قال أبو الدرداء رضي اهلل عنه :من ازداد باهلل علماً ازداد َو َجال.
وروي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالم :أن يا داود تعلم
العلم النافع ،قال :إلهي ،وما العلم النافع؟ قال :أن تعرف جاللي وعظمتي وكبريائي،
وكمال قدرتي على كل شيء ،فإن هذا الذي يقربك إلي ،وإ ني ال أعذر بالجهالة َمن
لقيني.
وقيل لمحمد بن الفضل السمرقندي( :)1ما العلم باهلل؟ قال :أن ترى قضاءه في
نفسك هلل ،واألشياء كلها في
الخْلق ُم ْب َرماً ،والضر والنفع والعز والذل منه ،وترى َ
َ
قبضته ،وأن ال تختار لنفسك غير اختيار ،وتعمل هلل خالصاً.
يا بني اجتهد في تعلم علم السر ،فإن بركته كثيرة أكثر مما تظن ،يا بني َمن
تعلم علم العالنية دون علم السر هلك وهو ال يشعر .يا بني إن أردت أن يكرمك اهلل
ِ
وأحكم أمرك للموت ،قال بعلم السر فعليك ببغض الدنيا .واعرف حرمة الصالحين،
رب زدني علماً)(( .)2وعلّمك ما لم تكن تعلم)(( )3وعلّمناه من لدنا
اهلل تعالى( :و ُقل ّ
فر َّ
ب ُ .()5
) لنا ب
ُ س
ُ لنهدينهم فينا جاهدوا والذين( آخر: موضع
ٍ في قال أنه إال ()4
علماً)
إن ِعلم المعرفة فض ٌل من اهلل يؤتيه من اصطفاه ِمن رجل كثير الروايات جاهل باهللَّ ،
لصحبته. ِِ
َخلقه ،واجتباه ُ
العلم ِعلمان ،علم باللسان ،وهو حجة اهلل على العباد،
جاء في الخبرُ " :
بلخي األصل ،عاش في سمرقند ،ومات بها سنة 319هـ (الرسالة القشيرية .)73 ()1
56
وعلم بالقلب ،وهو العلم األعلى"( )1ال يخشى العبد من اهلل إال به وقال صلى اهلل
عليه وسلم" :أشدكم هلل خشية أعلمكم باهلل"(.)2
عالم بأمر اهلل غير عالم باهلل،
رحمه اهلل :العلماء ثالثةٌ :
()3
وقال سفيان الثوري
فذلك العالم الفاجر الذي ال يصلح إال للنار ،وعالم باهلل غير عالم بأمره ،فذلك ناقص،
وعالم باهلل وبأمره به ،فهو العالم الكامل.
عرف باألشياء بل
قيل لبعض العارفين :ما سبيل معرفة اهلل؟ قال :ليس ُي َ
وعرفت ما دون اهلل بنور اهلل.
ُ عرفت اهلل باهلل،
ُ عرف األشياء به ،كما قال ذو النون:
تُ َ
كنت أعرف َمن
وقال إبراهيم عليه الصالة والسالم :إلهي ،لوال أنت كيف ُ
رواه أبو بكر الخطيب في تاريخه ( )4/346بإسناد حسن ،وابن عبد البر النمري في جامع بيان العلم ()1
[(المنيرية) ]1/190عن الحسن البصري مرسالً بإسناد صحيح ،والديلمي في مسند الفردوس ()4194
واألصبهاني في كتابه (الترغيب والترهيب )2192والبيهقي (في شعب اإليمان )1825عن الفضيل بن عياض
من قوله غير مرفوع (الترغيب والترهيب للحافظ المنذري :الحديثان 139و )140وذكره اإلمام الغزالي في
إحياء علوم الدين 1/59و 3/24وقال زين الدين العراقي في المغني" :أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر (
..)255وأسنده الخطيب في التاريخ من رواية الحسن عن جابر بإسناد جيد .وأعلّه ابن الجوزي "وإ عالل ابن
الجوزي له وهم (فيض القدير )4/391ورواه السيوطي من طريقين :طريق ابن أبي شيبة والحكيم والخطيب
عن جابر رضي اهلل عنه (كنز 28667و )28947وطريق أبي نعيم عن يوسف بن عطية عن قتادة عن أنس
رضي اهلل عنه (كنز )28946وقال" :وأورده ابن الجوزي في العلل (المتناهية )1/83من الطريقين" وهو في
فهرسة ابن خير 6وإ تحاف 1/85و 349و 7/295والدر المنثور 5/250وأمالي الشجري (بيروت) 1/60
(موسوعة أطراف الحديث .)5/518
إحياء علوم الدين (المعرفة) 1/76وإ تحاف 1/422والكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف البن حجر ()2
(المعرفة) .139وعقب الحافظ العراقي على روايته المطولة في اإلحياء بقوله :لم أجده هكذا بطوله.
سفيان بن سعيد من بني ثور (م مصر) 161-97هـ. ()3
57
أنت؟ و ِمثله عن رابعة العدوية قالت لذي النون :كيف عرفت اهلل؟ قال :رزقني
ذكرت جالل اهلل فاستحييت منه.
ُ هممت بمعصية
ُ الحياء ،وكساني المراقبة ،فكلما
مثل المعرفة كشجرة لها ستة أغصان ،أصلها ثابت في أرض اليقين
والتصديق ،وفرعها قائم باإليمان والتوحيد.
فأول أغصانها الخوف والرجاء مقرونين بغصن الفكرة.
والثاني :الصدق والوفاء مقرونين بغصن اإلخالص.
والثالث :الخشية والبكاء مقرونين بغصن التقوى.
والرابع :القناعة والرضاء مقرونين بغصن التوكل.
والخامس :التعظيم والحياء مقرونين بغصن السكينة.
والسادس :اإلستقامة والوفاء مقرونين بغصن الود والمحبة.
ويتشعب من كل غصن ما ال نهاية له في العدد من أنواع الخير ،والصدق في
المعاملة ،وأنس الصحبة ،وفرائد القربة ،وصفاء الوقت ،وغير ذلك مما ال يصفه
الواصفون ،وعلى كل شعبة ثمار شتى ،ال يشبه لون إحداها األخرى وال طعمها،
تحتها أنوار التوفيق ،جارية من ينبوع الفضل والعناية ،والناس في ذلك على تفاوت
الدرجات ،وتباين الحاالت ،فمنهم من أخذ بفرعها غافالً عن أصلها ،محروماً من
أغصانها ،محجوباً عن حالوة ثمارها ،ومنهم من تمسك بفروعها ،ومنهم من أخذ
بأصلها وأخذ كلها من غير أن يلتفت إلى كلها ،النفراده بولي ِ
ِّه خالقهاَ ،من لم يكن له
نور من سراج التوفيق ،ولو جمع الكتب واألخبار واألحاديث كلها ،لم يزدد إال ُبعداً
ونفوراً ،كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
ُيقال إن رجالً جاء إلى اإلمام علي عليه السالم فقال علمني من غرائب العلم،
أعرفت ربك؟ قال نعم،
َ فعلت في رأس العلم؟ قال :وما رأس العلم؟ قال:
قال :ما َ
فإن أحكمته فَأ ِ
ْت فانطلق ِ
ِ
فأحكم هذاْ ، فعلت في حقه؟ قال ما شاء اهلل ،قال:
قال :ما َ
الفرق بين علم المعرفة وغيرها كالفرق بين الحي
ُ ك غرائب العلم ،قيل:
أعلم َ
والميت.
58
الحديث الحادي عشر
أخبرنا شيخنا اإلمام المقرئ الجليل الشيخ أبو الفضل علي الواسطي قدس اهلل
روحه ،قال :أنبأنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد الواعظ ،قال :أنبأنا أبو حفص عمر
بن محمد بن عبد الرحمن الجمحي ،قال :أنبأنا علي بن عبد العزيز ،عن ابن
المبارك ،عن حرملة بن عمران ،عن يزيد بن أبي جندب ،عن أبي الخير ،عن عقبة
ابن عامر رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :المرء في ظل
صدقته حتى ُيقضى بين الناس ،أو قال :يحكم بين الناس" هذا لكونه ترك شيئاً قليالً
()1
صحيح .وأوله" :كل امرئ في ظل صدقته " ..الحديث .أخرجه ابن المبارك في الزهد (دار الكتب العلمية) ()1
الجزء الخامس :باب الصدقة ص 227برقم 645وأحمد في المسند (دار الحديث) 13/343برقم 17266
(من حديث عقبة بن عامر رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم) وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان
لللهيثمي (الرسالة) 1/362برقم ( 817اإلحسان )3310وابن خزيمة 4/94رقم 243وحلية األولياء 8/181
والحاكم في المستدرك :الزكاة 1/416وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص ،وعنه وعن المسند في كنز العمال
16068والسخاوي في المقاصد الحسنة 224والغزالي في إحياء علوم الدين 1/225و 3/88والعراقي
بهامشه ،وإ تحاف السادة المتقين 4/167و 7/401وشرح السنة للبغوي 6/136ومجمع الزوائد (الفكر)
3/285رقم 4612والدر المنثور 1/355و ( 2/16موسوعة أطراف الحديث )6/423كلهم عن عقبة بن
عامر رضي اهلل عنه.
59
لعب في خدمة مواله ،فغيابة الجب مأواه ،وهنا كلمات من طرائف مختصرات القوم،
تنشط بها همم الموفقين ،يقول قائلهم رضي اهلل عنهمُ :ح َّ
ق لمن عرف المولى ،أن ال
العبد المولى ،فكل لسان له دعوى ،ليس للعارف
يشكو من البلوى ،إذا لم يعرف ُ
دعوى ،وال للمحب شكوى ،إذا سبقت من الرب العنايةُ ،ه ِز َمت من العبد الجناية ،إذا
سبقت العناية ،وجبت الوالية ،بالعناية تحصل الوالية ،والوالية تهدم الجناية ،ليس
درك الواليةَ من فاتته العناية ،الم ِ
ص ُّر الشأن في الوالية ،لكن الشأن في العناية ،لم ُي ِ
ُ َ
وجود الحق ،اطرح الدعوى تجد المعنىَ ،من كان له ُ طرح الخلق
ُ َس َّر السِّر،
من أ َ
باطن صحيح ،فجميع كالمه مليح ،ال تغتر بصفاء األوقات( ،)1فإن تحتها فنون
ٌ
اآلفات ،ال تغتر بصفاء العبودية ،فإن فيها نسيان الربوبية ،خل الدارين للطالبين،
عم الدليل ،وتوكل عليه فنعم الوكيل ،ما دام قلب ِ ِ
واستأنس برب العالمين ،استَ ْهد باهلل فن َ
نور ساطع ،واألنسالعبد بغير اهلل معلقاً ،كان باب الصفاء عنه ُمغلقاً ،األُنس باهلل ٌ
حصون األسرار، قلوب األبرار ،قلوب األبرار عد ُن األسرار بالمخلوق َه ٌّم واقع ،م ِ
ُ ُ َ
وخير
ُ القلب إذا ابتُلي بالمربوبُ ،ع ِز َل عن والية المحبوبُ ،
خير الرزق ما يكفي،
ط ،ليس باللبيب َمن اختار على الحبيب ،بقدر ما وس ْل تُع َ
كف َ الذكر الخفي ،توكل تُ َ
ط عليه ما سواه ،وإ ذا رضي العبد إذا سخط عليه موالهَ ،س ِخ َ تتعنى تنال ما تتمنىُ ،
ِ
الحبيب وذنب
ُ عنه مواله ،رضي عنه ما سواهُ ،ع ْذ ُر الحبيب عند الحبيب مبرور،
ِ
الحبيب مغفورَ ،من أراد المولى فليتهيأ للبلوى. عند
واجعل الحزن ِلما بين يديك َه ِّون الدنيا وما فيها عليك
العبد
الحبيب إلى الحبيب ،ينبغي أن يكون ُ وصلالموت ِجسر مهيب ،ي ِ
َ ُ ٌ َ
والدعاء أنيسك.
َ جليسك،
َ مشغوالً بما يكون غداً عنه مسؤوالً ،اجعل التُقى
الوقت" :حادث متوهم علّق حصوله على حادث متحقق ،فالحادث المتحقق وقت للحادث المتوهم ،تقول: ()1
آتيك رأس الشهر ،فإالتيان متوهم ،ورأس الشهر حادث متحقق ،فرأس الشهر وقت اإلتيان ..وقد يعنون بالوقت
ما هو فيه من الزمان" (القشيرية .)114
60
()1
وكل ٍ
نعيم ال محال َة زائ ُل ُّ أال كل شيء ما خال اهلل باط ُل
سرور النظر؟ كل
ُ سرور الخير ،فكيفُ والشوق ُيقلق ،وهذا
ُ ُّ
الحب ُيحرق،
نعمة دون الجنة فانية ،وكل بالء دون النار عافية( ،)2التوبة تطهر الحوبة(،)3
ثواب
المسيئين ،أليس قد فاتهم ُاالعتراف يهدف االقترافَ ،هب أن اهللَ قد عفا عن ُ
المحسنينِ ،
أع ّد للسؤال جواباً ،وللجواب صواباً ،اطلب ما يعنيك بترك ما ال يعنيك، ُ
عبد إذا طمع ،أخرج
والحر ٌ
العبد ُحٌّر إذا قنعُ ،
والحريص محرومُ ،
ُ الرزق مقسوم،
ُ
القيد من ِرجلك ،قَ ِّدم إلى الحشر زادك ،فإن إلى اهلل َمعادك،
الطمع من قلبك ،تح ّل َ
خطية( ،)4والدنيا ساعة ،فاجعلها طاعة ،الدنيا كلها غرور ،والعقبى
وحبها ّ
دنيةُ ،
الدنيا ّ
والعقبى معدن العطا( ،)5الدنيا معدن الجفاء ،والعقبى
الخطاُ ،
كلها سرور ،الدنيا معدن َ
معدن الوفاء ،أساس التقوى ترك الدنيا ،أخوف الناس آمنهم ،ما أغفلك عما ُخلقت له،
رت له ،منعك طو ُل األمل ،عن ذكر
ُم َوما أعجزك عما أ ِ
عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قال النبي صلى اهلل عليه وسلم" :أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :أال ()1
كل شيء ما خال اهلل باطل [ " ..البخاري :األدب ،باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه رقم
5795ومسلم :أوائل كتاب الشعر رقم .]2256
( )2أمثال هذه العبارة للسيد اإلمام الرفاعي تسدد فهم موقف أهل التحقيق من نعيم اآلخرة وعذابها ،فهم ال
يستهترون حيالهما ،وال ُي ِقلّون من شأنهما ،إنما يعظمون اهلل عز وجل فهو سبحانه الغاية ،وهو يستحق العبادة
حتى لو لم يخلق جنةً وال ناراً ،فكيف وأمام الناس إما جنة نعيم أو عذاب مقيم؟ ومعروف أن السيدة رابعة العدوية
كانت من أكثر من ذاعت عنه هذه المقولة ،لكنها من المؤكد أنها كانت ترجو رحمة ربها وتخشى عذابه ،وقال
عبد الوهاب الشعراني " :كانت (رابعة) رضي اهلل عنها كثيرة البكاء والحزن وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي
عليها زماناً" (الطبقات الكبرى (دار الفكر) .)1/65
الحوبة :اإلثم. ()3
خطية :خطيئة.
ّ
()4
الخطا :الخطأ ،والعطا : ،العطاء ،خفّف همزة "الخطأ" ،وقصر " العطا" إلقامة السجع. ()5
61
عص موالك بطاعة رت له ،منعك طول األمل ،عن ذكر األجل ،ال تَ ِ ُم َ لقت له ،وما أعجزك عما أ ِ أغفلك عما ُخ َ
خير من ٍ
كثير ُيطغيك، أردت المكارم ،فاجتنب المحارم ،قلي ٌل يكفيك ٌ
َ ك الجفاء ،إن
هواك ،رأس الوفاء تَْر ُ
كثير المقال ،اتق اهلل إذا خلوتَ ،يستجب لك إذا ِ ِ
والمنافق قلي ُل الفعالُ ،
ُ المقال،
كثير الفعال ،قلي ُل َ
المؤمن ُ
ب الحاللُّ ،
أشد دعوت ،غضب ِ
اهلل ُّ
طلَ ُ
التدبير إلى الملك الخبيرَ ،
َ أكبر من جنته ،دع
ورضوانهُ ُ
ُ أشد من ناره، ُ
ِ
هم وذكر لغير اهلل فهو حجاب بينك وبين اهلل ،ال تقع المؤانسة بين العبد وربه ،حتى تقع من َن ْقل الجبال ،كل ٍّ
ِ العبد إلى الحق ،حتى يعتزل عن ص ِ
لمهُ
الخْلق ،حسبي من سؤالي ع ُ
حبة َ ُ الوحشة بينه وبين خلقه ،ال يصل ُ
بحالي.
ف
وبالء وتَلَ ْ وعناء ف
س َر ْ ِ ٍ ُّ
ٌ ٌ محبوب سوى اهلل َ كل
ف
عنه َخلَ ْ
الرحمن ما ُ
َ ما خال فوأس ْ
وغموم َ
ٌ وهموم
ٌ
الجنة نام ِ
طالُبها ،وال مثل النار نام هاربُها. ِ رأيت مثل
ُ ما
المغر َب ِ
ين ِ تثم ُد ْر ُ
َّ ش ِرقَ ْي ِنالم ْ
ت حو َل َ ُد ْر ُ
لم ِ
ليك الثَ َقلَ ْي ِن فوجدت األمر ُكالَّ
ُ
َ َ
كرهُ قَُّرةُ َعيني ِ
ذُ ني ُ!ة قلبي
ُّه ُم َ
ُحب ُ
62
الحديث الثاني عشر
أخبرنا الشيخ الجليل المقرئ العارف باهلل خالي أبو بكر األنصاري الواسطي،
قال :أنبأنا أبو عبد اهلل محمد بن أبي نصر الحميدي ،قال :أنبأنا أبو القاسم منصور
ابن النعمي ،قال :أنبأنا أبو نصر عبداهلل بن سعيد بن حاتم الوائلي ،قال :أنبأنا أبو
َي ْعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي ،قال :أنبأنا أبو حامد أحمد بن محمد بن بالل
البزاز ،قال أنبأنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم ،قال :أنبأنا سفيان بن ُعيينة ،عن
ّ
عمرو بن دينار ،عن أبي قابوس( ،)1عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل
عنه ،أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال" :الراحمون يرحمهم الرحمن ،ارحموا
َمن في األرض يرحمكم َمن في السماء"(.)2
َم َر المصطفى صلىهذا الحديث الشريف فيه من أسرار العلم باهلل العجائب ،أ َ
اهلل عليه وسلم بالرحمة ِل َمن في األرض من المخلوقين ،لتحصل بذلك الرحمة للعبد
العلويين ،فإن السماء طريق ُّ
تنزل الرحمات الربانية، ِ
من كل َمن في السماء من ُ
ومحل أنبوب اإلفاضات الرحموتية ،ومقر المالئكة الذين جعلهم اهلل وسائط أسراره
بينه وبين خلقه،
أبو قابوس :هو مولي عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنهم. ()1
صحيح .رواه أحمد في المسند (دار الحديث) ( 6/46مسند عبداهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما) ()2
برقم 6494وأبو داود :األدب ،باب في الرحمة 4941والترمذي :البر والصلة ،باب ما جاء في رحمة الناس
1925وقال أبو عيسى :هذا حديث حسن صحيح .والحاكم في المستدرك ( 4/159كتاب البر والصلة)
وصححه هو والذهبي .وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (الفكر) ( 8/341رقم )13672عن جرير رضي
اهلل عنه بلفظ " :ارحم من في األرض يرحمك من في السماء" وقال :رواه الطبراني ،ورجاله رجال الصحيح.
ورواه بهذا اللفظ أيضا ً عن عبد هللا بن مسعود رضي اهلل عنه برقم 13674وقال :رواه أبو يعلى والطبراني في
الثالثة .ورجال أبي يعلى رجال الصحيح إال أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو ُمرسل .لكنه يتقوى بشواهده.
63
فإذا ألقى الرحمة في سر َملَك الرزق طاب الرزق ،وإ ذا ألقاها في سر كاتب األعمال
أنساه السيئات ،وإ ذا ألقاها في سر الرقيب أعان ورفق ،والرحمة حال العارف،
ومعراج قلبه إلى ربه ،وإ ن عباد اهلل العارفين ،مظاهر لرحمة رب العالمين في
المخلوقين ،وهو سبحانه أرحم الراحمين.
جالست العارفين
َ تحققت بالرحمة للمخلوقين ُرحمت ،وإ ذا
َ أي بني ،إذا
نجحت ،وإ ذا سألت الحكماء الربانيين تعلمت ،أي بني ،اعلم أن لكل شيء مفتاحاً،
المريد على أن يجالس أهل المعرفة ،فيقتبس من
ومفتاح العلم السؤال ،فإن قَ َد َر ُ
علمهم ،وتحقيق رمزهم ،ولطائف إشاراتهم ،فََب ٍخ َب ْخ( ،)1فإن شرف العلماء الربانيين،
ناء ِس ِّره ،فليغتنم ُحرمتهم،
ُم ُأحباء اهلل ،وأ َ
ُ أحد غيراهلل ،ألنهم
أكبر من أن يدركه ٌ
وليحرك خواطرهم بحسن السؤال ،فإن أمواج خواطر العارفين ال تفنى عجائبها،
وكفى للمرء جهالً إمسا ُكه عن التعلم ،واستكفاؤه بما عنده ،وقد قال اهلل تعالى:
(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون)( ،)2وقال النبي صلى اهلل عليه وسلم" :جالسوا
الكبراء ،واسألوا العلماء"(.)3
بخ :اسم فعل مضارع بمعنى أستحسن (الغالييني :جامع الدروس العربية (ط )1/164 )10وقال الفيروز ()1
آبادي" :بخ (كقد) أي َعظُم األمر وفَ ُخم ،تقال وحدها وتكرر ..كلمة تقال عند الرضى واإلعجاب بالشيء أو
الفخر والمدح" [ القاموس المحيط (بخ)] وضبطها في القاموس بغير وجه.
( )2سورة النحل.43 :
( )3السيوطي في الجامع الصغير (دار الفكر) 1/554برقم 3577وعزاه إلى المعجم الكبير للطبراني ورمز
إلى صحته ،وهو عن أبي جحيفة رضي اهلل عنه .وفي كنز العمال ( )24661عن الطبراني في الكبير ،ورواه
عن العسكري برقم 25583ورفعه ،وبرقم 25584موقوفاً .وهو في كشف الخفاء برقم 1059وفي مجمع
الزوائد (الفكر) 1/334برقم 519وقال الهيثمي" :رواه الطبراني في الكبير من طريقين ،إحداهما هذه (المعجم
الكبير 22/125مرفوعاً) واألخرى موقوفة ( )22/133وفيه عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي ،وهو منكر
الحديث ،والموقوف صحيح اإلسناد" .وقال البيروتي" :فيه عبد الملك بن حسين بن مالك النخعي ،ضعفه أبو
زرعة ،والدارقطني ،وساق له مناكير ،هذا الحديث منها" أسنى المطالب (طبعة مصطفى البابي الحلبي) ص
.]89
64
فارتحلت إليه ،فوقفت عنده أربعين
ُ صف لي رج ٌل بالمغرب، قال ذو النون :و ِ
ُ
الح ْرمة ِ
صباحاً ،فلم أجد وقتاً أقتبس به من علمه شيئاً ،لكمال ُشغله بربه ،ولم أترك ُ
رتحل؟ فأخبرته ببعض حالي ،قال :بأيفيوماً من األيام نظر إلي فقال :من أين الم ِ
ُ ّ
شيء جئت؟ قلت :ألقتبس من علمك ،قال :اتق اهلل ،واستعن به ،وتوكل عليه ،فإنه
ولي حميد وسكت ،فقلت ،زدني رحمك اهلل فإني رجل غريب ،جئتك من بلد بعيد، ٌّ
عالم أم م ِ
ناظر؟ فقلت :بل ألسألك عن أشياء اختلجت في ضميري( ،)1فقال :أمتعلِّم أم ِ
ٌ ُ ُ ٌ َ
يت تتعد ،فإنك إن َّ
تعد َ األدب وال َّ
َ متعلم محتاج ،قالِ :قف في درجة المتعلمين ،واحفظ
فسد عليك النفع ،العقالء من العلماء ،والعارفون من األصفياء ،الذين سلكوا سبيل
َ
الح ْزن ،ذهبوا بخير الدارين ،فقلت :رحمك اهلل متى يبلغ العبد
الصدق ،وقطعوا أودية ُ
إلى ما وصفت؟ قال :إذا كان خارجاً من األسباب ،قلت :ومتى يكون العبد كذلك؟
يصير بال ُك ّلية
َ الحول والقوة .قلت :وما نهاية العارف؟ قال :أن
قال :إذا خرج من َ
الصديقين؟ قال :إذا عرف
ّ
()2
عند وجوده .قلت :ومتى يبلغ إلى مهيمنة
كالمعدوم َ
نفسه .قلت :متى يعرف نفسه؟ قال :إذا صار مستغرقاً في أبحر ِ
المَّنة ،وخرج من
ياسينية(،)3
ّ أودية األنانية ،وقام على ٍ
قدم
العبد على ما وصفته؟ قال :إذا جلس على مركب الفردانية ،قلت:
قلت :ومتى يبلغ ُ
وما مركب الفردانية؟ قال :القيام بصدق العبودية .قلت :وما صدق العبودية؟ قال:
العلم هلل تعالى ،والرضا بالقضاء .قلت :أوصني .قال :أوصيك
65
حسبك.
باهلل .قلت :زدني ،قالُ :
رجالً في بعض أسفاري ،وعليه
قال عبد الواحد بن زيد رحمه اهلل :رأيت ُ
أوجز ،فإن األيام
ْ فسلمت عليه ،قلت :رحمك اهلل أسألك مسألة؟ قال:
ُ ثوب من الشعر،
ٌ
تمضي ،واألنفاس تُ َع ُّد وتُحصى ،والرب ُمطَّلعٌ يسمع ويرى ،قلت :ما رأس التقوى؟
قال :الصبر مع اهلل تعالى :قلت :ما رأس الصبر؟ قال :التوكل على اهلل ،قلت :وما
رأس التوكل؟ قال :االنقطاع إلى اهلل .قلت :وما رأس االنقطاع إلى اهلل؟ قال:
اإلنفراد هلل .قلت :وما رأس االنفراد؟ قال :التجريد عما دون اهلل .قلت :ما أل ّذ
ُ
العيش مع اهلل .قلت:
ُ أطيب األشياء؟ قال:
ُ ُنس بذكر اهلل .قلت :ما
األشياء؟ قال :األ ُ
ما أقرب األشياء؟ قال :اللحوق باهلل( ،)1قلت :أي شيء أوجع للقلب؟ قال :فراق اهلل،
قلت :ما ِه ّمةُ العارف .قال :لقاء اهلل .قلت :ما عالمة المحب؟ قال :حب ذكر اهلل.
قلت :ما األُنس باهلل ؟ قال :استقامة ِ
الس ِّر مع اهلل .قلت :ما رأس التفويض؟ قال:
التسليم ألمر اهلل .قلت :وما رأس التسليم؟ قال :ذكر السؤال عند اهلل( .)2قلت :ما
أعظم السرور؟ قالُ :ح ْس ُن الظن باهلل .قلتَ :من أعظم الناس؟ قال :من استغنى باهلل.
قلت :من أقوى الناس؟ قال :من استقوى باهلل .قلت :من المغبون؟ قال :من رضي
ِ
النزول بدون اهلل .قلت :متى يكون العبد ك
بغير اهلل .قلت :ما المروءة؟ قال :تر ُ
ُمبعداً من اهلل؟ قال :إذا صار محجوباً عن اهلل .قلت :متى يكون محجوباً عن اهلل؟
الغ ْمر()3؟ قالَ :من أنفق عمره في غير
قال :إذا كان في قلبه َه ٌّم غير اهلل .قلت :ومن ُ
طاعة اهلل .قلت :ما الزهد في الدنيا؟ قال :تَْرك كل شيء يشغل عن اهلل .قلتَ :من
المدبِر؟ قالَ :من أدبر عن اهلل.
ومن ُ
ِ
المقبل؟ قالَ :من أقبل على اهلل .قلتَ :
ُ
66
قلت :ما القلب السليم؟ قال :الذي لم يكن فيه سوى اهلل .قلت :أخبرني من أين تأكل؟
قال :من خزائن اهلل .قلت :ما تشتهي؟ قال :ما يقضي اهلل ،قلت :أوصني .قال:
وارض بقضاء اهلل ،واستأنس بذكر اهلل ،تكن من أصفياء اهلل.
َ اعمل بطاعة اهلل،
قال ذو النون المصري :كنت في بعض سياحتي ،فإذا بشيخ وفي وجهه
لوجدت الطريق
َ سيما( )1العارفين ،قلت :رحمك اهلل ،ما الطريق إليه؟ قال :لو عرفته
إليه ،قلت :وهل يعبده َمن ال يعرفه؟ قال :وهل يعصيه َمن يعرفه؟ قلت :أليس آدم
فنسي ولم نجد له عزماً .ثم قال :يا هذا دع االختالف عصاه مع كمال معرفته؟ قال:
َ
والخالف .قلت :أليس في اختالف العلماء رحمة؟ قال :بلى ،إال في تجريد التوحيد،
قلت :وما تجريد التوحيد؟ قال :فقدان رؤية ما سواه لوحدانيته .قلت :وهل يكون
العارف مسروراً؟ قال :وهل يكون العارف محزوناً؟ قلت :أليس من عرف اهلل طال
َه ُّمه؟ قال :بل من عرف اهلل زال َه ُّمه ،قلت :وهل تغير الدنيا قلوب العارفين؟ قال:
الخْلق؟ قال:
قلوبهم؟ قلت :أليس من عرف اهلل صار مستوحشاً من َ
العقبى َ
وهل تغير ُ
تجرداً ،قلت :وهل
وم ِّ
يكون ُمهاجراً ُ
ُ معاذ اهلل أن يكون العارف مستوحشاً ،ولكن
عرفه أحد؟ قال :وهل جهله أحد؟ قلت :وهل يتأسف العارف على شيء غير اهلل؟
قال :وهل يعرف غير اهلل فيتأسف عليه؟ قلت :وهل يشتاق العارف إلى ربه قال:
وهل يكون غائباً عن العارف حتى يشتاق إليه؟ قلت :وما اسم اهلل األعظم؟ قال :أن
قلت ولم يداخلني الهيبة ،قال :ألنك تقول من حيث أنت ال
تقول :اهلل .قلت :كثيراً ما ُ
من حيث هو .قلت ِعظني .قال :حسبك من المواعظ علمك بأنه يراك .فقمت من
عنده ،وقلت :ما تأمر؟ قال :كفى بإطالعه عليك في جميع أحوالك.
ُسئل يحيى بن معاذ الرازي ما عالمة القلب الصحيح؟ قال :الذي هو من
67
حي ال يموت .قيل :وما صدق
هموم الدنيا مستريح .قيل :وما القوت؟ قال :ذكر ٍّ
اإلرادة؟ قال :ترك ما عليه العادة ،قيل :وما الشوق؟ قال :مالحظة ما فوق .قيل:
متى يتم أمر العبد؟ قال :إذا سكن مع اهلل بال َه ّم .قيل :وما عالمة المريد؟ قال :أن ال
يشتغل بالعبيد .قيل :وما رأس الهدى؟ قال :صدق التقى .قيل وما اللذة؟ قال:
ومن الغريب؟ قال :الذي ليس له من حبه نصيب .قيل :ومتى يبلغ
الموافقة .قيلَ :
العبد إلى والية مواله؟ قال :إذا عزل عن قلبه كل َمن سواه .قيل :وما الراحةُ
التسليم للمولى .قيل :وما أفضل األعمال؟ قال :ذكر اهلل على كل
ُ ال ُكبرى؟ قال:
حال .قيل :وما الفاقة العظمى؟ قال :دوام األنس بالمولى .قيل :وما حجاب القلوب؟
قال :االستكفاء بالمربوب .قيل :وما العيش الجميل؟ قال :العيش مع الجليل .قيل:
الم ِحُّبون؟ قال :العارفون .قيل
وما حقيقة الوفاء؟ قال :الصدق والصفاء .قيل :ومن ُ
ومن العزيز؟ قال :من َّ
تعز َز بالعزيز ،قيل ومن الشريف؟ قال :من آنس اللطيف.
الع ْمر .قيل ما الدنيا؟ قال :ما شغلك عن المولى. الغ ْمر؟ قالَ :من َّ
ضيع ُ قيل :ومن ُ
نعم ،معدن المعرفة القلب لقوله تعالى( :فإنها من تقوى القلوب)( )1ومعدن
المشاهدة الفؤاد لقوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى)( )2ومعدن النور الصدر لقوله
تعالى (أفمن شرح اهلل صدره لإلسالم فهو على نور من ربه)( )3وما ازداد حباً هلل
تعالى إال ازداد حباً لرسوله صلى اهلل عليه وسلم وألوليائه.
68
الحديث الثالث عشر
ب]
أح ّ
رء مع َمن َ
الم ُ
[ َ
()1
أخبرنا الشيخ الجليل الولي األصيل ،فَ ْر ُد الوقت أبو المكارم الباز
األشهب( ،)2خالي وسيدي منصور الرباني األنصاري البطايحي رضي اهلل عنه
برواقه في نهر دقال ،قال :حدثنا :أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد الباقالني ،قال:
أنبأنا أبو عمرو عثمان بن محمد العالف قال :أنبأنا أبو بكر أحمد بن سليمان إمالء،
علي يحيى بن جعفر بي أبي طالب وأنا أسمع ،قال :حدثنا محمد بن عبيد
قال :قرأ ّ
بن األعمش ،عن شقيق عن أبي موسى رضي اهلل عنه قال :جاء رجل إلى النبي
صلى اهلل عليه وسلم فقال :يا رسول اهلل ،الرجل يحب القوم وال يلحق بهم ،قال:
ب"( )3هذا الحديث الشريف ُمْل ِز ٌم بمحبة العارفينُ ،مبشر باإللحاق
أح ّ
رء مع َمن َ
"الم ُ
َ
ص َّحت المحبة ،وهل الدين إال الحب في اهلل والبغض في اهلل ،وإ ن من ِس ِّر
بهم إذا َ
الحب الخالص ،أن يرفع العارف إلى مقام السرور والنجوى في المحاضرة عند
سواه.
أي ُبَن ّي اعلم أن العارف بأسرار المريدين ،المتطلع على همم العارفينَ ،كلَّ َ
ف
وفاء صدق العبودية ،ثم َّبين لهم تحقيق شرائطها ،كيال يتجاوزوا َح َّد العبودية
العباد َ
َ
وح َّد الفقر إلى َح َّد الغنى ،قال تعالى:
إلى َح َّد الربوبيةَ ،
الباز :ضرب من الصقور يستخدم في الصيد .والبازي :اسم فاعل من باز يبوز إذا انتقل من مكان إلى ()1
مكان .ويطلق هذا االسم على بعض األولياء المقربين الذين أمدهم اهلل تعالى بكرامة الطيران المرئي والطيران
الخفي ،وفي الطيران المرئي يبصرهم الناس وهم في هذه الحالة ،وفي الطيران الخفي يذهبون إلى أماكن نائية
من دون آالت النقل المادية المعروفة ،بقدرة اهلل تعالى.
الذي يخالط بياضه اسوداد .وهو من شاب قسم من شعره دون بعض. ()2
البخاري :األدب ،باب عالمة الحب في اهلل عز وجل 5816و 5817ومسلم :البر والصلة واآلداب ،باب: ()3
المرء مع من أحب 2640كالهما عن ابن مسعود رضي اهلل عنه والبخاري ( )5818عن أبي موسى
األشعري رضي اهلل عنه ،وعنه أيضاً مسلم (.)2641
69
( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى اهلل)( )1اآلية ،وجعل لكل شيء سبباً ،فجعل سبب
المخرج من عبودية المخلوقين ،القيام بصدق العبودية ،قوله تعالى( :ومن يتق اهلل
يجعل له مخرجاً)(ِ ،)2من عبودية َمن سواه( ،ويرزقه) المؤانسة والمحبة والشوق إليه
(من حيث ال يحتسب) ومعنى آخر( :ومن يتق اهلل) بحفظ السر عن آفات االلتفات
والوصلة (من ِ
إلى ما سواه (يجعل له مخرجاً) من ُح ُجب اإلبعاد ،ويرزقه المشاهدةَ َ
حيث ال يحتسب) ،وكذلك جعل سبب معرفة العبد ربه معرفة العبد نفسه ،بشاهدَ :من
ومن عرف نفسه بالفناء ،عرف ()3
عرف نفسه "أي بالعبودية " عرف ربه" بالربوبيةَ ،
ومن ِ ِ
ومن عرف نفسه بالجفاء والخطأ ،عرف ربه بالوفاء والعطاءَ ، ربه بالبقاءَ ،
ومن عرف نفسه لموالهَ ،قلَّت
عرف نفسه باالفتقار ،قام هلل على قدم االضطرارَ ،
حوائجه إلى َمن سواه.
ُروي أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قالَ " :من عرف اهلل قام بحقه"( )4أي من
ومن عرف اهلل بالربوبية قام له بأشراط العبودية، َّ
عرف اهلل بالهداية َسل َم نفسه إليهَ ،
ومن عرف اهلل بالجزاء أوقع نفسه في العناء ،ومن عرف اهلل بالكفاية ،اكتفى به عن
كل ما سواه.
روي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه السالم :أال َمن عرفني أرادني
ومن وجدني لم يختر علَ َّي حبيباً سواي.
ومن طلبني وجدنيَ ،
وطلبنيَ ،
قال الشيخ أبو بكر الواسطي رحمه اهللَ :من عرف اهلل أحبه ،ومن أحبه
ومن ُح ِرم المعرفةُ ،ح ِرم حالوة
أطاعه ،ومن أطاعه قطع عن قلبه كل ما دونهَ ،
في تاريخ بغداد للخطيب 2/362والعجلوني في كشف الخفاء (" :)2533من عرف نفسه َك َّل لسانه" وفي ()4
كشف الخفاء َ :2534من عرف نفسه استراح وقال السيوطي في األول :ليس بثابت .وقال العجلوني في الثاني:
ليس في المرفوع (كشف الخفاء التراث اإلسالمي .)2/362
70
ومن ُح ِرم حالوة الطاعةُ ،ح ِرم المؤانسة في الخلوة ،فال يجد في المعاملة
الطاعةَ ،
ِ ِ
ويغلب في األحوال فيسقط عن استقامة رؤية المَّنة ،وال يعرف قَ َد َر اهلل على الحقيقةُ ،
ِ
الس ِّر مع الحق.
وقال يوسف بن أسباط( )1رحمه اهللَ :من عرف اهلل وفي قلبه َه ٌّم سوى اهلل ،لم
ومن قال:
ومن عرف اهلل ولم يستغن باهلل ،فال أغناه اهللَ ،
يسجد سجدةً خالصةً هللَ ،
اهلل ،وفي قلبه شيء سوى اهلل فلم يقل :اهلل ،نعم َمن خاف اهلل في كل شيء آمنه اهلل
من كل شيء ،ومن أنِس بمواله استحوش عن كل ما سواه ،ومن اعتََّز بذي ِ
الع ِّز َع ّز، َ َ َ
ومن انقطع عن األسباب الشاغلة عن اهلل اتصل ومن اغتر بغيره فال فخر وال عزَ ،َ
ومن ترك عروة العالقات صار مستأنساً به في جميع باألسباب الشاغلة باهللَ ،
ومن جعل الهموم كر مواله ظهرت له أسرار الغيوبَ ، ومن ذاق حالوة ِذ ِ األوقاتَ ،
هماً واحداً كفاه اهلل الهموم ،ومن طلب رضاء مواله ال يبالي بسخط ما سواه ،ومن
ومن أراد
ومن كان هلل قريباً كان مع غيره غريباًَ ،ب عن إمامهَ ، اكتفى بمقامه ُح ِج َ
ومن ترك ُح ْس َن الرعاية َز َّل عن سبيل ِ
الدارينَ ، ع َّز َ
الدارين فلينقطع إلى َمن له ُملك َ
ومن أراد أن يشرب من محبة اهلل َشربةً فليشرب من ُبغض غير اهلل ُجرعة،
الهدايةَ ،
ومن َس َك َن قلبه إلى شيء فليس من
ومن استأنس بكل شيء استوحش من كل شيءَ ،
وه ُّمه غير اهلل فليس من اهلل في
"من أصبح َ
اهلل في شيء ،قال عليه الصالة والسالمَ :
شيء" ( ،)2قال اهلل تعالى في بعض الكتبَ :من أرادنا أردناه ،ومن أراد
يوسف بن أسباط :توفي سنة نيف وتسعين ومائة (الشعراني )1/62 ()1
ضعيف .رواه الحاكم في المستدرك .4/320وقال الذهبي في التخليص :إسحاق ومقاتل (يريد إسحاق بن ()2
بشر ومقاتل بن سليمان ،وهما من حملة هذا الحديث) :ليسا بثقتين وال صادقين .ورواه ابن عدي في "الكامل في
الضعفاء" دار الفكر 7/2530والزبيدي في اإلتحاف 8/84وأبو نعيم في الحلية 3/48وهو عن ابن مسعود
وه ُّمه غير اهلل فليس من
رضي اهلل عنه .ولفظه في كنز العمال (الرسالة) 16/10برقم َ " :43706من أصبح َ
اهلل (في شيء) ومن لم يهتم بالمسلمين فليس منهم".
71
ِ
أحَّبنا أحببناه ،ومن اكتفى بنا ّ
عما لنا ُكّنا له وما لنا ،أال َمن طلبني ومن َ
مّنا أعطيناهَ ،
وجدني ،ومن طلب غيري لم يجدني ،قيل :أال َمن طلبني بالتوبة وجدني بالمغفرة،
ومن
ومن طلبني بالدعاء وجدني باإلجابةَ ،
ومن طلبني بشكر النعمة وجدني بالزيادةَ ،
َ
ومن طلبني
ومن طلبني بالقُربة وجدني بالمؤانسةَ ،
طلبني بالتوكل وجدني بالكفايةَ ،
بالوصلة ،ومن طلبني باالشتياق وجدني باللقاء والرؤية.
بالمحبة وجدني َ
وقال بعضهمَ :من كان هلل كان اهلل له ،أي َمن كان في أمر اهلل كان اهلل في
ومن كان في حب اهلل كان اهلل في
ومن كان في ذكر اهلل كان اهلل في ذكرهَ ،أمرهَ ،
ي إلى ِ
حبه ،ومن كان في مرضاة اهلل يكن اهلل في مرضاته( ،ومن يعتصم باهلل فقد ُهد َ
ٍ
صراط مستقيم)(.)1
قال صلى اهلل عليه وسلم ( َمن أحب لقاء اهلل أحب اهلل لقاءه ،ومن كره لقاء اهلل
لي بمعاملة العبيد ،فليلبسابت
ُ من قائلهم: قول العارفين حكم ومن ،()2
كره اهلل لقاءه)
َ
لهم لباساً من حديد ،ومن رضي من الدنيا باليسير فقد استراح من شغل كثير ،ومن
ك ستر التُقي لم تستره
ومن َهتَ َ
أصبح على الدنيا حريصاً أصبح من اهلل بعيداًَ ،
عن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال " :من أحب لقاء اهلل أحب اهلل لقاءه، ()2
ومن كره لقاء اهلل كره اهلل لقاءه" قالت عائشة أو بعض أزواجه رضوان اهلل عليهن :إنا لنكره الموت .قال صلى
اهلل عليه وسلم :ليس ذاك ،ولكن المؤمن إذا حضره الموت ُب ِّش َر برضوان اهلل وكرامته ،فليس أحب إليه مما
أمامه ،فأحب لقاء اهلل وأحب اهلل لقاءه ،وإ ن الكافر إذا ُحضر ُب ِّش َر بعذاب اهلل وعقوبته ،فليس شيء أكره إليه مما
أمامه ،فكره لقاء اهلل وكره اهلل لقاءه" (البخاري :الرقاق ،باب من أحب لقاء اهلل أحب اهلل لقاءه 6142ومسلم:
الذكر والدعاء والتوبة واالستغفار ،باب :من أحب لقاء اهلل )2683وأخرجه البخاري أيضاً من طريق سعيد بن
المسيب عن قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم (
.)6142ومسلم منه ( .)2684وأخرجه البخاري برقم 6143عن أبي موسى األشعري رضي اهلل عنه.
وأخرجه مسلم برقم 2685عن أبي هريرة رضي اهلل عنه.
72
السموات العلى ،ومن نظر في عواقب األمور َسِل َم من نوائب الدهور ،ومن لم يقنع
غم طويل ،ومن َس َّل سيف التُقى ضرب به عنق الردى ،ومن كان بالقليل وقع في ٍّ
مسروراً لم يزل مغموراً ،ومن لم يحفظ لسانه فسد عليه شأنه ،ومن لم يعرف موضع
ض َّره لم يعرف موضع نفعه ،ومن أعرض عن صحبة الفجار عوضه اهلل صحبة ُ
األبرار ،ومن أخذ ِع ّزاً بغير حق أورثه اهلل ُذالًّ بحق ،ومن َّ
ضيع أيام حرثه ندم أيام
حصاده ،ومن توكل على غير اهلل يعذبه اهلل به ،ومن رضي باهلل وكيالً صار له بكل
ومن عرف حالوة النجوى ال يجد مرارة خير دليال ،ووجد إلى كل ٍ
خير سبيالَ ، ٍ
البلوى( ،ومن كان في هذه أعمى فهو في اآلخرة أعمى)(.)1
وقيل :ثالث كلمات كان األخيار من المتقدمين يوصي بعضهم بعضاً في كتبهم بهنَ :من عمل
آلخرته كفاه اهلل أمر دنياه ،ومن أصلح سريرته أصلح اهلل عالنيته ،ومن أصلح ما بينه وبين اهلل أصلح اهلل ما
بينه وبين الناس .شعر:
ِ إذا ِ
واستوجب الثنا
َ ين رأى الع َّز في َ
الدار ِ ِ
المؤمن استوى واإلعالن في
ُ الس ُّر
الكد والعنا
على فعله فض ٌل سوى ِّ سراً فما له ()2
خاف أإلعالن
وإ ن َ
آخر
ومن رام ِع ّزاً ِمن سواه ذلي ُل اعتز بالمولى فذاك جلي ُل من َّ
ٍ
سجدة لقلي ُل قضت وطراً في أن نفساً ُم ْذ براها ملي ُكها
فلو َّ
73
الحديث الرابع عشر
[ األعمال بالنيات]
أخبرنا شيخنا الشيخ أبو الفضل علي المقرئ القرشي الواسطي رحمه اهلل تعالى
رحمة واسعة ،قال :أنبأنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر الداودي ،قال:
أنبأنا أبو محمد عبداهلل بن أحمد بن حموية السرخسي ،قال :أنبأنا أبو عبداهلل محمد
ابن يوسف الفربري ،قال :أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل البخاري ،قال :حدثنا
قزعة ،قال :حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد ،عن محمد بن إبراهيم بن
يحيى بن َ
الحارث ،عن علقمة بن وقاص ،عن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال :قال النبي
صلى اهلل عليه وسلم" :العمل بالنية ،وإ نما المرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى اهلل
ٍ
امرأة ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو
ورسوله فهجرته إلى اهلل ورسولهَ ،
ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"( .)1ومن هذا الطريق روى هذا الحديث سيدنا عمر
الفاروق رضي اهلل عنه بنص :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول " :إنما
()2
األعمال بالنيات ،وإ نما لكل امرئ ما نوى ،فمن كانت هجرته إلى اهلل ورسوله"..
إلى آخر الحديث ،وهو نص عليه مدار الدين ،وأحكام العلم والعرفان واليقين ،وبه
قلوب العارفين ،إلى حضرة قدس رب العالمين.
البخاري :النكاح ،باب :من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله ما نوى ،رقم .4783وفتح الباري 1/12 ()1
و .9/115
أبو داود الطالق ،الباب :718باب فيما عني به الطالق والنيات ،رقم 2201وجامع األصول الكتاب الرابع ()2
من حرف النون :في النية واإلخالص رقم 9163والترغيب والترهيب :الترغيب في اإلخالص والصدق والنية
الصالحة ،رقم .15
74
هلل ال تقصد سوى ِ
اهلل الس ِ
ير بال عائق طارف َ
َ ُخ ْذ
القلب إلى ِ
اهلل بهجر ِة ِ قائم
أملتَ ُه ٌ
فكل ما َّ
أي بني ،أهل الحجاب يتعجبون من كالم أولي األلباب ،وربما ينتهي التعجب بهم إلى
أي تنكرون فعلهم. ()1
طرف من اإلنكار ،لقوله تعالى( :أفمن هذا الحديث تعجبون)
روي عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال :كانت تحت الجدار الذي أخبر اهلل
عنه بقوله( :وكان تحته كنز لهما)( )2لوح من ذهب ،والذهب مكتوب فيه :بسم اهلل
الرحمن الرحيم ،عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف
يحزن؟ وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ،وعجبت لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها
بأهلها كيف يطمئن إليها؟ ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل.
رحمه اهلل :بينما كنت أسير في أرض الروم ،إذ سمعت صوتاً
()3
قال وهب
من شاهق الجبل يقول :إلهي عجبت لمن عرفك ،كيف يتعرض لسخطك برضاء
غيرك ،إلهي عجبت لمن عرفك ،كيف يرجو غيرك ،فاتبعت الصوت ،فإذا أنا بشيخ
ساجد ،يقول :سبحانك عجباً للخليقة ،كيف يريدون بك بدالً ،سبحانك عجباً كيف
يشتغلون بخدمة غيرك ،سبحانك عجباً للخليقة ،كيف يشتاقون إلى غيرك؟ سبحانك
سبحانك كيف يتلذذون بغيرك وبشيء دونك .فمضيت وما أشغلته عما رأيت.
قال أبو يزيد رحمه اهلل :عجبت ألهل الجنة كيف يتلذذون بدونه ،أم كيف
ولي األحوال ،والعجب لمن
يستأنسون بغيره ،وعجبت ممن يسكن إلى حال دون ّ
أبو عبداهلل وهب بن منبه .توفي سنة 124هـ (طبقات الشعراني .)1/40 ()3
75
إلي.
إلي ّ
الخْلق والحق يقولَّ :
أقبل على َ
قال أبو عبداهلل بن مقاتل رحمه اهلل :عجبت البن آدم ،اختاره اهلل لنفسه مع
غناه عنه ،وهو ُيعرض عنه مع فقره إليه ،وعجبت لمن يشغل نفسه بشيء وهو يعلم
أنه قد فرغ منه ،وعجبت ممن يأمر غيره بما ال يفعله ،ويغضب على غيره بما يفعله،
مطيع لربه،
ٍ وممن يكره أن ُيعصى وهو عاص ،وممن يحب أن ُيطاع وهو غير
وممن يلوم غيره على الظن ،وال يذم نفسه على اليقين(.)1
قال حاتم األصم( )2رحمه اهلل :عجبت ممن يستحي من الخلق كيف ال يستحي
من الخالق ،ولمن يطلب رضاء المربوبين كيف ال يطلب رضاء الرب ،ولمن يحب
أهل الطاعة وهو مقبل على المعصية ،ولمن يعرف جالل اهلل كيف يعرض عنه،
ولمن يأكل رزق ربه كيف يشكر غيره ،ولمن يشتري المملوك بماله ،كيف ال يشتري
األحرار بمعروفه وطيب كالمه.
وقال ُخنيس بن عبداهلل :عجبت من رجل ليله قائم ،ونهاره صائم ،ويجتنب
المحارم ،وال تلقاه إال باكياً حزيناً ،ورجل ليله نائم ،ونهاره العب ،ويرتكب المحارم،
وال تلقاه أبداً إال ضاحكاً مستبشراً.
وقال يحيى بن معاذ( )3رحمه اهلل :عجبت ممن يتذلل للعبيد وهو يجد من سيده
ما يريد ،وعجبت لمن كان قوته رغيفاً يعصي رباً لطيفاً ،وعجبت لمن يخاف على
موت نفسه ،وال يخاف على موت قلبه ،ولمن يخاف على فوات دنياه ،كيف ال يخاف
على فوات دينه.
يأخذ غيره بالظن السيئ فيحققه (يجعله حقيقة) وال يبالي بأخطائه هو نفسه ،مع تيقنه من تلبسه بها ،ومن ()1
وقوعها منه.
حاتم بن عنوان األصم ،زاهد من بلخ ،توفي عام 237هـ. ()2
يحيى بن معاذ الرازي أبو زكريا .كان يقيم في بلخ ،ومات في نيسابور سنة 258هـ. ()3
76
كر النار موت ،فيا عجباً ِ ِ
كر الجنة موت ،وذ ُ
قال يحيى بن معاذ :إلهي ذ ُ
لنفسي تحيا بين َموتين ،أما الجنة فال صبر عنها ،وأما النار فال صبر عليها،
وقيل :ذكر الوصال موت ،وذكر الفراق موت ،كيف يحيا قلب بين موتين ،موت
العارف عجيب ،ألن العارف بين سرور المعرفة وخوف الفرقة ،فكيف الموت مع
سرور المعرفة ،أم كيف الحياة مع خوف الفرقة؟
يت وهل أنسى فأذكر من ِ
نس ُ ذكرت ربي
ُ عجبت ِل َمن يقو ُل
ُ
ُ َ
حييت
ُ ماء وصل َك ما
ولوال ُ أموت إذا ذكرت َك ثم أحيا
ُ
أموت
ُ عليك وكم
َ فكم أحيا وأموت شوقاً
ُ بالمنى
فأحيا ُ
الشراب وما َر ِو ُ
يت ُ فما َن ِف َد الحب كأساً بعد ٍ
كأس َّ شربت
ُ
يا عجباً
ِ
عجيب رت عجيباً ِع َ
ند ِّ
كل ِ
فص ُ ِ
غريب تَ َغ َّر َب أمري ِع َ
ند ِّ
كل
77
الحديث الخامس عشر
ضعيف .وهو في الترمذي :العلم ،باب ما جاء في االستيصاء بمن طلب العلم 2652عن أبي سعيد رضي ()1
اهلل عنه ،وأوله :إن الناس لكم تبع ،وإ ن رجاالً يأتونكم من أقطار األرضين . ..الحديث ،وابن ماجه :المقدمة باب
الوصاة بطلبة العلم 249وحلية األولياء 9/273وكنز العمال 29314و 29275و 29276والترمذي
،2653وأوله :يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون ..وابن ماجه :247سيأتيكم أقوام يطلبون العلم ..عن أبي
سعيد رضي اهلل عنه و " :248إنه سيأتيكم أقوام من بعدي ..عن أبي هريرة رضي اهلل عنه .وهو في شرف
أصحاب الحديث للخطيب البغدادي 33و 34وفهرسة ابن خير 7و 8وتاريخ دمشق البن عساكر 2/247و
4/0250ومصنف عبدالرزاق 466وتاريخ بغدادـ للخطيب 14/387وجمع الجوامع للسيوطي (البحوث)
5970ومشكاة المصابيح للتبريزي 215وتفسير القرطبي 20/101والفقه والمتفقه للخطيب البغدادي (بيروت)
2/116والسلسلة الصحيحة 280ودالئل النبوة للبيهقي (الكتب العلمية) ( 6/54موسوعة أطراف الحديث
وحسَّن السيوطي أحد طرقه (الجامع الصغير (الفكر) 2/56رقم .)4733
3/262و 5/250و َ )251
78
هذا الحديث الشريف يجذب العارف إلى طلب حديث المصطفى صلى اهلل
النبوي ،في ُبحبوبة التوصية السارية في عوالم
ّ وسّنته ،ليكون محل نظره عليه وسلم ُ
ِ
بحديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، اهلل تعالى ،وهل لباب المعرفة باهلل ،إال األخذ
السنية؟ وهذا القامع للنفس.
بسنته ُ
والعمل ُ
أي ُبَن ّي ،اعلم أن معرفة النفس ،أحد أصول العبودية و َق َّل َمن يعرفهاَ ،
وع َّز
وجود من يتمنى عرفانها ،وما خلق اهلل تعالى في الدارين ِسجناً أضيق على العارف،
ٍ
أرض وال أوحش وال أنتن من النفس ،فَ َمن عرفها على التحقيق ،وخالف أمرها "ف ُك َّل
خطر عظيم ،وال يسلم من غر وطرسوس"( ،)1ومن غفل عن معرفتها ،فهو على ٍ ِ
له ث ٌ
شرهاَّ ،
فإن َمن ال يعرفها كيف يقوم بمخالفتها.
قال أحمد بن حرب :إني ألشتهي أن أموت ولو ساعة ،حتى أعرف نفسي
وأخالفها ،قال محمد بن الفضل ( :)2من عرف نفسه ال يتنفس َنفَساً إال بدوام جهدها،
وصدقوكثرة عبادتها ،وال يغتر بصفاوة أوقاتها ،وحسن أحوالها ،ولطائف أنفاسهاِ ،
معاملتها ،لما علم من غوامض آفاتها ومكرها وسوء طبعها وكمال شرها ،وإ ني
ونظرت في شأن نفسي ،فما رضيت في عمري من نفسي
ُ تفكرت في جميع عمري،
ُ
طرفةَ عين.
قال األنطاكي( )3رحمه اهللَ :من يعرف نفسه فهو مغرور ،قال إبراهيم بن
]4/28ومعنى" :كل أرض له ثغر وطرسوس" أنه كما ينبغي االنتباه إلى نقاط الثغور والمجابهة مع العدو
(كطرسوس) وإ يالؤها عناية خاصة ،ينبغي أن يولي كل امرئ جوانب الضعف في نفسه وميوله اهتماماً خاصاً،
من مجاهدة ومراقبة وتقويم ،ليسلم من شرها.
محمد بن الفضل البلخي السمرقندي (ت 319هـ). ()2
لعله أحمد بن عاصم األنطاكي ،أبو علي (القشيرية .)62أو أبو محمد عبداللطيف بن حنيف األنطاكي ()3
79
وجدت رجالً إال وهو راكب هواه،
ُ خالطت الناس سبعين سنة ،فما
ُ أدهم( )1رحمه اهلل:
أحب أن ُي َخطِّئ الناس كلهم ،وألن ُيضرب ظهري بالسياط ،أحب حتى أنه إن أخطأ َّ
عرضت قولي على
ُ إلي من أن ُيقال أخطأ فالن المسلم ،وقال إبراهيم التَّيمي( :)2ما
ّ
عملي إال وجدته مكذوبا .وكان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه كثيراً ما يقول :اللهم
إني أعوذ بك من شر نفسي .قال ذو النون :من نظر بعين المعرفة إلى سلطان ربه
ص ُغ َرت عنده عظمة نفسه ،وقُ ِه َرت
سلطان نفسه ،ومن نظر إلى عظمة ربه َ
ُ فَنِ َي عنه
تحت جالل هيبته .وقيل لمالك بن دينار حين ماتت زوجته أم يحيى :لو تزوجت يا
لطلقت نفسي ،ولو أن منادياً ينادي بباب المسجدِ :ليخرج
ُ استطعت
ُ أبا يحيى ،قال :لو
أحد إلى الباب إال رجل له فضل قو ٍة في السعي.
شركم رجالً ،فو اهلل ما سبقني ٌ
َّ
ك
نفس َ
ع َ وقال أبو يزيد :قلت يا رب كيف الوصول إليك؟ قال :يا أبا يزيد َد ْ
وتعال.
حكيم حكيماً فقال :يا أخي إني ألحبك في اهلل ،فقال :يا أخي واهلل لو
لقي ٌ
مت مني ما أعلم من نفسي لََب ِغ ْ
ضتني الحالة. ِ
عل َ
وكان بكر بن عبداهلل المزني( )3ومطرف بن عبداهلل( )4بالموقف ،فقال
مطرف :اللهم ال تردهم ألجلي ،وقال بكر :ما أشرف هذه المواضع وأرجاها لوال أنا
فيهم! اللهم ال تحبس المغفرة بشؤمي ،وال تردهم ألجلي.
وقال موسى بن القاسم( : )5وقع عندنا زلزلة وريح حمراء ،فذهبت إلى محمد
إبراهيم بن أدهم بن منصور ،من كورة بلخ ،مات في جبلة سنة ،162وفيها قبره. ()1
قال األعمش (سليمان بن مهران توفي سنة 148هـ) :قال لي إبراهيم التيمي :ما أكلت منذ أربعين ليلة إال حبة ()2
80
ابن مقاتل ،فقلت :يا أبا عبداهلل ادعُ اهلل لنا فأنت إمامنا ،فقال :ليتني ال أكون سبب
هالككم ،فقال موسى بن القاسم :رأيت النبي صلى اهلل عليه وسلم تلك الليلة في المنام
فقال :إن اهلل دفع عنكم البالء بدعاء ابن مقاتل.
وكان عطاء السلمي( )1يبكي كلما هبت ريح شديدة ،ويقول :هذه من أجلي
يصيب بها الخالئق ،لو مات عطاء الستراح الخالئق من بالئه ،وكثيراً ما ينوح على
عطاء لعلك أول مسحوب إلى النار وأنت غافل.
ُ نفسه ،ويقول :يا
واقفاً بعرفات ،فنظر إلى جميع الناس وقال :يا له من موقف ()2
وكان الفضل
ما أشرفه لوال أنا فيهم ،ثم بكى ورفع رأسه وأخذ لحيته وقبض عليها وقال :يا سوأتاه
على ما كان من نفسي ،فإنها مغرورة وبالثناء مسرورة ،وإ ن من غاية بالء النفس،
أن لو مات نصفها لم يصلح النصف اآلخر.
وحكي أن أبا يزيد البسطامي قال :نظرت في حال عبادتي فرأيتها مختلطة،
ُ
ثم نظرت إلى نفسي وتركيبها ،فإذا هي منسوبةٌ إلى كل بالء ،ورأيتها ال تخلو من
الشرك ،وعلمت أن اهلل تعالى ال يقبل الشرك ،فقلت لها :يا مأوى كل شر ،إلى كم
فعمدت
ُ يدعوك اهلل إلى توحيده وال تنظرين إليه؟ فاشتد على قلبي غم هذا اإلشراك،
ت فيه نار الحق ،ووضعت فيه كير اللَّْيسية، وأعددت لها كانون الصياغة ثم َسع َّْر ُ
ُ
بمطرقة األمر والنهي ،وطال بي العناء ،فلما ونصبت سندان الوحدانية ،وضربتها ِ ُ
َ
نظرت إليها وجدتها ُمشركة ،فقلت :إنا هلل وإ نا إليه راجعون ،إنها ال تنظف بالجفاء، ُ
ووضعت بين
ُ فلعلها تنظف بالرفق واللين والمداراة،ـ فرددتها إلى بستان ذكر ِ
المَّنة، ُ
التحنن والبر واإلحسان، يديها رياحين رؤية اللطف والكرامات ،وتروحت بمراوح ُّ
وطال مني العناء ،فلما فتَّشتها وجدتها ُمشركة ،فقلت لها :يا مأوى
عطاء السلمي :انظر فيه طبقات الشعراني (الفكر) 1/47وجامع كرامات األولياء .2/304 ()1
81
كل شر وبالء ،ال تصلحي بالجفاء وال بالرفق ،ثم رددتها إلى قصار األحذية،
ليضربها على حجر الفردانية ،ويغسلها بماء صفوة الصمدانية ،فلم يزل يضربها
رجاء أن تنظف من اإلشراك ،وطال مني العناء ،فلما نظرت إليها فإذا هي ُمشركة،
فقلت :إنا هلل لعل صالحها من وجه آخر ،ثم أنزلتها بمنزلة امرأة مستحاضة ،فلم أزل
وعلمت أن ال
ُ ت منها،
أيس ُ كالمتحي ِِّر ُ
المضطر ،وأنظر إلى بالئها حتى ْ أنظر إليها ُ
رت وحدي إلى ربي، ثالث تطليقات وتركتُهاِ ،
وص ُ يتأتّي ُمرادي منها ،فطلقتها َ
دعاء َمن لم يبق له غيرك بالعتق من عبودية ما سواك،
َ وناديته :يا عزيزي أدعوك
فلما علم اهلل تعالى صدق الدعاء مني ،واليأس من نفسي ،كان أول إجابة الدعاء أن
أنساني نفسي بال ُكلّية.
الخْلق اجتمعوا على أن يضعوني كإيضاعي عند ()1
قال أبو سليمان :لو أن َ
نفسي لم يقدروا على ذلك .طوبى ٍ
لعبد أطلعه اهلل على شر النفس ،وعرف أصل
وحقََّرها ،واتَّهمها َو َو َ
ض َعها. وقهرها َ
ومألفهاَ ،
وم ْقتَها َ
وأنواع عوارضهاَ ،
َ ِخلقتها،
أبو سليمان الداراني" :عبدالرحمن بن عطية" منسوب إلى داريا بقرب دمشق .توفي سنة ( 215الشعراني ()1
.)1/79
82
الحديث السادس عشر
أخبرنا سيدنا فرد الوقت أبو المكارم الباز األشهب الشيخ منصور الرباني
البطايحي األنصاري رضي اهلل عنه برواقه في بلدة نهر دقال من واسط ،قال :أنبأنا
الفرا قراءة عليه ،قال :أنبأنا أبو الحسن أحمد بن
أبو عبداهلل مالك بن أحمد بن علي ّ
موسى بن الصلت ،قال :حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ،قال:
حدثنا عبيد ابن أسباط ،عن أبي سفيان ،عن عبدالملك بن عمير ،عن ربعي ،عن
حذيفه رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :اقتدوا بالل َذين من
عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد"( .)1فقد أمر
بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي ّ
عليه الصالة والسالم بتصحيح القدوة بالشيخين العظيمين ،سيدنا أبي بكر الصديق،
وسيدنا عمر الفاروق رضي اهلل عنهما ،وبالتحقق باإلهتداء بهدي عمار رضي اهلل
عنه ،فإنه مات على حب الصهر العظيم ،الصنو الكريم ،سيدنا علي رضي اهلل عنه،
وأكد لزوم التمسك بالعهد ،كما كان محافظاً عليه ابن أم عبد رضي اهلل عنه ،وفي هذا
حكمة الجمع بين حب الصحب واآلل ،سر يدركه العارفون الموفّقون.
أحمد في المسند 23169و 23312وقال محققه :إسناده صحيح ،ورواه رواية أخرى أولها :إني لست ()1
أدري ما قدر بقائي فيكم ..برقم .23279والحاكم في المستدرك :معرفة الصحابة 3/75عن حذيفة رضي اهلل
عنه ،وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص .فالحديث صحيح .ولكن ثمة مقاالت أسوقها لإلطالع ،والتفصيل ،مع
تصحيحه .ففي الجامع الصغير ( 1/197برقم )1319رواية" :اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي :أبي بكر
عمار ،وتمسكوا بعهدـ ابن مسعود" وهي من الترمذي عن ابن مسعود ،والروياني عن
وعمر ،واهتدوا بهدي ّ
حذيفة ،وابن عدي في الكامل عن أنس .وقال السيوطي :حديث صحيح .وساق الحاكم هذه الرواية في المستدرك
ٍ
ورواه الطبراني = ،3/76وعقّب عليها الذهبي بأن سندها واه.
83
وقد جعل صحة المتابعة له بإتباع الشيخين رضي اهلل عنهما ،وحقيقة االهتداء
بهديه بمواالة األمير رضي اهلل عنه ،وجمع بين النكتتين بلزوم التمسك بالعهد ،ومتى
اقتدى العبد اهتدى ،ومتى اهتدى تمسك بعهد اهلل ،وهناك وقد عرف ،وهل المعرفة
باهلل تعالى إال هذا ،فإن من اهتدى بهدي محمد صلى اهلل عليه وسلم واقتدى به،
وتمسك بعهده ،أقبل على اهلل ،وأعرض عن غيره.
جاء في الخبر أن اهلل تعالى قال " :يا دنيا اخدمي َمن خدمني ،واستخدمي َمن
خدمك"( )1وليس من معالي الهمة االشتغال بما فيه حظ النفس ،وفي َن ْع ِت النبي صلى
بعلو همته الشريفة (ما زاغ البصر وما طغى)( )2وال يصل العبد إلىاهلل عليه وسلم ّ
اهلل تعالى،
الحماني وهو
= في األوسط 3816و 5503و 5840و .7177وقال الهيثمي" :وفيه يحيى بن عبدالحميد ّ
(
ضعيف" [ مجمع الزوائد (الفكر) 9/484برقم ]15606وهو في كنز العمال 32657و 33117و 33679
وحسنه،
وكشف الخفاء 1/181برقم ،482وأسنى المطالب 46وقال البيروتي فيه" :رواه أحمد والترمذي ّ
وحسنها ":-واهتدوا بهدي عمار
البزار -كابن حزم :-ال يصح وفي رواية للترمذي – ّ وأعلّه أبو حاتم .وقال ّ
وتمسكوا بعهد ابن أم مسعود" وقال الهيثمي :سندها واه" .ورواه الترمذي في المناقب ،باب مناقب أبي بكر وعمر
رضي اهلل عنهما كليهما 3663و 3664وقال :حديث حسن .والحميدي 1/214برقم 449وابن ماجه:
المقدمة ،باب في فضائل أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (فضل أبي بكر رضي اهلل عنه) 97ورواه
الطبراني عن أبي الدرداء رضي اهلل عنه مع اختالف لفظ (مجمع الزوائد 9/40برقم .)14356وابن أم عبداهلل
بن مسعود رضي اهلل عنه.
في [ الآللئ المصنوعة للسيوطي] وله شاهد( :يا دنيا ،مري على أوليائي وأحبائي ،ال تحلولي فتفتنيهم، ()1
وأكرمي من خدمني ،وأتعبي من خدمك) موضوع .وله طريق آخر ،ومدار الطريقين على الحسين بن داود،
غير ثقة [ .ورواه] الصغاني ( :يا دنيا اخدمي من خدمني وأتعبي يا دنيا من خدمك" موضوع) [ تذكرة
الموضوعات للفتني (محمد طاهر بن علي الهندي) – بيروت – ص .]175ومري :بفتح الميم ،من الباب
ضم الدال وكسرها. الرابع ،وهي مثل َّ
خدم ّ مل يم ّل ،أي صيري ُم َّرة (ذات مرارة) .ويجوز في مضارع َ
( )2سورة النجم17 :
84
حتى يقطع مفاوز الدنيا وما فيها ،ومن زهراتها ولذاتها ،وراحاتها وشهواتها،
وم ْح َم َدتِ ِهم ،وأن اهلل
الخلق وما منهم ،من جميل معاشرتهم وثنائهم َ
ويجاوز أودية َ
ابتالء لكل َمن أراد أن يصير مجرداً ،حتى إن التفت إلى شيء ً تعالى خلق جميع ذلك
مستدر ٍج
َ والخسران ،فكم
ُ
()1
الحسبان
منها صار مفتضحاً في دعواه ،وغرق في أودية ُ
الخلق ،غافل عن الصدق ،جاهل بعرفان النفس ،يصبح ويمسي ِ
محجوب عن َ بالنعم،
على الحسبان ،فيبدو له من ذي العرش ما لم يكن يحتسب؛ قال اهلل تعالى [ :وبدا لهم
من اهلل ما لم يكونوا يحتسبون]( )2وأن من معالي الهمة ،ما قيل ألبي عبد اهلل :لو
أعطاك اهلل تعالى الدنيا بجميع ما فيها ،ماذا تفعل بها؟ فقال :لو أمكنني أن أجعلها
لقمة ،وأضعها في فم كافر لفعلت ،قيل :ولم؟ قال :ألن اهلل تعالى يبغض الكافر
البغيض إلى البغيض.
ُ والدنيا جميعاً ،فأفعل ذلك ليقع
بعث إليه سبعة أوقار من ()3
ثم ُحكي من صدق ما ادعاه أن سلطان هراة
الحنطة ،وكان الشيخ يومئذ بهراة مع أصحابه ،فأطعم الخادم منها أولياءه ،فقال له أبو
عبداهلل :أطعم الباقي فقراء العامة فقال :ال يمكن ،األبواب مغلقة ،فقال :اذهب به إلى
فخشيت عقوبة اهلل تعالى في ترك أمره،
ُ المجوس الذين هم في جوارنا قال الخادم:
فأعطيته المجوس ،فجاؤوا بكرة إليه وقالوا :ما الحكمة في إعطائك إيانا ونحن
مخالفوك؟ فقال :الدنيا عدو اهلل ،والكافر عدو اهلل ،وال يقرب الحبيب من الحبيب حتى
عدوه ،قال :فأسلموا جميعاً على يديه.
يبعد من ِّ
ُحكي أن بعض المريدين كان يمشي في البادية ،فحدثته نفسه ببعض حاجتها،
فإذا هو على شط بئر ،فرمى ركوته في البئر ليستقي الماء فخرجت له الركوةُ
مملوءةً من الذهب ،فرمى بها في البئر ،وقال :يا عزيزي ال أريد غيرك.
(ُ )1حسبان :حساب ،ويقال هو جمع حساب ،مثل شهاب و ُشهبان" [ نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن العزيز
للسجستاني (محمد بن ُع َزيز) – دار المعرفة – ص .].212
سورة الزمر.47 : ()2
85
قال عمار القرشي :كنت في البادية فأردت التلبية وكنت حاجاً ،فأخذت منديل
شيخ لي فقددته نصفين ،واتزرت بنصفه ،وارتديت باآلخر ،فلم تزل نفسي تنازعني
ببعض الحاجة ،فإذا البادية كلها فضة ،فمضيت وقلت :إلهي إني أعوذ بك من كل
إرادة سواك.
ٍ
لرجل َذ َك َر اهلل ،ولم يذكر إال اهلل، قال عيسى عليه الصالة والسالم :طوبى
لعبد سأل اهلل ،ولم يسأل إال اهلل. يخش إال اهلل ،وطوبى ٍ
وطوبى لرجل خشي اهلل ،ولم َ
وحكي أن اإلمام بن اإلمام سيدنا زين العابدين علي بن الحسين رضي اهلل
عنهما ،قال :كنت عند أبي عبداهلل الحسين عليه السالم ،أقرأ في بعض الكتب ،وكان
في يده سكين ،فرأيت حرفاً خطأ ،فقلت :ناولني السكين ألصلح هذا الحرف ،فناولني
قضيت الحاجة رددته عليه ،فقال لي :يا علي ال تعد إلى هذه مرة أخرى ،فتقع
ُ فلما
إلى ُذ ّل السؤال ،وخساسة الهمة.
وروي أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ذات يوم لثوبان رضي اهلل عنه" :يا
ُ
ثوبان ال تسأل الناس"( )1فكان ثوبان ربما يسقط السوط من يده ،فال يقول ألحد ناولني
إياه حتى ينزل ويرفعه.
وسأل رجل من سفيان رحمه اهلل كسرة فأعطاه ديناراً ،فقيل له في ذلك فقال:
إن كان ال يعرف هو قدر نفسه فال أدع كرم نفسي ،وإ ن كان هذا ترك الهمة فأنا ال
أدع الجود ،همم العارفين متصلة بمحبة الرحمن ،وقلوبهم ناظرة إلى مواضع العز
من العزيز ،ال راحة لهم في دار الدنيا دون الخروج منها ،وكان كثيراً ما يرى
أحمد في المسند (حديث ثوبان مولى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم) 22285و 22322و 22266وابن ()1
ماجه :الزكاة ،باب كراهية المسألة 1837والترغيب والترهيب للمنذري :الصدقات ،الترهيب من المسألة،
وتحريمها مع الغنى ،رقم الحديث.1200 ،
86
حبيب العجمي( )1رضي اهلل عنه يوم التروية بالبصرة ،ويوم عرفة بعرفات ،فقيل له
في ذلك فقال :هو أقل ما أطار إليه الهمةَ أهل الهمة.
ودخل علي كرم اهلل وجهه مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فرأى
أعرابياً في المسجد يقول :إلهي أريد منك شويهة( ،)2ورأى أبا بكر الصديق في زاوية
أخرى يقول :إلهي أريدك ،فشتان ما بين الهمتينٌّ ،
فكل يطير بهمته ،فإذا بلغ طيرانه
إلى غاية همته وقف فلم يجاوزها قال اهلل تعالى( :قل كل يعمل على شاكلته)( )3أي
على نيته وهمته.
وتطير في الهواء ،فقال :المؤمن
ُ تمر على الماء،
وقيل ألبي يزيد :سمعنا أنك ُّ
ٍ
عجب أن يبلغ مقام طير أو حوت ،قُرئ بين ُّ
أعز على اهلل من السماوات السبع ،فأي
يدي ابن المبارك ( )4قوله تعالى ( :أولئك يسارعون في الخيرات)( )5فقال :ليس أنه
يسبق عمالً ،ولكن ِهمةٌ تسبق ِه ّمة ،في جميع الخيرات
ُ بدن بدناً ،وال عم ٌل
يسبق ٌ
واإلرادات.
مساكين أهل الغفلة ،يشتغلون بكثرة األعمال،
ُ قال بعض العارفين:
ويعظمونها ويفتخرون بها ،ولو أن أهل المعرفة عملوا أعمال أهل السموات
واألرض من األزل إلى األبد كان ذلك أصغر وأحقر في أعينهم من خردلة في
السماء واألرض.
أبو محمد حبيب الفارسي المعروف بالعجمي (جامع كرامات األولياء .)2/17 ()1
ِّث وأُبدلت الهمزةُ ياءُ :ش َوّية ،ثم أبدلت الياء الثانية على غير قياس هاء.
تصغير شيء :شويئ ،أُن َ
()2
عبد اهلل بن المبارك المروزي ،أمير المؤمنينـ في الحديث ،له كتابان مطبوعان :الزهد ،والجهاد ،مات سنة ()4
181هـ .وانظر إن شئت التفصيل كتاب شعر الفقهاء للمحقق (طبعته المكتبة العربية بحلب) ص 320وما
بعدها.
المؤمنون.61 : ()5
87
()1
قال النبي صلى اهلل عليه وسلم " ال تستكثروا طاعتكم ،وال تستقلوا ذنوبكم"
وروي أن موسى عليه الصالة والسالم كان يمر على شاطئ البحر ،فقال إلهي قد
ُ
اصطكت ركبتاي ،وانحنى ظهري ،حبيبي فما أنت صانع بي؟ فأمر اهلل تعالى
ضفدعاً أن يجيبه ،فقال يا بن عمران .أتَ ُم ُّن على ربك بعبادتك إياه ،وقد اصطفاك
وكلمك ،وقربك وناجاك ،فوالذي خلقني ويراني ،إني على صخرة منذ ثالثمائة
وستين سنة ،أسبحه ليال ونهاراً ال أفتر منها لحظة ،ومنذ ثالثة أيام لم آكل ،وكل
ساعة ترتعد فرائصي من هيبته.
كنت في البادية فنالني جوعٌ شديد،ـ فطالبتني نفسي أن أسأل اهلل طعاماً،
وقال أبو سعيد أبو الخير ُ
فقال ليس هذا من دأب المتوكلين ،فطالبتني أن أسأله اصطباراً ،فلما هممت به ثانياً سمعت هاتفاً يقول:
أخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " لن ُينجي أحداً منكم ()1
عمله ،وال أنا ،إال أن يتغمدني اهلل برحمته " ..الحديث [ كنز العمال الكتاب الثالث من حرف الهمزة :في األخالق
واألفعال المحمودة 5316وانظر 5314و .]5315واخرج اإلمام أحمد عن عائشة رضي اهلل عنها أن رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب ،فإن لها من اهلل عز وجل طالباً [أحمد عبد الرحمن
البنا :الفتح الرباني لترتيب مسند اإلمام أحمد بن حنبل الشيباني (دار إحياء التراث العربي) ] 19/253وروى
السمرقندي عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال :أعظم الذنوب عند اهلل تعالى أصغرها عند الناس،
وأصغر الذنوب عند اهلل تعالى أعظمها عند الناس ،يعني :أعظمها عند المذنب إذا عظمه وخافه ،فإنها أصغر عند
ص ّراً
اهلل تعالى ،وأما إذا كان صغيراً في عين المذنب فهو عظيم عند اهلل تعالى ،ألن أعظم الذنوب ما كان ُم ِّ
عليه [ ..أبو الليث السمرقندي (نصر بن محمد) :تنبيه الغافلين (القسطنطينية 1325هـ) ص ]134وفي تنزيه
الشريعة البن عراق (القاهرة) 2/234عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مرفوعاً" :ال تنظر إلى صغر الخطيئة
ولكن انظر إلى من عصيت".
88
الحديث السابع عشر
أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري اإلمام الشيخ علي أبو الفضل
القرشي الواسطي رضي اهلل عنه ،قال :أنبأنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح
العشاري ،قال :أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص ،قال :أنبأنا أبو
محمد يحيى بن محمد بن صاعد ،قال :أنبأنا مالك بن الخليل أبو غسان ،قال :أنبأنا
ابن عدي ،عن أشعث ،عن الحسن ،عن عمران بن حصين ،أن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم قال " :يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين ال يكتوون،
وال يسترقون ،وال يتطيرون ،وعلى ربهم يتوكلون" (.)1
صحيح .رواه مسلم في اإليمان ،باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب وال عذاب، ()1
رقم 218وحلية األولياء ( عن خباب رضي اهلل عنه) [ كنز العمال (الرسالة) ]5701وعنه الطبراني في الكبير
18/169و 183ومسند أبي عوانة (بيروت) 1/87وانظر كنز العمال 5699و .5700وأخرج اإلمام أحمد
عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال " :إن ربي أعطاني سبعين
ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر :يا رسول اهلل ،فهال استزدته؟ قال " :قد استزدته فأعطاني مع
وفرج عبد اهلل بن بكر (وهو
كل رجل سبعين ألفا" قال عمر :فهال استزدته؟ قال " :قد استزدته فأعطاني هكذا" َّ
أحد شيوخ ابن حنبل ،وعنه روى هذا الحديث) بين يديه،ـ وقال عبد اهلل :وبسط باعيه ،وحثَا عبداهلل .وقال هشام
(بن حسان ،وهو شيخ عبد اهلل بن بكر) :وهذا من اهلل ال ُيدرى ما عدده) [ مسند أحمد ( حديث عبدالرحمن بن
أبي بكر عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم) ]1706ورواه أحمد بن محمد البنا الدمياطي عن اإلمام أحمد وعن
البزار والطبراني وتحدث عن األعمال الموجبة لذلك" [ الذخائر المهمات (مطبعة البهاء بحلب 1328هـ =
1910م ) ] 215وروى نحوهم الترمذي في صفة القيامة ،باب :يدخل الجنة من هذه األمة سبعون ألفاً دون
حساب برقم 2439وأحمد أيضا برقم .22204
89
ُّ
التطير المرتبة الثالثة ،بعد ترك جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عدم
الخلَّص من أهل االنمحاق عنهم وعن كونهم في االكتواء واالسترقاء ،وهذه مرتبة ُ
مراد اهلل تعالى رحمهم اهلل ما أقلهم في كل عهد ،فإن رتبتهم التحقق بالتوكل على اهلل
تعالى ،توكالً تنطوي فيه األسباب والمرادات ،وأولئك هم العارفون باهلل حقا رضي
اهلل عنهم.
يا هذا لو أن العالم فريقان ،فريق يروحني بمراوح من َن ّد( ،)1وفريق يقرض
جسمي بمقارض من نار ،ال ازداد هؤالء عندي وال نقص هؤالء ،اعلم أن َمن عرف
اهلل حق معرفته ،تالشت همته تحت سرور وحدانيته ،وال شيء من العرش إلى
الثرى أعظم من سرور العارف بربه ،والجنة بكل ما فيها في جنب سروره بربه
أصغر من خردلةِ ،لما َعِل َم أنه أكبر من كل كبير ،وأعظم من كل عظيم ،فمن وجده
فأي شيء ال يجد ،وبأي شيء يشتغل بعده ،وهل رؤية غيره إال من خساسة النفس،
لباس أجم ُل من لباس اإلسالم ،أو تاج
ودناءة الهمة ،وقلة المعرفة به ،وهل يكون ٌ
أج ّل من تاج المعرفة ،أو بساط أشرف من بساط الطاعة.
قال اهلل تعالى ( :قل بفضل اهلل وبرحمته فبذلك فيلفرحوا)(.)2
قال إبراهيم بن أدهم في بعض مناجاته :إلهي إنك تعلم أن الجنة وما فيها ال
وفرغتني للتفكر
تزن عندي جناح بعوضة بعدما وهبت لي معرفتك ،وآنستني بكَّ ،
في عظمتك ،ووعدتني النظر إلى وجهك ،نعم إن أدنى منازل العارف أن اهلل تعالى
لو أدخله النار ،وأحاط به العذاب ،لم يزدد قلبه إال حباً وأنساً به وشوقاً إليه.
قال ابن سيرين( )3لو ُخيِّرت بين الجنة وركعتين َّ
تخيرت الركعتين ،ألن في
الركعتين رضاء اهلل تعالى ،والقرب منه ،وفي الجنة هوى النفس ،ومحبةُ الناس.
90
حرقوه
قيل :لما أُلقي الخليل إبراهيم عليه الصالة والسالم في النار و( :قالوا ِّ
قال :حسبي ربي ونعم الوكيل ،نعم المولى ونعم النصير. ()1
وانصروا ءالهتكم)
قال تعالى ( :يا نار كوني برداً وسالماً على إبراهيم)(.)2
وروي أن اهلل تعالى أوحى إليه :يا إبراهيم أنت خليلي وأنا خليلك ،فال تشغل
الخلَّةُ بينك وبيني ،ألن الصادق في دعوى ُخلَّتي :من إذا أُحرق
قلبك بدوني فتنقطع ُ
لحرمتي ،و َذ َك َر اهلل تعالى ذلك في كتابه
بالنار لم يتحول قلبه عني إلى غيري إجالالً ُ
بقوله ( :إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)( )3فعرف صدقه في التسليم
حتى أُلقي في النار.
قال أبو عبد اهلل بن مقاتل في مناجاته :إلهي ال تدخلني في النار فإنها تصير
برداً علي من حبي لك .قال أيوب السختياني( :)4إنما يخاف النار من نسي مواله
فيقال لهم ( :فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)( )5مع ثواب أعماله.
قال أبو حفص :إني ألخاف على معرفة قوم يكون على جباههم مكتوباً
()6
أبو حفص :عمر بن مسلمة الحداد ،مات سنة نيف وستين ومائتين. ()6
91
مخلوقاً ،وقد قال اهلل تعالى لبعض أنبيائه :من أرادنا لم يرد سوانا.
قال بعض المشايخ :رأيت شاباً في المسجد الحرام ،قد أثَّر فيه الضر والجوع،
صرة ،فدنوت منه وقلت :يا حبيبي
فأدركتني الرحمة عليه ،وكان معي مائة دينار في ُ
فألححت عليه ،فقال :يا شيخ هذه
ُ إلي،
اصرف هذا في بعض حوائجك ،فلم يلتفت ّ
حالةٌ ال أبيعها بالجنة وما فيها ،وهي دار الجالل ومعدن القرار والبقاء ،فكيف أبيعها
ٍ
بثمن بخس.
قال أبو موسى الدبيلي خادم أبي يزيد :سمعت شيخاً ببسطام يقول :رأيت في
منامي كأن اهلل تعالى يقول :كلكم تطلبون مني ،غير أبي يزيد فإنه يطلبني ،ويريدني
وأنا أريده.
اتخ ِذ اهللَ جليساً وأنيساً ،والزم خدمة موالك تأتك الدنيا وهي
قال أبو عبد اهللِ :
راغمة ،وتطلبك اآلخرة وهي عاشقة ،وقال :يا طالب الدنيا دع الدنيا تطلبك ،ويا
طالب اآلخرة ،أو لم يكف بربك أنه على كل شيء قدير؟ قال أبو سعيد الخراز(:)1
فهممت أن أسأل اهلل شيئاً فهتف بي هاتف :بعد اهلل تسأل غير اهلل.
ُ كنت بالموقف،
وكتب رجل إلى أخ له :أما بعد فاضرب بالدنيا وجهَ عشاقها ،وباآلخرة وجه
النساج( :)2ال تستكثر
طالبها ،واستأنس برب العالمين ،والسالم .قال أبو عبد اهلل ّ
الجنة للمؤمن ،فإنه قد وافى هلل تعالى بما هو أكثر قدراً من الجنة وهو المعرفة.
وصلى رج ٌل من العارفين على جنازة َّ
فكبر خمساً ،فقيل له في ذلك فقال:
كبرت أربعاً على الميت ،وواحدة على الدارين .وحكي أنه قرئ بين يدي أبي يزيد
قال :فأين من يريد المولى؟ ()3
(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد اآلخرة)
92
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ألبي بكر الصديق رضي اهلل عنهما:
يا خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،بماذا بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا؟ فقال:
بخمسة أشياء ،أولها :وجدت الناس صنفين ،طالب دنيا ،وطالب عقبى ،فكنت أنا
طالب المولى ،والثاني :منذ دخلت اإلسالم ما شبعت من طعام الدنيا ،والثالث :ما
رويت من شراب الدنيا ،والرابع :إذا استقبلني عمالن ،عمل للدنيا ،واآلخر للعقبى،
اخترت عمل اآلخرة على عمل الدنيا ،والخامس :صحبت النبي عليه الصالة
علي :هنيئاً لك يا أبا بكر.
فأحسنت صحبته ،فقال له ّ
ُ والسالم،
93
الحديث الثامن عشر
[ أدبني ربي ]
أخبرنا ابن العم الولي الصالح السيد سيف الدين عثمان ،قال :حدثني أبوك
المنور ببغداد ،قال :حدثني ابن عمي
السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد ّ
السيد حسن بن عسلة ،قال :حدثني النقيب الجليل السيد يحيى بن ثابت ،قال :حدثني
أبي السيد ثابت ،عن أبيه السيد علي الحازم أبي الفوارسـ عن أبيه السيد أحمد ابن
علي أبي الفضائل ،عن أبيه السيد رفاعة الحسن المكي نزيل إشبيلية ،عن أبيه السيد
أبي القاسم محمد البغدادي نزيل مكة ،عن أبيه السيد الحسن القاسم أبي موسى
الرئيس ،عن أبيه السيد الحسين عبدالرحمن الرضي المحدث القطيعي ،عن أبيه السيد
أحمد األكبر ،عن أبيه السيد موسى ،عن أبيه األمير الكبير السيد إبراهيم المرتضى،ـ
عن أخيه اإلمام األعظم قبلة أهل الباطن علي الرضا صاحب طوس ،عن أبيه اإلمام
الشهيد موسى الكاظم ،عن أبيه اإلمام السعيد جعفر الصادق ،عن أبيه اإلمام محمد
َّجاد ،عن أبيه اإلمام المظلوم الشهيد
الباقر ،عن أبيه اإلمام زين العابدين علي الس ّ
السعيد الحسين صاحب كربالء ،عن أبيه أمير المؤمنين يعسوب نحل الموحدين
اإلمام علي كرم اهلل وجهه ،عن ابن عمه سيد المخلوقين وحبيب رب العالمين نبينا
هذا ()1
ورسولنا محمد صلى اهلل عليه وسلم أنه قال " :أدبني ربي فأحسن تأديبي"
الحديث الشريف ُملزم
ضعيف .رواه الشوكاني في الفوائد المجموعة ( السنة المحمدية)ـ 327والفتني الهندي في تذكرة ()1
الموضوعات 87وقال :سنده ضعيف ،وأخرجه ابن السمعاني في أدب اإلمالء عن ابن مسعود رضي اهلل عنه
(بسند منقطع ) كنز )31895وقال محقق الكنز :قال المناوي في الفيض :1/224إسناده ضعيف .وأخرجه ابن
ونشأت في بني سعد" [كنز العمال .] 32024
ُ عساكر بلفظ" :أدبني ربي
94
زل عنها هوى ومن فارقها َّ
ضل بالتحقيق بآدابه صلى اهلل عليه وسلم ،فإن من َّ
َ َ
أسرار العارفين ،وال وجه يلتحق به
ُ وغوى ،وبها تعرج ِه َم ُم المقربين ،وتُز ِه ُر
الذكر المتواصل.ـ
ُ وسلَّ ُم كل هذا:
العارف بربه إال طريق األدب المحمدي ُ
أي بني ،اذكر اهلل تعالى ،واعلم أن اهلل تعالى أعلى درجة الذكر ،وعظَّم
والجنان ،فينبغي وشرفه َّ
وفضله ،ثم قسَّمه على اللسان واألركان َ ُرتبته ،ورفع شأنهَّ ،
الذاكر على حذر أن يلتفت إلى الذكر ،ويكون شريف الهمة واإلرادة ،لطيف
ُ أن يكون
الفطنة في اإلشارة ،صحيح النية واإلرادة ،ال يريد بذكره غيره ،وال يلتمس منه
فراغه عنه إلى ما دونه ،ألن الوصول إلى الكل تحت الرضا به عن غيره،
والحرمان من الكل تحت االشتغال بغيره ،ويجب على الذاكر أن يذكره على غاية من
والحرمة ،ال على العادة والغفلة ،فيصير بذلك محجوباً عن المذكور ،عقوبة
التعظيم ُ
والحرمة ،ألن حفظ الحرمة في الذكر ،خير من الذكر ،وما من عبد
لترك التعظيم ُ
ذكره على التحقيق ،إال نسي في جنب ذكره ما سواه ،وكان اهلل له ِعوضاً من كل
سره أمواج
العارف أن يذكره فيهيج في ِّ
ُ شيء ،وربما يريد
95
التعظيم والهيبةُّ ،
فيكل لسانه ويطير فؤداه من إجالل الوحدانية ،ثم يبدو له شعاع
الشوق والمحبة من حجب القلب واأللفة ،فتنتهي همته إلى سرادقات األلوهية،
وميادين الربوبية بإذن اهلل ،فحينئذ يكشف له عما ُستر عن غيره من عجائب غيبه،
صنعه ،وكمال قدرته ،وأنوار قدسه ،فعند ذلك يعرف العبد أن اهلل تعالى
ولطائف ُ
الم ُّن والعطاء
يفعل ما يشاء بمن يشاء لمن يشاء متى! يشاء كيف شاء ،بيده َ
راد لفضله ،وال ُمعقِّب لحكمه ،فيشتغل به ،ويصير فانياً تحت بقائه،
واإلرادة ،ال َّ
وهذا معنى ما ُروي في بعض األخبار ،أن اهلل تعالى قال في بعض الكتبَ :من
()1
حركت قلبه لمحبتي ،إذا تكلم لي ،وإ ذا سكت سكت لي
ُ يذكرني وال ينساني
()2
قال اهلل تعالى ( :الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اهلل)
وقال يحيى بن معاذ :الذكر أكبر من الجنة ،ألن الذكر نصيب اهلل والجنة
نصيب العبد ،وفي الذكر رضاء اهلل ،وفي الجنة رضاء العبيد ،وعن علي بن أبي
طالب رضي اهلل عنه قال :إن اهلل يتجلى للذاكرين عند الذكر وتالوة القرآن ،وال
يرونه ألنه أعز من أن ُيرى ،وأظهر من أن يخفى ،فتفردوا باهلل سبحانه ،واستأنسوا
ٍ
نازلة إال وفي كتاب اهلل لها دليل من الهدى والبيان. بذكره ،وما نزلت بأحد
قال أبو عبد اهلل النساج :إن هلل تعالى في الدنيا جنة ،من دخلها كان آمناً
وددت
ُ ( )1روى الدارقطني في األفراد وابن عساكر عن ابن عمر رضي اهلل عنهما رفعه " :قال موسى :يا رب
أن أعلم من تحب من عبادك فأحبه" .قال " :إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبه"...
الحديث [ كنز العمال ]1870وفي حديث مرسل رواه أبو نعيم عن الحسن البصري يقول اهلل َّ
عز وجل " :إذا
كان الغالب على العبد االشتغال بي جعلت بغيتهـ ولذته في ذكري ،فإذا جعلت بغيته ولذته في ذكري عشقني
َّرت ذلك تغالباً عليه ،ال يسهو إذا سها
وعشقته ،فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب فيما بيني وبينه ،وصي ُ
الناس [ ..كنز العمال .]1872
الرعد.28 : ()2
96
(طوبى لهم وحسن مآب)( )1قيل :ما هي ؟ قال :األنس بذكره ،قال اهلل تعالى في
بعض كتبه :أوليائي وأحبائي تنعموا بذكري ،واستأنسوا بي ،فإني نعم الرب لكم في
الدنيا واآلخرة.
هل تشتهي طعاماً؟ قال :نعم ،قيل :أي شيء؟ قال: ()2
قيل ألبي بكر الواسطي
لقمة من ذكر اهلل ،بصفاء اليقين ،على مائدة المعرفة ،بأنامل ُحسن الظن باهلل ،من
جفنة الرضا عن اهلل سبحانه ،وروي أن اهلل تعالى قال للخليل عليه الصالة والسالم:
أتدري لم اتخذتك خليالً؟ قال :ال .قال :ألنك ال تُغفل قلبك عني ،وعلى كل ٍ
حال ال
أراك تنساني.
فمن كان يجتري أن يذكرك ،إجالالً وإ عظاماً لك
لوال أنك أمرتنا بذكركَ ،
سبحانك؟ عجباً للذاكرين ،كيف تثبت قلوبهم في أبدانهم عند ذكر عظمتك ،وروي أن
اهلل تعالى قال لموسى عليه الصالة والسالم :يا موسى إني لم أقبل صالة وال ذكراً إال
ويلزم قلبه خوفي ،ويقطع عمره بذكري ،يا موسى إن َمثَله
ممن يتواضع لعظمتيُ ،
في الناس كمثل الفردوس في الجنان ،ال يتغير طعمها ،وال َي ْيبس ورقُها ،فأجع ُل له
عند الخوف أمناً ،وعند الظلمة نوراً ،وأجيبه قبل أن يدعوني ،وأعطيه قبل أن
يسألني ،وروى كعب األحبار( )3أن اهلل تعالى قال :من شغله ذكري عن مسـألتي
أعطيه أفضل مما أعطي سائلي"(.)4
أبو بكر محمد بن موسى الواسطي ،كان يستوطن كورة مرو ومات بها بعد 320هـ. ()2
كعب بن مانع الحميري :تابعي توفي سنة 32هـ عن مئة وأربع سنوات .أسلم في عهد أبي بكر رضي اهلل ()3
عنه.
البخاري في خلق أفعال العباد ،وابن شاهين في الترغيب في الذكر ،وأبو نعيم في المعرفة ،والبيهقي في ()4
شعب اإليمان (عن ابن عمر رضي اهلل عنهما) وعبد الرزاق في الجامع ( عن جابر ابن عبداهلل رضي اهلل
عنهما) ورواه ابن أبي شيبة عن عمرو بن م َُّرة مرسالً [ كنز العمال ( الرسالة) 1/434الحديثان 1874و
.]1875
97
وقال عيسى بن مريم عليه الصالة والسالم :طوبى لمن ذكر اهلل ،ولم يذكر إال
اهلل ،وطوبى لمن يخشى اهلل ولم يخش إال اهلل.
وروي أن يعقوب عليه الصالة والسالم لما قال :يا أسفا على يوسف ،أوحى
تذكر يوسف ،أيوسف خلقك أو رزقك ،أو أعطاك النبوة،
اهلل تعالى إليه :إلى متى ُ
جت عنك من ساعتك
لفر ُ
واشتغلت بي عن ذكر غيريَّ ،
َ فبعزتي لو كنت ذكرتني،
فعلم يعقوب أنه مخطئ في ذكره يوسف ،فأمسك لسانه عن ذكره.
وقالت رابعة البصرية رضي اهلل عنها :ما أوحش الساعة التي ال أذكرك
فيها.
أقريب أنت فأناجيك ،أم
ٌ وقال موسى عليه الصالة والسالم ذات يوم :إلهي
أقرب
ُ وقريب ممن أنس بي،
ٌ بعيد فأناديك( ، )1فقال اهلل تعالى :أنا جليس لمن ذكرني،
إليه من حبل الوريد(.)2
قيل لذي النون :متى يكون ذكر اهلل للعبد صافياً؟ قال :إذا كان به عارفاً،
وممن دونه متبرئاً .قال علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه :ذكر اهلل طعام الروح،
والثناء عليه شراب الروح ،والحياء منه لباس الروح ،وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكره،
وما تنعم المتنعمون بمثل أنسه.
"من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،ومن
إن اهلل تعالى قال في الكتبَ :
ذكرني في مأل ذكرته في مأل ،ومن ذكرني من حيث هو ،ذكرته من
وعن النعمان بن بشير رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اللهصلى اهلل عليه وسلم :الدعاء هو العبادة .وقرأ. ()1
(ادعوني أستجب لكم ،إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [ غافر ]60فقال أصحابه:
أقريب ربنا فنناجيه ،أم بعيدـ فنناديه؟ فنزلت( :وإ ذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)
[ البقرة [ ]176 :جامع األصول (دار الفكر) ( 2/24التفسير – تفسير سورة البقرة) .]2/24
حبل الوريد :عرق في العنق ،يضرب به المثل في القرب. ()2
98
()1
حيث أنا"
وقال :إن الخالئق صاحوا من إبليس ،وإ ن إبليس صاح من الذاكرين ،وتال
طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون!)( .)2قال ابن
ٌ (إن الذين اتقوا إذا مسهم
عباس رضي اهلل عنهما :ما من مؤمن إال وعلى قلبه شيطان ،إذا ذكر اهلل خنس(،)3
شفاء ال يضر معه داء ،وذكر الناس داء ال ينفع مع ِ
كر اهلل ٌوإ ذا نسي اهلل وسوس ،ذ ُ
دواء ،فاجعل ذكر اهلل ِقبلة همك( ،)4وإ ضاءة مسجد فكرتك ،واعلم أن حقيقة
االستئناس بذكر الحبيب هو نسيان غيره.
من شغله ذكر اهلل تعالى فَنِ َي عن ذكر ما سواه ،وصار مدهوشاً تحت لطائف صنعه ،وتالشت ُكليته
تحت جمال حسن غايته ،واستغرق في بحار ذكر امتنانه:
أعياد ِ
العصر ِ للناس عيدان معدودان في ٍ
ُ وللمريد جميعُ سنة
()5
اد
الرب ّأو ُ ِ
ملكوت ِّ والقلب في والحمد راحتُ ُه
ُ فالذكر عادتُ ُه،
ُ ُ
الطبراني في الكبير عن أبي عباس وعن معاذ بن أنس رضوان اهلل عليهم [ كنز العمال 1866و ] 1867 ()1
وابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي اهلل عنه [ كنز ]1868ولفظه فيه قال اهلل تعالى :من يذكرني في نفسه
ذكرته في نفسي ،ومن ذكرني في مأل من الناس ذكرته في مأل أكثر منهم وأطيب.
األعراف .201 ()2
همك :اهتمامك.
ّ
()4
99
الحديث التاسع عشر
أخبرنا الفقيه الصالح بندار بن بختيار الواسطي ،قال :أنبأنا أبو جعفر محمد
بن أحمد المهدي الهاشمي ،قال أنبأنا أبو عثمان إسماعيل بن محمد ،قال :أنبأنا أبو
بكر محمد بن عبداهلل الضبي ،قال أنبأنا سليمان بن أحمد ،قال :أنبأنا إدريس بن جعفر
العطار ،قال :أنبأنا يزيد بن هارون بن محمد ،عن عمرو بن علقمة ،عن أبي سلمة
علي رسول اهلل صلى اهلل عليه
ابن عبدالرحمن ،عن عبداهلل بن عمرو ،قال :دخل َّ
وسلم بيتي فقال " :يا عبداهلل بن عمرو ،ألم أخبر أنك تكلّف قيام الليل وصيام النهار؟
قلت :إني أفعل ،قال " :إن حسبك أن تصوم من كل شهر ثالثة أيام ،الحسنة بعشر
أمثالها ،فكأنك صمت الدهر كله"(.)1
ففي هذا الحديث الشريف أسرار ،منها البشارة بتواصل نور األعمال ،وبنور
األعمال من دون انقطاع ،وإ ن تباعدت األوقات ،ومنها مضاعفة ثواب العمل لهذه
األمة ،الحسنة بعشر أمثالها ،لتنشط قلوبهم لعمل الخير ،ومنها األمر بعدم التكلف،
القلوب الغفلةُ،
َ تطم
الذي ُيفضي بالعبد إلى السأم والملل ،ومنها لزوم التذكر ،حتى ال ّ
ومنها اإليمان القطعي بوعد اهلل وحسن كرمه ،وكل هذه الخصال خصال العارفين،
الذين انقطعوا عن كل الهموم الدنيوية واألخروية ،وصار همهم ربهم ومن كان همه
ربه فال هم له.
صحيح .رواه أحمد في مسنده (مسند عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما عن النبيصلى اهلل عليه ()1
وسلم) برقم ،6878وزاد عبارة " :وال أقول افعل" فروايته " :إن حسبك -وال أقول أفعل – أن تصوم من كل
شهر ..الحديث .وهو في البخاري الصوم ،باب صوم الدهر ،رقم ،1875ومسلم :الصيام ،باب النهي عن صوم
الدهر .1159
100
ك
قال يحيى بن معاذ في مناجاته :إلهي إن عرفتك فأنت الذي قد هديتني ،وإ ن طلبتُ َ
فأنت الذي أردتني ،وإ ن أجبتك فأنت الذي اخترتني ،وإ ن أطعتك فأنت الذي وفقتني،
وإ ن أنبت إليك فأنت الذي آويتني ،وإ ن اهلل تعالى ال َي ِك ُل العارفين إلى أنفسهم ،وال
إلى طاعاتهم ،وال إلى ذكرهم ،بفضله ورحمته ،بل يكلؤهم بأكاليل شفقته ،ويمطر
عليهم أمطار رحمته ،من سحائب فضله وعنايته.
وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال :يا رب كيف لي أن أؤدي شكر
ُ
عرفت أنك عاجز عن
َ علي في كل شعرة نعمتان؟ فقال له :يا موسى ،إذا
نعمك ،ولك ّ
شكري فقد شكرتني ،وقيل :إن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالم:
اشكر نعمتي عليك .فقال :إلهي كيف لي أن أشكرك وشكري لك على النعم أعظم
نعمة علي؟ فأوحى اهلل تعالى إليه :إذا علمت ذلك فأنت أشكر العباد لي.
السماك( )1اذ ُكر َمن كان ذكره لك قبل ذكرك ،وحبه قبل حبك،
وقال محمد بن ّ
وما ذكرته إال بذكره لك ،وما أحببته إال بحبه لك .وقال أبو بكر الواسطي :من نسى
ذكر اهلل تعالى كان مستدرجاً.
واعلم أن أدنى أوصاف العارف ،عيش القلب مع اهلل بال عالقة ،وذلك من
()2
ِّن في قول اهلل تعالى (ولذكر اهلل أكبر)
ذكر اهلل إياه ،وذلك بي ٌ
وقيل في قوله تعالى ( :وقلي ٌل من عبادي الشكور)( ،)3أي قليل من يرى ِمَّنتي
عليه عند شكره لي.
وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال :إلهي كيف استطاع آدم أن يشكر
ُ
نعمتك ،إذ خلقته بيديك ،ونفخت فيه من روحك ،وأسكنته جنتك ،وأمرت
ابو العباس محمد بن السماك ،مات بالكوفة سنة ثالث وثمانين ومائة (الطبقات الكبري للشعراني ()1
(الفكر) .]1/61
سورة العنكبوت.45 : ()2
101
المالئكة فسجدوا له؟ فقال اهلل :يا موسى ،علم آدم ذلك مني فحمدني عليه.
فمن أطاعه فبتوفيقه أطاعه فله المنة ،ومن عصاه فبمقدوره عصاه ،فله الحجة
عليه ،فقد سبق فضله لمن أطاعه قبل طاعته ،وقد سبق عدله لمن عصاه قبل معصيته
الفعال لما يريد.
إياه ،ألنه ّ
وروي أن إبراهيم عليه الصالة والسالم قال :إلهي لوال أنت كيف كنت
أعرف َمن أنت؟ وقيل ألبي عبداهلل :ما لنا نحب المدح والثناء؟ فقال :لنسيان امتنان
اهلل عليكم ،وحسن عنايته التي سبقت منه لكم ،فمن نسي المنة ،وجحد النعمةُ ،قلبت له
النعمة نقمة.
بني ،إن اهلل تعالى أعطاك المعرفة ،ووفّقك لطاعته من غير إحسان سبق
يا ّ
منك ،ومن غير شفاعة كانت ألجلك ،فينبغي أن تشتغل بذكره وخدمته ،من غير طلب
ِع َوض ومكافأة منه ،فأهل الذكر أصناف مختلفة ،فمنهم َمن يذكر على جهة ِمّنة
السنة والجماعة ،ومنهم َمن يذكره على جهة منة ذكره،
اإلسالم ،ومنهم على جهة ُ
حتى يصير قلبه والهاً( ،)1ولسانه كليالً ،وعقله هائماً ويصير في عظمته مبهوتاً،
دهش في محبته ،لما علم أن األعمال ال تقوم إال به ،والذكر على
وي َ
ويتيه في كرمهُ ،
جهتين ،ذكر يتولد منه الخوف والخشية ،وذكر يتولد منه الشوق والمحبة ،فأما ما
ُينتج الخوف والخشية ،فهو ذكر َمن يذكر اهلل مع نفسه ،ويرى ذكر اهلل له سبب ذكر
اهلل تعالى ،ويعلم أنه بذكر اهلل يصل إلى ذكره إياه ،وأما األخر فهو الذكر الذي تذ ّكر
ذكر اهلل له في األزل ،حيث لم يكن موجوداً ،إلى أن يصير في الدنيا مفقوداً ،ثم إلى
األبد ،فوجد ذكر اهلل له سابقاً أزلياً ،خالداً أبدياً ،وذكره مكدراً بالشهوات ،ممزوجاً
بالغفالت ،فشتان بين من يدخل على اهلل برؤية ذكره ،وبين من يدخل على اهلل برؤية
فضله ومنته ،واعلم أن ذكر العبد هلل تعالى ،في إضافة ذكر اهلل للعبد ،كالغبار تحت
األمطار.
102
أكبر
ذكري ُ َ وذكر َك لي من قبل
ُ مؤملي ِ
بذكر َك تحيا ُمهجتي يا ِّ
()2
فأي أيادي َك الجزيلة أش ُك ُر؟ بشكر ِه
ِ أقوم ط ٍ
ال ُ
()1
َّ ول مننت ب َ
َ
103
الحديث العشرون
الس َن ُن الرواتب]
[ ُّ
أخبرنا الشيخ الحجة الثقة العارف أبو بكر بن يحيى النجاري األنصاري
الواسطي ،قال أنبأنا أبو القسم طلحة الكتاني ،قال :أنبأنا أبو الحسين أحمد بن عثمان
اآلدمي ،قال :حدثنا أحمد بن ماهان السمسار ،قال أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي ،عن
شعبة ،عن النعمان بن سالم ،قال :سمعت عمر بن أوس يحدث عتبة بن أبي سفيان،
عن أم حبيبة رضي اهلل عنها ،قالت :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلمَ " :من صلى
اثنتي عشرة ركعة تطوعاً كل يوم غير الفريضة بنى اهلل له بيتاً في الجنة"(.)1
هذا الحديث الشريف يحث على مالزمة النوافل ،فإنها من المقربات إلى اهلل
تعالى ،وهي زاد العارفين في طريقهم إليه سبحانه ،وشأن المتجردين لجنابه جلَّت
قدرته.
صحيح .رواه أحمد في المسند ( 10410مسند أبي هريرةرضي اهلل عنه) و 26653و ( 26654مسند أم ()1
حبيبة رضي اهلل عنها) ومسلم :صالة المسافرين ،باب فضل السنن الراتبة 728والنسائي :قيام الليل ،باب ثواب
من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة 3/264و 261وأبو داود :الصالة ،باب تفريع
أبواب التطوع 1250والترمذي :الصالة باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة من السنة ،رقم
414و ،415وقال في الحديث األخير :حسن صحيح .وابن ماجه في إقامة الصالة ،باب ما جاء في ثنتي عشرة
ركعة من السنة 1142 -1140والهيثمي في موارد الظمآن (الرسالة) 614والحاكم في المستدرك :صالة
وج َّل روايات هذا
التطوع .1/311وأم حبيبة هي السيدة رملة بنت أبي سفيان رضي اهلل عنهما ،أم المؤمنينُ ،
الحديث عنها ،وبعضها عن أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها أو عن أبي هريرة أو ابن عمر أو أبي موسى
رضوان اهلل عليهم.
104
أي بني ،اعلم أن من تجرد ِ
بس ِّر ِه عن ال ُكلَّ ،
وتفرد بسر السر الفَرد ،كشف له َ
الغطاء ،واستبانت له البراهين ،عند مشاهدة نور الحق سبحانه ،وهنالك يسقيه اهلل
صب ،ويصير سكوته
والن َ
ويزيل عنه التعب َ
بكأس محبته ،حتى ُيسكره به عن غيره ُ
ذكراً ،وأنفاسه تسبيحاً ،وكالمه تقديساً ،ونومه صالة ،وال يزال العبد يركب بسره
مركب المعرفة ،حتى يتصل بالمعروف ،فإذا اتصل بالمعروف ،بقي معه إلى األبد،
من غير أن يلتفت منه إلى ما سواه ،واعلم أن َمثَ َل القلب كالقصر ،والمعرفة فيه
أمير على األركان ،له تبعٌ وأعوان ،واللسان كالترجمان ،والسر
كالسلطان ،والعق ُل ٌ
من خزائن الرحمن ،وال بد لكل واحد منها من االستقامة في مواضعه ،ودوران كلها
على استقامة السر مع الحق ،فإذا استقام السر استقامت المعرفة ،فيستقيم العقل ،وإ ذا
استقام العقل ،استقام القلب ،وإ ذا استقام القلب ،استقامت النفس ،وإ ذا استقامت النفس،
منور بنور اليقظة
استقامت األحوال ،فالسر ُمَن َّوٌر بنور الجمال والجالل ،والعقل َّ
منور بنور الخشية واألفكار ،والنفس منورة بنور الرياضة
واالعتبار ،والقلب َّ
واالنزجار ،فالسر بحر من بحور العطايا ،وأمواج الهمة فيه ال ُيحصى عددها ،وال
ينقطع مددها ،وإ ن استقامة السر مع الحق ،هي الدوام على بساط المشاهدة ،مع فقد
والمرور
ُ رؤية االستقامة ،واعلم أن صراط االستقامة السُّرادق ،من صراط اآلخرة،
على جسرها أصعب من المرور على جسر اآلخرة ،وأن عالم األسرار غيور ،ال
يحب أن يكون في قلب العبد حب أو ِذكر لغيره ،قال اهلل تعالى في بعض كتبه " :إذا
كان الغالب على عبدي االشتغال بي ،جعلت لذته وهمته في محبتي ،ورفعت الحجاب
رضي اهلل عنه فقال له :أي ()2
فيما بيني وبينه"( )1ودخل رج ٌل على سري السقطي
شيء أقرب إلى اهلل ،ليتقرب به العبد إلى اهلل؟
أخرجه أبو نعيم في الحلية مرسالً عن الحسن البصري (كنز .)1872 ()1
سري بن المغلس السقطي البغدادي،ـ خال الجنيد توفي سنة 253هـ. ()2
105
فبكى السري ،فقال :أمثلك يسأل عن هذا؟ إن أفضل ما يتقرب به العبد إلى اهلل
سبحانه ،أن يطلع اهلل على قلبك وأنت ال تريد من الدارين غيره.
وقال إبراهيم بن أدهم :غاية همتي ومرادي من اهلل تعالى ،أن يجعل لي الميل
إليه ،فال أرى شيئاً دونه ،وال أشتغل بأحد سواه ،ثم ال أبالي إلى التراب َّ
صيرني ،أم
الخلة؟
إلى العدم رجعني .وقيل إلبراهيم عليه الصالة والسالم :بأي شيء وجدت ُ
أكلت قط إال مع
فقال :بانقطاعي إلى ربي ،واختياري إياه على ما سواه ،وبأني ما ُ
الضيف.
وقالت رابعة البصرية :إلهي همتي ومرادي في الدنيا من الدنيا ذكرك ،وفي
رفعت
ُ شئت .وقال أبو يزيد البسطامي:
اآلخرة من اآلخرة رؤيتك ،ثم افعل بينهما ما َ
السر إلى مواصلة الحق ،فطار بأجنحة المعرفة ،بنور الفطنة ،في هواء الوحدانية،
ك ،ال بد لك مني ،فلم يلتفت السر إليها ،ثم
نفس َ
فاستقبلتهُ النفس وقالت :أين تذهب ،أنا ُ
لق ،وقالوا أين تذهب؛ نحن رفقاؤك وندماؤك ،والبد لك منا ومن معاونتنا
الخ ُ
استقبلهُ َ
إياك ،فلم يلتفت إليهم ،ثم استقبلته الجنة بكل ما فيها ،وقالت :أين تذهب؟ فإني لك،
والبد لك مني؟ فلم يلتفت إليها ،ثم استقبلته العطايا والمواهب والكرامات كذلك ،حتى
جاوز المملكة ،وبلغ ُسرادقات الفردانية ،وجاوز الكلية واألنانية حتى وصل إلى
الحق ،وهو المطلوب .وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال في بعض
عجبت ممن يجدك ثم يرجع عنك .فقال اهلل تعالى :يا موسى ،إن َمن
ُ مناجاته :يا رب
وجدني ال يرجع عني ،وما رجع من رجع إال عن الطريق.
عبد اآلخرة ،فنَِيت في جنبها
وقال أبو العباس بن عطاء ( )1متى ظهرت على ٍ
الدنيا ،وبقي العبد مع دار البقاء ،ومتى ظهرت على العبد مشاهدةُ الحق تعالى ،فني
أحمد بن محمد بن سهل األدمي ،أبو العباس ،توفي سنة 309هـ أو .311 ()1
106
عنده ما دون الحق ،وبقي العبد مع الحق.
وقال رجل ألبي يزيد :بلغني أن عندك اسم اهلل األعظم ،أ ِ
ُحب أن تعلمني ذلك،
فقال أبو يزيد :ليس السم اهلل ٌّ
حد محدود ،ولكنه فراغُ قلبك لوحدانيته ،وترك االلتفات
اسم شئت تسير به من المشرق إلى المغرب كنت كذلك ،فخذ أي ٍمنه إلى غيره ،فإذا َ
ٍ
ساعة ثم تجيء. في
وفدك ،وأنت أعلم،
كنت حاجاً فإذا بشاب يقول :إلهي قد اجتمع ُ
قال ذو النونُ :
فسمعت صوتاً يقول :وفدي كثير ،وطالّبي قليل وسئل بعضهم:
ُ أنت صانعٌ بهم؟
فما َ
الخلق ،وقدماً
كم بين الحق والعبد؟ قال :أربعة أقدام ،يرفع قدماً من الدنيا ،وقدماً من َ
من النفس ،وقدماً من اآلخرة ،فإذا هو .ثم قال السريَ :من قام على طاعة اهلل بغير
عالقة ،سقاه اهلل َشربةً من عين محبته ،وبلِّغهُ إلى مقعد صدق.
قال علي رضي اهلل عنه :العارف إذا خرج من الدنيا لم يجده السائق وال الشهيدـ في القيامة ،وال
رضوان في الجنة ،وال مالك النار في النار .قيل :وأين يوجد؟ قال :في مقعد صدق عند مليك مقتدر ،إذا قام
من قبره ال يقول :أين أهلي وولدي ،وال أين جبريل وميكائيل والجنة والثواب ،ولكن يقول أين حبيبي وأنيسي.
107
الحديث الواحد والعشرون
[ صنائع المعروف]
أخبرنا الشيخ العارف باهلل تعالى سيدي عبدالملك بن الحسين بن ميمون بن
الحسين الحربوني الواسطي قدس اهلل سره قال :أنبأنا الشيخ الثقة عبدالحق بن
عبدالخالق ابن أحمد ،أقول :وبهذا السند عن عبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد ،بزيادة
لفظة" ابن يوسف" بعد أحمد ،أجازنا كتابة موالنا الخليفة المفترض الطاعة في
()1
األرض ،القائم هلل بإحياء السنة والفرض ،أبو العباس الناصر لدين اهلل العباسي
الهاشمي أعز اهلل به كلمة الدين والمسلمين ،وأيد باقتداره شريعة سيد المرسلين ،عليه
صلوات رب العالمين ،وعبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد بن يوسف المتقدم ذكره،
قال أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق بن عبدالرزاق قراءة ،قال :أنبأنا علي بن
وقرأت
ُ أحمد بن علي ،قال :أنبأنا عمي الحسن بن علي .قال :محمد بن مرزوق:
علي أبي نصر محمد بن سلمان ،أخبركم ذو النون بن محمد بن عامر فأقر به ،قال:
أنبأنا أبو أحمد الحسن بن عبداهلل بن سعيد ،قال :حدثنا محمد بن هارون ،قال :أنبأنا
محمد بن العباس الننسي ،قال :أنبأنا عمرو بن أبي سلمة ،قال :حدثنا صدقة ،عن
األصبغ ،عن ابن حكيم ،عن أبيه ،عن جده ،أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال" :
صنائع المعروف تقي مصارع السوء ،وإ ن صدقة السر تطفئ غضب الرب ،وإ ن
صلة الرحم تزيد العمر وتنفي الفقر" (.)2
الخليفة الناصر لدين اهلل أحمد بن المستضيء الحسن ( 622-553هـ) أجازه جماعة ،قال الذهبي :ولم يل ()1
الخالفة أحد أطول مدة منه ،فإنه أقام فيها سبعاً وأربعين سنة ( 622 – 575هـ) [ عطا حسني :حلى األيام في
خلفاء اإلسالم (مصر 1327هـ) ص 887وما بعدها.
حسن .وهو في مجمع الزوائد (الفكر) ( 3/293الزكاة :باب صدقة السر) برقم = ()2
108
وفي هذا الحديث الشريف من مكارم األخالق ،ما ُيصعِّد همة العارف إلى
حضرة ربه ،فإن أُس( )1المعرفة باهلل مكارم األخالق ،وأما سوء األخالق فهو والعياذ
باهلل من انحجاب السر عن اهلل تعالى.
أي بني ،اعلم أن أعظم مصائب السر حجابه عن اهلل تعالى ،،فكل من حلت به
هذه المصيبة ،فقد تالشت سائر مصائبه في جنبها ،فإن المحب سكران ،والسكران ال
يجد حالة سكره وجع المصيبة ،فإذا أفاق وجد األلم ،ومصيبة المحجوب عن اهلل ال
تنجبر أبداً ،إال بتجريد السر عن كل ما دون اهلل تعالى ،وال وعيد في القرآن أصعب
من قوله تعالى ( :كال بل ران على قلوبهم)( )2فكم من طاعة حجبت صاحبها عن
المطاع ،وكم من نعمة قطعت صاحبها من المنعم ،ورب نائم ُرزق االنتباه بعد
رقدته ،ومنتبه نام بعد طول االنتباه ،ورب فاجر رزق الوالية ،وبلغ منازل األبرار،
وزاهد سقط عن واليته ،وسلك مسالك الفجار ،وكم من عامل قد حجبته رؤية أعماله،
عن رؤية امتنان ربه ،حتى عمي بصره فصار ُمبعداً وهو يحسب أنه واصل ،وال
مصيبة أشد على العارف من الحجاب ،ولو طرفة عين ،وأعظم عقوبة على العبد من
اهلل البعد والحجاب.
العّباد قال :إلهي كم أعصيك وال تعاقبني ! فأوحى اهلل
وحكي أن رجالً من ُ
إلى نبي ذلك الزمان أن قل به :إلى كم أعاقبك وأنت ال تدري ،ألم أحجبك عن
(= 4637وقال نور الدين الهيثمي :رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة ،وإ سناده حسن وانظر في المجمع
.4639ورواه الهندي في كنز العمال (الرسالة) الزكاة الباب الثاني في السخاء والصدقة 6/344برقم
.15973ورواه أيضا برقم 16026بلفظ " :صدقة السر تطفئ غضب الرب ،وصلة الرحم تزيد في العمر،
وفعل المعروف يقي مصارع السوء" [ كنز .]6/353
أس :أساس. ()1
109
لطائف أُنسي ،ألم أخرج عن قلبك حالوة مناجاتي؟ وقال :أبو موسى خادم أبي يزيد:
خلق كثير ،فلما نظر أبو يزيد إليهم وإ لى ازدحامهم نحوه،
دخل الشيخ مدينة فتبعه ٌ
قال :اللهم إني أعوذ بك أن تحجبني عنك بهم ،وأعوذ بك أن تحجبهم عنك بي .رحمه
اهلل ما أكثر إنصافه ،ما أصدقه بربه ،ما أشفقه على إخوانه المسلمين ،أراد لهم الخير
وصحة النظر ،كما أراد لنفسه ،تنبه يا من يريد اجتماع الناس عليه ،واعتقادهم به،
كم طيرت طقطقة النعال حول الرجال من رأس ،وكم أذهبت من دين ،اللهم سلم،
اللهم سلم.
اعلم أن الناس أربعة أصناف ،رجل جعل اهلل قلبه بصيراً ينظر بنور اليقين
إلى لطائف صنعه وكمال قدرته ،ورجل جعل اهلل عقله بصيراً ينظر بنور الفطنة إلى
الوعد والوعيد ،ورجل جعل اهلل سره بصيراً ينظر في كل األوقات بنور المعرفة إلى
اهلل تعالى ،ورجل جعله اهلل مكفوفاً ال يبصر شيئاً ،فهو مظهر قوله تعالى ( :ومن
()1
كان في هذه أعمى فهو في اآلخرة أعمى وأضل سبيالً).
واعلم أن الكفار محجوبون بظلمة الضاللة عن نور الهدى ،وأهل المعصية
محجوبون بظلمة الغفلة عن أنور التقوى ،وأهل الطاعة محجوبون بظلمة رؤية
الح ُجب،
الطاعة عن أنوار رؤية التوفيق وعناية المولى ،فإذا رفع اهلل عنهم هذه ُ
نظروا بأعين النور إلى النور ،فعند ذلك ُيحجبون عن غيره به ،فكل من نظر إلى
حركاته وأفعاله في طاعة اهلل ،صار محجوباً عن وليها مفلساً ،ومن نظر إلى وليها
صار محجوباً به عن رؤيتها ،ألنه إذا رأى عجزه عن تحقيقها وإ تمامها ،صار
مستغرقاً في امتنانه ،وربما يحجب برؤية العباد عن وجدان حالوتها وربما يحجب
برؤية وجدان الحالوة عن صحة اإلدارة ،وربما يحجب برؤية المنة عن المنان
العجب ،ومن رأى
سبحانه ،قال النساج :من رأى نفسه عند الطاعة لم يتخلص من ُ
الخلق لم يتخلص من الرياء ،ومن رأي
( )1
سورة اإلسراء.72 :
110
الطاعة لم يتخلص من الغرور ومن رأي الثواب لم يتخلص من الحجاب ،ومن رأي
الرب تعالى فذلك في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
من اشتغل بطرائف الحكمة ودقائقها ،صار محجوباً
()1
وقال بكر بن عبداهلل
عن حقائقها ،وما أعرف معصية أضر بصاحبها من نسيان الرب ،وعالقة القلب
بغيره .وقال :كل هم وذكر لغير اهلل تعالى فهو حجاب بينك وبين اهلل ،وفي الخير:
ٍ
حسنة يعملها الرجل ال يكون له سيئة أضر عليه منها ،ورب سيئة يعملها (ر َّ
ب ُ
الرجل ال يكون له حسنة أنفع له منها) ،قيل في معناه :ألن الحسنة محمودة ،والسيئة
مذمومة ،فمادام العبد في الحسنة مع رؤية الحسنة فهو في ميدان الدالل واالفتخار،
وما دام العبد في السيئة مع رؤية السيئة فهو في ميدان االنكسار واالفتقار ،وحال
العبد في وقت االفتقار أحسن(.)2
قال اإلمام أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه :اللهم إني أعوذ بك من الشرك
الخفي ،قالت رابعة رضي اهلل عنها :حجبت الدنيا قلوب أهلها عن اهلل ،فلو تركوها
لجالت في ملكوته ،ثم رجعت بطرائف الفوائد.
قيل لسيدي منصور الرباني رضي اهلل عنه :بأي شيء يعرف العبد أنه غير
محجوب عن
بكر بن عبد اهلل المزني " :كان رضي اهلل تعالى عنه يقول :أوثق أعمالي عندي حبي للرجل الصالح ..مات ()1
باب القبول ،وربما قضى عليك بالذنب ،فكان سبباً في الوصول ،قال عبد المجيد الشرنوبي :يعني أن الطاعة
ربما قارنها آفات قادحة في اإلخالص فيها ،كاإلعجاب بها واحتقار من لم يفعلها ،فال يفتح لها باب القبول ،وربما
قارن الذنب شدة الندم واستصغار النفس وحسن االعتذار إلى اهلل ،فيكون سبباً في الوصول ،كما بين ذلك
المصنف [ أي ابن عطاء اهلل] بقوله" :معصية أورثت ذال وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكبارا" [ شرح
الحكم العطائية لعبد المجيد الشرنوبي ( دار ابن كثير – الطبعة الثالثة) ص .]82
111
ربه؟ قال :إذا طلبه ولو يطلب منه ،وأراده ولم يرد منه ،وأن ال يختار على اختياره
شيئاً ،وإ ن اختار له النار ،وكل َمن ليس في قلبه سلطان الهيبة ،ونار المحبة ،وأُنس
الصحبة ،فهو محجوب .وقال :كفاك من المعرفة أن تعلم أن اهلل مطلع عليك ،وكفاك
سابق على
ٌ ٍ
مستغن عنك ،وكفاك من المحبة أن تعلم أن حبه من العبادة أن تعلم أن اهلل
حبك ،وكفاك من الذكر أن تعلم أن ذكره متقدم على ذكرك .القلوب إذا قعدت على
بساط الهيبة ،زالت عنها الشهوات ،وإ ذا قعدت على بساط المعرفة ،زالت عنها
الغفالت ،وإ ذا قعدت على صدق الفردانية بالفرد للفرد فذلك مقعد الصدق.
112
الحديث الثاني والعشرون
[ ال تحاسدوا]..
أخبرنا الشيخ الثقة العارف باهلل تعالى عبدالملك بن الحسين الحربوني قدس
اهلل روحه ،قال :أخبرنا أبو مطيع محمد بن عبدالواحد األديب ،قال :أنبأنا أبو بكر
عبداهلل بن أحمد بن العباس الباطرقاني ،قال :أنبأنا سليم بن أحمد الطبراني ،قال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الديري ،قال :أنبأنا عبد الرزاق ،قال :أنبأنا معمر ،عن
الزهري ،عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم " :ال تحاسدوا وال تباغضوا وال تجسسوا وكونوا إخواناً كما أمركم اهلل
تعالى"(.)1
تضمن من أسرار المعرفة باهلل العجائب ،فإنه أمر
هذا الحديث الشريف َّ
بالتخلي عن الصفة اإلبليسية ،وهي الحسد ،ثم بالتجرد من الصفة النفسانية ،وهي
البغض لغير اهلل تعالى ،ثم بالترفع عن الصفة السافلة الهوائية ،وهي التجسس ،ثم بعد
أن أكمل درجات التنقية ،أمر برؤية عدم الفَرقية بين المرء وبين إخوانه ،وأن هذا من
أمر اهلل تعالى ،وإ ذا كملت للعبد هذه الخصال ،فقد أحكم شأن المعرفة باهلل ،ومن هذا
"من عرف نفسه فقد عرف
السر قول سيدنا علي كرم اهلل وجهه ورضي اهلل عنهَ :
ربه"(.)2
الخلق تجرد عن
التفت منه إلى َ
َ أي بني ،اعلم أن العبد بين اهلل وخلقه ،إن
قربه اهلل
الحق ،وصار متروكاً محروماً مخذوالً ،وإ ن التفت إلى اهلل عن الخلقَّ ،
صحيح .رواه البخاري في النكاح ،باب :ال يخطب على خطبة أخيه ،رقم 4849وفي األدب ،باب ما ُينهي ()1
عند التحاسد والتدابر 5717و 5718وباب ( :يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم وال
تجسسوا) [ الحجرات ]12رقم 5719ومسلم :البر والصلة واآلداب ،باب :تحريم التحاسد والتباغض والتدابر،
رقم .2559
تقدم تخريجه في ثنايا دراسة الحديث الثامن. ()2
113
وأدناه ،وأوصله إلى قُربه ،فإن اهلل تعالى إذا أحب عبداً غار عليه قَ ْد َر قربه منه،
َّ ٍ ٍ
وحبه له ،ولم يحتمل منه االلتفات إلى شيء سواه ،فإنه إن نظر إلى شيء دونه عذَبهُ
اهلل بذلك الشيء ،وجعله وباالً عليه ،أما ترى أن إبليس لعنه اهلل نظر إلى نفسه ،وقال
خير منه ،فلعنه وطرده ،وكذلك نظر فرعون إلى ملكه وقال :أليس لي
عن آدم :أنا ٌ
فغرقه ،وقارون نظر إلى ماله وقال :إنما أوتيته على ٍ
علم عندي ،فخسف ملك مصر َّ
اهلل به وبداره األرض ،وكذلك المالئكة ،نظروا إلى تسبيحهم وتقديسهم حيث قالوا:
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ،فابتالهم اهلل تعالى بالسجدة آلدم وكذلك كل َمن قال
أنت اهلل،
يرده إلى أسفل السافلين ،وكل َمن يقولَ :
أنا يقول اهلل تعالى ال بل أنا ،ثم ّ
يرفعه إلى أعلى ِعلّيين.
فالتفات العين مثل ما
ُ وااللتفات على وجهين ،التفات العين ،والتفات القلب،
ُ
تم َّد َن عينيك إلى ما متعنا به)
قال اهلل تعالى لمحمد حبيبه عليه الصالة والسالم( :وال ُ
تركن
ُ كدت
لما عصمه حيث قال تعالى ( :ولوال أن ثبتناك لقد َ ّ عليه َّ
ن م
َ ثم اآلية، ()1
()2
إليهم شيئاً قليالً) ،ثم مدحه بترك االلتفات إلى ما سواه ،في قوله تعالى( :ما زاغ
البصر وما طغى)( ،)3ثم أورثه ذلك الترك ال ُكلّي أن ُر ِف َع له الحجاب ،حتى رأى ما
ُ
رأى في قوله تعالى( :ولقد راءهُ نزلةً أخرى)(.)4
وإ ن موسى عليه الصالة والسالم ( :قال ربي أرني أنظر إليك)( )5قال :انظر
نظرت إلى غيري.
َ إلى الجبل ،ولن تراني بعد أن
كان بعض العارفين يطوف حول الكعبة ،فناداه واحد ،فخطر بباله أن يلتفت
التفت إلى غيرنا.
َ إليه ،فسمع هاتفاً يقول :ليس ِمّنا َمن
يد منوحكي أن آخر كان يطوف حول الكعبة ،فنظر إلى امرأة ،فظهرت ٌ ُ
114
نظرت بقلبك إلى
َ نظرت بعينك إلى دوننا ففقأناها ولو
َ الهواء وفقأت عينه ،ثم نودي
غيرنا لكويناه.
ومن ِ
وقال ذو النونَ :من نظر من توحيده إلى نفسه لم ُينجه التوحيد من النارَ ،
ومن التفت من وقته إلى
التفت من الصالة إلى غيرها فقط سقط عن درجة المصلينَ ،
َ
العبد في الصالة ،يقول
التفت ُ
َ وقته ذهب عنه الوقت وهو ال يشعر ،وفي الخبر " :إذا
تلتفت إلى َمن هو خير لك مني؟ أقبل وال تُعرض بوجهك عني فإني إذاً
ُ اهلل :عبدي
أعرض عنك" (.)1
ُ
قال النبي عليه الصالة والسالم " :أتاني جبريل بمفاتيح خزائن الدنيا ،فلم
أصبحت وقد َمَن َع
ُ ألتفت إليها ولم أقبلها" ( )2قيل لبعضهم :كيف أصبحت؟ قال:
الكونين عني ،ومنعني أن أنظر إليهما.
كنت في طلب صدي ٍ
ق لي ثالثين سنة وقال العارف السقطي رضي اهلل عنهُ :
فلم أظفر
يكره االلتفات في الصالة بال حاجة مهمة..ـ ودليل كراهة االلتفات لغير حاجة باتفاق المذاهب حديث عائشة ()1
رضي اهلل عنها ،قالت :سألت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن التلفت في الصالة فقال" :اختالس يختلسه
الشيطان من العبد" (رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود [ نيل األوطار ،2/327نصب الراية ]2/89
وحديث أبي ذر رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :ال يزال اهلل مقبال على العبد في
صالته ،ما لم يتلفت ،فإذا صرف وجهه انصرف عنه" (رواه أحمد والنسائي وأبو داود [ المصدران السابقان])
[ الدكتور وهبة الزحيلي :الفقه اإلسالمي وأدلته (ط.2/965 ) 4
في البخاري :الجهاد ،باب قول النبي صلى اهلل عليه وسلمُ " :نصرت بالرعب مسيرة شهر" عن أبي هريرة ()2
رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :بعثت بجوامع الكلم ،ونصرت بالرعب ،فبينا أنا نائم
أُوتيت بمفاتيح خزائن األرض فوضعت في يدي" ورواه مسلم :أوائل كتاب المساجد .523وقال عبداهلل بن
المبارك :أخبرني األوزاعي عن عبداهلل بن عبيدـ قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :أتاني جبرئيل
بسطت إليها يدي" ،قال عبداهلل بن عبيد:ـ لو علم أن فيها خيراً لبسط
ُ بمفاتيح خزائن األرض ،فو الذي نفسي بيده ما
إليها يده [ عبد اهلل بن المبارك :الزهد (دار الكتب العلمية) ص 265رقم الحديث .]767
115
قائم على صخرة ،فدنوت منه وأخذت
فمررت يوماً في بعض الجبال ،فإذا هو ٌ
ُ به،
ذيله ،فقال ،خل عني يا سري ،فإن الحق غيور ،فال يراك تأنس بغيره ،فتسقط من
عينه.
وحكي أن رابعة كانت في طريق مكة فأقبل إليها رجل وقال :يا هذه ُكلّي
ك مبذول ،إال أن لي أختاً أحسن مني ب ُكلِّ ِك مشغول ،فقالت :إن َ
كنت صادقاً ف ُكلّي ل ُكلِّ َ
طال،
وهي وراءك ،فالتفت الرجل فلطمته رابعة على وجهه ،وقالت :إليك عني يا ب ّ
وجدت عارفاً ،فلما
ُ فقلت:
نظرت إلى غيرنا ،رأيتك من بعيدُ ،
َ ادعيت محبتنا ثم
َ
تكلمت قلت :وجدت عارفاً ،فلما جربتك وجدتك كذاباً ،ما رأيت معك صفاوة
العارفين ومروءتهم ،وال طريقة العاشقين وصيانتهم ،فصاح الرجل ،وجعل التراب
فأعرضت عنه ،فجاءت اللطمة على وجهي،
ُ ادعيت محبة مخلوق
ُ على رأسه ،وقال:
فأخاف أن أدعي محبة الخالق ،فإذا أعرضت بقلبي أن تكون اللطمة على قلبي.
صبي ،فيوماً من ()1
وأما االلتفات بالقلب ،فقد ُحكي أنه كان لفتح الموصلي
وقبله فنودي من الهواء :يا فتح ادعيت محبتنا وفي قلبك حب غيرنا،
األيام عانقه ّ
خر مغشياً عليه.
فصاح صيحةً َّ
وهو ُيقبِّل صبياً من أهله، ()2
ونظرت رابعة البصرية إلى رباح القيسي
فقالت :أتحبه؟ قال :نعم ،قالت :ما كنت حسبت أن في قلبك موضعاً فارغاً لمحبة
غيره ،ففزع القيسي فزعاً شديداً حتى ُغشي عليه ،فأفاق وهو يمسح العرق عن
وجهه .قال صلى اهلل عليه وسلم " لو كنت متخذاً خليالً التخذت أبا بكر خليالً ،لكن
خليلي اهلل(.)3
فتح بن سعيد الموصلي :كان من أكابر األولياءن وأعاظم األصفياء .من كراماته أنه كان يمشي على الماء.. ()1
صحيح .رواه مسلم في فضائل الصحابة ،باب مناقب أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه 2383والترمذي: ()3
116
وحكي أن داود عليه الصالة والسالم استقبله رجل في بعض سياحاته ،فقال: ُ
أين تريد؟ قال :استوحشت عن الناس ،واستأنست باهلل .فقال له الرجل :هذا من ِقَبِل َ
ك
أم من ِقَب َل اهلل؟ قال :فسقط داود مغشياً عليه ،ثم أفاق وقال :نبهك اهلل كما نبهتني.
وقال بعضهم :إن اهلل تعالى أمر قوم موسى بقطع رؤوسهم حين سجدوا
رأس سجد لي ثم سجد لغيري فال يصلح لي،
للعجل ،بعد أن سجدوا هلل تعالى ،فقالٌ :
فكذلك القلب.
هم به
وهممت بما َّ
ُ وبلغنا أن داود عليه الصالة والسالم قال :أوتيت ما أوتي الناس وما لم يؤتوا،
الناس وما لم يهموا ،فوجدت األشياء كلها هلل ،واألمور كلها بيد اهلل والحاصل من الدارين وما فيهما هو هلل،
فال ينبغي لمن ادعى محبته ،أن يكون في قلبه حب لغيره ،قالت رابعة:
()1
اليوم ُمذنباً قد أتاكا إرحم ِ
القلوب َمن لي سواكا حبيب
َ يا
َ
ب سواكا
أح َّ
القلب إن َ
ُ كذب يا حبيبي وصفوتي! ورجائي
طال شوقي متى يكون لقاكا؟ ومرادي
ومنيتي! ُ
يا أنيسي ُ
117
الحديث الثالث والعشرون
( )1صحيح رواه أحمد في المسند (مسند عثمان رضي اهلل عنه) برقم ،405ولفظه" :أفضلكم َمن تعلم "..وبرقم
412بلفظ" :خيركم "..و 500ورواه في مسند اإلمام علي رضي اهلل عنه ،عنه برقم .1317والبخاري:
فضائل القرآن ،باب" :خيركم من تعلم القرآن وعلمه" .رقم ،4739وبلفظ" :إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"
(رقم .)4740
118
يفرقون بين
يهيمون ،ومنه يأخذون ،ولذلك يقال فيهم :ندماء الحق ،وبهذا السر ِّ
الباطل والحق.
أي بني ،اعلم أن اهلل تعالى ربما َي ِز ُ
ين أعداءه بلباس أوليائه وأصفيائه ،حتى
إنهم يغترون بصفاء األوقات ،ويحسبون أنهم من أهل واليته ،فهذا من اهلل لهم
استدراج ،وربما يزينهم بالعز والجاه والرياسة والمنزلة عند الناس ،حتى يغتروا
ويحسبوا من أهل فضله ،فهذا أيضاً من اهلل استدراج لهم،
بثناء الناس ومحمدتهمُ ،
وكذلك ربما يزينهم بأنواع لطائف الحكمة ،فيغترون بحسن بالغتهم ،وكمال فهمهم
ٍ
حقيقة علماً ،فهذا لهم من اهلل استدراج ،وربما وفطنتهم ،ويحسبون أنهم أحاطوا بكل
يزينهم بلباس النعمة ،ويغرقهم في أنواع النعم ،فيغترون بحسن تجملهم ،وطيب
عيشهم ،ويحسبون أنهم علي شيء من اهلل فهذا لهم من اهلل استدراج ،وال يتركهم حتى
يردهم إلى حقيقة معلومة ،قال سبحانه( :سنستدرجهم من حيث ال يعلمون)( )1فهذا ما
كدر عيش المريدين في دار الدنيا ،حتى دام كمدهم ،واصفرت ألوانهم ،وذابت
نفوسهم ،ودهشت عقولهم ،وطارت أفئدتهم ،وانشقت مراراتهم ،وفقدوا من الخالئق،
نفسه بقوله تعالى:
وواجب على كل حال ذي عقل ومعرفة أن يح َذر مواله ،كما ح ّذر َ
(ويحذركم اهلل نفسه)( )2وكما قال( :واعلموا أن اهلل يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)(.)3
وقال صلى اهلل عليه وسلم " :المؤمن ال يسكن اضطرابه ،وال تأمن روعته،
غيب مكره في ِحلمه ،وخداعه في
حتى يخلف جسر جهنم" ( ،)4إال أن اهلل تعالى َّ
وخذالنه في أنواع نِعمه ،وسخطه في جميل َس ِ
تره ،وقطيعته لطفه ،وعدلَه في كرمهِ ،
في إمهاله ،فينبغي
119
للعبد أن ال يعتمد حسن أوقاته ،وكثرة حسناته ،فكم من أحد تراه في زي المريدين،
وهو في علم اهلل من المطرودين ،وال يشعر أن اهلل تعالى ربما يزين عدوه بلباس
يرده آخر
وليه لباس األعداء ،ثم ّ
أوليائه ثم يرده آخر األمر إلى ُبعده ،وربما يكسو ّ
األمر إلى حقائق كرمه ،ألنه هو يبديء ويعيد ،يعني :يبديء على أوليائه صفات
الفعال لما
أعدائه ،وعلى أعدائه صفات أوليائه ،ثم يعيدهم إلى حقائق معلومة ،وهو ّ
يريد ،بإظهار فضله في أهل عدله ،وإ ظهار عدله في أهل فضله ،أال ترى أن اهلل
تعالى َّ
زين إبليس بزينة عصمته ،وهو في سابق علمه من أهل اللعنة ،ستر عليه ما
بأنوار واليته، ()1
سبق منه إليه ،حتى أظهر أمره في العاقبة ،وكذلك َّ
زين "بلعام"
وهو عند اهلل تعالى من أهل سخطه ،وأغرق قارون في بحار نعمته ،وهو عند اهلل
تعالى من أهل سخطه .ال يغرنك باهلل أربعة أشياء :إظهاره لك ما تعلم ،وستره عليك
بما قد عملت ،وزيادته لك فيما لم تشكره ،وإ عطاؤه إياك ما لم تسأله ،فإنه ربما أراد
اهلل تنبيهاً لك أو استدراجاً.
من رأى صنع الربوبية عند إقامة العبودية انقطع ()2
وقال يوسف بن الحسين
عن نفسه ،واعتصم بربه ،وفوض أمره إليه ،فحيئنذ يسلم من آفات االستدراج.
صم ،وال تغتروا ِ وكان يحيى بن معاذ يقول :يا معشر المستورين ِّ
بالنعم والع َ
فإن تحتها آفات النقم ،ال تغتروا بعمارة األوقات ،فإن تحتها غوامض اآلفات ،وال
مستدر ٍج
َ تغتروا بصفات العبودية ،فإن فيها نسيان الربوبية ،واألمر كما قال :فيا ُر َّ
ب
ٍ
مفتون بالنعم عليه ويا رب مغتر بالثناء عليه ،ويا ُر َّ
ب ب ٍّباإلحسان إليه ،ويا ُر َّ
عين ظاهره كان
مستهلك بالستر عليه ،فمن لم يكن باطنه في مالزمة الحق تعالى َ
بلعام بن باعوراء [انظر تفاسير قول اهلل تعالى( :واتل عليهم نبأ الذي آتيناه [ ] ..األعراف .]175 ()1
أبو يعقوب الرازي :يوسف بن الحسين ،شيخ الري والجبال ،وكان نسيج وحده في إسقاط التصنع ..مات سنة ()2
120
شكه أغلب من يقينه ،وإ ن كان ظاهره يدل على أوصاف الموقنين ،وفقدان أنوار
الباطن من رؤية حركات الظاهر ،والغفلة عن غوامض آفات االستدراج ،من رؤية
صفاء العبودية( ،)1فليس للموفَّق أن يعتمد ،وال للمخذول أن ييئس ،واستدراج أهل
الذنوب الركون إليها ،واإلصرارـ على اإلعراض عن اهلل سبحانه ،واستدراج أهل
العلم طلب الجاه والمنزلة عند الخلق ،واستدراج أهل االجتهاد االستكثار واإلعجاب،
واستدراج المريدين تطلعهم إلى العطايا والكرامات ،وسكونهم إليها ،واستدراج
العارفين استغناؤهم بالمعرفة دون المعروف حتى جعلوا لها حداً وغاية ونهاية،
وظنوا أنهم قد أحاطوا بها ،فكل من كانت منزلته أرفع ،كان استدراجه أعظم وأدق،
بعيد
داع إلى اهلل ٌ
جريء على اهلل ،وكم ٍ ف باهللمخو ٍ
ناس هلل ،وكم من ِّ كم من م ِّ
ذك ٍر هلل ٍ
ٌ ُ
منسلخ من آيات اهلل.
ٌ من اهلل ،وكم من ٍ
تال كتاب اهلل
فالفخر
ُ بتركها، وافتخرت
َ الدنيا تركت
َ كنت
َ لو ()2
وقال أبو سعيد الخراز
جب عيبه أكبر،
فالع ُ
وأعجبت بتركهاُ ،
َ عيوب النفس
َ تركت
َ أعظم من إمساكها ،ولو
وأمنت على أنك
َ خفت
وتعلقت بجهدك ،فتعلقك أعظم االستراحة ،ولو َ
َ
()3
جهدت
َ ولو
البعد ،ورؤية
خفت ،فاألمن من الخوف أكبر ،ثم قال :رؤية القرب في القرب أقرب ُ
َ
األُنس في األنس أعظم الوحشة ،ورؤية الذكر في الذكر أشد النسيان ،ورؤية المعرفة
في المعرفة أكبر النكرة.
ظننت
ُ وجدت فحينئذ فقدت ،وكلما
ُ ظننت أني
ُ وقال بعض أهل المعرفة :كلما
فقدت فحينئذ وجدت ،إلهي إن تركتك طلبتني ،وإ ن طلبتك طردتني ،ال
أني ُ
ال بد من مراقبة المرء لنفسه وعرض أحوالها وكل شؤونها على ميزان العبودية هلل عز وجل ،منطلقاً من ()1
قاعدة االفتقار إلى القهار ،والتذلل إليه واالنكسار ،ومن لم يفعل ذلك غفل عن مزالق االستدراج وآفاته الخافية.
أبو سعيد :أحمد بن عيسى الخراز .من أهل بغداد .مات سنة 277هـ. ()2
121
معك قرار ،وال مع غيرك أنس ،فالمستغاث منك إليك .وقال أبو يعقوب )1(:أجهل ما
يكون العبد باهلل ،إذا ظن أنه استغنى عن الدنيا بالمعرفة.
افتخرت بها عليه. ٍ
طاعة خير من
َ افتقرت به إليهٌ ،
َ ذنب
وقال يحيى بن معاذٌ :
وكان فضيل كثيراً ما يبكي ويردد هذه اآلية( :وبدا لهم من اهلل ما لم يكونوا
يحتسبون)( )2ويقول :عملوا أعماالً حسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات ،حين يبدو
لهم من اهلل ما لم يكونوا يحتسبون.
أي بني ،المعرفة مستقر ومستودع ،مستقر في قلوب األولياء ،ومستودع في
قلوب األعداء ،ثم ُيسلب في آخر األمر ،فليس للموفَّق أن يعتمد على توفيقه ،ويأمن
من مكره ،وال للمخذول أن ييئس من َروح ربه ،وربما يرى الرجل للرجل الرؤيا
استدراج من اهلل تعالى ،كما ُحكي أن رجالً من أهل الشام أتى إلى
ٌ الصالحة ،وهو
العالء بن زياد( )3وقال له :إني رأيتك في المنام كأنك من أهل الجنة ،فترك مجلسه
وأخذ في البكاء ،وقال :لعل اهلل أراد أمراً.
قيل :أصل االستدراج نسيان الحق ،واالستغناء بمن دونه ،والتعلق بما سواه،
وااللتفات منه إلى غيره وليس على تحقيق في المعرفة َمن يغتر بكثرة العلم والعمل،
ألن إبليس كان معلم المالئكة ،ثم في آخر األمر نظر إلى نفسه وعبادته ،وترك أمراً
من أوامر اهلل ،فصار من الملعونين المطرودين أبد اآلبدين.
()4
وإ ياك أن تغتر بعمارة األوقات ،وصفاء األحوال ،فإن برصيصاً
العالء بن زياد رضي اهلل تعالى عنه ..وكان قد بكى حتى ُغ ِّشي بصره ..توفي أيام والية الحجاج" ()3
عليكم بهذا الراهب فيداويها ،فجاؤوا بها إليه ،فداواها ،وكانت عنده= ،
122
كانا أعبد الناس في زمانهما ،وأحسنهم حاالً ،وفي آخر األمر ماال إلى ()1
وبلعام
مفتضح ْين في الدنيا واآلخرة ،وال تغتر بصحبة الصالحين
َ النفس والهوى ،فصارا
الحرمة والمتابعة لهم ،فالصحبة لو نفعت لنفعت امرأة نوح وامرأة
والزهاد بغير ُ
لوط ،وألن االغترار مدرجة من مدارج االستدراج.
اآلية ،وقال تعالى( :يأيها ()2
قال اهلل تعالى ( :فال تغرنكم الحيوة الدنيا)
اإلنسان ما غرك بربك الكريم)( )3وذلك أن الشيطان ربما يأتي الزاهد ليغره ،فيقول:
يا ولي اهلل ويا خيرته من خلقه ،أما ترى من ربك هذه الكرامات والعطايا والقرب
واألنس ،أما تدري ما ألهمك ربك من كالم أهل المعرفة ،وحقائق أنواع اإلشارات،
فهل يكون مثل هذا إال ألهل محبته؟ أما ترى حال قربك معه ،وكمال لطفه بك ،وأنك
لو أقسمت على اهلل ألبرك ،وال شك أن المالئكة ينظرون إلى حركاتك وسكناتك
وحسن أحوالك ،وقد َر َج َح فضلك على أهل زمانك ،فما أغفل الناس عما أنت فيه!
حتى يغره بأنواع مكره وخديعته ،فإن تداركه اهلل بالفضل والرحمة ،وبصَّره بمكائد
عدوه ،وعرج ملتجئاً بسره إلى ُسرادقات قدرته ،فعند ذلك يسلم من درجات آفات
االستدراج.
واعلم أن قلوب أهل المحبة ال تزال تموج من خوف االستدراج( ،)4كما تموج
(= فبينما هو يوماً عندها أعجبته ،فأتاها ،فحملت منه .فعمد إليها فقتلها ،فجاء إخوتها ،فقال إبليس لبرصيص:
أطعني أُن ِجك ،اسجد لي سجدة .فسجد له .فقال الشيطان :إني بريء منك إني أخاف اهلل رب العالمين [ البداية
والنهاية البن كثير .]2/136
بلعاام بن باعوراء :كان من علماء بني إسرائيل ،ثم تواطأ مع الكفار فهلك. ()1
من هنا علمنا سيدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن نكثر من الدعاء بالتثبيت؛ـ عن أنس بن مالك رضي اهلل ()4
عنه قال :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يكثر أن يقول" :يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" الحديث
[ الترمذي :القدر ،باب ما جاء أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن 2141وقال الترمذي :هذا حديث
حسن صحيح .والدعوات ،الباب 135برقم .]3581
123
البحار ،حتى يصير كل ما فيه باهلل هلل ،ورأيت مكتوباً على عصاً واحدة:
ٍر سوى اإلعـراض عني كل ٍ
ذنب لك مغفـــو
فقلت:
كنت ِ
الوصل كما ُ عدت إلى
ُ تبت
أعرضت فقد ُ
ُ كنت
إن ُ
فعوقبـت
ُ الح ِّب
نظرت في ُ
ُ وليس لي ُج ْر ٌم سوى أنني
124
الحديث الرابع والعشرون
أخبرنا شيخنا اإلمام فرد الوقت الباز األشهب خالي أبو المكارم منصور
البطايحي الرباني رضي اهلل عنه ،قال :أنبأنا القاضي أبوالحسين محمد بن علي بن
المهتدي ،قال :أنبأنا أبوالحسن علي بن هبة اهلل بن عبدالسالم ،قال أنبأنا أبوالحسين
أحمد بن محمد ،قال :أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد الحربي ،قال :أنبأنا أبو عبداهلل
أحمد بن علي عن عبداهلل بن عباس رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :أحبوا اهلل لما يغذوكم به من نعمه ،وأحبوني لحب اهلل ،وأحبوا أهل بيتي
وبهذا الحديث الشريف نظام التصفية ،فمن أدركها فقد أدرك الصفاء، ()1
لحبي"
ُ
والتحق بأهل االصطفاء.
أي بني ،اعلم أن للصفاء ظهراً وبطناً ،فأما ظهرها فأن تصفي كليتك من
والخلق والدنيا ،وأما بطنها فأن تصفي ُكلَِّّيتك من غبار رؤية األعمال،
أدناس النفسَ ،
وطلب األعواض على األعمال ،وااللتفات منه إلى ما سواهُ ،روي أن النبي صلى اهلل
جديدك مع اهلل ال
ُ إسراركم ،فإنه عند اهلل بواد" ( .)2ويقال:
َ إسراركم
َ عليه وسلم قال" :
تُ ِ
خلقه مع
الترمذي :المناقب ،مناقب أهل بيت النبي صلى اهلل عليه وسلم ،رقم 3792وقال أبو عيسى :هذا حديث ()1
حسن غريب .والحاكم في المستدرك ،كتاب معرفة الصحابة (ومن مناقب أهل بيت رسول اهلل صلى اهلل عليه
وآله وسلم) 3/150وصححه ،ووافقه الذهبي .كالهما عن ابن عباس رضي اهلل عنهما.
قال اهلل تعالى ( :وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) [ الملك ] 14وعن أبي الدرداء ()2
رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال :الدنيا مللعونة ،ملعون ما فيها ،إال ما ابتُغي به وجه اهلل رواه
الطبراني بإسناد ال بأس به .وعن شداد بن أوس رضي اهلل عنه أنه سمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول:
=
125
الناس ،وصفاؤك مع اهلل ال تكدره مع الناس .وقال يحيى بن أبي كثير( )1دخلت مكة
فاستقبلني عطاء بن أبي رباح( ،)2وسلم علي ،ثم أقبل على الناس فقال :تسألوني عن
العلم وفيكم يحيى بن أبي كثير قال :فتضرعت إلى اهلل أربعين يوماً إلى أن ُيذهب
حالوة هذه المقالة من قلبي.
ويروى أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال" :أال إن أواني اهلل في األرض هي
القلوب ،فأحب األواني إلى اهلل تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها ( ،)3معناهُ أصفاها هلل
عند المراقبة ،وأصلبها في دين اهلل عند المخاطبة وأرقها على اإلخوان عند الموافقة.
وقال يوسف ابن الحسين لما اشتغل قلب مريم بحب ابنها ،سمعت صوتاً :لما كان
سرك صافياً لنا ،كنا نرزقك في الشتاء والصيف من غير واسطة وال شدة عناء ،فلما
لت سرك عني فال يأتيك رزقك إال بشدة ،وذلك قوله تعالى( :وهزي إليك بجذع مي ِ
َّ
اعلم أن العبد إذا لم يص ِ
ف وقته هلل ()5
اآلية .وقال أبو محمد الجريري ()4
النخلة)
ُ ْ
(= من صام يرائي فقد أشرك ،ومن صلى يرائي فقد أشرك ،ومن تصدق يرائي فقد أشرك رواه البيهقي [ في
شعب اإليمان 6844وأحمد في المسند 4/126واألصبهاني في الترغيب 118والقرطبي في تفسيره .11/71
وهو حديث حسن] [ حديثا أبي الدرداء وشداد من الترغيب والترهيب للحافظ المنذري (ابن كثير وشركاؤه)
1/61و 80برقم 10و ] 43وقال عمر ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي اهلل عنه " :سرائركم بينكم وبين
ربكم" [ مسند أحمد (صادر) .]1/41
وإ سراركم :مفعول لمحذوف تقديره :راقبوا أو احفظوا أو طهروا..
( )1من علماء التابعين،ـ ومن قدماء الصوفية.
عطاء بن أسلم بن صفوان ( 114-27هـ) ()2
أخرج الطبراني من حديث أبي عتبة الخوالني يرفعه إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم قال " :إن هلل آنية من ()3
أهل األرض ،وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين ،وأحبها إليه ألينها وأرقها" [ المغني عن حمل األسفار لزين
الدين العراقي (دار المعرفة) 3/15وكنز العمال :اإليمان واإلسالم ،الباب الثالث برقم .]1207
سورة مريم.25 : ()4
أحمد بن محمد الجريري توفي سنة 311هـ [ الرسالة القشيرية .]82 ()5
126
تعالى في إقامة العبودية ،انقطع عن اهلل وهو ال يشعر ،فمن اجتهد في صفاء معاملة
الظاهر ،أورثه اهلل صفاء معاملة الباطن ،ومعنى قوله" :انقطع عن اهلل وهو ال يشعر"
قول أبي يزيدَ :من ظن أنه بالحال يصل فبالحال ينقطع ،ومن طلب األنس بالحال
فبالحال يستوحش.
قال أبو محمد الجريري :إن اهلل تعالى حكم على أصفيائه وأحبابه ،أن ال
يخرجوا من الدنيا إال وطوق العبودية في أعناقهم ،وبحق أقول :ما اشتغل أحد بغيره
إال ضاع عمره ،وذهبت عنه صفاوة الوقت ،فمن أراد صفاوة الوقت فليؤثر اهلل على
شهوته.
وقيل لواحد :ما حقيقة صفاوة الوقت؟ فقال :تصفية ال ُكلية ،لخالّق البرية،
في قلبك فأدم الصيام ،فإن ()2
إن وجدت َريناً
()1
بوفاة صدق العبودية .قال األنطاكي
وجدت ريناً ِ
فأقل الكالم ،فإن وجدت َريناً فاترك اآلثام ،فإن وجدت َريناً فأكثر البكاء َ
والتضرع إلى الملك العالّم .ويقال :الجهل كله موت إال من يرزقه اهلل العلم ،والعلم
هباء منثور ،إال أن يكون صافياً هلل،
كله ُحجة إال من وفقه اهلل للعمل به ،والعمل كله ٌ
وأهل الصفاء على ٍ
خطر عظيم ،إال أن يسلموا ذلك إلى اهلل تعالى بال عيب ،ويجب
فيدع منها
على العبد أن ينظر في حال أكله وشربه ولباسه وكالمه وحركاته وإ رادتهَ ،
ما كدر ،ويأخذ ما صفا ،ألن صفاوة األوقات على قدر صفاوة األحوال.
قال اهلل تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه الصالة والسالم( :يوم ال ينفع ما ٌل وال
بنون * إال من أتى اهلل بقلب سليم)( .)3وقال ذو النون :إن هلل عباداً يبلغون في درجة
سر الناس ،فيعرفون السعداء من األشقياء،
الصفاء مقاماً تقع فراستهم على ّ
أحمد بن عاصم األنطاكي ،أبو على [ الرسالة القشيرية ص 62الترجمة ]20أو أبو محمد عبد اهلل بن حنيف ()1
127
يختص برحمته من يشاء من عباده.
وقيل ألبي عبداهلل :ما فضل أهل الصفاء على غيرهم؟ قال :رفع الحجاب
عنهم ،واتهام الوشاة فيهم ،وإ فشاء األسرار إليهم .قيل :هل يكون ألهل الصفاء
حالوة العبادة؟ قال :أما قبل رؤية ِ
المَّنة فنعم ،وأما قبل رؤية العبادة فال ،بال تعليق.
وقيل لبعضهم :متى يعرف الرجل أنه من أهل الصفاء؟ فقال :إذا ستر جميع
المعاصي بستر التوبة ،وستر جميع الخيرات بذكر ستر ِ
المَّنة ،وستر ما دون اهلل
بستر اهلل تعالى.
كان ال يأخذ شيئاً من أحد ،وإ ن أُكثر عليه اإللحاح ،فقيل ()1
وحكي أن بهلوالً
ُ
قيل: له في ذلك ،فقال :أمرنا أن ال نأخذ بالواسطة ،ألن منها ذهاب الصفاء.
وما الصفاء؟ قال :طيران القلب بأجنحة االشتياق لرب العالمين .ويقال :أدنى
ومن لم يعرف نفسه بالفقر،
أوصاف أهل الصفاء عيش القلب مع اهلل بال عالقةَ ،
والفاقة والعجز والضعف ،لم ينل صفوة اليقين ،وإ ذا كان العبد هلل تعالى كأن لم يكن،
يكون اهلل تعالى له كما لم يزل.
وقال أبو سليمان :طوبى لمن صحت له خطوة واحدة ال يريد بها إال اهلل
تعالى.
بهلول بن عمرو الصيرفي ،أبو وهيب ،توفي سنة 119هـ ،قال الشعراني في الطبقات ( 1/68الترجمة ()1
128
رضي اهلل عنه :بينا أنا أسير في البادية ،ولم ()2
وقال اإلمام معروف الكرخي
يكن معي
129
شخص من السماء ،فسألني ما الصفاء؟ فقلت :صدق الوفاء.
ٌ أحد من البشر ،إذ نزل
فقال :صدقت ،ثم عرج وهو يقول ( :يوفون بالنذر ويخافون)(.)1
أما ترى أن إبراهيم عليه الصالة والسالم وضع قدماً بصدق الوفاء على
صخرة صماء ،فأمر اهلل تعالى أن اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
وحقيقة الصفاء .التخلق بخلق المصطفى صلى اهلل عليه وسلم ،واالقتداء
بأصحابه أولي الصدق والوفاء ،واالنقطاع إلى الملك األعلى ،وقيل :حقيقة الصفاء
الديان .وقيل :تصفية
طرح القلب على بساط االمتنان ،واستقامة السر مع الملك ّ
القلوب لعالم الغيوب .وقيل :صدق االفتقار مع دوام االضطرار ،وترك االختيار مع
حسن االنتظار.
وقيل :فناء الكلية تحت كمال القدرة ،وطيران ال ِهمة بأجنحة الشوق نحو رب
العزة .وقيل :هجرة السر إلى اهلل من المراتب والدرجات ،والفرار إلى اهلل من
المنازل والمقامات .وقيل :هي مجانبة دواعي النفس ،ومتابعة دواعي الروح،
وإ خماد صفات البشرية تحت صفات الربوبية.
130
الحديث الخامس والعشرون
س ٍب ِّ
طيب] [من تصدق من َك ْ
َ
أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري الكبير الشيخ أبو الفضل علي
الواسطي رحمه اهلل رحمة واسعة ،قال :أنبأنا أبو القاسم هبة اهلل بن محمد الكاتب،
قال :أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد الغيالن ،قال :أخبرنا أبو بكر محمد بن عبداهلل
الشافعي ،قال :أخبرنا محمد بن غالب ،حدثني عبدالصمد بن ورقاء ،عن عبداهلل بن
دينار ،عن سعيد ،عن أبي هريرة رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال:
" من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ،وال يطعمه إال هلل تعالى ،فإن اهلل يقلبها
بيمينه ،ويربيها لصاحبها كما يربي أحكم فلوه حتى يكون مثل الجبل" (.)1
ونبه على لزوم اإلخالص فيه،
حث هذا الحديث الشريف على بذل المعروفّ ،
وبشر بعد اإلخالص بمضاعفته وقبوله ،وكل هذا انطوى في اإلخالص ،وهو نور
تنور( ،)2وبذلك
العارفين باهلل ،إذا األعمال بغير اإلخالص كلها ظُلمة ،وبه ّ
صحيح .رواه أحمد في مسند أبي هريرة رضي اهلل عنه (صحيفة همام بن منبه) بلفظ " :من تصدق بعدل ()1
تمرة من كسب طيب ،وال يصعد إلى اهلل إال الطيب ،فإن اهلل يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحكم فلوه
حتى تكون مثل الجبل" والبخاري في التوحيد :باب قول اهلل تعالى( :تعرج المالئكة والروح إليه) [ المعارج ]4
وقوله جل ذكره( :إليه يصعد الكلم الطيب) [ فاطر ]10رقم 6993وفي الزكاة ،باب :ال يقبل اهلل صدقة من
غلول ،وال يقبل إال من كسب طيب ،رقم 1344ومسلم في الزكاة ،باب قبول الصدقة من الكسب الطيب
وتربيتها ،رقم .1014وعدل تمرة :ما يعادل تمرة وزناً أو قيمة .كسب طيب :حالل .الفلو (بفتح الفاء وضم
ويعزل .غلول:
المهر ُيفلى عن أمه ،أي ُيفصل ُ
الالم وتشديد الواو ،أو بكسر الفاء وإ سكان الالم وتخفيف الواو) ُ
خيانة.
نور) بفتح التاء على أن أصله (تتنور)
نور (بضم التاء) على البناء لما لم ُي َس ّم فاعله (للمجهول) ،و (تَ ّ
تُ ّ
()2
131
()1
ارتفعت همم العارفين في األعمال إلى اإلخالص ( :أال هلل الدين الخالص).
أال إن( )2المتحققين بالتصوف صفت سرائرهم ،وحسنت شعائرهم ،هممهم
وخلُقُهم ُسنة نبيهم ،عكس المروق من أصحاب الدعوى.
ربهم ُ
رأيت أن أكثرهم من نظرت في القوم الذين َّ
ادعوا التصوف اليوم، ني ،إذا
َ َ أي ُب ّ
الزنادقة والحرورية والمبتدعة ،ورأيتهم أكثر الناس جهالً وحمقاً ،وأشدهم مكراً
وخديعة ،وأعظمهم ُعجباً وتطاوالً ،وأسوأهم ظناً بأهل الزهد والتقوى ،وأهل الصدق
والصفاء ،وعالمات أهل الصفاء أدق من أن يصفها واصف ،وأعلى من أن تحتملها
األوهام ،فمن عالمة الصوفي أن يصفو في أقواله وأفعاله وحركاته من أدناس آفات
والخلق والدنيا ،وتصفو خواطره من غبار اإلعراض عنه تعالى والنظر منه
النفس َ
الخلق بال َخلق،
إلى َمن سواه ،وأيضاً من عالماته أن يكون مع النفس بال نفس ،ومع َ
ومع القلب بال قلب ،ومع الحال بال حال ،ومع الوقت بال وقت ،ويكون مستقيماً على
بساط أمر اهلل ،متذلالً تحت جالل عظمه اهلل ،مستكفياً مستغنياً به عن غيره ،قلبه
البعد ِ
مضروب بسياط خوف القطيعة والهجران ،وس ُّره مضروب بسياط خشية ُ
منور بنور
والحرمان ،نفسه منورة بنور الخدمة ،وقلبه منور بنور المحبة ،وسره ّ
المعرفة ،ومن عالماته أيضاً أن يكون فؤاده طائراً بأجنحة الشوق ،وأركانه مستقيمة
على طريق الحق ،بالحق للحق مع حسن االنتظار ،وعلى غاية االنكسار ،مقبالً
بالكلية على مليكه ،مع ترك االلتفات منه إلى ُملكه ،مع الفرار من المخلوقين ،لشدة
أن.
(إال) على أنها استثنائية،ـ فتفتح بعدها همزة ّ
( )3طائفة من الخوارج منسوبون إلى حر وراء ،وهو موضع قرب الكوفة ،كان فيه اول اجتماعهمحين خالفوا
علياً رضي اهلل عنه ،قال الفيروز آبادي" :وهم نجدةُ وأصحابه" ]القاموس المحيط[.
ّ
132
وجدانه حالوة األنس برب العالمين ،رجوعه إلى الحق ،واعتماده على الحق،
وحشي القلب سماوي الحديث،
ّ الخلق،
وقراره مع الحق ،من غير أن يلتفت منه إلى َ
رباني العلم ،فرداني الهمة ،روحاني العيش ،نوراني القدر ،وحداني المعنى ،جميع
إرادته تحت إرادة المعبود ،شاكر هلل في السر واإلعالن ،كي ال يقع في أبحر
الكفران ،ذاكر هلل بالقلب واللسان ،في كل وقت وأوان ،كيال يتيه في مفاوز النسيان،
العال يرعاه ،فهو فان تحت عظمة نظره ،متالش
يعلم أن المولى يراه ،ومن فوق ُ
َّ
بكليته تحت كمال قدرته ،مستغرق صفاء أوقاته في أبحر امتنانه ،مع سقوط كل
حالوة ،غير حالوة محبة ربه ،مستقيم على صدق العبودية ،من غير رؤية العبودية،
فارغ القلب عن الشغل بغير اهلل ،مع االتكال بالقلب على اهلل ،متواضع ألهل اإليمان،
قائم على بساط األحزان ،حتى يأتيه اليقين( )1بالعفو والرضوان ،لسانه مثل قلبه،
يصدق في جميع أقواله وأفعاله ،ال كما قال اهلل تعالى( :لم تقولون ما ال تفعلون)(، )2
شاكر لقليل النعمة ،صابر على كثير الشدة ،راض بقضاء رب العزة ،دائم على
احتراس القلب هلل بالحجة ،ال يخاف دون اهلل ،وال يرجو غير اهلل ،وال يريد إال اهلل،
لما عِلم أنه ال م ِ
ض ّر وال نافع ،وال رافع وال دافع ،وال معز وال مذل ،إال اهلل وحده ال ُ ََ
شريك له ،متابع لسنة المصطفى صلى اهلل عليه وسلم وأخالقه ومذاهب أصحابه،
بالم ِّ
قدر إذا اشتغل الناس بالتقدير ،وبالمدبر إذا خائف من سوء العاقبة ،مشتغل ُ
اشتغلوا بالتدبير ،جالس على بساط الخدمة مع الحياء ،متكئٌ على سرير الفقر
شارب بكأس األنس والمحبة ،يطيل
ٌ شرف على ُغرف القُرب والمشاهدة،
والفاقةُ ،م ٌ
صمته ،ويكظم غيظه ،ويغلب شهوته ،ويفارق راحته ،من غير أن يلتفت إلى معاملة
قلبه ،فارغ من مصالح نفسه ،تارك لجميع راحاته وشهواته ،خائف من الوحشة بينه
وبين حبيبه ،يكون أحسن الناس للناس وأتقاهم ،وأصدق الناس وأصفاهم ،وأعقل
133
الناس وأرعاهم ،ينظر إلى الدنيا بعين االعتبار ،وإ لى النفس بعين االحتقار ،وإ لى
اآلخرة بعين االستبشار ،وإ لى الرب بعين االفتخار ،في االستقامة كالجبل الراسي ،ال
تحركه الرياح الهائجة ،ال يطلب ما ليس له ،وال يهتم بما قُسم له ،فارغ عن خدمة
المخلوقين ،مشتغل بخدمة رب العالمين ،ال ُي ِ
عرض عنه ببلواه ،وال يختار حبيباً
وسره من
وزلّة ،وقلبه متبرئ من كل سهو وغفلةُّ ، سواه ،نفسه طاهرة من كل ٍ
خطأ َ
كل حول وقوة ،بدون اهلل سبحانه ال يرضى ،طعامه طعام المرضى ،وبكاؤه بكاء
الثكلى ،ال يتوكل قلبه إال عليه ،وال يسلم إال إليه ،وال يشكر النعمة إال له ،وال يطلب
الحاجة إال منه ،مستأنس باهلل في جميع األحوال ،منقطع إليه في جميع األعمال،
وذكر اهلل حديثه في جميع المقال ،تارك اختياره إلى ذي الجالل ،نومه قليل ،وحزنه
المِل ُ
ك الجليل ،حسبنا اهلل ونعم الوكيل. طويل ،وبدنه نحيل ،وأنيسه َ
134
الحديث السادس والعشرون
أخبرنا شيخنا العارف باهلل خالي الشيخ أبو بكر بن يحيى النجاري األنصاري
الواسطي رضي اهلل عنه قال :حدثني األستاذ أبو القاسم علي بن أحمد البسري ،قال:
أنبأنا أبو عمر عبدالواحد بن محمد بن مهدي ،قال :أنبأنا محمد بن مخلد العطار،
قال :أنبأنا محمد بن علي بن خلف ،قال :أخبرنا عمرو بن عبدالغفار ،عن حسن بن
ُحيي وسفيان الثوري ،عن سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد ،عن عمر بن أيوب،
قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال
كان كصيام الدهر"(.)1
ِ
وس ُّر ذلك استغراق العبد في أداء الفرض ،وانغماسه في السنة المحمدية ،فإنها
بركة الوقت ،وليس عند العارف أهم من استحصال بركة الوقت ،بفرض أو سنة ،أو
َج ْم ٍع بينهما ،وهناك منتهى الهمم ،فإن السنة المحمدية روح العارف ،بها يقوم وبها
يقعد ،وهي منار باب العارفين ،فإن ُمشيِّد أركانها ،ورافع بنيانها صلى اهلل عليه وسلم
لم ينطق عن الهوى ،بل هو جلجلة ( ما زاغ البصر وما طغى)( )2ولوراثه العارفين
هذه الحصة من بركة إتِّباعه ،وأرواحنا وأرواح العالمين فداه.
صحيح .رواه مسلم في الصيام ،باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان ( )2/822برقم ()1
1164والترمذي في الصوم ،باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال رقم 759وقال :حسن صحيح ،وأبو
داود في الصوم ،باب في صوم ستة أيام من شوال ،برقم 2433وابن ماجه في الصيام ،باب صيام ستة أيام من
شوال رقم 1716والهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حيان ( )1/405الصيام .باب فيمن صام رمضان
وستاً من شوال برقم ( 928إحسان .)3635ورواه أحمد في المسند 14236و 14414و 14635والهيثمي
وضعفه .وهو صحيح.
ّ في مجمع الزوائد 3/183
( )2سورة النجم.17 :
135
أي بني ،اعلم أن قلوب أهل المعرفة خزائن اهلل في أرضه ،يضع فيها ودائع
سره ،ولطائف حكمته ،وحقائق محبته ،وأنوار علمه ،وآيات معرفته ،التي ال يطلع
عليها ملك مقرب ،وال نبي مرسل ،وال أحد دون اهلل بغير إذنه سبحانه ،فينبغي أن
يكون العارف عالماً بصالحه وفساده ،مستقيماً على معاملته ،عارفاً بربحه
وخسرانه ،حافظاً له من مكابدة عدوه ،مستعيناً باهلل في ذلك كله ،وأن ال يدع في قلبه
مكاناً لغيره ،فإن اهلل تعالى إذا اطلع على قلب فرأى فيه غيره مقته وخذله ،وسلط
عليه العدو ،ومعاملة القلوب هلل خاصة ،ومعاملة األركان مختلطة ،ومعاملة القلوب
تُقبل بغير األركان ،ومعاملة األركان ال تُقبل بدون القلوب ،وال تستوجب الثواب،
فإن كان العبد في معاملة القلب مقصراً ،وفي معاملة األركان موفِّراُ ،حكم على توفير
أحكامه بتقصير قلبه ،وإ ن كان في معاملة القلب موفِّرا وفي معاملة األركان مقصراً،
ُحكم على تقصير أركانه بتوفير قلبه.
ُروي أن موسى عليه الصالة والسالم مر بقوم من بني إسرائيل قد لبسوا
المسوح ،وقد جعلوا التراب على رؤوسهم ،ودموعهم منحدرة على خدودهم ،فبكى
عليهم رحمة لهم ،وقال :إلهي ،أما ترحم عبادك ،أما ترى حالهم؟ فأوحى اهلل إليه :يا
أولست بأرحم الراحمين؟ كال( ،)1ولكن أعلمهم بأني
ُ موسى انظر هل نفدت خزائني،
بذوات الصدور خبير ،يدعونني بقلوب خالية عني ،مائلة إلى الدنيا(.)2
كال :حرف جواب للردع والزجر ،وهي هنا جواب عن " هل نفدت "..فخزائن اهلل تعالى ال تنفد. ()1
عن ضمرة بن أبي حبيب قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :إن المالئكة يرفعون عمل عبد من ()2
عباده فيستكثرونه ويزكونه ،حتى ينتهوا به إلى حيث شاء اهلل تعالى من سلطانه فيوحي اهلل تعالى إليهم إنكم حفظة
على عمل عبدي ،وأنا رقيب على ما في نفسه ،إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله ،فاكتبوه في ِس ِّجين .ويصعدون
بعمل عبد فيستقلونه ويحتقرونه،حتى ينتهوا به إلى حيث شاء اهلل من سلطانه ،فيوحي اهلل إليهم :إنكم حفظة على
عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه ،إن عبدي هذا أخلص لي عمله ،فاكتبوه في عليين " [ تنبيهـ الغافلين
وسجِّين :سجل أعمال أهل النار .وعليون :سجل أعمال أهل للسمرقندي ( القسطنطينية 1325هـ) صِ .]4
الجنة.
136
وروي أنه( )1صلى اهلل عليه وسلم مر برجل ساجد على صخرة منذ ثالثمائة
سنة ،كان يبكي ودموعه تجري على األودية ،فوقف عليه وبكى لبكائه ،وقال :يا
إلهي أما ترحم عبدك؟ فقال اهلل تعالى :ال أرحمه ،قال :ولم يا إلهي؟ قال :ألن قلبه
جبة يستتر بها من الحر والبرد.
يستريح إلى غيري ،وكان له ّ
وقال النبي عليه الصالة والسالم " :ال يستقيم عمل العبد حتى يستقيم قلبه ،وال
يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" (.)2
وقال عليه الصالة والسالم " :إن في الجسد ُمضغةً إذا صلحت صلحت
األعضاء كلها ،أال وهي القلب " ( ،)3وقال اهلل تعالى لموسى عليه الصالة والسالم :يا
موسى قل لبني إسرائيل أن ال يدخلوا بيتاً من بيوتي إال بقلوب َو ِجلَة ،وأبصار
خاشعة ،وأبدان نقية ،ونية صادقة.
قال يحيى بن معاذ :قلب المؤمن مضغة جوفانية ،حشوها جوهرة ربانية،
حولها روضة فردانية ،تحتها ساحة نورانية ،واهلل تعالى ناظر إليها في كل لحظة
بالرحمة والشفقة ،ويحول بينها وبين ما يشغله عنه ،قال اهلل تعالى( :ومن أوفى بعهده
وقيل :معاملة القلوب أمر شديد ،والثبات عليها أشد وأصعب. ()4
من اهلل)
رواه أحمد ( )12982وابن أبي الدنيا في الصمت ( )9كالهما من رواية علي بن مسعدة الترغيب والترهيب ()2
للحافظ المنذري (ابن كثير وشركاؤه) 3/328برقم ،3758و 3/509برقم .4219ورواه الهيثمي في مجمع
وضعفه آخرون.
ّ الزوائد 1/53وقال في علي بن مسعدة :وثّقه جماعة
من حديث النعمان بن بشير رضي اهلل عنهما عن النبى صلى اهلل عليه وسلم " :الحالل بيِّن والحرام بيِّن".. ()3
[ البخاري :اإليمان ،باب فضل من استبرأ لدينه 52ومسلم :المساقاة ،باب :أخذ الحالل وترك الشبهات
.]1599
سورة التوبة.111 : ()4
137
عبد فقد قلبه متى يجده؟ قال :إذا نزل فيه الحق.
قيل لبعض أهل المعرفةٌ :
قال :متى ينزل؟ قال :إذا ارتحل عنه ما دون الحق.
ومعاملة القلوب على عشر مدارج ،أولها الخطرات ،ثم حديث النفس ،ثم
الهم ،ثم الفكر ،ثم اإلرادة ،ثم الرضا ،ثم االختيار ،ثم النية ،ثم العزيمة ،ثم القصد،
حتى يبلغ إلى عمل الظاهر ،فمن قام هلل تعالى فحفظ معاملة القلب عند الخطرات،
فهو على مدارج الصديقين ،ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند حديث النفس فهو
على مدارج المقربين ،ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند الهم فهو على مدارج
األوابين ،ومن قام هلل على حفظ معاملة القلب عند الفكرة فهو على مدارج
ِ
المخلصين ،ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند اإلرادة فهو على مدارج المريدين،
ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند االختيار فهو على مدارج المتقين ،ومن قام هلل
َ
فحفظ معاملة القلب عند النية فهو على مدارج الزاهدين ،ومن قام هلل فحفظ معاملة
القلب عند العزم فهو على مدارج المنيبين ،ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند
القصد فهو على مدارج المجتهدين ،ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب على عمل
الظاهر فهو على مدارج العابدين من عامة الموحدين.
وقال إسحاق بن إبراهيم( :)1أِل ْن تَُر ِّد ْد قلبك إلى اهلل تعالى ذرة خير لك من
جميع ما طلعت عليه الشمس ،وما من أحد صفا قلبه من أدناس الشهوات ،وطهره من
غبار الغفالت ،ونقاه من كدورات الغوايات ،إال أطلعه اهلل على غاية الغايات.
في معنى قوله تعالى ( :وجاء بقلب منيب)( )3قال: ()2
وقال بكر بن عبد اهلل
الذي يمشي ببدنه على األرض ،وقلبه معلق باهلل تعالى.
ابن راهويه :إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي ،أبو يعقوب ( 238 – 161هـ) ()1
138
وقيل ألبي عبداهلل :ما القلب السليم؟ قال :قلب منقطع من عالئق الدنيا ،مملوء
من حب المولى ،ال يشكو من الشدائد والبلوى ،وال يهتك أستار الصيانة والتقوى.
ويقال :من لم يكن بينه وبين اهلل معاملة سرية كان مسيئاً وإ ن كان محسناً ،ومن ال ير
أن الكونين بما فيهما بسير قدرته ،وسريع لحظته ،لم ينل معاملة القلب.
وقال أبو سعيد الخراز( :)1اعلم أن معاملة القلب هي تجديد السر مع االنفراد
به ،ومالحظة القلب على دوام حفظ األوقات مع صدق الحال ،من غير التفات منه
إلى الوقت والحال.
وقال أبو الدرداء( :)2إن هلل تعالى عباداً تطير قلوبهم إلى اهلل اشتياقاً ال يدركها
البرق الخاطف.
ويروى أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال " :ما سبقكم أبو بكر بكثرة صالة
ُ
وال صيام ولكن بحق وقر في قلبه" (.)3
إن اهلل تعالى ال ُّ
يرد القليل لقلته ،وال يقبل الكثير لكثرته ،ولكن (إنما يتقبل اهلل
ويقال :ليس على مقام الصدق َمن تعلق قلبه بالمقام ،ولكن الصادق ()4
من المتقين)
من تعلق قلبه برب المقام مجرداً ،حتى ال يرى مع اهلل غير اهلل أحداً .ويقال :إذا
صارت المعاملة إلى القلوب استراحت األبدان .ويقال :ال تكون معاملة القلب إال لمن
له قلب صاف ليس بساه ،صحيح ليس بجريح ،بصير ليس بضرير ،فريد ليس
بطريد ،طالب ليس بهارب ،قريب ليس بغريب ،عاقل ليس بغافل ،سماوي ليس
بأرضي ،عرشي ليس بوحشي.
الصحابي عويمر بن مالك ،أول قاض لمدينة دمشق .توفي سنة 32هـ رضي اهلل عنه. ()2
139
وقال ثابت النساج ( :)1قرأت القرآن سنين بالخوف فلم أجد القلب ،ثم قرأته
بالرجاء فلم أجد القلب ،ثم قرأته بتجريد القلب عن كل ما دون اهلل تعالى ،فعند ذلك
وجدته ،ورأيت عند وجوده الوالية الكبرى ،والعزة العظمى ،والمراتب العليا.
وقال اهلل تعالى في بعض الكتب :القلوب بيدي ،والحب في خزائني ،فلوال
حبي لعبدي ما قدر العبد أن يحبني ،ولوال ذكري له في األزل ما قدر أن يذكرني،
ولوال إرادتي إياه في القدم ما قدر العبد أن يريدني.
قيل :إن عارفاً رأى رجالً يدور حول المسجد ،فقال له :يا هذا ما تطلب؟ قال:
موضع
ٍ وص ِّل في أي
أطلب موضعاً خالياً أصلي فيه ،فقال :خل قلبك عما دون اهللَ ،
شئت.
ويقال :بقدر إقبالك على اهلل يكون قرب القلب منه ،وما اطلع اهلل على قلب
عبد فرأى فيه غيره إال عذبه اهلل به ،ووكله إليه.
وقال يحيى بن معاذ :القلب إذا وضعته عند الدنيا خاب ،وإ ذا وضعته عند
العقبى ذاب ،وإ ذا وضعته عند المولى طاب .وقال :الدنيا خراب ،وأخرب منها قلب
َمن يعمرها ،واآلخرة دار عمران ،وأعمر منها قلب من يطلبها .وقال :مفاوز الدنيا
تُقتطع باألقدام ،ومفاوز اآلخرة تقتطع بالقلوب .وقال :خراب النفس من عمارة
القلب ،وعمارة النفس من خراب القلب.
سئل واحد من أبناء القلوب :ما لك ال تتكلم؟ فقال :قلبي يتكلم .قيل :مع من؟
قال :مع مقلب القلوب.
:المشهور أن اسمه محمد بن إسماعيل ثم أطلق عليه خير النساج انظر الرسالة القشيرية (الترجمة )50 ()1
140
الحديث السابع والعشرون
أخبرنا شيخنا الجليل العارف باهلل شيخنا أبو الفضل على الواسطي القرشي
يعرف بابن القاري رضي اهلل عنه ،قال :أنبأنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد
المظفر الداودي ،قال :أنبأنا أبو محمد عبداهلل بن أحمد بن حمويه السرخسي ،قال:
أنبأنا أبو عبداهلل بن يوسف الفربري ،قال :أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل
البخاري ،قال :حدثنا بشر بن خالد ،قال :حدثنا محمد بن جعفر ،عن شعبة ،عن
سليمان ،عن أبي وائل ،عن عبداهلل ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال" :المرء
مع من أحب"(.)1
وفي هذا الحديث الشريف من اإللزام بمحبة أحباب اهلل ورسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ما فيه بالغ للموقنين ،وهدى للمتقين ،ونور للعارفين ،فإن َمن تدبر سر
المعية التي أفصح بها هذا النص األشرف ،انسلخ إال عن محبة اهلل تعالى ،ومحبة َمن
أحبه اهلل وأحب اهلل ،وكذلك العارفون رضي اهلل عنهم ،و ِمن العارفين َمن هم أهل
القلوب المنيرة ،أصحاب صفاء السريرة ،والعمدة على القلوب.
أي بني ،اعلم أن اهلل تعالى ذكر في محكم كتابه للعباد أمره ونهيه ،ووعده
ووعيده ،وترغيبه وترهيبه ،وقضاءه وتقديره ،وحكمه وتدبيره ،ومشيئته في خلقه،
وضرب األمثال ،وذكر آالءه ونعماءه ،ولطائف صنعه ،وكمال قدرته ،وعظيم
ربوبيته.
أشهد في هذه اآلية
َ
()2
ثم قال( :إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)
البخاري :األدب ،باب عالمة الحب في اهلل عز وجل 5818 – 5816ومسلم :البر والصلة واألدب ،باب ()1
141
وبَّي َن فضلهم على َمن دونهم.
ف مراتب أبناء القلوبَ ،
جميع العبادَ ،ش َّر َ
قال بعض المفسرين في معنى قوله تعالى ( :لمن كان له قلب) :أي قلب
واثق بجميع ما ذكره اهلل سبحانه في كتابه من الوعد والوعيد وغيرهما ،وقال
بعضهم :لمن كان له عقل يزجره عن جميع الضالالت والغوايات في جميع
الحاالت.
وقال بعضهم :لمن كان له ذهن يفر به عن الشرك والشك .وقال بعضهم:
لمن كان له يقين يسقط عنه وثائق الغرور ،في جميع األمور إلى أن يصل إلى الملك
الغفور .وقال بعضهم :لمن كان له سر يتالشى مع جميع أوصاف العبودية ،تحت
إشارة الربوبية ،عند مشاهدة الحق ،وقال بعضهم :لمن كان له استقامة السر مع
ٍ
التفات منه إلى ما سواه ،وقال بعضهم :لمن كان له قلب مفرد لتفرد الحق ،من غير
الفرد.
وإ ن اهلل تعالى زين قلوب العارفين بزينة المعرفة كرماً وامتناناً ،وزين قلوب
المريدين بالعظمة والهيبة رحمةً وإ حساناً ،وحجب قلوب الغافلين بالجهل والغفلة
محنةً وخذالناً ،وطبع على قلوب الكافرين باإلبعاد والنكرة طرداً وحرماناً .والقلوب
ثالثة :قلب يطير في الدنيا حول الشهوات ،وقلب يطير في العقبى حول الكرامات،
فقلب معلق بالدنيا ،وقلب معلق
وقلب يطير في سدرة المنتهى حول األنس والمناجاةٌ ،
بالعقبى ،وقلب معلق بالمولى ،وقلب حريق ،وقلب غريق ،وقلب سحيق .وقلب
منتظر للعطاء ،وقلب منتظر للرضاء ،وقلب منتظر للقاء .وقلب مشروح ،وقلب
مجروح ،وقلب مطروح .وقلب منيب ،وهو قلب آدم عليه الصالة والسالم ،وسليم،
وهو قلب إبراهيم علية الصالة والسالم ،ومنير ،وهو قلب سيدنا محمد عليه أفضل
الصالة والسالم.
142
الحديث الثامن والعشرون
أخبرنا شيخنا القاضي الثقة المقري الجليل الشيخ أبوالفضل علي الواسطي
القرشي رحمه اهلل رحمة واسعة ،قال :أخبرني أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد
الداودي ،قال :أخبرني عبداهلل أحمد السرخسي ،قال :حدثني أبو عبداهلل محمد
الفربري ،قال :حدثني أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل البخاري ،قال :حدثني إسحاق
ابن إبراهيم ،قال :أخبرنا الحسين ،عن زائدة ،عن عبيد الملك ،عن مصعب بن سعد،
عن أبيه قال :تعوذوا بكلمات كان النبي صلى اهلل عليه وسلم يتعوذ بهن" :اللهم إني
الجبن ،وأعوذ بك من البخل ،وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر،
أعوذ بك من ُ
وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر"( .)1استعاذ صلى اهلل عليه وسلم من القواطع
قعد عن قول الحق ،والبخل مقصر عن طلب الحق، من اهلل تعالى ،فإن الجبن م ِ
ُ
وأرذل العمر صارف عن بذل الهمة في الحق ،وفتنة الدنيا قاطعة عن الحق ،وعذاب
القبر نتيجة أولئك ،والعياذ باهلل ،وفي مضمون هذه االستعاذة الشريفة المحمدية،
إرشاد بإعالء الهمة عن الجبن ،والبخل ،وحث على التجرد إلى اهلل تعالى ،وهذا بغية
العارفين ،اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا مصلح الصالحين ،يا ولي المتقين ،يا دليل
المتحيرين ،يا أنيس العارفين ،يا أرحم الرحمين.
أي بني ،اعلم أن العبد إذا علم أن اهلل سبحانه وتعالى حكيم فيما حكم،
صحيح .رواه اإلمام البخاري في الدعوات ،باب االستعاذة من أرذل العمر ،ومن فتنة الدنيا وفتنة النار 6013 ()1
وفي باب التعوذ من عذاب القبر 6004وباب التعوذ من فتنة الدنيا 6027ورواه في الجهاد ،باب ما يتعوذ به
من الجبن .2667والترمذي في الدعوات ،باب :في دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم وتعوذه في دبر كل صالة
3562وقال :حسن صحيح .والنسائي :االستعاذة (االستعاذة من فتنة الدنيا) .8/266وأحمد في المسند (مسند
سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم) 1585و .1621
143
عالم بما قضى َّ
ودبر ،وعرف أنه جاهل بالمحبوب والمكروه ،رضي عن اهلل وقدير ٌ
ٌ
في حكمته وقضائه ،والرضا هو سكون القلب إلى الحكيم ،وترك االختيار مع
التسليم ،وال شيء أشد على النفس من الرضا بالقضاء ،ألن الرضا بالقضاء ،يكون
على خالف رضا النفس وهواها ،فطوبى لعبد آثر رضا اهلل تعالى على رضا نفسه.
وروي أن موسى عليه الصالة والسالم كان يقول في مناجاته :إلهي
خصصتني بالكالم ولم تكلم بشراً قبلي ،فدلني على عمل أنال به رضاك ،فقال اهلل
تعالى :يا موسى رضائي عنك رضاك بقضائي.
:أرجو أن أكون قد أُعطيت من الرضا طرفاً ،وذلك أن اهلل ()1
وقال الداراني
تعالى لو أدخلني النار لكنت بذلك راضياً ،وإ ن أحق الناس بالرضا أهل المعرفة،
()2
وهو باب اهلل األعظم.
وروى في بعض الكتب :أن جبريل عليه الصالة والسالم كان يهبط األرض،
فرأى رجالً عليه أثر السكينة ،فقال :يا رب ما أحسن هذا الرجل ،فقال اهلل تعالى :يا
جبريل انظر اسمه في اللوح في أسماء أهل النار ،فقال :إلهي ما هذا؟ فقال :يا
جبريل إني ال أُسأل عما أفعل ،وإ نه ال يبلغ أحد من َخلقي علمي إال بما شئت .فقال
أبو سليمان الداراني :عبد الرحمن بن عطية ،وداريا بلدة من أعمال دمشق ،مات سنة 215هـ [ الشعراني: ()1
وتعالى من أعلى مقامات اليقين باهلل ،وقد قال تعالى( :هل جزاء اإلحسان إال اإلحسان) [ سورة الرحمن ]60
فمن أحسن الرضا عن اهلل جازاه اهلل بالرضا عنه ،فقابل الرضا بالرضا ،وهذا غاية الجزاء ونهاية العطاء ،وهو
قوله عز وجل ( :رضي اهلل عنهم ورضوا عنه) [ المائدة 119والتوبة 100والمجادلة 22والبينة [ ]8قوت
القلوب في معاملة المحبوب (مصطفى البابي الحلبي – مصر ط ]2/76 )1وقال الشيخ عبد القادر الجيالني (
يهون
561 – 471هـ) :من أراد أن يحصل له الرضا بقضاء اهلل عز وجل فليدم ذكر الموت ،فإن ذكره ِّ
المصائب واآلفات" [ الفتح الرباني ( مصر – مطبعة الحلبي 1380هـ) ص.] 190
144
جبريل :يا رب أتأذن لي أن أخبره بما رأيت؟ قال لك اإلذن ،فهبط جبريل وأخبره
بحاله ،فخر الرجل ساجداً ،وكان يقول :لك الحمد يا موالي على قضائك وقدرك،
حمداً يعلو حمد الحامدين ،ويزيد على شكر الشاكرين .قال :فما زال يحمد اهلل تعالى
حتى ظن جبريل أنه لم يسمع ما قال ،فقال :يا عبداهلل وهل سمعت ما قلت لك؟ قال:
نعم ،أخبرتني أنك وجدت اسمي بين أسماء أهل النار في اللوح المحفوظ ،قال فما هذا
الحمد والشكر؟ قال :سبحان اهلل يا جبريل ،إن اهلل تعالى قد قضى مع كمال علمه،
وسعة رحمته وحلمه ،ولطائف ربوبيته ،وحقائق حكمته ،فمن أنا حتى ال أرضى؟
تبارك اهلل ربي ،ثم خر ساجداً ،وأخذ في التسبيح والتحميد .قال :فرجع جبريل إلى
اهلل ،فقال اهلل تعالى :ارجع في اللوح المحفوظ وانظر ماذا ترى ،فرجع فإذا اسمه في
أسماء أهل الجنة ،فقال :يا جبريل ،هو ما ترى ،إني ال أُسأل عما أفعل ،فقال جبريل:
إلهي ائذن لي حتى أخبره بما رأيت ،فقال :لك اإلذن ،قال :فهبط جبريل فأخبره بما
رأى ،قال :لك الحمد يا سيدي وموالي على قضائك وقدرك ،حمداً يعلو حلو
الحامدين ،ويزيد على شكر الشاكرين( .)1فرجع جبريل متعجباً من كمال رضاه عن
اهلل بكل ما حكم له.
وكذلك روي :أن اهلل تعالى أوحى إلى نبي من أنبيائه ،أن قل لعبدي فالن ابن
فالن :إنك من أهل النار .فلما بلّغ إليه الرسالة حمد اهلل تعالى ،وقال :الحمد هلل على
ما قضى ،فاألمر أمره ،والحكم حكمه .فقال اهلل تعالى لنبيه :الحق به ثانياً وأخبره
أني قد غفرت لك ،حيث رضيت بقضائي .فبلغ الرسالة ،فشهق الرجل شهقة وخر
ميتاً.
" الشكر من أعلى المقامات ،ألنه يشمل القلب واللسان والجوارح ،وألنه يتضمن الصبر والرضا والحمد، ()1
وكثيراً من العبادات البدنيةـ والقلبية ،ولهذا أمر اهلل تعالى به ونهى عن ضده وهو الكفر والجحود ،فقال:
(واشكروا لي وال تكفرون) [ سورة البقرة [ ]152عبدالقادر عيسى :حقائق عن التصوف (ط )4ص .]388
145
وإ ن قضاء اهلل تعالى على أربعة أوجه :قضاء النعمة ،فعلى العبد فيه الرضا
والشكر ،والثاني قضاء الشدة ،فعلى العبد فيه الرضا وذكر المنة ،والقيام بالواجب
إلى الموت ،والرابع قضاء المعصية ،فعلى العبد فيه الرضا عن اهلل والتوبة.
وسئل علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه عن القضاء والقدر ،فقال :لي ٌل
ُ
مظلم ،وبحر عميق ،وسر اهلل األعظم ،فمن رضي به فله الرضا ،ومن سخط فله
السخط.
وروي أنه لما ُوضع المنشار على رأس زكريا عليه الصالة والسالم َه َّم أن
يستغيث باهلل تعالى ،فأوحى اهلل إليه أن يا زكريا إما أن ترضى بحكمي لك ،وإ ما أن
ك من عليها .فسكت حتى قُطع نصفين .وحكي أن رابعة أخرب األرض وأ ِ
ُهل َ
البصرية مرضت ،فقيل لها أما ندعو لك طبيباً؟ فقالت :من قضى علي؟ فقالوا :اهلل
تعالى .قالت :أو مثلي من يرد قضاء سيده؟
ومرض أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه ،فقيل له :أما ندعو لك الطبيب؟
فعال لما أريد.
فقال :قد رآني .قيل وما قال؟ فقال :قال إني ّ
شكا نبي من األنبياء بعض ما ناله من المكروه ،فأوحى اهلل إليه :كم تشكوني
ولست أهل ذم وال شكوى ،فهكذا كان شأنك في عملي؟ فلم تسخط؟ أفتحب أن أعيد
ُ
الدنيا من أجلك؟ أو أبدل اللوح بسببك ،فأقضي ما يسرك كما تريد ال كما أريد،
ويكون ما تحب دون ما أحب؟ فبعزتي حلفت لئن تَلَ ْجلَ َج هذا في صدرك مرة أخرى،
ألسلبنك ثوب النبوة ،وألوردنك النار وال أبالي.
قال بعض الحكماء ليس العجب ممن ابتلي فصبر ،إنما العجب ممن ابتلي
فرضي .قيل لعبدالواحد بن زيد :أي الرجلين أفضل :رجل أحب البقاء ليطيع ،أو
رجل أحب الخروج شوقاً إليه؟ فقال :ال هذا وال ذاك ،ولكن رجل فوض أمره إلى
اهلل ،وقام على قدم الصدق في الرضا ،فإن أبقاه أحب ذلك ،وإ ن أخرجه أحب ذلك،
فهذه منازل الرضا عنه ،وخلق العارف معه.
قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه اهلل :ما تشتهي؟ قال :ما يقضي اهلل .وقال
146
أبو عبداهلل النساج :إن هلل عباداً يستحيون من الصبر ويسلكون مسلك الرضا وإ ن له
عباداً لو يعلمون من أين يأتي القدر ،الستقبلوه حباً ورضاً.
وفي الخبر " :إن أول ما كتب اهلل سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ :ال إله
محمد رسول اهلل ،من استسلم لقضائي ،وصبر على بالئي ،وشكر لنعمائي،
ٌ إال اهلل،
يرض بقضائي ،ولم يصبر
َ كتبته صديقاً ،وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ،ومن لم
على بالئي ،ولم يشكر نعمائي ،فليختر رباً سواي" ( .)1يقول قائلهم رضي اهلل عنهم:
جوعك ،وإ ن شاء أشبعك ،وإ ن شاء
يا نفس إني أسلمتك إلى ربك ،على أنه إن شاء َّ
أعزك ،وإ ن شاء أذلَّك ،وإ ن شاء أحياك ،وإ ن شاء أماتك ،وهو أغنى وأولى ِ
بك منك،
وأنت بال ُكلّية له يا نفس ،فما ِ
لك والحكم على َمن له الحكم والخلق واألمر.
وقيل ليحيى بن معاذ الرازي :متى يطيب عيش المؤمن؟ قال :إذا رضي عن
اهلل تعالى بكل ما قضى وقدر ،وحكم ودبر .وقيل له :متى يكون العبد راضياً عنه؟
قال :إذا قال العبد لربه :إلهي إن أعطيتني شكرت ،وإ ن منعتني رضيت ،وإ ن
دعوتني أجبت ،وإ ن تركتني عبدت.
والزهد عشرة أجزاء ،وأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ،والورع
ضعيف .وفي اإلتحافات السنية لعبدالرؤوف المناوي :بسم اهلل الرحمن الرحيم .إن من استسلم لقضائي ()1
ورضي بحكمي وصبر على بالئي بعثته يوم القيامة مع الصديقين " رواه الديلمي .عن ابن عباس رضي اهلل
عنهما أنه قال :إن أول شيء كتبه اهلل في اللوح المحفوظ :بسم اهلل ..إلى آخره" [ اإلتحافات السنية باألحاديث
القدسية (بيروت – مؤسسة الزعبي ط )4ص 46رقم الحديث ]96ورواه ابن النجار عن علي رضي اهلل عنه [
كنز العمال 3/8659و ]15/43402وذكر محمد طاهر بن علي الهندي قسماً منه " من نسخة ابن األشعث"
[ تذكرة الموضوعات ]190وروى بعضه ،وهو " إني أنا اهلل ال إله إال أنا ،من لم يصبر على بالئي ولم يرض
بقضائي ،ولم يشكر لنعمائي ،فليتخذ رباً سواي" وقال :ضعيف [ تذكرة .]189
147
عشرة أجزاء ،وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ،واليقين عشرة أجزاء ،وأعلى
درجة اليقين أدنى درجة الرضا ،ألن الرضا أعلى درجة العبودية ،وإ ن اهلل سبحانه
جعل الروح والراحة في الرضا ،وجعل الهم في السخط.
وحكي أن عطية الحمصي ( ،)1قال إن والدي قال إلبراهيم بن أدهم ( :)2يا أبا
ُ
اشتغلت بثالثة أجزاء ،فإن
ُ إسحاق ،لو كتبت من هذا الحديث كما كتنبا .فقال له:
فرغت منها فعلت ما تقول .قال :وما هي ؟ قال :التوكل على اهلل فيما تكفل به من
الرزق ،وإ خالص العمل هلل ،والرضا بقضاء اهلل .فأما التوكل واإلخالص فقد فرغت
منهما بعون اهلل ،وأما الرضا بقضاء اهلل ،فإني منه في شغل شاغل ،قال :فبكى والدي
بكاء شديداً ،وقال :ما أبعدنا عما أنت فيه ،هل يكون فوق الرضا منزلة نقدر أن نقول
فيها شيئاً.
قال محمد بن واسع ( :)3إني ال أغبط إال َمن أصبح وليس له غداء وال عشاء،
وهو عن اهلل تعالى راض .قيل لسفيان الثوري :متى يكون العبد عن اهلل راضياً؟
سرته النعمة.
سرته المصيبة كما ّ
قال :إذا ّ
كان يقول: ()5
وقال رجل عند اإلمام الحسين( )4رضي اهلل عنه :إن أبا ذر
إلى من الصحة ،فقال :رحم اهلل أبا ذر ،أما أنا
إلي من الغنى ،والسقم أحب ّ
الفقر أحب ّ
فأقول :من رضي بحسن اختيار اهلل تعالى لم يتمن غير ما اختاره اهلل له .وقال يحيى
بن معاذ :طلبت العلم فلم أسترح ،ثم طلبت العمل فلم أسترح ،فرضيت عن اهلل
عطية بن قيس الحمصي /تابعي .قال الزركلي في األعالم (ط" :4/238 ) 4معمر ،قيل :عاش 104سنين" ()1
148
رضي اهلل عنه :ليس الشأن في أكل خبز الشعير ،ولبس فغرقت في الراحة .قال أبو الدرداء
الصوف .لكن الشأن في الرضا عن اهلل تعالى.
رضي اهلل عنه: كان مكتوباً على سيف علي بن أبي طالب
يوم قُِد ْر
قد ُر أم ٌ
يوم ال ُي َ أفر
أي يومي من الموت ّ
الح ِذ ْر ِ
المقدور ال ينجو َ ومن قد ُر ال يأتي به
يوم ال ُي َ
149
الحديث التاسع والعشرون
هذا الحديث القدسي الذي وصل إلينا بالسند النبوي فيه من إعظام شأن كلمة
التوحيد ،ما يزيد العبد إيماناً ،ويملؤه عرفاناً ،ويلزمه بالمداومة على الذكر بهذه
أخرجه ابن عساكر ( )2/85عن علي رضي اهلل عنه [ كنز العمال 1/158و ]1769وابن النجار عنه ()1
وعن أنس رضي اهلل عنهما [ كنز ]1/235وزين الدين المناوي في اإلتحافات السنية (الزعبي) ص 73رقم
166وقال :رواه أبو نعيم وابن النجار وابن عساكر عن علي رضي اهلل عنه .وانظر في اإلتحافات الحديث
.165ورواه اإلمام الغزالي في إحياء علوم الدين (دار المعرفة) 1/167وقال الحافظ العراقي " أخرجه الحاكم
في التاريخ وأبو نعيم في الحلية من طريق أهل البيت من حديث علي بإسناد ضعيف جداً ،وقول أبي منصور
الديلمي " :إنه حديث ثابت" مردود عليه".
150
الكلمة ،التي هي روح التوحيد ،وما على قائلها بعد اإليمان بمبلِّغها صلى اهلل عليه
وسلم من بأس ،وكونها آخذة بالعبد إلى االفتقار إلى اهلل تعالى ،واالنقهار تحت عظمة
فردانيته ،فلذلك صارت حصناً للعبد بإذن اهلل تعالى.
أي بني ،اعلم أن الغنى والفقر صفتان :صفة هلل ،وصفة للعبد ،فصفة الفقر
صفة مدح ،كما أن صفة الغنى هلل ،وهو صفة مدح ،والفقر بالحقيقة ()1
للعبد ،وهو
صفة العبد ،إذ ال يشوبه غنى ،والغنى بالحقيقة صفة الرب ،إذ ال يشوبه فقر ،وإ ن
أشرف صفات العبد افتقاره إلى اهلل في كل شيء كما أن أشرف صفات الرب
استغناؤه عن العبد في كل شيء قال اهلل تعالى ( :واهلل غني وأنتم الفقراء)(،)2
و(يأيها الناس أنتم الفقراء إلى اهلل واهلل هو الغني الحميد)(.)3
والسر ،ففقر
ّ مقسوم على النفس والروح والقلب
ٌ واعلم أن االفتقار إلى اهلل
النفس إلى اهلل تعالى يكون على سبيل القرب والرضاء ،وفقر السر إلى اهلل تعالى
على سبيل المشاهدة واللقاء ،فكلما رأى العبد نفسه متحيرة على باب عهده ووفائه،
رجع باالفتقار إلى باب عفوه ،وكلما رأى روحه متحيرة على باب وده ومحبته ،رجع
باالفتقار إلى باب عنايته.
ومن حقيقة االفتقار االستكفاء بالكافي ،وطرح النفس السقيمة بين يدي
المعافي .وأيضا حقيقته انتظار السبب من المسبب مع رؤية السبب ،واالشتغال
واالعتذار ،بلسان ()4
بالمسبب مع نسيان السبب .وأيضا من حقيقته دوام التبصبص
صدق
التبصبص :التملق [ انظر القاموس المحيط (مؤسسة الرسالة) مادة بصبص (الهامش) وأساس البالغة (دار ()4
151
االفتقار ،مع غاية االنكسار ،ومن حقيقته تخليص األسرار من رؤية األعمال ،وترك
االعتماد على حسن الحال ،ومن حقيقته أن ال ينصرف العبد عنه بخلقه وال بملكه.
قيل ألبي عبد اهلل بن مقاتل :متى يكون العبد غنياً محتاجاً وهو في غناه
وحاجته محمود؟ قال :إذا كان غناه باهلل عن َخلقه ،وحاجته إلى ربه .قال الشيخ أبو
بكر الواسطي :إن العبد ال يعرف هلل حق معرفته ،حتى يعرف الفاقة الكبرى ،قيل:
وما الفاقة الكبرى؟ قال :أن يعلم أنه لم يهتد إلى ربه إال به ،وال ينجو من سخطه إال
به .ويقال :االفتقار لواء أهل الوالية .ويقال :االفتقار طرح النفس بين يدي الرب،
كالصبي الرضيع بين يدي األم.
ويقال االفتقار فراغة في رعاية ،ورعاية في والية ،ووالية في عناية ،وعناية
في هداية ،فمن ال فراغة له ال رعاية له ،ومن ال رعاية له ال والية له ،ومن ال والية
له ال عناية له ،ومن ال عناية له ال هداية له.
أسراء تحت
الخلق بأسرهم فقراء محتاجون إلى اهلل تعالىّ ،
أي بني ،اعلم أن َ
مشيئته ،ضعفاء تحت علمه وقدرته ،ال يملكون ألنفسهم وال لغيرهم نفعاً وال ضراً،
وال ذالً وال عزاً ،وال موتا وال حياة ،منصوبون بين سهام النعمة والرخاء ،موقوفون
بين القطيعة والشقاء ،مستورة عنهم خواتيمهم ،لهم الخوف والرجاء ،والفقر والدعاء،
والتضرع والبكاء ،فما أفقر من هذه صفته ،وما أضعف من هذه حالته.
()1
واعلم أن االفتقار أجل مراتب المحبين ،وأرفع منازل المنيبين ،وأزلف
َّ
وأجل مقامات التائبين ،وأعلى وسائل ()2
حاالت المريدين ،وأعظم آالت األوابين
المقربين ،وهو أصل العبودية ،وصدر اإلخالص ،ورأس التقوى ،ومخ الصدق،
وأساس الهدى ،فمن أراد أن يدخل في ُعصبة أهل االفتقار ،فينبغي أن ال يهتم
بمصلحة نفسه وعياله ،وأن يتملق بين يدي اهلل تعالى ،وأن يكون آيساً مما سوى
اهلل ،مع االفتقار إلى اهلل تعالى ،كرجل يكون في بئر مظلمة ،ورأس البئر مسدود،
وأثره مستور ،وليس له في البئر مؤنس ،وال للخلق على رأس البئر ممر ،فهل يكون
رجاؤه وافتقاره إلى أحد دون مواله؟
( )1أزلف :أقرب.
( )2األواب :التائب ،من آب يؤوب إذا رجع.
152
وحكي أن رجالً من الصالحين وقع في بئر في البادية وكان ضريراً ،فمرت
على رأس البئر قافلة ،فناداهم الرجل من قعر البئر ،فهتف هانف :أيستغيث بغيري
سدوا رأي البئر ،وأرادوا
وأنا غياث المستغيثين ،قال :فسكت الرجل ،فإذا أهل القافلة ّ
كي ال يقع فيه أحد ،فصار الرجل آيساً من نفسه ،وانقطع رجاؤه عن ()1
أن ُيخفوه
الخلق ،ثم قال :إلهي اآلن لم يبق لي غيرك ،وأنا فقير إليك ،فسلط اهلل أسداً حتى فتح
رأس البئر ،وهبط فيه ،فأخذ الرجل بذنب األسد ،فرفعه إلى رأس البئر ،فنودي من
فوقه :ال تقطع قلبك عمن ينجيك ٍ
بتلف َمن تلف.
واعلم أن اهلل وضع تحت قوله (إياك نعبد) ( )2كمال وفاء صدق العبودية ،ثم
علم كمال ضعف العبد وعجزه ،فأعطاه كلمة أخرى وجمع له خير الدارين ،وهو
قوله تعالى ( :وإ ياك نستعين)( )3فكل حق اهلل تعالى على العبد ،تحت قوله (إياك
نعبد) ،وكل فقر للعبد إلى اهلل تعالى تحت قوله (وإ ياك نستعين).
فقال :إلهي إليك خرجت وأنت أخرجتني، ()4
وقيل :إن أعرابياً وقف بالموقف
ولك وقفت وأنت أوقفتني ،وقد عصيت أمرك ،وأنت خذلتني ،ومع ذلك ال عذر لي
وال حجة ،فإن رحمتني وعفوت عني ،فأنت أهل اإلحسان ،وال فقير لك أفقر مني يا
سيدي ويا موالي.
واعلم أن اهلل تعالى كلَّف العباد صدق االفتقار ،كيال يتجاوزوا حد العبودية
إلى حد الربوبية ،ومن اإلرادات العقلية إلى اإلرادات الهوائية ،ومن الصفاوة
الروحية
تعود الهاء في (يخفوه) و (فيه) و (فوقه) إلى كلمة رأس .أما (بئر) فمؤنثة. ( )1
153
إلى الكدورة النفسية ،ومن الهمم العلوية إلى الهمم السفلية.
قال اهلل تعالى لنبيه األعظم عليه الصالة والسالم( :ليس لك من األمر
()3
وقال ( :بل هلل األمر جميعاً) ()2
شيء)( ،)1وقال سبحانه ( :قل إن األمر كله هلل)
وقال ( :أال له الخلق واألمر)( ،)4نعم صالح العبد باالفتقار ،نعم االستعانة
بالمستعان ،نعم سبب الوصول إلى طريق الهداية واللحوق بأهل الوالية االفتقار.
154
الحديث الثالثون
أخبرنا الشيخ الثقة العارف باهلل تعالى خالي أبوبكر بن يحيى النجاري
األنصاري الواسطي رضي اهلل عنه " :قال :أخبرنا أبو غالب محمد بن عبدالواحد
القزاز ،قال :أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي ،قال :أخبرنا
إسحاق بن سعيد ،قال :أخبرنا محمد بن هارون ،قال :أنبأنا أو آمنة محمد بن
إبراهيم ،قال :أخبرنا محمد بن سابق ،قال :أخبرنا إبراهيم بن طهمان ،عن منصور،
عن نافع ،عن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم" :
إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل" ( .)1وهذا الحديث الشريف فيه من إعظام مناجاة اهلل
الغاية ،فإن العبد إذا صلى ناجى ربهَّ ،
سيما في يوم الجمعة ومشهدها ،فإنه من أعظم
مشاهد الحضرة .واالغتسال عبارة عن غسل القلب والقالب من الوجودات ،هذا مع
ما فيه من فضيلة التطهر الشرعي ،وهذا سر من أسرار االغتسال ،ولم يكن من حكم
له العقول. ()2
تحير
شرعي إال فيه من األسرار الباطنة والظاهرة ما ّ
صحيح .رواه بهذا اللفظ أحمد في المسند 1/91و 319و 5/5482و 5488والنسائي في الجمعة ،باب: ()1
حض اإلمام في خطبته على الغسل يوم الجمعة 3/105وفتح الباري 2/360وروي في الموطأ :الجمعة ،باب
ما جاء في غسل يوم الجمعة رقم " : 429إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وهو كذلك في المسند 4/4466و
5083و 5169و 5/5311و 5828والبخاري :الجمعة ،باب فضل الغسل يوم الجمعة 837ومسلم :الجمعة
(أوائله) 844و .845وانظر البخاري 854و .877
تحير (بضم الراء) :مضارع خففت منه إحدى تاءيه وأصله تتحير ،يقال :حار يحار وتحير يتحير (انظر
ّ
()2
القاموس المحيط).
155
أي بني ،اعلم أن َمن نظر في حسن تدبير اهلل تعالى ،ولطائف صنعه ،وكمال
قائم على نفسه بما كسبت ،وأن نواصي العباد
قدرته في كل شيء ،علم أنه تعالى ٌ
في ماضي حكمته ،ال راد لقضائه ()1
بيده ،يقلبهم كيف يشاء ،وأن سعادتهم وشقاوتهم
وال معقب لحكمه ،فمتى تحقق ذلك اعتصم باهلل ،واستسلم له ،وفوض ال ُكـلّية إليه،
وقام بقدم االضطرار بين يديه ،وبقي بال حول وال قوة ،وال اختيار وال تعليق ،وال
تدبير وال سؤال ،فإن راحة الدارين وسرورهما في االعتصام باهلل ،وهمومهما في
االعتصام بغير اهلل ،ورؤية الحول والقوة بالنفس ،أال ترى قول اهلل تعالى لنبيه عليه
الصالة والسالم( :قل ال أملك لنفسي نفعاً وال ضراً إال ما شاء اهلل)( )2ومعاملة اهلل
(ال أملك إال نفسي تعالى موسى عليه الصالة والسالم في التيه مكافأة لقوله:
وقيل في معنى قوله تعالى ( :فاخلع نعليك)( )4أي اخلع عن قلبك أهلك ()3
وأخي)
وولدك وكل ما سوى اهلل( ،)5ثم قال تعالى ( :وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي
أضافها إلى نفسه ،قال ما تصنع بها قال( :أتوكؤا عليها)( )7فقال له( : ()6
عصاي)
()8
ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى)
( )4
سورة طه.12 :
هذا يعني أن يوحد المرء ربه سبحانه ،ويفرده بالتوجه والخشية والعبادة ،ولكنه ليس يعني أن حب المرء ()5
لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم غير واجب ،فإن المرء ال يؤمن حتى يكون صلى اهلل عليه وسلم أحب إليه من
ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه ،وليس يعني أيضا أال يحب المرء أهله أو أال يرعاهم ،فمن الشر أن يضيع
المكلف َمن يقوت ،وخير العباد هو خيرهم ألهله ،وهو فيهم راع ومسؤول عنهم ،وبحبهم وبحب سائر المسلمين
في"..
في "..وفي رواية" :وجبت محبتي للمتحابين ّ
يتقرب إلى اهلل تعالى الذي يقول" :حقت محبتي للمتحابين ّ
[ اإلتحافات :ص49و .]70
سورة طه.18- 17 : ()6
156
قال اهلل تعالى :يا موسى هذه التي قلت أتوكأ عليها صارت عدوة لك ،لتعلق قلبك
()1
بغيري ،فرجع موسى بقلبه إلى اهلل تعالى ،فلما علم ذلك منه( :قال خذها وال تخف)
وقال لنبينا عليه الصالة والسالم ( :قل لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا)(.)2
يقول اهلل تعالى " :ما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بمخلوق دوني إال قطعت
أسباب السماء من يديه ،ووكلته إلى نفسه ،وما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بي
دون خلقي إال أعطيته قبل أن يسألني ،وأستجيب له قبل أن يدعوني"( )3وبلغنا أن اهلل
تعالى أوحى إال داود عليه الصالة والسالم :وعزتي وجاللي وعظمتي وارتفاعي
فوق َخلقي ،ال يعتصم عبد من عبيدي بي دون خلقي ،فأعلم ذلك من قلبه فيكيده
ومن فيهن ،إال جعلت له من ذلك
ومن فيهن ،واألرضون السبع َ
السموات السبع َ
مخرجاً ،وعزتي وجاللي ،وعظمتي وارتفاعي فوق َخلقي ،ال يعتصم عبد من عبادي
بمخلوق دوني ،فأعلم ذلك من قلبه ،إال قطعت عنه األسباب ،ثم ال أبالي في أي واد
أخرجه العسكري عن علي رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :يقول اهلل تعالى" :ما من ()3
مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إال قطعت أبواب السموات واألرض دونه ،فإن دعاني لم أجبه ،وإ ن سألني لم
أعطه ،وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إال ضمنت السموات رزقه ،فإن سألني أعطيته ،وإ ن دعاني أحببته،
وإ ن استغفرني غفرت له " [ كنز العمال (الرسالة) .]3/8512ورواه ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود
رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ،ومن
أنزلها باهلل تبارك وتعالى أوشك اهلل له بالغنى إما موتاً عاجالً ،أو غنى آجالً " [ الزهد (تصوير بيروت) :باب ما
رواه نعيم بن حماد في نسخته زائداً على ما رواه المروزي عن ابن المبارك ص 34رقم الحديث ]132وفي
رواية " :من نزلت به حاجة فأنزلها بالناس [ "..كنز 6/16781عن ابن جرير ي تهذيبه ،والطبراني في الكبير،
وأبي نعيم في حلية األولياء والبيهقي في شعب اإليمان].
157
()1
أهلكته ،وأمأل قلبه شغالً وحرصاً ،وأمالً ال يبلغه أبداً".
وفي الخبر ":من اعتصم باهلل واستعان به ،أحوج اهلل إليه الناس ،وأنطقه
بالحكمة ،وجعله من ملوك الدارين ،ومن اعتصم بمخلوق دونه ،ووكل إليه قلبه،
عذبه اهلل ،وقطع عنه أسباب الدنيا واآلخرة".
وروي أيضاً " :تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم ،وأقبلوا إلى اهلل تعالى
بقلوبكم ،واعتصمواـ به في جميع أموركم ،ألن العبد إذا أقبل إلى اهلل بقلبه ،أقبل اهلل
()2
بقلوب العباد إليه ،ومن يعتصم باهلل كفاه اهلل كل مؤنة".
قيل ليحيى بن معاذ :متى يكون الرجل معتصماً باهلل؟ فقال :إذا قطع قلبه عن
كل عالقة موجودة ومفقودة ،ورضي باهلل وكيال .وروي أن اهلل تعالى قال لداود عليه
الصالة والسالم :ما يتعبد المتعبدون ،وال يتقرب المتقربون بشيء أبلغ عندي من
االعتصام والتسليم.
وقال عامر بن قيس( )3ألحد العارفين :ادع اهلل لي :فقال :لقد استعنت بمن هو
أعجز منك ،أطع اهلل واعتصم به ،يعطك أعظم ما يعطي السائلين .وقال :فيما
اإلتحافات السنية باألحاديث القدسية لزين الدين المناوي (بيروت) ص 99رقم الحديث .229وروى ()1
الطبراني في الكبير واألوسط ،والبيهقي في الزهد .ومجمع الزوائد (الفكر) 10/432برقم 17816وقال:
"رواه الطبراني في الكبير واألوسط " .وكنز العمال 3/6077وحلية األولياء .1/227كلهم عن أبي الدرداء
رضي اهلل عنه .وانظر بهذا المعنى الترغيب والترهيب :الترغيب في الفراغ للعبادة واإلقبال على اهلل تعالى،
والترهيب من االهتمام بالدنيا واالنهماك عليها 4/23وما بعدها.
في الطبقات الكبرى للشعراني (الفكر) :1/28عامر بن عبد اهلل بن قيس .وقال النبهاني " :عامر بن عبد اهلل ()3
المعروف بابن عبد قيس ..مات في خالفة معاوية رضي اهلل عنه " [ جامع كرامات األولياء .]2/134
158
أنزل على موسى عليه الصالة والسالم :إن أردت أن تكون قائداً ألهل الدنيا ،وسيداً
في المنظر األعلى فكن مستسلماً راضياً بحكمي.
وقال الفضيل بن عياض ( :)1إني ألستحي من اهلل أن أقول إني معتصم باهلل،
ألن من اعتصم باهلل ال يخاف َمن دونه ،وال يرجو غيره ،ويقطع قلبه عن عالئقه في
الدارين.
وقيل في معني قوله ( :إنا هلل) اآلية ،أي نحن عبيد اهلل وإ ماؤه ،نتقلب في
ونواصي العباد بيده (وإ نا إليه راجعون)( )2بالرضا عنه ،والتسليم
مشيئته وقضائهَ ،
له واالعتصام به ،والتفويض إليه ،وروي أن اهلل تعالى قال لموسى عليه الصالة
والسالم ( :اذهب إلى فرعون إنه طغى)( ،)3فقال يا رب أهلي وغنمي .قال اهلل
تعالى :إذا وجدتني فأي شيء تصنع بغيري؟ يا موسى اذهب واعتصم ،واستسلم لي
إلي ،فإني جعلت الذئب راعياً لغنمك ،والمالئكة حافظين ألهلك ،يا
األمور ّ
َ وفوض
ِّ
ك
ومن أنجا َ
ك بعده؟ َ
ك إلى أم َ ومن َّ
رد َ ألقتك أمك فيه؟ َ
موسى َمن أنجاك من اليم حين َ
قتلت نفساً ،ومن أنجاك من المفازة حين فررت من فرعون؟
ك فرعون حين َ من عدو َ
وهو يقول في ذلك كله :أنت أنت.
واعلم أن َمن اعتصم بغيره أو بشيء دونه فهو مخذول ،خارج من حد
العبودية ،ألن حد العبودية ترك االختيار إلى الجبار.
قال اهلل تعالى ( :وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)(( ،)4ما
يفتح اهلل للناس من رحمة فال ممسك لها)( )5وقال ( :وإ ن يمسسك اهلل بضر فال
()7
كاشف له إال هو)( )6وقال تعالى ( :قل لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا)
( )4
سورة القصص.68 :
( )5
سورة فاطر2 :
( )6
سورة األنعام.17 :
( )7
سورة التوبة.51 :
159
()1
وقال تعالى( :ومن يتوكل على اهلل فهو حسبه)
واعلم أن العبودية مبنية على عشر خصال :االعتصام باهلل في كل شيء،
والرضا عن اهلل في كل شيء ،والرجوع إليه في كل شيء ،والفقر إلى اهلل في كل
شيء ،واإلنابة إلى اهلل في كل شيء ،والصبر مع اهلل في كل شيء ،واالنقطاع إلى
اهلل في كل شيء ،واالستقامة باهلل في كل شيء ،والتفويض إلى اهلل في كل شيء،
والتسليم له في كل شيء.
واعلم أن التسليم واالستسالم ،شعبتان من شعب اإليمان والمعرفة ،التسليم هو
تسليم ال ُكـلّية إلى السالم بالسالمة بال تخليط ،واالستسالم هو أن يستسلم راضياً بجميع
ما ينزل عليه منه.
( )1
سورة الطالق3 :
160
الحديث الحادي والثالثون
أخبرنا شيخنا الجليل أبوالفضل علي القاري القرشي الواسطي رضي اهلل عنه
قال :أنبأنا أبوالحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر الداودي ،قال :أنبأنا أبو محمد
عبد اهلل بن أحمد السرخسي ،قال أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن يوسف الفربري ،قال:
أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل البخاري ،قال :حدثنا صدقة بن الفضل قال:
أخبرنا ابن عيينة ،قال :حدثنا زياد هو ابن عالقة أنه سمع المغيرة يقول :قام النبي
صلى اهلل عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له :غفر اهلل لك ما تقدم من ذنبك وما
تأخر ،قال" :أفال أكون عبداً شكورا؟ " (.)1
في هذا الحديث الشريف من اإللزام بالقيام بواجب العبودية غاية الغاية عند
َمن يعقل ،فإن السيد األعظم ،والكنز المطلسم صلى اهلل عليه وسلم ( ،)2حالة كونه ِس ّر
الخلق والخالق ،قد فعل في مقام الوجودات ،وسبب الموجودات ،والبرزخ الوسط بين َ
تورم له قدماه الشريفان ،فأين نحن؟ هات أيها العارف ،ابذل مهجتك اتباعاً
عبديته ما ّ
لهذا الرسول العظيم صلى اهلل عليه وسلم ،وامحق ُكلّك في اليوم والليلة ألف مرة،
وأنت بعدها مقصر ،العبودية وصف العارف المحض.
صحيح .رواه أحمد في المسند (حديث المغيرة بن شعبة رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم) ()1
18855و .18159والبخاري في التهجد ،باب قيام النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى تورم قدماه ،رقم 1078
والتفسير ،باب قوله ( :ليغفر لك اهلل ما تقدم من ذنبكـ وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً)
[ الفتح ] 2رقم ،4556و 4557وفيه" :أفال أحب أن أكون عبداً شكورا" والرقاق ،باب الصبر عن محارم اهلل
.6106ومسلم في صفات المنافقين ،باب :إكثار األعمال واالجتهاد ،رقم .2819
مطلسم :غامض [ المعجم الوسيط]. ()2
161
أي بني ،قد ذكر اهلل تعالى في كتب األنبياء نعت األصفياء ،يقول اهلل تعالى:
عبدي بي وجدتني ،وبي وقع بيني وبينك عقد المحبة ،وبي صرت من أهل خدمتي،
قصدت صحبتي،
َ علي ،وبي تتلذذ بذكري ،وبي
وبي تعرفني وبي تذكرني وتثني ّ
وبي قدرت أن تنظر في اآلخرة إلى وجهي ،عبدي نفسك لي ،وروحك لي ،وقلبك
لي ،و ُكلِّيتك لي ،فإن أعطيتني الكل أعطيتك الكل ،وكنت لك مع الكل.
وفي الخبر :أوحى اهلل تعالى إلى داود عليه الصالة والسالمَ :من الذي دعاني
فقطعت رجاءه؟ ومن الذي قرع بابي فلم يفتح له؟ أنا الذي جعلت آمال َخلقي بي
إلي ،يا داود أنا
مدخرة ،يا داود ما لعبدي ُيعرض عني وأنا أقول ّ
متصلة ،وعندي ّ
ُّ
محل اآلمال ،أنا الذي جعلت طيران قلوب المشتاقين نحوي ،وجعلتها في األرض
مواضع نظري ،وأطلقتُها إلي حتى تزداد شوقاً إلي ،وقرباً مني ،يا داود ِّ
بشر أوليائي ّ ّ
وأحبائي بأني كل ساعة أُريهم كرامتي ،ولطائف صنعي ،وحسن امتناني عليهم ،حتى
إلي حتى ال يصبروا عني ،وفتحت لهم
ينسوني ،وال يميلوا إلى غيري ،وشوقتهم ّ
ال َ
أبواب أُنسي ،واستجبت لهم قبل أن يدعوني ،وأعطيتم قبل أن يسألوني ،يا داود
َّ
ألمكننهم من رؤيتي حتى أرضى عنهم ِ
فوع َّزتي وجاللي ألقعدنهم في الفردوس،
ويرضوا عني.
وجليس لمن جالسني،
ٌ لمن أحبني،حبيب َ
ٌ يا داود أخبر أهل األرض بأني
ومختار لمن
ٌ وصاحب لمن صاحبني ،ومطيعٌ لمن أطاعني،
ٌ ومؤنس لمن أنِ َس بي،
ٌ
هلموا إلى مصاحبني ومؤانستي ،وسارعوا إلى محبتي
اختارني ،وقل لعبادي ّ
وقربي.
زكيي،
اعلم يا داود أني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي ،ويحيى ّ
ومحمد حبيبي ،يا داود هل رأيت حبيباً يبخل على حبيبه ،يا داود أال إن طال شوق
األبرار إلى لقائي ،فإني إليهم ألشد شوقاً ،أال َمن طلبني وجدني ،ومن طلب غيري لم
يجدني.
يا داود إذا كان الغالب على عبدي االشتياق لي ،واالشتغال لي ،جعلت
162
راحته ولذته في ذكري وعشقته ،ورفعت الحجاب بيني وبينه ،أحبه ويحبني ،حتى
ال يغفل إذا غفل الناس ،وال يسهو إذا سها الناس ،وال يلهو إذا لها الناس ،أولئك
األبرار حقاً ،يا داود إن طلبتني وجدتني ،وكفيتك األسباب ،ولم أطالبك بالحقوق ،وإ ن
طلبت غيري شغلتك باألسباب ،وطالبتك بالحقوق ،يا داود إني جعلت محبتي لمن ال
ينساني بلسانه وقلبه ،فإنه ال شيء أنقص عندي من الغفلة والنسيان.
يا داود إن رضيت عني رضيت عنك ،وإ ن أفردتني بالحاجة أفردتك
باإلنجاح ،وإ ن شكرتني صيرتك ملكاً في الدارين ،يا داود من لم يصبر على بالئنا ال
يفزع إلينا ،يا داود إني إذا أحببت عبداً من عبيدي مألت قلبه خوفاً مني ،وتشوقاً إلى
لقائي ،وحرصاً على طاعتي.
يا داود أوليائي في قبابي ال يعرفهم إال أوليائي ،فطوبى ألوليائي وطوبى
ألحبائي ،يا داود إني ال أنسى َمن ينساني ،فكيف أنسى من يذكرني ،يا داود إني أجود
علي ،فكيف أبخل على من يجود بي ،يا داود إني أحب َمن يبغضني،
على َمن يبخل ّ
رؤوف رحيم ،يا
ٌ فكيف أُبغض من يحبني ،يا داود ِّ
بشر عبادي السائلين ،بأني بهم َ
ٍ
حبيب يحب خلوةَ حبيبه ،وأنا ُمطلع على قلوب أحبائي ،قل للمتلذذين داود كل
أبر مني؟ يا داود َمن أطاعني وهو يحبني أُسكنه( )1جنتي،
بذكري :هل وجدتم ربا َّ
ُّ
وأحل عليه سخطي ،يا داود ومن عصاني ولم يحبني أدخله ناري، وأُريه وجهيَ ،
وعزتي وجاللي ال يجاورني إال َمن طلب جواري.
يا داود كذب من ادعى محبتي وإ ذا َج َّن عليه الليل نام عني ،يا داود َمن
عرفني أرادني ،ومن أرادني طلبني ،ومن طلبني وجدني ،ومن وجدني ال يختار
حبيباً سواي .يا داود َمن طلبني قتلته ،ومن أحبني ابتليته ،ومن هرب مني أحرقته.
يا داود بشر المذنبين بأني غفور ،وأنذر الصديقين بأني غيور .يا داود من لقيني وهو
يجوز في المضارع الواقع جواب شرط – إذا كان فعل الشرط ماضياً -أن يرفع ويجوز أن يجزم. ()1
163
يخافني لم أعذبه بناري ،ومن لقيني وهو يحبني لم أحزنه بفراقي ،ومن لقيني وهو
مستحي مني لم أخجله يوم يلقاني .يا داود جنتي لمن لم يقنط من رحمتي ،وغضبي
عاجلت أحداً بالعقوبة إذاً
ُ عن َمن أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي ،ولو
عاجلت القانطين من رحمتي ،وما العجلة من شأني ،فها أنا مطلع على قلوب أحبائي،
إذا جن الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ،فخاطبوني علي المشافهة ،وكلموني على
الحضور.
يا داود لوال أني ربطت أرواح أحبائي في أبدانهم ،لخرجت األرواح من
أبدانهم شوقاً إلى لقائي ،يا داود إن من عبادي عباداً جعلتهم للخير أهالً ،وجعلت لهم
المؤانسة نصيباً ،طوبى لهم وحسن مآب.
وروي أن اهلل تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما الصالة والسالم :إني
ُ
عبد من عبادي أعلم ذلك من قلبه إال كنت سمعه
قضيت على نفسي أن ال يحبني ٌ
ُ
وبصره ولسانه ،وأُبغض إليه كل شيء ،وأمنعه شهوات الدنيا ولذاتها ،وطيب
عيشها ،وأطلع عليه في كل يوم سبعين ألف مرة ،وأزيد له كل ساعة لذائذ حبي،
وحالوة أنسي ،وأمأل قلبه نوراً مني ،حتى ينظر إلى كل ساعة فأمسح برأسه ،وأضع
يدي على ألم قلبه ،حتى ال يشكو منه ،وأنا أسمع خفقان قلبه من الشوق إلى لقائي،
علي أن ال يسكن قلبي حتى أصل إليك يا
والخوف من قطيعتي ،وهو يقول :حقيق ّ
ربي ،يا يحيى وكيف يسكن قلب المشتاق وأنا غاية ُمنيته ،ومنتهى أمله ،وهو كل
ساعة يتقرب إلي وأتقرب إليه ،وأسمع كالمه ،وأعلم أسفه ،وأحب صوته؟ ِ
فوع َّزتي ّ
وجاللي ،ألنقبنه يوم القيامة منقباً ( )1يغبطه األولون واآلخرون ،ثم آمر منادياً ينادي
وصفيه ،دعاه اهلل ُلي ِق َّر عينه ،ثم آمر
ُّ من تحت عرشي :هذا فالن ابن فالن ولي اهلل
أبشرك. برفع الحجاب حتى ينظر حبيبي إلي ،وأقول :السالم عليك عبدي ووليي ِّ
ّ
يعده اهلل عز وجل بعلو المقام يوم القيامة .ونقيب القوم :ضمينهم وعريفهم .وقد نقب عليهم نِقابة :أي صار ()1
164
قال :فغشي على يحيى فلم يفق ثالثة أيام ،فلما أفاق قال :سبحانك سبحانك ما أكثر
توددك إلى أوليائك وأصفيائك ،ال يفصل عنك األمل ،يا خير صاحب وأنيس ،فنعم
أنت ونعم النصير .وروي أن اهلل تعالى قال في بعض كتبه " :إذا كان الغالب
المولى َ
على قلب عبدي االشتغال واألنس بي ،رفعت الحجاب بيني وبينه في الباطن ،حتى
إلي (.")1
كأنه ينظر ّ
وروي أن اهلل تعالى قال في بعض الكتب :وعزتي وجاللي ألقطعن أمل كل
ُ
فقطعت
ُ مؤمل غيري باإلياس ،يؤمل عبدي غيري والخير كله بيديَ ،من الذي أملني
ِّ
عنه أمله ،ومن الذي رجاني فخيبت رجاءه ،ومن الذي قرع بابي بالدعاء فلم أفتح له؟
عبدي تنعم بذكري ،فإني نعم الحبيب لك في الدنيا واآلخرة ،عبدي ستذكرني إذا
أعرضت
َ جربت غيري بأني لك خير من كل ما سواي ،عبدي ما استحييت مني أن
إلي ال إلى ِ
وجهك عني ،وتُقبل على غيري؟ عبدي إلى أين تذهب وطريق الوسيلة ّ
غيري ،عبدي أين َمن دعاني فلم أجبه ،وأين َمن سألني فلم أعطه ،عبدي بابي لك
مفتوح ،عطائي لك مبذول ،وأنا أرحم الراحمين.
وروي أن اهلل تعالى قال لموسى عليه الصالة والسالم :حقَّت محبتي
للمتحابين من أجلي ،وحقت محبتي للمتواصلينـ من أجلي ،وحقت محبتي للمتزاورين
من أجلي ،يا موسى إن ذكرتني ذكرتك ،وإ ن رضيت عني رضيت عنك ،وإ ن كنت
بت مقعدك
وقر ُ
ترد على حكمي واليتك واصطفيتكَّ ، لي فرداً كنت لك الفرد ،وإ ن لم َّ
أحببت فأحبني حتى أحبك ،وأحببك
َ فت فخفني حتى أؤمنك ،وإ ذامني ،يا موسى إذا ِخ َ
إلي حتى أنظر إليك من فوق عرشي.
إلى قلوب الصالحين ،وإ ذا نظرت فانظر ّ
وروي في بعض األخبار أن اهلل تعالى يقول يوم القيامة ألوليائه :يا أوليائي
طالما لحظتكم ،ورأيتكم في دار الدنيا وقد غارت أعينكم ،وقلصت شفاهكم ،وخفت
بطونكم ،فكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في األيام الخالية ،أوليائي وأحبائي
أخرجه أبو نعيم في حلية األولياء عن الحسن البصري مرسالً [ كنز العمال .]1/1872 ()1
165
جزائي لكم أفضل البذل ،وفضلي لكم أوفر الفضل ،ومعاملتي إياكم أحسن المعاملة،
ومطالبتي إياكم أشد المطالبة ،أنا مؤنس القلوب ،وأنا عالّم الغيوب.
166
الحديث الثاني والثالثون
أخبرنا شيخنا الشيخ الجليل أبوالفضل علي الواسطي قال :أنبأنا أبوالحسن
عبدالرحمن الداودي قال :أنبأنا أبومحمد عبداهلل السرخسي قال :أنبأنا أبو عبداهلل
محمد بن يوسف الفربري ،قال :أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل البخاري ،قال:
حدثنا عبداهلل بن مسلمة ،قال :حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة عن هالل بن أبي هالل
عن عطاء بن يسار عن عبداهلل بن عمرو بن العاص أن هذه اآلية التي في القرآن:
( يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)( )1قال في التوراة يا أيها النبي إنا
وحرزاً لألميين ،أنت عبدي ورسولي ،سميتك المتوكل، أرسلناك شاهداً ومبشراًِ .
سخاب باألسواق ،وال يدفع السيئة بالسيئة ،ولكن يعفو ليس ٍّ
بفظ وال غليظ ،وال ّ
ويصفح ،ولن يقبضه اهلل حتى ُيقيم به الملة العوجاء ،بأن يقولوا ال إله إال اهلل ،فيفتح
صماً ،وقلوباً ُغلفاً ( .)2ولنا بهذا السند عن البخاري قال :حدثنا
بها أعيناً ُعمياً ،وآذاناً ُ
خالد بن مخلد قال :حدثنا سليمان قال :حدثنا عبداهلل بن دينار ،عن أبي صالح ،عن
أبي هريرة رضي اهلل عنه ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ": :الرحم شجنة
أخرجه بهذا اللفظ اإلمام البخاري في التفسير (سورة الفتح) باب ( :إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) ()2
[ الفتح ]8رقم 4558وفي البيوع ،باب كراهية السخب في السوق ،رقم 2018وأوله في البيوع " :عن عطاء
بن يسار ،قال :لقيت عبداهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما ،قلت :أخبرني عن صفة رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم في التوراة ،قال :أجل ،واهلل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ( :يأيها النبي إنا
سخاب :يرفع صوته على
الخلقّ .
أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وحرزاً لألميين " ..الحديث .وفظ :سيء ُ
الناسُ .غلفاً :غطتها ظلمة الشرك.
167
ِ
قطعك قطعته" (.)1 ِ
وصلك وصلته ،ومن من الرحمن ،فقال اهللَ :من
يقوم العوجاء
فالحديث األول أفاد أن اهلل ُيسعف نبيه صلى اهلل عليه وسلم حتى ِّ
بكلمة ال إله إال اهلل ،والحديث الثاني أفاد أن الرحم من أشعة نور الرحمنَ ،من وصلها
السرين في الحديثين ،هو فتح القلب والعين
ومن قطعها انقطع ،والجمع بين ّ
اتصلَ ،
واألذن بالتوحيد الخالص وإ يصال القلب بالرحمن ،بحبل الرحمة والشفقة على
الخلق ،وبهذا تَ َّ
عين األقرب فاألقرب ،يفهم ذلك العارف ،فكلمة التوحيد تفيد اإليمان َ
المبطن
بخلُق اهلل ،وهو الرحمن ،وإ ليه المرجع في َ
باهلل ،وصلة الرحم تفيد التخلق ُ
ِ
والعيان ،وبه المستعان ،وعليه التكالن ،وما ذاك إال إلعظام أمر اهلل ،وهو من إعظام
اهلل.
قال يحيى بن معاذ :اعرف ُحرمة من ال تعرف الفض َل إال منه ،وال ترجو
وزينك
ك شيئاًّ ،
الراحةَ إال منه ،واستحي منه حق الحياء ،واذكر امتنانه إذ خلقك ولم ت ُ
بنور المعرفة ،حتى كأنك لم تزل تعرفه ،ولوال فضله ورحمته عليك ،كيف كنت
سرك وضمائرك من الشك
طهََّر ّ
تعرفه بأنه موالك ،من غير أن تراه بعينك؟ ثم َ
وتو َجك بتاجه بال سؤال ،ثم دعاك إلى
والشبهة والنفاق ،وألبسك من أحسن لباسهَّ ،
دار السالم ،ويقال :ال يزال المؤمن عظيماً ما أعظم اهلل ،وعظَّم أمره ،وعظّم
أولياءه ،وعرف قدرهم وحرمتهم.
وحكي أن رجالً من ملوك الدنيا قال لشقيق( )2سل حاجتك قال :إني
ُ
البخاري :األدب ،باب َمن وصل وصله اهلل ،رقم 5642وفتح الباري 10/417وأحمد في المسند 2956و ()1
8954و 9832و .9244ويجوز في شين " شجنة" الضم والكسر والفتح ،فهي من المثلثات ،وهي في األصل:
عروق الشجر المشتبكة.ـ من الرحمن :اشتُق اسمها من هذا االسم الذي هو صفة من صفات الرحمن .والمعنى( :
ومن وصلها وصلته أن الرحم أثر من آثار رحمته تعالى مشتبكة بها ،فمن قطعها منقطعٌ من رحمة اهلل َّ
عز وج ّلَ ،
رحمة اهلل تعالى) [ تعليق الدكتور مصطفى البغا على الحديث بهامش الجزء الخامس ص ( 2232صحيح
البخاري ،مؤسسة الخدمات الطباعية في بيروت).
( )2
شقيق بن إبراهيم األزدي البلخي ،توفي سنة 194هـ.
168
إلي يقول َسل حاجتك بال حشمة ،حتى
ألستحي من ربي أن أسألك ،وموالي ناظر ّ
جماعةٌ من ()1
أرضى عنك ،وال تسأل غيري فأمقتك .ودخل على رابعة البصرية
الزهاد وفيهم سفيان الثوري ( ،)2فرأوا لها حالة رثة ،فقال لها بعضهم :أما تُرسلين
إلى بعض مواليك ليعطيك شيئاً؟ فقالت :واهلل إني ألستحيي أن أسأل الدنيا ممن
يملكها ،فكيف ممن ال يملكها .وقيل ألبي عبداهلل :ما صفة المريدين؟ قال :أن يكونوا
مع الناس بأبدانهم ،وقلوبهم تحت العرش كأنهم يرون ربهم فوق عرشه ،ويستحيون
أن يسألوه شيئاً سواه.
وفي الخبر " :أرأيتم سليمان وما أعطي من الملك ،فإنه لم يرفع رأسه إلى
وحياء منه ،حتى قبضه اهلل" ( .)3وقال عامر بن عبد قيس( )4ما
ً السماء ،تخشعاً هلل
إلي قب َل نظري إلى ذلك َّ
إلي منه ،وأن نظره ّ
نظرت إلى شيء إال رأيت اهلل أقرب ّ
الشيء .وكان يحيى بن معاذ رحمه اهلل إذا قرأ ( :ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد)( )5قال :إلهي هذا قربك إلى أعدائك ،فكيف قربك إلى أوليائك؟
رافعاً رأسه ()7
رحمه اهلل :ما رأيت إبراهيم التيمي ()6
وقال شهر بن َحوشب
حياء منه ،ومرض العارف داود
وبصره إلى السماء قط ،حتى قبضه اهلل ً
رابعة بن إسماعيل العدوية،ـ ماتت بحدود 180هـ .وقيل سنة 135هـ. ()1
أخرج ابن عساكر عن عبداهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ( :ما شد سليمان ()3
طرفه إلى السماء ،تخشعاً ،حيث أعطاه ما أعطاه) [ كنز العمال .]11/32332
" عامر بن عبداهلل المعروف بابن عبد قيس العنبري البصري التابعي ..مات في خالفة معاوية رضي اهلل ()4
إبراهيم التيمي " :توفي في حبس الحجاج سنة اثنتينـ وتسعين" [ طبقات الشعراني .]1/41 ()7
169
خرجت إلى صحن الدار
َ رضي اهلل عنهوهو في جوف بيته ،فقيل له :لو ()1
الطائي
حتى تهب عليك ريح الهواء ،قال :إني ألستحي من اهلل أن يراني وأنا أطلب الراحة
لنفسي في الدنيا .ويقال :كان في مصر رجل مجذوم فقال :إنه يعرف اسم اهلل
األعظم ،فقيل :له :لو دعوت اهلل باسمه األعظم أن يكشف عنك هذا البالء؟ قال :إني
ألستحي منه أن يكون لي مراد بخالف مراده.
وكان سيدنا اإلمام الحسين بن اإلمام علي عليهما السالم ،إذا توضأ ليصلي
أصفر لونه ،وارتعدت فرائصه ،فقيل له في ذلك ،فقالُ :ح َّ
ق لمن وقف بين يدي رب
يصلي ،فانهدمت ()2
حياء من إجالله .وكان مسلم بن يسار
العرش أن يتغير لونه ً
زاوية المسجد ولم يشعر .وكان اإلمام علي بن أبي طالب عليه السالم ترتعد فرائصه
عند قضاء أمانة لم تحملها السموات واألرض ،وهي الصالة .ولدغت امرأةً حيةٌ في
أربعين موضعاً ولم تشعر ،من حالوة الصالة.
وكان مسلم بن يسار يصلي ،فوقع الحريق في بيته ،وفزع الناس إليه ،حتى
إني ألستحيي من اهلل أن أنام تكلفاً حتى ()3
أطفؤوها ولم يشعر .قال الجريري
ما رفعت بصرها إلى السماء ()4
يصرعني النوم .وحكي أن معاذة بنت عبداهلل
أربعين عاماً ،وكانت تقول :عجبت لعين تنام ،والحبيب إليها ناظر ،وربما كانت
تتفكر في جاللته وعظمته ،حتى ُيغشى عليها .وكان داود عليه الصالة والسالم ال
يرفع رأسه إلى السماء هيبةً من إجالله تعالى .وقال ابن سنان ( :)5ما اتخذ اهلل
إبراهيم خليالً حتى ألقى في قلبه إجالالً منه ،بحيث يسمع خفقان قلبه كالطير في
الهواء.
عالمة السعداء ثالث :التمسك بسنة النبي المختار صلى اهلل عليه وسلم ،
والصحبة مع
أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري ،مات سنة 311هـ [ طبقات الشعراني .]1/94 ()3
معاذة بنت عبد اهلل العدوية،ـ تابعية محدثة ،ماتت سنة 83هـ. ()4
أبو جعفر أحمد بن حمدان بن علي .مات سنة 311هـ [ الشعراني .]1/103 ()5
170
ومكتوب في الزبور :يا داود إني
ٌ األولياء األخيار ،والحياء من الملك الجبار،
ألستحيي من عبدي أن أرده إذا دعاني ،وإ ن عبدي ال يستحيي أن أدعوه فال يجيبني.
قال النبي صلى اهلل عليه وسلم " :اإلحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه ،فإن لم تكن
قال الفضيل :إلهي ارحم َمن لو عقل لم يتكلم من الحياء .وحكي ()1
تراه فإنه يراك"
انفلت من صالته مسح ظهورهم
َ أن عامر ابن قيس كان يصلي ،فاكتنفته السباع ،فلما
بيده ،وقال :أنتم كالب اهلل ،وأنا عبد اهلل ،فقيل له :هل ِه َ
بت منهم؟ قال :إني ألستحيي
من ربي أن أهاب شيئاً دونه.
الم ّري ( :)2رأيت ربي في المنام ليلة ،قلت :لبيك لبيك ،وصرت
وقال صالح ُ
كالبعوضة من إجالله ،فقال :يا صالح إني لخبير بالمريدين ،وإ ني أسمع أنينهم،
حياء
وأرى حركاتهم ،وإ ني لمطلع على سرائرهم وضمائرهم ،قال :فدهش عقلي ً
وحكي أن الحسن البصري صعد موضعاً يؤذن للصالة ،فلما قال :أشهد أن ال
منهُ .
إله إال اهلل ُغشي عليه من إجالله.
وقالت عائشة رضي اهلل عنها " :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يحدثنا
وقال بعض أهل المعرفة ()3
ونحدثه ،فإذا حضرت الصالة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه"
في معنى قوله عليه الصالة والسالمُ " :جعلت قرة عيني في الصالة ( ،)4لم تكن
الصالة قرة عينه،
البخاري :اإليمان ،باب سؤال جبريل النبي صلى اهلل عليه وسلم عن اإليمان واإلسالم واإلحسان وعلم ()1
الساعة ،رقم 50وهو عن أبي هريرة رضي اهلل عنه .ومسلم اإليمان ،باب بيان اإليمان واإلسالم واإلحسان،
ووجوب اإليمان بإثبات قدر اهلل سبحانه وتعالى ،رقم 9و 10وأخرجه برقم 8عن عمر بن الخطاب رضي اهلل
عنه.
أبو بشر صالح المري :انظر فيه طبقات الشعراني .1/46 ()2
إحياء علوم الدين (دار المعرفة) 1/150وقال الحافظ زين الدين العراقي :أخرجه األزدي في الضعفاء من ()3
حديث سويد بن غفلة مرسالً " :كان النبي صلى اهلل عليه وسلم إذا سمع األذان كأنه ال يعرف أحداً من الناس".
مسند أحمد 10/12233و 12234و 11/12991والنسائي في عشرة النساء .7/61 ()4
171
تقر عينه ،لقوله " :اإلحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه".
ولكن إذا قام للصالة رأى فيها ما ُّ
صليت خلف ذي النون صالة العصر ،فلما أراد ُ وقال الفضي ُل بن عياض:
()1
وبقي كأنه جسد ال روح فيه من إجالله ،ثم قال :أكبر، أن يكبِّر ،رفع يديه وقال :اهلل ،فبهت
فظننت أن قلبي ينخلع من هيبة تكبيره.
ظهر تقواهُ
فكلهم ُي ُ قل حياء الناس من ربهم
()2
َمن بالى في عاجل دنياهُ الخبث في ثو ِب ِ!ه
َ ليس يبالي
قت موالهُ
وال يبالي َم َ يخاف أن يمقته! أهلُ ُه
ُ
َب ِه َ
ت :دهش وتحيَّر. ()1
ُخطفت األلف المقصورة في بالى ليستقيم الوزن ،وهي ضرورة شعرية غير معهودة في شعر األقدمين.ـ ()2
172
الحديث الثالث والثالثون
أخبرنا شيخنا القاضي المقري القدوة الشيخ أبو الفضل علي الواسطي رضي
اهلل عنه ،قال :أنبأنا أبو علي الحسن بن علي ،قال :أنبأنا عمر بن أحمد ،أنبأنا
شاهين ،قال :أنبأنا عبداهلل البغوي ،قال :أنبأنا عبداهلل بن عمر القواريري ،قال :أنبأنا
زائدة بن أبي الرقاد ،عن زياد النميري ،عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال :كان
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا دخل رجب قال ( :اللهم بارك في رجب وشعبان
وبلغنا رمضان (.))1
في هذا الحديث الشريف ٍ
معان كثيرة ،منها طلب فسحة األجل لصالح العمل،
ليكون العمر اهلل ،والعمل فيه هلل ،وكذلك مقاصد العارفين باهلل ،الوارثين رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،وهذا حال أهل التقوى.
أي بني ،اعلم أن التقوى على وجهين :خاص وعام ،فأما التقوى الخاص
والم ْنية من غير ذات اهلل تعالى ،حيث قال اهلل تعالى( :اتقوا ِ
فاالتقاء بالسر عن اله ّمة ُ
اهلل حق تقاته)( ،)2وأما التقوى العام فاالتقاء بالظاهر عن جميع ما كره اهلل تعالى،
قال اهلل سبحانه ( ومن يتق اهلل يكفر عنه سيئاته)( ،)3واهلل تعالى جعل الفَ َر َج
واليسر والسَّعة في التقوى ،لقوله تعالى ( :ومن يتق اهلل يجعل والمخر َج من الهمومُ ،
َ
له من أمره يسراً)( ،)4وقوله تعالي ( :ومن يتق اهلل يجعل له مخرجاً)( )5اآلية.
ضعيف وهو في مسند أحمد (مسند ابن عباس رضي اهلل عنهما 3/2346وحقه أن يثبت في مسند أنس بن ()1
مالك رضي اهلل عنه ،وهو من زيادات عبداهلل بن أحمد .ومجمع الزوائد (الفكر) 2/375رقم 3006وقال
الهيثمي " :رواه البزار وفيه زائدة بن أبي الرقاد .قال البخاري :منكر الحديث ،وجهّله جماعة" والمعجم األوسط
للطبراني ،رقم .3939
سورة آل عمران.102 : ()2
173
قيل في معناه :ومن يتق اهلل في أداء الطاعة ،يجعل له مخرجاً من غبار
الذنوب والزالت ،ويرزقه النجاة من العقوبات ،من حيث ال يحتسب .ومعنى آخر:
بالحجة ،يجعل له مخرجاً من ِش ّد ِة المحاسبة ،ويرزقه سالمة
ومن يتق اهلل عند اإلنابة ُ
الدارين من حيث ال يحتسب .ومعنى آخر :يجعل له مخرجاً من جميع االشتغال بغير
اهلل ،ويرزقه حياة طيبة ،من حيث ال يحتسب .ومعنى آخر :من يتق اهلل بترك
المحارم والشبهات ،يجعل له مخرجاً من اإلرادات والشهوات ،ويرزقه حالوة
الطاعة من حيث ال يحتسب ،ومن يتق اهلل عند قول الحق ،وال يخاف لومة الئم،
ومن َّ
يجعل له مخرجاً من مكر الناس ومكائدهم ،ويرزقه الظفَر من حيث ال يحتسبَ ،
يتق اهلل بترك التعلّق بغير اهلل يجعل له مخرجاً من عبودية ما سواه ،ويرزقه الصدق
واإلخالص من حيث ال يحتسب.
يروى أن أبا هريرة سمع النبي صلى اهلل عليه وسلم يقول " :إذا كان يوم
القيامة يقول اهلل تعالى :يا أيها الناس إني جعلت نسباً ،وأنتم جعلتم نسباً ،إني جعلت
أكرمكم أتقاكم ،وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم ،وإ ني أرفع اليوم نسبي وأضع نسبكم،
()1
فأين المتقون ،اليوم ال خوف عليكم وال أنتم تحزنون"
وقال صلى اهلل عليه وسلم " :الحالل بيِّن ،والحرام بيِّن ،وبينهما أمور
كثير من الناس ،فمن اتقى الشبهات سلم دينه ،ومن وقع في
متشابهات ،ال يعلمها ٌ
فـ " دع ما يريبك إلى ما ال يريبك"(.)3 ()2
الشبهات وقع في الحرام"
إتحاف السادة المتقين [ 9/210موسوعة أطراف الحديث لمحمد زغلول (عالم التراث .]3/644 ()1
البخاري :اإليمان ،باب :فضل من استبرأ لدينه،ـ رقم 52والبيوع ،باب ( :الحالل بيِّن والحرام بيِّن وبينهما ()2
مشبهات) 1946ومسلم في المساقاة ،باب :أخذ الحالل وترك الشبهات ،رقم .1599
ّ
( )3صحيح .أخرجه الترمذي في صفة القيامة ،الباب 61رقم 2520والنسائي :األشربة= ،
174
وقال عيسى عليه الصالة والسالم :لو صمتم حتى تكونوا كاألوتار ،وصليتم
منبه(َ :)1من
حتى تكونوا كالحنايا ،ما قبل منكم إال بورع صادق .وقال وهب بن ّ
فر الشيطان من ظله ،ومن غلب عقلُه هواه فذاك الصابر
وضع شهواته تحت قدميهَّ ،
الغالب.
وقيل لرجل من أهل التقوى :من أين جئت؟ قال :ما سؤالك عن شيء ال
ينفعك معرفته ،وال يضرك جهله ،فاشتغل بما يعنيك عما ال يعنيك ،فقيل له :ما رأس
التقوى؟ قال :أن تحفظ نفسك من الشهوات ،وحلقك من اللذات ،وقلبك من الغفالت.
وقال :اتق اهلل الذي آخذ آدم بلقمة ،وموسى بلطمة ،وداود بنظرة ،ويوسف
ب ِه ّمة ،ونوحاً بدعوة ،ومحمداً بخطرة ،صلوات اهلل عليهم أجمعين .وقال عبيد بن
عمير ( :)2ال ينبغي لمن تزين بلباس الورع والتقوى أن ينظر إلى زهرات الدنيا،
ويتكلم بما ال يعنيه.
وقال جعفر الخلدي( :)3بلت في أصل حائط ،فهتف بي هاتفَّ :
تدعي التقوى
وتبول في أصل حائط غيرك؟
ارتحل من َم ْر َو إلى الشام ،من أجل قلم كان قد ()4
وحكي أن ابن المبارك
ُ
استعاره فلم يرده إلى صاحبه ،وفي الخبر :ال تفضلوا أحداً على أحد إال بالورع
والتقوى ،ألنهما أفضل األعمال.
(= باب الحث على ترك الشبهات 8/327و 328وأحمد في المسند (حديث الحسن بن علي رضي اهلل عنه عن
النبي صلى اهلل عليه وسلم 2/1727وحديث أنس بن مالك رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم
.10/12488وانظر النسائي ( 8/230القضاة ،باب الحكم باتفاق أهل العلم).
منبه الصنعاني الذماري :مؤرخ من التابعين ( 114 – 34هـ).
وهب بن ّ
()1
عبيد بن عمير المكي ،من وعاظ مكة ،من التابعين ،توفي سنة 68هـ. ()2
عبد اهلل بن المبارك المروزي ( 181 – 118هـ) صاحب الزهد ،والجهاد ،وهما كتابان في الحديث النبوي. ()4
175
ما من أحد ترك شيئاً هلل إال آتاه اهلل ما ()1
ُبي بن كعب رضي اهلل عنه
وقال أ ّ
حرام على كل قلب فيه
ٌ هو خير له منه من حيث ال يحتسب .وقال ابن سيرين(:)2
رحمه اهلل :القليل من ()3
حب الدنيا أن تسكن فيه التقوى .وقال عمر بن عبدالعزيز
الورع ،خير من صالة أهل الدنيا.
خلقت آدم بيدك ،وأدخلته
َ وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال :إلهي
ُ
الجنة ،وفعلت به ما فعلت من اإلحسان ،ثم أخرجته منها بزلة واحدة .فقال :يا موسى
أما علمت أن جفاء الحبيب شديد ،ما يحتمل من األعداء.
()4
السعيد
ُ التقي هــــو
َّ ولكن
َّ جمع ٍ
مال ولست أرى السعادةَ َ
ُ
أبي بن كعب األنصاري الخزرجي :من علماء الصحابة ومجاهديهم رضوان اهلل عليهم .توفي سنة ()1
21هـ.
محمد بن سيرين البصري ( 110-33هـ). ()2
أمير المؤمنينـ عمر بن عبدالعزيز بن مروان ،أبو حفص ،الخليفة الصالح ( 99- 61هـ) ()3
يد وعند ِ
اهلل لألتقى َم ِز ُ َ وتقوى اهلل خير ِ
الزاد ُذخراً ُ
176
الحديث الرابع والثالثون
أخبرنا شيخنا القاضي القدوة أبو الفضل علي الواسطي ،قال :أخبرنا أبو
الحسن محمد بن أحمد ،قال :أنبأنا أبو عبداهلل الحسين ،قال :أنبأنا أحمد بن بكير بن
حماد العسكري ،عن إسحاق بن سيار ،عن حجاج بن منهال ،عن حماد بن
حامد ،عن ّ
سلمة ،عن برد بن سنان ،عن مكحول ،عن أبي أمامة الباهلي ،قال :قال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلمَ " :من ُولد له مولود فسماه محمداً تبركاً به ،كان هو ومولوده في
الجنة"(.)1
في هذا الحديث الشريف ِمن ِس ِّر الحب له صلى اهلل عليه وسلم ما يفهمه أهل
الخصوصية ،فإنهم بذكر اسمه المبارك ترتاح هممهم للتخلق بأخالقه الزكية،
وللتشبث بأذياله ،فتراهم ال تقف هممهم في طريق متابعته وقفة المشغول بالدنيا ،بل
هم متنبهون خاشعون ،ومن اهلل خائفون ،ولنبيهم متبعون ،وبسنته عاملون ،وأولئك
هم العارفون.
واألسرار المرفوعة لعلي القاري (الرسالة) 435والسلسة الضعيفة( ،المكتب اإلسالمي) 171وتذكرة
الموضوعات لمحمد طاهر الهندي (بيروت) 89وقال الهندي " :في إسناده َمن تكلم فيه .قلت :رجاله كلهم ثقات
معروفون ،ورمي بعضهم بالقدر ،وهو غير قادح" وكشف الخفاء (التراث اإلسالمي) 2/393برقم 2644وقال
العجلوني " :رواه ابن عساكر عن أبي أمامة رضي اهلل عنه رفعه .قال السيوطي في مختصر الموضوعات:
( هذا أمثل حديث ورد في هذا الباب .وإ سناده حسن) ورواه الرافعي بلفظ َمن ُولد له مولود ذكر فسماه محمداً حباً
لي وتبركاً باسمي [ "..كنز العمال ]16/45223والسيوطي في الحاوي للفتاوي (السعادة) 2/100و 114
[ موسوعة أطراف الحديث .]8/602
177
أي بني ،اعلم أن أهل المعرفة يبكون إذا ضحك أهل الغفلة ،ويحزنون إذا
فرح أهل ِ
الغ َّرة ،قال اهلل تعالى (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)( )1وقوله:
(وجوه يؤمئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة!)( )2وأن اهلل تعالى ذكر من دالئل المعرفة
()3
ومن عالمات العارفين كثرة البكاء وسيل الدموع ،قال (ويخرون لألذقان يبكون)
اآلية. ()4
وذم أهل الغفلة بالضحك وترك البكاء في قوله (أفمن هذا الحديث تعجبون)
بكاء العين فهو
وبكاء القلب وبكاء السر ،فأما ُ
ُ بكاء العين،
البكاء ُ
َ واعلم أن
ألهل المعرفة من المنيبين ،وأما بكاء القلب فهو ألهل المعرفة من المريدين ،وأما
بكاء السر فهو ألهل المعرفة من المحبين.
واعلم أن ألهل المعرفة هموماً مخبوءة تحت أسرارهم ،مستورة عن أفكارهم
فكلما هاج من أسرارهم رياح خشية الهيبة ،ومن قلوبهم لهب نيران األحزان ،أحرقت
ما عليها من هشيم الغفلة والنسيان.
بكاء الحياء ،مثل بكاء آدم ،وبكاء الخطيئة ،مثل
والبكاء على خمسة أوجهُ :
بكاء داود ،وبكاء الخوف مثل بكاء يحيى بن زكريا ،وبكاء الفقد ،مثل بكاء يعقوب،
وبكاء الهيبة ،مثل بكاء سائر األنبياء ،وهو قوله تعالى (إذا تتلى عليهم ءايت
اآلية. ()5
الرحمن)
وبكاء سادس :مثل بكاء شعيب ذلك بكاء الشوق والمحبة ،بكى شعيب حتى
ذهب بصره ،ثم ُر َّد إليه بصره ،فبكى حتى ذهب بصره ،ثالث مرات ،فأوحى اهلل
تعالى إليه :أن يا شعيب إن كان بكاؤك من مخافة النار فقد أمنتك من النار ،وإ ن كان
بكاؤك من أجل الجنة فقد أوجبت لك الجنة .فقال:
178
ق ِل َمن أرادني
ال يا رب ولكن من الشوق إلى رؤيتك ،فأوحى اهلل إليه :أن يا شعيب َح َّ
أن يبكي من شوقي ،إنه ليس لهذا دواء غير لقائي ،ويروى أن النبي عليه الصالة
ُمة لرحم اهلل تلك األمة ببكائه"(.)1
والسالم قال " :لو أن عبداً بكى من خشية اهلل في أ ّ
وقالت رابعة :بكيت عشر سنين عن اهلل ،وعشر سنين باهلل ،وعشر سنين إلى
اهلل .فأما ما هو باهلل فالرجاء به وأما ما هو عن اهلل فالخوف منه ،وأما ما هو إلى اهلل
فجلست
ُ فالشوق إليه .وقال بعضهم :دخلت على رابعة البصرية فإذا هي ساجدة،
فسلمت
ُ عندها حتى رفعت رأسها ،فإذا في موضع سجودها ماء واقف من دموعها،
عليها فردت علي السالم ،وقالت :ما حاجتك ؟ قلت :أريد زيارتك ،فبكت ثم صرفت
وجهها عني ،وكانت تبكي وتقول :قرة عيني البد لي منك ،فالعجب ممن عرفك،
كيف يشتغل بغيرك ،والعجب ممن أرادك ،كيف يريد غيرك؟
كثيراً ما يقول في بكائه" اللهم ارحم انقطاعي إليك، ()2
وكان عطاء السلمي
وإ عراضي عن سواك ،وغربتي في بالدك ،ووحشتي بين عبادك ،ووقوفي بين
يديك.
وقال الفضيل بين عياض :بينا أنا في الطواف ،إذ أنا برجل قد تغير لونه،
مع نفسه ،فدنوت منه ،فإذا هو يقول :إلهي قد ()3
ونحل جسمه ،وهو يبكي ويدندن
قلوب المحبين ،واستراحت إليك قلوب العارفين ،فال تقطع منك آمال
ُ أستأنست بك
ولي لقد أبكيت السموات السبع ،اسكت فإن
المشتاقين .قال :فسمعت هاتفاً يقول :يا ّ
لك ما سألت.
وروي أن آدم عليه الصالة والسالم لما نزل من الجنة ،بكى حتى نبت من
دموعه النبات ،فأوحى اهلل إليه :هذا البكاء على فوت الجنان ،فأين البكاء على ترك
( )1
الدار المنثور .4/206
انظر طرفا ً من أخباره في الطبقات الكبرى للشعراني (الفكر) .1/47وجامع كرامات األولياء .2/305 ( )2
( )3
دندن الرجل :تكلم بصوت خفي يُسمع وال يُفهم ،أو بصوت خافت.
179
خدمتي؟ ففزع آدم إلى كلمة اإلخالص ،فقال :ال إله إال أنت سبحانك ،قال اهلل تعالى:
( فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه)(.)1
وقال ذو النون :رأيت بمكة رجال يبكي بكاء العارفين ،فدنوت منه وقلت :ألك
موافق لك أم
ٌ قريب أم بعيد؟ قال :قريب ،قلت:
ٌ حبيب؟ قال :نعم ،قلت :حبيبك
علمت أن عذاب
َ مخالف؟ قال :بل موافق لي ،قلت :سبحان اهلل فلم تبكي؟ قال :أما
القرب والموافقة ،أشد من عذاب البعد والمخالفة؟
وحكي أن رابعة كانت تمر يوماً في بعض طرق البصرة ،فقطرت عليها
قطرةٌ من الميزاب ،فسألت عنها ،فقيل :أنها من بكاء الحسن ،قالت :قولوا للحسن لو
ازددت بالدموع ،حتى تصل العرش محبةً له ،لكان قليال.
وقيل لعبادة بن شميط بن عجالن :هل يبكي المنافق؟ قال :أما من الرأس
فنعم ،وأما من القلب فال .قال الفضيل :إذا رأيت الرجل يبكي ،وقلبه ٍ
ساه فهو بكاء
منافق ،وإ ن البكاء بكاء القلب.
قيل لمالك بن دينار ( :)2أال تجئ بقارئ يقرأ بين يديك؟ فقال :إن الثكلى ال
تحتاج إلى النائحة.
إلي من أن أتصدق
ألن أبكي دمعة من خشية اهلل أحب ّ
()3
وقال كعب األحبار
بجبل من الذهب .وكان مالك بن دينار كثيراً ما يبكي ويقول :يا نفس تريدين أن
تجاوري الجبار ،وتشاهدي المختار ،بأي شهوة تركتِها ،بأي بعيد قربته إلى اهلل ،بأي
ولي أحببته هلل ،بأي عدو أبغضته هلل ،بأي غيظ كظمته هلل ،ال واهلل لوال عفو اهلل
ورحمته ،ثم يغشى عليه .وروي أن اهلل تعالى قال لموسى عليه الصالة والسالم :لن
إلي المتقربون بمثل البكاء من خشيتي.
يتقرب ّ
وقال ثابت النساج رحمه اهلل :ما شرب داود عليه الصالة والسالم شربة من
الماء بعد الخطيئة إلى وكان نصفه دموعه حتى لحق باهلل عز وجل ،فقال يوماً من
كعب بن ماتع :من علماء التابعين .مات سنة 32هـ ودفن في حمص. ()3
180
األيام فيما رأى من كثرة دموعه :أما ترحم بكائي يا إلهي؟ فنودي من السماء يا داود
تذكر دموعك ،وال تذكر ذنبك؟ فأخذ برمض النار من الرماد ،وصار يجعله على
رأسه ،ويقول :ذهب ماء وجهي عند ربي .وقيل :كان في عهد الحسن البصري
رضي اهلل عنه رجل كان له ابنة تبكي حتى عميت عيناها ،فجاء الرجل إلى الحسن
ودعاه ليعظها ،لعلها ترفق بنفسها ،فأتاها الحسن وقال لها :ارفقي ،فقالت :أيها
األستاذ إن عيني ال تخلو من وجهين ،إما أن تصلح لرؤية ربي أو ال تصلح ،فإن لم
تصلح فحق لها أن تعمى ،وإ ن كانت تصلح فألوف مثل عيني فداء لرؤيته ،قال
فوجدت طبيباً.
ُ مطيباً
وأتيت ّ
ُ مداوى،
فصرت َ
ُ جئت مداوياً
الحسنُ :
وقالت سلمة بنت خالد المخزومي رحمها اهلل :كانت امرأة من الشام ببيت اهلل
الحرام ،ويقال لها حزينة ،أبداً تبكي من غلبة الشوق ،وكلما نظرت إلى باب الكعبة،
قالت :بيت ربي ،بيت ربي ،ففُتح باب الكعبة يوماً من األيام ،فرأت فيها طائفين
يبكون ،ويقولون :مليكنا وقرة أعيننا ،طال شوقنا متى تكون مالقاتنا ،فسمعت تلك
المقالة ( ،)1فصاحت صحية وخرت مغشياً عليها ،ولم تزل تضطرب حتى ماتت.
()2
، وقال يحيى بن أصفر :دخلنا مع جماعة من أصحابنا على عفيرة العابدة
وكانت عمياء من كثرة بكائها ،فقال واحد منا :ما أشد العمى بعد البصيرة ،فسمعت ذلك فقالت :يا أبا عبداهلل
وددت لو أن اهلل أعطاني ُكنهَ محبته ،ولم ُيبق لي جارحة إال أخذها
ُ عمى القلب عن اهلل أشد من عمى العين،
مني
قيام ِ
والعارفون لدى الجليل ُ نيام
والعصاةُ ُ
داج ُاللي ُل ٍ
جام ُ ِ يتلون ِ
تفيض س ُ تجري ،ومنها قد ودموعهم
ُ آيات الهدى
نام
شوقاً وليس لمن يحب َم ُ ذكر ِه
سويع ًة عن ِ
ال يصبرون ُ
َّ
انصب ،سال. ( )3سجم الدمع وانسجم:
181
الحديث الخامس والثالثون
أدى حديثاً]..
[ َمن ّ
اخبرنا شيخنا خالي أبو المكارم منصور الباز األشهب البطايحي رضي اهلل
عنه ،قال أنبأنا أبو علي الحسن بن شاذان ،قال :أنبأنا أبو نصر أحمد بن محمد بن
أشكاب النجاري ،قال :أنبأنا الحسن بن محمد بن موسى القُ ّمي ،قال :أنبأنا عبدالرحيم
بن جندب ،عن إسماعيل بن يحيى بن عبيداهلل ،عن سفيان ،عن ليث ،عن طاووس،
أدى
عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اللهصلى اهلل عليه وسلمَ " :من ّ
حديثاً إلى أمتي لتُقام به سنة أو لتُثلَم به بدعة فله الجنة" ( .)1ومن هذا الحديث
الشريف ُيعلم أن اهل الجنة القائمون بإقامة السنة ،وإ ثالم البدعة ،تجرداً هلل تعالى،
وتوكالً عليه ،وإ يماناً به ،وحباً له.
أي بني ،اعلم أن حبيب القلوب سبحانه إذا أحب عبداً أطلع سره على جالل
قدرته ،وحرك قلبه بمراوح ذكر ِمّنته ،وسقاه َشربةً من كأس محبته ،حتى ُيسكره به
وصحبته ،حتى ال يصبر عن ذكر ربه ،وال عن غيره ،وجعله من أهل أُنسه وقُربه ُ
()2
يختار أحداً عليه ،وال ُيشغل بشيء دون أمره .وقال الشيخ أبو بكر الواسطي
رحمه اهلل :منزلة الحب أقدم من منزلة الخوف ،فمن أراد الدخول في عصبة أهل
المحبة ،فليحسن الظن باهلل ،وليعظِّم ُح ْر َمتَهُ.
ضعيف .رواه نعيم في حلية األولياء (الخانجي) [ 10/44كنز العمال 10/28815والجامع الصغير ()1
2/560رقم 8363عن ابن عباس رضي اهلل عنهما] وإ تحاف السادة المتقين 1/75والسلسة الضعيفة 979
وشرف أصحاب الحديث للبغدادي (بيروت) [ 171موسوعة أطراف الحديث (ط.]8/61 )1
أبو بكر محمد بن موسى الواسطي .مات بعد 320هـ. ()2
182
وروي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالم :أن يا داود ِ
أحبني،
ب أحبائي ،وحببني إلى عبادي ،فقال داود :إلهي أحبك وأحب أحباءك ،فكيف ِ
وأح ّ
وحسن لطائفي .وفي الخير " :إذا أحب اهلل
أحببك إلى عبادك؟ فقال :ذكرهم آالئيُ ،
عبداً من عباده نادى جبريل عليه الصالة والسالم :يا أهل السماء واألرض ،يا معشر
أولياء اهلل وأصفيائه ،إن اهلل تعالى يحب فالناً فأحبوه" (.)1
النساج ( )2كل عمل لم يكن فيه محبة اهلل لم ُيقبل .وقالَ :من
وقال أبو عبداهلل ّ
أحبه اهلل ابتاله بالمحن ،فمن التفت منه إلى ما سواه صار محجوباً عنه ،وسقط عن
مررت برجل نائم في الثلج ،وعلى جبينه ()3
بساط أهل المحبة .وقال عبداهلل بن يزيد
قطرات من العرق ،فقلت له :يا أبا عبداهلل ،أما تجد البرد؟ فقالَ :من شغله حب مواله
ال يجد البرد ،قلت :وما عالمة المحب؟ قال :استقالل الكثير من نفسه ،واستكثار
القليل من حبيبه ،فقلت له :أوصني ،فقال :كن هلل يكن اهلل لك.
دخلت سوق النخاسين ألشتري جارية ،فرأيت ()4
وقال محمد بن الحسين
جارية مشدودة على وجنتيها عصابة ،مكتوب عليهاَ :من أرادنا أفلسناه ،ومن هرب
وسوسناه .فقلت :كذا قال اهلل تعالى لعباده :إن طلبتموني أنسيتكم بنفسي عن
منا ْ
غيري ،وأفنيتكم بي عن أنفسكم ،حتى ال تروا شيئاً دوني.
( )1صحيح .أخرجه مالك في الموطأ (الرسالة ط 2/132 )1برقم 2006وأحمد في المسند 8481و 10563
المقَ ِة من اهلل تعالى 5693
و 10622والبخاري في بدء الخلق ،باب ذكر المالئكة ،3037واألدب ،باب ِ
والتوحيد ،باب كالم الرب مع جبريل 7047ومسلم :البر والصلة واآلداب ،باب إذا أحب اهلل عبداً حببه إلى
عباده ،رقم .2637
محمد بن إسماعيل المعروف بخير النساج .توفي سنة 322هـ. ()2
عبد اهلل بن يزيد الجرمي أبو قالبة التابعي .مات بالشام سنة 104هـ. ()3
أبو عبد اهلل محمد بن الحسين المعروف بالزعفراني صاحب اإلمام الشافعي. ()4
183
قال :قرع واحد باب محبوبه ،فقال َمن داخل البابَ :من أنت؟ قال :أنا أنت ،فقال يا أنا ادخل:
يؤول السادة الصوفية مثل هذه العبارة تأويالت تبعدـ عنها معنى االتحاد والحلول ووحدة الوجود .واألسلم ()1
184
الحديث السادس والثالثون
أخبرنا شيخنا العارف باهلل على القاري الواسطي ،قال :أخبرنا أبو بكر
الوراق ،قال :أخبرنا أبو محمد يحيى بن صاعد ،عن أحمد بن عبد المؤمن ،عن علي
ابن الحسن المروزي ،عن أبي حمزة ،عن منصور ،عن إبراهيم ،عن علقمة ،عن
عبداهلل قال :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا قال :سمع اهلل لمن حمده قال:
ربنا ولك الحمد"( .)1في هذا الحديث من أسرار الموافقة لداعي اهلل ،الذي يرد شأنه
على كل لسان ،ما يفهمه أهل الذوق من أرباب المحبة.
أي بني ،قيل لواحد :ما حقيقة المحبة؟ قال :الموافقة :قال النبي عليه الصالة
والسالم" :اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك ،والعمل الذي يبلغني حبك ،واجعل
إلي" ( ،)2وقال اإلمام أبو بكر الصديقرضيـ اهلل عنهَ :من ذاق من
حبك أحب األشياء ّ
خالص حب اهلل استوحش عمن سواه ،وترك ألجله كل ما يهواه .ويقال :جفاء العدو
سم قاتل .وكان ذو النون المصري كثيراً ما يقرأ القرآن ،ثم
غم نازل ،وجفاء الحبيب ٌّ
ٌّ
بعد ذلك يشتغل بالحديث ،فسمع في المنام:
البخاري :صفة الصالة ،باب :إلى أين يرفع يديه ،رقم .705ومسلم :.الصالة ،باب إثبات التكبير في كل ()1
وورد ضمن حديث معاذ رضي اهلل عنه في التفسير (تفسير سورة ص) رقم ،3233وإ حياء علوم الدين
(المعرفة) 1/319قال الحافظ :وهي في الدعاء للطبراني و 2/296و .4/295ومجمع الزوائد .7/177
وانظر الزهد البن المبارك :الجزء الثالث ،باب :ما جاء في التوكل ص 144رقم .430
185
هجرت كتابي
َ ِ
فل ْم تزعم حبي كنت
إن َ
ُ
ِ
لطيف عتابي ِـه من تدبرت ما فيـ
َ أما
العيار :الذي يخلي نفسه وهواها ال يردعها وال يزجرها [ المعجم الوسيط]. ()1
عبد الواحد بن زيد :أدرك الحسن البصري [ الشعراني ]1/46والحسن متوفى سنة 110هـ. ()2
186
األعمال إلى اهلل تعالى ،وأعظمها عنده زلفى ،فقال :أن تحب ما يحب اهلل ،فقال:
اشرح لي صفة المحبة ،فبكى عبدالواحد وقال :أتحتمل؟ قال :ما شاء اهلل ،فوصف له
فغشي على الرجل ،فلما أفاق قال :سبحان اهلل َمن يستأه ُل شيئاً من المحبة وحقائقهاُ ،
قلب قصد محبوبه قصداً ب ٍ يطيق االستقامة على تحقيق المحبة؟ فقالُ :ر َّ
ُ هذا ،أو َمن
الريح العاصف ،وال البرق الخاطف ،حتى وصل إلى محبوبه ،قيل :أو هل
ُ ال يدركه
يكون للمحب عالمة؟ قال :إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ،وكذلك المحبة إذا
دخلت القلب ،تالشت النفس بكل ما فيها عن صفات اإلنسانية ،تحت سلطانها،
فاحترق ما في القلب من غير اهلل بنيرانها.
قيل لبعضهم :ما بال المحبين كالمبهوتين؟ قال :ألنهم ذاقوا حالوة محبته وسمعوا أصوات عجائب
حسن دعوته ،حتى طارت عقولهم وقلوبهم إليه ،وصاروا مدهوشين به ،هيهات أين الحب ،وأين صفوة الحب،
أحبَّه ال يصبر عنه طرفةَ عين.
إن َمن َ
وأين حقائق الحب ،وأين َمن يستحق الحب؟ أال ّ
كالمتفر ِد ِ
يسير ُ
بين العباد ُ مستوحش
ٌ نهارهُ
حب ُ الم َّ
إن َُّ
ِ
المتوحد ِ
الواحد لقاء منه! قريرةٌ بحبي ِب ِ!ه
يرجو َ فالعين ُ
ُ
ِ
محمد نحو ِ
اإلله مع النبي سن موكبهم إذا ما أقبلوا
يا ُح َ
187
الحديث السابع والثالثون
اخبرنا شيخنا أبو المكارم باز اهلل األشهب خالي الشيخ منصور األنصاري
الحسيني برواقه في نهر دقلى ،قال :أنبأنا أبو الحسن أحمد اشتُهر بابن الصلت ،قال:
حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالصمد الهاشمي ،قال :حدثنا الحسين بن الحسن
المروزي ،قال :حدثنا الفضيل بن موسى األعمش ،عن أبي صالح ،عن أبي هريرة
رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " :ال تدخلون الجنة حتى
تؤمنوا ،ولن تؤمنوا حتى تحابوا ،أال أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السالم
بينكم"( .)1أمر صلى اهلل عليه وسلم بهذا الحديث الشريف بقمع النفس ،ومحق ثورتها،
تعدت طورها ،بشأن إخوانها المسلمين ،وألزم بالمحبة وصفعها بنعل الهمة ،إذا َّ
الخالصة ،وجعلها عماد اإليمان ،ألنها هلل سبحانه وتعالى ،وعلَّمنا وهو معلم الخير
ممتحنون بأهل
َ صلى اهلل عليه وسلم أن إفشاء السالم ُمنتِ ٌج للمحبة ،وأهل الحق
الباطل ،ولكن ال تنحرف هممهم عن الحق ،اعتماداً عليه سبحانه وتعالى.
أي بني ،اعلم أن اهلل تعالى خلق الدنيا ،وجعلها دار المحنة ،ومحل األخطار
واألشرار ،ثم خلط فيها األبرار والفجار ،وأهل المحبة بأهل البطالة ،ثم يقلبهم من
حال النعمة إلى حال الشدة ،ومن حال الشدة إلى حال النعمة ،إلظهار َمن يعبده على
المعطي ،ممن
ومن يعبده على رؤية ُ
بساط المحنة ،ممن يعبده على بساط النعمةَ ،
مسلم :اإليمان ،باب بيان أنه ال يدخل الجنة إال المؤمنون ،وأن محبة المؤمنينـ من اإليمان رقم 54وأبو ()1
داود :األدب ،باب في إفشاء السالم ،رقم 5193والترمذي :االستئذان،ـ باب ما جاء في إفشاء السالم ،رقم
2689وصفة القيامة ،باب سوء ذات البين وهي الحالقة رقم .2512
188
يعبده على رؤية العطاء.
قال اهلل تعالى( :ومن الناس من يعبد اهلل على حرف)( )1اآلية ،وفي الخبر إن
ليجرب بالبالء"( )2والحكمة في امتحان اهلل
ليجرب بالنار ،والعبد الصالح َّ
الذهب َّ
تعالى عباده الصالحين ،إظهار ما في ضمائرهم من صدق الدعوى وكذبه ،وحقيقة
المعنى وبطالنه ،ليكون فيه ظهور مرتبة الصديقين وافتضاح غيرهم.
أما ترى أنه ال يسع للحاكم أن يحكم للخصم على إحاطة علمه ،في تصديق
دعواه وبطالنه ،من غير أن يظهر لغيره ذلك ،قال تعالى( :ألم أحسب الناس أن
يتركوا)( )3اآلية ،وقال تعالى( :فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)( ،)4وقال اهلل
تعالىُ ( :ليحق الحق ويبطل الباطل)( ،)5ثم اختلفوا فقال بعض العلماء :من يعبده على
بساط النعمة أولى ممن يعبده على بساط المحنة ،ألن منزلة الشكر أفضل من منزلة
الصبر ،وذلك ألن الشكر على النعمة طاعةٌ على بساط الفراغة،
سورة الحج واآلية بتمامها هكذا( :ومن الناس من يعبدـ اهلل على حرف ،فإن أصابه خير اطمأن به وإ ن ()1
أصابته فتنة انقلب على وجهه ،خسر الدنيا واآلخرة ،ذلك هو الخسران المبين).ـ
إن لم أجده ،ولكن في مسند أحمد (صادر) من حديث عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم" : ( )2
مثل المؤمن لكمثل القطعة من الذهب نفخ عليها صاحبها فلم تغير ولم تنقص [ " ..المسند .2/199وهو حديث
صحيح اإلسناد] وفي الترمذي عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص" رضي اهلل عنهما قال :قلت :يا
فيبتلى الرجل على حسب دينه،ـ فإن كان دينه
رسول اهلل ،أي الناس أشد بالء؟ قال :األنبياء ثم األمثل فاألمثلُ ،
صلباً اشتد بالؤه ،وإ ن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه " ..الحديث [ سنن الترمذي :أبواب الزهد ،باب ما
ُ
جاء في الصبر على البالء ،رقم 2400وقال :حسن صحيح] وفي رواية البن حبان في صحيحه" :فمن ثَ ُخن
ومن ضعف دينه ضعف بالؤه" [ لواقع األنوار القدسية للشعراني (ط.]577 )1
دينه اشتد بالؤه َ
سورة العنكبوت 1 :و .2 ()3
189
والصبر على الشدة طاعةٌ على بساط الشغل ،وليس َمن َعَب َد اهللَ فارغاً كمن عبده
مشغوال.
وقال بعضهمَ :من يعبده على بساط المحنة أفضل ،ألن األنبياء أفضل مرتبة
ممن دونهم( ،)1فامتحن اهلل عامتهم بأنواع المحن والبالء ،قال صلى اهلل عليه وسلم:
بالء األنبياء"( )2الخبر ،وأن الكفرة هم أهون الخلق على اهلل ،وعيش
"إن أشد الناس ً
عامتهم بأنواع النعم ،وليس َمن طلبه بنفي الحجاب كمن طلبه ِمن وراء الحجاب،
والشاكر يطلبه من وراء الحجاب ،والصابر يطلبه دون الحجاب ،والشاكر يطلبه
على حظ نفسه ،والصابر يعبده على حب ربه ،والشاكر مفتخر بملكه ،والصابر
المنعم،
مفتخر بمليكه ،والشاكر حبس نفسه مع النعمة ،والصابر حبس قلبه مع ُ
والشاكر يقول :ما دامت النعمة معي ال أبالي إن أصابني ما أصابني ،والصابر
يقول :ما دام المنعم معي ال أبالي إن أصابني ما أصابني ،قال اهلل تعالى( :الذين إذا
أصابتهم مصيبة قالوا إنا هلل وإ نا إليه راجعون)( )3وإ ن اهلل تعالى أوجب للشاكر
الزيادة ،ونفى عن أجر الصابر النهاية ،حيث قال( :إنما يوفى الصابرون أجرهم
بغير حساب)( )4وقال( :واهلل يحب الصابرين)(.)5
وفي هذا رد على من زعم أن الوالية أعلى مرتبة من النبوة ،وقد َّ
عد ابن حجر الهيتمي من أنواع الكفر" ()1
الذهاب إلى أن "الولي أقرب من النبي" [ الزواجر عن اقتراف الكبائر ( مصر -المطبعة الميمنية) .[1/22
( )2
رواه السيوطي من مسند أحمد والبخاري (باب أشد الناس بالء األنبياء) والترمذي وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص رضي هللا
عنه ،ورمز إلى صحته ،ورواه من ابن ماجه من طريق آخر ومسند أبي يعلي ،والمستدرك عن أبي سعيد رضي هللا عنه ،وصححه
أيضا ،ورواه من المعجم الكبير للطبراني عن أخت حذيفة رضي اهلل عنهما وحسَّنه [ الجامع الصغير (الفكر)
1/160األحاديث 1054و 1056و ]1057وكنت قد أشرت من قريب إلى رواية الترمذي.
سورة البقرة.156 : ()3
190
رت في أم الكتاب ،أني إذا أحببت أوحى اهلل تعالى إلى نبي من األنبياء :إني َّ
قد ُ
عبداً جعلته للبالء غرضاً ،وألبسته جلباب الفقر.
وفي الخبر :أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالمُ :قل ألوليائي
وأصفيائي وأهل محبتي ،أن ال يدخلوا مداخل أعدائي ،وال يسكنوا مساكن أعدائي،
مطاعم أعدائي ،فيكونوا أعدائي ،كما أولئك أعدائي. ()1
طعموا
وال َي َ
وقال وهب( )2إنا نجد في كتاب اهلل المنزل :أن عبادي المخلصين ،كانوا إذا
سلكوا طريق الشدة والبالء فرحوا واستبشروا ،ويقولون :اآلن يتعهدنا ربنا.
وفي الحديث القدسي :أن البالء أسرع إلى َمن يحبني من السيل إلى منتهاه(.)3
حكي أن ذا النون المصري سمع مريضاً يقول :أخ أخ ،فقال :ليس هذا بصادق في
حبه ،فقال المريض :أنيني من وجدان اللذة ،ال من وجدان الشدة.
وحكي أن فتحاً الموصليـ( ،)4أصابته الحمى فصلى ألف ركعة ،شكراً هلل على
ذلك ،وقال :أمثلي يذكره اهلل من فوق عرشه ،وعلم أن لي ذنباً فأراد طهارتي .وقالت
رابعة :ما عرفت البالء منذ عرفت اهلل.
ولي وعدو ,والحال حاالنِ :شدة ونعمة ،فربما
الخلق صنفانّ :
أي بنيَ ،
عن أبي هريرة رضي اهلل تعالى عنه قال :جاء رجل إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو مستلق ،فقال :من ()3
أي شيء تشتكي؟ قال :الخمص .يعني :الجوع .فبكي الرجل ،ثم ذهب يعمل .فاستقى لرجل دالء ،كل دلو بثمرة،
فعلت هذا إال وأنت تحبني .فقال :إي واهلل،
ثم جاء إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم بشيء من تمر ،فقال :ما أراك َ
للبالء أسرع إلى َمن يحبني من السيل من أعلى الجبل
ُ كنت صادقاً فأعد للبالء جلباباً ،فواهلل
إني ألحبك .قال :إن َ
إلى الحضيض [ تنبيهـ الغافلين للسمرقندي (المطبعة العثمانية) ص .]92
فتح بن سعيد الموصلي ،مات سنة 320هـ [ جامع كرامات األولياء (الفكر) .]2/437 ()4
191
تصل الشدة إلى الولي كرامة له ،كما وصلت إلى الرسل واألنبياء عليهم الصالة
والسالم ،وربما تصل اللذة إلى العدو خسراناً له ،كما قال اهلل سبحانه( :ولنذيقنهم من
العذاب األدنى دون العذاب األكبر) ربما تصل النعمة إلى الولي استدراجاً وتنبيهاً
()1
له ،وربما تصل النعمة إلى العدو وهو حظه من اآلخرة ،كما قال اهلل تعالى( :قل
تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)(.)2
ثم االبتالء على نوعين :إكرام وإ هانة ،فكل بالء يقربك من المولى فهو في
االسم بلوى ،وفي الحقيقة ُزلفى( ،)3وكل بالء يبعدك عن المولى فهو في الحقيقة
بلوى ،أال ترى أن اهلل تعالى ابتلى إبراهيم عليه الصالة والسالم ،وكان سبب ابتالئه
الخلة( )4والقُربة ،وابتلى إبليس ،وكان سبب ابتالئه اللعنة والفضيحة ،فقال إبراهيم في
ُ
البلوى :حسبي ربي ،وقال إبليس :حسبي نفسي ،فنودي إلبراهيم عليه الصالة
بالخلة ،وإلبليس باللعنة.
والسالم ُ
192
الحديث الثامن والثالثون
[ صلة الرحم]
أخبرنا ابن عمي العبد الصالح السيد سيف الدين عثمان ،قال :حدثني أبوك
السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد المنور بالجانب الشرقي من بغداد،
قال :حدثني ابن عمي السيد حسن ،قال :حدثني السيد يحيى ،قال :حدثني السيد
ثابت ،عن أبيه السيد علي الحازم ،ويكنى بأبي الفوارس،ـ عن أبيه السيد علي ،عن
أبيه السيد رفاعة الحسن المكي ،عن أبيه السيد أبي القاسم محمد ،عن أبيه السيد
الحسن الرئيس ،عن أبيه السيد الحسين عبدالرحمن الرضي المحدث ،عن أبيه السيد
أحمد األكبر ،عن أبيه السيد موسى ،عن أبيه السيد إبراهيم المرتضى ،عن أخيه
اإلمام علي الرضا صاحب طوس ،عن أبيه اإلمام موسى الكاظم ،عن أبيه اإلمام
جعفر الصادق ،عن أبيه اإلمام محمد الباقر ،عن أبيه اإلمام زين العابدين علي ،عن
أبيه الشهيد المظلوم اإلمام الحسين ،عن أبيه أمير المؤمنين علي المرتضىـ رضي اهلل
"لما أُسري بي إلى
عنه ،وعنهم أجمعين ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلمّ :
السماء رأيت رحماً معلقة بالعرش تشكو رحماً إلى ربها أنها قاطعة لها ،قلت :كم
بينك وبينها من أب؟ قالت :نلتقي في أربعين أباً"(.)1
عن عائشة رضي اهلل عنها عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال :الرحم معلقة بالعرش تقولَ :من وصلني ()1
وصله اهلل ،ومن قطعني قطعه اهلل" رواه البخاري ومسلم .وعن أبي هريرة ،قال :سمعت رسول اهلل صلى اهلل
إلي ،يا رب إني
عليه وسلم يقول :إن الرحم شجنة من الرحمن تقول :يا رب إني قُطعت ،يا رب إني أُسيء ّ
ظُلمت ،يا رب ..فيجيبها :أال ترضين أن أصل َمن وصلك ،وأقطع َمن قطعك؟ .رواه أحمد بإسناد جيد قوي.
وابن حبان في صحيحه [ الترغيب والترهيب للمنذري (ابن كثير وشركته) رقم 3708و 3711وشجنة :قرابة
مشتبكة.
193
وفي هذا الحديث الشريف من اإللزام للعبد بالرحمة ،ما يقيد نفسه عن
جموحها ،إذا أدرك وكان من الموفقين ،وقد بلغني عن بعض العارفين أنه كان يقول
ٍ
وبقلوب بك اشتغلت. في مناجاته :إلهي بأرحام اتصلت،
أي بني ،اعلم أن المحبين في طرائق العبودية ،وأوقات المناجاة ،على
أصناف شتى ،فمنهم من ناجاه على لسان االعتذار ،ومنهم من ناجاه على لسان
التحير واالضطرار،ـ ومنهم من ناجاه على لسان الطرب واالفتخار ،ولو علم أهل
الغفلة ما فاتهم في كل نفس.
قال النبي صلى اهلل عليه وسلم في مناجاته " :إلهي إذ قرت أعين أهل الدنيا
من دنياهم ،فأقر عيني بك ،واقر عيني بلذائذ أنسك ،والشوق إلى لقائك"( ،)1وكذا يقول
َمن يحب :يا خير مؤنس وأنيس ،يا خير صاحب وجليس ،طوبى لمن اكتفى منك
بك ،اللهم لبيك لبيك يا حبيب القلوب ،لبيك يا سرور القلوب ،لبيك لبيك يا منى
القلوب ،لبيك اللهم آليت بك عليك ،أن ال تصرفني بك عنك ،وال تحجبني بك عنك.
()1
من دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم :اللهم إني أسألك إيماناً ال يرتد ،ونعيماًـ ال ينفد ،وقرة عين األبد ،ومرافقة نبيكـ محمد صلى اهلل
عليه وسلم في أعلى جنة الخلد" [ إحياء علوم الدين ( دار المعرفة) ]1/319قال الحافظ العراقي في المغني :أخرجه النسائي في اليوم
والليلة ،والحاكم من حديث عبداهلل بن مسعود رضي اهلل عنه دون قوله " :وقرة عين األبد" وقال صحيح اإلسناد ،والنسائي من حديث
عمار بن ياسر بإسناد جيد " :وأسألك نعيمًاـ ال يبيد ،وقرة عين ال تنقطع" .ومن دعائه صلى اهلل عليه وسلم " :اللهم بعلمك الغيب،
الخلق ،أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ،وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي ،أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ،وكلمة العدل
وقدرتك على َ
في الرضا والغضب ،والقصد في الغنى والفقر ،ولذة النظر إلى وجهك ،والشوق إلى لقائك ،وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة اإليمان ،واجعلنا ُهداةً مهديين ] إحياء [1/320قال الحافظ :أخرجه النسائي والحاكم وقال :صحيح اإلسناد ،من حديث
عمار بن ياسر رضي اهلل عنهما.
194
إلهي لو دعوتني إلى النار ألجبتك ،وافتخرت بك ،فكيف وقد دعوتني إلى
نفسك ،إلهي إن قربتني منك ،فمن الذي يبعدني ،وإ ن أعززتني بك فمن الذي يذلني،
وإ ن رفعتني إليك فمن الذي يضعني ،إلهي َمن أرهب وأنت موالي؟ ولمن أرجو
وأنت مناي؟ وبمن أستأنس وأنت جليسي؟ فبك عليك أن تتفضل بإتمام فضلك ،يا نعم
المولى ونعم النصير ،إلهي ِس ِّري عندك مكشوف ،وأنا إليك ملهوف ،وأنت بالجود
معروف ،وبالكرم موصوف.
إلهي أنت أنيس المستأنسين من أحبائك ،ومأوى الموهوبين من أصفيائك،
وجليس الملهوفين من أوليائك ،إلهي ما أطيب معرفتك في قلوب العارفين ،وما أحلى
ذكرك في أفواه الذاكرين ،وما أحلى مودتك في أسرار المحبين ،إلهي أنت الذي ال
تبطل أمل اآلملين ،ال يخفى عليك أحوال المريدين ،وال يخيب لديك رجاء المنيبين.
استكفيت بك منك،
ُ نظرت منك إليك وأنت حسبي إذا
ُ إلهي أنت سروري إذا
()1
ك بك ،اللهم ارحم انقطاعي إليك ،وانفرادي بك ووحشتي
نزلت من َ
ُ وأنت أنيسي إذا
عمن سواك ،فيا خير مؤنس وأنيس ،ويا خير صاحب وجليس ،كن دليلي منك وإ ليك،
إلهي اجعل َّ
أجل العطايا في قلبي حياءك ،وأعذب الكالم على لساني ثناءك ،وأحب
يكون فيها لقاؤك.
إلي ساعةً ُ
الساعات َّ
إلهي ما أوحش قلباً ليس فيه ذكرك ،وما أخرب قلباً ليس فيه خوفك ،وما أقل
سروراً ليس في حبك ،إلهي ال صبر لي في الدنيا عن ذكرك ،فكيف أصبر في
اآلخرة عن رؤيتك؟
إلهي أشكو إليك غربتي في بالدك ،ووحشتي بين عبادك ،إلهي ما لمرادنا
غيرك ،وال لبغيتنا دونك ،وما لحاجتنا سواك ،إلهي هذه لذائذ المناجاة ،فكيف لذائذ
وحش بكسر الحاء في الماضي وفتحها في المضارع (من الباب الرابع). ِ
موداتهم ،والفعلَ :وح َش َي َ
195
المالقاة؟ إلهي هذا شكري ،وشكر شكري ،إلهي هذا سروري وسرور سروري،
إلهي هذا ودي وود ودي ،إلهي أُنسي بك أوحشني من خلقك ،ومعرفتي بك تمنعني
عن مناجاة غيرك.
إلهي كيف أشغل لساني بذكر غيرك ،أم كيف أشغل بصري برؤية غيرك ،أم
كيف أشغل قلبي بحب سواك ،وأنا ال أعرف غيرك؟ إلهي ،على من أُثني وأنت
ومن أرجو وأنت ُمناي؟ يا خير معروف مذكور ،أعززتني بوالية معرفتك،
ولييَ ،
بمن سواك ،إلهي عجبت ممن يعرفك كيف ال يستغني عمن
فال تذلني يا سيدي بعدها َ
عجبت ممن أنس بك كيف ال يستوحش من غيرك؟
ُ سواك ،إلهي
إلهي عجبت لمن أرادك كيف يريد سواك ،إلهي هذا سروري بك في دار
()1
الفناء ،فكيف سروري بك في دار البقاء؟ إلهي هذا سروري بك في قراطق
الخدمة ،فكيف سروري بك في غالئل( )2النعمة؟ إلهي هذه لذائذ المحبة ،فكيف لذائذ
الرؤية؟ إلهي هذه لذائذ المؤانسة ،فكيف لذائذ الزيارة؟ إلهي َمن لم يكن مسروراً بك
فمن أي شيء يكون له سرور؟ إلهي سقيتني بكأس الحب حتى أسكرتني ،فالحب
يقتلني والشوق ُيحرقني ،إلهي أريتني حبك ،فأرني وصلك ،إلهي طال بك حسن
ظني ،على أن ال تردني خائباً فال تخيب ظني بك ،يا معروفاً بالمعروف ،إلهي ليس
لي عنك صبر ،وال فيك حيلة ،وال منك بد ،وال عنك َمهرب ،وال مع سواك أُنس.
إلهي أحييتني بمعرفتك ،فال تُمتني بنكرتك ،إلهي أريتني وصالك ،فال تُرني
فرغ قلبي لذكر
فراقك ،إلهي إن لم تفعل ما نريد ،فصبرنا على ما تريد ،إلهي ِّ
( )1قراطق الخدمة :مالبسها ،مفردها :قُرطق :كجندب ،وقرطقته إياه فتقرطق :ألبسته إياه فلبسه [ القاموس
المحيط (القُرطق)].
( )2الغالئل :جمع ِ
الغاللة (بكسر الغين) وهي ثوب رقيق ُيلبس تحت الدثار" [ المعجم الوسيط].
196
عظمتك ،وأطلق لساني بوصف منتك ،وقوني على شكر نعمتك ،إلهي ارحمني فأنا
عاجز عند النصب ،جاهل بالسبب ،حيران في الطلب ،إلهي جعلت سبب ما تعطي
رجاءك ،وسبب ما يجمع بين أوليائك تأليفك بين قلوبهم.
إلهي فأعطني المرجو كما وهبت الرجاء ،واجمع بيني وبين أوليائك ،كما
ألفت بين القلوب ،كيف يفتقر َمن أنت حظه ،أم كيف يستوحش من أنت أنيسه ،أم
كيف يذل من أنت حبيبه ،أم كيف يحزن من أنت نصيبه؟ إلهي همك أبطل عني
الهموم وحبك حال بيني وبين الرقاد ،وشوقي إليك منعني اللذات ،وأُنسي بك أوحشني
عمن سواك.
إلهي أنت تُوالي َمن يعاديك ،فكيف تُعادي َمن يواليك؟ إلهي معرفتي بك دليلي
عليك ،وحبي لك وسيلتي إليك ،إلهي عرف المحبون كمال ربوبيتك ،والمذنبون
صنيعك ،وكمال قدرتك ،فاستسلموا وانقادوا لك ،إلهي اجعلني ممن ال يتخذ دونك
خليالً ،وال يلتمس إلى سواك سبيالً ،وال يرجو من غيرك فتيالً( .)1إلهي ال تجعلني
ممن صرفت عنه وجهك ،وحجبت عنه عفوك ،وأغلقت عليه بابك ،وقطعت عنه
أسباب عصمتك ،ووكلته إلى نفسه ،إنك على كل شيء قدير.
قال مالك بن دينار :رأيت جارية متعلقة بأستار الكعبة تقول:
197
الحديث التاسع والثالثون
أخبرنا شيخنا منصور الرباني رضي اهلل عنه ،عن أبيه سيدي يحيى
النجاري ،عن سيدي أبي محمد الشنبكي األنصاري ثم الحسيني الحسني ،عن الشيخ
أبي بكر بن هوار البطايحي ،عن سيدي سهل بن عبد اهلل التستري ،عن الشيخ ذي
النون المصري ،عن الشيخ إسرافيل المغربي ،عن اإلمام موسى الكاظم ،عن أبيه
اإلمام جعفر الصادق ،عن أبيه اإلمام محمد الباقر ،عن أبيه اإلمام زين العابدين علي
عن أبيه اإلمام الحسين عن أبيه اإلمام علي المرتضى رضي اهلل عنهم عن النبي
صلى اهلل عليه وسلم أنه قال " :نظر الولد إلى والديه عبادة" ( .)1قلت :وفي هذا
الحديث الشريف ،من إعظام شأن الحب هلل ،ما يرفع بهمم المحبين إلى اهلل ،فإن
النظر في اهلل عبادة ،وكذلك أي بني،
ذكر السيوطي عدة أحاديث في هذا المعنى ،أنقلها بأرقامها في كنز العمال للمتقي علي الهندي: ()1
34714النظر إلى الكعبة عبادة ،والنظر في وجه الوالدين عبادة ،والنظر في كتاب اهلل عبادة (أخرجه ابن أبي
داود في المصاحف عن عائشة رضي اهلل عنها ،وفيه زافر ،قال ابن عدي :ال يتابع على حديثه).ـ
45536النظر في ثالثة أشياء عبادة :النظر في وجه األبوين ،وفي المصحف ،وفي البحر (أخرجه أبو نعيم في
الحلية عن عائشة رضي اهلل عنها).
45496ما من رجل ينظر إلى وجه والديه نظرة رحمة إال ُكتب له بها حجة مقبولة مبرورة (أخرجه الرافعي
عن ابن عباس رضي اهلل عنهما) وأخرجه الحاكم في تاريخه وابن النجار عنه [ انظر كنز .]45535
وفي أسنى المطالب (طبعة الحلبي) خبر ( :نظرة إلى وجه العالم أحب إلى اهلل من عبادة ستين سنة):
ال يصح ،وكذا النظر إلى الوالد .وإ ن كان كل منهما محبوباً شرعاً" [ أسنى المطالب للبيروتي (محمد بن السيد
درويش) ص .]237
198
فاعلم أن ِ
عال َم أسرار المحبين ،والمطلع على همة المشتاقينَّ ،
طيب الدنيا للعارفين
بذكر الخروج منها ،كما طيب الجنة ألهلها ،بذكر الخلود فيها ،وال شيء أحب إلى
المحب من لقاء المحبوب ،ولوال اآلجال التي كتبها اهلل على المشتاقين لماتت
أرواحهم في أبدانهم ،لشدة االشتياق إليه.
قال أنس :قيل يا رسول اهلل ،لو شاء اهلل أن يدوم البقاء ألوليائه في الدنيا،
فقال :يأبى اهلل أن يجعل الخلود ألوليائه في الدنيا ،بل اختار ألوليائه وأحبائه ،ما عنده
من جزيل كراماته ،أما تعلمون أن الحبيب يشتاق إلى الحبيب ،فطوبى لمن كان
روحه وراحته في لقاء اهلل.
وحكي أن أبا هريرة قال لرفيق له :أين تذهب؟ فقال :أشتري شيئاً ألهلي،
قدرت أن تشتري الموت لي فافعل ،فإنه طال شوقي إلى
َ فقال أبو هريرة له :إن
إلي من شرب الماء البارد للعطشان ،وأحلى من العسل ،ثم
ربي ،وإ ن الموت أحب َّ
وغشي عليه.
بكى بكاء شديداً ،وقال :واشوقاهُ إلى َمن يراني وال أراهُ ،
كيف أصبحت ،قال :كيف يصبح َمن إذا أصبح ال يشتهي أن ()1
قيل ألويس
ُيمسي ،وإ ذا أمسى ال يشتهي أن يصبح ،وطال شوقه إلى ُمنى قلبه.
قال مالك بن دينار :كنت أسير في بعض حيطان البصرة ،فرأيت شاباً
مريضاً ،أشعث أغبر ،مستقبالً للقبلة ،يقول :قرة عيني طال شوقي إليك ،وما آن أن
ألقاك ،فإلى متى تحبسني عنك؟ فقلت :يا شاب هذا الوقت الذي يطلب فيه األحبة
محبوبهم؟ فقال :الحبيب في كل األوقات موجود ،ليس بمفقود ،بل هذا الوقت الذي
تظهر األحبة احتراقهم بحبيبهم ،ويكشف المشتاقون كتمان سرائرهم ،بهيجان نيران
االشتياق إلى ُمناهم.
وحكي أن رجالً من أهل البصرة ،بكى على شوقه حتى ذهبت عيناه ،ثم قال:
إلهي إلى متى ال ألقاك؟ فبعزتك لو كانت بيني وبينك نار تلتهب ،ما رجعت عنك
بعونك وتوفيقك ،حتى أصل إليك ،وال أرضى منك بدونك.
( )1
أويس بن عامر القرني :تابعي من الصالحين ،توفي سنة 37هـ.
199
قيل :كان لفتح الموصلي ابنتان عارفتان فخرجتا إلى الحج ،فلما وقعت
أعينهما على البيت ،قالت إحداهما لألخرى :يا هذه أهذا بيت ربي؟ فقالت األخرى:
نعم ،فصاحت صيحة وماتت من ساعتها وقالت األخرى :إلهي أشكو من نفسي إليك،
وقد طال شوقي إليك آه آه آه ،وتقولها حتى ماتت.
وقيل ألبي بكر الواسطي رحمه اهلل :ما حظيرة القدس؟ قال :هي حظيرةٌ
جعلها اهلل الستماع كالمه ومناجاته ،والنظر إلى وجهه ،حيث شاؤوا ومتى شاؤوا،
وتال قوله ( :ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم)(.)1
قال إبراهيم بن أدهم( )2دخلت جبل لبنان فإذا أنا بشاب قائم يقول :يا َمن قلبي
له محب ،ونفسي له خادمة ،وشوقي إليه شديد ،متى ألقاك؟ فقلت :رحمك اهلل ما
عالمة حب اهلل؟ قال :حب ذكره ،قلت :فما عالمة المشتاق؟ قال :أن ال ينساه في كل
حال.
بعض أهل المعرفة حضرته الوفاة ،فبكت امرأته ،فقال :ما يبكيك؟ قالت:
كيف ال أبكي وأنا أبقى منك فرداً ،قال :يا هذه أنا منذ أربعين سنة بكيت شوقاً إلى هذا
اليوم ،فإنه يوم وصلتي وأُلفتي وراحتي ،فمرحباً به.
وحكي أن الحسن البصري رضي اهلل عنه حضرته الوفاة ،وكانوا يلقنونه
الشهادة ،ففتح عينيه وقال :إلى متى تدعونني إليه وأنا محترق به منذ عشرين سنة.
وسئل سهل بن علي عن خفقان قلب الخليل ،وأزيز قلب المصطفى صلى اهلل
عليهما وسلم ،فقال :خفقانه من الخوف ،وأزيزه من الشوق.
وبكت رابعة العدوية عند موتها ،وضحكت من ساعتها فقيل لها في ذلك،
فقالت :أما بكائي فمن مفارقتي الذكر آناء ليلي ونهاري ،وأما ضحكي فمن سروري
بلقائه ،وماتت من لحظتها.
ومرض أبو الدرداء رضي اهلل عنه فقيل له :أال ندعو لك طبيباً يداويك؟
200
فقال :الطبيب أمرضني ،طال شوقي إلى ربي ،وإ لى قرة عيني محمد صلى اهلل عليه
أفرق عنهم.
وسلم ،وإ لى إخواني الذين مضوا من قبلي ،وإ ني أخاف أن َّ
وكان ذو النون يقول ليلةً إلى الصباح :المستغاث المستغاث ،ثم دخله السكينة،
فقيل له في ذلك ،فقال :نظرت البارحة بعين السر ،في مالحظة الحق حتى بسط إلى
فاستغثت إليه بالخروج من الدنيا ،كما يستغيث
ُ بساط محبته ،وغلبني االشتياق إليه،
أهل النار بالخروج منها ،ثم نظرت إلى سرور المجتهدين في الدنيا ،ومؤانسة
المريدين في ظلم الليالي ،وافتراشهم الجبهة بين يدي عالم الغيوب بصفاء القلوب،
علي السكينة.
فدخلت ّ
ْ
قال عقبة بن سلمة :ما من ساعة يكون العبد أقرب إلى اهلل من حين يخر
ساجداً ،وما من َخصلة في العبد أحب إلى اهلل من الشوق إلى لقائه .وفي الخبر" :نعم
لو خيرت بين أن أعيش في ()2
التحفة للمؤمن لقاء مواله"( .)1قال محمد بن يوسف
الدنيا مائة سنة أعبد اهلل تعالى ال أعصيه طرفةَ عين ،وبين أن أموت الخترت
الموت ،قيل :ولم ذلك؟ قال :من شدة اشتياقي إليه.
رواه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (ابن كثير) 4/299برقم 5123بلفظ " :تحفة المؤمن الموت" ()1
وقال :رواه الطبراني بإسناد جيد .وهو في اإلحياء 4/450وقال الحافظ العراقي :أخرجه ابن أبي الدنيا في
كتاب الموت " ..والمستدرك (كتاب الرقاق) 4/319وصححه ،ومجمع الزوائد 2/320وكنز 15/42110
وكشف الخفاء 1/352وقال :رواه ابن المبارك ..وأبو نعيم عن ابن عباس رضي اهلل عنهما .وأكثر رواياته عن
ابن عمر ،وفي المستدرك عن ابن عمرو رضوان اهلل عليهم ،ورواه الديلمي عن الحسن بلفظ "تحفة المؤمن في
الدنيا الموت" ] .كشف [1/352ورواه الدارقطني عن جابر رضي اهلل عنه بلفظ "الموت تحفة المؤمن" [ كنز
15/42138ورواه العجلوني بهذا اللفظ وقال :رواه الديلمي عن جابر بزيادة " :والدرهم والدنيار مع المنافق،
وهما زاده إلى النار" ورواه عن عائشة رضي اهلل عنها بهذا اللفظ :الموت غنيمة ،والمعصية مصيبة ،والفقر
راحة ،والغني عقوبة ،والتائب من الذنب كمن ال ذنب له" [ كشف الخفاء (التراث اإلسالمي) 2/401برقم
.]2667
محمد بن يوسف األصفهاني ،توفي 184هـ [ الشعراني .]1/61 ()2
201
الحديث األربعون
حدثنا شيخنا الشيخ القدوة علي الواسطي رضي اهلل عنه قال :حدثني أبو
الفوارس طراد بن محمد الزينبي ،قال :حثنا أبو الحسن محمد بن زرقويه ،قال:
حدثنا أبو جعفر محمد بن يحيى الطائي ،قال :أخبرنا جد أبي علي بن حرب بن محمد
الطائي ،عن سفيان بن عيينة ،عن الزهري ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة رضي
()1
اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال " :التسبيح للرجال والتصفيق للنساء"
هذا الحديث يشير إلى ال ِجد في األعمال واالستهالك للحركات والسكنات في اهلل
تعالى.
وقد ترى جماعة من العارفين ،يضربون لإلشارات في الحاالت ،ولذي
الحضرات كفاً بكف ،فإياك أن تظن أن إشارتهم هذه من التصفيق فتزلق ،إنما هي
استهالك حركة هلل ،في حركة أخرى هلل ،فإنهم ماتوا باهلل حالة كونهم أحياء
البخاري (بتحقيق الدكتور مصطفى البغا) العمل في الصالة ،باب :التصفيق للنساء 1145و 1146وأنظر ()1
أيضاً 652و 1143و 1146و 1160و 1177و 2544و 2547و 6767ومسلم :الصالة ،باب تقديم
الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر اإلمام ،رقم 421وباب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في
الصالة .422و " ُيسن للرجل الذي نابه شيء في صالته ،كتنبيه إمامه لنحو سهو ،وإ ذنه لداخل استأذن في
الدخول عليه ،وإ نذاره أعمى مخافة أن يقع في محذور ،أو نحو ذلك كغافل وغير مميز ،ومن قصده ظالم أو نحو
سبع ،أن يسبح فيقول " :سبحان اهلل" بشرط أال يقصد التنبيهـ وحده ،وإ ال بطلت صالته .وأما المرأة فتصفق
بضرب بطن اليمين على اليسار أو عكسه ..وهذه سنة متفق عليها إال المالكية قالوا :الشأن لمن نابه شيء وهو
يصلي التسبيح (سبحان اهلل) ويكره التصفيق للمرأة" والخنثى كالمرأة في التصفيق" [ د .وهبة الزحيلي :الفقه
اإلسالمي وأدلته (ط 2/934 )4و 935وانظر ( 1122تنبيهـ اإلمام على السهو)].
202
فلذلك أحياهم اهلل حالة كونهم أمواتاً.
أي بني ،اعلم أن هلل تعالى عباداً قد ُملئت قلوبهم بمحبة ربهم ،ينتظرون
الموت اشتياقاً إلى حبيبهم ،ويكرهون طول المكث في هذه الدنيا ،ال راحة لهم دون
الخروج منها ،وهم مغمومون بطول البقاء فيها ،وشوقهم إلى الخروج أشد من شوق
العطشان إلى الماء الزالل ،فإذا قرب أجلهم أتاهم ملك الموت مع سبعين ألف ملك من
اهلل بالتحية والسالم ،كما قال تعالى ( :الذين تتوفاهم المالئكة طيبين يقولون سالم
عليكم)( )1اآلية ،وكذلك يجيء الملك للمؤمن على أطيب ريح ،وأحسن صورة ،فيقول
المؤمن له :مرحباً ألي أمر جئت؟ فيقول له :لقبض روحك ،على أي حال تحب أن
أقبض روحك؟ فيقول :إذا كنت في السجود ،فيفعل ذلك ملك الموت ،فيأتيه حافظاه
ويقول أحدهما لصاحبه :كان لنا صاحباً وأخاً قد حان له الفراق ،فيقوالن له جزاك
قدمت لنفسك( :
َ كنت أيسر مؤمن ونعم ما
اهلل خيراً ،وغفر لك ،فنعم األخ كنت ،لقد َ
يأيتها النفس المطمئنة! ارجعي إلى ربك راضية مرضية) ( )2بالروح ( )3والراحة،
كنت تحب الخير وأهله ،وتبغض الشر
وتقول روحه لجسده :جزاك اهلل عني خيراًَ ،
وأهله ،أستودعك اهلل.
ُم َّر بجنازة على أمير المؤمنين علي كرم اهلل وجهه ورضي اهلل عنه فقال:
مستريح أو مستراح من نصب الدنيا ،وإ يذاء أهلها ،فلقي رحمة اهلل عليه ،والمستراح
منه الفاجر ،إذا ما استراح منه العباد والبالد.
وقال مأمون السلمي رحمه اهلل :لما توفي أبو عبداهلل بن مقاتل غسلناه وكفناه
ودفناه ،فهتف بنا هاتف من السماء :الحمدهلل الذي أوصل الحبيب إلى الحبيب راضياً
مرضياً.
203
وقال رجل من أصحاب أبي عبد اهلل :رأيته في المنام بعد موته كان يتبختر
في حظيرة القدس ،فقلت له :ما هذا التبختر يا أبا عبداهلل ،أليس قد ُنهينا عنه؟ فقال:
هذا مشي الخدام ،في دار السالم ،عند الملك العالّم .ورؤي ذو النون بعد موته في
المنام ،فقيل له :ما حالك؟ قال :سألت اهلل أربع مسائل ،فأعطاني اثنتين ،وأنتظر
قبضت روحي فال تكلني إلى ملك الموت،
َ اثنتين ،فقيل :وما هن ؟ قال :قلت إلهي إن
وإ ن سألتني فال تكلني إلى منكر ونكير ،وإ ن أهتني فال تكلني إلى مالك ،وإ ن أكرمتني
فال تكلني إلى رضوان.
لما مات حمل إلى قبره ،فإذا هو مفروش ()1
وحكي أن داود العجمي
بالريحان ،فأخذ الذي يدفنه شعبة من الرياحين ،وكان الناس ينظرون إليها تعجباً
سبعين يوماً لم يتغير حالها ،فأشخص األمير وأخذها من الرجل ،ففُِقدت فال ُيدرى
كيف ذهبت؟
وقال عمار بن إبراهيم :رأيت المسكينة الطاوية بعد موتها في المنام ،وكانت
تحب مجلس الذكر ،فقلت :مرحباً يا مسكينة ،فقالت :هيهات يا عمار ،ذهبت
المسكينة ،وجاء الغنى ،قلت :هنيئاً لك ،فقالت :وما تسأل عمن أبيحت له الجنة
بحذافيرها ،قلت :بماذا؟ قالت :بمجالس الذكر ،فقلت :فما فعل اهلل بعلي بن زادان؟
فضحكت وقالت :كساه حلة البهاء ،وقيل له :يا قارئ اقرأ وارق.
رأيت الواصليـ بعد موته في المنام ،كأنه قائم في ()2
وقال ابن أبي الحواري
الهواء ،وقد امتأل الهواء من نوره ،فقلت له :ما فعل اهلل بك؟ قال :نعم المولى موالنا،
غفر لنا وأكرمنا ،وفعل بنا ما هو أهله ،قلت له :أوصني ،قال :عليك بمجالسة
الذاكرين ،فإنهم عندنا في الرفيع من الدرجات.
( )2
أحمد بن أبي الحواري الدمشقي .مات سنة 230هـ [ الرسالة القشيرية .]59
204
ولما حضر معاذاً الموت أغمي عليه ،ثم أفاق ،فقالِ :
ألحقوني بالذين أنعم اهلل
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء ،ثم ضحك وقال :ال إله إال اهلل محمد رسول
اهلل الحمد هلل ثم مات.
وحكي أن امرأة دخلت على عائشة رضي اهلل عنها ،فصلت عند قبر النبي
صلى اهلل عليه وسلم ،ثم سجدت فلم تزل تقول واشوقاه ،فلم ترفع رأسها حتى ماتت.
وقال جعفر الضبي :حضرت زيارة قبر مالك بن دينار ،فقلت :ليت شعري ما فعل
اهلل بمالك؟ فسمعت صوتاً من فوق مالك يقول :مالك نجا من المهالك ،ومن وعثاء
المسالك ،وصار إلى دار السرور ،بمجاورة الرب الغفور ،فقلت :الحمد هلل.
بالمصيصة( ،)1فلما سلم اإلمام قام رجل
ّ وقال ابن ب ّكار :صلينا الغداة يوماً
وقال :يا أيها الناس إني رجل من أهل الجنة ،وإ ني أموت اليوم ،فمن كانت له حاجة
فليأت ،فلما صلينا العصر مات الرجل في سجوده.
وحكي أن الحارث بن عمرو الطائي( ،)2مرض بإرمينية فيوماً من األيام،
استقبل القبلة وصلى ركعتين ،ثم قال في آخر سجوده :اللهم إن أسألك باسمك الذي
خير
هو قوام الدين ،وبه ترزق العالمين ،وبه تحيي العظام وهي رميم ،إن كان لي ٌ
عندك فعجل قبضتي ،ثم سكت فحركوه فإذا هو ميت .وقال مالك بن دينار رضي اهلل
عنه :كان لي رفيق ،وكان واهلل من العارفين ،فمرض فحضرته ألعوده ،فإذا هو
رافع طرفه نحو السماء ،وقال :اللهم إن كنت تعلم أني أحبك فبارك لي في لقائك ،فلم
يتم كالمه حتى مات.
وحكي أن رجالً رأى مالك بن دينار رضي اهلل عنه كأنه في قصر معلق في
الهواء بحيث لم يصف الواصفون حسنه فقال :ما فعل اهلل بك يا مالك؟ فقال :أنزلني
ربي في هذا القصر كما ترى ،وأباح لي أن أنظر إليه كلما اشتقت إلى رؤيته بال
كيف وال شبيه،
205
والحمد هلل رب العالمين .ولما حضرت الوفاة سيدي الشيخ منصور بكينا حوله فأفاق
من غشيته وقال:
قوم وهم في الناس أحياءُ
قد مات ٌ المحب حياةٌ ال انقطاع لها
ِّ موت
ثم قال :أشهد أن ال إله إال اهلل وأشهد أن محمداً رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،وقضى نحبه رضي اهلل عنه وعن عباد اهلل الصالحين أجمعين.
206
المحتوى
207
حسبك أن تصوم من كل شهر ثالثة أيام 101الحديث التاسع عشر:
السنن الرواتب 105الحديث العشرون:
صنائع المعروف. 109الحديث الواحد والعشرون:
ال تحاسدوا.. 114الحديث الثاني والعشرون:
خيركم من تعلم القرآن وعلمه 119الحديث الثالث والعشرون:
أحبوا اهلل.. 126الحديث الرابع والعشرون:
من تصدق من كسب طيب 131الحديث الخامس والعشرون
من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال 135الحديث السادس والعشرون:
المرء مع من أحب 141الحديث السابع والعشرون:
من دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم 143الحديث الثامن والعشرون:
ال إله إال اهلل 150الحديث التاسع والعشرون:
إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل 155الحديث الثالثون:
أفال أكون عبداً شكوراً؟ 161الحديث الواحد والثالثون:
المتوكل صلى اهلل عليه وسلم 167الحديث الثاني والثالثون:
اللهم بارك لنا في رجب وشعبان 173الحديث الثالث والثالثون:
من ولد له مولود فسما محمداً 177الحديث الرابع والثالثون:
من أدى حديثاً 182الحديث الخامس والثالثون
سمع اهلل لمن حمده 185الحديث السادس والثالثون:
ال تدخلون الجنة حتى تؤمنوا 188الحديث السابع والثالثون:
صلة الرحم 193الحديث الثامن والثالثون:
نظر الولد إلى والديه 198الحديث التاسع والثالثون:
التسبيح للرجال والتصفيق للنساء. 203الحديث األربعون:
208