You are on page 1of 206

‫حالة أهل الحقيقة‬

‫مع هللا عز وجل‬


‫تـــــــــأليف‬
‫السيد اإلمام الشيخ أبو العلمين‬

‫أحمد الرفاعي‬
‫‪ 578 -512‬هـ‬
‫رضي هللا عنه‬

‫شرحه وخرج أحاديثه وعلق عليه‬


‫الدكتور محمد حسيني مصطفى‬

‫‪3‬‬
4
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫الحمد هلل رب العالمين وصلى اهلل على سيدنا محمد‬
‫وعلى آله وصحبه وأتباعه ‪ ،‬وسلم‬

‫قال اإلمام الشعراني (عبد الوهاب بن أحمد ‪ 973- 898‬هـ) ‪:‬‬


‫" قال الشيخ يعقوب رضي اهلل عنه خادمه ‪ :‬نظر سيدي أحمد رضي اهلل عنه‬
‫رأسها جعل اهلل تعالى ثِ ْقل‬
‫رفعت َ‬
‫ْ‬ ‫لما‬
‫انظر إلى النخلة ‪ّ ،‬‬
‫إلى النخلة ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا يعقوب ْ‬
‫وضعت‬ ‫لما‬ ‫ِ‬
‫الي ْقطين ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫ْ‬ ‫ح ْملها عليها ‪ ،‬ولو حملت مهما حملت ‪ ،‬وانظر إلى شجرة َ‬
‫خدها على األرض جعل ثِ ْق َل حملها على غيرها ‪ ،‬ولو حملت مهما‬
‫وألقت ّ‬
‫ْ‬ ‫نفسها‬
‫َ‬
‫تحس به "‪.‬‬
‫حملت ال ّ‬
‫ب ‪ ،‬وإ ْن سلّم األمر لمواله نصره من‬ ‫ِ‬
‫غضب لنفسه تَع َ‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫وكان يقول ‪ :‬الفقير ْ‬
‫غير عشيرة وال أهل ‪.‬‬
‫الب ْستي كتاباً يحطّ عليه فيه ‪ ،‬فقال سيدي أحمد‬
‫وأرسل إليه الشيخ إبراهيم ُ‬
‫دجال ‪،‬‬
‫أي ّ‬
‫ْ‬ ‫‪،‬‬ ‫أعور‬ ‫(‪)3‬‬
‫أي‬
‫ْ‬ ‫‪:‬‬ ‫فيه‬ ‫فإذا‬ ‫‪،‬‬ ‫فقرأه‬ ‫‪.‬‬ ‫لي‬ ‫اقرأه‬ ‫‪:‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫رضي اهلل عنه للرسول‬
‫أي مبتدع ‪ ،‬يا من جمع بين الرجال والنساء ‪ ...‬حتى ذكر الكلب بن الكلب ‪،‬‬
‫ْ‬
‫فلما فرغ الرسول من قراءة الكتاب أخذه سيدي أحمد رضي‬‫وذكر أشياء تغيظ ‪ّ .‬‬
‫‪:‬‬‫اهلل عنه وقرأه ‪ ،‬وقال‪ :‬صدق فيما قال ‪ ،‬جزاه اهلل عني خيراً ‪ ،‬ثم أنشد‬
‫كنت عند اهلل غير م ِر ِ‬
‫يب‬ ‫َ ُ‬ ‫إذا ُ‬ ‫ٍ!‬
‫بريبة‬ ‫فلست أبالي َم ْن َرماني‬
‫ُ‬

‫ُحميد إلى سيدي الشيخ‬ ‫(‪)4‬‬


‫ثم قال للرسول ‪ :‬اكتب إليه الجواب ‪ " :‬من هذا الالش‬
‫إبراهيم البستي رضي اهلل عنه ‪ ،‬أما قولك الذي ذكرت فإن اهلل خلقني كما يشاء ‪،‬‬
‫في‬
‫وأسكن ّ‬

‫الكروي ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اليقطين ‪ :‬القرع‬ ‫(‪)1‬‬

‫أي لحامل الرسالة‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫(‪)3‬‬
‫أيْ ‪ :‬أداة نداء مثل يا‪.‬‬
‫ً‬
‫الالش ‪ :‬الذي ليس شيئا (ال شيء)‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪5‬‬
‫وحْل ِم ْك(‪.)2‬‬
‫أن تدعو لي وال تُ ْخِليني من ِحلّك(‪ِ )1‬‬
‫َ‬ ‫ما يشاء ‪ ،‬وإ ني أريد من صدقاتك ْ‬
‫تلك من أنباء الشيخ اإلمام السيد أحمد الرفاعي الذي كان يقال به شيخ‬
‫وسيد العارفين ‪ ،‬أبي العباس ‪ ،‬وأبي‬
‫والسيد الكبير ‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الطرائق ‪ ،‬وأستاذ الجماعة ‪،‬‬
‫ذرّية‬
‫العلمين ‪ ،‬محيي الدين أحمد بن علي بن يحيى بن ثابت ‪ ،‬وهو ينحدر من ّ‬
‫(‪)3‬‬

‫جده السابع الحسن بن المهدي‬‫اإلمام علي رضي اهلل عنه ويقال له الرفاعي نِ ْسبة إلى ّ‬
‫المكرمة إلى‬
‫ّ‬ ‫ة‬ ‫ك‬
‫ّ‬ ‫م‬ ‫من‬ ‫هاجر‬ ‫قد‬ ‫وكان‬ ‫‪،‬‬ ‫برفاعة‬ ‫ب‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫يل‬ ‫وكان‬ ‫(‪)4‬‬
‫الهاشمي المكي‬
‫ذريته بالمغرب إلى زمن يحيى بن ثابت ‪ ،‬جد‬
‫المغرب ‪ ،‬وقَّر وقطن فيه ‪ ،‬وبقيت ّ‬
‫لكنه لم يلبث فيها طويالً حتى‬
‫السيد أحمد الرفاعي ‪ ،‬الذي رجع إلى مكة المكرمة ‪ّ ،‬‬
‫السّيد الرفاعي ‪.‬‬
‫ابنه علياً والد ّ‬
‫ق َ‬ ‫غادرها إلى العراق ‪ ،‬وهناك في بلدة أم عبيدة ُر ِز َ‬
‫وولدت له‬
‫ْ‬ ‫وتزوج من فاطمة األنصارية ابنة خاله ‪،‬‬
‫كان علي بن يحيى فقيهاً َّ‬
‫أحمد في " قرية حسن " من أرض البطائح بين واسط والبصرةـ في العراق سنة ‪512‬‬
‫هـ ‪.‬‬
‫أن أباه مات وهو في السنة السابعة من عمره فكفله‬
‫وأكثر الروايات تذهب إلى ّ‬
‫فعني به وبتربيته وتعليمه ‪ ،‬وكان منصور‬
‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫الرّباني البطائحي‬
‫السيد منصور ّ‬
‫خاله ّ‬
‫أهمهم القاضي المقرئ‬
‫نفسه عالماً ‪ ،‬ويعد في جملة شيوخه ‪ .‬ومن شيوخه أيضاً أو ّ‬
‫أبو الفضل علي الواسطي ‪ ،‬وهو شيخه في التصوف ‪ ،‬ألبسه ِ‬
‫الخ ْرقة وأجازه في‬ ‫ّ‬
‫طريقة وهو ابن عشرين سنة ‪ ،‬أما أبو الفضل علي فكان قد أخذ‬
‫علوم الشريعة وال ّ‬
‫الطريقة‬

‫ِحلّك‪ :‬تجاوزك وصفحك‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫الطبقات الكبرى (دار الطباعة الشرفية بمصر) ‪ 1/188‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫أي علم الشريعة وعلم الحقيقة‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫وقال اإلمام الشعراني‪ " :‬منسوب إلى بني رفاعة ‪ ،‬قبيلة من العرب " [ الطبقات الكبرى ‪.]1/187‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وأنه ولد في بيت خاله‬


‫ذهب الدكتور محمد عبد الرحمن الويسي إلى أن والد اإلمام الرفاعي مات قبل مولده ‪ّ ،‬‬
‫(‪)5‬‬

‫مقدمة الدكتور الويسي لكتاب سواد العينينـ لعبد الكريم الرافعي المتوفى سنة ‪ 623‬هـ (اليمامة ط‪) 1‬‬
‫منصور [ ّ‬
‫ص‪.] 8 ، 7‬‬

‫‪6‬‬
‫عن ابن كافح ‪ ،‬عن غالم بن تركان عن أحمد الروذباري عن علي العجمي ‪ ،‬عن أبي‬
‫بكر الشبلي ‪ ،‬عن أبي القاسم الجنيد ‪ ،‬وتنتهي هذه السلسلة بالحسن البصري عن‬
‫ومم ْن ذكر في شيوخه خاله أبو بكر بن يحيى َّ‬
‫النجاري ‪،‬‬ ‫علي رضي اهلل عنه‪َّ .‬‬
‫اإلمام ّ‬
‫وابن عمه سيف الدين عثمان ‪ ،‬وعبد السميع الخرتوني ‪ ،‬وعبد الملك الخرتوني ‪.‬‬
‫ودرس اإلمام السيد أحمد الرفاعي الفقه الشافعي ‪ ،‬وحفظ كتاب التنبيه ألبي إسحاق‬
‫الشيرازي ‪.‬‬
‫ومنذ أن نضجت معارفه أخذ يعقد حلقات التعليم والتوجيه في بلدة أم عبيدة ‪،‬‬
‫ِ‬
‫والتفسير والعقيدة‬
‫َ‬ ‫والحديث‬
‫َ‬ ‫الع ْذ ِب الفقهَ‬
‫فالتفّت حوله جموع كثيرة ‪ ،‬لتنهل من َمعينه َ‬
‫وعلوم الطريقة أو الحقيقة ‪ ،‬وإ لى طريقته ينتمي كثير من مشاهير المتصوفة ‪ ،‬مثل‬
‫أحمد البدوي ‪ ،‬وإ براهيم الدسوقي ‪ ،‬وأبي الحسن الشاذلي ‪ ،‬وشيخه عبد السالم ابن‬
‫مشيش ‪ ،‬واإلمام الشعراني ‪ ،‬واإلمام عبد الرحمن بن الكمال السيوطي‪ .‬وما برح‬
‫دنية‪،‬‬
‫الكس ّبية واللّ ّ‬
‫والصوفية‪ْ ،‬‬
‫ّ‬ ‫اإلمام أحمد يفيض على َم ْن حولَه ِم ْن علومه الشرعية‬
‫ربه ظهر يوم الخميس في الثاني‬‫أن ّلبى نداء ّ‬
‫ما يقارب أربعة عقود من الزمن ‪ ،‬إلى ْ‬
‫ألمه ‪ ،‬الشيخ يحيى‬
‫جده ّ‬
‫عشر من شهر جمادى األولى عام ‪ 587‬هـ‪ ،‬فدفن في ّقبة ّ‬
‫النجاري ‪ ،‬في بلدته أم عبيدة ‪.‬‬
‫كان السيد الرفاعي رضي اهلل عنه إماماً قدوة ‪ ،‬عالماً عابداً زاهداً‪ ،‬طويل‬
‫الصمت ‪ ،‬فإذا نطق َّبز القائلين ‪ ،‬وسالت ِمن فيه الكلم الحسان ‪ ،‬بل ُدرر ِ‬
‫الع ْقيان(‪،)1‬‬ ‫َُ‬
‫الذ ْكر ‪ ،‬وما‬‫الخلُق ‪ّ ،‬لين العريكة ‪ ،‬كريم النفس ‪ ،‬حسن المعاشرة كثير ِّ‬
‫سهل ُ‬‫وكان َ‬
‫َ‬
‫ف‬
‫ص ُ‬‫أكثر ما كان يختم تالوة القرآن الكريم في نهار وليلة ‪ ،‬وكان يخدم نفسه ‪ ،‬وي ْخ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ويج ّل العلماء ‪ ،‬ويقول ‪:‬‬
‫نعله ‪ ،‬ويحدب على األرامل واليتامى وذوي الحاجات ‪ُ ،‬‬
‫هؤالء أركان األمة وقادتها ‪ ،‬وكان ذا ثروة واسعة ُي ُّ‬
‫مده مواله سبحانه بها من َر ْيع‬
‫أمالكه ‪ ،‬ومن أوقافه المحبوسة على رواقه ‪ ،‬ومما كان يبعث به إليه أتباعه في‬
‫األقاليم ‪ ،‬ولكن اإلمام‬

‫ب ينبت "[ القاموس المحيط] وفي المعجم الوسيط ‪ِ :‬‬


‫الع ْقيان ‪ :‬ذهب متكاثف في مناجمه ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الع ْقيان (بالكسر) َذ َه ٌ‬
‫(‪)1‬‬

‫خالص مما يختلط به من الرمال والحجارة "‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫يجود به على َم ْن حوله‬
‫ُ‬ ‫الرفاعي كان غيثاً ِم ْدراراً ال ُي ْمسك من ك ّل ذلك شيئاً ‪ ،‬وإ نما‬
‫وآمي رواقه ‪ ،‬وعلى البؤساء والمساكين ‪.‬‬
‫من مريديه ِّ‬
‫الن ّجاري ‪ ،‬واقترن بابنته خديجة ‪،‬‬
‫وكان قد أصهر إلى خاله أبي بكر بن يحيى ّ‬
‫ورزق منها ابنتين فاطمة وزينب ‪ ،‬ثم ماتت ابنة خاله خديجة ‪ ،‬فاقترن بأختها رابعة ‪،‬‬
‫سماه صالحاً ‪ ،‬وفي الطبقات الكبرى للشعراني وصية لإلمام أحمد‬ ‫ورزق منها ولداً ّ‬
‫وجهها إلى ابنه صالح (‪ ،)1‬ولكن خير الدين الزركلي قال ‪" :‬مات ولم يخلف َع ِقباً ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫ب فألخيه "‬ ‫ِ‬
‫أما العق ُ‬
‫وقد صنف اإلمام الرفاعي كتباً كثيرة ‪ ،‬ذهب كثير منها لدى غزو المغول‬
‫والتتار‪ ،‬ومما ُذ ِكر له من تلك الكتب ‪ :‬معاني بسم اهلل الرحمن الرحيم ‪ ،‬تفسير سورة‬
‫القدر ‪ ،‬الرواية (حديث شريف) ‪ ،‬الطريق إلى اهلل ‪ ،‬الصراط المستقيم ‪ ،‬البهجة ‪،‬‬
‫ْ‬
‫رحيق الكوثر ‪ ،‬النظام الخاص ألهل االختصاص ‪ ،‬المجالس األحمدية ‪ ،‬كتاب ِ‬
‫الح َكم‬
‫‪ ،‬شرح التنبيه ‪ ،‬راتب الرفاعي (حزبه ‪ ،‬وهو آيات وأذكار وأدعية) ‪ ،‬أو المصباح‬
‫ِّر المصون ‪ ،‬البرهان المؤيد ‪ ،‬حالة أهل‬
‫المنير في ورد السيد الرفاعي الكبير ‪ ،‬الس ّ‬
‫الحقيقة مع اهلل ‪ ،‬وفي " حالة أهل الحقيقة مع اهلل " روى هو نفسه بأسانيد متصلة‬
‫مرفوعة إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم أربعين حديثاً ‪ ،‬ودرسها دراسة مستفيضة ‪،‬‬
‫وأودع هذه الدراسة مواعظه وطريقته ‪.‬‬
‫‪:‬‬ ‫وكان اإلمام الرفاعي يجيد القريض ‪ ،‬ومنه قوله‬
‫ران‬
‫س ُ‬‫النوم ُخ ْ‬
‫َ‬ ‫فإن‬
‫ّ‬ ‫س َه َر اللَّْي ِل‬
‫تعو ْد َ‬
‫َّ‬
‫نيران‬
‫ُ‬ ‫فعقبى َّ‬
‫الذ ْنب‬ ‫وال تَْر َك ْن إلى الَّذ ْن ِب‬
‫ُ‬
‫فللقرآن ِخالّ ُن‬ ‫وقُ ْم للواحد الفَ ْر ِد‬

‫ومن األبيات ال ّذائعة قوله مخاطباً رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو واقف‬
‫بحذاء قبره‬

‫الطبقات الكبرى (دار الطباعة الشرقية) ‪.1/190‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫األعالم (الطبعة الرابعة بدار العلم للماليين) ‪.1/174‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪8‬‬
‫الشريف ‪:‬‬

‫األرض ع ّني وهي نائبتي‬


‫َ‬ ‫تقب ُل‬
‫ِّ‬ ‫الب ْع ِد ُروحي ُ‬
‫كنت أُرسلُها‬ ‫في حالة ُ‬
‫فأمد ْد يمي َنك كي تحظى بها شفتي‬
‫ُ‬ ‫حضرت‬
‫ْ‬ ‫األشباح قد‬
‫ِ‬ ‫وهذه َدول ُة‬

‫(‪)1‬‬
‫َّ‬
‫فمد له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يده الشريفة من قبره الكريم ‪ ،‬فقبلها‬
‫أمام جمع من الحجيج ‪.‬‬

‫عبد الكريم الرافعي‪ :‬سواد العينينـ في مناقب أبي العلمين (اليمامة) ‪40‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪9‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫[ أسانيد الشيخ أحمد األخضر راوي الكتاب]‬

‫قال الشيخ اإلمام السيد محيي الدين أحمد األخضر بن السيد سلمان بن السيد‬
‫أحمد بن السيد سليمان ‪ ،‬نزيل الرحبة ‪ ،‬ابن السيد إبراهيم بن السيد أبو المعالي‬
‫بواسط ‪ ،‬الرفاعي‬ ‫(‪)1‬‬
‫عبدالمنعم بن السيد أبي العباس أحمد البطايحي نزيل الهُمامية‬
‫الحسيني رضي اهلل عنه وعن أسالفه الطاهرين أجمعين ‪.‬‬
‫كتاب "حالة أهل‬ ‫ِ‬
‫عام تسعة وأربعين وخمسمائة للقوم ُ‬ ‫أُْلق َي ُبرواق عبيدةَ َ‬
‫العديم المثيل ‪ ،‬الذي انتظم من أربعين‬
‫َ‬ ‫والس ْف َر‬
‫الحقيقة مع اهلل" أعني الكتاب الجليل ‪ِّ ،‬‬
‫خميس مجلس ‪ ،‬وأولها أول خميس من شهر رجب من ذلك العام ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫كل ِ‬
‫يوم‬ ‫مجلساً ‪َّ ،‬‬
‫وقد صدر من ِ‬
‫لسان قُطب األقطاب (‪ )2‬المتم ّكنين ‪ ،‬سلطان األولياء والعارفين ‪ُ ،‬محيي‬
‫بتقبيل ِيد َج ِّده سيد المرسلين ‪ ،‬مصباح‬
‫ِ‬ ‫مشر ِ‬
‫ف جهاراً‬ ‫َّ‬
‫الحق والشريعة والدين ‪ ،‬الُ َ‬
‫وم ْرشدنا إلى اهلل تعالى السيد أحمد الرفاعي الحسيني‬‫المعرفة المنير ‪ ،‬موالنا وشيخنا ُ‬
‫وعنا به ‪ ،‬ونفعنا والمسلمين بعلومه ‪،‬‬
‫الحسني األنصاري الكبير رضي اهلل عنه ‪ّ ،‬‬
‫حال حضر ِة األنس ‪ُّ ،‬‬
‫يدل على الطريق ‪،‬‬ ‫روح من وروح القدس ‪ ،‬وحا ٌل من ِ‬
‫فهو ٌ‬
‫التزام منهج أهل‬ ‫ويفرغ في القلب‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ويلزم باالستقامة ‪ُ ،‬‬
‫ويأخذ للتمسُّك بالعهد الوثيق ‪ُ ،‬‬
‫السالمة ‪ ،‬وإ ني قد قرأته في أربعين مجلساً بعد اإلجازة به على سيدي وموالي ‪،‬‬
‫األوحد السيد شمس الدين أحمد المستعجل بن الرفاعي رضي اهلل عنه‬
‫طب الفَ ْرد ْ‬
‫القُ ْ‬
‫أربعين مجلساً بعد اإلجازة به على ِّ‬
‫جدي‬ ‫َ‬ ‫في ُرواق أم عبيدة ‪ ،‬وهو قال‪ :‬قرأته في‬
‫طب العارف باهلل تعالى‬
‫ألمي السيد القُ ْ‬

‫(‪ )1‬الهُ َمامية ‪ :‬بلدة من نواحي واسط بينها وبين خوزستان ‪ ،‬منسوبة إلى همام الدولة منصور بن دبيس بن عفيف‬
‫األسدي ‪ ،‬وليس هذا بصاحب ِ‬
‫الحلّة [ معجم البلدان (صادر) ‪.]5/410‬‬
‫طب‪ :‬السيد‪ ،‬أي سيد األولياء في وقته ‪.‬‬
‫القُ ْ‬
‫(‪)2‬‬

‫‪10‬‬
‫أربعين مجلساً بعد‬
‫َ‬ ‫نجم الدين أحمد بن الرفاعي رضي اهلل عنه ‪ ،‬وهو قال ‪ :‬قرأتُه في‬
‫اإلجازة به على أخي وسيدي وموالي القطب األعظم أبي إسحاق السيد إبراهيم‬
‫أربعين مجلساً من لسان جدي القطب‬
‫َ‬ ‫األعزب رضي اهلل عنه‪ ،‬وهو قال ‪ :‬سمعته في‬
‫الغوث األكبر ‪ ،‬سلطان األولياء والعارفين ‪ ،‬سيدنا السيد أحمد الرفاعي رضي اهلل‬
‫استجزتُهُ به فأجاز‪.‬‬
‫ْ‬ ‫عنه ونفعنا بعلومه ‪ ،‬وقد‬
‫وسمعته أيضاً من جامعه الشيخ العارف باهلل الفقيه أبي شجاع بن منجح‬
‫الشافعي رضي اهلل عنه انتهى‪.‬‬
‫وقد أجازني بقراءته الشيخ الفقية عفيف الدين أبو طالب المقري الصوفي ‪،‬‬
‫وهو قال‪ :‬أجازني بقراءته الشيخ العارف العالم الشريف شرف الدين أبو طالب بن‬
‫عبد السميع العباسي الهاشمي ‪ ،‬وهو قال ‪ :‬قد أجازني بقراءته القاضي الشيخ الصالح‬
‫الفقيه الجليل جامعه أبو شجاع بن منجح الشافعي الواسطي ‪ ،‬وهو قال ‪ :‬قد أجاز‬
‫جم غفير من ناثر ُد َر ِر ِه الشريفة ‪ ،‬وناظم أساليبه‬
‫بقراءته بعد جمعه كما تلقيناه في ٍّ‬
‫الغوث األعظم ‪ ،‬حجة اهلل على أوليائه العارفين ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫المنيفة ‪ ،‬سيدنا وموالنا القطب‬
‫ُ‬
‫السيد محيي الدين الكبير الرفاعي الحسيني رضي اهلل عنه ونفعنا به ‪.‬‬
‫اإلذن بقراءة كتاب "البرهان المؤيد" الذي‬
‫ُ‬ ‫ولنا من طريق الشيخ عفيف الدين‬
‫الشريف العالّمةُ شرف‬
‫ُ‬ ‫جمعه من كالم سيدنا السيد أحمد الرفاعي رضي اهلل عنه‬
‫الدين بن عبدالسميع العباسي رحمه اهلل عن الشريف شرف الدين عن صاحبه اإلمام‬

‫الرفاعي رضي اهلل عنه ‪.‬‬


‫ولنا من هذا الطريق اإلذن بقراءة ِ‬
‫الح َكِم األحمدية بسندنا عن الشيخ عفيف‬
‫الدين عن الشيخ شرف الدين عن أبيه الشريف عبدالسميع الهاشمي الواسطي عن‬
‫ناسج برودها وناظم عقودها سيدنا اإلمام السيد أحمد الرفاعي رضي اهلل عنه وعنهم‬
‫أجمعين‪ .‬وهذا نص ما تلقيناه عن مشايخنا رحمهم اهلل من كتاب (حالة أهل الحقيقة‬
‫مع اهلل)‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫[ مقدمة الكتاب]‬
‫الغوث‬ ‫القطب‬ ‫ِ‬
‫رسول الثقلين ‪،‬‬ ‫وارث‬ ‫العلَ َم ْين‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قال شيخنا وسيدنا شيخ الطوائف أبو َ‬
‫أحمد محيي الدين أبوالعباس الكبير‬
‫السيد ُ‬
‫ُ‬ ‫إمام األولياء‬
‫العارف القدوةُ ُ‬
‫ُ‬ ‫الجامعُ الحجةُ‬
‫الرفاعي الحسيني بن السيد أبي الحسن علي بن السيد يحيى بن السيد ثابت ‪ ،‬ابن‬
‫السيد الحازم بن السيد أحمد بن السيد علي بن السيد الحسن‪ ،‬بن السيد المهدي ‪ ،‬ابن‬
‫السيد أبي القاسم محمد ‪ ،‬بن السيد الحسن بن السيد الحسين ‪ ،‬بن السيد أحمد ‪ ،‬ابن‬
‫السيد موسى الثاني ‪ ،‬بن السيد إبراهيم المرتضىـ ‪ ،‬بن اإلمام موسى الكاظم ‪ ،‬بن‬
‫اإلمام جعفر الصادق ‪ ،‬بن اإلمام محمد الباقر ‪ ،‬بن اإلمام زين العابدين علي ابن ُزبدة‬
‫وعمدة قادة األمة ‪ ،‬الذي امتُ ِح َن بأنواع البالء ‪ ،‬أمير المؤمنين أبي‬
‫السادة األئمة ‪ُ ،‬‬
‫أزمة‬
‫عبداهلل اإلمام الحسين الشهيد بكربالء ‪ ،‬ابن إمام األئمة األولياء ‪ ،‬وقائد ّ‬
‫الو ْف َرى ‪ ،‬باب مدينة العلوم‬
‫األصفياء ذوي السوابق الكبرى ‪ ،‬والمفاخر والمناقب ُ‬
‫َّ‬
‫المشبه بكبار األنبياء كآدم وإ براهيم ونوح ‪،‬‬ ‫كل ٍ‬
‫مقام له ممنوح ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والح َكم ‪ ،‬السيد الذي ُّ‬
‫الذي قدرهُ كاسمه حسن وعلي ‪ ،‬أمير المؤمنين أبي الحسن علي رضوان اهلل عليه‬
‫وعليهم أجمعين ‪.‬‬
‫ونع َُد به من األحباب ‪ ،‬ونشهد أن‬
‫الحمد هلل حمداً نص ُل به إلى كشف الحجاب ‪َ ،‬‬
‫ونشهد أن محمداً صلى اهلل عليه وسلم عبده ورسوله‬
‫ُ‬ ‫ك له ‪،‬‬ ‫ال إله إال اهلل وحده ال شري َ‬
‫الساطع ‪ ،‬والبيان الالمع ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بالنور ّ‬ ‫وصفيهُ ‪ ،‬وخيرتُهُ ِم ْن خلقه ‪ ،‬بعثه اهلل‬
‫ُّ‬ ‫‪ ،‬وحبيبه‬
‫وأسس الشريعة ‪،‬‬
‫السنةَ ‪ّ ،‬‬
‫وأدى األمانة ‪ ،‬وأوضح ّ‬ ‫والسيف القاطع ‪ ،‬فبلّغ الرسالة ‪ّ ،‬‬
‫وعَب َداهللَ حتى أتاه اليقين ‪ ،‬فصلوات اهلل عليه وعلى آله وصحبه‬
‫ونصح األمة ‪َ ،‬‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد فهذه ُج َم ٌل نذكر فيها (حالة أهل الحقيقة مع اهلل) ‪ ،‬وال حول وال قوةَ‬

‫‪12‬‬
‫القلوب بنسبة ما ألفت إليه‪ ،‬وإ ال‬
‫ُ‬ ‫ولتتروح‬
‫ّ‬ ‫‪،‬‬ ‫النفوس‬ ‫(‪)1‬‬
‫إال باهلل ‪ ،‬وذلك لترتاض‬
‫طري ‪ ،‬من مائدة النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ُّ ،‬‬
‫بالتنزل‬ ‫ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫فمنبعنا وقتي ‪ ،‬وثريدنا‬
‫اإللهي ‪ ،‬ما فيه قَديد(‪.)3‬‬

‫الحديث األول‬
‫[ من يذوق طعم اإليمان؟ ]‬

‫الم ْقري القاضي الثقة ‪ ،‬علي أبو الفضل الواسطي بمدرسته‬


‫حدثنا الشيخ اإلمام ُ‬
‫في واسط ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو علي الحسن بن علي بن المه ّذب ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو بكر‬

‫(‪ )1‬ارتياض النفس‪ :‬تذليلها‪ ،‬وتدريبها وتمرينها‪.‬‬


‫ت ثم يُب ّل بمرق ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬الثّريد‪ :‬ما ي َ‬
‫ُثرد من الخبز‪ ،‬أي يُفَ ّ‬
‫(‪ )3‬القديد من اللحم ‪ :‬ما قُطع طوالً و ُملِّ َح و ُجفِّفَ في الهواء والشمس ‪ .‬يقول السيد الرفاعي ‪ :‬إن عطاءه‬
‫غير دسم ‪ ،‬وهذا من تواضعه رضي هللا عنه ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫أحمد ابن جعفر القطيعي ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عبداهلل بن أحمد بن حنبل ‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبي ‪،‬‬
‫قال‪ :‬حدثنا قتيبة بن سعيد بن الليث بن سعد ‪ ،‬عن ابن الهادي ‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم‬
‫بن الحرث ‪ ،‬عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب ‪ ،‬أنه سمع رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ " :‬ذاق طعم اإليمان من رضي باهلل رباً ‪ ،‬وباإلسالم ديناً ‪،‬‬
‫وبمحمد صلى اهلل عليه وسلم نبياً(‪ ،")1‬وهذا الذوق المنبعث عن هذا الرضا هو‬
‫نور أسكنه اهلل تعالى قلب من أحبه من عباده ‪ ،‬وال‬
‫المعرفة باهلل تعالى ‪ .‬والمعرفة ٌ‬
‫بالمحيي ( َأو َمن كان‬
‫شي أجل وأعظم من ذلك النور ‪ ،‬وحقيقة المعرفة حياة القلب ُ‬
‫حيينه حياةً‬ ‫ن‬ ‫فل‬ ‫(‬ ‫تعالى‬ ‫وقال‬ ‫‪،‬‬‫(‪)3‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫)‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫حي‬ ‫كان‬ ‫من‬ ‫نذر‬‫لي‬
‫ُ‬ ‫(‬ ‫‪:‬‬ ‫تعالى‬ ‫وقال‬ ‫(‪)2‬‬
‫َميتاً فأحييناه)‬
‫طيبة)(‪ ،)4‬وقال‪ :‬سبحانه ‪( :‬استجيبوا هلل وللرسول إذا دعاكم لما ُيحييكم)(‪ ،)5‬فمن‬
‫وسئل ابن السماك(‪:)6‬‬
‫ماتت نفسه ؛ بعدت عنه دنياه ‪ ،‬ومن مات قلبه بعد عنه مواله ‪ُ ،‬‬
‫متى يعرف العبد أنه على حقيقة المعرفة ؟ قال‪ :‬إذا شاهد الحق بعين اعتباره فانياً‬
‫عن كل من‬

‫صحيح‪ .‬رواه اإلمام أحمد في مسنده (دار الحديث) ‪ 2/383‬و ‪ 384‬برقم ‪1778‬و ‪( 1779‬مسند العباس بن‬ ‫(‪)1‬‬

‫عبد المطلب رضي اهلل عنه) ومسلم‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب‪ :‬الدليل على أن من رضي باهلل رباً وباإلسالم ديناً وبمحمد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم رسوالً فهو مؤمن‪ ،‬رقم‪.34‬‬
‫سورة األنعام‪.122 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة يس‪70 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة النحل‪97 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة األنفال‪.24 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫أبو العباس بن السماك‪ ،‬كان يقول‪ ،‬يا أخي هب أن الدنيا كلها في يديك‪،‬ـ فانظر ما في يديك منها عند الموت‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫توفي بالكوفة سنة ‪ 283‬هـ (طبقات الشعراني ‪.)80-1/79‬‬

‫‪14‬‬
‫سواه‪ ،‬وقيل‪ :‬المعرفة فقدان رؤية ما سواه ‪ ،‬بحيث يصير ما دون اهلل تعالى عنده‬
‫أصغر ِمن خردلة ‪ ،‬قال تعالى‪( :‬قل اهلل ثم َذ ْر ُهم)(‪َ ،)1‬من نظر إلى اهلل تعالى لم‬
‫ينظر ال إلى الدنيا وال إلى العقبى ‪ ،‬وشمس قلب العارف أضوأ من شمس النهار ‪،‬‬
‫وأبهج منها في مطلع األنوار‪.‬‬

‫غروب‬
‫ُ‬ ‫فاستنارت فما لديها‬
‫ْ‬ ‫أح ّب َك ليالً‬
‫شمس من َ‬
‫ُ‬ ‫طلعت‬
‫ْ‬
‫تغيب‬ ‫ِ‬
‫القلوب ليست ُ‬ ‫وشموس‬
‫ُ‬ ‫تغرب ليالً‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫النهار‬ ‫شمس‬
‫َ‬ ‫إن‬
‫ّ‬

‫قال ذو النون(‪ :)2‬إطالع الحق سبحانه على األسرار بمواصلة المدد ‪ ،‬كإطالع‬
‫الشمس على األرض بإشراق األنوار ‪ ،‬فعليكم بتصفية القلوب ‪ ،‬فإنها مواضع نظره ‪،‬‬
‫ومواطن سره ‪ ،‬فإن من عرف اهلل ال يختار غيره حبيباً سواه ‪ ،‬وفي الخبر‪" :‬إن اهلل‬
‫ق في ظُلمة ‪ ،‬ثم ألقى عليهم شيئاً من نوره ‪ ،‬فمن أصابه من ذلك‬
‫الخْل َ‬
‫تعالى خلق َ‬
‫ضل وغوى"(‪ )3‬وهو نور يخرج من سرادق ِ‬
‫المّنة ‪ ،‬فيقع‬ ‫النور اهتدى ‪ ،‬ومن أخطأه َّ‬
‫فيستنير به الفؤاد ‪ ،‬ويبلغ شعاعه إلى ُح ُجب الجبروت ‪ ،‬وال يحجبه عن‬
‫ُ‬ ‫في القلب ‪،‬‬
‫الحق الجبروت ‪ ،‬وال الملكوت ‪ ،‬فيصير العبد في جميع أفعاله وأقواله وحركاته‬
‫(اهلل نور السموات واألرض)‬ ‫وإ رادته في حياته ومماته صائراً إلى النور‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫‪.‬‬ ‫(يهدي اهلل لنوره من يشاء)‬

‫ت عن بصري‬
‫يراك وإ ن ُغي ِّْب َ‬
‫قلبي َ‬ ‫فالذكر منك معي‬
‫ُ‬ ‫لست معي‬
‫كنت َ‬
‫إن َ‬

‫سورة األنعام ‪.91‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أبوالفيض ثوبان بن إبراهيم توفي سنة ‪ 245‬هـ‪ .‬ومن قوله‪" :‬من عالمات المحب هلل عز وجل‪ :‬متابعة حبيب‬ ‫(‪)2‬‬

‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أخالقه وأفعاله وأوامره وسننه" (الرسالة القشيرية (دار إحياء التراث العربي) ‪.)33‬‬
‫صحيح‪ :‬أخرجه أحمد برقم ‪ 6644‬و ‪ 6659‬و ‪ 6854‬عن عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنه والهيثمي في‬ ‫(‪)3‬‬

‫اإليمان‬ ‫حبان ‪ 61698‬والحاكم في المستدرك‪:‬‬


‫موارد الظمآن‪ :‬القدر‪ ،‬الباب الثالث‪ ،‬رقم ‪( 1812‬صحيح ابن ّ‬
‫‪.1/30‬‬
‫سورة النور ‪.35‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪15‬‬
‫قرب القلب إلى القريب ‪ ،‬ومراقبة الروح‬ ‫(‪)1‬‬
‫قال يحيى بن معاذ ‪ :‬المعرفةُ ُ‬
‫للحبيب ‪ ،‬واالنفراد عن الكل بالملك المجيب ‪ ،‬وقال ذو النون‪ :‬هي تخلية السر عن‬
‫كل إرادة ‪ ،‬وترك ما عليه العادة ‪ ،‬وسكون القلب إلى اهلل بال عالقة‪ .‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫هيئتها جنون ‪ ،‬وصورتها جهل ‪ ،‬ومعناها َح ْيرة ؛ فإن العارف يشغله علم اهلل تعالى‬
‫الخْلق استجهلوه ‪ ،‬ويكون أبداً في ميدان العظمة‬
‫عن جميع األسباب ‪ ،‬فإذا نظر إليه َ‬
‫ُّ‬
‫استجنوه ‪ ،‬ويكون بكلّيته فانياً بحب جالل عظمته تعالى ‪،‬‬ ‫وِلهاً بين َ‬
‫الخْلق ‪ ،‬فإذا رأوه‬
‫مشغوالً عن َمن سواه ‪ ،‬فإذا أبصروه استدهشوه ‪ ،‬وال يقدر أحد أن ُيخبِر عن المعرفة‬
‫ق‬ ‫فان تحت ِّ‬
‫اطالع الحق تعالى ‪ ،‬با ٍ‬ ‫باهلل تعالى ‪ ،‬فإنها منه َبدت وإ ليه تعود ‪ .‬فالعارف ٍ‬
‫ومحجوب‬
‫ٌ‬ ‫ميت ‪،‬‬‫وحي ّ‬
‫ت حي ‪ٌّ ،‬‬ ‫مي ٌ‬
‫على بساط الحق بال نفس وال سبب ‪ ،‬فهو ّ‬
‫ومكشوف محجوب ‪ ،‬تراه والهاً على باب أمره ‪ ،‬هائماً في ميدان ّبره‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مكشوف ‪،‬‬
‫مدالالً تحت جميل ستره ‪ ،‬فانياً تحت سلطان حكمه ‪ ،‬باقياً على بساط لُطفه ‪.‬‬
‫ْ‬
‫العارفون صارت أنفسهم فانية تحت بقائه وسلطانه عن كل حول وقوة ‪ ،‬تراهم باقين‬
‫بحوله وقوته ‪ ،‬متالشين عن كونهم وأسبابهم تحت جالل ألوهيته ‪ ،‬ملوكاً به دون‬
‫وعزهم به وذلّهم به‪.‬‬
‫مملكته ‪ ،‬فقرهم به وغناهم به ‪ّ ،‬‬

‫روى أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه السالم ‪ :‬يا داود اعرفني واعرف‬
‫ُي َ‬
‫نفسك‪ .‬فتف ّكر داود فقال‪ :‬إلهي عرفتك بالفردانية والقدرة والبقاء ‪ ،‬وعرفت نفسي‬
‫بالعجز والفناء‪ .‬فقال ‪ :‬اآلن عرفتني‪ .‬وروي في الخبر‪ :‬لو عرفتم اهلل تعالى حق‬
‫معرفته لعلمتم العلم الذي ليس بعده جهل ‪ ،‬ولزالت الجبال بدعائكم مع أنه ال ينتهي‬
‫أحد وال‬

‫‪ :‬أبو زكريا يحيى بن معاذ بن جعفر الواعظ الرازي‪ ..‬أقام ببلخ مدة ثم عاد إلى نيسابور ومات بها سنة ‪258‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫هـ‪ .‬ومن كالمه رضي اهلل عنه ‪:‬كيف يكون زاهداً من ال ورع له ‪ ،‬تورع عما ليس لك ‪ ،‬ثم ازهد فيما لك‬
‫[الطبقات الكبرى للشعراني ‪.]1/106‬‬

‫‪16‬‬
‫أعظم من أن ينتهي أحد إلى منتهى معرفته(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫يبلغ منتهى معرفته أن اهلل تعالى‬

‫عليه الرضوان والسالم ‪ :‬ال يعرف اهلل حق‬ ‫(‪)2‬‬


‫وقال اإلمام جعفر الصادق‬
‫معرفته من التفت منه إلى غيره ‪ ،‬المعرفة هي طيران القلب في سرادق األُنس‬

‫جواالً في ُح ُج ِب الجالل والقُدرة ‪ ،‬وهذه حالة من ُ‬


‫ص َّمت أذناه عن البطاالت‬ ‫واأللفة ‪ّ ،‬‬
‫‪ ،‬وعميت عيناه عن النظر إلى الشهوات ‪ ،‬وخرس لسانه عن التكلم بالتُُّّرهات(‪،)3‬‬
‫محمد بن واسع‬ ‫وسئل‬‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫أراهم‬ ‫به‬ ‫قال‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫الخلق‬
‫َ‬ ‫ترى‬ ‫(‪)4‬‬
‫وقيل ألبي يزيد‬
‫كالمهُ ‪ ،‬ودام‬ ‫َّ‬
‫هل عرفت ربك فسكت ساعةً ثم قال ‪ :‬من عرف اهلل تعالى قل ُ‬
‫(‪)5‬‬

‫تقرباً في جميع األحوال ‪،‬‬


‫وتحير مع االتصال ‪ُ ،‬م ِّ‬ ‫ُّ‬
‫تحيره ‪ ،‬وفني عن صور األعمال ‪ّ ،‬‬
‫بالحس وصورها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ولي الحال ‪ ،‬فإن األمور بحقائقها ال‬
‫منقطعاً عن الحال إلى ّ‬

‫أخرج ابن السني عن معاذ رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬لو عرفتم اهلل حق معرفته‬ ‫(‪)1‬‬

‫لمشيتم على البحور‪ ،‬ولزالت بدعائكم الجبال‪ ،‬ولو خفتم اهلل حق مخافته لعلمتم العلم الذي ليس معه جهل‪ ،‬ولكن لم‬
‫يبلغ ذلك أحد ‪ .‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬وال أنت؟ قال‪ :‬وال أنا؛ اهلل عز وجل أعظم من أن يبلغ أحد أمره كله [ كنز‬
‫العمال (الرسالة) ‪ 3/144‬برقم ‪ .]5893‬وإ تحاف السادة المتقين ‪9/75‬و ‪ 477‬والدر المنثور ‪ 1/196‬وحلية‬
‫األولياء ‪ 8/156‬وقال الحافظ العراقي في المغني ‪ :4/97‬وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند‬
‫ضعيف من حديث معاذ بن جبل رضي اهلل عنه‪ " :‬لو عرفتم اهلل حق معرفته لمشيتم على البجور ولزالت بدعائكم‬
‫الجبال "وانظر المغني ‪.4/267‬‬

‫أبو عبد اهلل جعفر الصادق بن محمد الباقر‪ ..‬وكان رضي اله عنه يقول‪ " :‬إذا سمعتم عن مسلم كلمة‬ ‫(‪)2‬‬

‫فاحملوها على أحسن ما تجدون‪ ،‬حتى ال تجدوا لها محمالً فلوموا أنفسكم "توفي بالمدينةـ سنة ‪ 148‬هـ‬
‫( الشعراني ‪ )1/42‬أي لوموا أنفسكم بسبب عجزكم عن إيجاد عذر أو محمل لتلك الكلمة‪.‬‬
‫الترهات ‪ :‬األباطيل ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫محمد بن واسع بن جابر األزدي‪ ،‬أبو بكر‪ :‬فقيه ورع‪ ،‬من ثقات أهل الحديث‪ ،‬توفي عام ‪ 123‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي مات سنة ‪ 261‬وقيل ‪ 234‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪17‬‬
‫قال أبو يزيد‪ :‬ليس على تحقيق بالمعرفة ‪ ،‬من رضي بالحال دون ولي الحال‬
‫لسانه ‪ ،‬ودهش عقله ‪ .‬العارف إن تكلم ِ‬
‫بحاله َهلَ ْك‪ ،‬وإ ن‬ ‫‪ .‬فإن من عرف اهلل َك َّل ُ‬
‫سكت احترق ‪ .‬قال أبو بكر الواسطي(‪ :)1‬المعرفة على وجهين‪ :‬معرفة اإليقان ‪،‬‬
‫واإلقرار‬
‫ُ‬ ‫المِلك ّ‬
‫الديان ‪،‬‬ ‫ومعرفة اإليمان ‪ ،‬فمعرفة اإليمان شهادةُ اللسان بتوحيد َ‬
‫بالجنان ‪،‬‬
‫الديان َ‬
‫بصدق ما في القرآن ‪ ،‬وأما معرفة اإليقان فهي دوام مشاهدة الفرد ّ‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬هي على ضربين ‪ ،‬األول هو أن يعرف أن النعمة من اهلل تعالى ‪ ،‬قال‬
‫اهلل تعالى (وما بكم من ٍ‬
‫نعمة فمن اهلل)(‪ )2‬فيقوم بشكره ‪ ،‬فيستزيد به النعمة من اهلل‬
‫بدليل قوله تعالى ‪( :‬لئن شكرتم ألزيدنكم)(‪ ،)3‬والثاني رؤية الم ِ‬
‫نعم من غير أن يلتفت‬ ‫ُ‬
‫نعم ‪ ،‬ويقوم بحق معرفته ومحبته ‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪:‬‬ ‫إلى النعمة فيزيد شوقه إلى الم ِ‬
‫ُ‬
‫(يا أيها النبي حسبك اهلل)(‪( ،)4‬فإن تولّوا فقل حسبي اهلل) ‪ ،‬وقال ذو النون‬
‫(‪)5‬‬

‫المصري‪ :‬هي على ثالثة أوجه ‪ :‬أولها معرفة التوحيد ‪ ،‬وهي لعامة المؤمنين ‪،‬‬
‫الح ّج ِة والبيان ‪ ،‬وهي للعلماء والبلغاء والحكماء ‪ ،‬والثالث معرفة‬
‫والثاني معرفة ُ‬
‫صفات الفردانية ‪ ،‬وهي ألهل والية اهلل تعالى وأصفيائه الذين أظهر اهلل لهم ما لم‬
‫ي َمن ال‬
‫ُيظهر لمن دونهم ‪ ،‬وأعطاهم من الكرامات ما لم يجز أن يوصف ذلك بين َي َد ْ‬
‫خصهم اهلل من بين الخالئق واصطفاهم لنفسه واختارهم له ‪ ،‬فحياتهم‬
‫يكون أهالً له ؛ ّ‬
‫رحمة ومماتهم غبطة ‪ ،‬طوبى لهم ‪ .‬وقال غيره‪ :‬هي على وجهين ‪ :‬معرفة التوحيد ‪،‬‬
‫وهو إثبات وحدانية الواحد القهّار ‪ ،‬ومعرفة المزيد ‪ ،‬وهي التي ال سبيل ألحد إليها ‪.‬‬
‫أقول‪ :‬هي كشجر ٍة لها ثالثة أغصان توحيد وتجريد وتفريد ‪ ،‬فالتوحيد بمعنى‬
‫اإلقرار ‪ ،‬والتجريد بمعنى اإلخالص ‪ ،‬والتفريد بمعنى االنقطاع إليه بالكلية في كل‬
‫حال ‪ .‬وأول مدارج المعرفة التوحيد ‪ ،‬وهو قطع األنداد(‪ ،)1‬والتجريد ‪ ،‬وهو قطع‬

‫‪ :‬أبو بكر محمد بن موسى الواسطي‪ ،‬من فرغانة‪ ،‬صحب الجنيد والنوري‪ ،‬أقام بمرو‪ ،‬ومات بها بعد عام‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 320‬هـ‪.‬‬
‫سورة النحل ‪.53‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة إبراهيم ‪.7‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة األنفال‪.64 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة التوبة‪.129 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫ند ‪ ،‬وهو النظير والمثل‪.‬‬


‫جمع ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫‪18‬‬
‫األسباب ‪ ،‬والتفريد وهو بمعنى االتصال بال سير وال عين وال دون ‪ ،‬ولها خمس‬
‫طرائق‪ .‬أولها ‪ :‬الخشية في السر والعالنية ‪ ،‬والثانية‪ :‬االنقياد له في العبودية ‪،‬‬
‫والنية ‪،‬‬
‫بالكلية ‪ ،‬والرابعة ‪ :‬اإلخالص له بالقول والفعل ّ‬
‫ّ‬ ‫والثالثة ‪ :‬االنقطاع إليه‬
‫والخامسة‪ :‬المراقبة في كل خطرة ولحظة‪.‬‬

‫وحكي عن عبدالباري قال‪ :‬خرجت مع أخي ذي النون فإذا نحن بصبيان‬


‫يرمون واحداً بالحجارة ‪ ،‬فقال لهم أخي‪ :‬ما تريدون منه ؟ قالوا‪ :‬هذا رج ٌل مجنون‬
‫شاب وسيم ‪،‬‬
‫‪ ،‬ومع ذلك يزعم أنه يرى اهلل تعالى ‪ ،‬قال‪ :‬فدنونا منه ‪ ،‬فإذا هو ٌ‬
‫ظهر عليه سيما العارفين ‪ ،‬فسلَّمنا عليه ‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنهم يزعمون أنك َّ‬
‫تدعي رؤية اهلل‬
‫ت من ساعتي‬ ‫عين لَ ُم ُّ‬ ‫ِ‬
‫طرفة ٍ‬ ‫تعالى ‪ ،‬فقال‪ :‬إليك عني يا بطّال(‪ ،)2‬لو فقدته أقل من‬
‫‪ ،‬وأنشأ يقول‪:‬‬

‫ِ‬
‫الحبيب لقاهُ‬ ‫ِ‬
‫الحبيب من‬ ‫ومنى‬ ‫ِ‬
‫الحبيب رضاهُ‬ ‫ِ‬
‫الحبيب من‬ ‫ب‬
‫طلَ ُ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫يالحظُه بعيني ِ‬
‫أبداً ِ‬
‫َّه ويراهُ‬
‫يعرف رب ُ‬
‫ُ‬ ‫والقلب‬
‫ُ‬ ‫قلبه‬ ‫َ‬
‫يريد ِسواهُ‬ ‫ِ‬
‫العباد ‪ ،‬فما ُ‬ ‫دون‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الحبيب بقربـه‬ ‫الحبيب من‬ ‫يرضى‬
‫َ‬
‫ُ‬

‫أما عند أهل األرض فنعم ‪ ،‬وأما عند أهل‬


‫فقلت له‪ :‬أمجنون أنت ؟ فقال‪ّ :‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف حالك مع المولى ؟ فقال ‪ :‬منذ عرفته ما جفوته ‪ ،‬فقلت منذ‬
‫السماء فال ‪ُ ،‬‬
‫كم عرفته ؟ قال‪ :‬منذ جعل اسمي في المجانين‪.‬‬

‫ط َل ‪ :‬العامل َبطالة (مثلثة الباء) ‪ :‬تعطل عن عمله‪ ،‬فهو بطّال‪.‬‬


‫َب َ‬
‫(‪)2‬‬

‫إليك عني يا َبطّال‪ :‬تنح عني ؛ ال شغل لك بهذا‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫الحديث الثاني‬
‫الكيس والعاجز ]‬
‫[ ِّ‬

‫المقري القاضي أبو الفضل علي الواسطي بمدرسته‬


‫أخبرنا شيخنا اإلمام ُ‬
‫طراد بن محمد بن علي الزينبي ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بواسط ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا الشريف النقيب أبو الفوارسـ‬
‫قراءة عليه ونحن نسمع ‪ ،‬قال ‪ :‬أنبأنا أبو الحسين علي بن محمد قال ‪ :‬أنبأنا أبو علي‬
‫الحسين بن صفوان قال‪ :‬أنبأنا أبو بكر عبد اهلل بن محمد بن أبي الدنيا ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا‬
‫الهيثم بن خارجة ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا بقية بن الوليد عني أبي بكر بن أبي مريم قال‪ :‬حدثني‬
‫حمزة بن جندب ‪ ،‬عن أبي يعلى شداد بن أوس قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫أتبع نفسه هواها‬
‫والعاجز َمن َ‬
‫ُ‬ ‫وع ِم َل ِلما َب ْع َد الموت ‪،‬‬
‫دان نفسه َ‬
‫ِّس َمن َ‬
‫وسلم ‪" :‬الكي ُ‬
‫بسر هذا الحديث ‪ ،‬هو المعرفةُ ‪ .‬نعم ‪ ،‬إن المعرفة من‬ ‫(‪)1‬‬
‫وتمنى على اهلل" فالعمل ِّ‬
‫ّ‬
‫العبد والتعريف من الرب تعالى ‪ ،‬وهي أشرف وأعظم الهدايا التي ُيهديها إلى عباده ‪،‬‬
‫ويفضله على من سواه من َخْل ِقه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فإن اهلل تعالى إذا أراد أن يختار عبداً من عبيده‬
‫ِ‬
‫المعرفة ينظر إليه بعين الفضل والرحمة ‪ ،‬ويفتح له أبواب‬ ‫شمس‬ ‫ِ‬ ‫وي ِْ‬
‫طل َع في س ّره َ‬
‫ويم َّن عليه بشرح القلب‬
‫وينعم ُ‬
‫الهداية ثم يكرمه باالنتباه ‪ ،‬ويوقظه من نومة الغافلين ‪ُ ،‬‬
‫وي ِ‬
‫كرمه بالحياء والخوف‬ ‫ويذهب عنه موت القلب بالفهم ‪ ،‬ويذهب عنه الوهم ‪ُ ،‬‬
‫‪ُ ،‬‬
‫ويذهب عنه الشك وجراءة‬
‫واليقين ‪ُ ،‬‬

‫أحمد في المسند (مسند شداد بن أوس رضي اهلل عنه) ‪ 13/272‬برقم ‪ 17059‬والترمذي‪ :‬صفة القيامة‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫باب‪ :‬الكيس من دان نفسه (الباب ‪ )26‬رقم ‪ 2461‬وقال أبو عيسى الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن‪ .‬وابن ماجه‪:‬‬
‫وصححه في الموضعين ووافقه الذهبي‬
‫ّ‬ ‫الزهد‪ ،‬باب ذكر الموت واالستعداد له ‪ 4260‬والحاكم ‪ 4/251‬و ‪1/57‬‬
‫راو في سنده ‪ ،‬هو ابن أبي مريم ‪ ،‬قال الحاكم عنه " ٍ‬
‫واه "‬ ‫في الجزء الرابع‪ ،‬وخالفه في الجزء األول‪ ،‬من أجل ٍ‬
‫وصححه ]‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتمنى على اهلل األماني" [ الجامع الصغير للسيوطي (الفكر) ‪ 2/303‬برقم ‪6468‬‬
‫ويروى‪ّ .." :‬‬
‫ُ‬

‫‪20‬‬
‫األمن ‪ ،‬فإذا اجتمعت في العبد هذه الخصال ‪ ،‬أشرق فؤاده بنور‪ ،‬فيرى ما دون ُح ُج ِب‬
‫لهبات النيران ‪ ،‬ولو أن المعرفة نقشت‬
‫ُ‬ ‫الجبروت ‪ ،‬وتشتاق إليه ال ِجنان ‪ ،‬ويخمد منه‬
‫على شيء ما نظر إليها أحد إال مات ِمن حسنها وجمالها ‪ ،‬لكل أحد رأس مال ‪ ،‬وهي‬
‫رأس مال المؤمن ‪.‬‬
‫ُ‬
‫عرفت اهلل فحسبك اهلل ‪،‬‬
‫َ‬ ‫كنت‬
‫وقال رجل لذي النون ‪ّ :‬إني ألحبك ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن َ‬
‫وإ ن لم تعرفه فاطلب َمن يعرفه حتى يدلك عليه ‪.‬‬
‫ك في بستانه ‪ٍ ،‬‬
‫ثمينة جواهرها ‪ ،‬مثمر ٍة‬ ‫وعندي أن المعرفة كشجرة يغرسها مل ٌ‬
‫ٍ‬
‫رفيعة فروعها ‪ ،‬نقية أرضها ‪ ،‬عذب‬ ‫ٍ‬
‫طريفة أوراقها ‪،‬‬ ‫أغصانها ‪ ،‬حلو ٍة ثمارها ‪،‬‬
‫مسرور بحسن زهرتها ‪ ،‬يدفع‬
‫ٌ‬ ‫لعزتها ‪،‬‬
‫مشفق عليها ّ‬
‫ٌ‬ ‫طيب ريحها ‪ .‬صاحبها‬
‫ماؤها ‪ّ ،‬‬
‫البليات ‪ ،‬وكذلك شجرةُ المعرفة التي يغرسها اهلل تعالى في‬
‫عنها اآلفات ‪ ،‬ويمنع عنها ّ‬
‫سحائب‬
‫َ‬ ‫بستان قلب عبده المؤمن ‪ ،‬فإنه يتعهّ ُدها بكرمه ‪ ،‬ويرسل عليها كل ساعة‬
‫قطرات الكرامة ‪ ،‬برعد القُدرة ‪ ،‬وبرق‬‫ِ‬ ‫فيمطر عليها‬ ‫ِ ِ‬
‫المّنة من خزائن الرحمة ‪ُ ،‬‬
‫نسيم لطائف الرأفة ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المشيئة ‪ ،‬ليطهِّرها من ُغ ِ‬
‫بار رؤية العبودية ‪ ،‬ثم ُيرسل عليها َ‬
‫يطوف‬ ‫بالصيانة والوقاية ‪ ،‬فالعارف أبداً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ليتم لها شرف الوالية ّ‬ ‫من ُح ُجب العناية ‪ّ ،‬‬
‫منجل األدب ما فسد من‬ ‫ويشم من رياحينها ‪ ،‬ويقطع منها بِ ْ‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫بس ّره تحت ظاللها ‪،‬‬
‫ِ‬
‫العارف تحتها ‪ ،‬ودام‬ ‫وحل فيها من الخبث واآلفة ‪ ،‬فإذا طال مقام ِس ّر‬
‫ثمارها ‪َّ ،‬‬
‫ثمارها بأنام َل‬
‫فيمد إليها يد الصفاء ‪ ،‬ويجتبي َ‬ ‫جوالنه حولها ‪ ،‬هاج أن يتلذذ ِ‬
‫بثمارها ‪ّ ،‬‬
‫يد االنبساط‬
‫نار االستغراق ‪ ،‬فيضرب َ‬ ‫ِ‬
‫الحرمة ‪ ،‬ثم يأكلها بفم االشتياق ‪ ،‬حتى تغلبه ُ‬
‫ُ‬
‫الحق سكرةً ال ُيفيق‬
‫ّ‬ ‫إلى بحر الوداد ‪ ،‬ويشرب منه شربةً يسكر بها عن كل ما سوى‬
‫منها إال عند المعاينة ‪ ،‬ثم يطير بجناح ال ِه ّمة ‪ ،‬إلى ما ال تدركه أوهام الخالئق ‪.‬‬
‫وقيل للواسطي ‪ :‬أي الطعام أشهى ؟ قال‪ :‬لُقمةٌ ِمن ِذكر اهلل تعالى ‪ ،‬تُرفَعُ بيد‬
‫الخْل ِد ‪ ،‬عند ُحسن ال ّ‬
‫ظن باهلل تعالى ‪.‬‬ ‫اليقين ‪ ،‬من مائدة ُ‬

‫‪21‬‬
‫يخرج أكثر أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا طيباتها المقصودة‬ ‫ُ‬ ‫قال النساج (‪:)1‬‬
‫المحبة‬ ‫وأنس‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫سرور المعرفة ‪ ،‬وحالوةُ المّنة ‪ ،‬ولذائ ُذ القُربة ‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫‪ ،‬قيل‪ :‬وما هي ؟ قال‪:‬‬
‫‪.‬‬
‫أن ال ُي ِذ ّل نفسه لغيره ‪،‬‬
‫أعزه اهلل بمعرفته ْ‬
‫ق لمن ّ‬‫وقال محمد بن واسع ‪ُ :‬ح َّ‬
‫ق لمن أكرمه اهلل بصحبته أن ال يميل‬ ‫وح َّ‬ ‫وح َّ ِ‬
‫ق ل َم ْن وااله اهلل بواليته أن يقوم بحقه ‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫إلى غيره‪ ،‬وال يعمل بهوى نفسه ‪.‬‬
‫حباً هلل‬
‫تطير به قلوبهم ّ‬
‫وقال أبو يزيد‪ :‬إن في الليل شراباً لقلوب العارفين ‪ُ ،‬‬
‫إن الناظرين إليه ال إلى غيره ذهبوا بصفو ِة الدنيا واآلخرة ‪.‬‬
‫وشوقاً إليه‪ ،‬أال ّ‬
‫التحير ‪ ،‬وهو على ضربين ‪ :‬تحير َوحشة وتحير‬ ‫أقول‪ :‬وهذا الشراب هو ُّ‬
‫ِ‬
‫الدهشة للعارفين المشتاقين ‪ ،‬يا دليل‬ ‫الوحش ْة للمطرودين ‪ُّ ،‬‬
‫وتحي ُر‬ ‫َدهشة ‪ُّ ،‬‬
‫فتحي ُر ْ‬
‫المتحيرين زدني ُّ‬
‫تحيراً‪.‬‬

‫وعمر طويالً ‪ ،‬وكان رضي اهلل عنه‬


‫النساج ‪ :‬أصله من ُس َّر من رأى ‪ ،‬إال أنه أقام ببغداد ّ‬
‫أبو الحسين خير ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫يقول‪ :‬العمل الذي يبلغ فيه العبد إلى الغايات هو رؤية التقصير والعجز والضعف (الطبقات الكبرى للشعراني‬
‫النساج) ‪ ،‬ألنه خرج إلى الحج ‪ ،‬فأخذه رجل‬
‫‪ .)1/136‬وقيل كان اسمه محمد بن إسماعيل ‪ ،‬وإ نما ُس ّمي (خيراً ّ‬
‫على باب الكوفة وقال‪ :‬أنت عبدي ‪ ،‬وإ سمك خير ‪ ،‬وكان (محمد بن إسماعيل) أسود ‪ ،‬فلم يخالفه ‪ ،‬واستعمله‬
‫الخز‪( ..‬الرسالة القشيرية ‪.)89‬‬
‫الرجل في نسج ّ‬

‫‪22‬‬
‫الحديث الثالث‬
‫[ اإلسالم واإليمان]‬

‫أخبرنا العبد الصالح الثقة الشيخ أبو محمد بن عبداهلل بن الحسين بن أحمد بن‬
‫الواسطي ‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن كاتب‬
‫ّ‬ ‫اآلمدي‬
‫ُّ‬ ‫جعفر‬
‫إمالء بجامع واسط ‪،‬‬
‫ً‬ ‫الوقف بواسط ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبوالحسن محمد بن علي الرواسي‬
‫قال‪ :‬أنبأنا أبو القاسم عبيداهلل بن تميم ‪ ،‬قال‪ :‬أنبانا أحمد بن إبراهيم اإلمام ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا علي بن حرب بن زيد بن الحباب ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا علي بن َم ْسعدة الباهلي ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا قُتادة ‪ ،‬أنه سمع أنس بن مالك يقول ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫واإليمان في القلب والتقوى ها ُهنا" ‪ ،‬يقولها ثالثاً ويشير بيده إلى‬
‫ُ‬ ‫"اإلسالم عالنيةٌ‬
‫تقر في القلب ‪ ،‬فتُ ْح ِكم فيه اإليمان ‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫صدره صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬والتقوى التي ُّ‬
‫هي روح المعرفة ‪.‬‬
‫أي سادة ‪ ،‬إن اهلل تعالى جعل لكل شيء قَ ْدراً ‪ ،‬ولكل قَ ْد ٍر ّ‬
‫حداً ‪ ،‬ولكل حد سبباً‬
‫‪ ،‬ولكل سبب أجالً ‪ ،‬ولكل أجل كتاباً ‪ ،‬ولكل كتاب أمراً ‪ ،‬ولكل أمر معنى ‪ ،‬ولكل‬
‫معنى صدقاً ‪ ،‬ولكل صدق حقا ‪ ،‬ولكل حق حقيقة ‪ ،‬ولكل حقيقة أهالً ‪ ،‬ولكل أهل‬
‫المبطل ‪ ،‬وكل قلب أقعده على بساط تحقي ِ‬
‫ق‬ ‫المحق من ُ‬
‫ّ‬ ‫ف‬
‫عالمة ‪ ،‬فبالعالمة ُي ْع َر ُ‬
‫المعرفة ‪ ،‬وقع بسيماء المعرفة على وجهه ‪ ،‬ويظهر أثرها في حركاته وأفعاله‬

‫إسناده حسن‪ .‬ورواه أحمد في المسند (دار الحديث) ‪ 10/437‬برقم ‪ 12322‬والسيوطي في الجامع الصغير‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 1/474‬رقم ‪ 3060‬عن ابن أبي شيبة ورمز إلى ضعفه ‪ ،‬وفي الدر المنثور ‪ 6/100‬وصححه في كنز العمال‬
‫للهندي (الكتاب األول من حرف الهمزة‪ /‬حقيقة اإليمان) برقم ‪ 44‬عن أحمد والنسائي وأبي يعلى‪ .‬وهو في الكنز‬
‫أيضاً برقم ‪ 19‬عن ابن أبي شيبة‪ .‬ورواه الذهبي في ميزان االعتدال ‪ 5941‬والهيثمي في مجمع الزوائد (الفكر)‬
‫‪ 1/212‬برقم ‪ 160‬وقال‪ " :‬رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه ‪ ،‬والبزار باختصار ‪ ،‬ورجاله رجال الصحيح ما خال‬
‫وضعفه آخرون"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين ‪،‬‬
‫علي ابن مسعدة ‪ ،‬وقد وثقه ابن ّ‬

‫‪23‬‬
‫يماهم)(‪ ،)1‬وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬‬ ‫ِ‬
‫وأقواله ‪ ،‬كما قال اهلل تعالى‪( :‬تَ ْع ِرفُ ُهم ِبس ْ‬
‫أسر سريرة ألبسه اهلل رداءها ‪ ،‬إن خيراً فخير ‪ ،‬وإ ن شراً فشر"(‪.)2‬‬
‫من َّ‬
‫وقيل ليحيى بن معاذ ‪ :‬ما بال العارفين أحسن وجوهاً ‪ ،‬وأكثر هيبةً ِم ْن‬
‫غيرهم ؟ فقال‪ :‬ألنهم خلوا باهلل مستأنسين ‪ ،‬وقربوا إلى اهلل متوجهين ‪ ،‬وفزعوا إليه‬
‫متوالهين فكساهم اهلل بنور معرفته ‪ ،‬فيه ينطقون ‪ ،‬وله يعملون ‪ ،‬ومنه يطلبون ‪ ،‬وإ ليه‬
‫خواص اهلل السابقون ‪ ،‬سعيهم في طاعة اهلل من غير عالقة ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يرغبون ‪ ،‬أولئك‬
‫قلوبهم له ِ‬
‫وجلة ‪،‬‬ ‫وينصحون العامة من غير طمع ‪ ،‬مشتاقون منيبون إلى اهلل تعالى ‪ُ ،‬‬
‫مغشية ‪ ،‬وأرواحهم ياسينية ‪ ،‬كلهم‬
‫ّ‬ ‫نفوسهم وحشية وقلوبهم َع ْرشية ‪ ،‬وعقولهم‬
‫ُ‬
‫كر اهلل يحميه من شر الوسواس ‪ ،‬صدره مشروح ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫معصوم بلقبه عن فتنة الناس ‪ ،‬وذ ُ‬
‫ٌ‬
‫قلبه مثل القنديل ‪،‬‬
‫وجسمه مطروح ‪ ،‬وقلبه مجروح ‪ ،‬وباب الملكوت له مفتوح ‪ُ ،‬‬
‫وجوارحه خاضعة كالمنديل ‪ ،‬لسانه مشغو ٌل بتالوة القرآن ‪ ،‬ولونه ُمصفٌَّر من خوف‬
‫نفسه مشغولةٌ‬
‫زاهر بنور اإليمان ‪ُ ،‬‬
‫الهجران ‪ ،‬ونفسه ذائبةٌ في خدمة الرحمن ‪ ،‬وقلبه ٌ‬
‫وروحهُ مشغولةٌ بقُرب الرب ‪ ،‬على لسانه وصف الربوبية ‪ ،‬وعلى أركانه‬ ‫ُ‬ ‫بالطلب ‪،‬‬
‫أثر العبودية ‪ ،‬وفي قلبه هيبة الفردانية ‪ ،‬وفي ِس ِّره‬
‫خدمةُ الديمومية ‪ ،‬وعلى نفسه ُ‬
‫أفواههُم إليه ضاحكة ‪ ،‬وأعينهم‬‫ُ‬ ‫الطرب باأللوهية ‪ ،‬وفي روحه شغف الوجدانية ‪،‬‬
‫ُ‬
‫وأسرارهم إليه ناظرة ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وهمومهم إليه واصلة ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقلوبهم به متعلقة ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نح َوه طامحة ‪،‬‬
‫ْ‬
‫رموا ذنوبهم في بحر التوبة ‪ ،‬وطرحوا طاعاتهم في بحر ِ‬
‫المّنة ‪ ،‬وضمائرهم في بحر‬ ‫َ َْ‬
‫العظم ‪ ،‬ومرادهم في بحر الصفو ‪ ،‬وهممهم في بحر المحبة ‪ ،‬في ميدان خدمته‬
‫يتقلّبون ‪ ،‬وتحت ظالل كرمه‬

‫سورة البقرة ‪.273‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫الجامع ألحكام القرآن للقرطبي ‪ 13/326‬وكشف الخفاء (العرفان والغزالي) ‪ 2/226‬برقم ‪ 2375‬وقال‬ ‫(‪)2‬‬

‫الشيخ إسماعيل العجلوني‪ :‬رواه ابن أبي الدنيا في اإلخالص عن عثمان رضي اهلل عنه بلفظ ‪ :‬ما من عبد َي ُس ُّر‬
‫رده اهلل رداءها عالنية ‪ ،‬إن خيراً فخير ‪ ،‬وإ ن شراً فشر‪ ..‬قال النجم‪ :‬وسنده صحيح ‪.‬‬
‫سريرة إال ّ‬

‫‪24‬‬
‫يشمون ‪ .‬ينظرون إلى‬
‫يتنفسون ‪ ،‬وفي رياض رحمته يرتَ ُعون ومن رياحين امتنانه ّ‬
‫الدنيا بعين االعتبار ‪ ،‬وإ لى اآلخرة بعين االنتظار ‪ ،‬وإ لى أنفسهم بعين االحتقار ‪،‬‬
‫وإ لى طاعتهم بعين االعتذار ال االستكثار ‪ ،‬وإ لى الغفران بعين االفتقار ‪ ،‬وإ لى‬
‫المعرفة بعين االستبشار ‪ ،‬وإ لى المعروف سبحانه بعين االفتخار ‪ .‬يرمون أنفسهم‬
‫إلى البلوى ‪ ،‬وأرواحهم إلى العقبى ‪ ،‬وقلوبهم إلى النجوى ‪ ،‬وأسرارهم إلى المولى‪.‬‬
‫أنفسهم تاركةٌ للدنيا ‪ ،‬وأرواحهم للعقبى ‪ ،‬وقلوبهم مستأنسة بالذكرى ‪ ،‬وأسرارهم‬
‫بحب المولى ‪ .‬قلوبهم معدن التعظيم والهيبة ‪ ،‬وألسنتهم معادن الحمد ِ‬
‫والم ْدحة ‪،‬‬
‫وأرواحهم مواطن الشوق والمحبة ‪ ،‬وأنفسهم مقهورة تحت سلطان العقل والفطنة ‪،‬‬
‫وأكثر همتهم التفكير والعبرة ‪ ،‬وأكثر كالمهم الثناء ِ‬
‫والم ْدحة ‪ .‬عملهم الطاعة‬
‫فراً من خوف‬ ‫ِ‬
‫صّ‬ ‫والخدمة ‪ ،‬ونظرهم إلى لطائف صنع رب الع ّزة ‪ .‬أحدهم تراه ُم ْ‬
‫ذائب األطراف من هيبة جالله ‪ ،‬طويل االنتظار شوقاً إلى لقائه ‪ ،‬سلك‬
‫فراقه ‪َ ،‬‬
‫طريق المصطفى صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ورمى الدنيا خلف القفا ‪ ،‬وأذاق الهوى طعم‬
‫الجفا ‪ ،‬وقام على قدم صدق الوفا ‪ ،‬حاله في الدنيا غريب ‪ ،‬وقلبه في صدره غريب ‪،‬‬
‫وو ْح َشتها ‪ ،‬ما لم يصل إلى‬
‫الغ ْربة َ‬
‫وسره في نفسه غريب ‪ ،‬فال يستريح من َغ ّم ُ‬
‫ُّ‬
‫فرداني ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وجداني ‪ ،‬وقلبه‬
‫ّ‬ ‫الحبيب ‪ ،‬فأمره عجيب ‪ ،‬والمولى له طبيب ‪ ،‬وكالمه‬
‫صمداني ‪ ،‬وعي ُشه روحاني ‪ ،‬وعمله نوراني ‪ ،‬وحديثه سماوي‬ ‫رباني ‪ ،‬وهمه َ‬‫وعقله ّ‬
‫بحِل ّي ربوبيته ‪ ،‬وأدخله دار‬
‫وزينه ُ‬
‫‪ .‬جعل اهلل قلبه موضع سره وموطن نظره ‪ّ ،‬‬
‫عزته ‪ ،‬ويرتع في روضات قُ ْدسه ‪ ،‬ويطير‬ ‫اإلمارة من سلطانه ‪ ،‬يدور بالفؤاد حول ّ‬
‫وح ُج ِب جبروته ‪ ،‬لو‬
‫بجناح المعرفة في سرادقات غيبه ‪ ،‬ويجول في ميادين قدرته ‪ُ ،‬‬
‫عالمتُه في الدنيا أن يكون‬
‫َ‬ ‫رآه الجاهل بشأنه مات فزعاً بعد معرفته له من ساعته ‪.‬‬
‫البالء عنده عسالً ‪ ،‬واألحزان رطباً ‪ .‬وفي اآلخرة كل واحد يقول ‪ :‬نفسي نفسي ‪،‬‬
‫ُ‬
‫ربي ‪ُ ،‬مرادي مرادي ‪ .‬العارف عالمته أربعة ‪ُّ :‬‬
‫حبهُ الجلي َل ‪،‬‬ ‫ربي ّ‬
‫وهو يقول ‪ّ :‬‬
‫صب ‪،‬‬
‫العابد ذو َن َ‬
‫ُ‬ ‫باعه التنزيل ‪ ،‬وخوفه من التحويل ‪.‬‬
‫الكثير والقليل ‪ ،‬واتّ ُ‬
‫َ‬ ‫وتركه‬
‫والخائف ذو َهرب ‪ ،‬والمحب ذو َش َغب ‪ ،‬والعارف ذو طرب ‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الحديث الرابع‬
‫[ ذو الوجهين]‬

‫الم ْقري القاضي أبو الفضل علي الواسطي‬


‫أخبرنا شيخنا الولي التقي الثقة ُ‬
‫القرشي بمدرسته في واسط ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد ‪،‬‬
‫قال‪ :‬أنبأنا علي أبو طاهر الحسن بن الوزير أبي القاسم علي بن صدقة بن علي ‪،‬‬
‫قال‪ :‬أنبأنا أبو المطهَّر سعد بن عبداهلل األصبهاني ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو نعيم أحمد بن‬
‫عبداهلل بن أحمد الحافظ ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو محمد عبداهلل بن جعفر بن فارس ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبو مسعود أحمد بن الفرات ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو داود الحضري ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا ابن‬
‫الربيع عن نعيم بن حنظلة ‪ ،‬عن عمار بن ياسر رضي اهلل عنه ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬ذو الوجهين في الدنيا ذو لسانين في النار"(‪ )1‬ولهذا صرف‬
‫العارفون وجوههم إلى اهلل تعالى فلن ترى للعارف وجهين أصالً ومن هذا السر‬
‫أُمروا بعدم الجمع بين أستاذين ‪ ،‬وقالوا‪ :‬إذا ُوجد األكمل األفضل في طريق اهلل تعالى‬
‫‪ ،‬األصح اتباعاً لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فعلى المريد أن يتمسك به ‪ ،‬بل على‬
‫ضرب من‬
‫ٌ‬ ‫كل َم ْن كان يزعم المشيخة أن يلتحق به هو وأوالده في الطريق‪ ،‬وهذا‬
‫أعظم أضراب المعرفة باهلل‪.‬‬

‫أبو داود‪ :‬األدب ‪ ،‬باب في ذي الوجهين ‪ 4873‬والهيثمي في موارد الظمآن (مؤسسة الرسالة) ‪2/879‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫وحسنه ابن حبان (صحيحه ‪ )5756‬والترغيب والترهيب (طبعة ابن‬


‫ّ‬ ‫(األدب‪ ،‬باب ذي الوجهين) برقم ‪1979‬‬
‫كثير وشركائه ط‪ 3/568 )1‬رقم ‪ .4350‬ورواه بسندينـ آخرين ضعيفين وبلفظين مقاربين في ‪ 4349‬و‬
‫وحسنه‪ ،‬والهيثمي في‬
‫‪ ،4351‬وروى نحوه السيوطي في الجامع الصغير (دار الفكر) ‪ 1/667‬برقم ‪ّ ،4345‬‬
‫مجمع الزوائد (الفكر) ‪ ( 8/179‬األدب‪ :‬باب الوجهين واللسانين الباب ‪ ) 13154 – 13151( 126‬وأبو نعيم‬
‫في حلية األولياء ‪ 2/160‬وابن أبي الدنيا في الصمت ‪ 282‬والطبراني في الكبير ‪ 1697‬و ‪ 9168‬واألوسط‬
‫‪.6278‬‬

‫‪26‬‬
‫أي سادة ‪ ،‬اعلموا أن العارفين على أصناف مختلفة ‪ ،‬ومناهج متفاوتة ‪،‬‬
‫وأنواع متفرقة ‪ ،‬ومناز َل متنوعة ‪ ،‬فمنهم َم ْن عرف اهلل بالقَ ْد ِر‬
‫ٍ‬ ‫متلونة ‪،‬‬
‫ومراتب ّ‬
‫َ‬
‫فخافه ‪ ،‬ومنهم من عرفه بالفضل فأحسن الظن به ‪ ،‬ومنهم َم ْن عرفه بالمراقبة فاعتقد‬
‫الصدق ‪ ،‬ومنهم من عرفه بالعظمة فاعتقد الخشية ‪ ،‬ومنهم َم ْن عرفه بالكفاية فاعتقد‬
‫االفتقار إليه ‪ ،‬ومنهم من عرفه بالفرادنية فاعتقد الصَّفوة ‪ ،‬ومنهم َم ْن عرفه به فاعتقد‬
‫وو ْجدان حسن الظن على قدر‬ ‫الوصلة ‪ِ ،‬‬
‫فوج َد أن الخوف على قدر عرفان القدرة ‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫ِع ْرفان العظمة ‪ ،‬ووجدان االفتقار على قدر عرفان الكفاية ‪ ،‬ووجدان الصَّفوة على‬
‫ِّ‬
‫الرب تعالى ‪ ،‬وكذلك أهل‬ ‫قدر عرفان الفردانية ‪ ،‬ووجدان الوصلة على قدر عرفان‬
‫والح ْرمة ‪ ،‬ومقام بعضهم‬
‫الحياء ُ‬
‫ُ‬ ‫السموات في العبادة على مقامات ‪ ،‬فمقام بعضهم‬
‫القُربةُ والمؤانسة ‪ ،‬ومقام بعضهم رؤيةُ ِ‬
‫المَّنة ‪ ،‬ومقام بعضهم المراقبة ‪ ،‬ومقام‬ ‫َُ‬ ‫ْ‬
‫(‪)1‬‬
‫مقام معلوم) ‪ ،‬فأهل المعرفة‬ ‫ِ‬
‫بعضهم الهيبة ‪ ،‬كما قال اهلل تعالى‪ ( :‬وما م ّنا إال له ٌ‬
‫عامتُهم يعرفونه على سبيل الخبر في التوحيد عن الصادق األمين ‪ ،‬سيدنا وسيد‬
‫َّ‬
‫العالمين محمد صلى اهللُ عليه وسلم ‪َّ ،‬‬
‫فصدقوه بقلوبهم وعملوا بأبدانهم ‪ ،‬إال أنهم‬
‫َّ‬
‫دنسوا أنفسهم بالذنوب والمعاصي ‪ ،‬فعاشوا في الدنيا على الجهل والتقصيرـ ‪ ،‬فهم‬
‫وأناس فوقهم يعرفونه بالدالئل ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أرحم الراحمين ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يرحمهم‬
‫َ‬ ‫على ٍ‬
‫خطر عظيم ‪ ،‬إال أن‬
‫والف ْكر ‪ ،‬أيقنوا بالتوحيد من ِقَب ِل الدالئل واآلثار وآيات‬
‫وهم أهل النظر والع ْقل ِ‬
‫َ‬
‫صحة الداللة ‪ ،‬فهم على طريق‬‫الربوبية ‪ ،‬استدلوا بالشاهد على الغائب ‪ ،‬واستيقنوا ّ‬
‫وخواص أهل‬
‫ُّ‬ ‫حسن ‪ ،‬إال ّأنهم عاشوا محجوبين عن اهلل تعالى برؤية دالئلهم ‪،‬‬
‫متمكنين مع معرفتهم ‪ ،‬ال‬‫المعرفة من أولي اليقين ‪ ،‬عرفوه به سبحانه ‪ ،‬فوقفوا ِّ‬
‫طفُهم األدلّة ‪ ،‬وال تصرفهم ِ‬
‫العلّة ‪ ،‬دليلهم رسول اهلل صلى اهللُ عليه وسلم ‪،‬‬ ‫تَ ْخ َ‬
‫كمثَ ِل إخوة‬
‫مامهم القرآن ‪ ،‬ونورهم يسعى بين أيديهم ‪ ،‬فمن عرفه تعالى بالخبر ‪َ ،‬‬ ‫وإ ُ‬
‫يوسف ‪ ،‬إذ عرفوا لونه وغفلوا عنه حتى افتضحوا بين‬

‫( ‪)1‬‬
‫سورة الصفات‪.164 :‬‬

‫‪27‬‬
‫كمثَ ِل‬
‫َ‬ ‫بالدالئل‬ ‫عرفه‬ ‫ومن‬ ‫(‪)1‬‬
‫يديه ‪ ،‬حيث‪( :‬قالوا إن يسرق فقد سرق أ ٌخ له من قبل)‬
‫يعقوب ‪ ،‬إذ عرف أن يوسف ُي َع ُّد في األحياء فازداد ُحزناً وبكاء ‪ ،‬واحتمل ما احتمل‬
‫ابيضت عيناه من الحزن ِعْلماً منه بحياته ‪ ،‬وشوقاً إلى لقائه ‪،‬‬
‫من أنواع البالء ‪ ،‬حتى َّ‬
‫ريح يوسف) ‪ ،‬حتى قال‬ ‫(إني ألجد َ‬
‫َّسوا من يوسف)‪ ،‬وقال‪ّ :‬‬ ‫حتى قال‪( :‬اذهبوا فتحس ُ‬
‫(‪)3‬‬
‫ف)‬
‫يوس َ‬ ‫ِ‬ ‫م ْن غفل عنه ‪( :‬قالوا ِ‬
‫تاهلل َّإن َك لفي‬
‫تفتؤا تذ ُك ُر ُ‬
‫ضالل َك القديم) وقالوا‪ُ ( :‬‬
‫(‪)2‬‬
‫َ‬
‫حين أخذه يوسف لنفسه ‪ ،‬فقال‪ :‬يا أخي‬ ‫(‪)4‬‬
‫ومثَ ُل َم ْن عرفه به ‪ ،‬كبنيامين‬
‫اآلية ‪َ ،‬‬
‫أمشاهدتي تريد أم الرجوع إلى أبيك؟ قال‪ :‬بل مشاهدتك أريد ‪ ،‬قال‪ :‬فإن أردتني‬
‫فاصبر على ِم ْحنتي ‪ ،‬قال‪ :‬نعم أحتمل ألجلك كل بلوى ‪ ،‬أليس أني أبقى معك وال‬
‫َّرقة‪ ،‬حتى عابه أه ُل مصر على‬ ‫الصاع من وعائه ‪ ،‬ونسبه إلى الس ِ‬
‫َ‬ ‫أفارقك ‪ ،‬ثم أخرج‬
‫ف‬‫ك في ِس ِّره ‪ ،‬ولم َي َخ ْ‬
‫مسرور ضاح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ذلك والموه ‪ ،‬وشتمه إخوته ‪ ،‬وهو في ذلك كلِّه‬
‫من لومة الالئمين ‪ ،‬فهذا َمثَ ُل َم ْن عرفه من أهل اليقين ‪.‬‬

‫وقال شيخ الطائفة اإلمام الحسن البصري(‪ )5‬رضي اهلل عنه‪ :‬أهل المعرفة في‬
‫ودمه ‪ ،‬وفزع إليها‬
‫لحمه َ‬
‫الدنيا على ثالث منازل ‪ ،‬رجل لقي العبادة فعانقها وخلط بها َ‬
‫وعِل َم أن اهلل تعالى رازقُه وكافيه ‪ ،‬فوثِ َ‬
‫ق بوعده فلم يشغل نفسه بشيء من‬ ‫قلبه ‪ً ،‬‬
‫ُ‬

‫سورة يوسف‪.77 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة يوسف‪.95 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة يوسف‪.85 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫هو شقيق يوسف بن يعقوب عليهما السالم ‪ ،‬وأمهما راحيل بنت البان (بنت خال يعقوب) وسائر إخوة يوسف‬ ‫(‪)4‬‬

‫عليه السالم إنما هم إخوته ألبيه فقط ‪ ،‬هكذا ذكر الحافظ ابن كثير في قصص األنبياء (الفكر) ‪.267‬‬
‫الحسن بن يسار البصري ‪ ،‬أبو سعيد ‪ 110-21‬هـ‪ ،‬من أفضل التابعين وأعلمهم‪ ،‬كان يقول‪ " :‬شر الناس‬ ‫(‪)5‬‬

‫للميت أهله يبكون عليه وال يهون عليهم قضاء َد ْيَنهُ " (طبقات الشعراني ‪ .)1/38‬وكان اإلمام الغزالي يقول‪" :‬‬
‫كان الحسن البصري أشبه الناس كالماً بكالم األنبياء"‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫واألرض بساطه ‪ ،‬وال يبالي على ُي ٍ‬
‫سر أصبح أم‬ ‫َ‬ ‫أمور الدنيا ‪ ،‬جعل السماء سقفه ‪،‬‬
‫يأتيه اليقين ‪ ،‬فهذا الضرب في الدنيا أعز من‬ ‫على ُعسر ‪ ،‬أمسى يعبد اهلل تعالى حتى َ‬
‫الكبريت األحمر ‪ .‬ورجل آخر لم يصبر كما صبر األول ‪ ،‬فطلب ِك ْس َرةً من ِحلِّها(‪،)1‬‬
‫ُّ‬
‫يستعف بها ‪ ،‬وهو‬ ‫يقيم بها صْلبه ‪ِ ،‬‬
‫وخ ْرقة يواري بها عورته ‪ ،‬وبيتاً يسكنه ‪ ،‬وزوجة‬ ‫ُ َُ‬
‫مع ذلك شديد الخوف عظيم الرجاء ‪ ،‬فهو على طريق حسن وأما الثالث فإنه ال‬
‫القصر المشيد ‪ ،‬ويركب المركب الفَ ِرهَ(‪ ،)2‬ويستخدم الخدم ‪،‬‬
‫َ‬ ‫يصدق اهلل بقوله ‪ ،‬فيبني‬
‫فليس له في اآلخرة من َخالق(‪ ،)3‬إال من يرحمه أرحم الراحمين‪.‬‬

‫مر بنفر من الناس ‪،‬‬


‫رأيت في بعض األخبار‪ :‬أن عيسى بن مريم عليه السالم َّ‬
‫قد نحلت أبدانهم ‪ ،‬وتغيرت ألوانهم ‪ ،‬فقال‪ :‬ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا‪ :‬الخوف‬
‫من النار ‪ ،‬فقال‪ :‬حق على اهلل أن ُي َؤ ِّم َن(‪ )4‬الخائف ‪ ،‬ثم بلغ إلى نفر آخر ‪ ،‬فإذا أبدانهم‬
‫أشد نحوالً ‪ ،‬وألوانهم أشد تغيراً ‪ ،‬فقال‪ :‬ما الذي بلغ بكم ؟ قالوا‪ :‬الشوق إلى ِ‬
‫الجنان ‪،‬‬
‫فقال‪ :‬حق على اهلل أن يعطيكم ما ترجون ‪ ،‬ثم مر حتى بلغ نفراً ثالثاً فإذا أبدانهم أشد‬
‫نحوالً وألوانهم أشد تغيراً ‪ ،‬فقال‪ :‬ما الذي بلغ بكم ما أرى؟ قالوا‪ :‬الحب هلل والشوق‬
‫المقربون ‪ ،‬ثالث مرات ‪ ،‬فأهل المعرفة‬
‫إليه ‪ ،‬فقال لهم عيسى عليه السالم ‪ :‬أنتم َّ‬
‫ثالث أصناف ‪ ،‬صنف يمشون على قدم االفتقار واالضطرارـ ‪ ،‬وصنف يمشون على‬
‫قدم االعتبار واالنكسار ‪ ،‬وصنف يمشون على قدم االفتخار واالستبشار ‪ ،‬قال اهلل‬
‫ظالم لنفسه) (‪.)5‬‬
‫تعالى‪( :‬فمنهم ٌ‬

‫أي طلب قليالً من حاللها‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫من الفراهة وهي الجمال والحسن‪ .‬والفره ‪ ،‬هو البطر‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫خالق‪ :‬نصيب‬ ‫(‪)3‬‬

‫(‪ )4‬ومن أسماء اهلل تعالى‪ :‬المؤمن‪ ،‬ألنه سبحانه " منبع كل أمن وتصديق‪ ،‬فكل َم ْن يدخل في حصنه فهو آمن‪..‬‬
‫فهو المؤمن من كل خوف "الدكتور ضياءالدين الجماس‪ُّ :‬‬
‫التفكر في األسماء (دار الهجرة ط‪ )1‬ص ‪ 110‬وما‬ ‫ّ‬
‫بعدها"‪.‬‬
‫سورة فاطر ‪.32‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪29‬‬
‫والناس في مشهد المعرفة على مرتبتين ‪ ،‬إما في يقظة المعرفة فهم في تربية‬
‫ُ‬
‫الوالية فينظرون الكرامة ‪ ،‬وإ ما في نوم الفضلة فهم في تربية العداوة ‪ ،‬فهم ينظرون‬
‫ص ِم ْن عبيده َم ْن شاء‬
‫األمانة ‪ ،‬إال أن يرحمهم أرحم الراحمين ‪ .‬فسبحان َم ْن َخ َّ‬
‫وأعطاهم ثم دعاهم إلى نفسه بفضله حيث قال‪( :‬وأنيبوا إلى ربكم)(‪ ،)1‬فأجابوه‬
‫بر ْجل الندامة على قدم الحياء‬ ‫ٍ‬
‫أصناف شتى ‪ ،‬فالتائبون يمشون ِ‬ ‫وأنابوا إليه ‪ ،‬فهم على‬
‫‪ ،‬والزاهدون يمشون برجل التوكل على قدم الرضا ‪ ،‬والخائفون يمشون برجل الهيبة‬
‫على قدم الوفاء ‪ ،‬والمحبون يمشون برجل الشوق على قدم الصفاء ‪ ،‬والعارفون‬
‫طعام أطعمه اهلل َم ْن شاء من عباده‬
‫ٌ‬ ‫يمشون برجل المشاهدة على قدم الفناء ‪ ،‬فالمعرفة‬
‫‪ ،‬فمنهم َم ْن يذوقه ذوقاً ‪ ،‬ومنهم َمن يأكل منه بالغاً ‪ ،‬ومنهم َمن يأكل منه َكفافاً ‪،‬‬
‫ومنهم َمن يأكل ِشَبعاً ‪ ،‬والناس في المعرفة على منازل ‪ ،‬فمنهم من يكون منزله‬
‫صر ‪ ،‬ومنهم من يكون منزله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كش ْعب ‪ ،‬ومنهم َمن يكون كقرية ‪ ،‬ومنهم من يكون كم ْ‬
‫منها كالدنيا واآلخرة ‪ُ .‬روي أن النبي عليه الصالة والسالم قال‪ " :‬إذا كان يوم‬
‫مناد أخرجوا ِمن النار َمن قال ال إله إال اهلل وفي قلبه حبة خردل من‬‫القيامة نادى ٍ‬
‫(‪)2‬‬
‫اإليمان"‬

‫سورة الزمر ‪.54:‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫عن أنس رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬يخرج من النار من قال ال إله إال اهلل وفي قلبه‬ ‫(‪)2‬‬

‫وزن شعيرة من خير‪ ،‬ويخرج من النار من قال ال إله إال اهلل وفي قلبه وزن ُب ّرة من خير‪ ،‬ويخرج من النار من‬
‫قال ال إله إال اهلل وفي قلبه وزن َذ ّرة من خير"‪ .‬قال أبو عبد اهلل (البخاري)‪ :‬قال أبان‪ :‬حدثنا قتادة‪ :‬حدثنا أنس‬
‫رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪( :‬من إيمان) مكان‪( :‬من خير) [ البخاري‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب زيادة‬
‫اإليمان ونقصانه‪ ،‬رقم ‪ ،44‬ومسلم‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ‪ ]193‬وعن أبي سعيد الخدري‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬يخرج ِمن النار َمن كان في قلبه مثقال ذرة من‬
‫اإليمان" أخرجه الترمذي (في صفة جهنم ‪ ،‬الباب العاشر‪ ،‬رقم ‪ 2601‬وقال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن صحيح)‬
‫وفي رواية ذكرها رزين أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬يدخل أهل الجنة الجنة‪ ،‬وأهل النار النار‪ ،‬ثم‬
‫يقول اهلل‪ :‬أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان "[جامع األصول البن األثير‬
‫(المبارك بن محمد ‪ 606-544‬هـ) (ط ‪ 2‬دار الفكر) ‪ 9/357‬رقم الحديث ‪.]700‬‬

‫‪30‬‬
‫وقد قال عليه أفضل الصالة والسالم ‪ " :‬اإلحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه(‪ ،)1‬فإن لم‬
‫تكن تراه فإنه يراك"‪ ،‬وما ذلك إال حقيقة المعرفة ‪ ،‬فيقول لهم الرب تعالى‪ :‬أنتم‬
‫إلي ‪ ،‬وشوقي إليكم ‪ ،‬السالم عليكم عبيدي ‪ ،‬فها أنا‬
‫عبيدي حقاً ‪ ،‬فقد طال شوقكم ّ‬
‫خلقت الجنة إال من أجلكم ‪ ،‬فلكم اليوم ما شئتم ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حبيبكم ‪ ،‬فبعزتي ما‬
‫وحكي أن مالك بن دينار(‪ )2‬وثابتاً البناني(‪ )3‬رحمهما اهلل ‪ ،‬دخال على رابعة‬
‫ُ‬
‫فقالت لمالك‪ :‬أخبرني لم تعبد ربك؟ قال‪ :‬شوقاً إلى الجنان ‪ ،‬فقالت لثابت‬ ‫(‪)4‬‬
‫البصرية‬
‫‪ :‬وأنت يا غالم؟ فقال‪ :‬خوفاً من النيران ‪ ،‬فقالت‪ :‬أنت يا مالك مثل أجير السوء ال‬
‫يعمل إال طمعاً ‪ ،‬وأنت يا ثابت مثل عبد السوء ‪ ،‬تعمل خوفاً من الضرب ‪ ،‬فقاال‪:‬‬
‫ِ‬
‫وأنت يا رابعة ‪ ،‬فقالت‪ :‬حباً هلل تعالى ‪ ،‬وشوقاً إليه‪.‬‬
‫كي أن ذا النون المصري رضي اهلل عنه كان يعظ الناس ذات يوم وهم‬
‫وح َ‬
‫ُ‬
‫فتى؟ فقال ينشد ويقول‪:‬‬ ‫يبكون‪ ،‬وفيهم ٌّ‬
‫شاب يضحك ‪ ،‬فقال له‪ :‬ما لك يا‬
‫ويرون النجاة حظاً جزيال‬ ‫كلُّهم يعبدون من خوف ٍ‬
‫نار‬
‫ٍ‬
‫رياض عيونها سلسبيال‬ ‫في‬ ‫فيضحوا‬
‫أو بأن يسكنوا الجنان ُ‬
‫بحبي بديال‬
‫أنا ال أبتغي ّ‬ ‫ليس في الخلد ِ‬
‫والجنان هوائي‬

‫مسلم‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب بيان اإليمان واإلسالم واإلحسان ‪ 8‬والترمذي‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب ما جاء في وصف جبريل‬ ‫(‪)1‬‬

‫للنبي صلى اهلل عليه وسلم اإلسالم واإليمان ‪ 2613‬وأبو داود في السنة‪ ،‬باب في القدر ‪ 4695‬والنسائي‪:‬‬
‫اإليمان‪ ،‬باب نعت اإلسالم ‪.8/97‬‬
‫مالك بن دينار‪ ،‬من رواة الحديث‪ ،‬بصري ورع‪ ،‬مات سنة ‪ 131‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫ثابت بن أسد البناني‪ .‬كان يقول‪ :‬إن أهل الذكر يجلسون للذكر وعليهم من الذنوب أمثال الجبال‪ ،‬فيقومون‬ ‫(‪)3‬‬

‫وليس عليهم ذنب واحد (الطقات الكبرى للشعراني ‪.)1/47‬‬


‫أم الخير رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية ‪ ،‬ماتت بحدود ‪ 180‬هـ‪ ،‬واقرأ إن شئت تاريخ شعراء العربية‬ ‫(‪)4‬‬

‫أحبت (رابعة) رب‬‫لمحمد حسني مصطفى‪ ،‬العصر العباسي األول‪ ،‬العدد التاسع (رابعة العدوية)‪ ،،‬وفيه‪ :‬لقد ّ‬
‫واتقاء لعذابه‪ ،‬حتى لو أنه‬
‫ً‬ ‫العالمين جل جالله ‪ ،‬وتجردت لعبادته ‪ ،‬وأيقنت أنه أه ٌل أن ُيعبد‪،‬ـ طمعاً برضاه وجنته‪،‬‬
‫عز وجل ما جعل ثواب المتقين جنة‪ ،‬وعذاب العاصين النار‪ ،‬لكان يستحق أن ُيعبد ؛ لجالل وجهه‪ ،‬وعظيم‬
‫ّ‬
‫صفاته‪ ،‬وإ حسانه الذي ال ُي َحد‪ ،‬وآالئه الغامرة" ({رابعةالعدوية ص‪ )6‬وهذا يحتاج الذين يتعرضون لهذه الفكرة‬
‫إلى دقة بالغة لدى التعبير عنها؛ فإن العالمة أبا العباس أحمد بن زروق يقول تعظيم ما عظم اهلل ُمتعيِّن واحتقار‬
‫ذلك ربما كان كفراً [ قواعد التصوف (مكتبة الكليات األزهرية ط‪.]136 ) 2‬‬

‫‪31‬‬
‫الحديث الخامس‬
‫انصر أخاك]‬
‫ْ‬ ‫[‬

‫أخبرنا شيخنا الصالح الثقة العارف باهلل القاضي أبو الفضل علي الواسطي‬
‫رضي اهلل عنه ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا القاضي أبو بكر محمد بن عبدالباقي بن محمد البزاز‪،‬‬
‫قال ‪ :‬أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي ‪ ،‬قال ‪ :‬أنبأنا أبو محمد بن‬
‫عبداهلل بن محمد البزاز ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو مسلم إبراهيم بن عبداهلل بن مسلم البصري ‪،‬‬
‫قال‪ :‬أنبأنا أبو عبداهلل األنصاري ‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا حميد عن أنس قال ‪ :‬قال رسول صلى‬
‫أنص ُرهُ مظلوماً فكيف‬
‫اهلل عليه وسلم ‪" :‬انصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً ‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫ك إياه"(‪ )1‬أقول ‪ :‬هذا بشأن أخيك ‪،‬‬
‫نصر َ‬
‫أنصره ظالما ً؟ قال‪ :‬تمنعه من الظلم فذلك ُ‬
‫نفوسكم وامنعوها وازجروها‪.‬‬
‫فكيف بك بشأنك ‪ ،‬أخيفوا َ‬

‫أي سادة ‪ ،‬للعارف أربع أجنحة ‪ ،‬الخوف ‪ ،‬والرجاء ‪ ،‬والمحبة ‪ ،‬والشوق ‪،‬‬
‫فال هو بجناح الخوف فيستريح من الهرب ‪ ،‬وال بجناح الرجاء فيستريح من الطلب ‪،‬‬
‫وال بجناح المحبة فيستريح من الطرب ‪ ،‬وال بجناح الشوق فيستريح من الشغب ‪،‬‬
‫الدمع مما عرفوا‬
‫ِ‬ ‫أعي َنهم تفيض من‬ ‫واهلل تعالى َّبي َن في كتابه ْ‬
‫نعتَهم بقوله ‪( :‬ترى ُ‬
‫من الحق)(‪ ،)2‬وقوله تعالى ‪( :‬ال تلهيهم تجارة)(‪ )3‬اآلية ‪ ،‬وذلك ألن عمل العارف‬
‫خالص للمولى ‪،‬‬
‫ٌ‬

‫وهو في صحيح البخاري هكذا‪ :‬عن أنس رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬انصر‬ ‫(‪)1‬‬

‫أخاك ظالماً أو مظلوماً قالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬هذا ننصره مظلوماً‪ ،‬فكيف ننصره ظالماً؟ قال‪ :‬تأخذ فوق يديه‬
‫(البخاري‪ :‬المظالم‪ ،‬باب‪ :‬أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً رقم ‪ .)2312‬وفي رواية‪" :‬تحجزه‪ ،‬أو تمنعه‪،‬ـ من الظلم‪،‬‬
‫فإن ذلك نصره" [ البخاري‪ :‬اإلكراه‪ ،‬باب‪ :‬يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه‪ ،‬رقم ‪.]6552‬‬
‫سورة المائدة‪.83 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة النور‪.37 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪32‬‬
‫وسره دائم النجوى ‪ ،‬وفكره‬
‫وقوله مستأنس بالذكرى ‪ ،‬ونفسه صابرة في البلوى ‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫فحينئذ‬ ‫ومرةً يجول حول سرادقات قدسه ‪،‬‬
‫فمرةً يتفكر في نعم ربه ‪َّ ،‬‬
‫باألفق األعلى ‪َّ ،‬‬
‫طرداً‬ ‫يصير ُح ّراً عبدا ً‪ ،‬وعبدا ُح ّراً ‪ ،‬وغنياً فقيرا ‪ ،‬وفقيراً غنياً ‪ ،‬هكذا ُّ‬
‫يعد ما أمكنه َ‬
‫وعكساً من األلفاظ ‪ ،‬مثل الموجود والمعروف ‪ ،‬والعزيز والمسرور ‪ ،‬والقريب‬
‫والمحمود ‪ ،‬والناطق والساكت ‪ ،‬والمقبول والخائف ‪ ،‬والشاهد والغائب ‪ ،‬والباكي‬
‫والضاحك ‪ ،‬وذلك ألن ضحكه وسروره في حزنه ‪ ،‬وحزنه في سروره ‪ِ ،‬‬
‫وع ُّزه‬
‫ممزوج بخوفه ‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ممزوج برجائه ‪ ،‬ورجاؤه‬
‫ٌ‬ ‫مختلطٌ ب ُذلِّه ‪ ،‬و ُذلّه مختلطٌ ِ‬
‫بع ِّزه ‪ ،‬وخوفه‬
‫يعيش مع الناس ‪،‬‬
‫ال خوف يذهب برجائه ‪ ،‬وال رجاء يذهب بخوفه ‪ ،‬وهو بنفسه ُ‬
‫وبقلبه مع اهلل تعالى ‪ ،‬ال تغلب معاملةُ نفسه مع الناس معاملةَ قلبه مع اهلل تعالى ‪،‬‬
‫غني ‪ ،‬كما قال أبو يزيد رضي اهلل عنه في مناجاته ‪ :‬إلهي‪،‬‬‫فقير ّ‬‫عزيز ذليل ‪ٌ ،‬‬
‫ٌ‬
‫قََّيدوني وأوثقوا ِ‬
‫الم ْسمــاراـ‬ ‫قلت قد دنا َح ُّل قَيدي‬
‫كلّما ُ‬
‫وكان يسي ُل الدمعُ من عينيه عند هذه الكلمة ‪ ،‬وليس كل َم ْن ُيرى عليه أثر‬
‫أثر الرغبة والحماقة والجنون والبطالة والغفلة‪.‬‬
‫الزهد فهو زاهد ‪ ،‬وكذلك ُ‬
‫إن اهلل تعالى كلما نظر إلى قلب عبد من عبيده بالفضل والرحمة كشف عنه‬
‫حجاب الغفلة ‪ ،‬وأظهر له لطائف القدرة ‪ ،‬فعند ذلك البد له من إحدى ثالث ‪ ،‬إما أن‬
‫يصير حكيماً يتصل به الخلق إلى اهلل ‪ ،‬وإ ما أن َّ‬
‫يكل لسانه فيصير مدهوشاً مبهوتاً ‪،‬‬
‫وإ ما أن يصير مستوراً في ُح ُجبِه ‪ ،‬محفوظاً في قبضته ‪ ،‬حتى ال يراه غيره لشدة‬
‫غيرته عليه ‪ ،‬فسبحان من حجب أهل معرفته عن جميع خلقه ‪ ،‬حجبهم عن أبناء‬
‫الدنيا بأستار اآلخرة ‪ ،‬وعن أبناء اآلخرة بأستار الدنيا ‪ ،‬وذلك أن أهل المعرفة‬
‫عرائس اهلل تعالى في أرضه ‪ ،‬واهلل َم ْح َر ُمهُم‪ ،‬ال َم ْح َر َم لهم غيره ‪ ،‬فهم عند اهلل‬
‫مخدورون‪.‬‬
‫وقد روي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه السالم ‪ :‬يا داود أوليائي في قباب‬
‫ال يعرفهم إال أوليائي ‪ ،‬فطوبى ألوليائي ‪ ،‬ثم طوبى ألحبائي ‪ ،‬يقال‪ :‬لو بدت َذ َّرةٌ من‬
‫نور النبي عليه الصالة والسالم الحترق ما بين العرش إلى الثرى‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫قيل لرابعة ‪ :‬ما كمال حال العارف ؟ قالت‪ :‬احتراقُهُ بحبه لربه ‪ ،‬وعالمته أن‬
‫وبالمكو ِن عن الكون ‪ ،‬مستغرقاً في بحار‬
‫ِّ‬ ‫بالمعطي عن العطاء ‪،‬‬
‫يكون مستغنياً ُ‬
‫سرور ِو ْجدانِه ‪ ،‬ساكناً بقلبه معه ‪ ،‬مع ترك كل اختيار لنفسه ‪ ،‬وال يجزع عند الشدائد‬
‫والبلوى لرؤيته ‪ ،‬ويعلم أن اهلل تعالى أقرب إليه من كل شيء ‪ ،‬وأرحم عليه من كل‬
‫وأكبر من كل شيء ‪ ،‬وأن لكل شيء خلفاً ما خال اهلل تعالى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أحد ‪ُّ ،‬‬
‫وأعز‬
‫الحبيب ِم ْن َخلَ ْ‬
‫ف‬ ‫ِ‬ ‫وما لف ْق ِد‬ ‫ف‬ ‫ٍ‬
‫شيء عدمتُ ُه َخلَ ْ‬ ‫ِّ‬
‫لكل‬
‫ميز الخواطر النفسية من الخواطر الروحية ‪،‬‬
‫وإ نما ُيعرف العارف ‪ ،‬إذا ّ‬
‫الس ْفلية ‪ ،‬فمن ُر ِز َ‬
‫ق التوفيق إلى‬ ‫ُخ َر ِوّية ‪ ،‬والهمم ُ‬
‫العْلوية من ُّ‬ ‫واإلرادة الدنيوية من األ ْ‬
‫حفظ حدود صدق وفاء العبودية ‪ ،‬والقيام بشروطها ‪ ،‬ووجد السبي َل إلى طريق حفظ‬
‫ِ‬
‫النفس‬ ‫فيصير مع‬
‫ُ‬ ‫تحقيقها ‪ ،‬ثم قام بذكره ‪ ،‬و َذ َك َر ِذ ْك َره ‪ ،‬ثم شكره ‪ ،‬و َش َك َر ُش ْك َرهُ ‪،‬‬
‫ق بال خلق‪.‬‬ ‫الخْل ِ‬
‫بال نفس ‪ ،‬ومع الروح بال روح ‪ ،‬ومع َ‬
‫كما قال اإلمام ابن عباس رضي اهلل عنهما ‪ :‬بلغنا أن عيسى ويحيى عليهما‬
‫الصالة والسالم بينما كانا يسيران في بعض الطُُرق ‪ ،‬فصدم يحيى امرأة ‪ ،‬فقال له‬
‫عيسى‪ :‬يا بن خالتي ‪ ،‬لقد أصبت اليوم ذنباً عظيماً ‪ ،‬قال‪ :‬ما هو؟ قال‪ :‬امرأة‬
‫نفسك معي ‪،‬‬
‫شعرت بها ‪ ،‬فقال عيسى‪ :‬سبحان اهلل ُ‬
‫ُ‬ ‫صدمتَها ‪ ،‬قال يحيى‪ :‬واهلل ما‬
‫قلبك وروحك ؟ فقال ‪ :‬عند اهلل ‪ ،‬يا عيسى لو سكن قلبي إلى جبريل ‪ ،‬أو إلى‬
‫فأين ُ‬
‫عرفت اهلل َّ‬
‫حق معرفته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لظننت ّأني ما‬
‫ُ‬ ‫أحد غير اهلل طرفةَ عين ‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬المعرفةُ خمسة أحرف ‪ ،‬فمن وجد في نفسه معناها فليعلم أنه من أهلها‬
‫ك نفسه ‪ ،‬وبالعين عب َداهلل على ِ‬
‫ص ْدق الوفاء ‪ ،‬وبالراء رغب إلى اهلل‬ ‫ََ‬ ‫‪ ،‬بالميم َملَ َ َ‬
‫فوض أمره إلى اهلل ‪ ،‬وبالهاء هرب من كل ما دون اهلل إلى اهلل ‪ ،‬فكل‬ ‫بال ُكلّية ‪ ،‬وبالفاء ّ‬
‫قدر‬‫ويعبد ربه على ْ‬
‫ُ‬ ‫عارف يملك نفسه بقدر معرفته بكبريائه تعالى وعظمته ‪،‬‬
‫ويفوض أمره إليه‬
‫معرفته بربوبيته ‪ ،‬ويرغب إليه على قدر معرفته بفضله وامتنانه ‪ِّ ،‬‬
‫على قدر معرفته بقدرته ‪ ،‬ويهرب إليه على قدر معرفته بملكه وسلطانه ‪ ،‬فهو‬
‫عارف‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫الحديث السادس‬
‫[ استجابة الدعوة]‬

‫حدثنا الشريف محمد بن عبدالسميع العباسي الهاشمي الواسطي ‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا‬


‫الحاجب أبو شجاع محمد بن الحسين ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا النقيب أبو الفوارسـ طراد بن محمد‬
‫ابن علي الزبيبي الهاشمي ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو محمد عبداهلل بن يحيى بن عبدالجبار‬
‫السكري ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبوبكر أحمد‬
‫ابن منصور الرمادي ‪ ،‬قال أنبأنا عبدالرزاق بن همام ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا َم ْع َمٌر عن‬
‫سماه(‪ ،)1‬عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى‬
‫الزهري عن رجل ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫دعوت فلم ُيستجب لي"‬‫ُ‬ ‫ستجاب ألحدكم ما لم َي ْع َج ْل فيقول‬
‫ُ‬ ‫اهلل عليه وسلم ‪ُ " :‬ي‬
‫ص ِد دون خالقه ‪ ،‬وهذا من ُنقصان المعرفة ‪ ،‬فإن‬ ‫ِ‬
‫والع َجلَةُ هنا من َغلََبة اإلشتغال بالقَ ْ‬
‫َ‬
‫العارف ال يشغله شيء عن ربه‪.‬‬
‫وسنذكر من أحوال العارفين أشياء بقصد التبرك بِ ِذ ْك ِر ِهم ‪ ،‬قال اهلل تعالى ‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ِ‬
‫الكتاب إبراهيم)(‪ )3‬وقال سبحانه‪ [ :‬نحن نقص عليك]‬ ‫(واذكر في‬
‫وفي الخبر‪ :‬اذكروا الصالحين ‪ ،‬عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة(‪ .)5‬فلوال ذلك لما‬
‫كان ينبغي لنا أن نشتغل بذكر غير اهلل تعالى ‪ ،‬ومع ذلك فإن اهلل تعالى معنا ‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫(‪)1‬‬
‫( وهو معكم أين ما كنتم)‬

‫هو أبوعبيد مولى ابن أزهر (البخاري (الخدمات الطباعية) ‪.)5/2335‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫(‪ )2‬البخاري‪ :‬الدعوات‪ ،‬باب‪ :‬يستجاب للعبد ما لم َي ْع َج ْل ‪ 5981‬ومسلم‪ :‬الذكر والدعاء والتوبة ‪ ،‬باب بيان أنه‬
‫ُيستجاب للداعي ما لم يعجل ‪.2735‬‬
‫سورة مريم ‪.41‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة يوسف ‪.3‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫إحياء علوم الدين (المعرفة) ‪ ،2/231‬قال الحافظ العراقي‪ :‬ليس له أصل في الحديث المرفوع‪ ،‬وإ نما هو من‬ ‫(‪)5‬‬

‫قول سفيان بن عيينة‪ ،‬كذا رواه ابن الجوزي في مقدمة صفة الصفوة =‬

‫‪35‬‬
‫ت‬
‫بيت المقدس فأضلَْل ُ‬
‫قصدت َ‬
‫ُ‬ ‫ُح ِك َي أن عبدالواحد بن زيد(‪ )2‬رحمه اهلل قال‪:‬‬
‫فقلت لها‪ :‬يا غريبة ‪ ،‬أنت ضالَّة؟ قالت‪ :‬كيف يكون‬‫إلي ُ‬ ‫طريقي ‪ ،‬فإذا بامرأة أقبلت َّ‬
‫غريباً َم ْن يعرفه ‪ ،‬وكيف يكون ضاالً من ُي ِحُّبهُ ‪ ،‬ثم قالت‪ :‬خذ رأس عصاي َّ‬
‫وتقدم‬
‫رأس عصاها ‪ ،‬ومشيت بين يديها سبعة أقدام أقل أو أكثر‪،‬‬ ‫فأخذت َ‬
‫ُ‬ ‫يدي مشيا ً‪،‬‬
‫بين َّ‬
‫كت عيني ‪ ،‬قلت‪ :‬لعل هذا غلط مني ‪ ،‬فقالت‪ :‬يا‬ ‫فإذا أنا في مسجد بيت المقدس ‪ ،‬فدلَّ ُ‬
‫والعارف يطير ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هذا سيرك سير الزاهدين ‪ ،‬وسيري سير العارفين ‪ ،‬فالزاهد يسير ‪،‬‬
‫وأنى يلحق السََّّي ُار الطََّّي َار؟ ثم غابت فلم أرها بعدها‪.‬‬
‫َّ‬
‫البحر ‪ ،‬إذ انكسرت‬
‫قال أبو عمران الواسطي رحمه اهلل‪ :‬كنت راكباً َ‬

‫(= [ المغني (بهامش اإلحياء) ‪ ] 2/231‬وإ تحاف السادة المتقين ‪ ،6/350‬وأسنى المطالب ‪ 140‬وفيه‪:‬‬
‫"حديث" "عند ذكر أهل الصالح تنزل الرحمة"‪ :‬ال أصل له‪ .‬قال العراقي وابن حجر‪ :‬قيل‪ :‬هو من كالم‬
‫ابن عيينة"‪ .‬وكشف الخفاء ‪ 2/70‬برقم ‪ 1772‬وفيه‪" :‬قال الحافظ ابن حجر‪ :‬ال أصل له‪ ..‬لكن قال ابن‬
‫الصالح في علوم الحديث‪ :‬روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن مجيد أنه ساير أبا جعفر أحمد بن حمدان ‪،‬‬
‫وكانا عبدين صالحين ‪ ،‬فقال له‪ :‬بأي نية أكتب الحديث؟ فقال‪ :‬ألستم (ترون) أن عند ذكر الصالحين‬
‫تنزل الرحمة؟ قال‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬فرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رئيس الصالحين‪ .‬انتهى‪.‬ـ قال القاري‪:‬‬
‫لكن اللفظ إن كان (تروون)ـ بواوين‪ ،‬من الرواية‪ ،‬فيدل في الجملة على أنه حديث‪ ،‬وله أصل‪ ،‬وإ ن كان‬
‫(ترون) من الرؤية‪ ،‬مجهوالً (أي بضم التاء) أو معلوماً (بفتحها) فال داللة فيه‪ .‬وقال الزمخشري في‬
‫الع َش َرة‪ :‬ورد في صحيح اآلثار المسندة عن العلماء الكبار أن رسول اهلل صلى‬
‫خطبة رسالة في فضائل َ‬
‫اهلل عليه وسلم قال‪ :‬عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة" وهو في الفوائد المجموعة للشوكاني (السُّّنة‬
‫المحمدية) ‪ 508‬واألسرار المرفوعة لعلي القاري (الرسالة) ‪( 249‬موسوعة أطراف الحديث ‪)5/499‬‬
‫وأورده محمد طاهر الهندي الفتني في تذكرة الموضوعات ‪ 193‬باب فضل األولياء واألبدال‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫سورة الحديد ‪.4‬‬
‫(‪)2‬‬
‫أدرك الحسن البصري (الطبقات الكبرى للشعراني ‪.)1/60‬‬

‫‪36‬‬
‫فرفعت رأسي إلى‬
‫ُ‬ ‫وبقيت أنا وامرأتي ‪ ،‬فولدت ولداً ‪ ،‬فأرادت الماء ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫السفينة ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ياقوتة حمراء في سلسلة‬ ‫جالس على الهواء ‪ ،‬وفي يده ركوة من‬
‫السماء ‪ ،‬فإذا رج ٌل ٌ‬
‫تركت هواي ‪ ،‬فأجلسني في الهواء‪.‬‬‫ُ‬ ‫من ذهب ‪ ،‬وقال ‪:‬خ ْذ ‪ ،‬فسألته عن ذلك ‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫صنعت حين‬
‫َ‬ ‫وح ِك َي أن عبدالواحد بن يزيد قال‪ :‬ألبي عاصم الربعي‪ :‬كيف‬ ‫ُ‬
‫فصرت‬
‫ُ‬ ‫الح َّجاج ؟ قال‪ :‬كنت في بيتي فوقفوا على الباب ليدخل َّ‬
‫علي الرسو ُل‬ ‫طلبك َ‬
‫فنظرت فإذا أنا علي ِ‬
‫جبل أبي‬ ‫ُ‬ ‫قدماً أو أكثر ‪،‬‬
‫وجرتني َ‬
‫بيد أخذت بيدي َّ‬ ‫مدهوشاً ‪ ،‬فإذا ٍ‬
‫قبيس‪.‬‬
‫براع فقلت له‪ :‬هل‬
‫مررت ٍ‬
‫ُ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫عنه‬ ‫اهلل‬ ‫رضي‬ ‫(‪)1‬‬
‫وح ِك َي أن إبراهيم بن أدهم‬
‫ُ‬
‫عندك ُشربةً من الماء أو من اللبن؟ قال‪ُّ :‬أيهما ُّ‬
‫أحب إليك؟ قلت‪ :‬الماء ‪ ،‬قال‪ :‬فضرب‬
‫فشربت منه وهو أبرد من‬
‫ُ‬ ‫ع فيه ‪ ،‬فانبجس من الماء ‪،‬‬
‫صد َ‬
‫صلداً ال ْ‬
‫بعصاه حجراً َ‬
‫وبقيت متعجباً ‪ ،‬فقال الراعي‪ :‬ال تتعجب فإن العبد إذا‬
‫ُ‬ ‫الثلج ‪ ،‬وأحلى من العسل ‪،‬‬
‫أطاع اهلل أطاعه ُّ‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫َسلَّةٌ معلقة في بيتها ‪ ،‬فكلما أرادت الطعام ‪ ،‬ضربت‬ ‫(‪)2‬‬
‫وكانت لرابعة البصرية‬
‫فوجدت فيها أي الطعام شاءت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫بيدها إلى السلة‬
‫سلمان الفارسي )رضي اهلل‬
‫ُ‬ ‫وقال شيخ الطائفة الحسن(‪)3‬رضي اهلل عنه‪ :‬خرج‬
‫ٍ‬
‫بظباء تسير في الصحراء‪ ،‬وطيور تطير في‬ ‫عنه من المدائن ومعه ضيف‪ ،‬فإذا‬
‫ضيف أحب إكرامه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وطير سمينان‪ ،‬فقد جاءني‬
‫ٌ‬ ‫ظبي‬
‫الهواء‪ ،‬فقال سلمان‪ :‬ليأتني ٌ‬
‫تتعجب‬
‫ُ‬ ‫الطير في الهواء‪ ،‬قال‪َ :‬أو‬
‫َ‬ ‫فجاء كالهما‪ ،‬فقال الرجل سبحان الذي َّ‬
‫سخر لك‬
‫رأيت عبداً أطاع اهلل فعصاه اهلل‪.‬‬
‫َ‬ ‫من هذا؟ هل‬

‫إبراهيم بن أدهم التميمي البلخي أبو إسحاق ‪ ،‬توفي سنة ‪ 161‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫هي رابعة العدوية‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫الحسن البصري (الحسن بن يسار)‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪37‬‬
‫قال عبد الواحد بن زيد‪ :‬بينما أنا وأيوب السختياني(‪ )1‬نسير في طريق الشام‪،‬‬
‫ربك؟ قال‪ :‬ألمثلي‬
‫أسود َمن ُ‬
‫ُ‬ ‫بأسود أقبل إلينا يحمل كارة حطب‪ ،‬فقلت‪ :‬يا‬
‫َ‬ ‫فإذا نحن‬
‫حول هذا الحطب ذهباً‪ ،‬فإذا هو ذهب‬
‫تقول هذا‪ ،‬فرفع رأسه إلى السماء‪ ،‬وقال‪ :‬إلهي ِّ‬
‫‪ ،‬ثم قال‪ :‬أرأيتم هذا؟ قلنا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬اللهم ُر َّده حطباً‪ ،‬فصار كما كان أوالً‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫واستحييت‬
‫ُ‬ ‫بقيت َخ ِجالً من العبد‪،‬‬
‫َسلُوا فإن العارفين ال تفنى عجائبهم‪ ،‬فقال أيوب‪ُ :‬‬
‫شيء من الطعام؟‬
‫ٌ‬ ‫ك‬
‫أم َع َ‬
‫حياء ما استحييت مثله من قبل ذلك من أحد قط‪ ،‬ثم قلت‪َ :‬‬
‫منه ً‬
‫جام(‪ )2‬فيها عسل‪ ،‬أشد بياضاً من الثلج‪ ،‬وأطيب ريحاً من‬‫قال‪ :‬فأشار فإذا بين أيدينا ٌ‬
‫المسك‪ ،‬قال‪ :‬كلوا فواهلل الذي ال إله إال هو ليس هذا من بطن النحل‪ ،‬فأكلنا فما رأينا‬
‫تعجب من اآليات‪ ،‬ومن تعجب فهو‬ ‫ٍ‬
‫بعارف من ّ‬ ‫شيئاً أحلى منه‪َّ ،‬‬
‫فتعجبنا‪ ،‬فقال‪ :‬ليس‬
‫بعيد من اهلل‪ ،‬ومن عبده على رؤية اآليات فهو جاهل باهلل‪.‬‬
‫وأردت التلبية‪ ،‬فأخذت‬
‫ُ‬ ‫كنت حاجاً‬
‫األسود‪ ،‬ما أعرفَه باهلل‪ .‬وقد ُ‬
‫َ‬ ‫رحم اهلل ذلك‬
‫منديالً لي فغسلته‪ ،‬وقطعته نصفين‪ ،‬ثم اتزرت بنصف‪ ،‬وارتديت بنصف آخر لحاجة‪،‬‬
‫فغمضت عيني‬
‫ُ‬ ‫فنظرت فإذا الباديةُ فضةٌ كلُّها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فإذا بهاتف يهتف‪ :‬انظر ما بين يديك‪،‬‬
‫ٍ‬
‫إرادة سواك‪.‬‬ ‫ومضيت‪ ،‬وقلت‪ :‬اللهم إني أعوذ بك من كل‬
‫وحكي أن رجالً من العارفين فرغ من أعمال الحج وأركانه‪ ،‬ثم أخذ ُيحرم‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وقال‪ :‬لبيك اللهم لبيك‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا هذا‪ ،‬إن وقت الحج والتلبية قد مضى‪،‬‬
‫أحرمت من الوطن إلى زيارة البيت‪ ،‬واآلن أحرمت من البيت إلى صاحب‬
‫ُ‬ ‫فقال‪ :‬قد‬
‫البيت‪ ،‬فقيل هنيئاً لمن أحرم عن غيره‪.‬‬

‫أيوب بن كيسان السختياني البصري‪ ،‬أبو بكر (‪ 131-66‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫جام‪ :‬إناء للشراب والطعام‪ .‬والجام مؤنثة‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪38‬‬
‫أسير على شاطئ الدجلة فإذا‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫ُ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫اهلل‬ ‫رحمه‬ ‫(‪)1‬‬
‫حيان‬
‫وحكي أن هرم بن ّ‬
‫ُ‬
‫إلي وعليه سيما العارفين‪ ،‬فسلمت عليه فقلت له‪ :‬كيف حالك وشأنك؟‬ ‫أنا ُ ٍ‬
‫برجل أقبل ّ‬
‫اشتغل بما يعنيك‪،‬‬
‫ْ‬ ‫حيان‬ ‫(‪)2‬‬
‫فقال‪( :‬سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعوال) يا هرم بن ّ‬
‫واسم أبي‪ ،‬وما رأيتك قبل اليوم؟ فقال‪ :‬أما‬ ‫ِ‬
‫عرفت اسمي َ‬‫َ‬ ‫أين‬
‫فقلت‪ :‬رحمك اهلل من َ‬
‫فتعجبت من حسن‬
‫ُ‬ ‫بعضهم بعضاً بنور المعرفة‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫عرفت َّ‬
‫أن العارفين يتعارف ُ‬ ‫َ‬
‫رت من هيبته‪.‬‬ ‫فصاحته‪َّ ،‬‬
‫وتحي ُ‬
‫والناس يصيحون‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بقرية‬ ‫وقال ذو النون رضي اهلل عنه‪ :‬بينما أنا أسير فإذا أنا‬
‫ُ‬
‫قدر اهلل‪ ،‬وال‬
‫إلي وقال‪ :‬يا ذا النون اعرف َ‬
‫أسود يسخرون به‪ ،‬فرفع رأسه ّ‬ ‫ُ‬ ‫فدنوت فإذا‬
‫ُ‬
‫فسألت عن حاله‪ ،‬قيل إنه مجنون ال‬
‫ُ‬ ‫يم ُّن على الحبيب‪،‬‬
‫الحبيب ال ُ‬
‫َ‬ ‫تم َّن على اهلل‪ ،‬فإن‬
‫ُ‬
‫يجالس الناس‪ ،‬وال يأك ُل في أربعين يوماً إال أكلةً واحدة‪ ،‬ثم نظر إلى السماء وقال‪ :‬يا‬
‫ك فبمواهبك‪ ،‬وإ ن شكرتك فبعصمتك‪.‬‬ ‫غايةَ ِه َمم العارفين‪ ،‬إن عرفتُ َ‬
‫أسير على شاطئ النيل فإذا أنا بجارية منطلقة‬
‫وقال ذو النون أيضاً‪ :‬بينما أنا ُ‬
‫في النيل‪ ،‬وقد اضطربت أمواجه‪ ،‬وتقول‪ :‬إلهي ترى ما تفعل بي‪ ،‬فقلت‪ :‬يا جارية‬
‫شكرت‬ ‫أنت الذي إذا‬
‫ين منه وهو صاحب كل َبٍّر وفاجر‪ ،‬فقالت‪ :‬يا ذا النون َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫أتشك َ‬
‫طت عليه‪ ،‬قلت‪ :‬يا جارية‪ ،‬من أين عرفت اسمي وما‬ ‫سخ َ‬ ‫سخطت ِ‬
‫َ‬ ‫شكرت منه‪ ،‬وإ ذا‬
‫َ‬
‫للوحدة؟ قالت‪:‬‬ ‫رأيتِني؟ فقالت‪ :‬عرفتك بنور معرفة ّ‬
‫الجبار‪ ،‬فقلت لها‪ :‬اتجدين وحشةً َ‬
‫مؤنس األبرار في‬
‫ُ‬ ‫ط إلى غيره ‪،‬فإنه‬
‫نور قلبي بنور معرفته‪ ،‬ما سكن قلبي ق ّ‬‫ال والذي َّ‬
‫وصاحب الغرباء في الفلوات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الخلوات‪،‬‬
‫العارف الواسطي رحمه اهلل‪ :‬بينما أنا أمشي في البادية‪ ،‬إذ‬
‫ُ‬ ‫جد والدتي‬‫وقال ُّ‬
‫علي السالم وأبي أن أكلِّمه‪،‬‬ ‫َّ‬
‫مت عليه‪ ،‬فرد ّ‬ ‫أعرابي جالس منفرداً‪ ،‬فدنوت منه وسلّ ُ‬
‫ّ‬
‫شفاء القلوب‪.‬‬
‫ذكر اهلل ُ‬
‫اشتغل بذكر اهلل فإن َ‬
‫ْ‬ ‫فقال‪:‬‬

‫الن ّساك‪ .‬مات بعد ‪ 26‬هـ‪.‬‬


‫‪ :‬هرم بن حيان العبدي األزدي‪ :‬قائد فاتح من كبار ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫سورة اإلسراء‪.108 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪39‬‬
‫ناظر‬
‫ثم قال‪ :‬كيف يتفرغ ابن آدم من ذكره وخدمته‪ ،‬والموت في أثره‪ ،‬واهلل ٌ‬
‫إليه؟ ثم بكى وبكيت معه‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما لي أراك فريداً وحيداً؟ قال‪ :‬ما أنا بوحيد واهلل‬
‫معي‪ ،‬وما أنا بفريد واهلل مؤانسي‪ ،‬ثم قام ومضى مسرعاً‪ ،‬وهو يقول‪ :‬سيدي‪ ،‬أكثر‬
‫ض عن جميع ما فات‪ ،‬يا صاحب كل‬ ‫خلقك مشغولون عنك بغيرك‪ ،‬وأنت ِع َو ٌ‬
‫إلى‬
‫يم ُّر وأنا أتبعه‪ ،‬ثم أقبل َّ‬
‫غريب‪ ،‬ويا مؤنس كل وحيد‪ ،‬ويا مأوى كل فريد‪ ،‬وجعل ُ‬
‫ارجع عافاك اهلل إلى من هو خير لك مني‪ ،‬وال تشغلني عمن هو خير لي منك‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وقال‪:‬‬
‫ثم غاب عن بصري‪.‬‬
‫ٍ‬
‫براهب فسألته‪ :‬منذ كم أنت في هذا‬ ‫مررت‬
‫ُ‬ ‫وحكي أن عبدالواحد بن زيد قال‪:‬‬
‫ُ‬
‫المكان؟ فقال‪ :‬منذ أربع وعشرين سنة‪ ،‬قلت‪ :‬من أنيسك؟ قال‪ :‬الفرد الصمد‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫من المخلوقين؟ قال‪ :‬الوحش‪ ،‬قلت‪ ،‬فما طعامك؟ قال‪ :‬ذكر اهلل‪ ،‬قلت‪ِ :‬م َن المأكول‪،‬‬
‫قال‪ :‬ثمار هذه األشجار‪ ،‬ونبات األرض‪ ،‬فقلت‪ :‬أما تشتاق إلى أحد؟ قال‪ :‬نعم إلى‬
‫حبيب قلوب العارفين‪ ،‬قلت‪ :‬إلى المخلوقين‪ ،‬قال‪َ :‬من كان شوقه إلى اهلل فكيف يشتاق‬‫ِ‬
‫الخْلق؟ قال‪ :‬ألنهم َس َّراق العقول‪ ،‬وقُطّاع طريق‬
‫اعتزلت عن َ‬
‫َ‬ ‫إلى غيره‪ ،‬قلت‪ِ :‬فل َم‬
‫الهدى‪ ،‬قلت‪ :‬ومتى يعرف العبد طريق الهدى؟ قال‪ :‬إذا هرب إلى ربه من كل ما‬
‫سواه‪ ،‬واشتغل بذكره عن كل َمن سواه‪.‬‬
‫فسلمت عليه‪ ،‬فقال‪ :‬وعليك‬
‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫قال هرم بن حيان‪ :‬رأيت أويس بن عامر‬
‫السالم يا َه ِر ُم بن حيان‪ ،‬فقلت‪ :‬كيف عر ْف َ‬
‫ت اسمي واسم أبي؟ قال‪َ :‬ع َرفَت روحي‬
‫روحك بنور معرفة ربي‪ ،‬قلت‪ :‬إني أحبك في اهلل‪ ،‬قال‪ :‬ما أظن أن أحداً يحب غير‬
‫َ‬
‫اهلل فكيف يحب غير اهلل هلل‪ ،‬قلت‪ :‬أريد الصحبة معك‪ ،‬واألنس بك‪ ،‬قال‪ :‬ما ظننت‬
‫عارفاً يستوحش عن اهلل حتى يستأنس بغيره‪ ،‬قلت‪ :‬أوصني‪ ،‬قال‪ :‬أوصيك باهلل‬
‫ض عن كل ما فاتك‪.‬‬ ‫سبحانه‪ ،‬فإنه ِع َو ٌ‬

‫العّباد المشهورين توفي أو قتل سنة ‪ 37‬هـ‪.‬‬


‫الن ّساك ُ‬
‫أويس بن عامر القَ َرني من بني قُرن‪ :‬أحد ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫‪40‬‬
‫كنت أسير في بعض المفاوز‪ ،‬فإذا أنا برجل ُمتَِّزر‬
‫وقال ذو النون المصري‪ُ :‬‬
‫علي السالم‪ ،‬ثم قال‪ :‬من أين الفتى؟ قلت‪:‬‬
‫فسلمت عليه فرد ّ‬
‫ُ‬ ‫بحشيش‪ ،‬مرتد بحشيش‪،‬‬
‫والعقبى‪،‬‬
‫من مصر‪ ،‬قال‪ :‬إلى أين؟ قلت‪ :‬أطلب األنس بالمولى‪ ،‬قال‪ :‬اترك الدنيا ُ‬
‫كالم صحيح‪َّ ،‬‬
‫صح ْحهُ لي‪ ،‬قال‪ ،‬أتتهمنا فيما نقول‪ ،‬وقد‬ ‫يصح لك الطلب‪ ،‬قلت‪ :‬هذا ٌ‬
‫أُعطينا خيراً مما نقول‪ ،‬وهو المعرفة‪ ،‬قلت‪ :‬ما أتهمك‪ ،‬ولكني أريد أن تزيدني نوراً‬
‫على نور‪ ،‬فقال‪ :‬يا ذا النون‪ ،‬انظر فوقك‪ ،‬فإذا السماء واألرض كأنهما ذهب يتوقد‬
‫ويتألأل‪ ،‬قال‪ :‬اغضض بصرك‪ ،‬فصارتا كما كانتا‪ ،‬فقلت‪ :‬كيف السبيل إلى هذا؟ قال‪:‬‬
‫تفرد بالفرد إن كنت له عبداً‪.‬‬
‫َّ‬
‫دخلت دار المجانين يوماً بالشام‪ ،‬فرأيت‬
‫ُ‬ ‫وقال محمد المقدسي(‪ )1‬رحمه اهلل‪:‬‬
‫فيها شاباً على رقبته ُغ ٌل‪ ،‬وعلى رجليه قَيد‪ ،‬مشدود بالسلسلة‪ ،‬فلما وقع بصره‬
‫علي ‪ ،‬قال لي‪ :‬يا محمد أترى ما فعل بي‪ ،‬وأشار بطرفه نحو السماء‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫جعلت السموات غالً على عنقي‪ ،‬واألرضين‬ ‫َ‬ ‫جعلتك رسوالً إليه أن تقول له‪ :‬لو‬
‫ُّ‬
‫التفت منك إلى غيرك طرفة عين‪ ،‬ثم أنشأ يقول‪:‬‬ ‫قيداً على رجلي‪ ،‬ما‬
‫ب‬
‫َمن عادته القُْر ُ‬ ‫يصبر‬
‫ُ‬ ‫عدك ال‬
‫على ُب َ‬
‫ب‬‫الح ُّ‬ ‫وال يقوى على ِ‬
‫َّم ُه ُ‬
‫َمن تي َ‬ ‫قطع َك‬
‫القلب‬
‫ُ‬ ‫فقد أبصر َك‬ ‫ين‬
‫الع ُ‬
‫إذا لم تََر َك َ‬

‫يلقب بطاهر‪" ،‬وهو من أجلة مشايخ الشام سماه الشبلي" حبر الشام" (الشعراني ‪.)1/133‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪41‬‬
‫الحديث السابع‬
‫ُخر مكروهات]‬
‫[ ثالثة مرضيات‪ ،‬وثالثة أ ُ‬

‫حدثنا شيخنا المقري اإلمام الصالح القاضي أبو الفضل علي الواسطي القرشي‬
‫رضي اهلل عنه‪ :‬قال‪ :‬قرأت أنا وسديد الدولة محمد بن عبدالكريم بن إبراهيم بن عبد‬
‫الكريم بن عبدالقاهر بن زيد بن رفاعة الشيباني ويعرف بابن األنباري على أبي‬
‫عبداهلل بن أحمد ابن عمر الحافظ قلنا‪ :‬أنباك أبوالحسين أحمد بن محمد فأقر به قال‪:‬‬
‫أنبأنا الحسين محمد ابن عبداهلل الدقاق عن يحيى بن محمد إسحاق بن شاهين عن خالد‬
‫بن عبداهلل عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬إن اهلل تعالى عز وجل يرضى لكم ثالثاً ويكره لكم‬
‫ثالثاً‪ ،‬يرضى لكم أن تعبدوه وال تشركوا به شيئاً‪ ،‬وأن تعتصموا بحبل اهلل جميعاً وال‬
‫أمركم‪ ،‬ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال‬ ‫ِ‬
‫تفرقوا‪ ،‬وأن تُناصحوا من والّه اهلل َ‬
‫(‪)1‬‬
‫وإ ضاعة المال"‬
‫وفي هذا الحديث الشريف من رقائق أحكام المعرفة باهلل‪ ،‬ما يكفي العارف‬
‫عن غيره‪ ،‬فإن األسرار المطلوبة فيه هي سلم المصطفَين األخيار إلى اهلل تعالى‪.‬‬
‫أي سادة‪ ،‬إن هلل تعالى عباداً اصطفاهم لمعرفته‪ ،‬وخصهم بمحبته‪ ،‬واختارهم‬
‫وحرضهم على ذكره‪ ،‬وأنطقهم‬
‫وقربهم لمناجاته‪ّ ،‬‬
‫لصحبته‪ ،‬واجتباهم لمؤانسته‪ّ ،‬‬

‫الموطأ‪ :‬الجامع‪ ،‬باب جامع الكالم ‪ ،2089‬وأحمد (مسند أبي هريرة رضي اهلل عنه) ‪ 8785‬والبخاري في‬ ‫(‪)1‬‬

‫األدب المفرد‪ :‬السرف في المال‪ ،‬برقم ‪ 442‬وفي صحيحه‪ :‬الزكاة‪ ،‬باب قول اهلل تعالى (ال يسألون الناس إلحافاً)‬
‫(سورة البقرة ‪ )273‬رقم ‪ 1407‬واالستقراض‪ ،‬باب‪ :‬ما ينهى عن إضاعة المال ‪ 2277‬واألدب‪ ،‬باب‪ :‬عقوق‬
‫الوالدين من الكبائر ‪ 5630‬ومسلم‪ :‬األقضية‪ ،‬باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة ‪ .1715‬ورواه‬
‫السيوطي عن أحمد ومسلم (كنز العمال لعلي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري (الرسالة) ‪ 15/824‬رقم‬
‫‪.)43275‬‬

‫‪42‬‬
‫بحكمته‪ ،‬وأذاقهم من كأس محبته‪ ،‬وفضلهم على جميع خلقه حتى لم يريدوا به بدالً‪،‬‬
‫وال سواه كفيالً‪ ،‬وال دونه ناصراً ومعيناً ووكيالً‪ ،‬ولقد سبقوا َمن دونهم َسبقاً ال بكثرة‬
‫األعمال‪ ،‬ولكن بصحة اإلرادات‪ ،‬وحسن اليقين‪ ،‬مع دقائق الورع‪ ،‬واالنقطاع بالقلب‬
‫إليه‪ ،‬وتصفية السر عن كل ما دون الحق‪ ،‬فأذاقهم اهلل طعم لُباب معرفته‪ ،‬وأنزلهم في‬
‫حظيرة قدسه‪ ،‬ال يصبرون عن ذكره‪ ،‬وال يشبعون من بِِّره‪ ،‬وال يستريحون لغيره‪،‬‬
‫طراً‪ ،‬بهم يحفظ اهلل محبته‪ ،‬حتى‬
‫فيا طوبى لهم‪ ،‬هم األقلون عدداً‪ ،‬واألعظمون َخ َ‬
‫يؤدوها إلى نظرائهم‪ ،‬فيا طوبى لهم‪ ،‬هم الزاهدون فيما رغب فيه الغافلون‪،‬‬
‫والمستأنسون فيما استوحش منه الجاهلون‪ ،‬والمشتاقون إلى ما هرب عنه الساهون‪،‬‬
‫أرواحهم في الملكوت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وجالت‬
‫ْ‬ ‫هم الذين نظروا بأعين القلوب‪ ،‬إلى ُح ُج ِب الغيوب‪،‬‬
‫وس ُّرهم عند ربهم‪ ،‬به يستمعون‪ ،‬وبه ينظرون‪ ،‬وبه يريدون‪ ،‬وبه‬‫فَ ِه َّمتُهم في ِس ِّرهم‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫يتحركون‪ ،‬قلوبهم بحبها مستأنسة بأنسها‪.‬‬
‫قال أبو يزيد رحمه اهلل‪ :‬الناس يصيحون من إبليس‪ ،‬وهو يصيح مني‪ ،‬قيل له‪:‬‬
‫كيف هذا والمصطفىـ عليه السالم كان مأموراً بالصياح منه‪ ،‬في قوله تعالى‪( :‬وقل‬
‫رب أعوذ بك من همزات الشيطين)(‪.)1‬‬
‫قال‪ :‬ألن اهلل تعالى أمره في هذه اآلية باالعتصام به‪ ،‬وتفويض األمر إليه‪،‬‬
‫ق بين الصياح من إبليس‪ ،‬وبين االعتصام باهلل‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى‪( :‬إن عبادي‬
‫وفَ ْر ٌ‬
‫ليس لك عليهم سلطان)(‪.)2‬‬
‫قال ذو النون‪ :‬للعارف نار ونور‪ ،‬نار الخشية‪ ،‬ونور المعرفة‪ ،‬فظاهره‬
‫محترق بنار الخشية‪ ،‬وباطنه ُمَن َّوٌر بنور المعرفة‪ ،‬فالدنيا تبكي بعين الفناء عليه‪،‬‬
‫واآلخرة تضحك بِ َس ِّن البقاء إليه ‪ ،‬فكيف يقدر الشيطان أن يدنو منه ظاهراً وباطناً‬
‫(‪)3‬‬

‫إال‬

‫سورة المؤمنون‪.97 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة اإلسراء‪.65 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫(‪َ )3‬س ّن‪ :‬وضع‪ .‬إذا مات العبد الصالح بكت عليه السماء واألرض‪ ،‬وفرحت الحور العين له‪ ،‬والمالئكة‪ ،‬لتخلّصه‬
‫بالسالمة من دنياه‪ ،‬واستبشارا بسعادته في أخراه التي جعلها اهلل تعالى هي دار الخلود والبقاء‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫العين‪ ،‬أحرقته نار‬ ‫ِ ِ‬
‫عارض من قَبل َ‬
‫ٌ‬ ‫كالبرق الخاطف‪ ،‬أو كالريح العاصف(‪ ،)1‬فإن أتاه‬
‫الع ْبرة‪ ،‬وإ ن أتاه ِمن قبل النفس‪ ،‬أحرقته نار الخدمة‪ ،‬وإ ن أتاه من قبل العقل‪ ،‬أحرقته‬
‫َ‬
‫نار الفكرة‪ ،‬وإ ن أتاه من قبل القلب‪ ،‬أحرقته نار الشوق والمحبة‪ ،‬وإ ن أتاه من قبل‬
‫السر‪ ،‬أحرقته نار القرب والمشاهدة‪ ،‬فتارةً يحترق قلبه بنار الخشية‪ ،‬وتارة يتشفى‬
‫بنور المعرفة‪ ،‬فإذا امتزجت نار الخشية ونور المعرفة‪ ،‬هاجت ريح اللطف من‬
‫سرادقات األنس والقُربة‪ ،‬فيظهر صفاء الحق للعبد‪ ،‬فتراها تالشت األنانية‪ ،‬وبقيت‬
‫األلوهية كما هو في األزل‪.‬‬
‫قال أبو سليمان(‪ُ :)2‬يفتح للعارف وهو نائم على فراشه‪ ،‬ما ال يفتح لغيره وهو‬
‫في صالته‪.‬‬
‫قال أبو يزيد رحمه اهلل‪ :‬أدنى مقامات العارف أن يمر على الماء‪ ،‬ويطير في‬
‫يلتفت إلى َمن سواه‪.‬‬
‫َ‬ ‫الهواء‪ ،‬وأعالها أن يمر على الدارين من غير أن‬
‫قال أبو بكر الواسطي رحمه اهلل‪ :‬دوران العارف مع محبوبه على أربعة‬
‫أوجه‪ :‬سرور المعرفة‪ ،‬وهو ممزوج برؤية حسن العناية‪ ،‬وحالوة الخدمة‪ ،‬وهو‬
‫ممزوج بذكر ِ‬
‫المّنة‪ ،‬وأنس الصحبة‪ ،‬وهو ممزوج بلذائذ القربة‪ ،‬وخوف المفارقة‪،‬‬

‫وهو ممزوج بتحقيق كمال القدرة‪ ،‬وقال ذو النون‪ :‬العارف بين البر والذكر‪ ،‬ال اهللُ‬
‫يمل من بِِّره‪ ،‬وال العارف يشبع من ذكره‪.‬‬
‫سئل بعضهم عن قوله تعالى (وأنه هو أضحك وأبكى)(‪ ،)3‬فقال‪ :‬أضحك‬
‫العارفين بسرور معرفته ثم أبكاهم من خوف مفارقته‪ ،‬وأمات من شاء‬

‫كلمة ريح تُ َذ َّكر وتؤنث‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أبو سليمان الداراني‪ :‬عبد الرحمن بن عطية مات سنة ‪ 285‬وقيل ‪ 215‬هـ (جامع كرامات األولياء (دار الفكر‬ ‫(‪)2‬‬

‫– بيروت) ‪ ]1/144‬وأظنه هو المراد‪ ،‬وثمة أبو سليمان‪ :‬داود بن نصير الطائي‪ ،‬مات سنة ‪ 162‬هـ (المصدر‬
‫نفسه ‪ )1/63‬والداراني أشهر‪.‬‬
‫سورة النجم‪.43 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪44‬‬
‫صلَتِه‪ ،‬ليعلم الخالئق أنه فعال لما يريد‪.‬‬
‫بسيف قطيعته‪ ،‬أوحيى من شاء بروح َو ْ‬
‫وقيل لعائشة رضي اهلل عنها‪ :‬كيف يحاسب المؤمنون العارفون؟ فقالت‪ :‬ليس‬
‫مع العارفين حساب‪ ،‬ولكن معهم عتاب‪.‬‬
‫وروي أن سليمان عليه الصالة والسالم نظر إلى مملكته يوماً‪ ،‬فأمر اهلل‬
‫علي ثوبي‪ ،‬فقال الريح‪ُ ،‬ر َّد قلبك‬
‫تعالى الريح حتى كشف عورته‪ ،‬فقال للريح‪ُ ،‬ر َّد َّ‬
‫إلى مكانه‪ ،‬فطوبى ألهل المعرفة‪ ،‬عرفهم أنفسهم قبل أن يعرفوه‪ ،‬وأكرمهم قبل أن‬
‫يعرفوا الكرامة‪ ،‬أولئك أقوام أنفسهم روحانية‪ ،‬وقلوبهم سماوية‪ ،‬وهمومهم مر ِ‬
‫ضَّية‪،‬‬ ‫َْ‬
‫وأعينهم دامعة‪ ،‬عقلوا فعلموا‪ ،‬ووجدوا فرحلوا‪ ،‬وانفتح لهم‬
‫ُ‬ ‫وصدورهم َج ِزعة‪ ،‬وقلوبهم خائفة‪،‬‬
‫نور القلب‪.‬‬
‫ِ‬
‫األزمان‬ ‫ِ‬
‫سالف‬ ‫إختارهم(‪ )1‬من‬ ‫لنفس ِه‬
‫ون ِ‬ ‫طفَ َ‬
‫صَ‬
‫َ‬ ‫قوم ُم ْ‬
‫هلل ٌ‬
‫ِ‬
‫وبيان‬ ‫فيهم ودائع ِح ٍ‬
‫كمة‬ ‫قبل ِفطر ِة َخ ِ‬
‫لق ِهم‬ ‫اختارهم من ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬

‫( ‪)1‬‬
‫قطع همزة الوصل لضرورة الشعر‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫الحديث الثامن‬
‫[ الحياء من اإليمان ]‬

‫أخبرنا الشيخ صالح الثقة أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سلمان‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبو عبداهلل مالك بن أحمد بن علي المالكي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسن أحمد ابن‬
‫محمد بن موسى القرشي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبدالصمد الهاشمي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبومصعب أحمد بن أبي بكر الزهري‪ ،‬عن مالك‪ ،‬عن ابن شهاب الزهري‪ ،‬عن‬
‫سالم‪ ،‬عن أبيه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مر على رجل وهو يعظ أخاه في‬
‫والحياء الذي‬ ‫(‪)1‬‬
‫الحياء‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬الحياء من اإليمان"‬
‫يشمل الوجه من الناس‪ ،‬أنموذج عن الحياء الذي يشمل القلب من اهلل تعالى‪ ،‬والحياء‬
‫ط ْو ُر العارفين باهلل سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫الشامل للوجه وللقلب‪ ،‬هو من اإليمان باهلل وهو َ‬
‫خزائن اهلل في أرضه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الذي جعل قلوبهم َع ْيَبةَ أسراره(‪ ،)2‬وكذلك فإن قلوب العارفين‬
‫وضع فيها ودائع سره‪ ،‬ولطائف حكمته‪ ،‬ودقائق محبته‪ ،‬وأنوار علمه‪ ،‬وإ مامةَ‬
‫معرفته‪ ،‬فكالمهم هو الكشف عما يشاهد القلب‪ ،‬وإ ظهار علوم السر‪ ،‬وبيان معاملة‬
‫تميز االنفصال عن االتصال‪ ،‬وبيان األسباب الشاغلة عن الحق‪ ،‬من‬
‫الضمير‪ ،‬من ّ‬
‫األسباب الداعية إلى الحق‪ ،‬أما الداعي إلى الخلق فالدنيا والنفس والخلق‪ ،‬وأما الداعي‬

‫صحيح‪ .‬رواه الموطأ‪ :‬الجامع‪ ،‬باب ما جاء في الحياء ‪ 1890‬ومسند أحمد‪( :‬حديث ابن عمر رضي اهلل‬ ‫(‪)1‬‬

‫عنهما) ‪ 4554‬وحديث أبي هريرة رضي اهلل عنه (صحيفة وهب بن منبه) ‪ 10460‬والبخاري‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب‪:‬‬
‫الحياء من اإليمان ‪ 24‬واألدب‪ ،‬باب‪ :‬الحياء ‪ 5767‬وأخرجه في األدب المفرد ‪ 602‬ومسلم‪ :‬اإليمان ‪،‬باب بيان‬
‫عدد شعب اإليمان وأفضلها وأدناها‪ ،‬وفضيلة الحياء‪ ،‬وكونه من اإليمان ‪.36‬‬
‫(‪ " )2‬ومن المستعار‪ :‬هو عَيبة فالن إذا كان موضع سره‪ ،‬وعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬األنصار َك ِرشي‬
‫وعيبتي " أي أضع فيهم أسراري‪ [ "..‬الزمخشري‪ :‬أساس البالغة (دار المعرفة) ‪.]318‬‬

‫‪46‬‬
‫"م ْن عرف نفسه عرف به"(‪ ،)1‬يعني‬
‫إلى الحق فالعقل واليقين والمعرفة‪ ،‬كما ورد‪َ :‬‬
‫من عرف ما لنفسه‪ ،‬عرف ما لربه‪ ،‬وكالمهم يدور على خمسة أوجه‪ ،‬به وله ومنه‬
‫وإ ليه وعليه‪ ،‬وليس في كالمهم أنا وإ ني ونحن ولي وبي ألن ألفاظهم فردانية‪،‬‬
‫وحركاتهم صمدانية‪ ،‬وأخالقهم ربانية‪ ،‬وإ رادتهم وحدانية‪ ،‬ال يعرف إشارتهم إال َم ْن‬
‫له قلب حريق‪ ،‬فيه خزائن األسرار‪ ،‬وجواهر القدس‪ ،‬وس ِ‬
‫رادقات األنوار‪ ،‬وبحار‬ ‫ُ‬
‫الوداد‪ ،‬ومفاتيح الغيب‪ ،‬وأودية الشوق‪ ،‬ورياض األنس‪ ،‬فكلما أبرز العارف لسان‬
‫الحكمة من ينبوع المعرفة بإشارات استأنس بها قلوب المريدين والمشتاقين‪.‬‬
‫قال يحيى بن معاذ‪ :‬القلوب كالقدور‪ ،‬ومغارفها األلسن‪ ،‬فكل ٍ‬
‫لسان يغرف لك‬
‫ما في قلبه‪.‬‬
‫وقيل ألبي بكر الواسطي ما تقول في كالم أهل المعرفة؟ فقال‪ :‬إن َمثَ َل‬
‫المعرفة‪ ،‬كمثل سراج في قنديل‪ ،‬والقنديل معلق في بيت‪ ،‬فما دام السراج في البيت‪،‬‬
‫يكون البيت مضيئاً‪ ،‬وربما يفتح الباب فيقع ضوء السراج خارج البيت ويضيء‪.‬‬
‫كالم أهل المعرفة يقع ضياؤه على قلوب أهل النور فتصير أعينهم دامعة‪،‬‬
‫وألسنتهم ذاكرة‪ .‬يقول اهلل تعالى‪( :‬وإ ذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول)(‪ ،)2‬اآلية‪ ،‬مثل‬
‫نفس العارف كمثل البيت‪ ،‬ومثل قلبه كمثل القنديل‪ُ ،‬د ْهُنهُ من اليقين‪ ،‬وماؤه‬

‫الحاوي للفتاوي للسيوطي (السعادة) ‪ 2/412‬وكشف الخفاء (دار التراث) ‪ 2/362‬واألسرار المرفوعة لعلي‬ ‫(‪)1‬‬

‫القاري (الرسالة) ‪ 351‬والدرر المنتثرة في األحاديث المشتهرة للسيوطي (الحلبي) ‪( 152‬موسوعة اطراف‬
‫الحديث (ط‪ )8/395 )1‬والمقاصد الحسنة للسخاوي ‪ ،419‬وأسنى المطالب للبيروتي (مطبعة مصطفى البابي‬
‫الحلبي بمصر) ص‪ 214‬وفيه‪" :‬حديث‪( :‬من عرف نفسه فقد عرف ربه) قال السمعاني‪ :‬إنه ال ُيعرف مرفوعاً‪.‬‬
‫وقال النووي‪ :‬ليس بحديث‪ .‬ونسبه بعضهم إلى أبي سعيد الخراز وبعضهم إلى يحيى بن معاذ الرازي"‪.‬‬
‫سورة المائدة ‪ 83‬وتتمة اآلية (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق‪ ،‬يقولون‪ :‬ربنا آمنا فاكتبنا‬ ‫(‪)2‬‬

‫مع الشاهدين)‪.‬ـ‬

‫‪47‬‬
‫من الصدق‪ ،‬وفتيله من اإلخالص‪ ،‬والزجاجة من الصفاء والرضاء‪ ،‬وعالئقه من‬
‫العقل‪ ،‬فالخوف نار في نور‪ ،‬والرجاء نور في نار‪ ،‬والمعرفة نور في نور‪ ،‬فالقنديل‬

‫معلق بباب ال ُك َّوة‪ ،‬إذا فتح العارف فاهُ بالحكمة التي في قلبه‪ ،‬هاج في ُك َّو ِة فمه ٌ‬
‫نور‬
‫من األنوار التي في قلبه‪ ،‬فيقع ضياؤه على قلوب أهل النور‪ ،‬فيتعلق النور بالنور‪،‬‬
‫أشد ظلمةً من الليل‪ ،‬وكالم أهل‬ ‫وإ َّن بعض القول ُّ‬
‫أشد ضوءاً من النهار‪ ،‬وبعضها ّ‬
‫قلوب أهل المعرفة‪ ،‬أمرهم اهلل تعالى‬
‫ُ‬ ‫كنز من كنوز الرب سبحانه‪ ،‬معادنه‬
‫المعرفة ٌ‬
‫باإلنفاق منه على أهله في قوله تعالى‪( :‬ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة‬
‫الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)(‪.)1‬‬
‫قيل لبعض العارفين‪ :‬أي شيء أضوأ من الشمس؟ قال‪ :‬المعرفة‪ ،‬قيل‪ :‬أي‬
‫شيء أنفع من الماء؟ قال‪ :‬كالم أهل المعرفة‪ ،‬قيل‪ :‬وأي شيء أطيب من المسك؟‬
‫الربوبية‪ ،‬وأعالم‬
‫صنع ُّ‬
‫النظر إلى ُ‬
‫ُ‬ ‫قال‪ :‬وقت العارف‪ ،‬قيل‪ :‬وما ِحرفةُ العارف؟ قال‪:‬‬
‫لطائف القُدرة‪.‬‬
‫أنفع من كالم الخلف؟ قال‪ :‬ألن‬ ‫(‪ِ )2‬‬
‫قيل ألبي سعيد البلخي ‪ :‬ل َم كان كالم السلف َ‬
‫مرادهم كان ِع َّز اإلسالم‪ ،‬ونجاة النفوس‪ ،‬والشفقةَ على اإلخوان‪ ،‬ورضا الرحمن‪،‬‬
‫وطلب التنعُّم في الدنيا‪ ،‬فالعبد إذا أطاع ربه‪ ،‬رزقه‬
‫ُ‬ ‫ومرادنا ِع ُّز النفس‪ ،‬وثناء الناس‪،‬‬
‫ُ‬
‫نهلةً من عين المعرفة‪ ،‬وأنطق بها لسانه‪ ،‬وإ ذا ترك طاعته لم يسلبها‪ ،‬ولكن أبقاها في‬
‫الم َحن‪ ،‬وما ِمن‬
‫قلبه‪ ،‬ولم ينطق بها لسانه‪ ،‬ليكون ذلك حسرةً عليه‪ ،‬وابتاله بأنواع ِ‬
‫ُ‬
‫نور المعرفة‪ ،‬قبل أن‬
‫مؤمنين يلتقيان فيذكران اهلل إال ويزيد اهلل تعالى في قلوبهما َ‬
‫َ‬
‫أهل المعرفة على تالطم أمواج بحار خواطر القلوب‪،‬‬
‫لع َ‬‫ط َ‬
‫يتفرقا‪ ،‬وإ ن اهلل تعالى أ ْ‬
‫وأشرفهم على خزائن األسرار‪ ،‬وبواطن العلوم التي ال ُيحصى عددها‪ ،‬وال ينقطع‬
‫ك قعرها‪ ،‬وال تُفنى عجائبها‪ ،‬حتى يغوصوا بنور‬
‫در ُ‬
‫مددها‪ ،‬وال ُي َ‬

‫سورة النجل‪.125 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫(يوسف‬ ‫أحمد بن عبداهلل البلخي‪ ،‬مات بعد سنة ‪ 315‬هـ"انظر جامع كرامات األولياء للنبهاني‬ ‫(‪)2‬‬

‫بن إسماعيل) طبعة دار الفكر ‪."1/485‬‬

‫‪48‬‬
‫عجائب‬
‫َ‬ ‫المعرفة في قَ ْع ِر بواطن إشاراتها المكنونة في معانيها المخزونة‪ ،‬فيستخرجوا‬
‫قلوب المحبين‪ ،‬وتستأنس بها‬
‫ُ‬ ‫وحقائق إشارات‪ ،‬تحترق منها‬
‫َ‬ ‫ولطائف زوائد‪،‬‬
‫َ‬ ‫فوائد‪،‬‬
‫نور من أنوار الهداية‪ ،‬يهتدي به العبد إلى طريق حسن‬
‫أرواح المريدين‪ ،‬وهي ٌ‬
‫الرعاية‪ ،‬إذا أدركه من الحق التوفيق والعناية‪.‬‬
‫مفاليس‪ ،‬يفتحون من كيس‬
‫َ‬ ‫لقيت الحكماء فوجدت أكثرهم‬
‫قال يحيى بن معاذ‪ُ :‬‬
‫أخ‪ ،‬وكان باإلسكندرية‪ ،‬فلما قدم إليه قال‪ :‬إني كنت‬ ‫(‪)1‬‬
‫غيرهم‪ ،‬وكان للّيث المصري‬
‫فوائد إقبالك على ربك؟ فسكت‪ ،‬فقال الليث‪ :‬العبد إذا أقبل‬
‫مقبالً على ربي‪ ،‬قال‪ :‬فأين ُ‬
‫على اهلل بصدق الوفاء‪ ،‬يمده اهلل بفوائد لم تخطر على قلب بشر‪.‬‬
‫وكان يحيى بن معاذ يتكلم ذات يوم‪ ،‬فصاح رجل في مجلسه‪َّ ،‬‬
‫ومزق ثوبه‪،‬‬
‫فقيل له‪ :‬ما تقول فيه؟ قال كالم أهل المعرفة كلما نبع من عين سر الوحدانية‪ ،‬قرع‬
‫قلب المحترق بنيران الشوق والمحبة‪ ،‬فتالشت عن صاحبه صفات اإلنسانية‪ ،‬كالم‬
‫المتقين بمنزلة الوحي‪ ،‬وجرت كلمة على لسان بعضهم‪ ،‬فقيل له‪َ :‬من َح َّدثك بهذا؟‬
‫وجودها‪ ،‬وهي‬ ‫ُ‬ ‫فإسناد الحكمة‬
‫ُ‬ ‫حدثني قلبي عن فكري عن ِس ِّري عن ربي‪،‬‬
‫قال‪َّ :‬‬
‫ضالّة المريد‪ ،‬حيثما وجدها أخذها‪ ،‬فال ُيبالي من أي وعاء خرجت‪ ،‬وبأي لسان‬
‫طقَت‪ ،‬ومن أي قلب ُن ِقلَت‪ ،‬أو على أي حائط ُكتِبت‪ ،‬أو ِمن أي كافر ُس ِم َعت‪.‬‬
‫َن َ‬
‫وهدى من غير هداية‪،‬‬ ‫"من أراد أن يؤتيه اهلل علماً من غير تعلم‪ُ ،‬‬ ‫وقد ورد َ‬
‫فليزهد في الدنيا"(‪ ،)2‬وإ ن للحكمة أهالً وزماناً‪ ،‬وقد مضي زمنها‪ ،‬واألكثرون ِمن‬

‫الليث بن سعد‪ ،‬أبو الحارث (‪ 175-94‬هـ) شيخ مصر لعصره‪ ،‬مجتهد مطلق صاحب مذهب فقهي‪ ،‬لكن‬ ‫(‪)1‬‬

‫أتباعه ذابوا من بعده في بوتقة المذهبين المالكي والشافعي (البوتقة‪ :‬الوعاء الذي يذاب في المعدن)‪.‬‬
‫تذكرة الموضوعات للهندي الفتني ‪ 20‬وقال‪" :‬لم يوجد" أي لم يوجد له أصل في األحاديث المرفوعة‪ .‬وإ حياء‬ ‫(‪)2‬‬

‫علوم الدين (دار المعرفة) ‪ 4/224‬وقال الحافظ العراقي‪ :‬لم أجد له أصال‪ .‬وإ تحاف السادة المتقين ‪.9/333‬‬
‫وكشف الخفاء (التراث اإلسالمي) ‪ 2/305‬برقم ‪ 2346‬وفيه‪ :‬قال القاري‪ :‬لم يوجد له أصل‪ ،‬كما في المختصر‪،‬‬
‫ومعناه صحيح مستفاد من قوله عليه الصالة والسالم‪ " :‬من َع ِمل بما َعِلم أورثه اهلل علم ما لم يعلم"‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫مصابيح‬
‫َ‬ ‫أهلها‪ ،‬وليس علينا إال أثر المصيبة‪ ،‬فإنا هلل وإ نا إليه راجعون‪ ،‬اطلبوا‬
‫لقمان‬
‫ُ‬ ‫كالم العارفين قبل وفاتهم‪ ،‬نعمة اعرفوا شرفها‪ ،‬وكمال فضلها‪ ،‬وإ نما اختار‬
‫الحكمة لشرفها‪ ،‬هي برهان ِ‬
‫الص َّديقين‪ ،‬ونزهة المتقين‪ ،‬وفردوس العارفين‪ ،‬وميراث النبيين‬
‫والمرسلين فاطلبوها قبل ذهابها‪:‬‬

‫رام‬ ‫ُهم العلماء أبناء ِ‬


‫الك ِ‬ ‫ٍ‬
‫أرض‬ ‫مصابيح ِ‬
‫األنام ِّ‬
‫بكل‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫البدر الح بال َغ ِ‬
‫مام‬ ‫كنور ِ‬‫ِ‬ ‫كل ٍ‬
‫واد‬ ‫لم ُهم في ِّ‬ ‫ِ‬
‫تألأل ع ُ‬

‫‪50‬‬
‫الحديث التاسع‬
‫[ أولئك يبدل اهلل سيئاتهم حسنات ]‬

‫أخبرنا العبد الصالح الثقة أبو غالب عبداهلل بن منصور بجامع واسط‪ ،‬أخبرنا‬
‫أبو عبداهلل محمد بن علي بن الحسين السلمي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسن بن أبي الفتح‬
‫الضرير العثماني‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عمر بن محمد المقري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عبدالرحمن بن‬
‫أحمد ابن الحجاج‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أحمد بن محمد بن أبي الرجاء‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا وكيع بن‬
‫الجراح‪ ،‬قال حدثنا األعمش‪ ،‬عن المعرور بن سويد‪ ،‬عن أبي ذر رضي اهلل تعالى‬
‫عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال‪:‬‬
‫ويخفى عنه كبارها‪ ،‬فيقال له‪ :‬عملت كذا وكذا‪ ،‬وعملت‬‫اعرضوا عليه صغار ذنوبه‪ُ ،‬‬
‫جاء‬ ‫ِ‬
‫يوم كذا‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬قال‪ :‬وهو ُمقٌّر ليس ينكر‪ ،‬قال‪ :‬وهو مشفق من الكبار أن ُي َ‬
‫بها‪ ،‬فإذا أراد اهلل به خيراً‪ ،‬قال‪ :‬أعطوه مكان كل سيئة حسنة‪ ،‬فيقول حين طمع‪ :‬إن‬
‫لي ذنوباً ما رأيتها ها هنا "قال‪ :‬فلقد رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ضحك‬
‫حتى بدت نواجذه(‪ .)1‬ثم تال‪( :‬فأولئك يبدل اهلل سيئاتهم حسنات)(‪.)2‬‬

‫سلم‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها‪ ،‬رقم ‪ ،190‬ولفظه‪" :‬عن أبي ذر قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫(‪)1‬‬

‫عليه وسلم‪" :‬إني ألعلم آخر أهل الجنة دخوالً الجنة‪ ،‬وآخر أهل النار خروجاً منها‪ .‬رجل يؤتى به يوم القيامة‪،‬‬
‫فيقال‪ :‬اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها‪ ،‬فتُعرض عليه صغار ذنوبه‪ ،‬فيقال‪ :‬عملت يوم كذا‬
‫وكذا‪ :‬كذا وكذا‪ .‬وعملت يوم كذا وكذا‪ :‬كذا وكذا‪ .‬فيقول‪ :‬نعم‪ .‬ال يستطيع أن ينكر‪ ،‬وهو مشفق من كبار ذنوبه‬
‫أن تُعرض عليه‪ ،‬فيقال له‪ :‬فإن لك مكان كل سيئة حسنة‪ .‬فيقول‪ :‬رب قد عملت أشياء ال أراها ها هنا "فلقد رأيت‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه‪ .‬وأخرجه الترمزي في صفة جهنم‪ ،‬الباب العاشر‪ ،‬رقم‬
‫‪ 2599‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫سورة الفرقان" ‪70‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪51‬‬
‫وهذا اإلشفاق هو شيء من أسرار اليقين باهلل‪ ،‬وحال من سلطانه‪ ،‬يفرغه في‬
‫قلوب أهل المعرفة به‪ ،‬ولهذا الحديث الشريف شأن جليل‪ُ ،‬ينبئ عن كرم إلهي فوق‬
‫تعبير اللسان‪ ،‬يعرفه العارفون‪ ،‬ويزلق به الغافلون‪ ،‬ويزداد خوفاً من اهلل به‬
‫الموفقون‪.‬‬

‫أي سادة‪ ،‬من أراد أن يتكلم بلسان أهل المعرفة‪ ،‬فينبغي أن يحفظ أدب كالمه‪،‬‬
‫المريد فوق طاقته‪ ،‬وال يمنع كالمه َمن‬
‫َ‬ ‫فال يكشف دقائقه إال عند أهله‪ ،‬وأن ال ُي َح ِّم َل‬
‫كان ِمن أهله‪ ،‬ويكون كالمه مع أهل المعرفة بلسان أهل المعرفة‪ ،‬ومع أهل الصفا‬
‫بلسان الصفا‪ ،‬ومع أهل المحبة بلسان المحبة‪ ،‬ومع أهل الزهد بلسانهم‪ ،‬ومع كل‬
‫صنف على قدر مراتبهم ومنازلهم‪ ،‬وقدر عقولهم‪ ،‬فإن اهلل تعالى جعل للعارف هذه‬
‫األلسن‪ ،‬نعم كلها تتالشى عند ظهور سلطان الحق‪ ،‬وينبغي أن ال ِّ‬
‫يحدث بحديث ال‬
‫يبلغ عقل المستمع إليه‪ ،‬فيكون ذلك فتنة‪ ،‬فإن أكثر الناس جاهلون‪ ،‬اشتغلوا بعلوم‬
‫الظاهر‪ ،‬وتركوا علم تصحيح الضمائر‪ ،‬فال يحتملون دقائق كالم العارفين‪ ،‬ألن‬
‫كلماتهم الهوتية‪ ،‬وإ شاراتهم قدسية‪ ،‬وعباراتهم أزلية‪ ،‬فلذلك ينبغي للمستمع أن يكون‬
‫معه السراج األزلى‪ ،‬والنور الديمومي‪ ،‬ويقال‪ :‬لسان الحال أفصح من لسان المقال‪،‬‬
‫لي الحال‪ ،‬صار مخذوالً عن الحال‪ ،‬ومحجوباً عن ذي‬
‫فمن رضي بالحال دون َو ِّ‬
‫الجالل‪ ،‬وأي دهشه أشد من دهشة العارف‪ ،‬إن تكلم عن حاله هلك‪ ،‬وإ ن سكت‬
‫ومن غاب قلبه عن الحضرة كثر كالمه‪.‬‬ ‫احترق‪ ،‬فمن َو َر َد قلبه الحضرةَ َك َّل ُ‬
‫لسانه‪َ ،‬‬
‫قال ذو النون رحمه اهلل‪ :‬ما رأيت محدثاً في قوم يحدثهم بغفلة إال كان ذلك‬
‫قسوة‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬سكوت العارف حكمة‪ ،‬وكالمه نعمة‪ ،‬ويقال‪ :‬ليس على تحقيق‬
‫في المعرفة َمن ِّ‬
‫يحدث بحديث المعرفة عند أبناء اآلخرة‪ ،‬فكيف أبناء الدنيا؟ ما تكلمت‬
‫مع أحد من الناس‪ ،‬إال ودعوته إلى اهلل ثم كلمته‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫من لم يكن له حالوة المعرفة‪ ،‬ورؤية ِ‬
‫المَّنة‪ ،‬وشكر النعمة‪ ،‬ولذائذ القُربة‪،‬‬
‫الصحبة‪ ،‬وإ خالص العبادة‪ ،‬وسرور الهداية‪ ،‬فليس له أن‬‫وخوف المفارقة‪ ،‬وأُنس ُ‬
‫يحمل فوق الطاقة‪ ،‬وال يمنع أهل الحاجة‪ ،‬وال‬
‫يتكلم بكالم أهل المعرفة‪ ،‬وإ ن تكلم فال ِّ‬
‫يضيع أهل الغفلة‪.‬‬
‫وحكي أن رجالً جاء إلى عارف قال‪ :‬حدثني‪ ،‬فقال‪ :‬إن مثلي معك كرجل‬ ‫ُ‬
‫وقع في القاذورات‪ ،‬فذهب إلى العطار‪ ،‬وقال‪ :‬أين الطِّ ْيب‪ ،‬فقال العطار‪ :‬اذهب اشتر‬
‫األشنان(‪ ،)1‬واغسل نفسك ولباسك‪ ،‬ثم تعال فتطيب‪ ،‬وكذلك أنت‪ ،‬لطخت(‪ )2‬نفسك‬
‫بأنجاس الذنوب‪ ،‬فخذ أشنان الحسرة‪ ،‬وطين وطين الندامة‪ ،‬وماء التوبة واإلنابة‪،‬‬
‫الجرم والجفاء‪ ،‬ثم اذهب‬ ‫(‪)3‬‬
‫إجانة الخوف والرجاء‪ ،‬من أنجاس ُ‬ ‫وطهر ظواهرك في ّ‬
‫إلى حمام الزهد والتقى‪ ،‬واغسل نفسك بماء الصدق والصفاء‪ ،‬ثم ائتني حتى أطيِّبك‬
‫بعطر معرفتي‪.‬‬
‫قال بعض الناس لعارف‪ :‬إني ألعرف كالمكم‪ ،‬قال‪ :‬كالم األخرس ال يعرفه‬
‫أمه‪ ،‬ومن كالم عيسى عليه الصالة والسالم‪ :‬يا صاحب الحكمة‪ُ ،‬كن كالطيب‬
‫إال ُّ‬
‫الناصح‪ ،‬يضع الدواء حيث ينفع‪ ،‬ويمنع الدواء حيث يضر‪ ،‬ال تضع الحكمة في غير‬
‫أهلها‪ ،‬فتكون جاهالً‪ ،‬وال تمنعها من أهلها‪ ،‬فتكون ظالماً‪ ،‬وال تكشف سرك عند كل‬
‫أحد‪ ،‬فتصير مفتضحاً‪.‬‬
‫وقال ذو النون رحمه اهلل‪ :‬رأيت رجالً أسود يطوف حول البيت ويقول‪:‬‬
‫به‪،‬‬ ‫ت‬
‫أنت أنت أنت‪ ،‬وال يزيد على ذلك اللفظ شيئاً‪ ،‬فقلت‪ :‬يا عبداهلل‪ ،‬أي شيء َعَن ْي َ‬
‫فأنشأ يقول‪:‬‬
‫ِ‬
‫فيحيكه‬ ‫قلم عنه‬ ‫ٌّ‬ ‫المحبين ِسٌّر ليس ي ِ‬
‫َخط وال ٌ‬ ‫فشيه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بين‬
‫بعض ما ِ‬
‫ِ‬
‫فيه‬ ‫يخب ُرهُ عن‬
‫نور ِّ‬
‫ٌ‬ ‫ُنس ِ‬
‫يماز ُج ُه‬ ‫نار تقا ِبلُ ُه‪ ،‬أ ٌ‬
‫ٌ‬
‫تمان تُ ِ‬
‫ناجيه‬ ‫سرائر ِك ٍ‬ ‫هذي‬ ‫شوقي إليه وال أبغي له بدالً‬
‫ُ‬

‫األشنان (بضم الهمزة وكسرها)‪ :‬شجر من الفصيلة الرمرامية ينبت في األرض الرملية‪ ،‬يستعمل هو أو‬ ‫(‪)1‬‬

‫رماده في غسل الثياب واأليدي (المعجم الوسيط)‪.‬‬


‫دنست‪.‬‬
‫لطّخت‪ّ :‬‬
‫(‪)2‬‬

‫اإلجانة‪ :‬إناء تغسل فيه الثياب‪.‬‬


‫ّ‬
‫(‪)3‬‬

‫‪53‬‬
‫الحديث العاشر‬

‫[ أول من يدخل الجنة]‬

‫أخبرنا الشيخ أبو طالب محمد بن علي‪ ،‬عن أبي القاسم علي بن أحمد الرزاز‪،‬‬
‫قال أنبأنا أبوالحسين محمد بن مخلد في سنة ثمان عشرة وأربعمائة‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا‬
‫عرفة العبدي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا‬
‫أبوعلي إسماعيل بن محمد الصفار‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا الحسن بن َ‬
‫أبوالنضر هاشم بن القاسم‪ ،‬عن سليمان بن المغيرة‪ ،‬عن ثابت البناني‪ ،‬عن أنس بن‬
‫مالك رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬آتى باب الجنة يوم‬
‫أفتح‬ ‫فأستفتح‪ ،‬فيقول الخازن‪َ :‬من أنت؟ فأقول محمد‪ ،‬فيقول‪ :‬بِ َ‬
‫ك أمرت أن ال َ‬ ‫ُ‬ ‫القيامة‬
‫(‪.)1‬‬
‫ك"‬ ‫ٍ‬
‫ألحد قَبلَ َ‬
‫وقد علم أهل العلم باهلل‪ ،‬أن الجنة التي هي باب الخير اإللهي األبدي‪ ،‬ال تُفتح‬
‫والعلم‬
‫ُ‬ ‫خير دنيوي وأخروي‪،‬‬ ‫الفاتح لكل ٍ‬
‫ُ‬ ‫إال بفتح محمد صلى اهلل عليه وسلم لها‪ ،‬فهو‬
‫بشأنه هو سر العلم باهلل تعالى‪ ،‬فمن أراد أن ُيفتح له أبواب الخير الدنيوي واألخروي‬
‫فعليه أن يتعلق بأذياله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإن في نفحاتها علم المعرفة‪.‬‬
‫أي سادة‪ ،‬علم المعرفة هو العلم باهلل تعالى‪ ،‬وهو نور من أنوار ذي الجالل‪،‬‬
‫وخصلة من أشرف الخصال‪ ،‬أكرم اهلل به قلوب العقالء‪ ،‬فزينها بحسن جماله‪،‬‬
‫وعظيم شأنه‪ ،‬وخص به أهل واليته ومحبته‪َّ ،‬‬
‫وفضله على سائر العلوم‪ ،‬وأكثر الناس‬
‫عن شرفه غافلون‪ ،‬وبلطائفه جاهلون‪ ،‬وعن عظيم َخطره ساهون‪ ،‬وعن غوامض‬
‫أساس ُبنيت عليه‬
‫معانيه الهون‪ ،‬فال ُيدركه إال أرباب القلوب الموفقون‪ ،‬وهذا العلم ٌ‬
‫سائر العلوم‪ ،‬به ُينال خير الدارين‪ ،‬وعز المنزلين‪ ،‬وبه َيعرف العبد عيوب‬
‫ُ‬

‫‪ :‬صحيح‪ .‬رواه أحمد في مسنده (دار الحديث) ‪( 10/442‬مسند أنس رضي اهلل عنه( برقم ‪12337‬‬ ‫(‪.)1‬‬

‫ومسلم‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب في قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أنا أول الناس يشفع في الجنة‪ ،‬وأنا أكثر األنبياء تبعاً"‬
‫رقم ‪.197‬‬

‫‪54‬‬
‫يطير ِس ُّر العبد بجناح المعرفة‬ ‫ِ‬
‫نفسه‪ ،‬ومَنن ربه‪ ،‬وجالل ربوبيته‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬به ُ‬
‫في سرادقات لطائف القدرة‪ ،‬ويجول حول منتهى العزة‪ ،‬ويرتعُ في روضات القدس‪،‬‬
‫فال تتم العلوم كلها دون امتزاج شيء منه بها‪ ،‬وال تفسد األعمال إال بفقده‪ ،‬ولم تسكن‬
‫قلوب نظر اهلل إليها بالرأفة والرحمة‪ ،‬وأمطر عليها أمطار الفهم والبالغة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫إليه‬
‫والفطنة‪ ،‬وجعلها موضع العقل والفراسة‪ ،‬وطهرها من أدناس‬ ‫وطيبها برياحين اليقين ِ‬
‫ونورها بمصابيح العلم والحكمة‪ ،‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫الجهالة والغفلة‪َّ ،‬‬
‫(يرفع اهلل الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)(‪ ،)1‬وكل عارف‬
‫يخشى اهلل تعالى ويتقيه على مقدار علمه باهلل عز وجل‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫(إنما يخشى اهلل من عباده العلماء)(‪ ،)2‬بنوره يعرف وساوس الشيطان‪ ،‬الدافعة إلى‬
‫المعاصي والزالت‪ ،‬ويحذر به آفات اإلرادات‪ ،‬قال اهلل تعالى‪( :‬أفمن شرح اهلل‬
‫صدره لإلسالم فهو على نور من ربه)(‪ ،)3‬وقال اهلل تعالى‪( :‬ومن لم يجعل اهلل له‬
‫نوراً فما له من نور)(‪.)4‬‬
‫وفي الخبر‪" :‬إن من العلم كهيئة المكنون المخزون‪ ،‬ال يعرفها إال أهل العلم‬
‫الغرة"(‪ )5‬وجاء رجل إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫باهلل‪ ،‬وال ينكرها إال أهل َّ‬
‫أي األعمال أفضل؟ فقال‪" :‬العلم باهلل"(‪.)6‬‬

‫وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال‪ :‬يا رب‪ ،‬أي العباد أكثر حسنة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وأرفع درجة عندك؟ قال‪ :‬أعلمهم بي‪ .‬وقال اإلمام الجليل سيدنا علي بن أبي طالب‬

‫سورة المجادلة‪11 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة فاطر‪.28 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة الزمر‪.22 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة النور‪.40 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫ضعيف‪ .‬رواه الحافظ عبدالعظيم المنذري وقال‪" :‬رواه أبو منصور الديلمي في المسند (مسند الفردوس‪)799‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫وأبو عبد الرحمن السلمي في األربعين التي له في التصوف" [ الترغيب والترهيب (دار ابن كثير وشركائها)‬
‫‪ 1/135‬برقم ‪ ]141‬ورواه اإلمام الغزالي في إحياء علوم الدين (دار المعرفة) ‪ 1/20‬وقال الحافظ العراقي في‬
‫تخريجه‪" :‬رواه أبو عبد الرحمن السلمي في األربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‬
‫بإسناد ضعيف"‪.‬‬
‫رواه ابن عبد البر في فضل العلم بسند ضعيف عن أنس رضي اهلل عنه [ كشف الخلفاء (التراث اإلسالمي)‬ ‫(‪)6‬‬

‫‪.]2/111‬‬

‫‪55‬‬
‫رضي اهلل عنه وكرم اهلل وجهه‪ :‬أعلم الناس باهلل أشدهم تعظيماً لحرمة ال إله إال اهلل‪،‬‬
‫قال أبو الدرداء رضي اهلل عنه ‪ :‬من ازداد باهلل علماً ازداد َو َجال‪.‬‬
‫وروي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالم‪ :‬أن يا داود تعلم‬
‫العلم النافع‪ ،‬قال‪ :‬إلهي‪ ،‬وما العلم النافع؟ قال‪ :‬أن تعرف جاللي وعظمتي وكبريائي‪،‬‬
‫وكمال قدرتي على كل شيء‪ ،‬فإن هذا الذي يقربك إلي‪ ،‬وإ ني ال أعذر بالجهالة َمن‬
‫لقيني‪.‬‬
‫وقيل لمحمد بن الفضل السمرقندي(‪ :)1‬ما العلم باهلل؟ قال‪ :‬أن ترى قضاءه في‬
‫نفسك هلل‪ ،‬واألشياء كلها في‬
‫الخْلق ُم ْب َرماً‪ ،‬والضر والنفع والعز والذل منه‪ ،‬وترى َ‬
‫َ‬
‫قبضته‪ ،‬وأن ال تختار لنفسك غير اختيار‪ ،‬وتعمل هلل خالصاً‪.‬‬
‫يا بني اجتهد في تعلم علم السر‪ ،‬فإن بركته كثيرة أكثر مما تظن‪ ،‬يا بني َمن‬
‫تعلم علم العالنية دون علم السر هلك وهو ال يشعر‪ .‬يا بني إن أردت أن يكرمك اهلل‬
‫ِ‬
‫وأحكم أمرك للموت‪ ،‬قال‬ ‫بعلم السر فعليك ببغض الدنيا‪ .‬واعرف حرمة الصالحين‪،‬‬
‫رب زدني علماً)(‪( .)2‬وعلّمك ما لم تكن تعلم)(‪( )3‬وعلّمناه من لدنا‬
‫اهلل تعالى‪( :‬و ُقل ّ‬
‫فر َّ‬
‫ب‬ ‫ُ‬ ‫‪.‬‬‫(‪)5‬‬
‫)‬ ‫لنا‬ ‫ب‬
‫ُ‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫لنهدينهم‬ ‫فينا‬ ‫جاهدوا‬ ‫والذين‬‫(‬ ‫آخر‪:‬‬ ‫موضع‬
‫ٍ‬ ‫في‬ ‫قال‬ ‫أنه‬ ‫إال‬ ‫(‪)4‬‬
‫علماً)‬
‫إن ِعلم المعرفة فض ٌل من اهلل يؤتيه من اصطفاه ِمن‬ ‫رجل كثير الروايات جاهل باهلل‪َّ ،‬‬
‫لصحبته‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫َخلقه‪ ،‬واجتباه ُ‬
‫العلم ِعلمان‪ ،‬علم باللسان‪ ،‬وهو حجة اهلل على العباد‪،‬‬
‫جاء في الخبر‪ُ " :‬‬

‫بلخي األصل‪ ،‬عاش في سمرقند‪ ،‬ومات بها سنة ‪ 319‬هـ (الرسالة القشيرية ‪.)73‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة طه‪.114 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة النساء‪.113 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة الكهف‪65 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة العنكبوت‪.69 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪56‬‬
‫وعلم بالقلب‪ ،‬وهو العلم األعلى"(‪ )1‬ال يخشى العبد من اهلل إال به وقال صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪" :‬أشدكم هلل خشية أعلمكم باهلل"(‪.)2‬‬
‫عالم بأمر اهلل غير عالم باهلل‪،‬‬
‫رحمه اهلل‪ :‬العلماء ثالثة‪ٌ :‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وقال سفيان الثوري‬
‫فذلك العالم الفاجر الذي ال يصلح إال للنار‪ ،‬وعالم باهلل غير عالم بأمره‪ ،‬فذلك ناقص‪،‬‬
‫وعالم باهلل وبأمره به‪ ،‬فهو العالم الكامل‪.‬‬
‫عرف باألشياء بل‬
‫قيل لبعض العارفين‪ :‬ما سبيل معرفة اهلل؟ قال‪ :‬ليس ُي َ‬
‫وعرفت ما دون اهلل بنور اهلل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عرفت اهلل باهلل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عرف األشياء به‪ ،‬كما قال ذو النون‪:‬‬
‫تُ َ‬
‫كنت أعرف َمن‬
‫وقال إبراهيم عليه الصالة والسالم‪ :‬إلهي‪ ،‬لوال أنت كيف ُ‬

‫رواه أبو بكر الخطيب في تاريخه (‪ )4/346‬بإسناد حسن‪ ،‬وابن عبد البر النمري في جامع بيان العلم‬ ‫(‪)1‬‬

‫[(المنيرية) ‪ ]1/190‬عن الحسن البصري مرسالً بإسناد صحيح‪ ،‬والديلمي في مسند الفردوس (‪)4194‬‬
‫واألصبهاني في كتابه (الترغيب والترهيب ‪ )2192‬والبيهقي (في شعب اإليمان ‪ )1825‬عن الفضيل بن عياض‬
‫من قوله غير مرفوع (الترغيب والترهيب للحافظ المنذري‪ :‬الحديثان ‪139‬و ‪ )140‬وذكره اإلمام الغزالي في‬
‫إحياء علوم الدين ‪ 1/59‬و ‪ 3/24‬وقال زين الدين العراقي في المغني‪" :‬أخرجه الترمذي الحكيم في النوادر (‬
‫‪ ..)255‬وأسنده الخطيب في التاريخ من رواية الحسن عن جابر بإسناد جيد‪ .‬وأعلّه ابن الجوزي "وإ عالل ابن‬
‫الجوزي له وهم (فيض القدير ‪ )4/391‬ورواه السيوطي من طريقين‪ :‬طريق ابن أبي شيبة والحكيم والخطيب‬
‫عن جابر رضي اهلل عنه (كنز ‪ 28667‬و ‪ )28947‬وطريق أبي نعيم عن يوسف بن عطية عن قتادة عن أنس‬
‫رضي اهلل عنه (كنز ‪ )28946‬وقال‪" :‬وأورده ابن الجوزي في العلل (المتناهية ‪ )1/83‬من الطريقين" وهو في‬
‫فهرسة ابن خير ‪ 6‬وإ تحاف ‪ 1/85‬و ‪ 349‬و ‪ 7/295‬والدر المنثور ‪ 5/250‬وأمالي الشجري (بيروت) ‪1/60‬‬
‫(موسوعة أطراف الحديث ‪.)5/518‬‬
‫إحياء علوم الدين (المعرفة) ‪ 1/76‬وإ تحاف ‪ 1/422‬والكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف البن حجر‬ ‫(‪)2‬‬

‫(المعرفة) ‪ .139‬وعقب الحافظ العراقي على روايته المطولة في اإلحياء بقوله‪ :‬لم أجده هكذا بطوله‪.‬‬
‫سفيان بن سعيد من بني ثور (م مصر) ‪ 161-97‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪57‬‬
‫أنت؟ و ِمثله عن رابعة العدوية قالت لذي النون‪ :‬كيف عرفت اهلل؟ قال‪ :‬رزقني‬
‫ذكرت جالل اهلل فاستحييت منه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هممت بمعصية‬
‫ُ‬ ‫الحياء‪ ،‬وكساني المراقبة‪ ،‬فكلما‬
‫مثل المعرفة كشجرة لها ستة أغصان‪ ،‬أصلها ثابت في أرض اليقين‬
‫والتصديق‪ ،‬وفرعها قائم باإليمان والتوحيد‪.‬‬
‫فأول أغصانها الخوف والرجاء مقرونين بغصن الفكرة‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬الصدق والوفاء مقرونين بغصن اإلخالص‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬الخشية والبكاء مقرونين بغصن التقوى‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬القناعة والرضاء مقرونين بغصن التوكل‪.‬‬
‫والخامس‪ :‬التعظيم والحياء مقرونين بغصن السكينة‪.‬‬
‫والسادس‪ :‬اإلستقامة والوفاء مقرونين بغصن الود والمحبة‪.‬‬
‫ويتشعب من كل غصن ما ال نهاية له في العدد من أنواع الخير‪ ،‬والصدق في‬
‫المعاملة‪ ،‬وأنس الصحبة‪ ،‬وفرائد القربة‪ ،‬وصفاء الوقت‪ ،‬وغير ذلك مما ال يصفه‬
‫الواصفون‪ ،‬وعلى كل شعبة ثمار شتى‪ ،‬ال يشبه لون إحداها األخرى وال طعمها‪،‬‬
‫تحتها أنوار التوفيق‪ ،‬جارية من ينبوع الفضل والعناية‪ ،‬والناس في ذلك على تفاوت‬
‫الدرجات‪ ،‬وتباين الحاالت‪ ،‬فمنهم من أخذ بفرعها غافالً عن أصلها‪ ،‬محروماً من‬
‫أغصانها‪ ،‬محجوباً عن حالوة ثمارها‪ ،‬ومنهم من تمسك بفروعها‪ ،‬ومنهم من أخذ‬
‫بأصلها وأخذ كلها من غير أن يلتفت إلى كلها‪ ،‬النفراده بولي ِ‬
‫ِّه خالقها‪َ ،‬من لم يكن له‬
‫نور من سراج التوفيق‪ ،‬ولو جمع الكتب واألخبار واألحاديث كلها‪ ،‬لم يزدد إال ُبعداً‬
‫ونفوراً‪ ،‬كمثل الحمار يحمل أسفاراً‪.‬‬
‫ُيقال إن رجالً جاء إلى اإلمام علي عليه السالم فقال علمني من غرائب العلم‪،‬‬
‫أعرفت ربك؟ قال نعم‪،‬‬
‫َ‬ ‫فعلت في رأس العلم؟ قال‪ :‬وما رأس العلم؟ قال‪:‬‬
‫قال‪ :‬ما َ‬
‫فإن أحكمته فَأ ِ‬
‫ْت‬ ‫فانطلق ِ‬
‫ِ‬
‫فأحكم هذا‪ْ ،‬‬ ‫فعلت في حقه؟ قال ما شاء اهلل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫قال‪ :‬ما َ‬
‫الفرق بين علم المعرفة وغيرها كالفرق بين الحي‬
‫ُ‬ ‫ك غرائب العلم‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫أعلم َ‬
‫والميت‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫الحديث الحادي عشر‬

‫[ يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته]‬

‫أخبرنا شيخنا اإلمام المقرئ الجليل الشيخ أبو الفضل علي الواسطي قدس اهلل‬
‫روحه‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد الواعظ‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو حفص عمر‬
‫بن محمد بن عبد الرحمن الجمحي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا علي بن عبد العزيز‪ ،‬عن ابن‬
‫المبارك‪ ،‬عن حرملة بن عمران‪ ،‬عن يزيد بن أبي جندب‪ ،‬عن أبي الخير‪ ،‬عن عقبة‬
‫ابن عامر رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬المرء في ظل‬
‫صدقته حتى ُيقضى بين الناس‪ ،‬أو قال‪ :‬يحكم بين الناس" هذا لكونه ترك شيئاً قليالً‬
‫(‪)1‬‬

‫مما تحبه نفسه لربه‪ ،‬فكيف إذا خرج عن نفسه بالكلية؟‬


‫المذنبين بأني‬ ‫ِّ‬
‫روي أن اهلل تبارك وتعالى أوحى إلى داود عليه السالم‪ :‬بشر ُ‬
‫غفور‪ ،‬وأنذر ِ‬
‫الص ِّديقين بأني غيور‪.‬‬
‫وروي أن يوسف عليه الصالة والسالم‪ :‬لما ألقي في الجب‪ ،‬كان يقول‪ :‬من‬
‫ُ‬

‫صحيح‪ .‬وأوله‪" :‬كل امرئ في ظل صدقته‪ " ..‬الحديث‪ .‬أخرجه ابن المبارك في الزهد (دار الكتب العلمية)‬ ‫(‪)1‬‬

‫الجزء الخامس‪ :‬باب الصدقة ص ‪ 227‬برقم ‪ 645‬وأحمد في المسند (دار الحديث) ‪ 13/343‬برقم ‪17266‬‬
‫(من حديث عقبة بن عامر رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم) وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان‬
‫لللهيثمي (الرسالة) ‪ 1/362‬برقم ‪( 817‬اإلحسان ‪ )3310‬وابن خزيمة ‪ 4/94‬رقم ‪ 243‬وحلية األولياء ‪8/181‬‬
‫والحاكم في المستدرك‪ :‬الزكاة ‪ 1/416‬وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص‪ ،‬وعنه وعن المسند في كنز العمال‬
‫‪ 16068‬والسخاوي في المقاصد الحسنة ‪ 224‬والغزالي في إحياء علوم الدين ‪ 1/225‬و ‪ 3/88‬والعراقي‬
‫بهامشه‪ ،‬وإ تحاف السادة المتقين ‪ 4/167‬و ‪ 7/401‬وشرح السنة للبغوي ‪ 6/136‬ومجمع الزوائد (الفكر)‬
‫‪ 3/285‬رقم ‪ 4612‬والدر المنثور ‪ 1/355‬و ‪( 2/16‬موسوعة أطراف الحديث ‪ )6/423‬كلهم عن عقبة بن‬
‫عامر رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫لعب في خدمة مواله‪ ،‬فغيابة الجب مأواه‪ ،‬وهنا كلمات من طرائف مختصرات القوم‪،‬‬
‫تنشط بها همم الموفقين‪ ،‬يقول قائلهم رضي اهلل عنهم‪ُ :‬ح َّ‬
‫ق لمن عرف المولى‪ ،‬أن ال‬
‫العبد المولى‪ ،‬فكل لسان له دعوى‪ ،‬ليس للعارف‬
‫يشكو من البلوى‪ ،‬إذا لم يعرف ُ‬
‫دعوى‪ ،‬وال للمحب شكوى‪ ،‬إذا سبقت من الرب العناية‪ُ ،‬ه ِز َمت من العبد الجناية‪ ،‬إذا‬
‫سبقت العناية‪ ،‬وجبت الوالية‪ ،‬بالعناية تحصل الوالية‪ ،‬والوالية تهدم الجناية‪ ،‬ليس‬
‫درك الواليةَ من فاتته العناية‪ ،‬الم ِ‬
‫ص ُّر‬ ‫الشأن في الوالية‪ ،‬لكن الشأن في العناية‪ ،‬لم ُي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وجود الحق‪ ،‬اطرح الدعوى تجد المعنى‪َ ،‬من كان له‬ ‫ُ‬ ‫طرح الخلق‬
‫ُ‬ ‫َس َّر السِّر‪،‬‬
‫من أ َ‬
‫باطن صحيح‪ ،‬فجميع كالمه مليح‪ ،‬ال تغتر بصفاء األوقات(‪ ،)1‬فإن تحتها فنون‬
‫ٌ‬
‫اآلفات‪ ،‬ال تغتر بصفاء العبودية‪ ،‬فإن فيها نسيان الربوبية‪ ،‬خل الدارين للطالبين‪،‬‬
‫عم الدليل‪ ،‬وتوكل عليه فنعم الوكيل‪ ،‬ما دام قلب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واستأنس برب العالمين‪ ،‬استَ ْهد باهلل فن َ‬
‫نور ساطع‪ ،‬واألنس‬‫العبد بغير اهلل معلقاً‪ ،‬كان باب الصفاء عنه ُمغلقاً‪ ،‬األُنس باهلل ٌ‬
‫حصون األسرار‪،‬‬ ‫قلوب األبرار‪ ،‬قلوب األبرار‬ ‫عد ُن األسرار‬ ‫بالمخلوق َه ٌّم واقع‪ ،‬م ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وخير‬
‫ُ‬ ‫القلب إذا ابتُلي بالمربوب‪ُ ،‬ع ِز َل عن والية المحبوب‪ُ ،‬‬
‫خير الرزق ما يكفي‪،‬‬
‫ط‪ ،‬ليس باللبيب َمن اختار على الحبيب‪ ،‬بقدر ما‬ ‫وس ْل تُع َ‬
‫كف َ‬ ‫الذكر الخفي‪ ،‬توكل تُ َ‬
‫ط عليه ما سواه‪ ،‬وإ ذا رضي‬ ‫العبد إذا سخط عليه مواله‪َ ،‬س ِخ َ‬ ‫تتعنى تنال ما تتمنى‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫الحبيب‬ ‫وذنب‬
‫ُ‬ ‫عنه مواله‪ ،‬رضي عنه ما سواه‪ُ ،‬ع ْذ ُر الحبيب عند الحبيب مبرور‪،‬‬
‫ِ‬
‫الحبيب مغفور‪َ ،‬من أراد المولى فليتهيأ للبلوى‪.‬‬ ‫عند‬
‫واجعل الحزن ِلما بين يديك‬ ‫َه ِّون الدنيا وما فيها عليك‬
‫العبد‬
‫الحبيب إلى الحبيب‪ ،‬ينبغي أن يكون ُ‬ ‫وصل‬‫الموت ِجسر مهيب‪ ،‬ي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ َ‬
‫والدعاء أنيسك‪.‬‬
‫َ‬ ‫جليسك‪،‬‬
‫َ‬ ‫مشغوالً بما يكون غداً عنه مسؤوالً‪ ،‬اجعل التُقى‬

‫الوقت‪" :‬حادث متوهم علّق حصوله على حادث متحقق‪ ،‬فالحادث المتحقق وقت للحادث المتوهم‪ ،‬تقول‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫آتيك رأس الشهر‪ ،‬فإالتيان متوهم‪ ،‬ورأس الشهر حادث متحقق‪ ،‬فرأس الشهر وقت اإلتيان‪ ..‬وقد يعنون بالوقت‬
‫ما هو فيه من الزمان" (القشيرية ‪.)114‬‬

‫‪60‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وكل ٍ‬
‫نعيم ال محال َة زائ ُل‬ ‫ُّ‬ ‫أال كل شيء ما خال اهلل باط ُل‬
‫سرور النظر؟ كل‬
‫ُ‬ ‫سرور الخير‪ ،‬فكيف‬‫ُ‬ ‫والشوق ُيقلق‪ ،‬وهذا‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫الحب ُيحرق‪،‬‬
‫نعمة دون الجنة فانية‪ ،‬وكل بالء دون النار عافية(‪ ،)2‬التوبة تطهر الحوبة(‪،)3‬‬
‫ثواب‬
‫المسيئين‪ ،‬أليس قد فاتهم ُ‬‫االعتراف يهدف االقتراف‪َ ،‬هب أن اهللَ قد عفا عن ُ‬
‫المحسنين‪ِ ،‬‬
‫أع ّد للسؤال جواباً‪ ،‬وللجواب صواباً‪ ،‬اطلب ما يعنيك بترك ما ال يعنيك‪،‬‬ ‫ُ‬
‫عبد إذا طمع‪ ،‬أخرج‬
‫والحر ٌ‬
‫العبد ُحٌّر إذا قنع‪ُ ،‬‬
‫والحريص محروم‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫الرزق مقسوم‪،‬‬
‫ُ‬
‫القيد من ِرجلك‪ ،‬قَ ِّدم إلى الحشر زادك‪ ،‬فإن إلى اهلل َمعادك‪،‬‬
‫الطمع من قلبك‪ ،‬تح ّل َ‬
‫خطية(‪ ،)4‬والدنيا ساعة‪ ،‬فاجعلها طاعة‪ ،‬الدنيا كلها غرور‪ ،‬والعقبى‬
‫وحبها ّ‬
‫دنية‪ُ ،‬‬
‫الدنيا ّ‬
‫والعقبى معدن العطا(‪ ،)5‬الدنيا معدن الجفاء‪ ،‬والعقبى‬
‫الخطا‪ُ ،‬‬
‫كلها سرور‪ ،‬الدنيا معدن َ‬
‫معدن الوفاء‪ ،‬أساس التقوى ترك الدنيا‪ ،‬أخوف الناس آمنهم‪ ،‬ما أغفلك عما ُخلقت له‪،‬‬
‫رت له‪ ،‬منعك طو ُل األمل‪ ،‬عن ذكر‬
‫ُم َ‬‫وما أعجزك عما أ ِ‬

‫عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد‪ :‬أال‬ ‫(‪)1‬‬

‫كل شيء ما خال اهلل باطل‪ [ " ..‬البخاري‪ :‬األدب‪ ،‬باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه رقم‬
‫‪ 5795‬ومسلم‪ :‬أوائل كتاب الشعر رقم ‪.]2256‬‬
‫(‪ )2‬أمثال هذه العبارة للسيد اإلمام الرفاعي تسدد فهم موقف أهل التحقيق من نعيم اآلخرة وعذابها‪ ،‬فهم ال‬
‫يستهترون حيالهما‪ ،‬وال ُي ِقلّون من شأنهما‪ ،‬إنما يعظمون اهلل عز وجل فهو سبحانه الغاية‪ ،‬وهو يستحق العبادة‬
‫حتى لو لم يخلق جنةً وال ناراً‪ ،‬فكيف وأمام الناس إما جنة نعيم أو عذاب مقيم؟ ومعروف أن السيدة رابعة العدوية‬
‫كانت من أكثر من ذاعت عنه هذه المقولة‪ ،‬لكنها من المؤكد أنها كانت ترجو رحمة ربها وتخشى عذابه‪ ،‬وقال‬
‫عبد الوهاب الشعراني‪ " :‬كانت (رابعة) رضي اهلل عنها كثيرة البكاء والحزن وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي‬
‫عليها زماناً" (الطبقات الكبرى (دار الفكر) ‪.)1/65‬‬
‫الحوبة‪ :‬اإلثم‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫خطية‪ :‬خطيئة‪.‬‬
‫ّ‬
‫(‪)4‬‬

‫الخطا‪ :‬الخطأ‪ ،‬والعطا‪ : ،‬العطاء‪ ،‬خفّف همزة "الخطأ" ‪ ،‬وقصر " العطا" إلقامة السجع‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪61‬‬
‫عص موالك بطاعة‬ ‫رت له‪ ،‬منعك طول األمل‪ ،‬عن ذكر األجل‪ ،‬ال تَ ِ‬ ‫ُم َ‬ ‫لقت له‪ ،‬وما أعجزك عما أ ِ‬ ‫أغفلك عما ُخ َ‬
‫خير من ٍ‬
‫كثير ُيطغيك‪،‬‬ ‫أردت المكارم‪ ،‬فاجتنب المحارم‪ ،‬قلي ٌل يكفيك ٌ‬
‫َ‬ ‫ك الجفاء‪ ،‬إن‬
‫هواك‪ ،‬رأس الوفاء تَْر ُ‬
‫كثير المقال‪ ،‬اتق اهلل إذا خلوت‪َ ،‬يستجب لك إذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والمنافق قلي ُل الفعال‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫المقال‪،‬‬
‫كثير الفعال‪ ،‬قلي ُل َ‬
‫المؤمن ُ‬
‫ب الحالل‪ُّ ،‬‬
‫أشد‬ ‫دعوت‪ ،‬غضب ِ‬
‫اهلل ُّ‬
‫طلَ ُ‬
‫التدبير إلى الملك الخبير‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫أكبر من جنته‪ ،‬دع‬
‫ورضوانهُ ُ‬
‫ُ‬ ‫أشد من ناره‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫هم وذكر لغير اهلل فهو حجاب بينك وبين اهلل‪ ،‬ال تقع المؤانسة بين العبد وربه‪ ،‬حتى تقع‬ ‫من َن ْقل الجبال‪ ،‬كل ٍّ‬
‫ِ‬ ‫العبد إلى الحق‪ ،‬حتى يعتزل عن ص ِ‬
‫لمهُ‬
‫الخْلق‪ ،‬حسبي من سؤالي ع ُ‬
‫حبة َ‬ ‫ُ‬ ‫الوحشة بينه وبين خلقه‪ ،‬ال يصل ُ‬
‫بحالي‪.‬‬
‫ف‬
‫وبالء وتَلَ ْ‬ ‫وعناء‬ ‫ف‬
‫س َر ْ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫محبوب سوى اهلل َ‬ ‫كل‬
‫ف‬
‫عنه َخلَ ْ‬
‫الرحمن ما ُ‬
‫َ‬ ‫ما خال‬ ‫ف‬‫وأس ْ‬
‫وغموم َ‬
‫ٌ‬ ‫وهموم‬
‫ٌ‬

‫الجنة نام ِ‬
‫طالُبها‪ ،‬وال مثل النار نام هاربُها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫رأيت مثل‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫المغر َب ِ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫ثم ُد ْر ُ‬
‫َّ‬ ‫ش ِرقَ ْي ِن‬‫الم ْ‬
‫ت حو َل َ‬ ‫ُد ْر ُ‬
‫لم ِ‬
‫ليك الثَ َقلَ ْي ِن‬ ‫فوجدت األمر ُكالَّ‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫كرهُ قَُّرةُ َعيني‬ ‫ِ‬
‫ذُ‬ ‫ني ُ!ة قلبي‬
‫ُّه ُم َ‬
‫ُحب ُ‬

‫‪62‬‬
‫الحديث الثاني عشر‬

‫[ الراحمون يرحمهم الرحمن]‬

‫أخبرنا الشيخ الجليل المقرئ العارف باهلل خالي أبو بكر األنصاري الواسطي‪،‬‬
‫قال‪ :‬أنبأنا أبو عبد اهلل محمد بن أبي نصر الحميدي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو القاسم منصور‬
‫ابن النعمي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو نصر عبداهلل بن سعيد بن حاتم الوائلي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو‬
‫َي ْعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو حامد أحمد بن محمد بن بالل‬
‫البزاز‪ ،‬قال أنبأنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا سفيان بن ُعيينة‪ ،‬عن‬
‫ّ‬
‫عمرو بن دينار‪ ،‬عن أبي قابوس(‪ ،)1‬عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬الراحمون يرحمهم الرحمن‪ ،‬ارحموا‬
‫َمن في األرض يرحمكم َمن في السماء"(‪.)2‬‬

‫َم َر المصطفى صلى‬‫هذا الحديث الشريف فيه من أسرار العلم باهلل العجائب‪ ،‬أ َ‬
‫اهلل عليه وسلم بالرحمة ِل َمن في األرض من المخلوقين‪ ،‬لتحصل بذلك الرحمة للعبد‬
‫العلويين‪ ،‬فإن السماء طريق ُّ‬
‫تنزل الرحمات الربانية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫من كل َمن في السماء من ُ‬
‫ومحل أنبوب اإلفاضات الرحموتية‪ ،‬ومقر المالئكة الذين جعلهم اهلل وسائط أسراره‬
‫بينه وبين خلقه‪،‬‬

‫أبو قابوس‪ :‬هو مولي عبد اهلل بن عمرو رضي اهلل عنهم‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه أحمد في المسند (دار الحديث) ‪( 6/46‬مسند عبداهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما)‬ ‫(‪)2‬‬

‫برقم ‪ 6494‬وأبو داود‪ :‬األدب‪ ،‬باب في الرحمة ‪ 4941‬والترمذي‪ :‬البر والصلة‪ ،‬باب ما جاء في رحمة الناس‬
‫‪ 1925‬وقال أبو عيسى‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ .‬والحاكم في المستدرك ‪( 4/159‬كتاب البر والصلة)‬
‫وصححه هو والذهبي‪ .‬وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (الفكر) ‪( 8/341‬رقم ‪ )13672‬عن جرير رضي‬
‫اهلل عنه بلفظ ‪ " :‬ارحم من في األرض يرحمك من في السماء" وقال‪ :‬رواه الطبراني‪ ،‬ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫ورواه بهذا اللفظ أيضا ً عن عبد هللا بن مسعود رضي اهلل عنه برقم ‪ 13674‬وقال‪ :‬رواه أبو يعلى والطبراني في‬
‫الثالثة‪ .‬ورجال أبي يعلى رجال الصحيح إال أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو ُمرسل‪ .‬لكنه يتقوى بشواهده‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫فإذا ألقى الرحمة في سر َملَك الرزق طاب الرزق‪ ،‬وإ ذا ألقاها في سر كاتب األعمال‬
‫أنساه السيئات‪ ،‬وإ ذا ألقاها في سر الرقيب أعان ورفق‪ ،‬والرحمة حال العارف‪،‬‬
‫ومعراج قلبه إلى ربه‪ ،‬وإ ن عباد اهلل العارفين‪ ،‬مظاهر لرحمة رب العالمين في‬
‫المخلوقين‪ ،‬وهو سبحانه أرحم الراحمين‪.‬‬
‫جالست العارفين‬
‫َ‬ ‫تحققت بالرحمة للمخلوقين ُرحمت‪ ،‬وإ ذا‬
‫َ‬ ‫أي بني‪ ،‬إذا‬
‫نجحت‪ ،‬وإ ذا سألت الحكماء الربانيين تعلمت‪ ،‬أي بني‪ ،‬اعلم أن لكل شيء مفتاحاً‪،‬‬
‫المريد على أن يجالس أهل المعرفة‪ ،‬فيقتبس من‬
‫ومفتاح العلم السؤال‪ ،‬فإن قَ َد َر ُ‬
‫علمهم‪ ،‬وتحقيق رمزهم‪ ،‬ولطائف إشاراتهم‪ ،‬فََب ٍخ َب ْخ(‪ ،)1‬فإن شرف العلماء الربانيين‪،‬‬
‫ناء ِس ِّره‪ ،‬فليغتنم ُحرمتهم‪،‬‬
‫ُم ُ‬‫أحباء اهلل‪ ،‬وأ َ‬
‫ُ‬ ‫أحد غيراهلل‪ ،‬ألنهم‬
‫أكبر من أن يدركه ٌ‬
‫وليحرك خواطرهم بحسن السؤال‪ ،‬فإن أمواج خواطر العارفين ال تفنى عجائبها‪،‬‬
‫وكفى للمرء جهالً إمسا ُكه عن التعلم‪ ،‬واستكفاؤه بما عنده‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫(فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون)(‪ ،)2‬وقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬جالسوا‬
‫الكبراء‪ ،‬واسألوا العلماء"(‪.)3‬‬

‫بخ‪ :‬اسم فعل مضارع بمعنى أستحسن (الغالييني‪ :‬جامع الدروس العربية (ط‪ )1/164 )10‬وقال الفيروز‬ ‫(‪)1‬‬

‫آبادي‪" :‬بخ (كقد) أي َعظُم األمر وفَ ُخم‪ ،‬تقال وحدها وتكرر‪ ..‬كلمة تقال عند الرضى واإلعجاب بالشيء أو‬
‫الفخر والمدح" [ القاموس المحيط (بخ)] وضبطها في القاموس بغير وجه‪.‬‬
‫(‪ )2‬سورة النحل‪.43 :‬‬
‫(‪ )3‬السيوطي في الجامع الصغير (دار الفكر) ‪ 1/554‬برقم ‪ 3577‬وعزاه إلى المعجم الكبير للطبراني ورمز‬
‫إلى صحته‪ ،‬وهو عن أبي جحيفة رضي اهلل عنه‪ .‬وفي كنز العمال (‪ )24661‬عن الطبراني في الكبير‪ ،‬ورواه‬
‫عن العسكري برقم ‪ 25583‬ورفعه‪ ،‬وبرقم ‪ 25584‬موقوفاً‪ .‬وهو في كشف الخفاء برقم ‪ 1059‬وفي مجمع‬
‫الزوائد (الفكر) ‪ 1/334‬برقم ‪ 519‬وقال الهيثمي‪" :‬رواه الطبراني في الكبير من طريقين‪ ،‬إحداهما هذه (المعجم‬
‫الكبير ‪ 22/125‬مرفوعاً) واألخرى موقوفة (‪ )22/133‬وفيه عبد الملك بن حسين أبو مالك النخعي‪ ،‬وهو منكر‬
‫الحديث‪ ،‬والموقوف صحيح اإلسناد"‪ .‬وقال البيروتي‪" :‬فيه عبد الملك بن حسين بن مالك النخعي‪ ،‬ضعفه أبو‬
‫زرعة‪ ،‬والدارقطني‪ ،‬وساق له مناكير‪ ،‬هذا الحديث منها" أسنى المطالب (طبعة مصطفى البابي الحلبي) ص‬
‫‪.]89‬‬

‫‪64‬‬
‫فارتحلت إليه‪ ،‬فوقفت عنده أربعين‬
‫ُ‬ ‫صف لي رج ٌل بالمغرب‪،‬‬ ‫قال ذو النون‪ :‬و ِ‬
‫ُ‬
‫الح ْرمة‬ ‫ِ‬
‫صباحاً‪ ،‬فلم أجد وقتاً أقتبس به من علمه شيئاً‪ ،‬لكمال ُشغله بربه‪ ،‬ولم أترك ُ‬
‫رتحل؟ فأخبرته ببعض حالي‪ ،‬قال‪ :‬بأي‬‫فيوماً من األيام نظر إلي فقال‪ :‬من أين الم ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫شيء جئت؟ قلت‪ :‬ألقتبس من علمك‪ ،‬قال‪ :‬اتق اهلل‪ ،‬واستعن به‪ ،‬وتوكل عليه‪ ،‬فإنه‬
‫ولي حميد وسكت‪ ،‬فقلت‪ ،‬زدني رحمك اهلل فإني رجل غريب‪ ،‬جئتك من بلد بعيد‪،‬‬ ‫ٌّ‬
‫عالم أم م ِ‬
‫ناظر؟ فقلت‪ :‬بل‬ ‫ألسألك عن أشياء اختلجت في ضميري(‪ ،)1‬فقال‪ :‬أمتعلِّم أم ِ‬
‫ٌ ُ‬ ‫ُ ٌ‬ ‫َ‬
‫يت‬ ‫تتعد‪ ،‬فإنك إن َّ‬
‫تعد َ‬ ‫األدب وال َّ‬
‫َ‬ ‫متعلم محتاج‪ ،‬قال‪ِ :‬قف في درجة المتعلمين‪ ،‬واحفظ‬
‫فسد عليك النفع‪ ،‬العقالء من العلماء‪ ،‬والعارفون من األصفياء‪ ،‬الذين سلكوا سبيل‬
‫َ‬
‫الح ْزن‪ ،‬ذهبوا بخير الدارين‪ ،‬فقلت‪ :‬رحمك اهلل متى يبلغ العبد‬
‫الصدق‪ ،‬وقطعوا أودية ُ‬
‫إلى ما وصفت؟ قال‪ :‬إذا كان خارجاً من األسباب‪ ،‬قلت‪ :‬ومتى يكون العبد كذلك؟‬
‫يصير بال ُك ّلية‬
‫َ‬ ‫الحول والقوة‪ .‬قلت‪ :‬وما نهاية العارف؟ قال‪ :‬أن‬
‫قال‪ :‬إذا خرج من َ‬
‫الصديقين؟ قال‪ :‬إذا عرف‬
‫ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫عند وجوده‪ .‬قلت‪ :‬ومتى يبلغ إلى مهيمنة‬
‫كالمعدوم َ‬
‫نفسه‪ .‬قلت‪ :‬متى يعرف نفسه؟ قال‪ :‬إذا صار مستغرقاً في أبحر ِ‬
‫المَّنة‪ ،‬وخرج من‬
‫ياسينية(‪،)3‬‬
‫ّ‬ ‫أودية األنانية‪ ،‬وقام على ٍ‬
‫قدم‬
‫العبد على ما وصفته؟ قال‪ :‬إذا جلس على مركب الفردانية‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫قلت‪ :‬ومتى يبلغ ُ‬
‫وما مركب الفردانية؟ قال‪ :‬القيام بصدق العبودية‪ .‬قلت‪ :‬وما صدق العبودية؟ قال‪:‬‬
‫العلم هلل تعالى‪ ،‬والرضا بالقضاء‪ .‬قلت‪ :‬أوصني‪ .‬قال‪ :‬أوصيك‬

‫أي خطرت مع شك‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫ميمي من هيمن‪.‬‬ ‫يمنة‪:‬ـ مصدر‬ ‫ُّ‬


‫ومهَ َ‬
‫هيمنة‪ :‬تمكن‪ .‬من هيمن على كذا‪ :‬أي سيطر عليه وراقبه وحفظه‪ُ .‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ّ‬
‫ياسينية‪:‬ـ محمدية‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫‪65‬‬
‫حسبك‪.‬‬
‫باهلل‪ .‬قلت‪ :‬زدني‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫رجالً في بعض أسفاري‪ ،‬وعليه‬
‫قال عبد الواحد بن زيد رحمه اهلل‪ :‬رأيت ُ‬
‫أوجز‪ ،‬فإن األيام‬
‫ْ‬ ‫فسلمت عليه‪ ،‬قلت‪ :‬رحمك اهلل أسألك مسألة؟ قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ثوب من الشعر‪،‬‬
‫ٌ‬
‫تمضي‪ ،‬واألنفاس تُ َع ُّد وتُحصى‪ ،‬والرب ُمطَّلعٌ يسمع ويرى‪ ،‬قلت‪ :‬ما رأس التقوى؟‬
‫قال‪ :‬الصبر مع اهلل تعالى‪ :‬قلت‪ :‬ما رأس الصبر؟ قال‪ :‬التوكل على اهلل‪ ،‬قلت‪ :‬وما‬
‫رأس التوكل؟ قال‪ :‬االنقطاع إلى اهلل‪ .‬قلت‪ :‬وما رأس االنقطاع إلى اهلل؟ قال‪:‬‬
‫اإلنفراد هلل‪ .‬قلت‪ :‬وما رأس االنفراد؟ قال‪ :‬التجريد عما دون اهلل‪ .‬قلت‪ :‬ما أل ّذ‬
‫ُ‬
‫العيش مع اهلل‪ .‬قلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أطيب األشياء؟ قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُنس بذكر اهلل‪ .‬قلت‪ :‬ما‬
‫األشياء؟ قال‪ :‬األ ُ‬
‫ما أقرب األشياء؟ قال‪ :‬اللحوق باهلل(‪ ،)1‬قلت‪ :‬أي شيء أوجع للقلب؟ قال‪ :‬فراق اهلل‪،‬‬
‫قلت‪ :‬ما ِه ّمةُ العارف‪ .‬قال‪ :‬لقاء اهلل‪ .‬قلت‪ :‬ما عالمة المحب؟ قال‪ :‬حب ذكر اهلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما األُنس باهلل ؟ قال‪ :‬استقامة ِ‬
‫الس ِّر مع اهلل‪ .‬قلت‪ :‬ما رأس التفويض؟ قال‪:‬‬
‫التسليم ألمر اهلل‪ .‬قلت‪ :‬وما رأس التسليم؟ قال‪ :‬ذكر السؤال عند اهلل(‪ .)2‬قلت‪ :‬ما‬
‫أعظم السرور؟ قال‪ُ :‬ح ْس ُن الظن باهلل‪ .‬قلت‪َ :‬من أعظم الناس؟ قال‪ :‬من استغنى باهلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من أقوى الناس؟ قال‪ :‬من استقوى باهلل‪ .‬قلت‪ :‬من المغبون؟ قال‪ :‬من رضي‬
‫ِ‬
‫النزول بدون اهلل‪ .‬قلت‪ :‬متى يكون العبد‬ ‫ك‬
‫بغير اهلل‪ .‬قلت‪ :‬ما المروءة؟ قال‪ :‬تر ُ‬
‫ُمبعداً من اهلل؟ قال‪ :‬إذا صار محجوباً عن اهلل‪ .‬قلت‪ :‬متى يكون محجوباً عن اهلل؟‬
‫الغ ْمر(‪)3‬؟ قال‪َ :‬من أنفق عمره في غير‬
‫قال‪ :‬إذا كان في قلبه َه ٌّم غير اهلل‪ .‬قلت‪ :‬ومن ُ‬
‫طاعة اهلل‪ .‬قلت‪ :‬ما الزهد في الدنيا؟ قال‪ :‬تَْرك كل شيء يشغل عن اهلل‪ .‬قلت‪َ :‬من‬
‫المدبِر؟ قال‪َ :‬من أدبر عن اهلل‪.‬‬
‫ومن ُ‬
‫ِ‬
‫المقبل؟ قال‪َ :‬من أقبل على اهلل‪ .‬قلت‪َ :‬‬
‫ُ‬

‫أي الموت‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫السؤال عند اهلل‪ :‬الحساب‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫الغ ْمر (بضم الغين)‪:‬ـ الجاهل‪.‬‬


‫ُ‬
‫(‪)3‬‬

‫‪66‬‬
‫قلت‪ :‬ما القلب السليم؟ قال‪ :‬الذي لم يكن فيه سوى اهلل‪ .‬قلت‪ :‬أخبرني من أين تأكل؟‬
‫قال‪ :‬من خزائن اهلل‪ .‬قلت‪ :‬ما تشتهي؟ قال‪ :‬ما يقضي اهلل‪ ،‬قلت‪ :‬أوصني‪ .‬قال‪:‬‬
‫وارض بقضاء اهلل‪ ،‬واستأنس بذكر اهلل‪ ،‬تكن من أصفياء اهلل‪.‬‬
‫َ‬ ‫اعمل بطاعة اهلل‪،‬‬
‫قال ذو النون المصري‪ :‬كنت في بعض سياحتي‪ ،‬فإذا بشيخ وفي وجهه‬
‫لوجدت الطريق‬
‫َ‬ ‫سيما(‪ )1‬العارفين‪ ،‬قلت‪ :‬رحمك اهلل‪ ،‬ما الطريق إليه؟ قال‪ :‬لو عرفته‬
‫إليه‪ ،‬قلت‪ :‬وهل يعبده َمن ال يعرفه؟ قال‪ :‬وهل يعصيه َمن يعرفه؟ قلت‪ :‬أليس آدم‬
‫فنسي ولم نجد له عزماً‪ .‬ثم قال‪ :‬يا هذا دع االختالف‬ ‫عصاه مع كمال معرفته؟ قال‪:‬‬
‫َ‬
‫والخالف‪ .‬قلت‪ :‬أليس في اختالف العلماء رحمة؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬إال في تجريد التوحيد‪،‬‬
‫قلت‪ :‬وما تجريد التوحيد؟ قال‪ :‬فقدان رؤية ما سواه لوحدانيته‪ .‬قلت‪ :‬وهل يكون‬
‫العارف مسروراً؟ قال‪ :‬وهل يكون العارف محزوناً؟ قلت‪ :‬أليس من عرف اهلل طال‬
‫َه ُّمه؟ قال‪ :‬بل من عرف اهلل زال َه ُّمه‪ ،‬قلت‪ :‬وهل تغير الدنيا قلوب العارفين؟ قال‪:‬‬
‫الخْلق؟ قال‪:‬‬
‫قلوبهم؟ قلت‪ :‬أليس من عرف اهلل صار مستوحشاً من َ‬
‫العقبى َ‬
‫وهل تغير ُ‬
‫تجرداً‪ ،‬قلت‪ :‬وهل‬
‫وم ِّ‬
‫يكون ُمهاجراً ُ‬
‫ُ‬ ‫معاذ اهلل أن يكون العارف مستوحشاً‪ ،‬ولكن‬
‫عرفه أحد؟ قال‪ :‬وهل جهله أحد؟ قلت‪ :‬وهل يتأسف العارف على شيء غير اهلل؟‬
‫قال‪ :‬وهل يعرف غير اهلل فيتأسف عليه؟ قلت‪ :‬وهل يشتاق العارف إلى ربه قال‪:‬‬
‫وهل يكون غائباً عن العارف حتى يشتاق إليه؟ قلت‪ :‬وما اسم اهلل األعظم؟ قال‪ :‬أن‬
‫قلت ولم يداخلني الهيبة‪ ،‬قال‪ :‬ألنك تقول من حيث أنت ال‬
‫تقول‪ :‬اهلل‪ .‬قلت‪ :‬كثيراً ما ُ‬
‫من حيث هو‪ .‬قلت ِعظني‪ .‬قال‪ :‬حسبك من المواعظ علمك بأنه يراك‪ .‬فقمت من‬
‫عنده‪ ،‬وقلت‪ :‬ما تأمر؟ قال‪ :‬كفى بإطالعه عليك في جميع أحوالك‪.‬‬
‫ُسئل يحيى بن معاذ الرازي ما عالمة القلب الصحيح؟ قال‪ :‬الذي هو من‬

‫سيما‪ :‬عالمة‪ ،‬مثل ِسمة وسيمياء وسومة ِ‬


‫وسيمة‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ُ‬

‫‪67‬‬
‫حي ال يموت‪ .‬قيل‪ :‬وما صدق‬
‫هموم الدنيا مستريح‪ .‬قيل‪ :‬وما القوت؟ قال‪ :‬ذكر ٍّ‬
‫اإلرادة؟ قال‪ :‬ترك ما عليه العادة‪ ،‬قيل‪ :‬وما الشوق؟ قال‪ :‬مالحظة ما فوق‪ .‬قيل‪:‬‬
‫متى يتم أمر العبد؟ قال‪ :‬إذا سكن مع اهلل بال َه ّم‪ .‬قيل‪ :‬وما عالمة المريد؟ قال‪ :‬أن ال‬
‫يشتغل بالعبيد‪ .‬قيل‪ :‬وما رأس الهدى؟ قال‪ :‬صدق التقى‪ .‬قيل وما اللذة؟ قال‪:‬‬
‫ومن الغريب؟ قال‪ :‬الذي ليس له من حبه نصيب‪ .‬قيل‪ :‬ومتى يبلغ‬
‫الموافقة‪ .‬قيل‪َ :‬‬
‫العبد إلى والية مواله؟ قال‪ :‬إذا عزل عن قلبه كل َمن سواه‪ .‬قيل‪ :‬وما الراحةُ‬
‫التسليم للمولى‪ .‬قيل‪ :‬وما أفضل األعمال؟ قال‪ :‬ذكر اهلل على كل‬
‫ُ‬ ‫ال ُكبرى؟ قال‪:‬‬
‫حال‪ .‬قيل‪ :‬وما الفاقة العظمى؟ قال‪ :‬دوام األنس بالمولى‪ .‬قيل‪ :‬وما حجاب القلوب؟‬
‫قال‪ :‬االستكفاء بالمربوب‪ .‬قيل‪ :‬وما العيش الجميل؟ قال‪ :‬العيش مع الجليل‪ .‬قيل‪:‬‬
‫الم ِحُّبون؟ قال‪ :‬العارفون‪ .‬قيل‬
‫وما حقيقة الوفاء؟ قال‪ :‬الصدق والصفاء‪ .‬قيل‪ :‬ومن ُ‬
‫ومن العزيز؟ قال‪ :‬من َّ‬
‫تعز َز بالعزيز‪ ،‬قيل ومن الشريف؟ قال‪ :‬من آنس اللطيف‪.‬‬
‫الع ْمر‪ .‬قيل ما الدنيا؟ قال‪ :‬ما شغلك عن المولى‪.‬‬ ‫الغ ْمر؟ قال‪َ :‬من َّ‬
‫ضيع ُ‬ ‫قيل‪ :‬ومن ُ‬
‫نعم‪ ،‬معدن المعرفة القلب لقوله تعالى‪( :‬فإنها من تقوى القلوب)(‪ )1‬ومعدن‬
‫المشاهدة الفؤاد لقوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى)(‪ )2‬ومعدن النور الصدر لقوله‬
‫تعالى (أفمن شرح اهلل صدره لإلسالم فهو على نور من ربه)(‪ )3‬وما ازداد حباً هلل‬
‫تعالى إال ازداد حباً لرسوله صلى اهلل عليه وسلم وألوليائه‪.‬‬

‫سورة الحج‪.32 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة النجم‪11 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة الزمر‪.22 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪68‬‬
‫الحديث الثالث عشر‬

‫ب]‬
‫أح ّ‬
‫رء مع َمن َ‬
‫الم ُ‬
‫[ َ‬

‫(‪)1‬‬
‫أخبرنا الشيخ الجليل الولي األصيل‪ ،‬فَ ْر ُد الوقت أبو المكارم الباز‬
‫األشهب(‪ ،)2‬خالي وسيدي منصور الرباني األنصاري البطايحي رضي اهلل عنه‬
‫برواقه في نهر دقال‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا‪ :‬أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد الباقالني‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبو عمرو عثمان بن محمد العالف قال‪ :‬أنبأنا أبو بكر أحمد بن سليمان إمالء‪،‬‬
‫علي يحيى بن جعفر بي أبي طالب وأنا أسمع‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا محمد بن عبيد‬
‫قال‪ :‬قرأ ّ‬
‫بن األعمش‪ ،‬عن شقيق عن أبي موسى رضي اهلل عنه قال‪ :‬جاء رجل إلى النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬الرجل يحب القوم وال يلحق بهم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ب"(‪ )3‬هذا الحديث الشريف ُمْل ِز ٌم بمحبة العارفين‪ُ ،‬مبشر باإللحاق‬
‫أح ّ‬
‫رء مع َمن َ‬
‫"الم ُ‬
‫َ‬
‫ص َّحت المحبة‪ ،‬وهل الدين إال الحب في اهلل والبغض في اهلل‪ ،‬وإ ن من ِس ِّر‬
‫بهم إذا َ‬
‫الحب الخالص‪ ،‬أن يرفع العارف إلى مقام السرور والنجوى في المحاضرة عند‬
‫سواه‪.‬‬
‫أي ُبَن ّي اعلم أن العارف بأسرار المريدين‪ ،‬المتطلع على همم العارفين‪َ ،‬كلَّ َ‬
‫ف‬
‫وفاء صدق العبودية‪ ،‬ثم َّبين لهم تحقيق شرائطها‪ ،‬كيال يتجاوزوا َح َّد العبودية‬
‫العباد َ‬
‫َ‬
‫وح َّد الفقر إلى َح َّد الغنى‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫إلى َح َّد الربوبية‪َ ،‬‬

‫الباز‪ :‬ضرب من الصقور يستخدم في الصيد‪ .‬والبازي‪ :‬اسم فاعل من باز يبوز إذا انتقل من مكان إلى‬ ‫(‪)1‬‬

‫مكان‪ .‬ويطلق هذا االسم على بعض األولياء المقربين الذين أمدهم اهلل تعالى بكرامة الطيران المرئي والطيران‬
‫الخفي‪ ،‬وفي الطيران المرئي يبصرهم الناس وهم في هذه الحالة‪ ،‬وفي الطيران الخفي يذهبون إلى أماكن نائية‬
‫من دون آالت النقل المادية المعروفة‪ ،‬بقدرة اهلل تعالى‪.‬‬
‫الذي يخالط بياضه اسوداد‪ .‬وهو من شاب قسم من شعره دون بعض‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫البخاري‪ :‬األدب‪ ،‬باب عالمة الحب في اهلل عز وجل ‪ 5816‬و ‪ 5817‬ومسلم‪ :‬البر والصلة واآلداب‪ ،‬باب‪:‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫المرء مع من أحب ‪ 2640‬كالهما عن ابن مسعود رضي اهلل عنه والبخاري (‪ )5818‬عن أبي موسى‬
‫األشعري رضي اهلل عنه‪ ،‬وعنه أيضاً مسلم (‪.)2641‬‬

‫‪69‬‬
‫( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى اهلل)(‪ )1‬اآلية‪ ،‬وجعل لكل شيء سبباً‪ ،‬فجعل سبب‬
‫المخرج من عبودية المخلوقين‪ ،‬القيام بصدق العبودية‪ ،‬قوله تعالى‪( :‬ومن يتق اهلل‬
‫يجعل له مخرجاً)(‪ِ ،)2‬من عبودية َمن سواه‪( ،‬ويرزقه) المؤانسة والمحبة والشوق إليه‬
‫(من حيث ال يحتسب) ومعنى آخر‪( :‬ومن يتق اهلل) بحفظ السر عن آفات االلتفات‬
‫والوصلة (من‬ ‫ِ‬
‫إلى ما سواه (يجعل له مخرجاً) من ُح ُجب اإلبعاد‪ ،‬ويرزقه المشاهدةَ َ‬
‫حيث ال يحتسب)‪ ،‬وكذلك جعل سبب معرفة العبد ربه معرفة العبد نفسه‪ ،‬بشاهد‪َ :‬من‬
‫ومن عرف نفسه بالفناء‪ ،‬عرف‬ ‫(‪)3‬‬
‫عرف نفسه "أي بالعبودية " عرف ربه" بالربوبية‪َ ،‬‬
‫ومن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومن عرف نفسه بالجفاء والخطأ‪ ،‬عرف ربه بالوفاء والعطاء‪َ ،‬‬ ‫ربه بالبقاء‪َ ،‬‬
‫ومن عرف نفسه لمواله‪َ ،‬قلَّت‬
‫عرف نفسه باالفتقار‪ ،‬قام هلل على قدم االضطرار‪َ ،‬‬
‫حوائجه إلى َمن سواه‪.‬‬
‫ُروي أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪َ " :‬من عرف اهلل قام بحقه"(‪ )4‬أي من‬
‫ومن عرف اهلل بالربوبية قام له بأشراط العبودية‪،‬‬ ‫َّ‬
‫عرف اهلل بالهداية َسل َم نفسه إليه‪َ ،‬‬
‫ومن عرف اهلل بالجزاء أوقع نفسه في العناء‪ ،‬ومن عرف اهلل بالكفاية‪ ،‬اكتفى به عن‬
‫كل ما سواه‪.‬‬
‫روي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه السالم‪ :‬أال َمن عرفني أرادني‬
‫ومن وجدني لم يختر علَ َّي حبيباً سواي‪.‬‬
‫ومن طلبني وجدني‪َ ،‬‬
‫وطلبني‪َ ،‬‬
‫قال الشيخ أبو بكر الواسطي رحمه اهلل‪َ :‬من عرف اهلل أحبه‪ ،‬ومن أحبه‬
‫ومن ُح ِرم المعرفة‪ُ ،‬ح ِرم حالوة‬
‫أطاعه‪ ،‬ومن أطاعه قطع عن قلبه كل ما دونه‪َ ،‬‬

‫سورة فاطر‪15 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة الطالق‪.2:‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سبق تخريجه في شرح الحديث الثامن‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫في تاريخ بغداد للخطيب ‪ 2/362‬والعجلوني في كشف الخفاء (‪" :)2533‬من عرف نفسه َك َّل لسانه" وفي‬ ‫(‪)4‬‬

‫كشف الخفاء ‪َ :2534‬من عرف نفسه استراح وقال السيوطي في األول‪ :‬ليس بثابت‪ .‬وقال العجلوني في الثاني‪:‬‬
‫ليس في المرفوع (كشف الخفاء التراث اإلسالمي ‪.)2/362‬‬

‫‪70‬‬
‫ومن ُح ِرم حالوة الطاعة‪ُ ،‬ح ِرم المؤانسة في الخلوة‪ ،‬فال يجد في المعاملة‬
‫الطاعة‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ويغلب في األحوال فيسقط عن استقامة‬ ‫رؤية المَّنة‪ ،‬وال يعرف قَ َد َر اهلل على الحقيقة‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫الس ِّر مع الحق‪.‬‬
‫وقال يوسف بن أسباط(‪ )1‬رحمه اهلل‪َ :‬من عرف اهلل وفي قلبه َه ٌّم سوى اهلل‪ ،‬لم‬
‫ومن قال‪:‬‬
‫ومن عرف اهلل ولم يستغن باهلل‪ ،‬فال أغناه اهلل‪َ ،‬‬
‫يسجد سجدةً خالصةً هلل‪َ ،‬‬
‫اهلل‪ ،‬وفي قلبه شيء سوى اهلل فلم يقل‪ :‬اهلل‪ ،‬نعم َمن خاف اهلل في كل شيء آمنه اهلل‬
‫من كل شيء‪ ،‬ومن أنِس بمواله استحوش عن كل ما سواه‪ ،‬ومن اعتََّز بذي ِ‬
‫الع ِّز َع ّز‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ومن انقطع عن األسباب الشاغلة عن اهلل اتصل‬ ‫ومن اغتر بغيره فال فخر وال عز‪َ ،‬‬‫َ‬
‫ومن ترك عروة العالقات صار مستأنساً به في جميع‬ ‫باألسباب الشاغلة باهلل‪َ ،‬‬
‫ومن جعل الهموم‬ ‫كر مواله ظهرت له أسرار الغيوب‪َ ،‬‬ ‫ومن ذاق حالوة ِذ ِ‬ ‫األوقات‪َ ،‬‬
‫هماً واحداً كفاه اهلل الهموم‪ ،‬ومن طلب رضاء مواله ال يبالي بسخط ما سواه‪ ،‬ومن‬
‫ومن أراد‬
‫ومن كان هلل قريباً كان مع غيره غريباً‪َ ،‬‬‫ب عن إمامه‪َ ،‬‬ ‫اكتفى بمقامه ُح ِج َ‬
‫ومن ترك ُح ْس َن الرعاية َز َّل عن سبيل‬ ‫ِ‬
‫الدارين‪َ ،‬‬ ‫ع َّز َ‬
‫الدارين فلينقطع إلى َمن له ُملك َ‬
‫ومن أراد أن يشرب من محبة اهلل َشربةً فليشرب من ُبغض غير اهلل ُجرعة‪،‬‬
‫الهداية‪َ ،‬‬
‫ومن َس َك َن قلبه إلى شيء فليس من‬
‫ومن استأنس بكل شيء استوحش من كل شيء‪َ ،‬‬
‫وه ُّمه غير اهلل فليس من اهلل في‬
‫"من أصبح َ‬
‫اهلل في شيء‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم‪َ :‬‬
‫شيء" (‪ ،)2‬قال اهلل تعالى في بعض الكتب‪َ :‬من أرادنا أردناه‪ ،‬ومن أراد‬

‫يوسف بن أسباط‪ :‬توفي سنة نيف وتسعين ومائة (الشعراني ‪)1/62‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫ضعيف‪ .‬رواه الحاكم في المستدرك ‪ .4/320‬وقال الذهبي في التخليص‪ :‬إسحاق ومقاتل (يريد إسحاق بن‬ ‫(‪)2‬‬

‫بشر ومقاتل بن سليمان‪ ،‬وهما من حملة هذا الحديث)‪ :‬ليسا بثقتين وال صادقين‪ .‬ورواه ابن عدي في "الكامل في‬
‫الضعفاء" دار الفكر ‪ 7/2530‬والزبيدي في اإلتحاف ‪ 8/84‬وأبو نعيم في الحلية ‪ 3/48‬وهو عن ابن مسعود‬
‫وه ُّمه غير اهلل فليس من‬
‫رضي اهلل عنه‪ .‬ولفظه في كنز العمال (الرسالة) ‪ 16/10‬برقم ‪َ " :43706‬من أصبح َ‬
‫اهلل (في شيء) ومن لم يهتم بالمسلمين فليس منهم"‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ِ‬
‫أحَّبنا أحببناه‪ ،‬ومن اكتفى بنا ّ‬
‫عما لنا ُكّنا له وما لنا‪ ،‬أال َمن طلبني‬ ‫ومن َ‬
‫مّنا أعطيناه‪َ ،‬‬
‫وجدني‪ ،‬ومن طلب غيري لم يجدني‪ ،‬قيل‪ :‬أال َمن طلبني بالتوبة وجدني بالمغفرة‪،‬‬
‫ومن‬
‫ومن طلبني بالدعاء وجدني باإلجابة‪َ ،‬‬
‫ومن طلبني بشكر النعمة وجدني بالزيادة‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫ومن طلبني‬
‫ومن طلبني بالقُربة وجدني بالمؤانسة‪َ ،‬‬
‫طلبني بالتوكل وجدني بالكفاية‪َ ،‬‬
‫بالوصلة‪ ،‬ومن طلبني باالشتياق وجدني باللقاء والرؤية‪.‬‬
‫بالمحبة وجدني َ‬
‫وقال بعضهم‪َ :‬من كان هلل كان اهلل له‪ ،‬أي َمن كان في أمر اهلل كان اهلل في‬
‫ومن كان في حب اهلل كان اهلل في‬
‫ومن كان في ذكر اهلل كان اهلل في ذكره‪َ ،‬‬‫أمره‪َ ،‬‬
‫ي إلى‬ ‫ِ‬
‫حبه‪ ،‬ومن كان في مرضاة اهلل يكن اهلل في مرضاته‪( ،‬ومن يعتصم باهلل فقد ُهد َ‬
‫ٍ‬
‫صراط مستقيم)(‪.)1‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم ( َمن أحب لقاء اهلل أحب اهلل لقاءه‪ ،‬ومن كره لقاء اهلل‬
‫لي بمعاملة العبيد‪ ،‬فليلبس‬‫ابت‬
‫ُ‬ ‫من‬ ‫قائلهم‪:‬‬ ‫قول‬ ‫العارفين‬ ‫حكم‬ ‫ومن‬ ‫‪،‬‬‫(‪)2‬‬
‫كره اهلل لقاءه)‬
‫َ‬
‫لهم لباساً من حديد‪ ،‬ومن رضي من الدنيا باليسير فقد استراح من شغل كثير‪ ،‬ومن‬
‫ك ستر التُقي لم تستره‬
‫ومن َهتَ َ‬
‫أصبح على الدنيا حريصاً أصبح من اهلل بعيداً‪َ ،‬‬

‫سورة آل عمران‪.101 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫عن عبادة بن الصامت رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ " :‬من أحب لقاء اهلل أحب اهلل لقاءه‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫ومن كره لقاء اهلل كره اهلل لقاءه" قالت عائشة أو بعض أزواجه رضوان اهلل عليهن‪ :‬إنا لنكره الموت‪ .‬قال صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ :‬ليس ذاك‪ ،‬ولكن المؤمن إذا حضره الموت ُب ِّش َر برضوان اهلل وكرامته‪ ،‬فليس أحب إليه مما‬
‫أمامه‪ ،‬فأحب لقاء اهلل وأحب اهلل لقاءه‪ ،‬وإ ن الكافر إذا ُحضر ُب ِّش َر بعذاب اهلل وعقوبته‪ ،‬فليس شيء أكره إليه مما‬
‫أمامه‪ ،‬فكره لقاء اهلل وكره اهلل لقاءه" (البخاري‪ :‬الرقاق‪ ،‬باب من أحب لقاء اهلل أحب اهلل لقاءه ‪ 6142‬ومسلم‪:‬‬
‫الذكر والدعاء والتوبة واالستغفار‪ ،‬باب‪ :‬من أحب لقاء اهلل ‪ )2683‬وأخرجه البخاري أيضاً من طريق سعيد بن‬
‫المسيب عن قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم (‬
‫‪ .)6142‬ومسلم منه (‪ .)2684‬وأخرجه البخاري برقم ‪ 6143‬عن أبي موسى األشعري رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وأخرجه مسلم برقم ‪ 2685‬عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫السموات العلى‪ ،‬ومن نظر في عواقب األمور َسِل َم من نوائب الدهور‪ ،‬ومن لم يقنع‬
‫غم طويل‪ ،‬ومن َس َّل سيف التُقى ضرب به عنق الردى‪ ،‬ومن كان‬ ‫بالقليل وقع في ٍّ‬
‫مسروراً لم يزل مغموراً‪ ،‬ومن لم يحفظ لسانه فسد عليه شأنه‪ ،‬ومن لم يعرف موضع‬
‫ض َّره لم يعرف موضع نفعه‪ ،‬ومن أعرض عن صحبة الفجار عوضه اهلل صحبة‬ ‫ُ‬
‫األبرار‪ ،‬ومن أخذ ِع ّزاً بغير حق أورثه اهلل ُذالًّ بحق‪ ،‬ومن َّ‬
‫ضيع أيام حرثه ندم أيام‬
‫حصاده‪ ،‬ومن توكل على غير اهلل يعذبه اهلل به‪ ،‬ومن رضي باهلل وكيالً صار له بكل‬
‫ومن عرف حالوة النجوى ال يجد مرارة‬ ‫خير دليال‪ ،‬ووجد إلى كل ٍ‬
‫خير سبيال‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫البلوى‪( ،‬ومن كان في هذه أعمى فهو في اآلخرة أعمى)(‪.)1‬‬
‫وقيل‪ :‬ثالث كلمات كان األخيار من المتقدمين يوصي بعضهم بعضاً في كتبهم بهن‪َ :‬من عمل‬
‫آلخرته كفاه اهلل أمر دنياه‪ ،‬ومن أصلح سريرته أصلح اهلل عالنيته‪ ،‬ومن أصلح ما بينه وبين اهلل أصلح اهلل ما‬
‫بينه وبين الناس‪ .‬شعر‪:‬‬

‫ِ‬ ‫إذا ِ‬
‫واستوجب الثنا‬
‫َ‬ ‫ين‬ ‫رأى الع َّز في َ‬
‫الدار ِ‬ ‫ِ‬
‫المؤمن استوى‬ ‫واإلعالن في‬
‫ُ‬ ‫الس ُّر‬
‫الكد والعنا‬
‫على فعله فض ٌل سوى ِّ‬ ‫سراً فما له‬ ‫(‪)2‬‬
‫خاف أإلعالن‬
‫وإ ن َ‬

‫آخر‬
‫ومن رام ِع ّزاً ِمن سواه ذلي ُل‬ ‫اعتز بالمولى فذاك جلي ُل‬ ‫من َّ‬
‫ٍ‬
‫سجدة لقلي ُل‬ ‫قضت وطراً في‬ ‫أن نفساً ُم ْذ براها ملي ُكها‬
‫فلو َّ‬

‫سورة اإلسراء‪.72:‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫قطع همزة الوصل في (ال) التعريف إلقامة الوزن‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪73‬‬
‫الحديث الرابع عشر‬

‫[ األعمال بالنيات]‬

‫أخبرنا شيخنا الشيخ أبو الفضل علي المقرئ القرشي الواسطي رحمه اهلل تعالى‬
‫رحمة واسعة‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر الداودي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبو محمد عبداهلل بن أحمد بن حموية السرخسي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو عبداهلل محمد‬
‫ابن يوسف الفربري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا‬
‫قزعة‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد‪ ،‬عن محمد بن إبراهيم بن‬
‫يحيى بن َ‬
‫الحارث‪ ،‬عن علقمة بن وقاص‪ ،‬عن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬العمل بالنية‪ ،‬وإ نما المرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى اهلل‬
‫ٍ‬
‫امرأة‬ ‫ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو‬
‫ورسوله فهجرته إلى اهلل ورسوله‪َ ،‬‬
‫ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"(‪ .)1‬ومن هذا الطريق روى هذا الحديث سيدنا عمر‬
‫الفاروق رضي اهلل عنه بنص‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ " :‬إنما‬
‫(‪)2‬‬
‫األعمال بالنيات‪ ،‬وإ نما لكل امرئ ما نوى‪ ،‬فمن كانت هجرته إلى اهلل ورسوله‪"..‬‬
‫إلى آخر الحديث‪ ،‬وهو نص عليه مدار الدين‪ ،‬وأحكام العلم والعرفان واليقين‪ ،‬وبه‬
‫قلوب العارفين‪ ،‬إلى حضرة قدس رب العالمين‪.‬‬

‫البخاري‪ :‬النكاح‪ ،‬باب‪ :‬من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله ما نوى‪ ،‬رقم ‪ .4783‬وفتح الباري ‪1/12‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫و ‪.9/115‬‬
‫أبو داود الطالق‪ ،‬الباب ‪ :718‬باب فيما عني به الطالق والنيات‪ ،‬رقم ‪ 2201‬وجامع األصول الكتاب الرابع‬ ‫(‪)2‬‬

‫من حرف النون‪ :‬في النية واإلخالص رقم ‪ 9163‬والترغيب والترهيب‪ :‬الترغيب في اإلخالص والصدق والنية‬
‫الصالحة‪ ،‬رقم ‪.15‬‬

‫‪74‬‬
‫هلل ال تقصد سوى ِ‬
‫اهلل‬ ‫الس ِ‬
‫ير بال عائق‬ ‫طارف َ‬
‫َ‬ ‫ُخ ْذ‬
‫القلب إلى ِ‬
‫اهلل‬ ‫بهجر ِة ِ‬ ‫قائم‬
‫أملتَ ُه ٌ‬
‫فكل ما َّ‬

‫أي بني‪ ،‬أهل الحجاب يتعجبون من كالم أولي األلباب‪ ،‬وربما ينتهي التعجب بهم إلى‬
‫أي تنكرون فعلهم‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫طرف من اإلنكار‪ ،‬لقوله تعالى‪( :‬أفمن هذا الحديث تعجبون)‬

‫روي عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال‪ :‬كانت تحت الجدار الذي أخبر اهلل‬
‫عنه بقوله‪( :‬وكان تحته كنز لهما)(‪ )2‬لوح من ذهب‪ ،‬والذهب مكتوب فيه‪ :‬بسم اهلل‬
‫الرحمن الرحيم‪ ،‬عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف‬
‫يحزن؟ وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك‪ ،‬وعجبت لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها‬
‫بأهلها كيف يطمئن إليها؟ ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل‪.‬‬

‫رحمه اهلل‪ :‬بينما كنت أسير في أرض الروم‪ ،‬إذ سمعت صوتاً‬
‫(‪)3‬‬
‫قال وهب‬
‫من شاهق الجبل يقول‪ :‬إلهي عجبت لمن عرفك‪ ،‬كيف يتعرض لسخطك برضاء‬
‫غيرك‪ ،‬إلهي عجبت لمن عرفك‪ ،‬كيف يرجو غيرك‪ ،‬فاتبعت الصوت‪ ،‬فإذا أنا بشيخ‬
‫ساجد‪ ،‬يقول‪ :‬سبحانك عجباً للخليقة‪ ،‬كيف يريدون بك بدالً‪ ،‬سبحانك عجباً كيف‬
‫يشتغلون بخدمة غيرك‪ ،‬سبحانك عجباً للخليقة‪ ،‬كيف يشتاقون إلى غيرك؟ سبحانك‬
‫سبحانك كيف يتلذذون بغيرك وبشيء دونك‪ .‬فمضيت وما أشغلته عما رأيت‪.‬‬

‫قال أبو يزيد رحمه اهلل‪ :‬عجبت ألهل الجنة كيف يتلذذون بدونه‪ ،‬أم كيف‬
‫ولي األحوال‪ ،‬والعجب لمن‬
‫يستأنسون بغيره‪ ،‬وعجبت ممن يسكن إلى حال دون ّ‬

‫سورة النجم‪.59 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة الكهف‪.82 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫أبو عبداهلل وهب بن منبه‪ .‬توفي سنة ‪ 124‬هـ (طبقات الشعراني ‪.)1/40‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪75‬‬
‫إلي‪.‬‬
‫إلي ّ‬
‫الخْلق والحق يقول‪َّ :‬‬
‫أقبل على َ‬

‫قال أبو عبداهلل بن مقاتل رحمه اهلل‪ :‬عجبت البن آدم‪ ،‬اختاره اهلل لنفسه مع‬
‫غناه عنه‪ ،‬وهو ُيعرض عنه مع فقره إليه‪ ،‬وعجبت لمن يشغل نفسه بشيء وهو يعلم‬
‫أنه قد فرغ منه‪ ،‬وعجبت ممن يأمر غيره بما ال يفعله‪ ،‬ويغضب على غيره بما يفعله‪،‬‬
‫مطيع لربه‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وممن يكره أن ُيعصى وهو عاص‪ ،‬وممن يحب أن ُيطاع وهو غير‬
‫وممن يلوم غيره على الظن‪ ،‬وال يذم نفسه على اليقين(‪.)1‬‬
‫قال حاتم األصم(‪ )2‬رحمه اهلل‪ :‬عجبت ممن يستحي من الخلق كيف ال يستحي‬
‫من الخالق‪ ،‬ولمن يطلب رضاء المربوبين كيف ال يطلب رضاء الرب‪ ،‬ولمن يحب‬
‫أهل الطاعة وهو مقبل على المعصية‪ ،‬ولمن يعرف جالل اهلل كيف يعرض عنه‪،‬‬
‫ولمن يأكل رزق ربه كيف يشكر غيره‪ ،‬ولمن يشتري المملوك بماله‪ ،‬كيف ال يشتري‬
‫األحرار بمعروفه وطيب كالمه‪.‬‬
‫وقال ُخنيس بن عبداهلل ‪ :‬عجبت من رجل ليله قائم‪ ،‬ونهاره صائم‪ ،‬ويجتنب‬
‫المحارم‪ ،‬وال تلقاه إال باكياً حزيناً‪ ،‬ورجل ليله نائم‪ ،‬ونهاره العب‪ ،‬ويرتكب المحارم‪،‬‬
‫وال تلقاه أبداً إال ضاحكاً مستبشراً‪.‬‬
‫وقال يحيى بن معاذ(‪ )3‬رحمه اهلل‪ :‬عجبت ممن يتذلل للعبيد وهو يجد من سيده‬
‫ما يريد‪ ،‬وعجبت لمن كان قوته رغيفاً يعصي رباً لطيفاً‪ ،‬وعجبت لمن يخاف على‬
‫موت نفسه‪ ،‬وال يخاف على موت قلبه‪ ،‬ولمن يخاف على فوات دنياه‪ ،‬كيف ال يخاف‬
‫على فوات دينه‪.‬‬

‫يأخذ غيره بالظن السيئ فيحققه (يجعله حقيقة) وال يبالي بأخطائه هو نفسه‪ ،‬مع تيقنه من تلبسه بها‪ ،‬ومن‬ ‫(‪)1‬‬

‫وقوعها منه‪.‬‬
‫حاتم بن عنوان األصم‪ ،‬زاهد من بلخ‪ ،‬توفي عام ‪ 237‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫يحيى بن معاذ الرازي أبو زكريا‪ .‬كان يقيم في بلخ‪ ،‬ومات في نيسابور سنة ‪ 258‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪76‬‬
‫كر النار موت‪ ،‬فيا عجباً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كر الجنة موت‪ ،‬وذ ُ‬
‫قال يحيى بن معاذ‪ :‬إلهي ذ ُ‬
‫لنفسي تحيا بين َموتين‪ ،‬أما الجنة فال صبر عنها‪ ،‬وأما النار فال صبر عليها‪،‬‬
‫وقيل‪ :‬ذكر الوصال موت‪ ،‬وذكر الفراق موت‪ ،‬كيف يحيا قلب بين موتين‪ ،‬موت‬
‫العارف عجيب‪ ،‬ألن العارف بين سرور المعرفة وخوف الفرقة‪ ،‬فكيف الموت مع‬
‫سرور المعرفة‪ ،‬أم كيف الحياة مع خوف الفرقة؟‬
‫يت‬ ‫وهل أنسى فأذكر من ِ‬
‫نس ُ‬ ‫ذكرت ربي‬
‫ُ‬ ‫عجبت ِل َمن يقو ُل‬
‫ُ‬
‫ُ َ‬
‫حييت‬
‫ُ‬ ‫ماء وصل َك ما‬
‫ولوال ُ‬ ‫أموت إذا ذكرت َك ثم أحيا‬
‫ُ‬
‫أموت‬
‫ُ‬ ‫عليك وكم‬
‫َ‬ ‫فكم أحيا‬ ‫وأموت شوقاً‬
‫ُ‬ ‫بالمنى‬
‫فأحيا ُ‬
‫الشراب وما َر ِو ُ‬
‫يت‬ ‫ُ‬ ‫فما َن ِف َد‬ ‫الحب كأساً بعد ٍ‬
‫كأس‬ ‫َّ‬ ‫شربت‬
‫ُ‬

‫يا عجباً‬
‫ِ‬
‫عجيب‬ ‫رت عجيباً ِع َ‬
‫ند ِّ‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫فص ُ‬ ‫ِ‬
‫غريب‬ ‫تَ َغ َّر َب أمري ِع َ‬
‫ند ِّ‬
‫كل‬

‫‪77‬‬
‫الحديث الخامس عشر‬

‫[ مرحباً بوصية رسول اهلل‬

‫صلى اهلل عليه وسلم ]‬

‫المقري الشيخ علي أبو الفضل القرشي الواسطي بداره‬


‫أخبرنا القاضي اإلمام ُ‬
‫بواسط‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو إسماعيل عبداهلل بن محمد األنصاري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو يعقوب‪،‬‬
‫قال‪ :‬أنبأنا زاهد بن أحمد‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا محمد بن إبراهيم بن نيروز‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا‬
‫المطلب بن شعيب بن عبداهلل بن صالح‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا الهقل بن زياد‪ ،‬عن بكر ابن‬
‫خنيس‪ ،‬قال‪ :‬حدثني عاصم بن عبداهلل النخعي‪ ،‬عن أبي هارون العبدي‪ ،‬قال‪ :‬أتينا أبا‬
‫سعيد الخدري رضي اهلل عنه فسألناه عن حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فقال‪ :‬مرحباً بوصية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال‪ " :‬إنه سيأتيكم بعدي أناس‬
‫السَّنة فاستوصوا بهم خيراً فكان إذا رآنا قال‪:‬‬
‫من اآلفاق يسألونكم عن حديثي وعن ُ‬
‫مرحباً بوصية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم(‪.)1‬‬

‫ضعيف‪ .‬وهو في الترمذي‪ :‬العلم‪ ،‬باب ما جاء في االستيصاء بمن طلب العلم ‪ 2652‬عن أبي سعيد رضي‬ ‫(‪)1‬‬

‫اهلل عنه‪ ،‬وأوله‪ :‬إن الناس لكم تبع‪ ،‬وإ ن رجاالً يأتونكم من أقطار األرضين‪ . ..‬الحديث‪ ،‬وابن ماجه‪ :‬المقدمة باب‬
‫الوصاة بطلبة العلم ‪ 249‬وحلية األولياء ‪ 9/273‬وكنز العمال ‪ 29314‬و ‪ 29275‬و ‪ 29276‬والترمذي‬
‫‪ ،2653‬وأوله‪ :‬يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون‪ ..‬وابن ماجه ‪ :247‬سيأتيكم أقوام يطلبون العلم‪ ..‬عن أبي‬
‫سعيد رضي اهلل عنه و ‪ " :248‬إنه سيأتيكم أقوام من بعدي‪ ..‬عن أبي هريرة رضي اهلل عنه ‪ .‬وهو في شرف‬
‫أصحاب الحديث للخطيب البغدادي ‪ 33‬و ‪ 34‬وفهرسة ابن خير ‪ 7‬و ‪ 8‬وتاريخ دمشق البن عساكر ‪ 2/247‬و‬
‫‪ 4/0250‬ومصنف عبدالرزاق ‪ 466‬وتاريخ بغدادـ للخطيب ‪ 14/387‬وجمع الجوامع للسيوطي (البحوث)‬
‫‪ 5970‬ومشكاة المصابيح للتبريزي ‪ 215‬وتفسير القرطبي ‪ 20/101‬والفقه والمتفقه للخطيب البغدادي (بيروت)‬
‫‪ 2/116‬والسلسلة الصحيحة ‪ 280‬ودالئل النبوة للبيهقي (الكتب العلمية) ‪( 6/54‬موسوعة أطراف الحديث‬
‫وحسَّن السيوطي أحد طرقه (الجامع الصغير (الفكر) ‪ 2/56‬رقم ‪.)4733‬‬
‫‪ 3/262‬و ‪ 5/250‬و ‪َ )251‬‬

‫‪78‬‬
‫هذا الحديث الشريف يجذب العارف إلى طلب حديث المصطفى صلى اهلل‬
‫النبوي‪ ،‬في ُبحبوبة التوصية السارية في عوالم‬
‫ّ‬ ‫وسّنته‪ ،‬ليكون محل نظره‬ ‫عليه وسلم ُ‬
‫ِ‬
‫بحديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬ ‫اهلل تعالى‪ ،‬وهل لباب المعرفة باهلل‪ ،‬إال األخذ‬
‫السنية؟ وهذا القامع للنفس‪.‬‬
‫بسنته ُ‬
‫والعمل ُ‬
‫أي ُبَن ّي‪ ،‬اعلم أن معرفة النفس‪ ،‬أحد أصول العبودية و َق َّل َمن يعرفها‪َ ،‬‬
‫وع َّز‬
‫وجود من يتمنى عرفانها‪ ،‬وما خلق اهلل تعالى في الدارين ِسجناً أضيق على العارف‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أرض‬ ‫وال أوحش وال أنتن من النفس‪ ،‬فَ َمن عرفها على التحقيق‪ ،‬وخالف أمرها "ف ُك َّل‬
‫خطر عظيم‪ ،‬وال يسلم من‬ ‫غر وطرسوس"(‪ ،)1‬ومن غفل عن معرفتها‪ ،‬فهو على ٍ‬ ‫ِ‬
‫له ث ٌ‬
‫شرها‪َّ ،‬‬
‫فإن َمن ال يعرفها كيف يقوم بمخالفتها‪.‬‬
‫قال أحمد بن حرب‪ :‬إني ألشتهي أن أموت ولو ساعة‪ ،‬حتى أعرف نفسي‬
‫وأخالفها‪ ،‬قال محمد بن الفضل (‪ :)2‬من عرف نفسه ال يتنفس َنفَساً إال بدوام جهدها‪،‬‬
‫وصدق‬‫وكثرة عبادتها‪ ،‬وال يغتر بصفاوة أوقاتها‪ ،‬وحسن أحوالها‪ ،‬ولطائف أنفاسها‪ِ ،‬‬
‫معاملتها‪ ،‬لما علم من غوامض آفاتها ومكرها وسوء طبعها وكمال شرها‪ ،‬وإ ني‬
‫ونظرت في شأن نفسي‪ ،‬فما رضيت في عمري من نفسي‬
‫ُ‬ ‫تفكرت في جميع عمري‪،‬‬
‫ُ‬
‫طرفةَ عين‪.‬‬
‫قال األنطاكي(‪ )3‬رحمه اهلل‪َ :‬من يعرف نفسه فهو مغرور‪ ،‬قال إبراهيم بن‬

‫البردان [ معجم البلدان (صادر)‬


‫طرسوس‪ :‬مدينة بثغور الشام بن أنطاكية وحلب وبالد الروم‪ ،‬ويشقها نهر َ‬
‫(‪)1‬‬

‫‪ ]4/28‬ومعنى‪" :‬كل أرض له ثغر وطرسوس" أنه كما ينبغي االنتباه إلى نقاط الثغور والمجابهة مع العدو‬
‫(كطرسوس) وإ يالؤها عناية خاصة‪ ،‬ينبغي أن يولي كل امرئ جوانب الضعف في نفسه وميوله اهتماماً خاصاً‪،‬‬
‫من مجاهدة ومراقبة وتقويم‪ ،‬ليسلم من شرها‪.‬‬
‫محمد بن الفضل البلخي السمرقندي (ت ‪ 319‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫لعله أحمد بن عاصم األنطاكي‪ ،‬أبو علي (القشيرية ‪ .)62‬أو أبو محمد عبداللطيف بن حنيف األنطاكي‬ ‫(‪)3‬‬

‫[ الشعراني (الفكر) ‪.]1/83‬‬

‫‪79‬‬
‫وجدت رجالً إال وهو راكب هواه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫خالطت الناس سبعين سنة‪ ،‬فما‬
‫ُ‬ ‫أدهم(‪ )1‬رحمه اهلل‪:‬‬
‫أحب أن ُي َخطِّئ الناس كلهم‪ ،‬وألن ُيضرب ظهري بالسياط‪ ،‬أحب‬ ‫حتى أنه إن أخطأ َّ‬
‫عرضت قولي على‬
‫ُ‬ ‫إلي من أن ُيقال أخطأ فالن المسلم‪ ،‬وقال إبراهيم التَّيمي(‪ :)2‬ما‬
‫ّ‬
‫عملي إال وجدته مكذوبا‪ .‬وكان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه كثيراً ما يقول‪ :‬اللهم‬
‫إني أعوذ بك من شر نفسي‪ .‬قال ذو النون‪ :‬من نظر بعين المعرفة إلى سلطان ربه‬
‫ص ُغ َرت عنده عظمة نفسه‪ ،‬وقُ ِه َرت‬
‫سلطان نفسه‪ ،‬ومن نظر إلى عظمة ربه َ‬
‫ُ‬ ‫فَنِ َي عنه‬
‫تحت جالل هيبته‪ .‬وقيل لمالك بن دينار حين ماتت زوجته أم يحيى‪ :‬لو تزوجت يا‬
‫لطلقت نفسي‪ ،‬ولو أن منادياً ينادي بباب المسجد‪ِ :‬ليخرج‬
‫ُ‬ ‫استطعت‬
‫ُ‬ ‫أبا يحيى‪ ،‬قال‪ :‬لو‬
‫أحد إلى الباب إال رجل له فضل قو ٍة في السعي‪.‬‬
‫شركم رجالً‪ ،‬فو اهلل ما سبقني ٌ‬
‫َّ‬
‫ك‬
‫نفس َ‬
‫ع َ‬ ‫وقال أبو يزيد‪ :‬قلت يا رب كيف الوصول إليك؟ قال‪ :‬يا أبا يزيد َد ْ‬
‫وتعال‪.‬‬
‫حكيم حكيماً فقال‪ :‬يا أخي إني ألحبك في اهلل‪ ،‬فقال‪ :‬يا أخي واهلل لو‬
‫لقي ٌ‬
‫مت مني ما أعلم من نفسي لََب ِغ ْ‬
‫ضتني الحالة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عل َ‬
‫وكان بكر بن عبداهلل المزني(‪ )3‬ومطرف بن عبداهلل(‪ )4‬بالموقف‪ ،‬فقال‬
‫مطرف‪ :‬اللهم ال تردهم ألجلي‪ ،‬وقال بكر‪ :‬ما أشرف هذه المواضع وأرجاها لوال أنا‬
‫فيهم! اللهم ال تحبس المغفرة بشؤمي‪ ،‬وال تردهم ألجلي‪.‬‬
‫وقال موسى بن القاسم(‪ : )5‬وقع عندنا زلزلة وريح حمراء‪ ،‬فذهبت إلى محمد‬

‫إبراهيم بن أدهم بن منصور‪ ،‬من كورة بلخ‪ ،‬مات في جبلة سنة ‪ ،162‬وفيها قبره‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫قال األعمش (سليمان بن مهران توفي سنة ‪ 148‬هـ)‪ :‬قال لي إبراهيم التيمي‪ :‬ما أكلت منذ أربعين ليلة إال حبة‬ ‫(‪)2‬‬

‫عنب (جامع كرامات األولياء للنبهاني ‪.)1/384‬‬


‫بكر بن عبداهلل المزني‪ :‬توفي سنة ‪ 108‬هـ‬ ‫(‪)3‬‬

‫توفي مطرف بن عبداهلل بن الشخير سنة ‪ 107‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫أبو العباس موسى بن القاسم بن مهدي توفي سنة ‪.342‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪80‬‬
‫ابن مقاتل‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أبا عبداهلل ادعُ اهلل لنا فأنت إمامنا‪ ،‬فقال‪ :‬ليتني ال أكون سبب‬
‫هالككم‪ ،‬فقال موسى بن القاسم‪ :‬رأيت النبي صلى اهلل عليه وسلم تلك الليلة في المنام‬
‫فقال‪ :‬إن اهلل دفع عنكم البالء بدعاء ابن مقاتل‪.‬‬
‫وكان عطاء السلمي(‪ )1‬يبكي كلما هبت ريح شديدة‪ ،‬ويقول‪ :‬هذه من أجلي‬
‫يصيب بها الخالئق‪ ،‬لو مات عطاء الستراح الخالئق من بالئه‪ ،‬وكثيراً ما ينوح على‬
‫عطاء لعلك أول مسحوب إلى النار وأنت غافل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نفسه‪ ،‬ويقول‪ :‬يا‬
‫واقفاً بعرفات‪ ،‬فنظر إلى جميع الناس وقال‪ :‬يا له من موقف‬ ‫(‪)2‬‬
‫وكان الفضل‬
‫ما أشرفه لوال أنا فيهم‪ ،‬ثم بكى ورفع رأسه وأخذ لحيته وقبض عليها وقال‪ :‬يا سوأتاه‬
‫على ما كان من نفسي‪ ،‬فإنها مغرورة وبالثناء مسرورة‪ ،‬وإ ن من غاية بالء النفس‪،‬‬
‫أن لو مات نصفها لم يصلح النصف اآلخر‪.‬‬
‫وحكي أن أبا يزيد البسطامي قال‪ :‬نظرت في حال عبادتي فرأيتها مختلطة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ثم نظرت إلى نفسي وتركيبها‪ ،‬فإذا هي منسوبةٌ إلى كل بالء‪ ،‬ورأيتها ال تخلو من‬
‫الشرك‪ ،‬وعلمت أن اهلل تعالى ال يقبل الشرك‪ ،‬فقلت لها‪ :‬يا مأوى كل شر‪ ،‬إلى كم‬
‫فعمدت‬
‫ُ‬ ‫يدعوك اهلل إلى توحيده وال تنظرين إليه؟ فاشتد على قلبي غم هذا اإلشراك‪،‬‬
‫ت فيه نار الحق‪ ،‬ووضعت فيه كير اللَّْيسية‪،‬‬ ‫وأعددت لها كانون الصياغة ثم َسع َّْر ُ‬
‫ُ‬
‫بمطرقة األمر والنهي‪ ،‬وطال بي العناء‪ ،‬فلما‬ ‫ونصبت سندان الوحدانية‪ ،‬وضربتها ِ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫نظرت إليها وجدتها ُمشركة‪ ،‬فقلت‪ :‬إنا هلل وإ نا إليه راجعون‪ ،‬إنها ال تنظف بالجفاء‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ووضعت بين‬
‫ُ‬ ‫فلعلها تنظف بالرفق واللين والمداراة‪،‬ـ فرددتها إلى بستان ذكر ِ‬
‫المَّنة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫التحنن والبر واإلحسان‪،‬‬ ‫يديها رياحين رؤية اللطف والكرامات‪ ،‬وتروحت بمراوح ُّ‬
‫وطال مني العناء‪ ،‬فلما فتَّشتها وجدتها ُمشركة‪ ،‬فقلت لها‪ :‬يا مأوى‬

‫عطاء السلمي‪ :‬انظر فيه طبقات الشعراني (الفكر) ‪ 1/47‬وجامع كرامات األولياء ‪.2/304‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫الفضل بن احمد المهيني ت ‪ 440‬هـ (جامع كرامات األولياء ‪.)2/439‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪81‬‬
‫كل شر وبالء‪ ،‬ال تصلحي بالجفاء وال بالرفق‪ ،‬ثم رددتها إلى قصار األحذية‪،‬‬
‫ليضربها على حجر الفردانية‪ ،‬ويغسلها بماء صفوة الصمدانية‪ ،‬فلم يزل يضربها‬
‫رجاء أن تنظف من اإلشراك‪ ،‬وطال مني العناء‪ ،‬فلما نظرت إليها فإذا هي ُمشركة‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬إنا هلل لعل صالحها من وجه آخر‪ ،‬ثم أنزلتها بمنزلة امرأة مستحاضة‪ ،‬فلم أزل‬
‫وعلمت أن ال‬
‫ُ‬ ‫ت منها‪،‬‬
‫أيس ُ‬ ‫كالمتحي ِِّر ُ‬
‫المضطر‪ ،‬وأنظر إلى بالئها حتى ْ‬ ‫أنظر إليها ُ‬
‫رت وحدي إلى ربي‪،‬‬ ‫ثالث تطليقات وتركتُها‪ِ ،‬‬
‫وص ُ‬ ‫يتأتّي ُمرادي منها‪ ،‬فطلقتها َ‬
‫دعاء َمن لم يبق له غيرك بالعتق من عبودية ما سواك‪،‬‬
‫َ‬ ‫وناديته‪ :‬يا عزيزي أدعوك‬
‫فلما علم اهلل تعالى صدق الدعاء مني‪ ،‬واليأس من نفسي‪ ،‬كان أول إجابة الدعاء أن‬
‫أنساني نفسي بال ُكلّية‪.‬‬
‫الخْلق اجتمعوا على أن يضعوني كإيضاعي عند‬ ‫(‪)1‬‬
‫قال أبو سليمان ‪ :‬لو أن َ‬
‫نفسي لم يقدروا على ذلك‪ .‬طوبى ٍ‬
‫لعبد أطلعه اهلل على شر النفس‪ ،‬وعرف أصل‬
‫وحقََّرها‪ ،‬واتَّهمها َو َو َ‬
‫ض َعها‪.‬‬ ‫وقهرها َ‬
‫ومألفها‪َ ،‬‬
‫وم ْقتَها َ‬
‫وأنواع عوارضها‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫ِخلقتها‪،‬‬

‫أبو سليمان الداراني‪" :‬عبدالرحمن بن عطية" منسوب إلى داريا بقرب دمشق‪ .‬توفي سنة ‪( 215‬الشعراني‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪.)1/79‬‬

‫‪82‬‬
‫الحديث السادس عشر‬

‫[ فضل الصحابة رضوان اهلل عليهم]‬

‫أخبرنا سيدنا فرد الوقت أبو المكارم الباز األشهب الشيخ منصور الرباني‬
‫البطايحي األنصاري رضي اهلل عنه برواقه في بلدة نهر دقال من واسط‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا‬
‫الفرا قراءة عليه‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسن أحمد بن‬
‫أبو عبداهلل مالك بن أحمد بن علي ّ‬
‫موسى بن الصلت‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثنا عبيد ابن أسباط‪ ،‬عن أبي سفيان‪ ،‬عن عبدالملك بن عمير‪ ،‬عن ربعي‪ ،‬عن‬
‫حذيفه رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬اقتدوا بالل َذين من‬
‫عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد"(‪ .)1‬فقد أمر‬
‫بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي ّ‬
‫عليه الصالة والسالم بتصحيح القدوة بالشيخين العظيمين‪ ،‬سيدنا أبي بكر الصديق‪،‬‬
‫وسيدنا عمر الفاروق رضي اهلل عنهما‪ ،‬وبالتحقق باإلهتداء بهدي عمار رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬فإنه مات على حب الصهر العظيم‪ ،‬الصنو الكريم‪ ،‬سيدنا علي رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫وأكد لزوم التمسك بالعهد‪ ،‬كما كان محافظاً عليه ابن أم عبد رضي اهلل عنه‪ ،‬وفي هذا‬
‫حكمة الجمع بين حب الصحب واآلل‪ ،‬سر يدركه العارفون الموفّقون‪.‬‬

‫أحمد في المسند ‪ 23169‬و ‪ 23312‬وقال محققه‪ :‬إسناده صحيح‪ ،‬ورواه رواية أخرى أولها‪ :‬إني لست‬ ‫(‪)1‬‬

‫أدري ما قدر بقائي فيكم‪ ..‬برقم ‪ .23279‬والحاكم في المستدرك‪ :‬معرفة الصحابة ‪ 3/75‬عن حذيفة رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص‪ .‬فالحديث صحيح‪ .‬ولكن ثمة مقاالت أسوقها لإلطالع‪ ،‬والتفصيل‪ ،‬مع‬
‫تصحيحه‪ .‬ففي الجامع الصغير ‪( 1/197‬برقم ‪ )1319‬رواية‪" :‬اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي‪ :‬أبي بكر‬
‫عمار‪ ،‬وتمسكوا بعهدـ ابن مسعود" وهي من الترمذي عن ابن مسعود‪ ،‬والروياني عن‬
‫وعمر‪ ،‬واهتدوا بهدي ّ‬
‫حذيفة‪ ،‬وابن عدي في الكامل عن أنس‪ .‬وقال السيوطي‪ :‬حديث صحيح‪ .‬وساق الحاكم هذه الرواية في المستدرك‬
‫ٍ‬
‫ورواه الطبراني =‬ ‫‪ ،3/76‬وعقّب عليها الذهبي بأن سندها واه‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫وقد جعل صحة المتابعة له بإتباع الشيخين رضي اهلل عنهما‪ ،‬وحقيقة االهتداء‬
‫بهديه بمواالة األمير رضي اهلل عنه‪ ،‬وجمع بين النكتتين بلزوم التمسك بالعهد‪ ،‬ومتى‬
‫اقتدى العبد اهتدى‪ ،‬ومتى اهتدى تمسك بعهد اهلل‪ ،‬وهناك وقد عرف‪ ،‬وهل المعرفة‬
‫باهلل تعالى إال هذا‪ ،‬فإن من اهتدى بهدي محمد صلى اهلل عليه وسلم واقتدى به‪،‬‬
‫وتمسك بعهده‪ ،‬أقبل على اهلل‪ ،‬وأعرض عن غيره‪.‬‬

‫جاء في الخبر أن اهلل تعالى قال‪ " :‬يا دنيا اخدمي َمن خدمني‪ ،‬واستخدمي َمن‬
‫خدمك"(‪ )1‬وليس من معالي الهمة االشتغال بما فيه حظ النفس‪ ،‬وفي َن ْع ِت النبي صلى‬
‫بعلو همته الشريفة (ما زاغ البصر وما طغى)(‪ )2‬وال يصل العبد إلى‬‫اهلل عليه وسلم ّ‬
‫اهلل تعالى‪،‬‬

‫الحماني وهو‬
‫= في األوسط ‪ 3816‬و ‪ 5503‬و ‪ 5840‬و ‪ .7177‬وقال الهيثمي‪" :‬وفيه يحيى بن عبدالحميد ّ‬
‫(‬

‫ضعيف" [ مجمع الزوائد (الفكر) ‪ 9/484‬برقم ‪ ]15606‬وهو في كنز العمال ‪ 32657‬و ‪ 33117‬و ‪33679‬‬
‫وحسنه‪،‬‬
‫وكشف الخفاء ‪ 1/181‬برقم ‪ ،482‬وأسنى المطالب ‪ 46‬وقال البيروتي فيه‪" :‬رواه أحمد والترمذي ّ‬
‫وحسنها‪ ":-‬واهتدوا بهدي عمار‬
‫البزار‪ -‬كابن حزم‪ :-‬ال يصح وفي رواية للترمذي – ّ‬ ‫وأعلّه أبو حاتم‪ .‬وقال ّ‬
‫وتمسكوا بعهد ابن أم مسعود" وقال الهيثمي‪ :‬سندها واه"‪ .‬ورواه الترمذي في المناقب‪ ،‬باب مناقب أبي بكر وعمر‬
‫رضي اهلل عنهما كليهما ‪ 3663‬و ‪ 3664‬وقال‪ :‬حديث حسن‪ .‬والحميدي ‪ 1/214‬برقم ‪ 449‬وابن ماجه‪:‬‬
‫المقدمة‪ ،‬باب في فضائل أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (فضل أبي بكر رضي اهلل عنه) ‪ 97‬ورواه‬
‫الطبراني عن أبي الدرداء رضي اهلل عنه مع اختالف لفظ (مجمع الزوائد ‪ 9/40‬برقم ‪ .)14356‬وابن أم عبداهلل‬
‫بن مسعود رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫في [ الآللئ المصنوعة للسيوطي] وله شاهد‪( :‬يا دنيا‪ ،‬مري على أوليائي وأحبائي‪ ،‬ال تحلولي فتفتنيهم‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫وأكرمي من خدمني‪ ،‬وأتعبي من خدمك) موضوع‪ .‬وله طريق آخر‪ ،‬ومدار الطريقين على الحسين بن داود‪،‬‬
‫غير ثقة‪ [ .‬ورواه] الصغاني‪ ( :‬يا دنيا اخدمي من خدمني وأتعبي يا دنيا من خدمك" موضوع) [ تذكرة‬
‫الموضوعات للفتني (محمد طاهر بن علي الهندي) – بيروت – ص ‪ .]175‬ومري‪ :‬بفتح الميم‪ ،‬من الباب‬
‫ضم الدال وكسرها‪.‬‬ ‫الرابع‪ ،‬وهي مثل َّ‬
‫خدم ّ‬ ‫مل يم ّل‪ ،‬أي صيري ُم َّرة (ذات مرارة) ‪ .‬ويجوز في مضارع َ‬
‫(‪ )2‬سورة النجم‪17 :‬‬

‫‪84‬‬
‫حتى يقطع مفاوز الدنيا وما فيها‪ ،‬ومن زهراتها ولذاتها‪ ،‬وراحاتها وشهواتها‪،‬‬
‫وم ْح َم َدتِ ِهم‪ ،‬وأن اهلل‬
‫الخلق وما منهم‪ ،‬من جميل معاشرتهم وثنائهم َ‬
‫ويجاوز أودية َ‬
‫ابتالء لكل َمن أراد أن يصير مجرداً‪ ،‬حتى إن التفت إلى شيء‬ ‫ً‬ ‫تعالى خلق جميع ذلك‬
‫مستدر ٍج‬
‫َ‬ ‫والخسران‪ ،‬فكم‬
‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫الحسبان‬
‫منها صار مفتضحاً في دعواه‪ ،‬وغرق في أودية ُ‬
‫الخلق‪ ،‬غافل عن الصدق‪ ،‬جاهل بعرفان النفس‪ ،‬يصبح ويمسي‬ ‫ِ‬
‫محجوب عن َ‬ ‫بالنعم‪،‬‬
‫على الحسبان‪ ،‬فيبدو له من ذي العرش ما لم يكن يحتسب؛ قال اهلل تعالى‪ [ :‬وبدا لهم‬
‫من اهلل ما لم يكونوا يحتسبون](‪ )2‬وأن من معالي الهمة‪ ،‬ما قيل ألبي عبد اهلل‪ :‬لو‬
‫أعطاك اهلل تعالى الدنيا بجميع ما فيها‪ ،‬ماذا تفعل بها؟ فقال‪ :‬لو أمكنني أن أجعلها‬
‫لقمة‪ ،‬وأضعها في فم كافر لفعلت‪ ،‬قيل‪ :‬ولم؟ قال‪ :‬ألن اهلل تعالى يبغض الكافر‬
‫البغيض إلى البغيض‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والدنيا جميعاً‪ ،‬فأفعل ذلك ليقع‬
‫بعث إليه سبعة أوقار من‬ ‫(‪)3‬‬
‫ثم ُحكي من صدق ما ادعاه أن سلطان هراة‬
‫الحنطة‪ ،‬وكان الشيخ يومئذ بهراة مع أصحابه‪ ،‬فأطعم الخادم منها أولياءه‪ ،‬فقال له أبو‬
‫عبداهلل‪ :‬أطعم الباقي فقراء العامة فقال‪ :‬ال يمكن‪ ،‬األبواب مغلقة‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب به إلى‬
‫فخشيت عقوبة اهلل تعالى في ترك أمره‪،‬‬
‫ُ‬ ‫المجوس الذين هم في جوارنا قال الخادم‪:‬‬
‫فأعطيته المجوس‪ ،‬فجاؤوا بكرة إليه وقالوا‪ :‬ما الحكمة في إعطائك إيانا ونحن‬
‫مخالفوك؟ فقال‪ :‬الدنيا عدو اهلل‪ ،‬والكافر عدو اهلل‪ ،‬وال يقرب الحبيب من الحبيب حتى‬
‫عدوه‪ ،‬قال‪ :‬فأسلموا جميعاً على يديه‪.‬‬
‫يبعد من ِّ‬
‫ُحكي أن بعض المريدين كان يمشي في البادية‪ ،‬فحدثته نفسه ببعض حاجتها‪،‬‬
‫فإذا هو على شط بئر‪ ،‬فرمى ركوته في البئر ليستقي الماء فخرجت له الركوةُ‬
‫مملوءةً من الذهب‪ ،‬فرمى بها في البئر‪ ،‬وقال‪ :‬يا عزيزي ال أريد غيرك‪.‬‬

‫(‪ُ )1‬حسبان‪ :‬حساب‪ ،‬ويقال هو جمع حساب‪ ،‬مثل شهاب و ُشهبان" [ نزهة القلوب في تفسير غريب القرآن العزيز‬
‫للسجستاني (محمد بن ُع َزيز) – دار المعرفة – ص ‪.].212‬‬
‫سورة الزمر‪.47 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫هراة‪ :‬مدينة بخراسان‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪85‬‬
‫قال عمار القرشي‪ :‬كنت في البادية فأردت التلبية وكنت حاجاً‪ ،‬فأخذت منديل‬
‫شيخ لي فقددته نصفين‪ ،‬واتزرت بنصفه‪ ،‬وارتديت باآلخر‪ ،‬فلم تزل نفسي تنازعني‬
‫ببعض الحاجة‪ ،‬فإذا البادية كلها فضة‪ ،‬فمضيت وقلت‪ :‬إلهي إني أعوذ بك من كل‬
‫إرادة سواك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لرجل َذ َك َر اهلل‪ ،‬ولم يذكر إال اهلل‪،‬‬ ‫قال عيسى عليه الصالة والسالم‪ :‬طوبى‬
‫لعبد سأل اهلل‪ ،‬ولم يسأل إال اهلل‪.‬‬ ‫يخش إال اهلل‪ ،‬وطوبى ٍ‬
‫وطوبى لرجل خشي اهلل‪ ،‬ولم َ‬
‫وحكي أن اإلمام بن اإلمام سيدنا زين العابدين علي بن الحسين رضي اهلل‬
‫عنهما‪ ،‬قال‪ :‬كنت عند أبي عبداهلل الحسين عليه السالم‪ ،‬أقرأ في بعض الكتب‪ ،‬وكان‬
‫في يده سكين‪ ،‬فرأيت حرفاً خطأ‪ ،‬فقلت‪ :‬ناولني السكين ألصلح هذا الحرف‪ ،‬فناولني‬
‫قضيت الحاجة رددته عليه‪ ،‬فقال لي‪ :‬يا علي ال تعد إلى هذه مرة أخرى‪ ،‬فتقع‬
‫ُ‬ ‫فلما‬
‫إلى ُذ ّل السؤال‪ ،‬وخساسة الهمة‪.‬‬
‫وروي أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ذات يوم لثوبان رضي اهلل عنه‪" :‬يا‬
‫ُ‬
‫ثوبان ال تسأل الناس"(‪ )1‬فكان ثوبان ربما يسقط السوط من يده‪ ،‬فال يقول ألحد ناولني‬
‫إياه حتى ينزل ويرفعه‪.‬‬
‫وسأل رجل من سفيان رحمه اهلل كسرة فأعطاه ديناراً‪ ،‬فقيل له في ذلك فقال‪:‬‬
‫إن كان ال يعرف هو قدر نفسه فال أدع كرم نفسي‪ ،‬وإ ن كان هذا ترك الهمة فأنا ال‬
‫أدع الجود‪ ،‬همم العارفين متصلة بمحبة الرحمن‪ ،‬وقلوبهم ناظرة إلى مواضع العز‬
‫من العزيز‪ ،‬ال راحة لهم في دار الدنيا دون الخروج منها‪ ،‬وكان كثيراً ما يرى‬

‫أحمد في المسند (حديث ثوبان مولى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم) ‪ 22285‬و ‪ 22322‬و ‪ 22266‬وابن‬ ‫(‪)1‬‬

‫ماجه‪ :‬الزكاة‪ ،‬باب كراهية المسألة ‪ 1837‬والترغيب والترهيب للمنذري‪ :‬الصدقات‪ ،‬الترهيب من المسألة‪،‬‬
‫وتحريمها مع الغنى‪ ،‬رقم الحديث‪.1200 ،‬‬

‫‪86‬‬
‫حبيب العجمي(‪ )1‬رضي اهلل عنه يوم التروية بالبصرة‪ ،‬ويوم عرفة بعرفات‪ ،‬فقيل له‬
‫في ذلك فقال‪ :‬هو أقل ما أطار إليه الهمةَ أهل الهمة‪.‬‬
‫ودخل علي كرم اهلل وجهه مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فرأى‬
‫أعرابياً في المسجد يقول‪ :‬إلهي أريد منك شويهة(‪ ،)2‬ورأى أبا بكر الصديق في زاوية‬
‫أخرى يقول‪ :‬إلهي أريدك‪ ،‬فشتان ما بين الهمتين‪ٌّ ،‬‬
‫فكل يطير بهمته‪ ،‬فإذا بلغ طيرانه‬
‫إلى غاية همته وقف فلم يجاوزها قال اهلل تعالى‪( :‬قل كل يعمل على شاكلته)(‪ )3‬أي‬
‫على نيته وهمته‪.‬‬
‫وتطير في الهواء‪ ،‬فقال‪ :‬المؤمن‬
‫ُ‬ ‫تمر على الماء‪،‬‬
‫وقيل ألبي يزيد‪ :‬سمعنا أنك ُّ‬
‫ٍ‬
‫عجب أن يبلغ مقام طير أو حوت‪ ،‬قُرئ بين‬ ‫ُّ‬
‫أعز على اهلل من السماوات السبع‪ ،‬فأي‬
‫يدي ابن المبارك (‪ )4‬قوله تعالى‪ ( :‬أولئك يسارعون في الخيرات)(‪ )5‬فقال‪ :‬ليس أنه‬
‫يسبق عمالً‪ ،‬ولكن ِهمةٌ تسبق ِه ّمة‪ ،‬في جميع الخيرات‬
‫ُ‬ ‫بدن بدناً‪ ،‬وال عم ٌل‬
‫يسبق ٌ‬
‫واإلرادات‪.‬‬
‫مساكين أهل الغفلة‪ ،‬يشتغلون بكثرة األعمال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قال بعض العارفين‪:‬‬
‫ويعظمونها ويفتخرون بها‪ ،‬ولو أن أهل المعرفة عملوا أعمال أهل السموات‬
‫واألرض من األزل إلى األبد كان ذلك أصغر وأحقر في أعينهم من خردلة في‬
‫السماء واألرض‪.‬‬

‫أبو محمد حبيب الفارسي المعروف بالعجمي (جامع كرامات األولياء ‪.)2/17‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫ِّث وأُبدلت الهمزةُ ياء‪ُ :‬ش َوّية‪ ،‬ثم أبدلت الياء الثانية على غير قياس هاء‪.‬‬
‫تصغير شيء‪ :‬شويئ‪ ،‬أُن َ‬
‫(‪)2‬‬

‫اإلسراء‪.84 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫عبد اهلل بن المبارك المروزي‪ ،‬أمير المؤمنينـ في الحديث‪ ،‬له كتابان مطبوعان‪ :‬الزهد‪ ،‬والجهاد‪ ،‬مات سنة‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪ 181‬هـ‪ .‬وانظر إن شئت التفصيل كتاب شعر الفقهاء للمحقق (طبعته المكتبة العربية بحلب) ص ‪ 320‬وما‬
‫بعدها‪.‬‬
‫المؤمنون‪.61 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪87‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قال النبي صلى اهلل عليه وسلم " ال تستكثروا طاعتكم‪ ،‬وال تستقلوا ذنوبكم"‬
‫وروي أن موسى عليه الصالة والسالم كان يمر على شاطئ البحر‪ ،‬فقال إلهي قد‬
‫ُ‬
‫اصطكت ركبتاي‪ ،‬وانحنى ظهري‪ ،‬حبيبي فما أنت صانع بي؟ فأمر اهلل تعالى‬
‫ضفدعاً أن يجيبه‪ ،‬فقال يا بن عمران‪ .‬أتَ ُم ُّن على ربك بعبادتك إياه‪ ،‬وقد اصطفاك‬
‫وكلمك‪ ،‬وقربك وناجاك‪ ،‬فوالذي خلقني ويراني‪ ،‬إني على صخرة منذ ثالثمائة‬
‫وستين سنة‪ ،‬أسبحه ليال ونهاراً ال أفتر منها لحظة‪ ،‬ومنذ ثالثة أيام لم آكل‪ ،‬وكل‬
‫ساعة ترتعد فرائصي من هيبته‪.‬‬
‫كنت في البادية فنالني جوعٌ شديد‪،‬ـ فطالبتني نفسي أن أسأل اهلل طعاماً‪،‬‬
‫وقال أبو سعيد أبو الخير ُ‬
‫فقال ليس هذا من دأب المتوكلين‪ ،‬فطالبتني أن أسأله اصطباراً‪ ،‬فلما هممت به ثانياً سمعت هاتفاً يقول‪:‬‬

‫وأنا ال ُنضيِّعُ َمن أتانا‬


‫ّ‬ ‫قريب‬
‫ُ‬ ‫أيجه ُل أننا منهُ‬
‫كأنا ال نراهُ وال يرانا‬
‫ّ‬ ‫سعيد سؤا َل ٍ‬
‫صبر‬ ‫َ‬ ‫يريد أبو‬
‫ُ‬

‫أخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم " لن ُينجي أحداً منكم‬ ‫(‪)1‬‬

‫عمله‪ ،‬وال أنا‪ ،‬إال أن يتغمدني اهلل برحمته‪ " ..‬الحديث [ كنز العمال الكتاب الثالث من حرف الهمزة‪ :‬في األخالق‬
‫واألفعال المحمودة ‪ 5316‬وانظر ‪ 5314‬و ‪ .]5315‬واخرج اإلمام أحمد عن عائشة رضي اهلل عنها أن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب‪ ،‬فإن لها من اهلل عز وجل طالباً [أحمد عبد الرحمن‬
‫البنا‪ :‬الفتح الرباني لترتيب مسند اإلمام أحمد بن حنبل الشيباني (دار إحياء التراث العربي) ‪ ] 19/253‬وروى‬
‫السمرقندي عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪ :‬أعظم الذنوب عند اهلل تعالى أصغرها عند الناس‪،‬‬
‫وأصغر الذنوب عند اهلل تعالى أعظمها عند الناس‪ ،‬يعني‪ :‬أعظمها عند المذنب إذا عظمه وخافه‪ ،‬فإنها أصغر عند‬
‫ص ّراً‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬وأما إذا كان صغيراً في عين المذنب فهو عظيم عند اهلل تعالى‪ ،‬ألن أعظم الذنوب ما كان ُم ِّ‬
‫عليه‪ [ ..‬أبو الليث السمرقندي (نصر بن محمد)‪ :‬تنبيه الغافلين (القسطنطينية ‪ 1325‬هـ) ص ‪ ]134‬وفي تنزيه‬
‫الشريعة البن عراق (القاهرة) ‪ 2/234‬عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مرفوعاً‪" :‬ال تنظر إلى صغر الخطيئة‬
‫ولكن انظر إلى من عصيت"‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫الحديث السابع عشر‬

‫[ يدخلون الجنة بغير حساب]‬

‫أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري اإلمام الشيخ علي أبو الفضل‬
‫القرشي الواسطي رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو طالب محمد بن علي بن الفتح‬
‫العشاري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو‬
‫محمد يحيى بن محمد بن صاعد‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا مالك بن الخليل أبو غسان‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا‬
‫ابن عدي‪ ،‬عن أشعث‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن عمران بن حصين‪ ،‬أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قال‪ " :‬يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين ال يكتوون‪،‬‬
‫وال يسترقون‪ ،‬وال يتطيرون‪ ،‬وعلى ربهم يتوكلون" (‪.)1‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه مسلم في اإليمان‪ ،‬باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب وال عذاب‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫رقم ‪ 218‬وحلية األولياء ( عن خباب رضي اهلل عنه) [ كنز العمال (الرسالة) ‪ ]5701‬وعنه الطبراني في الكبير‬
‫‪ 18/169‬و ‪ 183‬ومسند أبي عوانة (بيروت) ‪ 1/87‬وانظر كنز العمال ‪ 5699‬و ‪ .5700‬وأخرج اإلمام أحمد‬
‫عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ " :‬إن ربي أعطاني سبعين‬
‫ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬فهال استزدته؟ قال‪ " :‬قد استزدته فأعطاني مع‬
‫وفرج عبد اهلل بن بكر (وهو‬
‫كل رجل سبعين ألفا" قال عمر‪ :‬فهال استزدته؟ قال‪ " :‬قد استزدته فأعطاني هكذا" َّ‬
‫أحد شيوخ ابن حنبل‪ ،‬وعنه روى هذا الحديث) بين يديه‪،‬ـ وقال عبد اهلل‪ :‬وبسط باعيه‪ ،‬وحثَا عبداهلل‪ .‬وقال هشام‬
‫(بن حسان‪ ،‬وهو شيخ عبد اهلل بن بكر)‪ :‬وهذا من اهلل ال ُيدرى ما عدده) [ مسند أحمد ( حديث عبدالرحمن بن‬
‫أبي بكر عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم) ‪ ]1706‬ورواه أحمد بن محمد البنا الدمياطي عن اإلمام أحمد وعن‬
‫البزار والطبراني وتحدث عن األعمال الموجبة لذلك" [ الذخائر المهمات (مطبعة البهاء بحلب ‪ 1328‬هـ =‬
‫‪1910‬م ) ‪ ] 215‬وروى نحوهم الترمذي في صفة القيامة‪ ،‬باب‪ :‬يدخل الجنة من هذه األمة سبعون ألفاً دون‬
‫حساب برقم ‪ 2439‬وأحمد أيضا برقم ‪.22204‬‬

‫‪89‬‬
‫ُّ‬
‫التطير المرتبة الثالثة‪ ،‬بعد ترك‬ ‫جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عدم‬
‫الخلَّص من أهل االنمحاق عنهم وعن كونهم في‬ ‫االكتواء واالسترقاء‪ ،‬وهذه مرتبة ُ‬
‫مراد اهلل تعالى رحمهم اهلل ما أقلهم في كل عهد‪ ،‬فإن رتبتهم التحقق بالتوكل على اهلل‬
‫تعالى‪ ،‬توكالً تنطوي فيه األسباب والمرادات‪ ،‬وأولئك هم العارفون باهلل حقا رضي‬
‫اهلل عنهم‪.‬‬
‫يا هذا لو أن العالم فريقان‪ ،‬فريق يروحني بمراوح من َن ّد(‪ ،)1‬وفريق يقرض‬
‫جسمي بمقارض من نار‪ ،‬ال ازداد هؤالء عندي وال نقص هؤالء‪ ،‬اعلم أن َمن عرف‬
‫اهلل حق معرفته‪ ،‬تالشت همته تحت سرور وحدانيته‪ ،‬وال شيء من العرش إلى‬
‫الثرى أعظم من سرور العارف بربه‪ ،‬والجنة بكل ما فيها في جنب سروره بربه‬
‫أصغر من خردلة‪ِ ،‬لما َعِل َم أنه أكبر من كل كبير‪ ،‬وأعظم من كل عظيم‪ ،‬فمن وجده‬
‫فأي شيء ال يجد‪ ،‬وبأي شيء يشتغل بعده‪ ،‬وهل رؤية غيره إال من خساسة النفس‪،‬‬
‫لباس أجم ُل من لباس اإلسالم‪ ،‬أو تاج‬
‫ودناءة الهمة‪ ،‬وقلة المعرفة به‪ ،‬وهل يكون ٌ‬
‫أج ّل من تاج المعرفة‪ ،‬أو بساط أشرف من بساط الطاعة‪.‬‬
‫قال اهلل تعالى‪ ( :‬قل بفضل اهلل وبرحمته فبذلك فيلفرحوا)(‪.)2‬‬
‫قال إبراهيم بن أدهم في بعض مناجاته‪ :‬إلهي إنك تعلم أن الجنة وما فيها ال‬
‫وفرغتني للتفكر‬
‫تزن عندي جناح بعوضة بعدما وهبت لي معرفتك‪ ،‬وآنستني بك‪َّ ،‬‬
‫في عظمتك‪ ،‬ووعدتني النظر إلى وجهك‪ ،‬نعم إن أدنى منازل العارف أن اهلل تعالى‬
‫لو أدخله النار‪ ،‬وأحاط به العذاب‪ ،‬لم يزدد قلبه إال حباً وأنساً به وشوقاً إليه‪.‬‬
‫قال ابن سيرين(‪ )3‬لو ُخيِّرت بين الجنة وركعتين َّ‬
‫تخيرت الركعتين‪ ،‬ألن في‬
‫الركعتين رضاء اهلل تعالى‪ ،‬والقرب منه‪ ،‬وفي الجنة هوى النفس‪ ،‬ومحبةُ الناس‪.‬‬

‫الند‪ُ :‬عود الطِّيب‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫ّ‬
‫(‪)2‬‬
‫سورة يونس‪.58 :‬‬
‫(‪)3‬‬
‫محمد بن سيرين البصري (‪ 110-33‬هـ)‬

‫‪90‬‬
‫حرقوه‬
‫قيل‪ :‬لما أُلقي الخليل إبراهيم عليه الصالة والسالم في النار و‪( :‬قالوا ِّ‬
‫قال‪ :‬حسبي ربي ونعم الوكيل‪ ،‬نعم المولى ونعم النصير‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫وانصروا ءالهتكم)‬
‫قال تعالى‪ ( :‬يا نار كوني برداً وسالماً على إبراهيم)(‪.)2‬‬
‫وروي أن اهلل تعالى أوحى إليه‪ :‬يا إبراهيم أنت خليلي وأنا خليلك‪ ،‬فال تشغل‬
‫الخلَّةُ بينك وبيني‪ ،‬ألن الصادق في دعوى ُخلَّتي‪ :‬من إذا أُحرق‬
‫قلبك بدوني فتنقطع ُ‬
‫لحرمتي‪ ،‬و َذ َك َر اهلل تعالى ذلك في كتابه‬
‫بالنار لم يتحول قلبه عني إلى غيري إجالالً ُ‬
‫بقوله‪ ( :‬إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)(‪ )3‬فعرف صدقه في التسليم‬
‫حتى أُلقي في النار‪.‬‬
‫قال أبو عبد اهلل بن مقاتل في مناجاته‪ :‬إلهي ال تدخلني في النار فإنها تصير‬
‫برداً علي من حبي لك‪ .‬قال أيوب السختياني(‪ :)4‬إنما يخاف النار من نسي مواله‬
‫فيقال لهم‪ ( :‬فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)(‪ )5‬مع ثواب أعماله‪.‬‬
‫قال أبو حفص ‪ :‬إني ألخاف على معرفة قوم يكون على جباههم مكتوباً‬
‫(‪)6‬‬

‫رفع تلك العالمة عنهم‪ ،‬ولو كنت أنا‬


‫"عتقاء اهلل" بعد إخراجهم منها‪ ،‬يسألون اهلل َ‬
‫لسألته أن يكتب ذلك على جميع أعضائي‪ ،‬ويكفيني فخراً أني من عتقائه‪ ،‬وأنا أقول‪:‬‬
‫إنما الحاصل للمريد في الجنة من الجنة هو الرب تعالى‪ ،‬وقربه ونظره‪ ،‬واستماع‬
‫كالمه‪ ،‬أما ترى امرأة فرعون إذ قالت( رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة)(‪ )7‬كما‬
‫يقال‪ :‬الجار قبل الدار‪ .‬قال إبراهيم بن أدهم‪ :‬إني ألستحي أن يكون غاية همتي‬

‫سورة األنبياء‪.68 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة األنبياء‪.69 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة البقرة‪.131 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫أيوب بن كيسان السختياني البصري‪ ،‬أبو بكر (ت ‪ 131‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة السجدة‪.14 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫أبو حفص‪ :‬عمر بن مسلمة الحداد‪ ،‬مات سنة نيف وستين ومائتين‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫سورة التحريم‪.11 :‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫‪91‬‬
‫مخلوقاً‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى لبعض أنبيائه‪ :‬من أرادنا لم يرد سوانا‪.‬‬
‫قال بعض المشايخ‪ :‬رأيت شاباً في المسجد الحرام‪ ،‬قد أثَّر فيه الضر والجوع‪،‬‬
‫صرة‪ ،‬فدنوت منه وقلت‪ :‬يا حبيبي‬
‫فأدركتني الرحمة عليه‪ ،‬وكان معي مائة دينار في ُ‬
‫فألححت عليه‪ ،‬فقال‪ :‬يا شيخ هذه‬
‫ُ‬ ‫إلي‪،‬‬
‫اصرف هذا في بعض حوائجك‪ ،‬فلم يلتفت ّ‬
‫حالةٌ ال أبيعها بالجنة وما فيها‪ ،‬وهي دار الجالل ومعدن القرار والبقاء‪ ،‬فكيف أبيعها‬
‫ٍ‬
‫بثمن بخس‪.‬‬
‫قال أبو موسى الدبيلي خادم أبي يزيد‪ :‬سمعت شيخاً ببسطام يقول‪ :‬رأيت في‬
‫منامي كأن اهلل تعالى يقول‪ :‬كلكم تطلبون مني‪ ،‬غير أبي يزيد فإنه يطلبني‪ ،‬ويريدني‬
‫وأنا أريده‪.‬‬
‫اتخ ِذ اهللَ جليساً وأنيساً‪ ،‬والزم خدمة موالك تأتك الدنيا وهي‬
‫قال أبو عبد اهلل‪ِ :‬‬
‫راغمة‪ ،‬وتطلبك اآلخرة وهي عاشقة‪ ،‬وقال‪ :‬يا طالب الدنيا دع الدنيا تطلبك‪ ،‬ويا‬
‫طالب اآلخرة‪ ،‬أو لم يكف بربك أنه على كل شيء قدير؟ قال أبو سعيد الخراز(‪:)1‬‬
‫فهممت أن أسأل اهلل شيئاً فهتف بي هاتف‪ :‬بعد اهلل تسأل غير اهلل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كنت بالموقف‪،‬‬
‫وكتب رجل إلى أخ له‪ :‬أما بعد فاضرب بالدنيا وجهَ عشاقها‪ ،‬وباآلخرة وجه‬
‫النساج(‪ :)2‬ال تستكثر‬
‫طالبها‪ ،‬واستأنس برب العالمين‪ ،‬والسالم‪ .‬قال أبو عبد اهلل ّ‬
‫الجنة للمؤمن‪ ،‬فإنه قد وافى هلل تعالى بما هو أكثر قدراً من الجنة وهو المعرفة‪.‬‬
‫وصلى رج ٌل من العارفين على جنازة َّ‬
‫فكبر خمساً‪ ،‬فقيل له في ذلك فقال‪:‬‬
‫كبرت أربعاً على الميت‪ ،‬وواحدة على الدارين‪ .‬وحكي أنه قرئ بين يدي أبي يزيد‬
‫قال‪ :‬فأين من يريد المولى؟‬ ‫(‪)3‬‬
‫(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد اآلخرة)‬

‫أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز ( ت ‪ 277‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫محمد خير النساج (محمد بن إسماعيل) توفي سنة ‪ 322‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة آل عمران‪.152 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪92‬‬
‫وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ألبي بكر الصديق رضي اهلل عنهما‪:‬‬
‫يا خليفة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بماذا بلغت هذه المنزلة حتى سبقتنا؟ فقال‪:‬‬
‫بخمسة أشياء‪ ،‬أولها‪ :‬وجدت الناس صنفين‪ ،‬طالب دنيا‪ ،‬وطالب عقبى‪ ،‬فكنت أنا‬
‫طالب المولى‪ ،‬والثاني‪ :‬منذ دخلت اإلسالم ما شبعت من طعام الدنيا‪ ،‬والثالث‪ :‬ما‬
‫رويت من شراب الدنيا‪ ،‬والرابع‪ :‬إذا استقبلني عمالن‪ ،‬عمل للدنيا‪ ،‬واآلخر للعقبى‪،‬‬
‫اخترت عمل اآلخرة على عمل الدنيا‪ ،‬والخامس‪ :‬صحبت النبي عليه الصالة‬
‫علي‪ :‬هنيئاً لك يا أبا بكر‪.‬‬
‫فأحسنت صحبته‪ ،‬فقال له ّ‬
‫ُ‬ ‫والسالم‪،‬‬

‫‪93‬‬
‫الحديث الثامن عشر‬

‫[ أدبني ربي ]‬

‫أخبرنا ابن العم الولي الصالح السيد سيف الدين عثمان‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبوك‬
‫المنور ببغداد‪ ،‬قال‪ :‬حدثني ابن عمي‬
‫السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد ّ‬
‫السيد حسن بن عسلة‪ ،‬قال‪ :‬حدثني النقيب الجليل السيد يحيى بن ثابت‪ ،‬قال‪ :‬حدثني‬
‫أبي السيد ثابت‪ ،‬عن أبيه السيد علي الحازم أبي الفوارسـ عن أبيه السيد أحمد ابن‬
‫علي أبي الفضائل‪ ،‬عن أبيه السيد رفاعة الحسن المكي نزيل إشبيلية‪ ،‬عن أبيه السيد‬
‫أبي القاسم محمد البغدادي نزيل مكة‪ ،‬عن أبيه السيد الحسن القاسم أبي موسى‬
‫الرئيس‪ ،‬عن أبيه السيد الحسين عبدالرحمن الرضي المحدث القطيعي‪ ،‬عن أبيه السيد‬
‫أحمد األكبر‪ ،‬عن أبيه السيد موسى‪ ،‬عن أبيه األمير الكبير السيد إبراهيم المرتضى‪،‬ـ‬
‫عن أخيه اإلمام األعظم قبلة أهل الباطن علي الرضا صاحب طوس‪ ،‬عن أبيه اإلمام‬
‫الشهيد موسى الكاظم‪ ،‬عن أبيه اإلمام السعيد جعفر الصادق‪ ،‬عن أبيه اإلمام محمد‬
‫َّجاد‪ ،‬عن أبيه اإلمام المظلوم الشهيد‬
‫الباقر‪ ،‬عن أبيه اإلمام زين العابدين علي الس ّ‬
‫السعيد الحسين صاحب كربالء‪ ،‬عن أبيه أمير المؤمنين يعسوب نحل الموحدين‬
‫اإلمام علي كرم اهلل وجهه‪ ،‬عن ابن عمه سيد المخلوقين وحبيب رب العالمين نبينا‬
‫هذا‬ ‫(‪)1‬‬
‫ورسولنا محمد صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪ " :‬أدبني ربي فأحسن تأديبي"‬
‫الحديث الشريف ُملزم‬

‫ضعيف‪ .‬رواه الشوكاني في الفوائد المجموعة ( السنة المحمدية)ـ ‪ 327‬والفتني الهندي في تذكرة‬ ‫(‪)1‬‬

‫الموضوعات ‪ 87‬وقال‪ :‬سنده ضعيف‪ ،‬وأخرجه ابن السمعاني في أدب اإلمالء عن ابن مسعود رضي اهلل عنه‬
‫(بسند منقطع ) كنز ‪ )31895‬وقال محقق الكنز‪ :‬قال المناوي في الفيض ‪ :1/224‬إسناده ضعيف‪ .‬وأخرجه ابن‬
‫ونشأت في بني سعد" [كنز العمال ‪.] 32024‬‬
‫ُ‬ ‫عساكر بلفظ‪" :‬أدبني ربي‬

‫‪94‬‬
‫زل عنها هوى ومن فارقها َّ‬
‫ضل‬ ‫بالتحقيق بآدابه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإن من َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أسرار العارفين‪ ،‬وال وجه يلتحق به‬
‫ُ‬ ‫وغوى‪ ،‬وبها تعرج ِه َم ُم المقربين‪ ،‬وتُز ِه ُر‬
‫الذكر المتواصل‪.‬ـ‬
‫ُ‬ ‫وسلَّ ُم كل هذا‪:‬‬
‫العارف بربه إال طريق األدب المحمدي ُ‬
‫أي بني‪ ،‬اذكر اهلل تعالى‪ ،‬واعلم أن اهلل تعالى أعلى درجة الذكر‪ ،‬وعظَّم‬
‫والجنان‪ ،‬فينبغي‬ ‫وشرفه َّ‬
‫وفضله‪ ،‬ثم قسَّمه على اللسان واألركان َ‬ ‫ُرتبته‪ ،‬ورفع شأنه‪َّ ،‬‬
‫الذاكر على حذر أن يلتفت إلى الذكر‪ ،‬ويكون شريف الهمة واإلرادة‪ ،‬لطيف‬
‫ُ‬ ‫أن يكون‬
‫الفطنة في اإلشارة‪ ،‬صحيح النية واإلرادة‪ ،‬ال يريد بذكره غيره‪ ،‬وال يلتمس منه‬
‫فراغه عنه إلى ما دونه‪ ،‬ألن الوصول إلى الكل تحت الرضا به عن غيره‪،‬‬
‫والحرمان من الكل تحت االشتغال بغيره‪ ،‬ويجب على الذاكر أن يذكره على غاية من‬
‫والحرمة‪ ،‬ال على العادة والغفلة‪ ،‬فيصير بذلك محجوباً عن المذكور‪ ،‬عقوبة‬
‫التعظيم ُ‬
‫والحرمة‪ ،‬ألن حفظ الحرمة في الذكر‪ ،‬خير من الذكر‪ ،‬وما من عبد‬
‫لترك التعظيم ُ‬
‫ذكره على التحقيق‪ ،‬إال نسي في جنب ذكره ما سواه‪ ،‬وكان اهلل له ِعوضاً من كل‬
‫سره أمواج‬
‫العارف أن يذكره فيهيج في ِّ‬
‫ُ‬ ‫شيء‪ ،‬وربما يريد‬

‫‪95‬‬
‫التعظيم والهيبة‪ُّ ،‬‬
‫فيكل لسانه ويطير فؤداه من إجالل الوحدانية‪ ،‬ثم يبدو له شعاع‬
‫الشوق والمحبة من حجب القلب واأللفة‪ ،‬فتنتهي همته إلى سرادقات األلوهية‪،‬‬
‫وميادين الربوبية بإذن اهلل‪ ،‬فحينئذ يكشف له عما ُستر عن غيره من عجائب غيبه‪،‬‬
‫صنعه‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬وأنوار قدسه‪ ،‬فعند ذلك يعرف العبد أن اهلل تعالى‬
‫ولطائف ُ‬
‫الم ُّن والعطاء‬
‫يفعل ما يشاء بمن يشاء لمن يشاء متى! يشاء كيف شاء‪ ،‬بيده َ‬
‫راد لفضله‪ ،‬وال ُمعقِّب لحكمه‪ ،‬فيشتغل به‪ ،‬ويصير فانياً تحت بقائه‪،‬‬
‫واإلرادة‪ ،‬ال َّ‬
‫وهذا معنى ما ُروي في بعض األخبار‪ ،‬أن اهلل تعالى قال في بعض الكتب‪َ :‬من‬
‫(‪)1‬‬
‫حركت قلبه لمحبتي‪ ،‬إذا تكلم لي‪ ،‬وإ ذا سكت سكت لي‬
‫ُ‬ ‫يذكرني وال ينساني‬
‫(‪)2‬‬
‫قال اهلل تعالى‪ ( :‬الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اهلل)‬
‫وقال يحيى بن معاذ‪ :‬الذكر أكبر من الجنة‪ ،‬ألن الذكر نصيب اهلل والجنة‬
‫نصيب العبد‪ ،‬وفي الذكر رضاء اهلل‪ ،‬وفي الجنة رضاء العبيد‪ ،‬وعن علي بن أبي‬
‫طالب رضي اهلل عنه قال‪ :‬إن اهلل يتجلى للذاكرين عند الذكر وتالوة القرآن‪ ،‬وال‬
‫يرونه ألنه أعز من أن ُيرى‪ ،‬وأظهر من أن يخفى‪ ،‬فتفردوا باهلل سبحانه‪ ،‬واستأنسوا‬
‫ٍ‬
‫نازلة إال وفي كتاب اهلل لها دليل من الهدى والبيان‪.‬‬ ‫بذكره‪ ،‬وما نزلت بأحد‬
‫قال أبو عبد اهلل النساج‪ :‬إن هلل تعالى في الدنيا جنة‪ ،‬من دخلها كان آمناً‬

‫وددت‬
‫ُ‬ ‫(‪ )1‬روى الدارقطني في األفراد وابن عساكر عن ابن عمر رضي اهلل عنهما رفعه‪ " :‬قال موسى‪ :‬يا رب‬
‫أن أعلم من تحب من عبادك فأحبه" ‪ .‬قال‪ " :‬إذا رأيت عبدي يكثر ذكري فأنا أذنت له في ذلك وأنا أحبه‪"...‬‬
‫الحديث [ كنز العمال ‪ ]1870‬وفي حديث مرسل رواه أبو نعيم عن الحسن البصري يقول اهلل َّ‬
‫عز وجل‪ " :‬إذا‬
‫كان الغالب على العبد االشتغال بي جعلت بغيتهـ ولذته في ذكري‪ ،‬فإذا جعلت بغيته ولذته في ذكري عشقني‬
‫َّرت ذلك تغالباً عليه‪ ،‬ال يسهو إذا سها‬
‫وعشقته‪ ،‬فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب فيما بيني وبينه‪ ،‬وصي ُ‬
‫الناس‪ [ ..‬كنز العمال ‪.]1872‬‬
‫الرعد‪.28 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪96‬‬
‫(طوبى لهم وحسن مآب)(‪ )1‬قيل‪ :‬ما هي ؟ قال‪ :‬األنس بذكره‪ ،‬قال اهلل تعالى في‬
‫بعض كتبه‪ :‬أوليائي وأحبائي تنعموا بذكري‪ ،‬واستأنسوا بي‪ ،‬فإني نعم الرب لكم في‬
‫الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫هل تشتهي طعاماً؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قيل‪ :‬أي شيء؟ قال‪:‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫قيل ألبي بكر الواسطي‬
‫لقمة من ذكر اهلل‪ ،‬بصفاء اليقين‪ ،‬على مائدة المعرفة‪ ،‬بأنامل ُحسن الظن باهلل‪ ،‬من‬
‫جفنة الرضا عن اهلل سبحانه‪ ،‬وروي أن اهلل تعالى قال للخليل عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫أتدري لم اتخذتك خليالً؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬ألنك ال تُغفل قلبك عني‪ ،‬وعلى كل ٍ‬
‫حال ال‬
‫أراك تنساني‪.‬‬
‫فمن كان يجتري أن يذكرك‪ ،‬إجالالً وإ عظاماً لك‬
‫لوال أنك أمرتنا بذكرك‪َ ،‬‬
‫سبحانك؟ عجباً للذاكرين‪ ،‬كيف تثبت قلوبهم في أبدانهم عند ذكر عظمتك‪ ،‬وروي أن‬
‫اهلل تعالى قال لموسى عليه الصالة والسالم‪ :‬يا موسى إني لم أقبل صالة وال ذكراً إال‬
‫ويلزم قلبه خوفي‪ ،‬ويقطع عمره بذكري‪ ،‬يا موسى إن َمثَله‬
‫ممن يتواضع لعظمتي‪ُ ،‬‬
‫في الناس كمثل الفردوس في الجنان‪ ،‬ال يتغير طعمها‪ ،‬وال َي ْيبس ورقُها‪ ،‬فأجع ُل له‬
‫عند الخوف أمناً‪ ،‬وعند الظلمة نوراً‪ ،‬وأجيبه قبل أن يدعوني‪ ،‬وأعطيه قبل أن‬
‫يسألني‪ ،‬وروى كعب األحبار(‪ )3‬أن اهلل تعالى قال‪ :‬من شغله ذكري عن مسـألتي‬
‫أعطيه أفضل مما أعطي سائلي"(‪.)4‬‬

‫الرعد ‪.29 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أبو بكر محمد بن موسى الواسطي‪ ،‬كان يستوطن كورة مرو ومات بها بعد ‪ 320‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫كعب بن مانع الحميري‪ :‬تابعي توفي سنة ‪ 32‬هـ عن مئة وأربع سنوات‪ .‬أسلم في عهد أبي بكر رضي اهلل‬ ‫(‪)3‬‬

‫عنه‪.‬‬
‫البخاري في خلق أفعال العباد‪ ،‬وابن شاهين في الترغيب في الذكر‪ ،‬وأبو نعيم في المعرفة‪ ،‬والبيهقي في‬ ‫(‪)4‬‬

‫شعب اإليمان (عن ابن عمر رضي اهلل عنهما) وعبد الرزاق في الجامع ( عن جابر ابن عبداهلل رضي اهلل‬
‫عنهما) ورواه ابن أبي شيبة عن عمرو بن م َُّرة مرسالً [ كنز العمال ( الرسالة) ‪ 1/434‬الحديثان ‪ 1874‬و‬
‫‪.]1875‬‬

‫‪97‬‬
‫وقال عيسى بن مريم عليه الصالة والسالم‪ :‬طوبى لمن ذكر اهلل‪ ،‬ولم يذكر إال‬
‫اهلل‪ ،‬وطوبى لمن يخشى اهلل ولم يخش إال اهلل‪.‬‬
‫وروي أن يعقوب عليه الصالة والسالم لما قال‪ :‬يا أسفا على يوسف‪ ،‬أوحى‬
‫تذكر يوسف‪ ،‬أيوسف خلقك أو رزقك‪ ،‬أو أعطاك النبوة‪،‬‬
‫اهلل تعالى إليه‪ :‬إلى متى ُ‬
‫جت عنك من ساعتك‬
‫لفر ُ‬
‫واشتغلت بي عن ذكر غيري‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫فبعزتي لو كنت ذكرتني‪،‬‬
‫فعلم يعقوب أنه مخطئ في ذكره يوسف‪ ،‬فأمسك لسانه عن ذكره‪.‬‬
‫وقالت رابعة البصرية رضي اهلل عنها‪ :‬ما أوحش الساعة التي ال أذكرك‬
‫فيها‪.‬‬
‫أقريب أنت فأناجيك‪ ،‬أم‬
‫ٌ‬ ‫وقال موسى عليه الصالة والسالم ذات يوم‪ :‬إلهي‬
‫أقرب‬
‫ُ‬ ‫وقريب ممن أنس بي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫بعيد فأناديك(‪ ، )1‬فقال اهلل تعالى‪ :‬أنا جليس لمن ذكرني‪،‬‬
‫إليه من حبل الوريد(‪.)2‬‬
‫قيل لذي النون‪ :‬متى يكون ذكر اهلل للعبد صافياً؟ قال‪ :‬إذا كان به عارفاً‪،‬‬
‫وممن دونه متبرئاً‪ .‬قال علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه‪ :‬ذكر اهلل طعام الروح‪،‬‬
‫والثناء عليه شراب الروح‪ ،‬والحياء منه لباس الروح‪ ،‬وما تلذذ المتلذذون بمثل ذكره‪،‬‬
‫وما تنعم المتنعمون بمثل أنسه‪.‬‬
‫"من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬ومن‬
‫إن اهلل تعالى قال في الكتب‪َ :‬‬
‫ذكرني في مأل ذكرته في مأل‪ ،‬ومن ذكرني من حيث هو‪ ،‬ذكرته من‬

‫وعن النعمان بن بشير رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اللهصلى اهلل عليه وسلم‪ :‬الدعاء هو العبادة‪ .‬وقرأ‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫(ادعوني أستجب لكم‪ ،‬إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [ غافر ‪ ]60‬فقال أصحابه‪:‬‬
‫أقريب ربنا فنناجيه‪ ،‬أم بعيدـ فنناديه؟ فنزلت‪( :‬وإ ذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)‬
‫[ البقرة‪ [ ]176 :‬جامع األصول (دار الفكر) ‪ ( 2/24‬التفسير – تفسير سورة البقرة) ‪.]2/24‬‬
‫حبل الوريد‪ :‬عرق في العنق‪ ،‬يضرب به المثل في القرب‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪98‬‬
‫(‪)1‬‬
‫حيث أنا"‬
‫وقال‪ :‬إن الخالئق صاحوا من إبليس‪ ،‬وإ ن إبليس صاح من الذاكرين‪ ،‬وتال‬
‫طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون!)(‪ .)2‬قال ابن‬
‫ٌ‬ ‫(إن الذين اتقوا إذا مسهم‬
‫عباس رضي اهلل عنهما‪ :‬ما من مؤمن إال وعلى قلبه شيطان‪ ،‬إذا ذكر اهلل خنس(‪،)3‬‬
‫شفاء ال يضر معه داء‪ ،‬وذكر الناس داء ال ينفع مع‬ ‫ِ‬
‫كر اهلل ٌ‬‫وإ ذا نسي اهلل وسوس‪ ،‬ذ ُ‬
‫دواء‪ ،‬فاجعل ذكر اهلل ِقبلة همك(‪ ،)4‬وإ ضاءة مسجد فكرتك‪ ،‬واعلم أن حقيقة‬
‫االستئناس بذكر الحبيب هو نسيان غيره‪.‬‬
‫من شغله ذكر اهلل تعالى فَنِ َي عن ذكر ما سواه‪ ،‬وصار مدهوشاً تحت لطائف صنعه‪ ،‬وتالشت ُكليته‬
‫تحت جمال حسن غايته‪ ،‬واستغرق في بحار ذكر امتنانه‪:‬‬

‫أعياد‬ ‫ِ‬
‫العصر‬ ‫ِ‬ ‫للناس عيدان معدودان في ٍ‬
‫ُ‬ ‫وللمريد جميعُ‬ ‫سنة‬
‫(‪)5‬‬
‫اد‬
‫الرب ّأو ُ‬ ‫ِ‬
‫ملكوت ِّ‬ ‫والقلب في‬ ‫والحمد راحتُ ُه‬
‫ُ‬ ‫فالذكر عادتُ ُه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬

‫الطبراني في الكبير عن أبي عباس وعن معاذ بن أنس رضوان اهلل عليهم [ كنز العمال ‪ 1866‬و ‪] 1867‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫وابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي اهلل عنه [ كنز ‪ ]1868‬ولفظه فيه قال اهلل تعالى‪ :‬من يذكرني في نفسه‬
‫ذكرته في نفسي‪ ،‬ومن ذكرني في مأل من الناس ذكرته في مأل أكثر منهم وأطيب‪.‬‬
‫األعراف ‪.201‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫خنس‪ :‬تراجع وذهب‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫همك‪ :‬اهتمامك‪.‬‬
‫ّ‬
‫(‪)4‬‬

‫أواد‪ :‬معطوف‪ ،‬ومن آد يؤود إذا انثنى وعطف‪.‬‬


‫(‪)5‬‬
‫ّ‬

‫‪99‬‬
‫الحديث التاسع عشر‬

‫[ حسبك أن تصوم من كل شهر ثالثة أيام]‬

‫أخبرنا الفقيه الصالح بندار بن بختيار الواسطي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو جعفر محمد‬
‫بن أحمد المهدي الهاشمي‪ ،‬قال أنبأنا أبو عثمان إسماعيل بن محمد‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو‬
‫بكر محمد بن عبداهلل الضبي‪ ،‬قال أنبأنا سليمان بن أحمد‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا إدريس بن جعفر‬
‫العطار‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا يزيد بن هارون بن محمد‪ ،‬عن عمرو بن علقمة‪ ،‬عن أبي سلمة‬
‫علي رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫ابن عبدالرحمن‪ ،‬عن عبداهلل بن عمرو‪ ،‬قال‪ :‬دخل َّ‬
‫وسلم بيتي فقال‪ " :‬يا عبداهلل بن عمرو‪ ،‬ألم أخبر أنك تكلّف قيام الليل وصيام النهار؟‬
‫قلت‪ :‬إني أفعل‪ ،‬قال‪ " :‬إن حسبك أن تصوم من كل شهر ثالثة أيام‪ ،‬الحسنة بعشر‬
‫أمثالها‪ ،‬فكأنك صمت الدهر كله"(‪.)1‬‬
‫ففي هذا الحديث الشريف أسرار‪ ،‬منها البشارة بتواصل نور األعمال‪ ،‬وبنور‬
‫األعمال من دون انقطاع‪ ،‬وإ ن تباعدت األوقات‪ ،‬ومنها مضاعفة ثواب العمل لهذه‬
‫األمة‪ ،‬الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬لتنشط قلوبهم لعمل الخير‪ ،‬ومنها األمر بعدم التكلف‪،‬‬
‫القلوب الغفلةُ‪،‬‬
‫َ‬ ‫تطم‬
‫الذي ُيفضي بالعبد إلى السأم والملل‪ ،‬ومنها لزوم التذكر‪ ،‬حتى ال ّ‬
‫ومنها اإليمان القطعي بوعد اهلل وحسن كرمه‪ ،‬وكل هذه الخصال خصال العارفين‪،‬‬
‫الذين انقطعوا عن كل الهموم الدنيوية واألخروية‪ ،‬وصار همهم ربهم ومن كان همه‬
‫ربه فال هم له‪.‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه أحمد في مسنده (مسند عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما عن النبيصلى اهلل عليه‬ ‫(‪)1‬‬

‫وسلم) برقم ‪ ،6878‬وزاد عبارة‪ " :‬وال أقول افعل" فروايته‪ " :‬إن حسبك‪ -‬وال أقول أفعل – أن تصوم من كل‬
‫شهر‪ ..‬الحديث‪ .‬وهو في البخاري الصوم‪ ،‬باب صوم الدهر‪ ،‬رقم ‪ ،1875‬ومسلم‪ :‬الصيام‪ ،‬باب النهي عن صوم‬
‫الدهر ‪.1159‬‬

‫‪100‬‬
‫ك‬
‫قال يحيى بن معاذ في مناجاته‪ :‬إلهي إن عرفتك فأنت الذي قد هديتني‪ ،‬وإ ن طلبتُ َ‬
‫فأنت الذي أردتني‪ ،‬وإ ن أجبتك فأنت الذي اخترتني‪ ،‬وإ ن أطعتك فأنت الذي وفقتني‪،‬‬
‫وإ ن أنبت إليك فأنت الذي آويتني‪ ،‬وإ ن اهلل تعالى ال َي ِك ُل العارفين إلى أنفسهم‪ ،‬وال‬
‫إلى طاعاتهم‪ ،‬وال إلى ذكرهم‪ ،‬بفضله ورحمته‪ ،‬بل يكلؤهم بأكاليل شفقته‪ ،‬ويمطر‬
‫عليهم أمطار رحمته‪ ،‬من سحائب فضله وعنايته‪.‬‬
‫وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال‪ :‬يا رب كيف لي أن أؤدي شكر‬
‫ُ‬
‫عرفت أنك عاجز عن‬
‫َ‬ ‫علي في كل شعرة نعمتان؟ فقال له‪ :‬يا موسى‪ ،‬إذا‬
‫نعمك‪ ،‬ولك ّ‬
‫شكري فقد شكرتني‪ ،‬وقيل‪ :‬إن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫اشكر نعمتي عليك‪ .‬فقال‪ :‬إلهي كيف لي أن أشكرك وشكري لك على النعم أعظم‬
‫نعمة علي؟ فأوحى اهلل تعالى إليه‪ :‬إذا علمت ذلك فأنت أشكر العباد لي‪.‬‬
‫السماك(‪ )1‬اذ ُكر َمن كان ذكره لك قبل ذكرك‪ ،‬وحبه قبل حبك‪،‬‬
‫وقال محمد بن ّ‬
‫وما ذكرته إال بذكره لك‪ ،‬وما أحببته إال بحبه لك‪ .‬وقال أبو بكر الواسطي‪ :‬من نسى‬
‫ذكر اهلل تعالى كان مستدرجاً‪.‬‬
‫واعلم أن أدنى أوصاف العارف‪ ،‬عيش القلب مع اهلل بال عالقة‪ ،‬وذلك من‬
‫(‪)2‬‬
‫ِّن في قول اهلل تعالى (ولذكر اهلل أكبر)‬
‫ذكر اهلل إياه‪ ،‬وذلك بي ٌ‬
‫وقيل في قوله تعالى‪ ( :‬وقلي ٌل من عبادي الشكور)(‪ ،)3‬أي قليل من يرى ِمَّنتي‬
‫عليه عند شكره لي‪.‬‬
‫وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال‪ :‬إلهي كيف استطاع آدم أن يشكر‬
‫ُ‬
‫نعمتك‪ ،‬إذ خلقته بيديك‪ ،‬ونفخت فيه من روحك‪ ،‬وأسكنته جنتك‪ ،‬وأمرت‬

‫ابو العباس محمد بن السماك‪ ،‬مات بالكوفة سنة ثالث وثمانين ومائة (الطبقات الكبري للشعراني‬ ‫(‪)1‬‬

‫(الفكر) ‪.]1/61‬‬
‫سورة العنكبوت‪.45 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة سبأ‪.13 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪101‬‬
‫المالئكة فسجدوا له؟ فقال اهلل‪ :‬يا موسى‪ ،‬علم آدم ذلك مني فحمدني عليه‪.‬‬
‫فمن أطاعه فبتوفيقه أطاعه فله المنة‪ ،‬ومن عصاه فبمقدوره عصاه‪ ،‬فله الحجة‬
‫عليه‪ ،‬فقد سبق فضله لمن أطاعه قبل طاعته‪ ،‬وقد سبق عدله لمن عصاه قبل معصيته‬
‫الفعال لما يريد‪.‬‬
‫إياه‪ ،‬ألنه ّ‬
‫وروي أن إبراهيم عليه الصالة والسالم قال‪ :‬إلهي لوال أنت كيف كنت‬
‫أعرف َمن أنت؟ وقيل ألبي عبداهلل‪ :‬ما لنا نحب المدح والثناء؟ فقال‪ :‬لنسيان امتنان‬
‫اهلل عليكم‪ ،‬وحسن عنايته التي سبقت منه لكم‪ ،‬فمن نسي المنة‪ ،‬وجحد النعمة‪ُ ،‬قلبت له‬
‫النعمة نقمة‪.‬‬
‫بني‪ ،‬إن اهلل تعالى أعطاك المعرفة‪ ،‬ووفّقك لطاعته من غير إحسان سبق‬
‫يا ّ‬
‫منك‪ ،‬ومن غير شفاعة كانت ألجلك‪ ،‬فينبغي أن تشتغل بذكره وخدمته‪ ،‬من غير طلب‬
‫ِع َوض ومكافأة منه‪ ،‬فأهل الذكر أصناف مختلفة‪ ،‬فمنهم َمن يذكر على جهة ِمّنة‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬ومنهم َمن يذكره على جهة منة ذكره‪،‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬ومنهم على جهة ُ‬
‫حتى يصير قلبه والهاً(‪ ،)1‬ولسانه كليالً‪ ،‬وعقله هائماً ويصير في عظمته مبهوتاً‪،‬‬
‫دهش في محبته‪ ،‬لما علم أن األعمال ال تقوم إال به‪ ،‬والذكر على‬
‫وي َ‬
‫ويتيه في كرمه‪ُ ،‬‬
‫جهتين‪ ،‬ذكر يتولد منه الخوف والخشية‪ ،‬وذكر يتولد منه الشوق والمحبة‪ ،‬فأما ما‬
‫ُينتج الخوف والخشية‪ ،‬فهو ذكر َمن يذكر اهلل مع نفسه‪ ،‬ويرى ذكر اهلل له سبب ذكر‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬ويعلم أنه بذكر اهلل يصل إلى ذكره إياه‪ ،‬وأما األخر فهو الذكر الذي تذ ّكر‬
‫ذكر اهلل له في األزل‪ ،‬حيث لم يكن موجوداً‪ ،‬إلى أن يصير في الدنيا مفقوداً‪ ،‬ثم إلى‬
‫األبد‪ ،‬فوجد ذكر اهلل له سابقاً أزلياً‪ ،‬خالداً أبدياً‪ ،‬وذكره مكدراً بالشهوات‪ ،‬ممزوجاً‬
‫بالغفالت‪ ،‬فشتان بين من يدخل على اهلل برؤية ذكره‪ ،‬وبين من يدخل على اهلل برؤية‬
‫فضله ومنته‪ ،‬واعلم أن ذكر العبد هلل تعالى‪ ،‬في إضافة ذكر اهلل للعبد‪ ،‬كالغبار تحت‬
‫األمطار‪.‬‬

‫وله (بفتح الالم) حار من شدة الوجد‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪102‬‬
‫أكبر‬
‫ذكري ُ‬ ‫َ‬ ‫وذكر َك لي من قبل‬
‫ُ‬ ‫مؤملي‬ ‫ِ‬
‫بذكر َك تحيا ُمهجتي يا ِّ‬
‫(‪)2‬‬
‫فأي أيادي َك الجزيلة أش ُك ُر؟‬ ‫بشكر ِه‬
‫ِ‬ ‫أقوم‬ ‫ط ٍ‬
‫ال ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫َّ‬ ‫ول‬ ‫مننت ب َ‬
‫َ‬

‫طول (بفتح الطاء) فضل‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أياديك‪ :‬نعمك‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪103‬‬
‫الحديث العشرون‬

‫الس َن ُن الرواتب]‬
‫[ ُّ‬

‫أخبرنا الشيخ الحجة الثقة العارف أبو بكر بن يحيى النجاري األنصاري‬
‫الواسطي‪ ،‬قال أنبأنا أبو القسم طلحة الكتاني‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسين أحمد بن عثمان‬
‫اآلدمي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أحمد بن ماهان السمسار‪ ،‬قال أنبأنا عبد الرحمن بن مهدي‪ ،‬عن‬
‫شعبة‪ ،‬عن النعمان بن سالم‪ ،‬قال‪ :‬سمعت عمر بن أوس يحدث عتبة بن أبي سفيان‪،‬‬
‫عن أم حبيبة رضي اهلل عنها‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪َ " :‬من صلى‬
‫اثنتي عشرة ركعة تطوعاً كل يوم غير الفريضة بنى اهلل له بيتاً في الجنة"(‪.)1‬‬
‫هذا الحديث الشريف يحث على مالزمة النوافل‪ ،‬فإنها من المقربات إلى اهلل‬
‫تعالى‪ ،‬وهي زاد العارفين في طريقهم إليه سبحانه‪ ،‬وشأن المتجردين لجنابه جلَّت‬
‫قدرته‪.‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه أحمد في المسند ‪( 10410‬مسند أبي هريرةرضي اهلل عنه) و ‪ 26653‬و ‪( 26654‬مسند أم‬ ‫(‪)1‬‬

‫حبيبة رضي اهلل عنها) ومسلم‪ :‬صالة المسافرين‪ ،‬باب فضل السنن الراتبة ‪ 728‬والنسائي‪ :‬قيام الليل‪ ،‬باب ثواب‬
‫من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة ‪ 3/264‬و ‪ 261‬وأبو داود‪ :‬الصالة‪ ،‬باب تفريع‬
‫أبواب التطوع ‪ 1250‬والترمذي‪ :‬الصالة باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة من السنة‪ ،‬رقم‬
‫‪ 414‬و ‪ ،415‬وقال في الحديث األخير‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وابن ماجه في إقامة الصالة‪ ،‬باب ما جاء في ثنتي عشرة‬
‫ركعة من السنة ‪ 1142 -1140‬والهيثمي في موارد الظمآن (الرسالة) ‪ 614‬والحاكم في المستدرك‪ :‬صالة‬
‫وج َّل روايات هذا‬
‫التطوع ‪ .1/311‬وأم حبيبة هي السيدة رملة بنت أبي سفيان رضي اهلل عنهما‪ ،‬أم المؤمنين‪ُ ،‬‬
‫الحديث عنها‪ ،‬وبعضها عن أم المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها أو عن أبي هريرة أو ابن عمر أو أبي موسى‬
‫رضوان اهلل عليهم‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن من تجرد ِ‬
‫بس ِّر ِه عن ال ُكل‪َّ ،‬‬
‫وتفرد بسر السر الفَرد‪ ،‬كشف له‬ ‫َ‬
‫الغطاء‪ ،‬واستبانت له البراهين‪ ،‬عند مشاهدة نور الحق سبحانه‪ ،‬وهنالك يسقيه اهلل‬
‫صب‪ ،‬ويصير سكوته‬
‫والن َ‬
‫ويزيل عنه التعب َ‬
‫بكأس محبته‪ ،‬حتى ُيسكره به عن غيره ُ‬
‫ذكراً‪ ،‬وأنفاسه تسبيحاً‪ ،‬وكالمه تقديساً‪ ،‬ونومه صالة‪ ،‬وال يزال العبد يركب بسره‬
‫مركب المعرفة‪ ،‬حتى يتصل بالمعروف‪ ،‬فإذا اتصل بالمعروف‪ ،‬بقي معه إلى األبد‪،‬‬
‫من غير أن يلتفت منه إلى ما سواه‪ ،‬واعلم أن َمثَ َل القلب كالقصر‪ ،‬والمعرفة فيه‬
‫أمير على األركان‪ ،‬له تبعٌ وأعوان‪ ،‬واللسان كالترجمان‪ ،‬والسر‬
‫كالسلطان‪ ،‬والعق ُل ٌ‬
‫من خزائن الرحمن‪ ،‬وال بد لكل واحد منها من االستقامة في مواضعه‪ ،‬ودوران كلها‬
‫على استقامة السر مع الحق‪ ،‬فإذا استقام السر استقامت المعرفة‪ ،‬فيستقيم العقل‪ ،‬وإ ذا‬
‫استقام العقل‪ ،‬استقام القلب‪ ،‬وإ ذا استقام القلب‪ ،‬استقامت النفس‪ ،‬وإ ذا استقامت النفس‪،‬‬
‫منور بنور اليقظة‬
‫استقامت األحوال‪ ،‬فالسر ُمَن َّوٌر بنور الجمال والجالل‪ ،‬والعقل َّ‬
‫منور بنور الخشية واألفكار‪ ،‬والنفس منورة بنور الرياضة‬
‫واالعتبار‪ ،‬والقلب َّ‬
‫واالنزجار‪ ،‬فالسر بحر من بحور العطايا‪ ،‬وأمواج الهمة فيه ال ُيحصى عددها‪ ،‬وال‬
‫ينقطع مددها‪ ،‬وإ ن استقامة السر مع الحق‪ ،‬هي الدوام على بساط المشاهدة‪ ،‬مع فقد‬
‫والمرور‬
‫ُ‬ ‫رؤية االستقامة‪ ،‬واعلم أن صراط االستقامة السُّرادق‪ ،‬من صراط اآلخرة‪،‬‬
‫على جسرها أصعب من المرور على جسر اآلخرة‪ ،‬وأن عالم األسرار غيور‪ ،‬ال‬
‫يحب أن يكون في قلب العبد حب أو ِذكر لغيره‪ ،‬قال اهلل تعالى في بعض كتبه‪ " :‬إذا‬
‫كان الغالب على عبدي االشتغال بي‪ ،‬جعلت لذته وهمته في محبتي‪ ،‬ورفعت الحجاب‬
‫رضي اهلل عنه فقال له‪ :‬أي‬ ‫(‪)2‬‬
‫فيما بيني وبينه"(‪ )1‬ودخل رج ٌل على سري السقطي‬
‫شيء أقرب إلى اهلل‪ ،‬ليتقرب به العبد إلى اهلل؟‬

‫أخرجه أبو نعيم في الحلية مرسالً عن الحسن البصري (كنز ‪.)1872‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سري بن المغلس السقطي البغدادي‪،‬ـ خال الجنيد توفي سنة ‪ 253‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪105‬‬
‫فبكى السري‪ ،‬فقال‪ :‬أمثلك يسأل عن هذا؟ إن أفضل ما يتقرب به العبد إلى اهلل‬
‫سبحانه‪ ،‬أن يطلع اهلل على قلبك وأنت ال تريد من الدارين غيره‪.‬‬
‫وقال إبراهيم بن أدهم‪ :‬غاية همتي ومرادي من اهلل تعالى‪ ،‬أن يجعل لي الميل‬
‫إليه‪ ،‬فال أرى شيئاً دونه‪ ،‬وال أشتغل بأحد سواه‪ ،‬ثم ال أبالي إلى التراب َّ‬
‫صيرني‪ ،‬أم‬
‫الخلة؟‬
‫إلى العدم رجعني‪ .‬وقيل إلبراهيم عليه الصالة والسالم‪ :‬بأي شيء وجدت ُ‬
‫أكلت قط إال مع‬
‫فقال‪ :‬بانقطاعي إلى ربي‪ ،‬واختياري إياه على ما سواه‪ ،‬وبأني ما ُ‬
‫الضيف‪.‬‬
‫وقالت رابعة البصرية‪ :‬إلهي همتي ومرادي في الدنيا من الدنيا ذكرك‪ ،‬وفي‬
‫رفعت‬
‫ُ‬ ‫شئت‪ .‬وقال أبو يزيد البسطامي‪:‬‬
‫اآلخرة من اآلخرة رؤيتك‪ ،‬ثم افعل بينهما ما َ‬
‫السر إلى مواصلة الحق‪ ،‬فطار بأجنحة المعرفة‪ ،‬بنور الفطنة‪ ،‬في هواء الوحدانية‪،‬‬
‫ك‪ ،‬ال بد لك مني‪ ،‬فلم يلتفت السر إليها‪ ،‬ثم‬
‫نفس َ‬
‫فاستقبلتهُ النفس وقالت‪ :‬أين تذهب‪ ،‬أنا ُ‬
‫لق‪ ،‬وقالوا أين تذهب؛ نحن رفقاؤك وندماؤك‪ ،‬والبد لك منا ومن معاونتنا‬
‫الخ ُ‬
‫استقبلهُ َ‬
‫إياك‪ ،‬فلم يلتفت إليهم‪ ،‬ثم استقبلته الجنة بكل ما فيها‪ ،‬وقالت‪ :‬أين تذهب؟ فإني لك‪،‬‬
‫والبد لك مني؟ فلم يلتفت إليها‪ ،‬ثم استقبلته العطايا والمواهب والكرامات كذلك‪ ،‬حتى‬
‫جاوز المملكة‪ ،‬وبلغ ُسرادقات الفردانية‪ ،‬وجاوز الكلية واألنانية حتى وصل إلى‬
‫الحق‪ ،‬وهو المطلوب‪ .‬وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال في بعض‬
‫عجبت ممن يجدك ثم يرجع عنك‪ .‬فقال اهلل تعالى‪ :‬يا موسى‪ ،‬إن َمن‬
‫ُ‬ ‫مناجاته‪ :‬يا رب‬
‫وجدني ال يرجع عني‪ ،‬وما رجع من رجع إال عن الطريق‪.‬‬
‫عبد اآلخرة‪ ،‬فنَِيت في جنبها‬
‫وقال أبو العباس بن عطاء (‪ )1‬متى ظهرت على ٍ‬
‫الدنيا‪ ،‬وبقي العبد مع دار البقاء‪ ،‬ومتى ظهرت على العبد مشاهدةُ الحق تعالى‪ ،‬فني‬

‫أحمد بن محمد بن سهل األدمي‪ ،‬أبو العباس‪ ،‬توفي سنة ‪ 309‬هـ أو ‪.311‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪106‬‬
‫عنده ما دون الحق‪ ،‬وبقي العبد مع الحق‪.‬‬
‫وقال رجل ألبي يزيد‪ :‬بلغني أن عندك اسم اهلل األعظم‪ ،‬أ ِ‬
‫ُحب أن تعلمني ذلك‪،‬‬
‫فقال أبو يزيد‪ :‬ليس السم اهلل ٌّ‬
‫حد محدود‪ ،‬ولكنه فراغُ قلبك لوحدانيته‪ ،‬وترك االلتفات‬
‫اسم شئت تسير به من المشرق إلى المغرب‬ ‫كنت كذلك‪ ،‬فخذ أي ٍ‬‫منه إلى غيره‪ ،‬فإذا َ‬
‫ٍ‬
‫ساعة ثم تجيء‪.‬‬ ‫في‬
‫وفدك‪ ،‬وأنت أعلم‪،‬‬
‫كنت حاجاً فإذا بشاب يقول‪ :‬إلهي قد اجتمع ُ‬
‫قال ذو النون‪ُ :‬‬
‫فسمعت صوتاً يقول‪ :‬وفدي كثير‪ ،‬وطالّبي قليل وسئل بعضهم‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أنت صانعٌ بهم؟‬
‫فما َ‬
‫الخلق‪ ،‬وقدماً‬
‫كم بين الحق والعبد؟ قال‪ :‬أربعة أقدام‪ ،‬يرفع قدماً من الدنيا‪ ،‬وقدماً من َ‬
‫من النفس‪ ،‬وقدماً من اآلخرة‪ ،‬فإذا هو‪ .‬ثم قال السري‪َ :‬من قام على طاعة اهلل بغير‬
‫عالقة‪ ،‬سقاه اهلل َشربةً من عين محبته‪ ،‬وبلِّغهُ إلى مقعد صدق‪.‬‬
‫قال علي رضي اهلل عنه‪ :‬العارف إذا خرج من الدنيا لم يجده السائق وال الشهيدـ في القيامة‪ ،‬وال‬
‫رضوان في الجنة‪ ،‬وال مالك النار في النار‪ .‬قيل‪ :‬وأين يوجد؟ قال‪ :‬في مقعد صدق عند مليك مقتدر‪ ،‬إذا قام‬
‫من قبره ال يقول‪ :‬أين أهلي وولدي‪ ،‬وال أين جبريل وميكائيل والجنة والثواب‪ ،‬ولكن يقول أين حبيبي وأنيسي‪.‬‬

‫ترى ما ال يراهُ الناظرونا‬ ‫عيون‬


‫ٌ‬ ‫قلوب العارفين لها‬
‫ِ‬
‫الكرام الكاتبينا‬ ‫ُّ‬
‫تدق عن‬ ‫وألسن ٌة ِ‬
‫بسٍّر قد تناجي‬
‫فتأوي ِع َ‬
‫ند رب العالمينا‬ ‫ٍ‬
‫ريش‬ ‫تطير بغير‬
‫وأجنح ٌة ُ‬
‫المرسلينا‬
‫َ‬ ‫وتشرب من بحار‬
‫ُ‬ ‫فترعى في رياض القُ ِ‬
‫دس طوراً‬
‫دنوا منه وصاروا واصلينا‬ ‫عباد قاصدون إليه حتى‬
‫ٌ‬

‫‪107‬‬
‫الحديث الواحد والعشرون‬

‫[ صنائع المعروف]‬

‫أخبرنا الشيخ العارف باهلل تعالى سيدي عبدالملك بن الحسين بن ميمون بن‬
‫الحسين الحربوني الواسطي قدس اهلل سره قال‪ :‬أنبأنا الشيخ الثقة عبدالحق بن‬
‫عبدالخالق ابن أحمد‪ ،‬أقول‪ :‬وبهذا السند عن عبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد‪ ،‬بزيادة‬
‫لفظة" ابن يوسف" بعد أحمد‪ ،‬أجازنا كتابة موالنا الخليفة المفترض الطاعة في‬
‫(‪)1‬‬
‫األرض‪ ،‬القائم هلل بإحياء السنة والفرض‪ ،‬أبو العباس الناصر لدين اهلل العباسي‬
‫الهاشمي أعز اهلل به كلمة الدين والمسلمين‪ ،‬وأيد باقتداره شريعة سيد المرسلين‪ ،‬عليه‬
‫صلوات رب العالمين‪ ،‬وعبدالحق بن عبدالخالق بن أحمد بن يوسف المتقدم ذكره‪،‬‬
‫قال أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق بن عبدالرزاق قراءة‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا علي بن‬
‫وقرأت‬
‫ُ‬ ‫أحمد بن علي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عمي الحسن بن علي‪ .‬قال‪ :‬محمد بن مرزوق‪:‬‬
‫علي أبي نصر محمد بن سلمان‪ ،‬أخبركم ذو النون بن محمد بن عامر فأقر به‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبو أحمد الحسن بن عبداهلل بن سعيد‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا محمد بن هارون‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا‬
‫محمد بن العباس الننسي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عمرو بن أبي سلمة‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا صدقة‪ ،‬عن‬
‫األصبغ‪ ،‬عن ابن حكيم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده‪ ،‬أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬‬
‫صنائع المعروف تقي مصارع السوء‪ ،‬وإ ن صدقة السر تطفئ غضب الرب‪ ،‬وإ ن‬
‫صلة الرحم تزيد العمر وتنفي الفقر" (‪.)2‬‬

‫الخليفة الناصر لدين اهلل أحمد بن المستضيء الحسن (‪ 622-553‬هـ) أجازه جماعة‪ ،‬قال الذهبي‪ :‬ولم يل‬ ‫(‪)1‬‬

‫الخالفة أحد أطول مدة منه‪ ،‬فإنه أقام فيها سبعاً وأربعين سنة (‪ 622 – 575‬هـ) [ عطا حسني‪ :‬حلى األيام في‬
‫خلفاء اإلسالم (مصر ‪ 1327‬هـ) ص ‪ 887‬وما بعدها‪.‬‬
‫حسن‪ .‬وهو في مجمع الزوائد (الفكر) ‪( 3/293‬الزكاة‪ :‬باب صدقة السر) برقم =‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪108‬‬
‫وفي هذا الحديث الشريف من مكارم األخالق‪ ،‬ما ُيصعِّد همة العارف إلى‬
‫حضرة ربه‪ ،‬فإن أُس(‪ )1‬المعرفة باهلل مكارم األخالق‪ ،‬وأما سوء األخالق فهو والعياذ‬
‫باهلل من انحجاب السر عن اهلل تعالى‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن أعظم مصائب السر حجابه عن اهلل تعالى‪ ،،‬فكل من حلت به‬
‫هذه المصيبة‪ ،‬فقد تالشت سائر مصائبه في جنبها‪ ،‬فإن المحب سكران‪ ،‬والسكران ال‬
‫يجد حالة سكره وجع المصيبة‪ ،‬فإذا أفاق وجد األلم‪ ،‬ومصيبة المحجوب عن اهلل ال‬
‫تنجبر أبداً‪ ،‬إال بتجريد السر عن كل ما دون اهلل تعالى‪ ،‬وال وعيد في القرآن أصعب‬
‫من قوله تعالى‪ ( :‬كال بل ران على قلوبهم)(‪ )2‬فكم من طاعة حجبت صاحبها عن‬
‫المطاع‪ ،‬وكم من نعمة قطعت صاحبها من المنعم‪ ،‬ورب نائم ُرزق االنتباه بعد‬
‫رقدته‪ ،‬ومنتبه نام بعد طول االنتباه‪ ،‬ورب فاجر رزق الوالية‪ ،‬وبلغ منازل األبرار‪،‬‬
‫وزاهد سقط عن واليته‪ ،‬وسلك مسالك الفجار‪ ،‬وكم من عامل قد حجبته رؤية أعماله‪،‬‬
‫عن رؤية امتنان ربه‪ ،‬حتى عمي بصره فصار ُمبعداً وهو يحسب أنه واصل‪ ،‬وال‬
‫مصيبة أشد على العارف من الحجاب‪ ،‬ولو طرفة عين‪ ،‬وأعظم عقوبة على العبد من‬
‫اهلل البعد والحجاب‪.‬‬
‫العّباد قال‪ :‬إلهي كم أعصيك وال تعاقبني ! فأوحى اهلل‬
‫وحكي أن رجالً من ُ‬
‫إلى نبي ذلك الزمان أن قل به‪ :‬إلى كم أعاقبك وأنت ال تدري‪ ،‬ألم أحجبك عن‬

‫(= ‪ 4637‬وقال نور الدين الهيثمي‪ :‬رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة‪ ،‬وإ سناده حسن وانظر في المجمع‬
‫‪ .4639‬ورواه الهندي في كنز العمال (الرسالة) الزكاة الباب الثاني في السخاء والصدقة ‪ 6/344‬برقم‬
‫‪ .15973‬ورواه أيضا برقم ‪ 16026‬بلفظ‪ " :‬صدقة السر تطفئ غضب الرب‪ ،‬وصلة الرحم تزيد في العمر‪،‬‬
‫وفعل المعروف يقي مصارع السوء" [ كنز ‪.]6/353‬‬
‫أس‪ :‬أساس‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة المطففين ‪.14 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪109‬‬
‫لطائف أُنسي‪ ،‬ألم أخرج عن قلبك حالوة مناجاتي؟ وقال‪ :‬أبو موسى خادم أبي يزيد‪:‬‬
‫خلق كثير‪ ،‬فلما نظر أبو يزيد إليهم وإ لى ازدحامهم نحوه‪،‬‬
‫دخل الشيخ مدينة فتبعه ٌ‬
‫قال‪ :‬اللهم إني أعوذ بك أن تحجبني عنك بهم‪ ،‬وأعوذ بك أن تحجبهم عنك بي‪ .‬رحمه‬
‫اهلل ما أكثر إنصافه‪ ،‬ما أصدقه بربه‪ ،‬ما أشفقه على إخوانه المسلمين‪ ،‬أراد لهم الخير‬
‫وصحة النظر‪ ،‬كما أراد لنفسه‪ ،‬تنبه يا من يريد اجتماع الناس عليه‪ ،‬واعتقادهم به‪،‬‬
‫كم طيرت طقطقة النعال حول الرجال من رأس‪ ،‬وكم أذهبت من دين‪ ،‬اللهم سلم‪،‬‬
‫اللهم سلم‪.‬‬
‫اعلم أن الناس أربعة أصناف‪ ،‬رجل جعل اهلل قلبه بصيراً ينظر بنور اليقين‬
‫إلى لطائف صنعه وكمال قدرته‪ ،‬ورجل جعل اهلل عقله بصيراً ينظر بنور الفطنة إلى‬
‫الوعد والوعيد‪ ،‬ورجل جعل اهلل سره بصيراً ينظر في كل األوقات بنور المعرفة إلى‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬ورجل جعله اهلل مكفوفاً ال يبصر شيئاً‪ ،‬فهو مظهر قوله تعالى‪ ( :‬ومن‬
‫(‪)1‬‬
‫كان في هذه أعمى فهو في اآلخرة أعمى وأضل سبيالً)‪.‬‬
‫واعلم أن الكفار محجوبون بظلمة الضاللة عن نور الهدى‪ ،‬وأهل المعصية‬
‫محجوبون بظلمة الغفلة عن أنور التقوى‪ ،‬وأهل الطاعة محجوبون بظلمة رؤية‬
‫الح ُجب‪،‬‬
‫الطاعة عن أنوار رؤية التوفيق وعناية المولى‪ ،‬فإذا رفع اهلل عنهم هذه ُ‬
‫نظروا بأعين النور إلى النور‪ ،‬فعند ذلك ُيحجبون عن غيره به‪ ،‬فكل من نظر إلى‬
‫حركاته وأفعاله في طاعة اهلل‪ ،‬صار محجوباً عن وليها مفلساً‪ ،‬ومن نظر إلى وليها‬
‫صار محجوباً به عن رؤيتها‪ ،‬ألنه إذا رأى عجزه عن تحقيقها وإ تمامها‪ ،‬صار‬
‫مستغرقاً في امتنانه‪ ،‬وربما يحجب برؤية العباد عن وجدان حالوتها وربما يحجب‬
‫برؤية وجدان الحالوة عن صحة اإلدارة‪ ،‬وربما يحجب برؤية المنة عن المنان‬
‫العجب‪ ،‬ومن رأى‬
‫سبحانه‪ ،‬قال النساج‪ :‬من رأى نفسه عند الطاعة لم يتخلص من ُ‬
‫الخلق لم يتخلص من الرياء‪ ،‬ومن رأي‬

‫( ‪)1‬‬
‫سورة اإلسراء‪.72 :‬‬

‫‪110‬‬
‫الطاعة لم يتخلص من الغرور ومن رأي الثواب لم يتخلص من الحجاب‪ ،‬ومن رأي‬
‫الرب تعالى فذلك في مقعد صدق عند مليك مقتدر‪.‬‬
‫من اشتغل بطرائف الحكمة ودقائقها‪ ،‬صار محجوباً‬
‫(‪)1‬‬
‫وقال بكر بن عبداهلل‬
‫عن حقائقها‪ ،‬وما أعرف معصية أضر بصاحبها من نسيان الرب‪ ،‬وعالقة القلب‬
‫بغيره‪ .‬وقال‪ :‬كل هم وذكر لغير اهلل تعالى فهو حجاب بينك وبين اهلل‪ ،‬وفي الخير‪:‬‬
‫ٍ‬
‫حسنة يعملها الرجل ال يكون له سيئة أضر عليه منها‪ ،‬ورب سيئة يعملها‬ ‫(ر َّ‬
‫ب‬ ‫ُ‬
‫الرجل ال يكون له حسنة أنفع له منها)‪ ،‬قيل في معناه‪ :‬ألن الحسنة محمودة‪ ،‬والسيئة‬
‫مذمومة‪ ،‬فمادام العبد في الحسنة مع رؤية الحسنة فهو في ميدان الدالل واالفتخار‪،‬‬
‫وما دام العبد في السيئة مع رؤية السيئة فهو في ميدان االنكسار واالفتقار‪ ،‬وحال‬
‫العبد في وقت االفتقار أحسن(‪.)2‬‬
‫قال اإلمام أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ :‬اللهم إني أعوذ بك من الشرك‬
‫الخفي‪ ،‬قالت رابعة رضي اهلل عنها‪ :‬حجبت الدنيا قلوب أهلها عن اهلل‪ ،‬فلو تركوها‬
‫لجالت في ملكوته‪ ،‬ثم رجعت بطرائف الفوائد‪.‬‬
‫قيل لسيدي منصور الرباني رضي اهلل عنه‪ :‬بأي شيء يعرف العبد أنه غير‬
‫محجوب عن‬

‫بكر بن عبد اهلل المزني‪ " :‬كان رضي اهلل تعالى عنه يقول‪ :‬أوثق أعمالي عندي حبي للرجل الصالح‪ ..‬مات‬ ‫(‪)1‬‬

‫سنة ثمان ومائة" [ الطبقات الكبرى للشعراني (دار الفكر) ‪.]1/35‬‬


‫قال ابن عطاء اهلل السكندري (أحمد بن محمد‪ ،‬المتوفى عام ‪ 709‬هـ) ربما فتح لك باب الطاعة‪ ،‬وما فتح لك‬ ‫(‪)2‬‬

‫باب القبول‪ ،‬وربما قضى عليك بالذنب‪ ،‬فكان سبباً في الوصول‪ ،‬قال عبد المجيد الشرنوبي‪ :‬يعني أن الطاعة‬
‫ربما قارنها آفات قادحة في اإلخالص فيها‪ ،‬كاإلعجاب بها واحتقار من لم يفعلها‪ ،‬فال يفتح لها باب القبول‪ ،‬وربما‬
‫قارن الذنب شدة الندم واستصغار النفس وحسن االعتذار إلى اهلل‪ ،‬فيكون سبباً في الوصول‪ ،‬كما بين ذلك‬
‫المصنف [ أي ابن عطاء اهلل] بقوله‪" :‬معصية أورثت ذال وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكبارا" [ شرح‬
‫الحكم العطائية لعبد المجيد الشرنوبي ( دار ابن كثير – الطبعة الثالثة) ص ‪.]82‬‬

‫‪111‬‬
‫ربه؟ قال‪ :‬إذا طلبه ولو يطلب منه‪ ،‬وأراده ولم يرد منه‪ ،‬وأن ال يختار على اختياره‬
‫شيئاً‪ ،‬وإ ن اختار له النار‪ ،‬وكل َمن ليس في قلبه سلطان الهيبة‪ ،‬ونار المحبة‪ ،‬وأُنس‬
‫الصحبة‪ ،‬فهو محجوب‪ .‬وقال‪ :‬كفاك من المعرفة أن تعلم أن اهلل مطلع عليك‪ ،‬وكفاك‬
‫سابق على‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫مستغن عنك‪ ،‬وكفاك من المحبة أن تعلم أن حبه‬ ‫من العبادة أن تعلم أن اهلل‬
‫حبك‪ ،‬وكفاك من الذكر أن تعلم أن ذكره متقدم على ذكرك‪ .‬القلوب إذا قعدت على‬
‫بساط الهيبة‪ ،‬زالت عنها الشهوات‪ ،‬وإ ذا قعدت على بساط المعرفة‪ ،‬زالت عنها‬
‫الغفالت‪ ،‬وإ ذا قعدت على صدق الفردانية بالفرد للفرد فذلك مقعد الصدق‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫الحديث الثاني والعشرون‬

‫[ ال تحاسدوا‪]..‬‬

‫أخبرنا الشيخ الثقة العارف باهلل تعالى عبدالملك بن الحسين الحربوني قدس‬
‫اهلل روحه‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أبو مطيع محمد بن عبدالواحد األديب‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو بكر‬
‫عبداهلل بن أحمد بن العباس الباطرقاني‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا سليم بن أحمد الطبراني‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثنا إسحاق بن إبراهيم الديري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عبد الرزاق‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا معمر‪ ،‬عن‬
‫الزهري‪ ،‬عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ " :‬ال تحاسدوا وال تباغضوا وال تجسسوا وكونوا إخواناً كما أمركم اهلل‬
‫تعالى"(‪.)1‬‬
‫تضمن من أسرار المعرفة باهلل العجائب‪ ،‬فإنه أمر‬
‫هذا الحديث الشريف َّ‬
‫بالتخلي عن الصفة اإلبليسية‪ ،‬وهي الحسد‪ ،‬ثم بالتجرد من الصفة النفسانية‪ ،‬وهي‬
‫البغض لغير اهلل تعالى‪ ،‬ثم بالترفع عن الصفة السافلة الهوائية‪ ،‬وهي التجسس‪ ،‬ثم بعد‬
‫أن أكمل درجات التنقية‪ ،‬أمر برؤية عدم الفَرقية بين المرء وبين إخوانه‪ ،‬وأن هذا من‬
‫أمر اهلل تعالى‪ ،‬وإ ذا كملت للعبد هذه الخصال‪ ،‬فقد أحكم شأن المعرفة باهلل‪ ،‬ومن هذا‬
‫"من عرف نفسه فقد عرف‬
‫السر قول سيدنا علي كرم اهلل وجهه ورضي اهلل عنه‪َ :‬‬
‫ربه"(‪.)2‬‬
‫الخلق تجرد عن‬
‫التفت منه إلى َ‬
‫َ‬ ‫أي بني‪ ،‬اعلم أن العبد بين اهلل وخلقه‪ ،‬إن‬
‫قربه اهلل‬
‫الحق‪ ،‬وصار متروكاً محروماً مخذوالً‪ ،‬وإ ن التفت إلى اهلل عن الخلق‪َّ ،‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه البخاري في النكاح‪ ،‬باب‪ :‬ال يخطب على خطبة أخيه‪ ،‬رقم ‪ 4849‬وفي األدب‪ ،‬باب ما ُينهي‬ ‫(‪)1‬‬

‫عند التحاسد والتدابر ‪ 5717‬و ‪ 5718‬وباب‪ ( :‬يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم وال‬
‫تجسسوا) [ الحجرات ‪ ]12‬رقم ‪ 5719‬ومسلم‪ :‬البر والصلة واآلداب‪ ،‬باب‪ :‬تحريم التحاسد والتباغض والتدابر‪،‬‬
‫رقم ‪.2559‬‬
‫تقدم تخريجه في ثنايا دراسة الحديث الثامن‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪113‬‬
‫وأدناه‪ ،‬وأوصله إلى قُربه‪ ،‬فإن اهلل تعالى إذا أحب عبداً غار عليه قَ ْد َر قربه منه‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وحبه له‪ ،‬ولم يحتمل منه االلتفات إلى شيء سواه‪ ،‬فإنه إن نظر إلى شيء دونه عذَبهُ‬
‫اهلل بذلك الشيء‪ ،‬وجعله وباالً عليه‪ ،‬أما ترى أن إبليس لعنه اهلل نظر إلى نفسه‪ ،‬وقال‬
‫خير منه‪ ،‬فلعنه وطرده‪ ،‬وكذلك نظر فرعون إلى ملكه وقال‪ :‬أليس لي‬
‫عن آدم‪ :‬أنا ٌ‬
‫فغرقه‪ ،‬وقارون نظر إلى ماله وقال‪ :‬إنما أوتيته على ٍ‬
‫علم عندي‪ ،‬فخسف‬ ‫ملك مصر َّ‬
‫اهلل به وبداره األرض‪ ،‬وكذلك المالئكة‪ ،‬نظروا إلى تسبيحهم وتقديسهم حيث قالوا‪:‬‬
‫ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‪ ،‬فابتالهم اهلل تعالى بالسجدة آلدم وكذلك كل َمن قال‬
‫أنت اهلل‪،‬‬
‫يرده إلى أسفل السافلين‪ ،‬وكل َمن يقول‪َ :‬‬
‫أنا يقول اهلل تعالى ال بل أنا‪ ،‬ثم ّ‬
‫يرفعه إلى أعلى ِعلّيين‪.‬‬
‫فالتفات العين مثل ما‬
‫ُ‬ ‫وااللتفات على وجهين‪ ،‬التفات العين‪ ،‬والتفات القلب‪،‬‬
‫ُ‬
‫تم َّد َن عينيك إلى ما متعنا به)‬
‫قال اهلل تعالى لمحمد حبيبه عليه الصالة والسالم‪( :‬وال ُ‬
‫تركن‬
‫ُ‬ ‫كدت‬
‫لما عصمه حيث قال تعالى‪ ( :‬ولوال أن ثبتناك لقد َ‬ ‫ّ‬ ‫عليه‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ثم‬ ‫اآلية‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬
‫إليهم شيئاً قليالً) ‪ ،‬ثم مدحه بترك االلتفات إلى ما سواه‪ ،‬في قوله تعالى‪( :‬ما زاغ‬
‫البصر وما طغى)(‪ ،)3‬ثم أورثه ذلك الترك ال ُكلّي أن ُر ِف َع له الحجاب‪ ،‬حتى رأى ما‬
‫ُ‬
‫رأى في قوله تعالى‪( :‬ولقد راءهُ نزلةً أخرى)(‪.)4‬‬
‫وإ ن موسى عليه الصالة والسالم‪ ( :‬قال ربي أرني أنظر إليك)(‪ )5‬قال‪ :‬انظر‬
‫نظرت إلى غيري‪.‬‬
‫َ‬ ‫إلى الجبل‪ ،‬ولن تراني بعد أن‬
‫كان بعض العارفين يطوف حول الكعبة‪ ،‬فناداه واحد‪ ،‬فخطر بباله أن يلتفت‬
‫التفت إلى غيرنا‪.‬‬
‫َ‬ ‫إليه‪ ،‬فسمع هاتفاً يقول‪ :‬ليس ِمّنا َمن‬
‫يد من‬‫وحكي أن آخر كان يطوف حول الكعبة‪ ،‬فنظر إلى امرأة‪ ،‬فظهرت ٌ‬ ‫ُ‬

‫سورة طه‪.131 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫صورة اإلسراء‪.74 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة النجم‪.17 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة النجم‪13 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة األعراف‪.143 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪114‬‬
‫نظرت بقلبك إلى‬
‫َ‬ ‫نظرت بعينك إلى دوننا ففقأناها ولو‬
‫َ‬ ‫الهواء وفقأت عينه‪ ،‬ثم نودي‬
‫غيرنا لكويناه‪.‬‬
‫ومن‬ ‫ِ‬
‫وقال ذو النون‪َ :‬من نظر من توحيده إلى نفسه لم ُينجه التوحيد من النار‪َ ،‬‬
‫ومن التفت من وقته إلى‬
‫التفت من الصالة إلى غيرها فقط سقط عن درجة المصلين‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫العبد في الصالة‪ ،‬يقول‬
‫التفت ُ‬
‫َ‬ ‫وقته ذهب عنه الوقت وهو ال يشعر‪ ،‬وفي الخبر‪ " :‬إذا‬
‫تلتفت إلى َمن هو خير لك مني؟ أقبل وال تُعرض بوجهك عني فإني إذاً‬
‫ُ‬ ‫اهلل‪ :‬عبدي‬
‫أعرض عنك" (‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫قال النبي عليه الصالة والسالم‪ " :‬أتاني جبريل بمفاتيح خزائن الدنيا‪ ،‬فلم‬
‫أصبحت وقد َمَن َع‬
‫ُ‬ ‫ألتفت إليها ولم أقبلها" (‪ )2‬قيل لبعضهم‪ :‬كيف أصبحت؟ قال‪:‬‬
‫الكونين عني‪ ،‬ومنعني أن أنظر إليهما‪.‬‬
‫كنت في طلب صدي ٍ‬
‫ق لي ثالثين سنة‬ ‫وقال العارف السقطي رضي اهلل عنه‪ُ :‬‬
‫فلم أظفر‬

‫يكره االلتفات في الصالة بال حاجة مهمة‪..‬ـ ودليل كراهة االلتفات لغير حاجة باتفاق المذاهب حديث عائشة‬ ‫(‪)1‬‬

‫رضي اهلل عنها‪ ،‬قالت‪ :‬سألت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن التلفت في الصالة فقال‪" :‬اختالس يختلسه‬
‫الشيطان من العبد" (رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود [ نيل األوطار ‪ ،2/327‬نصب الراية ‪]2/89‬‬
‫وحديث أبي ذر رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬ال يزال اهلل مقبال على العبد في‬
‫صالته‪ ،‬ما لم يتلفت‪ ،‬فإذا صرف وجهه انصرف عنه" (رواه أحمد والنسائي وأبو داود [ المصدران السابقان])‬
‫[ الدكتور وهبة الزحيلي‪ :‬الفقه اإلسالمي وأدلته (ط‪.2/965 ) 4‬‬
‫في البخاري‪ :‬الجهاد‪ ،‬باب قول النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ُ " :‬نصرت بالرعب مسيرة شهر" عن أبي هريرة‬ ‫(‪)2‬‬

‫رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬بعثت بجوامع الكلم‪ ،‬ونصرت بالرعب‪ ،‬فبينا أنا نائم‬
‫أُوتيت بمفاتيح خزائن األرض فوضعت في يدي" ورواه مسلم‪ :‬أوائل كتاب المساجد ‪ .523‬وقال عبداهلل بن‬
‫المبارك‪ :‬أخبرني األوزاعي عن عبداهلل بن عبيدـ قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬أتاني جبرئيل‬
‫بسطت إليها يدي"‪ ،‬قال عبداهلل بن عبيد‪:‬ـ لو علم أن فيها خيراً لبسط‬
‫ُ‬ ‫بمفاتيح خزائن األرض‪ ،‬فو الذي نفسي بيده ما‬
‫إليها يده [ عبد اهلل بن المبارك‪ :‬الزهد (دار الكتب العلمية) ص ‪ 265‬رقم الحديث ‪.]767‬‬

‫‪115‬‬
‫قائم على صخرة‪ ،‬فدنوت منه وأخذت‬
‫فمررت يوماً في بعض الجبال‪ ،‬فإذا هو ٌ‬
‫ُ‬ ‫به‪،‬‬
‫ذيله‪ ،‬فقال‪ ،‬خل عني يا سري‪ ،‬فإن الحق غيور‪ ،‬فال يراك تأنس بغيره‪ ،‬فتسقط من‬
‫عينه‪.‬‬
‫وحكي أن رابعة كانت في طريق مكة فأقبل إليها رجل وقال‪ :‬يا هذه ُكلّي‬
‫ك مبذول‪ ،‬إال أن لي أختاً أحسن مني‬ ‫ب ُكلِّ ِك مشغول‪ ،‬فقالت‪ :‬إن َ‬
‫كنت صادقاً ف ُكلّي ل ُكلِّ َ‬
‫طال‪،‬‬
‫وهي وراءك‪ ،‬فالتفت الرجل فلطمته رابعة على وجهه‪ ،‬وقالت‪ :‬إليك عني يا ب ّ‬
‫وجدت عارفاً‪ ،‬فلما‬
‫ُ‬ ‫فقلت‪:‬‬
‫نظرت إلى غيرنا‪ ،‬رأيتك من بعيد‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫ادعيت محبتنا ثم‬
‫َ‬
‫تكلمت قلت‪ :‬وجدت عارفاً‪ ،‬فلما جربتك وجدتك كذاباً‪ ،‬ما رأيت معك صفاوة‬
‫العارفين ومروءتهم‪ ،‬وال طريقة العاشقين وصيانتهم‪ ،‬فصاح الرجل‪ ،‬وجعل التراب‬
‫فأعرضت عنه‪ ،‬فجاءت اللطمة على وجهي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ادعيت محبة مخلوق‬
‫ُ‬ ‫على رأسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫فأخاف أن أدعي محبة الخالق‪ ،‬فإذا أعرضت بقلبي أن تكون اللطمة على قلبي‪.‬‬
‫صبي‪ ،‬فيوماً من‬ ‫(‪)1‬‬
‫وأما االلتفات بالقلب‪ ،‬فقد ُحكي أنه كان لفتح الموصلي‬
‫وقبله فنودي من الهواء‪ :‬يا فتح ادعيت محبتنا وفي قلبك حب غيرنا‪،‬‬
‫األيام عانقه ّ‬
‫خر مغشياً عليه‪.‬‬
‫فصاح صيحةً َّ‬
‫وهو ُيقبِّل صبياً من أهله‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ونظرت رابعة البصرية إلى رباح القيسي‬
‫فقالت‪ :‬أتحبه؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قالت‪ :‬ما كنت حسبت أن في قلبك موضعاً فارغاً لمحبة‬
‫غيره‪ ،‬ففزع القيسي فزعاً شديداً حتى ُغشي عليه‪ ،‬فأفاق وهو يمسح العرق عن‬
‫وجهه‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم " لو كنت متخذاً خليالً التخذت أبا بكر خليالً‪ ،‬لكن‬
‫خليلي اهلل(‪.)3‬‬

‫فتح بن سعيد الموصلي‪ :‬كان من أكابر األولياءن وأعاظم األصفياء‪ .‬من كراماته أنه كان يمشي على الماء‪..‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫مات سنة ‪ [ 320‬جامع كرامات األولياء (الفكر) ‪.]2/437‬‬


‫أبو المهاجر رباح بن عمرو القيسي (الطبقات الكبرى للشعراني (الفكر) ‪.]1/46‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه مسلم في فضائل الصحابة‪ ،‬باب مناقب أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه ‪ 2383‬والترمذي‪:‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫المناقب‪ ،‬باب مناقب أبي بكر رضي اهلل عنه ‪.3656‬‬

‫‪116‬‬
‫وحكي أن داود عليه الصالة والسالم استقبله رجل في بعض سياحاته‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ُ‬
‫أين تريد؟ قال‪ :‬استوحشت عن الناس‪ ،‬واستأنست باهلل‪ .‬فقال له الرجل‪ :‬هذا من ِقَبِل َ‬
‫ك‬
‫أم من ِقَب َل اهلل؟ قال‪ :‬فسقط داود مغشياً عليه‪ ،‬ثم أفاق وقال‪ :‬نبهك اهلل كما نبهتني‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬إن اهلل تعالى أمر قوم موسى بقطع رؤوسهم حين سجدوا‬
‫رأس سجد لي ثم سجد لغيري فال يصلح لي‪،‬‬
‫للعجل‪ ،‬بعد أن سجدوا هلل تعالى‪ ،‬فقال‪ٌ :‬‬
‫فكذلك القلب‪.‬‬
‫هم به‬
‫وهممت بما َّ‬
‫ُ‬ ‫وبلغنا أن داود عليه الصالة والسالم قال‪ :‬أوتيت ما أوتي الناس وما لم يؤتوا‪،‬‬
‫الناس وما لم يهموا ‪ ،‬فوجدت األشياء كلها هلل‪ ،‬واألمور كلها بيد اهلل والحاصل من الدارين وما فيهما هو هلل‪،‬‬
‫فال ينبغي لمن ادعى محبته‪ ،‬أن يكون في قلبه حب لغيره‪ ،‬قالت رابعة‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اليوم ُمذنباً قد أتاكا‬ ‫إرحم‬ ‫ِ‬
‫القلوب َمن لي سواكا‬ ‫حبيب‬
‫َ‬ ‫يا‬
‫َ‬
‫ب سواكا‬
‫أح َّ‬
‫القلب إن َ‬
‫ُ‬ ‫كذب‬ ‫يا حبيبي وصفوتي! ورجائي‬
‫طال شوقي متى يكون لقاكا؟‬ ‫ومرادي‬
‫ومنيتي! ُ‬
‫يا أنيسي ُ‬

‫قُطعت همزة الوصل في " ارحم " لضرورة الشعر‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪117‬‬
‫الحديث الثالث والعشرون‬

‫[ خيركم من تعلم القرآن وعلمه]‬

‫المقري أبو الفضل‬


‫أخبرنا شيخنا الشيخ الكبير العارف باهلل تعالى القاضي ُ‬
‫علي الواسطي رضي اهلل عنه قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسين عاصم بن الحسن بن المقري‪،‬‬
‫قال‪ :‬حدثنا أبو عمر عبدالواحد بن محمد‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا مهدي بن إسماعيل بن محمد‬
‫الصفار‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا محمد بن عبيداهلل المناوي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا شبابة يعني ابن سوار‪،‬‬
‫قال‪ :‬أخبرنا شعبة ابن علقمة بن مزيد‪ ،‬عن سعيد بن عبيدة‪ ،‬عن أبي عبدالرحمن‬
‫السلمي‪ ،‬عن عثمان بن عفان رضي اهلل عنهما‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(‪ .)1‬هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت‬
‫لمن تعلم القرآن وعلمه‪ ،‬لما في القرآن العظيم من بالغ ِ‬
‫الح َكم‪ ،‬وغامض السر‪،‬‬
‫وخطير الشأن‪ ،‬وهو حبل اهلل األعظم‪ ،‬به يهتدي المهتدون‪ ،‬ويصل الواصلون‪،‬ـ وهو‬
‫ق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وباب اهلل تعالى‪ ،‬والمعجزة الدائمة‪ ،‬والنور‬
‫ُخلُ ُ‬
‫الذي ال ينحجب‪ ،‬وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة‪ ،‬وما المعرفة التي لم‬
‫زور وضاللة ‪ ،‬ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم‪ ،‬فقد‬
‫ترجع إليه‪ ،‬ما هي إال ٌ‬
‫الملكية والملكوتية‪ ،‬ومتى صار عارفاً‬
‫صار عارفاً‪ ،‬وانكشفت له األسرار الربانية‪ُ ،‬‬
‫َح َّن َّ‬
‫وأن‪ ،‬وطلب زيادة العلم باهلل من كل طريق ومن كل فن‪ ،‬وكل الطرق والفنون‬
‫في القرآن العظيم‪ ،‬والعارفون هم الراسخون بالعلم يقولون آمنا به‪ ،‬وإ ليه منتهى سير‬
‫ِه َم ِم ِهم‪ ،‬وعنه يصدرون‪ ،‬وبه‬

‫(‪ )1‬صحيح رواه أحمد في المسند (مسند عثمان رضي اهلل عنه) برقم ‪ ،405‬ولفظه‪" :‬أفضلكم َمن تعلم‪ "..‬وبرقم‬
‫‪ 412‬بلفظ‪" :‬خيركم‪ "..‬و ‪ 500‬ورواه في مسند اإلمام علي رضي اهلل عنه‪ ،‬عنه برقم ‪ .1317‬والبخاري‪:‬‬
‫فضائل القرآن‪ ،‬باب‪" :‬خيركم من تعلم القرآن وعلمه"‪ .‬رقم ‪ ،4739‬وبلفظ‪" :‬إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"‬
‫(رقم ‪.)4740‬‬

‫‪118‬‬
‫يفرقون بين‬
‫يهيمون‪ ،‬ومنه يأخذون‪ ،‬ولذلك يقال فيهم‪ :‬ندماء الحق‪ ،‬وبهذا السر ِّ‬
‫الباطل والحق‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن اهلل تعالى ربما َي ِز ُ‬
‫ين أعداءه بلباس أوليائه وأصفيائه‪ ،‬حتى‬
‫إنهم يغترون بصفاء األوقات‪ ،‬ويحسبون أنهم من أهل واليته‪ ،‬فهذا من اهلل لهم‬
‫استدراج‪ ،‬وربما يزينهم بالعز والجاه والرياسة والمنزلة عند الناس‪ ،‬حتى يغتروا‬
‫ويحسبوا من أهل فضله‪ ،‬فهذا أيضاً من اهلل استدراج لهم‪،‬‬
‫بثناء الناس ومحمدتهم‪ُ ،‬‬
‫وكذلك ربما يزينهم بأنواع لطائف الحكمة‪ ،‬فيغترون بحسن بالغتهم‪ ،‬وكمال فهمهم‬
‫ٍ‬
‫حقيقة علماً‪ ،‬فهذا لهم من اهلل استدراج‪ ،‬وربما‬ ‫وفطنتهم‪ ،‬ويحسبون أنهم أحاطوا بكل‬
‫يزينهم بلباس النعمة‪ ،‬ويغرقهم في أنواع النعم‪ ،‬فيغترون بحسن تجملهم‪ ،‬وطيب‬
‫عيشهم‪ ،‬ويحسبون أنهم علي شيء من اهلل فهذا لهم من اهلل استدراج‪ ،‬وال يتركهم حتى‬
‫يردهم إلى حقيقة معلومة‪ ،‬قال سبحانه‪( :‬سنستدرجهم من حيث ال يعلمون)(‪ )1‬فهذا ما‬
‫كدر عيش المريدين في دار الدنيا‪ ،‬حتى دام كمدهم‪ ،‬واصفرت ألوانهم‪ ،‬وذابت‬
‫نفوسهم‪ ،‬ودهشت عقولهم‪ ،‬وطارت أفئدتهم‪ ،‬وانشقت مراراتهم‪ ،‬وفقدوا من الخالئق‪،‬‬
‫نفسه بقوله تعالى‪:‬‬
‫وواجب على كل حال ذي عقل ومعرفة أن يح َذر مواله‪ ،‬كما ح ّذر َ‬
‫(ويحذركم اهلل نفسه)(‪ )2‬وكما قال‪( :‬واعلموا أن اهلل يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)(‪.)3‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬المؤمن ال يسكن اضطرابه‪ ،‬وال تأمن روعته‪،‬‬
‫غيب مكره في ِحلمه‪ ،‬وخداعه في‬
‫حتى يخلف جسر جهنم" (‪ ،)4‬إال أن اهلل تعالى َّ‬
‫وخذالنه في أنواع نِعمه‪ ،‬وسخطه في جميل َس ِ‬
‫تره‪ ،‬وقطيعته‬ ‫لطفه‪ ،‬وعدلَه في كرمه‪ِ ،‬‬
‫في إمهاله‪ ،‬فينبغي‬

‫سورة القلم‪.44 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة آل عمران‪.30 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة البقرة‪.235 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫أبو داود‪ :‬السنة‪ ،‬باب ذكر الميزان ‪.4755‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪119‬‬
‫للعبد أن ال يعتمد حسن أوقاته‪ ،‬وكثرة حسناته‪ ،‬فكم من أحد تراه في زي المريدين‪،‬‬
‫وهو في علم اهلل من المطرودين‪ ،‬وال يشعر أن اهلل تعالى ربما يزين عدوه بلباس‬
‫يرده آخر‬
‫وليه لباس األعداء‪ ،‬ثم ّ‬
‫أوليائه ثم يرده آخر األمر إلى ُبعده‪ ،‬وربما يكسو ّ‬
‫األمر إلى حقائق كرمه‪ ،‬ألنه هو يبديء ويعيد‪ ،‬يعني‪ :‬يبديء على أوليائه صفات‬
‫الفعال لما‬
‫أعدائه‪ ،‬وعلى أعدائه صفات أوليائه‪ ،‬ثم يعيدهم إلى حقائق معلومة‪ ،‬وهو ّ‬
‫يريد‪ ،‬بإظهار فضله في أهل عدله‪ ،‬وإ ظهار عدله في أهل فضله‪ ،‬أال ترى أن اهلل‬
‫تعالى َّ‬
‫زين إبليس بزينة عصمته‪ ،‬وهو في سابق علمه من أهل اللعنة‪ ،‬ستر عليه ما‬
‫بأنوار واليته‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سبق منه إليه‪ ،‬حتى أظهر أمره في العاقبة‪ ،‬وكذلك َّ‬
‫زين "بلعام"‬
‫وهو عند اهلل تعالى من أهل سخطه‪ ،‬وأغرق قارون في بحار نعمته‪ ،‬وهو عند اهلل‬
‫تعالى من أهل سخطه‪ .‬ال يغرنك باهلل أربعة أشياء‪ :‬إظهاره لك ما تعلم‪ ،‬وستره عليك‬
‫بما قد عملت‪ ،‬وزيادته لك فيما لم تشكره‪ ،‬وإ عطاؤه إياك ما لم تسأله‪ ،‬فإنه ربما أراد‬
‫اهلل تنبيهاً لك أو استدراجاً‪.‬‬
‫من رأى صنع الربوبية عند إقامة العبودية انقطع‬ ‫(‪)2‬‬
‫وقال يوسف بن الحسين‬
‫عن نفسه‪ ،‬واعتصم بربه‪ ،‬وفوض أمره إليه‪ ،‬فحيئنذ يسلم من آفات االستدراج‪.‬‬
‫صم‪ ،‬وال تغتروا‬ ‫ِ‬ ‫وكان يحيى بن معاذ يقول‪ :‬يا معشر المستورين ِّ‬
‫بالنعم والع َ‬
‫فإن تحتها آفات النقم‪ ،‬ال تغتروا بعمارة األوقات‪ ،‬فإن تحتها غوامض اآلفات‪ ،‬وال‬
‫مستدر ٍج‬
‫َ‬ ‫تغتروا بصفات العبودية‪ ،‬فإن فيها نسيان الربوبية‪ ،‬واألمر كما قال‪ :‬فيا ُر َّ‬
‫ب‬
‫ٍ‬
‫مفتون بالنعم عليه ويا رب‬ ‫مغتر بالثناء عليه‪ ،‬ويا ُر َّ‬
‫ب‬ ‫ب ٍّ‬‫باإلحسان إليه‪ ،‬ويا ُر َّ‬
‫عين ظاهره كان‬
‫مستهلك بالستر عليه‪ ،‬فمن لم يكن باطنه في مالزمة الحق تعالى َ‬

‫بلعام بن باعوراء [انظر تفاسير قول اهلل تعالى‪( :‬واتل عليهم نبأ الذي آتيناه ‪ [ ] ..‬األعراف ‪.]175‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أبو يعقوب الرازي‪ :‬يوسف بن الحسين‪ ،‬شيخ الري والجبال‪ ،‬وكان نسيج وحده في إسقاط التصنع‪ ..‬مات سنة‬ ‫(‪)2‬‬

‫أربع وثالثمائة [ الرسالة القشيرية ‪( 78‬الترجمة ‪.])34‬‬

‫‪120‬‬
‫شكه أغلب من يقينه‪ ،‬وإ ن كان ظاهره يدل على أوصاف الموقنين‪ ،‬وفقدان أنوار‬
‫الباطن من رؤية حركات الظاهر‪ ،‬والغفلة عن غوامض آفات االستدراج‪ ،‬من رؤية‬
‫صفاء العبودية(‪ ،)1‬فليس للموفَّق أن يعتمد‪ ،‬وال للمخذول أن ييئس‪ ،‬واستدراج أهل‬
‫الذنوب الركون إليها‪ ،‬واإلصرارـ على اإلعراض عن اهلل سبحانه‪ ،‬واستدراج أهل‬
‫العلم طلب الجاه والمنزلة عند الخلق‪ ،‬واستدراج أهل االجتهاد االستكثار واإلعجاب‪،‬‬
‫واستدراج المريدين تطلعهم إلى العطايا والكرامات‪ ،‬وسكونهم إليها‪ ،‬واستدراج‬
‫العارفين استغناؤهم بالمعرفة دون المعروف حتى جعلوا لها حداً وغاية ونهاية‪،‬‬
‫وظنوا أنهم قد أحاطوا بها‪ ،‬فكل من كانت منزلته أرفع‪ ،‬كان استدراجه أعظم وأدق‪،‬‬
‫بعيد‬
‫داع إلى اهلل ٌ‬
‫جريء على اهلل‪ ،‬وكم ٍ‬ ‫ف باهلل‬‫مخو ٍ‬
‫ناس هلل‪ ،‬وكم من ِّ‬ ‫كم من م ِّ‬
‫ذك ٍر هلل ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫منسلخ من آيات اهلل‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫من اهلل‪ ،‬وكم من ٍ‬
‫تال كتاب اهلل‬
‫فالفخر‬
‫ُ‬ ‫بتركها‪،‬‬ ‫وافتخرت‬
‫َ‬ ‫الدنيا‬ ‫تركت‬
‫َ‬ ‫كنت‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫(‪)2‬‬
‫وقال أبو سعيد الخراز‬
‫جب عيبه أكبر‪،‬‬
‫فالع ُ‬
‫وأعجبت بتركها‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫عيوب النفس‬
‫َ‬ ‫تركت‬
‫َ‬ ‫أعظم من إمساكها‪ ،‬ولو‬
‫وأمنت على أنك‬
‫َ‬ ‫خفت‬
‫وتعلقت بجهدك‪ ،‬فتعلقك أعظم االستراحة‪ ،‬ولو َ‬
‫َ‬
‫(‪)3‬‬
‫جهدت‬
‫َ‬ ‫ولو‬
‫البعد‪ ،‬ورؤية‬
‫خفت‪ ،‬فاألمن من الخوف أكبر‪ ،‬ثم قال‪ :‬رؤية القرب في القرب أقرب ُ‬
‫َ‬
‫األُنس في األنس أعظم الوحشة‪ ،‬ورؤية الذكر في الذكر أشد النسيان‪ ،‬ورؤية المعرفة‬
‫في المعرفة أكبر النكرة‪.‬‬
‫ظننت‬
‫ُ‬ ‫وجدت فحينئذ فقدت‪ ،‬وكلما‬
‫ُ‬ ‫ظننت أني‬
‫ُ‬ ‫وقال بعض أهل المعرفة‪ :‬كلما‬
‫فقدت فحينئذ وجدت‪ ،‬إلهي إن تركتك طلبتني‪ ،‬وإ ن طلبتك طردتني‪ ،‬ال‬
‫أني ُ‬

‫ال بد من مراقبة المرء لنفسه وعرض أحوالها وكل شؤونها على ميزان العبودية هلل عز وجل‪ ،‬منطلقاً من‬ ‫(‪)1‬‬

‫قاعدة االفتقار إلى القهار‪ ،‬والتذلل إليه واالنكسار‪ ،‬ومن لم يفعل ذلك غفل عن مزالق االستدراج وآفاته الخافية‪.‬‬
‫أبو سعيد‪ :‬أحمد بن عيسى الخراز‪ .‬من أهل بغداد‪ .‬مات سنة ‪ 277‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫جهَد يجهَد (بفتح الهاء في الماضي والمضارع) َج َّد َي ِج ّد‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪121‬‬
‫معك قرار‪ ،‬وال مع غيرك أنس‪ ،‬فالمستغاث منك إليك‪ .‬وقال أبو يعقوب‪ )1(:‬أجهل ما‬
‫يكون العبد باهلل‪ ،‬إذا ظن أنه استغنى عن الدنيا بالمعرفة‪.‬‬
‫افتخرت بها عليه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫طاعة‬ ‫خير من‬
‫َ‬ ‫افتقرت به إليه‪ٌ ،‬‬
‫َ‬ ‫ذنب‬
‫وقال يحيى بن معاذ‪ٌ :‬‬
‫وكان فضيل كثيراً ما يبكي ويردد هذه اآلية‪( :‬وبدا لهم من اهلل ما لم يكونوا‬
‫يحتسبون)(‪ )2‬ويقول‪ :‬عملوا أعماالً حسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات‪ ،‬حين يبدو‬
‫لهم من اهلل ما لم يكونوا يحتسبون‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬المعرفة مستقر ومستودع‪ ،‬مستقر في قلوب األولياء‪ ،‬ومستودع في‬
‫قلوب األعداء‪ ،‬ثم ُيسلب في آخر األمر‪ ،‬فليس للموفَّق أن يعتمد على توفيقه‪ ،‬ويأمن‬
‫من مكره‪ ،‬وال للمخذول أن ييئس من َروح ربه‪ ،‬وربما يرى الرجل للرجل الرؤيا‬
‫استدراج من اهلل تعالى‪ ،‬كما ُحكي أن رجالً من أهل الشام أتى إلى‬
‫ٌ‬ ‫الصالحة‪ ،‬وهو‬
‫العالء بن زياد(‪ )3‬وقال له‪ :‬إني رأيتك في المنام كأنك من أهل الجنة‪ ،‬فترك مجلسه‬
‫وأخذ في البكاء‪ ،‬وقال‪ :‬لعل اهلل أراد أمراً‪.‬‬
‫قيل‪ :‬أصل االستدراج نسيان الحق‪ ،‬واالستغناء بمن دونه‪ ،‬والتعلق بما سواه‪،‬‬
‫وااللتفات منه إلى غيره وليس على تحقيق في المعرفة َمن يغتر بكثرة العلم والعمل‪،‬‬
‫ألن إبليس كان معلم المالئكة‪ ،‬ثم في آخر األمر نظر إلى نفسه وعبادته‪ ،‬وترك أمراً‬
‫من أوامر اهلل‪ ،‬فصار من الملعونين المطرودين أبد اآلبدين‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫وإ ياك أن تغتر بعمارة األوقات‪ ،‬وصفاء األحوال‪ ،‬فإن برصيصاً‬

‫أبو يعقوب‪ :‬يوسف بن الحسين الرازي ( ت ‪ 304‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة الزمر‪.47 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫العالء بن زياد رضي اهلل تعالى عنه‪ ..‬وكان قد بكى حتى ُغ ِّشي بصره‪ ..‬توفي أيام والية الحجاج"‬ ‫(‪)3‬‬

‫[ الشعراني‪ :‬الطبقات الكبرى (الفكر) ‪.]1/35‬‬


‫تعبد برصيص ستين سنة‪ ،‬وأراد الشيطان أن يغويه فلم يفلح‪ ،‬فعمد إبليس إلى امرأة َّ‬
‫فأجنها وقال إلخوتها‪:‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫عليكم بهذا الراهب فيداويها‪ ،‬فجاؤوا بها إليه‪ ،‬فداواها‪ ،‬وكانت عنده‪= ،‬‬

‫‪122‬‬
‫كانا أعبد الناس في زمانهما‪ ،‬وأحسنهم حاالً‪ ،‬وفي آخر األمر ماال إلى‬ ‫(‪)1‬‬
‫وبلعام‬
‫مفتضح ْين في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وال تغتر بصحبة الصالحين‬
‫َ‬ ‫النفس والهوى‪ ،‬فصارا‬
‫الحرمة والمتابعة لهم‪ ،‬فالصحبة لو نفعت لنفعت امرأة نوح وامرأة‬
‫والزهاد بغير ُ‬
‫لوط‪ ،‬وألن االغترار مدرجة من مدارج االستدراج‪.‬‬
‫اآلية‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬يأيها‬ ‫(‪)2‬‬
‫قال اهلل تعالى‪ ( :‬فال تغرنكم الحيوة الدنيا)‬
‫اإلنسان ما غرك بربك الكريم)(‪ )3‬وذلك أن الشيطان ربما يأتي الزاهد ليغره‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫يا ولي اهلل ويا خيرته من خلقه‪ ،‬أما ترى من ربك هذه الكرامات والعطايا والقرب‬
‫واألنس‪ ،‬أما تدري ما ألهمك ربك من كالم أهل المعرفة‪ ،‬وحقائق أنواع اإلشارات‪،‬‬
‫فهل يكون مثل هذا إال ألهل محبته؟ أما ترى حال قربك معه‪ ،‬وكمال لطفه بك‪ ،‬وأنك‬
‫لو أقسمت على اهلل ألبرك‪ ،‬وال شك أن المالئكة ينظرون إلى حركاتك وسكناتك‬
‫وحسن أحوالك‪ ،‬وقد َر َج َح فضلك على أهل زمانك‪ ،‬فما أغفل الناس عما أنت فيه!‬
‫حتى يغره بأنواع مكره وخديعته‪ ،‬فإن تداركه اهلل بالفضل والرحمة‪ ،‬وبصَّره بمكائد‬
‫عدوه‪ ،‬وعرج ملتجئاً بسره إلى ُسرادقات قدرته‪ ،‬فعند ذلك يسلم من درجات آفات‬
‫االستدراج‪.‬‬
‫واعلم أن قلوب أهل المحبة ال تزال تموج من خوف االستدراج(‪ ،)4‬كما تموج‬

‫(= فبينما هو يوماً عندها أعجبته‪ ،‬فأتاها‪ ،‬فحملت منه‪ .‬فعمد إليها فقتلها‪ ،‬فجاء إخوتها‪ ،‬فقال إبليس لبرصيص‪:‬‬
‫أطعني أُن ِجك‪ ،‬اسجد لي سجدة‪ .‬فسجد له‪ .‬فقال الشيطان‪ :‬إني بريء منك إني أخاف اهلل رب العالمين [ البداية‬
‫والنهاية البن كثير ‪.]2/136‬‬
‫بلعاام بن باعوراء‪ :‬كان من علماء بني إسرائيل‪ ،‬ثم تواطأ مع الكفار فهلك‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة فاطر‪.5 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة االنفطار‪.6:‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫من هنا علمنا سيدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن نكثر من الدعاء بالتثبيت؛ـ عن أنس بن مالك رضي اهلل‬ ‫(‪)4‬‬

‫عنه قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يكثر أن يقول‪" :‬يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" الحديث‬
‫[ الترمذي‪ :‬القدر‪ ،‬باب ما جاء أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ‪ 2141‬وقال الترمذي‪ :‬هذا حديث‬
‫حسن صحيح‪ .‬والدعوات‪ ،‬الباب ‪ 135‬برقم ‪.]3581‬‬

‫‪123‬‬
‫البحار‪ ،‬حتى يصير كل ما فيه باهلل هلل‪ ،‬ورأيت مكتوباً على عصاً واحدة‪:‬‬
‫ٍر سوى اإلعـراض عني‬ ‫كل ٍ‬
‫ذنب لك مغفـــو‬
‫فقلت‪:‬‬
‫كنت‬ ‫ِ‬
‫الوصل كما ُ‬ ‫عدت إلى‬
‫ُ‬ ‫تبت‬
‫أعرضت فقد ُ‬
‫ُ‬ ‫كنت‬
‫إن ُ‬
‫فعوقبـت‬
‫ُ‬ ‫الح ِّب‬
‫نظرت في ُ‬
‫ُ‬ ‫وليس لي ُج ْر ٌم سوى أنني‬

‫‪124‬‬
‫الحديث الرابع والعشرون‬

‫[ أحبوا اهلل‪] ..‬‬

‫أخبرنا شيخنا اإلمام فرد الوقت الباز األشهب خالي أبو المكارم منصور‬
‫البطايحي الرباني رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا القاضي أبوالحسين محمد بن علي بن‬
‫المهتدي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبوالحسن علي بن هبة اهلل بن عبدالسالم‪ ،‬قال أنبأنا أبوالحسين‬
‫أحمد بن محمد‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد الحربي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو عبداهلل‬
‫أحمد بن علي عن عبداهلل بن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ :‬أحبوا اهلل لما يغذوكم به من نعمه‪ ،‬وأحبوني لحب اهلل‪ ،‬وأحبوا أهل بيتي‬
‫وبهذا الحديث الشريف نظام التصفية‪ ،‬فمن أدركها فقد أدرك الصفاء‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫لحبي"‬
‫ُ‬
‫والتحق بأهل االصطفاء‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن للصفاء ظهراً وبطناً‪ ،‬فأما ظهرها فأن تصفي كليتك من‬
‫والخلق والدنيا‪ ،‬وأما بطنها فأن تصفي ُكلَِّّيتك من غبار رؤية األعمال‪،‬‬
‫أدناس النفس‪َ ،‬‬
‫وطلب األعواض على األعمال‪ ،‬وااللتفات منه إلى ما سواه‪ُ ،‬روي أن النبي صلى اهلل‬
‫جديدك مع اهلل ال‬
‫ُ‬ ‫إسراركم‪ ،‬فإنه عند اهلل بواد" (‪ .)2‬ويقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫إسراركم‬
‫َ‬ ‫عليه وسلم قال‪" :‬‬
‫تُ ِ‬
‫خلقه مع‬

‫الترمذي‪ :‬المناقب‪ ،‬مناقب أهل بيت النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬رقم ‪ 3792‬وقال أبو عيسى‪ :‬هذا حديث‬ ‫(‪)1‬‬

‫حسن غريب‪ .‬والحاكم في المستدرك‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (ومن مناقب أهل بيت رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وآله وسلم) ‪ 3/150‬وصححه‪ ،‬ووافقه الذهبي‪ .‬كالهما عن ابن عباس رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫قال اهلل تعالى‪ ( :‬وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) [ الملك ‪ ] 14‬وعن أبي الدرداء‬ ‫(‪)2‬‬

‫رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬الدنيا مللعونة‪ ،‬ملعون ما فيها‪ ،‬إال ما ابتُغي به وجه اهلل رواه‬
‫الطبراني بإسناد ال بأس به‪ .‬وعن شداد بن أوس رضي اهلل عنه أنه سمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫=‬

‫‪125‬‬
‫الناس‪ ،‬وصفاؤك مع اهلل ال تكدره مع الناس‪ .‬وقال يحيى بن أبي كثير(‪ )1‬دخلت مكة‬
‫فاستقبلني عطاء بن أبي رباح(‪ ،)2‬وسلم علي‪ ،‬ثم أقبل على الناس فقال‪ :‬تسألوني عن‬
‫العلم وفيكم يحيى بن أبي كثير قال‪ :‬فتضرعت إلى اهلل أربعين يوماً إلى أن ُيذهب‬
‫حالوة هذه المقالة من قلبي‪.‬‬
‫ويروى أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪" :‬أال إن أواني اهلل في األرض هي‬
‫القلوب‪ ،‬فأحب األواني إلى اهلل تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها (‪ ،)3‬معناهُ أصفاها هلل‬
‫عند المراقبة‪ ،‬وأصلبها في دين اهلل عند المخاطبة وأرقها على اإلخوان عند الموافقة‪.‬‬
‫وقال يوسف ابن الحسين لما اشتغل قلب مريم بحب ابنها‪ ،‬سمعت صوتاً‪ :‬لما كان‬
‫سرك صافياً لنا‪ ،‬كنا نرزقك في الشتاء والصيف من غير واسطة وال شدة عناء‪ ،‬فلما‬
‫لت سرك عني فال يأتيك رزقك إال بشدة‪ ،‬وذلك قوله تعالى‪( :‬وهزي إليك بجذع‬ ‫مي ِ‬
‫َّ‬
‫اعلم أن العبد إذا لم يص ِ‬
‫ف وقته هلل‬ ‫(‪)5‬‬
‫اآلية‪ .‬وقال أبو محمد الجريري‬ ‫(‪)4‬‬
‫النخلة)‬
‫ُ ْ‬

‫(= من صام يرائي فقد أشرك‪ ،‬ومن صلى يرائي فقد أشرك‪ ،‬ومن تصدق يرائي فقد أشرك رواه البيهقي [ في‬
‫شعب اإليمان ‪ 6844‬وأحمد في المسند ‪ 4/126‬واألصبهاني في الترغيب ‪ 118‬والقرطبي في تفسيره ‪.11/71‬‬
‫وهو حديث حسن] [ حديثا أبي الدرداء وشداد من الترغيب والترهيب للحافظ المنذري (ابن كثير وشركاؤه)‬
‫‪ 1/61‬و ‪ 80‬برقم ‪ 10‬و ‪ ] 43‬وقال عمر ابن الخطاب أمير المؤمنين رضي اهلل عنه‪ " :‬سرائركم بينكم وبين‬
‫ربكم" [ مسند أحمد (صادر) ‪.]1/41‬‬
‫وإ سراركم‪ :‬مفعول لمحذوف تقديره‪ :‬راقبوا أو احفظوا أو طهروا‪..‬‬
‫(‪ )1‬من علماء التابعين‪،‬ـ ومن قدماء الصوفية‪.‬‬
‫عطاء بن أسلم بن صفوان (‪ 114-27‬هـ)‬ ‫(‪)2‬‬

‫أخرج الطبراني من حديث أبي عتبة الخوالني يرفعه إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ " :‬إن هلل آنية من‬ ‫(‪)3‬‬

‫أهل األرض‪ ،‬وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين‪ ،‬وأحبها إليه ألينها وأرقها" [ المغني عن حمل األسفار لزين‬
‫الدين العراقي (دار المعرفة) ‪ 3/15‬وكنز العمال‪ :‬اإليمان واإلسالم‪ ،‬الباب الثالث برقم ‪.]1207‬‬
‫سورة مريم‪.25 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫أحمد بن محمد الجريري توفي سنة ‪ 311‬هـ [ الرسالة القشيرية ‪.]82‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪126‬‬
‫تعالى في إقامة العبودية‪ ،‬انقطع عن اهلل وهو ال يشعر‪ ،‬فمن اجتهد في صفاء معاملة‬
‫الظاهر‪ ،‬أورثه اهلل صفاء معاملة الباطن‪ ،‬ومعنى قوله‪" :‬انقطع عن اهلل وهو ال يشعر"‬
‫قول أبي يزيد‪َ :‬من ظن أنه بالحال يصل فبالحال ينقطع‪ ،‬ومن طلب األنس بالحال‬
‫فبالحال يستوحش‪.‬‬
‫قال أبو محمد الجريري‪ :‬إن اهلل تعالى حكم على أصفيائه وأحبابه‪ ،‬أن ال‬
‫يخرجوا من الدنيا إال وطوق العبودية في أعناقهم‪ ،‬وبحق أقول‪ :‬ما اشتغل أحد بغيره‬
‫إال ضاع عمره‪ ،‬وذهبت عنه صفاوة الوقت‪ ،‬فمن أراد صفاوة الوقت فليؤثر اهلل على‬
‫شهوته‪.‬‬
‫وقيل لواحد‪ :‬ما حقيقة صفاوة الوقت؟ فقال‪ :‬تصفية ال ُكلية‪ ،‬لخالّق البرية‪،‬‬
‫في قلبك فأدم الصيام‪ ،‬فإن‬ ‫(‪)2‬‬
‫إن وجدت َريناً‬
‫(‪)1‬‬
‫بوفاة صدق العبودية‪ .‬قال األنطاكي‬
‫وجدت ريناً ِ‬
‫فأقل الكالم‪ ،‬فإن وجدت َريناً فاترك اآلثام‪ ،‬فإن وجدت َريناً فأكثر البكاء‬ ‫َ‬
‫والتضرع إلى الملك العالّم‪ .‬ويقال‪ :‬الجهل كله موت إال من يرزقه اهلل العلم‪ ،‬والعلم‬
‫هباء منثور‪ ،‬إال أن يكون صافياً هلل‪،‬‬
‫كله ُحجة إال من وفقه اهلل للعمل به‪ ،‬والعمل كله ٌ‬
‫وأهل الصفاء على ٍ‬
‫خطر عظيم‪ ،‬إال أن يسلموا ذلك إلى اهلل تعالى بال عيب‪ ،‬ويجب‬
‫فيدع منها‬
‫على العبد أن ينظر في حال أكله وشربه ولباسه وكالمه وحركاته وإ رادته‪َ ،‬‬
‫ما كدر‪ ،‬ويأخذ ما صفا‪ ،‬ألن صفاوة األوقات على قدر صفاوة األحوال‪.‬‬
‫قال اهلل تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه الصالة والسالم‪( :‬يوم ال ينفع ما ٌل وال‬
‫بنون * إال من أتى اهلل بقلب سليم)(‪ .)3‬وقال ذو النون‪ :‬إن هلل عباداً يبلغون في درجة‬
‫سر الناس‪ ،‬فيعرفون السعداء من األشقياء‪،‬‬
‫الصفاء مقاماً تقع فراستهم على ّ‬

‫أحمد بن عاصم األنطاكي‪ ،‬أبو على [ الرسالة القشيرية ص ‪ 62‬الترجمة ‪ ]20‬أو أبو محمد عبد اهلل بن حنيف‬ ‫(‪)1‬‬

‫األنطاكي [ طبقات الشعراني ‪ 1/83‬الترحمة ‪.]158‬‬


‫رين‪ :‬قسوة وفساد ودنس‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة الشعراء ‪ 88‬و ‪89‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪127‬‬
‫يختص برحمته من يشاء من عباده‪.‬‬
‫وقيل ألبي عبداهلل‪ :‬ما فضل أهل الصفاء على غيرهم؟ قال‪ :‬رفع الحجاب‬
‫عنهم‪ ،‬واتهام الوشاة فيهم‪ ،‬وإ فشاء األسرار إليهم‪ .‬قيل‪ :‬هل يكون ألهل الصفاء‬
‫حالوة العبادة؟ قال‪ :‬أما قبل رؤية ِ‬
‫المَّنة فنعم‪ ،‬وأما قبل رؤية العبادة فال‪ ،‬بال تعليق‪.‬‬
‫وقيل لبعضهم‪ :‬متى يعرف الرجل أنه من أهل الصفاء؟ فقال‪ :‬إذا ستر جميع‬
‫المعاصي بستر التوبة‪ ،‬وستر جميع الخيرات بذكر ستر ِ‬
‫المَّنة‪ ،‬وستر ما دون اهلل‬
‫بستر اهلل تعالى‪.‬‬
‫كان ال يأخذ شيئاً من أحد‪ ،‬وإ ن أُكثر عليه اإللحاح‪ ،‬فقيل‬ ‫(‪)1‬‬
‫وحكي أن بهلوالً‬
‫ُ‬
‫قيل‪:‬‬ ‫له في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أمرنا أن ال نأخذ بالواسطة‪ ،‬ألن منها ذهاب الصفاء‪.‬‬
‫وما الصفاء؟ قال‪ :‬طيران القلب بأجنحة االشتياق لرب العالمين‪ .‬ويقال‪ :‬أدنى‬
‫ومن لم يعرف نفسه بالفقر‪،‬‬
‫أوصاف أهل الصفاء عيش القلب مع اهلل بال عالقة‪َ ،‬‬
‫والفاقة والعجز والضعف‪ ،‬لم ينل صفوة اليقين‪ ،‬وإ ذا كان العبد هلل تعالى كأن لم يكن‪،‬‬
‫يكون اهلل تعالى له كما لم يزل‪.‬‬
‫وقال أبو سليمان‪ :‬طوبى لمن صحت له خطوة واحدة ال يريد بها إال اهلل‬
‫تعالى‪.‬‬

‫بهلول بن عمرو الصيرفي‪ ،‬أبو وهيب‪ ،‬توفي سنة ‪ 119‬هـ‪ ،‬قال الشعراني في الطبقات ‪( 1/68‬الترجمة‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ )138‬وكان (بهلول المجنون) رضي اهلل عنه ينشد‪:‬‬


‫الحرص على الدنيا‬
‫َ‬ ‫دع‬
‫وال تجمع من ِ‬
‫المال‬
‫مقسوم‬
‫ٌ‬ ‫فإن الرزق‬
‫رص‬‫كل ذي ِح ٍ‬ ‫فقير ُّ‬
‫ٌ‬
‫تطمع‬
‫ْ‬ ‫وفي العيش فال‬
‫تجمع‬
‫ْ‬ ‫فما تدري ِل َمن‬
‫ينفع‬
‫وسوء الظن ال ْ‬
‫يقنع‬
‫غني كل َمن ْ‬
‫ٌّ‬

‫‪128‬‬
‫رضي اهلل عنه‪ :‬بينا أنا أسير في البادية‪ ،‬ولم‬ ‫(‪)2‬‬
‫وقال اإلمام معروف الكرخي‬
‫يكن معي‬

‫معروف بن فيروز الكرخي‪ ،‬أبو محفوظ‪ ،‬توفي سنة ‪ 200‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪129‬‬
‫شخص من السماء‪ ،‬فسألني ما الصفاء؟ فقلت‪ :‬صدق الوفاء‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أحد من البشر‪ ،‬إذ نزل‬
‫فقال‪ :‬صدقت‪ ،‬ثم عرج وهو يقول‪ ( :‬يوفون بالنذر ويخافون)(‪.)1‬‬
‫أما ترى أن إبراهيم عليه الصالة والسالم وضع قدماً بصدق الوفاء على‬
‫صخرة صماء‪ ،‬فأمر اهلل تعالى أن اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‪.‬‬
‫وحقيقة الصفاء‪ .‬التخلق بخلق المصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واالقتداء‬
‫بأصحابه أولي الصدق والوفاء‪ ،‬واالنقطاع إلى الملك األعلى‪ ،‬وقيل‪ :‬حقيقة الصفاء‬
‫الديان‪ .‬وقيل‪ :‬تصفية‬
‫طرح القلب على بساط االمتنان‪ ،‬واستقامة السر مع الملك ّ‬
‫القلوب لعالم الغيوب‪ .‬وقيل‪ :‬صدق االفتقار مع دوام االضطرار‪ ،‬وترك االختيار مع‬
‫حسن االنتظار‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬فناء الكلية تحت كمال القدرة‪ ،‬وطيران ال ِهمة بأجنحة الشوق نحو رب‬
‫العزة‪ .‬وقيل‪ :‬هجرة السر إلى اهلل من المراتب والدرجات‪ ،‬والفرار إلى اهلل من‬
‫المنازل والمقامات‪ .‬وقيل‪ :‬هي مجانبة دواعي النفس‪ ،‬ومتابعة دواعي الروح‪،‬‬
‫وإ خماد صفات البشرية تحت صفات الربوبية‪.‬‬

‫سورة الدهر‪.7 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪130‬‬
‫الحديث الخامس والعشرون‬

‫س ٍب ِّ‬
‫طيب]‬ ‫[من تصدق من َك ْ‬
‫َ‬

‫أخبرنا شيخنا القاضي العدل الثقة المقري الكبير الشيخ أبو الفضل علي‬
‫الواسطي رحمه اهلل رحمة واسعة‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو القاسم هبة اهلل بن محمد الكاتب‪،‬‬
‫قال‪ :‬أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد الغيالن‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أبو بكر محمد بن عبداهلل‬
‫الشافعي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا محمد بن غالب‪ ،‬حدثني عبدالصمد بن ورقاء‪ ،‬عن عبداهلل بن‬
‫دينار‪ ،‬عن سعيد‪ ،‬عن أبي هريرة رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬
‫" من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب‪ ،‬وال يطعمه إال هلل تعالى‪ ،‬فإن اهلل يقلبها‬
‫بيمينه‪ ،‬ويربيها لصاحبها كما يربي أحكم فلوه حتى يكون مثل الجبل" (‪.)1‬‬
‫ونبه على لزوم اإلخالص فيه‪،‬‬
‫حث هذا الحديث الشريف على بذل المعروف‪ّ ،‬‬
‫وبشر بعد اإلخالص بمضاعفته وقبوله‪ ،‬وكل هذا انطوى في اإلخالص‪ ،‬وهو نور‬
‫تنور(‪ ،)2‬وبذلك‬
‫العارفين باهلل‪ ،‬إذا األعمال بغير اإلخالص كلها ظُلمة‪ ،‬وبه ّ‬

‫صحيح‪ .‬رواه أحمد في مسند أبي هريرة رضي اهلل عنه (صحيفة همام بن منبه) بلفظ‪ " :‬من تصدق بعدل‬ ‫(‪)1‬‬

‫تمرة من كسب طيب‪ ،‬وال يصعد إلى اهلل إال الطيب‪ ،‬فإن اهلل يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحكم فلوه‬
‫حتى تكون مثل الجبل" والبخاري في التوحيد‪ :‬باب قول اهلل تعالى‪( :‬تعرج المالئكة والروح إليه) [ المعارج ‪]4‬‬
‫وقوله جل ذكره‪( :‬إليه يصعد الكلم الطيب) [ فاطر ‪ ]10‬رقم ‪ 6993‬وفي الزكاة‪ ،‬باب‪ :‬ال يقبل اهلل صدقة من‬
‫غلول‪ ،‬وال يقبل إال من كسب طيب‪ ،‬رقم ‪ 1344‬ومسلم في الزكاة‪ ،‬باب قبول الصدقة من الكسب الطيب‬
‫وتربيتها‪ ،‬رقم ‪ .1014‬وعدل تمرة‪ :‬ما يعادل تمرة وزناً أو قيمة‪ .‬كسب طيب‪ :‬حالل‪ .‬الفلو (بفتح الفاء وضم‬
‫ويعزل‪ .‬غلول‪:‬‬
‫المهر ُيفلى عن أمه‪ ،‬أي ُيفصل ُ‬
‫الالم وتشديد الواو‪ ،‬أو بكسر الفاء وإ سكان الالم وتخفيف الواو) ُ‬
‫خيانة‪.‬‬
‫نور) بفتح التاء على أن أصله (تتنور)‬
‫نور (بضم التاء) على البناء لما لم ُي َس ّم فاعله (للمجهول)‪ ،‬و (تَ ّ‬
‫تُ ّ‬
‫(‪)2‬‬

‫ومعلوم أن كل مضارع مستهل بتاءين يجوز حذف إحداهما‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ارتفعت همم العارفين في األعمال إلى اإلخالص‪ ( :‬أال هلل الدين الخالص)‪.‬‬
‫أال إن(‪ )2‬المتحققين بالتصوف صفت سرائرهم‪ ،‬وحسنت شعائرهم‪ ،‬هممهم‬
‫وخلُقُهم ُسنة نبيهم‪ ،‬عكس المروق من أصحاب الدعوى‪.‬‬
‫ربهم ُ‬
‫رأيت أن أكثرهم من‬ ‫نظرت في القوم الذين َّ‬
‫ادعوا التصوف اليوم‪،‬‬ ‫ني‪ ،‬إذا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫أي ُب ّ‬
‫الزنادقة والحرورية والمبتدعة‪ ،‬ورأيتهم أكثر الناس جهالً وحمقاً‪ ،‬وأشدهم مكراً‬
‫وخديعة‪ ،‬وأعظمهم ُعجباً وتطاوالً‪ ،‬وأسوأهم ظناً بأهل الزهد والتقوى‪ ،‬وأهل الصدق‬
‫والصفاء‪ ،‬وعالمات أهل الصفاء أدق من أن يصفها واصف‪ ،‬وأعلى من أن تحتملها‬
‫األوهام‪ ،‬فمن عالمة الصوفي أن يصفو في أقواله وأفعاله وحركاته من أدناس آفات‬
‫والخلق والدنيا‪ ،‬وتصفو خواطره من غبار اإلعراض عنه تعالى والنظر منه‬
‫النفس َ‬
‫الخلق بال َخلق‪،‬‬
‫إلى َمن سواه‪ ،‬وأيضاً من عالماته أن يكون مع النفس بال نفس‪ ،‬ومع َ‬
‫ومع القلب بال قلب‪ ،‬ومع الحال بال حال‪ ،‬ومع الوقت بال وقت‪ ،‬ويكون مستقيماً على‬
‫بساط أمر اهلل‪ ،‬متذلالً تحت جالل عظمه اهلل‪ ،‬مستكفياً مستغنياً به عن غيره‪ ،‬قلبه‬
‫البعد‬ ‫ِ‬
‫مضروب بسياط خوف القطيعة والهجران‪ ،‬وس ُّره مضروب بسياط خشية ُ‬
‫منور بنور‬
‫والحرمان‪ ،‬نفسه منورة بنور الخدمة‪ ،‬وقلبه منور بنور المحبة‪ ،‬وسره ّ‬
‫المعرفة‪ ،‬ومن عالماته أيضاً أن يكون فؤاده طائراً بأجنحة الشوق‪ ،‬وأركانه مستقيمة‬
‫على طريق الحق‪ ،‬بالحق للحق مع حسن االنتظار‪ ،‬وعلى غاية االنكسار‪ ،‬مقبالً‬
‫بالكلية على مليكه‪ ،‬مع ترك االلتفات منه إلى ُملكه‪ ،‬مع الفرار من المخلوقين‪ ،‬لشدة‬

‫الزمر‪.3 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫إن بعدها‪ .‬ويمكن أن تضبط بكسر الهمزة وتشديد الالم‪:‬‬


‫أال (بتخفيف الالم) أداة استفتاح وتنبيه‪،‬ـ وتكسر همزة ّ‬
‫(‪)2‬‬

‫أن‪.‬‬
‫(إال) على أنها استثنائية‪،‬ـ فتفتح بعدها همزة ّ‬
‫(‪ )3‬طائفة من الخوارج منسوبون إلى حر وراء‪ ،‬وهو موضع قرب الكوفة‪ ،‬كان فيه اول اجتماعهمحين خالفوا‬
‫علياً رضي اهلل عنه‪ ،‬قال الفيروز آبادي‪" :‬وهم نجدةُ وأصحابه" ]القاموس المحيط[‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪132‬‬
‫وجدانه حالوة األنس برب العالمين‪ ،‬رجوعه إلى الحق‪ ،‬واعتماده على الحق‪،‬‬
‫وحشي القلب سماوي الحديث‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الخلق‪،‬‬
‫وقراره مع الحق‪ ،‬من غير أن يلتفت منه إلى َ‬
‫رباني العلم‪ ،‬فرداني الهمة‪ ،‬روحاني العيش‪ ،‬نوراني القدر‪ ،‬وحداني المعنى‪ ،‬جميع‬
‫إرادته تحت إرادة المعبود‪ ،‬شاكر هلل في السر واإلعالن‪ ،‬كي ال يقع في أبحر‬
‫الكفران‪ ،‬ذاكر هلل بالقلب واللسان‪ ،‬في كل وقت وأوان‪ ،‬كيال يتيه في مفاوز النسيان‪،‬‬
‫العال يرعاه‪ ،‬فهو فان تحت عظمة نظره‪ ،‬متالش‬
‫يعلم أن المولى يراه‪ ،‬ومن فوق ُ‬
‫َّ‬
‫بكليته تحت كمال قدرته‪ ،‬مستغرق صفاء أوقاته في أبحر امتنانه‪ ،‬مع سقوط كل‬
‫حالوة‪ ،‬غير حالوة محبة ربه‪ ،‬مستقيم على صدق العبودية‪ ،‬من غير رؤية العبودية‪،‬‬
‫فارغ القلب عن الشغل بغير اهلل‪ ،‬مع االتكال بالقلب على اهلل‪ ،‬متواضع ألهل اإليمان‪،‬‬
‫قائم على بساط األحزان‪ ،‬حتى يأتيه اليقين(‪ )1‬بالعفو والرضوان‪ ،‬لسانه مثل قلبه‪،‬‬
‫يصدق في جميع أقواله وأفعاله‪ ،‬ال كما قال اهلل تعالى‪( :‬لم تقولون ما ال تفعلون)(‪، )2‬‬
‫شاكر لقليل النعمة‪ ،‬صابر على كثير الشدة‪ ،‬راض بقضاء رب العزة‪ ،‬دائم على‬
‫احتراس القلب هلل بالحجة‪ ،‬ال يخاف دون اهلل‪ ،‬وال يرجو غير اهلل‪ ،‬وال يريد إال اهلل‪،‬‬
‫لما عِلم أنه ال م ِ‬
‫ض ّر وال نافع‪ ،‬وال رافع وال دافع‪ ،‬وال معز وال مذل‪ ،‬إال اهلل وحده ال‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫شريك له‪ ،‬متابع لسنة المصطفى صلى اهلل عليه وسلم وأخالقه ومذاهب أصحابه‪،‬‬
‫بالم ِّ‬
‫قدر إذا اشتغل الناس بالتقدير‪ ،‬وبالمدبر إذا‬ ‫خائف من سوء العاقبة‪ ،‬مشتغل ُ‬
‫اشتغلوا بالتدبير‪ ،‬جالس على بساط الخدمة مع الحياء‪ ،‬متكئٌ على سرير الفقر‬
‫شارب بكأس األنس والمحبة‪ ،‬يطيل‬
‫ٌ‬ ‫شرف على ُغرف القُرب والمشاهدة‪،‬‬
‫والفاقة‪ُ ،‬م ٌ‬
‫صمته‪ ،‬ويكظم غيظه‪ ،‬ويغلب شهوته‪ ،‬ويفارق راحته‪ ،‬من غير أن يلتفت إلى معاملة‬
‫قلبه‪ ،‬فارغ من مصالح نفسه‪ ،‬تارك لجميع راحاته وشهواته‪ ،‬خائف من الوحشة بينه‬
‫وبين حبيبه‪ ،‬يكون أحسن الناس للناس وأتقاهم‪ ،‬وأصدق الناس وأصفاهم‪ ،‬وأعقل‬

‫اليقين (هنا) ‪ :‬الموت‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة الصف‪.2:‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪133‬‬
‫الناس وأرعاهم‪ ،‬ينظر إلى الدنيا بعين االعتبار‪ ،‬وإ لى النفس بعين االحتقار‪ ،‬وإ لى‬
‫اآلخرة بعين االستبشار‪ ،‬وإ لى الرب بعين االفتخار‪ ،‬في االستقامة كالجبل الراسي‪ ،‬ال‬
‫تحركه الرياح الهائجة‪ ،‬ال يطلب ما ليس له‪ ،‬وال يهتم بما قُسم له‪ ،‬فارغ عن خدمة‬
‫المخلوقين‪ ،‬مشتغل بخدمة رب العالمين‪ ،‬ال ُي ِ‬
‫عرض عنه ببلواه‪ ،‬وال يختار حبيباً‬
‫وسره من‬
‫وزلّة‪ ،‬وقلبه متبرئ من كل سهو وغفلة‪ُّ ،‬‬ ‫سواه‪ ،‬نفسه طاهرة من كل ٍ‬
‫خطأ َ‬
‫كل حول وقوة‪ ،‬بدون اهلل سبحانه ال يرضى‪ ،‬طعامه طعام المرضى‪ ،‬وبكاؤه بكاء‬
‫الثكلى‪ ،‬ال يتوكل قلبه إال عليه‪ ،‬وال يسلم إال إليه‪ ،‬وال يشكر النعمة إال له‪ ،‬وال يطلب‬
‫الحاجة إال منه‪ ،‬مستأنس باهلل في جميع األحوال‪ ،‬منقطع إليه في جميع األعمال‪،‬‬
‫وذكر اهلل حديثه في جميع المقال‪ ،‬تارك اختياره إلى ذي الجالل‪ ،‬نومه قليل‪ ،‬وحزنه‬
‫المِل ُ‬
‫ك الجليل‪ ،‬حسبنا اهلل ونعم الوكيل‪.‬‬ ‫طويل‪ ،‬وبدنه نحيل‪ ،‬وأنيسه َ‬

‫‪134‬‬
‫الحديث السادس والعشرون‬

‫[ من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال]‬

‫أخبرنا شيخنا العارف باهلل خالي الشيخ أبو بكر بن يحيى النجاري األنصاري‬
‫الواسطي رضي اهلل عنه قال‪ :‬حدثني األستاذ أبو القاسم علي بن أحمد البسري‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبو عمر عبدالواحد بن محمد بن مهدي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا محمد بن مخلد العطار‪،‬‬
‫قال‪ :‬أنبأنا محمد بن علي بن خلف‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا عمرو بن عبدالغفار‪ ،‬عن حسن بن‬
‫ُحيي وسفيان الثوري‪ ،‬عن سعد بن سعيد أخي يحيى بن سعيد‪ ،‬عن عمر بن أيوب‪،‬‬
‫قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال‬
‫كان كصيام الدهر"(‪.)1‬‬
‫ِ‬
‫وس ُّر ذلك استغراق العبد في أداء الفرض‪ ،‬وانغماسه في السنة المحمدية‪ ،‬فإنها‬
‫بركة الوقت‪ ،‬وليس عند العارف أهم من استحصال بركة الوقت‪ ،‬بفرض أو سنة‪ ،‬أو‬
‫َج ْم ٍع بينهما‪ ،‬وهناك منتهى الهمم‪ ،‬فإن السنة المحمدية روح العارف‪ ،‬بها يقوم وبها‬
‫يقعد‪ ،‬وهي منار باب العارفين‪ ،‬فإن ُمشيِّد أركانها‪ ،‬ورافع بنيانها صلى اهلل عليه وسلم‬
‫لم ينطق عن الهوى‪ ،‬بل هو جلجلة ( ما زاغ البصر وما طغى)(‪ )2‬ولوراثه العارفين‬
‫هذه الحصة من بركة إتِّباعه‪ ،‬وأرواحنا وأرواح العالمين فداه‪.‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه مسلم في الصيام‪ ،‬باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان (‪ )2/822‬برقم‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 1164‬والترمذي في الصوم‪ ،‬باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال رقم ‪ 759‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وأبو‬
‫داود في الصوم‪ ،‬باب في صوم ستة أيام من شوال‪ ،‬برقم ‪ 2433‬وابن ماجه في الصيام‪ ،‬باب صيام ستة أيام من‬
‫شوال رقم ‪ 1716‬والهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حيان (‪ )1/405‬الصيام‪ .‬باب فيمن صام رمضان‬
‫وستاً من شوال برقم ‪( 928‬إحسان ‪ .)3635‬ورواه أحمد في المسند ‪ 14236‬و ‪ 14414‬و ‪ 14635‬والهيثمي‬
‫وضعفه‪ .‬وهو صحيح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في مجمع الزوائد ‪3/183‬‬
‫(‪ )2‬سورة النجم‪.17 :‬‬

‫‪135‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن قلوب أهل المعرفة خزائن اهلل في أرضه‪ ،‬يضع فيها ودائع‬
‫سره‪ ،‬ولطائف حكمته‪ ،‬وحقائق محبته‪ ،‬وأنوار علمه‪ ،‬وآيات معرفته‪ ،‬التي ال يطلع‬
‫عليها ملك مقرب‪ ،‬وال نبي مرسل‪ ،‬وال أحد دون اهلل بغير إذنه سبحانه‪ ،‬فينبغي أن‬
‫يكون العارف عالماً بصالحه وفساده‪ ،‬مستقيماً على معاملته‪ ،‬عارفاً بربحه‬
‫وخسرانه‪ ،‬حافظاً له من مكابدة عدوه‪ ،‬مستعيناً باهلل في ذلك كله‪ ،‬وأن ال يدع في قلبه‬
‫مكاناً لغيره‪ ،‬فإن اهلل تعالى إذا اطلع على قلب فرأى فيه غيره مقته وخذله‪ ،‬وسلط‬
‫عليه العدو‪ ،‬ومعاملة القلوب هلل خاصة‪ ،‬ومعاملة األركان مختلطة‪ ،‬ومعاملة القلوب‬
‫تُقبل بغير األركان‪ ،‬ومعاملة األركان ال تُقبل بدون القلوب‪ ،‬وال تستوجب الثواب‪،‬‬
‫فإن كان العبد في معاملة القلب مقصراً‪ ،‬وفي معاملة األركان موفِّرا‪ُ ،‬حكم على توفير‬
‫أحكامه بتقصير قلبه‪ ،‬وإ ن كان في معاملة القلب موفِّرا وفي معاملة األركان مقصراً‪،‬‬
‫ُحكم على تقصير أركانه بتوفير قلبه‪.‬‬
‫ُروي أن موسى عليه الصالة والسالم مر بقوم من بني إسرائيل قد لبسوا‬
‫المسوح‪ ،‬وقد جعلوا التراب على رؤوسهم‪ ،‬ودموعهم منحدرة على خدودهم‪ ،‬فبكى‬
‫عليهم رحمة لهم‪ ،‬وقال‪ :‬إلهي‪ ،‬أما ترحم عبادك‪ ،‬أما ترى حالهم؟ فأوحى اهلل إليه‪ :‬يا‬
‫أولست بأرحم الراحمين؟ كال(‪ ،)1‬ولكن أعلمهم بأني‬
‫ُ‬ ‫موسى انظر هل نفدت خزائني‪،‬‬
‫بذوات الصدور خبير‪ ،‬يدعونني بقلوب خالية عني‪ ،‬مائلة إلى الدنيا(‪.)2‬‬

‫كال‪ :‬حرف جواب للردع والزجر‪ ،‬وهي هنا جواب عن " هل نفدت‪ "..‬فخزائن اهلل تعالى ال تنفد‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫عن ضمرة بن أبي حبيب قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬إن المالئكة يرفعون عمل عبد من‬ ‫(‪)2‬‬

‫عباده فيستكثرونه ويزكونه‪ ،‬حتى ينتهوا به إلى حيث شاء اهلل تعالى من سلطانه فيوحي اهلل تعالى إليهم إنكم حفظة‬
‫على عمل عبدي‪ ،‬وأنا رقيب على ما في نفسه‪ ،‬إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله‪ ،‬فاكتبوه في ِس ِّجين‪ .‬ويصعدون‬
‫بعمل عبد فيستقلونه ويحتقرونه‪،‬حتى ينتهوا به إلى حيث شاء اهلل من سلطانه‪ ،‬فيوحي اهلل إليهم‪ :‬إنكم حفظة على‬
‫عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه‪ ،‬إن عبدي هذا أخلص لي عمله‪ ،‬فاكتبوه في عليين " [ تنبيهـ الغافلين‬
‫وسجِّين‪ :‬سجل أعمال أهل النار‪ .‬وعليون‪ :‬سجل أعمال أهل‬ ‫للسمرقندي ( القسطنطينية ‪ 1325‬هـ) ص‪ِ .]4‬‬
‫الجنة‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫وروي أنه(‪ )1‬صلى اهلل عليه وسلم مر برجل ساجد على صخرة منذ ثالثمائة‬
‫سنة‪ ،‬كان يبكي ودموعه تجري على األودية‪ ،‬فوقف عليه وبكى لبكائه‪ ،‬وقال‪ :‬يا‬
‫إلهي أما ترحم عبدك؟ فقال اهلل تعالى‪ :‬ال أرحمه‪ ،‬قال‪ :‬ولم يا إلهي؟ قال‪ :‬ألن قلبه‬
‫جبة يستتر بها من الحر والبرد‪.‬‬
‫يستريح إلى غيري‪ ،‬وكان له ّ‬
‫وقال النبي عليه الصالة والسالم‪ " :‬ال يستقيم عمل العبد حتى يستقيم قلبه‪ ،‬وال‬
‫يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" (‪.)2‬‬
‫وقال عليه الصالة والسالم‪ " :‬إن في الجسد ُمضغةً إذا صلحت صلحت‬
‫األعضاء كلها‪ ،‬أال وهي القلب " (‪ ،)3‬وقال اهلل تعالى لموسى عليه الصالة والسالم‪ :‬يا‬
‫موسى قل لبني إسرائيل أن ال يدخلوا بيتاً من بيوتي إال بقلوب َو ِجلَة‪ ،‬وأبصار‬
‫خاشعة‪ ،‬وأبدان نقية‪ ،‬ونية صادقة‪.‬‬
‫قال يحيى بن معاذ‪ :‬قلب المؤمن مضغة جوفانية‪ ،‬حشوها جوهرة ربانية‪،‬‬
‫حولها روضة فردانية‪ ،‬تحتها ساحة نورانية‪ ،‬واهلل تعالى ناظر إليها في كل لحظة‬
‫بالرحمة والشفقة‪ ،‬ويحول بينها وبين ما يشغله عنه‪ ،‬قال اهلل تعالى‪( :‬ومن أوفى بعهده‬
‫وقيل‪ :‬معاملة القلوب أمر شديد‪ ،‬والثبات عليها أشد وأصعب‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫من اهلل)‬

‫الضمير يعود إلى نبي اهلل موسىعليه السالم‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫رواه أحمد ( ‪ )12982‬وابن أبي الدنيا في الصمت (‪ )9‬كالهما من رواية علي بن مسعدة الترغيب والترهيب‬ ‫(‪)2‬‬

‫للحافظ المنذري (ابن كثير وشركاؤه) ‪ 3/328‬برقم ‪ ،3758‬و ‪ 3/509‬برقم ‪ .4219‬ورواه الهيثمي في مجمع‬
‫وضعفه آخرون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الزوائد ‪ 1/53‬وقال في علي بن مسعدة‪ :‬وثّقه جماعة‬
‫من حديث النعمان بن بشير رضي اهلل عنهما عن النبى صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬الحالل بيِّن والحرام بيِّن‪"..‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫[ البخاري‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب فضل من استبرأ لدينه ‪ 52‬ومسلم‪ :‬المساقاة‪ ،‬باب‪ :‬أخذ الحالل وترك الشبهات‬
‫‪.]1599‬‬
‫سورة التوبة‪.111 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪137‬‬
‫عبد فقد قلبه متى يجده؟ قال‪ :‬إذا نزل فيه الحق‪.‬‬
‫قيل لبعض أهل المعرفة‪ٌ :‬‬
‫قال‪ :‬متى ينزل؟ قال‪ :‬إذا ارتحل عنه ما دون الحق‪.‬‬
‫ومعاملة القلوب على عشر مدارج‪ ،‬أولها الخطرات‪ ،‬ثم حديث النفس‪ ،‬ثم‬
‫الهم‪ ،‬ثم الفكر‪ ،‬ثم اإلرادة‪ ،‬ثم الرضا‪ ،‬ثم االختيار‪ ،‬ثم النية‪ ،‬ثم العزيمة‪ ،‬ثم القصد‪،‬‬
‫حتى يبلغ إلى عمل الظاهر‪ ،‬فمن قام هلل تعالى فحفظ معاملة القلب عند الخطرات‪،‬‬
‫فهو على مدارج الصديقين‪ ،‬ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند حديث النفس فهو‬
‫على مدارج المقربين‪ ،‬ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند الهم فهو على مدارج‬
‫األوابين‪ ،‬ومن قام هلل على حفظ معاملة القلب عند الفكرة فهو على مدارج‬
‫ِ‬
‫المخلصين‪ ،‬ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند اإلرادة فهو على مدارج المريدين‪،‬‬
‫ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند االختيار فهو على مدارج المتقين‪ ،‬ومن قام هلل‬
‫َ‬
‫فحفظ معاملة القلب عند النية فهو على مدارج الزاهدين‪ ،‬ومن قام هلل فحفظ معاملة‬
‫القلب عند العزم فهو على مدارج المنيبين‪ ،‬ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب عند‬
‫القصد فهو على مدارج المجتهدين‪ ،‬ومن قام هلل فحفظ معاملة القلب على عمل‬
‫الظاهر فهو على مدارج العابدين من عامة الموحدين‪.‬‬
‫وقال إسحاق بن إبراهيم(‪ :)1‬أِل ْن تَُر ِّد ْد قلبك إلى اهلل تعالى ذرة خير لك من‬
‫جميع ما طلعت عليه الشمس‪ ،‬وما من أحد صفا قلبه من أدناس الشهوات‪ ،‬وطهره من‬
‫غبار الغفالت‪ ،‬ونقاه من كدورات الغوايات‪ ،‬إال أطلعه اهلل على غاية الغايات‪.‬‬
‫في معنى قوله تعالى‪ ( :‬وجاء بقلب منيب)(‪ )3‬قال‪:‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫وقال بكر بن عبد اهلل‬
‫الذي يمشي ببدنه على األرض‪ ،‬وقلبه معلق باهلل تعالى‪.‬‬

‫ابن راهويه‪ :‬إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي المروزي‪ ،‬أبو يعقوب (‪ 238 – 161‬هـ)‬ ‫(‪)1‬‬

‫[األعالم (ط‪.]1/292 )4‬‬


‫بكر عبد اهلل المزني‪ .‬مات سنة ‪ 108‬هـ [الشعراني ‪.]1/35‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة ق‪.33 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪138‬‬
‫وقيل ألبي عبداهلل‪ :‬ما القلب السليم؟ قال‪ :‬قلب منقطع من عالئق الدنيا‪ ،‬مملوء‬
‫من حب المولى‪ ،‬ال يشكو من الشدائد والبلوى‪ ،‬وال يهتك أستار الصيانة والتقوى‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬من لم يكن بينه وبين اهلل معاملة سرية كان مسيئاً وإ ن كان محسناً‪ ،‬ومن ال ير‬
‫أن الكونين بما فيهما بسير قدرته‪ ،‬وسريع لحظته‪ ،‬لم ينل معاملة القلب‪.‬‬
‫وقال أبو سعيد الخراز(‪ :)1‬اعلم أن معاملة القلب هي تجديد السر مع االنفراد‬
‫به‪ ،‬ومالحظة القلب على دوام حفظ األوقات مع صدق الحال‪ ،‬من غير التفات منه‬
‫إلى الوقت والحال‪.‬‬
‫وقال أبو الدرداء(‪ :)2‬إن هلل تعالى عباداً تطير قلوبهم إلى اهلل اشتياقاً ال يدركها‬
‫البرق الخاطف‪.‬‬
‫ويروى أن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ " :‬ما سبقكم أبو بكر بكثرة صالة‬
‫ُ‬
‫وال صيام ولكن بحق وقر في قلبه" (‪.)3‬‬
‫إن اهلل تعالى ال ُّ‬
‫يرد القليل لقلته‪ ،‬وال يقبل الكثير لكثرته‪ ،‬ولكن (إنما يتقبل اهلل‬
‫ويقال‪ :‬ليس على مقام الصدق َمن تعلق قلبه بالمقام‪ ،‬ولكن الصادق‬ ‫(‪)4‬‬
‫من المتقين)‬
‫من تعلق قلبه برب المقام مجرداً‪ ،‬حتى ال يرى مع اهلل غير اهلل أحداً‪ .‬ويقال‪ :‬إذا‬
‫صارت المعاملة إلى القلوب استراحت األبدان‪ .‬ويقال‪ :‬ال تكون معاملة القلب إال لمن‬
‫له قلب صاف ليس بساه‪ ،‬صحيح ليس بجريح‪ ،‬بصير ليس بضرير‪ ،‬فريد ليس‬
‫بطريد‪ ،‬طالب ليس بهارب‪ ،‬قريب ليس بغريب‪ ،‬عاقل ليس بغافل‪ ،‬سماوي ليس‬
‫بأرضي‪ ،‬عرشي ليس بوحشي‪.‬‬

‫أحمد بن عيسى الخراز‪ ،‬أبو سعيد‪ ،‬توفي سنة ‪.277‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫الصحابي عويمر بن مالك‪ ،‬أول قاض لمدينة دمشق‪ .‬توفي سنة ‪ 32‬هـ رضي اهلل عنه‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫األسرار المرفوعة لعلي القاري (الرسالة) ‪.476‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫مقتبس من اآلية ‪ 27‬من سورة المائدة‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪139‬‬
‫وقال ثابت النساج (‪ :)1‬قرأت القرآن سنين بالخوف فلم أجد القلب‪ ،‬ثم قرأته‬
‫بالرجاء فلم أجد القلب‪ ،‬ثم قرأته بتجريد القلب عن كل ما دون اهلل تعالى‪ ،‬فعند ذلك‬
‫وجدته‪ ،‬ورأيت عند وجوده الوالية الكبرى‪ ،‬والعزة العظمى‪ ،‬والمراتب العليا‪.‬‬
‫وقال اهلل تعالى في بعض الكتب‪ :‬القلوب بيدي‪ ،‬والحب في خزائني‪ ،‬فلوال‬
‫حبي لعبدي ما قدر العبد أن يحبني‪ ،‬ولوال ذكري له في األزل ما قدر أن يذكرني‪،‬‬
‫ولوال إرادتي إياه في القدم ما قدر العبد أن يريدني‪.‬‬
‫قيل‪ :‬إن عارفاً رأى رجالً يدور حول المسجد‪ ،‬فقال له‪ :‬يا هذا ما تطلب؟ قال‪:‬‬
‫موضع‬
‫ٍ‬ ‫وص ِّل في أي‬
‫أطلب موضعاً خالياً أصلي فيه‪ ،‬فقال‪ :‬خل قلبك عما دون اهلل‪َ ،‬‬
‫شئت‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬بقدر إقبالك على اهلل يكون قرب القلب منه‪ ،‬وما اطلع اهلل على قلب‬
‫عبد فرأى فيه غيره إال عذبه اهلل به‪ ،‬ووكله إليه‪.‬‬
‫وقال يحيى بن معاذ‪ :‬القلب إذا وضعته عند الدنيا خاب‪ ،‬وإ ذا وضعته عند‬
‫العقبى ذاب‪ ،‬وإ ذا وضعته عند المولى طاب‪ .‬وقال‪ :‬الدنيا خراب‪ ،‬وأخرب منها قلب‬
‫َمن يعمرها‪ ،‬واآلخرة دار عمران‪ ،‬وأعمر منها قلب من يطلبها‪ .‬وقال‪ :‬مفاوز الدنيا‬
‫تُقتطع باألقدام‪ ،‬ومفاوز اآلخرة تقتطع بالقلوب‪ .‬وقال‪ :‬خراب النفس من عمارة‬
‫القلب‪ ،‬وعمارة النفس من خراب القلب‪.‬‬
‫سئل واحد من أبناء القلوب‪ :‬ما لك ال تتكلم؟ فقال‪ :‬قلبي يتكلم‪ .‬قيل‪ :‬مع من؟‬
‫قال‪ :‬مع مقلب القلوب‪.‬‬

‫‪ :‬المشهور أن اسمه محمد بن إسماعيل ثم أطلق عليه خير النساج انظر الرسالة القشيرية (الترجمة ‪)50‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫والشعراني (الترجمة ‪ )200‬وجامع كرامات األولياء ‪ .1/175‬مات سنة ‪ 322‬هـ‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫الحديث السابع والعشرون‬

‫[المرء مع َمن أحب]‬


‫ُ‬

‫أخبرنا شيخنا الجليل العارف باهلل شيخنا أبو الفضل على الواسطي القرشي‬
‫يعرف بابن القاري رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد‬
‫المظفر الداودي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو محمد عبداهلل بن أحمد بن حمويه السرخسي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبو عبداهلل بن يوسف الفربري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل‬
‫البخاري‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا بشر بن خالد‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن‬
‫سليمان‪ ،‬عن أبي وائل‪ ،‬عن عبداهلل‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪" :‬المرء‬
‫مع من أحب"(‪.)1‬‬
‫وفي هذا الحديث الشريف من اإللزام بمحبة أحباب اهلل ورسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ما فيه بالغ للموقنين‪ ،‬وهدى للمتقين‪ ،‬ونور للعارفين‪ ،‬فإن َمن تدبر سر‬
‫المعية التي أفصح بها هذا النص األشرف‪ ،‬انسلخ إال عن محبة اهلل تعالى‪ ،‬ومحبة َمن‬
‫أحبه اهلل وأحب اهلل‪ ،‬وكذلك العارفون رضي اهلل عنهم‪ ،‬و ِمن العارفين َمن هم أهل‬
‫القلوب المنيرة‪ ،‬أصحاب صفاء السريرة‪ ،‬والعمدة على القلوب‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن اهلل تعالى ذكر في محكم كتابه للعباد أمره ونهيه‪ ،‬ووعده‬
‫ووعيده‪ ،‬وترغيبه وترهيبه‪ ،‬وقضاءه وتقديره‪ ،‬وحكمه وتدبيره‪ ،‬ومشيئته في خلقه‪،‬‬
‫وضرب األمثال‪ ،‬وذكر آالءه ونعماءه‪ ،‬ولطائف صنعه‪ ،‬وكمال قدرته‪ ،‬وعظيم‬
‫ربوبيته‪.‬‬
‫أشهد في هذه اآلية‬
‫َ‬
‫(‪)2‬‬
‫ثم قال‪( :‬إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب)‬

‫البخاري‪ :‬األدب‪ ،‬باب عالمة الحب في اهلل عز وجل ‪ 5818 – 5816‬ومسلم‪ :‬البر والصلة واألدب‪ ،‬باب‬ ‫(‪)1‬‬

‫"المرء مع من أحب" ‪2640‬و ‪ .2641‬وانظر الحديث الثالث عشر‪.‬‬


‫سورة ق‪.37 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪141‬‬
‫وبَّي َن فضلهم على َمن دونهم‪.‬‬
‫ف مراتب أبناء القلوب‪َ ،‬‬
‫جميع العباد‪َ ،‬ش َّر َ‬
‫قال بعض المفسرين في معنى قوله تعالى‪ ( :‬لمن كان له قلب)‪ :‬أي قلب‬
‫واثق بجميع ما ذكره اهلل سبحانه في كتابه من الوعد والوعيد وغيرهما‪ ،‬وقال‬
‫بعضهم‪ :‬لمن كان له عقل يزجره عن جميع الضالالت والغوايات في جميع‬
‫الحاالت‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬لمن كان له ذهن يفر به عن الشرك والشك‪ .‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫لمن كان له يقين يسقط عنه وثائق الغرور‪ ،‬في جميع األمور إلى أن يصل إلى الملك‬
‫الغفور‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬لمن كان له سر يتالشى مع جميع أوصاف العبودية‪ ،‬تحت‬
‫إشارة الربوبية‪ ،‬عند مشاهدة الحق‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬لمن كان له استقامة السر مع‬
‫ٍ‬
‫التفات منه إلى ما سواه‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬لمن كان له قلب مفرد لتفرد‬ ‫الحق‪ ،‬من غير‬
‫الفرد‪.‬‬
‫وإ ن اهلل تعالى زين قلوب العارفين بزينة المعرفة كرماً وامتناناً‪ ،‬وزين قلوب‬
‫المريدين بالعظمة والهيبة رحمةً وإ حساناً‪ ،‬وحجب قلوب الغافلين بالجهل والغفلة‬
‫محنةً وخذالناً‪ ،‬وطبع على قلوب الكافرين باإلبعاد والنكرة طرداً وحرماناً‪ .‬والقلوب‬
‫ثالثة‪ :‬قلب يطير في الدنيا حول الشهوات‪ ،‬وقلب يطير في العقبى حول الكرامات‪،‬‬
‫فقلب معلق بالدنيا‪ ،‬وقلب معلق‬
‫وقلب يطير في سدرة المنتهى حول األنس والمناجاة‪ٌ ،‬‬
‫بالعقبى‪ ،‬وقلب معلق بالمولى‪ ،‬وقلب حريق‪ ،‬وقلب غريق‪ ،‬وقلب سحيق‪ .‬وقلب‬
‫منتظر للعطاء‪ ،‬وقلب منتظر للرضاء‪ ،‬وقلب منتظر للقاء‪ .‬وقلب مشروح‪ ،‬وقلب‬
‫مجروح‪ ،‬وقلب مطروح‪ .‬وقلب منيب‪ ،‬وهو قلب آدم عليه الصالة والسالم‪ ،‬وسليم‪،‬‬
‫وهو قلب إبراهيم علية الصالة والسالم‪ ،‬ومنير‪ ،‬وهو قلب سيدنا محمد عليه أفضل‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫الحديث الثامن والعشرون‬

‫[ من دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم ]‬

‫أخبرنا شيخنا القاضي الثقة المقري الجليل الشيخ أبوالفضل علي الواسطي‬
‫القرشي رحمه اهلل رحمة واسعة‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد‬
‫الداودي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني عبداهلل أحمد السرخسي‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبو عبداهلل محمد‬
‫الفربري‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬قال‪ :‬حدثني إسحاق‬
‫ابن إبراهيم‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا الحسين‪ ،‬عن زائدة‪ ،‬عن عبيد الملك‪ ،‬عن مصعب بن سعد‪،‬‬
‫عن أبيه قال‪ :‬تعوذوا بكلمات كان النبي صلى اهلل عليه وسلم يتعوذ بهن‪" :‬اللهم إني‬
‫الجبن‪ ،‬وأعوذ بك من البخل‪ ،‬وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر‪،‬‬
‫أعوذ بك من ُ‬
‫وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر"(‪ .)1‬استعاذ صلى اهلل عليه وسلم من القواطع‬
‫قعد عن قول الحق‪ ،‬والبخل مقصر عن طلب الحق‪،‬‬ ‫من اهلل تعالى‪ ،‬فإن الجبن م ِ‬
‫ُ‬
‫وأرذل العمر صارف عن بذل الهمة في الحق‪ ،‬وفتنة الدنيا قاطعة عن الحق‪ ،‬وعذاب‬
‫القبر نتيجة أولئك‪ ،‬والعياذ باهلل‪ ،‬وفي مضمون هذه االستعاذة الشريفة المحمدية‪،‬‬
‫إرشاد بإعالء الهمة عن الجبن‪ ،‬والبخل‪ ،‬وحث على التجرد إلى اهلل تعالى‪ ،‬وهذا بغية‬
‫العارفين‪ ،‬اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا مصلح الصالحين‪ ،‬يا ولي المتقين‪ ،‬يا دليل‬
‫المتحيرين‪ ،‬يا أنيس العارفين‪ ،‬يا أرحم الرحمين‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن العبد إذا علم أن اهلل سبحانه وتعالى حكيم فيما حكم‪،‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه اإلمام البخاري في الدعوات‪ ،‬باب االستعاذة من أرذل العمر‪ ،‬ومن فتنة الدنيا وفتنة النار ‪6013‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫وفي باب التعوذ من عذاب القبر ‪ 6004‬وباب التعوذ من فتنة الدنيا ‪ 6027‬ورواه في الجهاد‪ ،‬باب ما يتعوذ به‬
‫من الجبن ‪ .2667‬والترمذي في الدعوات‪ ،‬باب‪ :‬في دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم وتعوذه في دبر كل صالة‬
‫‪ 3562‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ .‬والنسائي‪ :‬االستعاذة (االستعاذة من فتنة الدنيا) ‪ .8/266‬وأحمد في المسند (مسند‬
‫سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم) ‪ 1585‬و ‪.1621‬‬

‫‪143‬‬
‫عالم بما قضى َّ‬
‫ودبر‪ ،‬وعرف أنه جاهل بالمحبوب والمكروه‪ ،‬رضي عن اهلل‬ ‫وقدير ٌ‬
‫ٌ‬
‫في حكمته وقضائه‪ ،‬والرضا هو سكون القلب إلى الحكيم‪ ،‬وترك االختيار مع‬
‫التسليم‪ ،‬وال شيء أشد على النفس من الرضا بالقضاء‪ ،‬ألن الرضا بالقضاء‪ ،‬يكون‬
‫على خالف رضا النفس وهواها‪ ،‬فطوبى لعبد آثر رضا اهلل تعالى على رضا نفسه‪.‬‬
‫وروي أن موسى عليه الصالة والسالم كان يقول في مناجاته‪ :‬إلهي‬
‫خصصتني بالكالم ولم تكلم بشراً قبلي‪ ،‬فدلني على عمل أنال به رضاك‪ ،‬فقال اهلل‬
‫تعالى‪ :‬يا موسى رضائي عنك رضاك بقضائي‪.‬‬
‫‪ :‬أرجو أن أكون قد أُعطيت من الرضا طرفاً‪ ،‬وذلك أن اهلل‬ ‫(‪)1‬‬
‫وقال الداراني‬
‫تعالى لو أدخلني النار لكنت بذلك راضياً‪ ،‬وإ ن أحق الناس بالرضا أهل المعرفة‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وهو باب اهلل األعظم‪.‬‬
‫وروى في بعض الكتب‪ :‬أن جبريل عليه الصالة والسالم كان يهبط األرض‪،‬‬
‫فرأى رجالً عليه أثر السكينة‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب ما أحسن هذا الرجل‪ ،‬فقال اهلل تعالى‪ :‬يا‬
‫جبريل انظر اسمه في اللوح في أسماء أهل النار‪ ،‬فقال‪ :‬إلهي ما هذا؟ فقال‪ :‬يا‬
‫جبريل إني ال أُسأل عما أفعل‪ ،‬وإ نه ال يبلغ أحد من َخلقي علمي إال بما شئت‪ .‬فقال‬

‫أبو سليمان الداراني‪ :‬عبد الرحمن بن عطية‪ ،‬وداريا بلدة من أعمال دمشق‪ ،‬مات سنة ‪ 215‬هـ [ الشعراني‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫الطبقات الكبرى (الترجمة ‪.])150‬‬


‫وقال أبو طالب المكي (محمد بن علي بن عطية الحارثي المتوفي سنة ‪ 386‬هـ)‪" :‬الرضا عن اهلل سبحانه‬ ‫(‪)2‬‬

‫وتعالى من أعلى مقامات اليقين باهلل‪ ،‬وقد قال تعالى‪( :‬هل جزاء اإلحسان إال اإلحسان) [ سورة الرحمن ‪]60‬‬
‫فمن أحسن الرضا عن اهلل جازاه اهلل بالرضا عنه‪ ،‬فقابل الرضا بالرضا‪ ،‬وهذا غاية الجزاء ونهاية العطاء‪ ،‬وهو‬
‫قوله عز وجل‪ ( :‬رضي اهلل عنهم ورضوا عنه) [ المائدة ‪ 119‬والتوبة ‪ 100‬والمجادلة ‪ 22‬والبينة ‪ [ ]8‬قوت‬
‫القلوب في معاملة المحبوب (مصطفى البابي الحلبي – مصر ط‪ ]2/76 )1‬وقال الشيخ عبد القادر الجيالني (‬
‫يهون‬
‫‪ 561 – 471‬هـ)‪ :‬من أراد أن يحصل له الرضا بقضاء اهلل عز وجل فليدم ذكر الموت‪ ،‬فإن ذكره ِّ‬
‫المصائب واآلفات" [ الفتح الرباني ( مصر – مطبعة الحلبي ‪ 1380‬هـ) ص‪.] 190‬‬

‫‪144‬‬
‫جبريل‪ :‬يا رب أتأذن لي أن أخبره بما رأيت؟ قال لك اإلذن‪ ،‬فهبط جبريل وأخبره‬
‫بحاله‪ ،‬فخر الرجل ساجداً‪ ،‬وكان يقول‪ :‬لك الحمد يا موالي على قضائك وقدرك‪،‬‬
‫حمداً يعلو حمد الحامدين‪ ،‬ويزيد على شكر الشاكرين‪ .‬قال‪ :‬فما زال يحمد اهلل تعالى‬
‫حتى ظن جبريل أنه لم يسمع ما قال‪ ،‬فقال‪ :‬يا عبداهلل وهل سمعت ما قلت لك؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬أخبرتني أنك وجدت اسمي بين أسماء أهل النار في اللوح المحفوظ‪ ،‬قال فما هذا‬
‫الحمد والشكر؟ قال‪ :‬سبحان اهلل يا جبريل‪ ،‬إن اهلل تعالى قد قضى مع كمال علمه‪،‬‬
‫وسعة رحمته وحلمه‪ ،‬ولطائف ربوبيته‪ ،‬وحقائق حكمته‪ ،‬فمن أنا حتى ال أرضى؟‬
‫تبارك اهلل ربي‪ ،‬ثم خر ساجداً‪ ،‬وأخذ في التسبيح والتحميد‪ .‬قال‪ :‬فرجع جبريل إلى‬
‫اهلل‪ ،‬فقال اهلل تعالى‪ :‬ارجع في اللوح المحفوظ وانظر ماذا ترى‪ ،‬فرجع فإذا اسمه في‬
‫أسماء أهل الجنة‪ ،‬فقال‪ :‬يا جبريل‪ ،‬هو ما ترى‪ ،‬إني ال أُسأل عما أفعل‪ ،‬فقال جبريل‪:‬‬
‫إلهي ائذن لي حتى أخبره بما رأيت‪ ،‬فقال‪ :‬لك اإلذن‪ ،‬قال‪ :‬فهبط جبريل فأخبره بما‬
‫رأى‪ ،‬قال‪ :‬لك الحمد يا سيدي وموالي على قضائك وقدرك‪ ،‬حمداً يعلو حلو‬
‫الحامدين‪ ،‬ويزيد على شكر الشاكرين(‪ .)1‬فرجع جبريل متعجباً من كمال رضاه عن‬
‫اهلل بكل ما حكم له‪.‬‬
‫وكذلك روي‪ :‬أن اهلل تعالى أوحى إلى نبي من أنبيائه‪ ،‬أن قل لعبدي فالن ابن‬
‫فالن‪ :‬إنك من أهل النار‪ .‬فلما بلّغ إليه الرسالة حمد اهلل تعالى‪ ،‬وقال‪ :‬الحمد هلل على‬
‫ما قضى‪ ،‬فاألمر أمره‪ ،‬والحكم حكمه‪ .‬فقال اهلل تعالى لنبيه‪ :‬الحق به ثانياً وأخبره‬
‫أني قد غفرت لك‪ ،‬حيث رضيت بقضائي‪ .‬فبلغ الرسالة‪ ،‬فشهق الرجل شهقة وخر‬
‫ميتاً‪.‬‬

‫" الشكر من أعلى المقامات‪ ،‬ألنه يشمل القلب واللسان والجوارح‪ ،‬وألنه يتضمن الصبر والرضا والحمد‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫وكثيراً من العبادات البدنيةـ والقلبية‪ ،‬ولهذا أمر اهلل تعالى به ونهى عن ضده وهو الكفر والجحود‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(واشكروا لي وال تكفرون) [ سورة البقرة ‪ [ ]152‬عبدالقادر عيسى‪ :‬حقائق عن التصوف (ط‪ )4‬ص ‪.]388‬‬

‫‪145‬‬
‫وإ ن قضاء اهلل تعالى على أربعة أوجه‪ :‬قضاء النعمة‪ ،‬فعلى العبد فيه الرضا‬
‫والشكر‪ ،‬والثاني قضاء الشدة‪ ،‬فعلى العبد فيه الرضا وذكر المنة‪ ،‬والقيام بالواجب‬
‫إلى الموت‪ ،‬والرابع قضاء المعصية‪ ،‬فعلى العبد فيه الرضا عن اهلل والتوبة‪.‬‬
‫وسئل علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه عن القضاء والقدر‪ ،‬فقال‪ :‬لي ٌل‬
‫ُ‬
‫مظلم‪ ،‬وبحر عميق‪ ،‬وسر اهلل األعظم‪ ،‬فمن رضي به فله الرضا‪ ،‬ومن سخط فله‬
‫السخط‪.‬‬
‫وروي أنه لما ُوضع المنشار على رأس زكريا عليه الصالة والسالم َه َّم أن‬
‫يستغيث باهلل تعالى‪ ،‬فأوحى اهلل إليه أن يا زكريا إما أن ترضى بحكمي لك‪ ،‬وإ ما أن‬
‫ك من عليها‪ .‬فسكت حتى قُطع نصفين‪ .‬وحكي أن رابعة‬ ‫أخرب األرض وأ ِ‬
‫ُهل َ‬
‫البصرية مرضت‪ ،‬فقيل لها أما ندعو لك طبيباً؟ فقالت‪ :‬من قضى علي؟ فقالوا‪ :‬اهلل‬
‫تعالى‪ .‬قالت‪ :‬أو مثلي من يرد قضاء سيده؟‬
‫ومرض أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬فقيل له‪ :‬أما ندعو لك الطبيب؟‬
‫فعال لما أريد‪.‬‬
‫فقال‪ :‬قد رآني‪ .‬قيل وما قال؟ فقال‪ :‬قال إني ّ‬
‫شكا نبي من األنبياء بعض ما ناله من المكروه‪ ،‬فأوحى اهلل إليه‪ :‬كم تشكوني‬
‫ولست أهل ذم وال شكوى‪ ،‬فهكذا كان شأنك في عملي؟ فلم تسخط؟ أفتحب أن أعيد‬
‫ُ‬
‫الدنيا من أجلك؟ أو أبدل اللوح بسببك‪ ،‬فأقضي ما يسرك كما تريد ال كما أريد‪،‬‬
‫ويكون ما تحب دون ما أحب؟ فبعزتي حلفت لئن تَلَ ْجلَ َج هذا في صدرك مرة أخرى‪،‬‬
‫ألسلبنك ثوب النبوة‪ ،‬وألوردنك النار وال أبالي‪.‬‬
‫قال بعض الحكماء ليس العجب ممن ابتلي فصبر‪ ،‬إنما العجب ممن ابتلي‬
‫فرضي‪ .‬قيل لعبدالواحد بن زيد‪ :‬أي الرجلين أفضل‪ :‬رجل أحب البقاء ليطيع‪ ،‬أو‬
‫رجل أحب الخروج شوقاً إليه؟ فقال‪ :‬ال هذا وال ذاك‪ ،‬ولكن رجل فوض أمره إلى‬
‫اهلل‪ ،‬وقام على قدم الصدق في الرضا‪ ،‬فإن أبقاه أحب ذلك‪ ،‬وإ ن أخرجه أحب ذلك‪،‬‬
‫فهذه منازل الرضا عنه‪ ،‬وخلق العارف معه‪.‬‬
‫قيل لعمر بن عبد العزيز رحمه اهلل‪ :‬ما تشتهي؟ قال‪ :‬ما يقضي اهلل‪ .‬وقال‬

‫‪146‬‬
‫أبو عبداهلل النساج‪ :‬إن هلل عباداً يستحيون من الصبر ويسلكون مسلك الرضا وإ ن له‬
‫عباداً لو يعلمون من أين يأتي القدر‪ ،‬الستقبلوه حباً ورضاً‪.‬‬
‫وفي الخبر‪ " :‬إن أول ما كتب اهلل سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ‪ :‬ال إله‬
‫محمد رسول اهلل‪ ،‬من استسلم لقضائي‪ ،‬وصبر على بالئي‪ ،‬وشكر لنعمائي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫إال اهلل‪،‬‬
‫يرض بقضائي‪ ،‬ولم يصبر‬
‫َ‬ ‫كتبته صديقاً‪ ،‬وبعثته يوم القيامة مع الصديقين‪ ،‬ومن لم‬
‫على بالئي‪ ،‬ولم يشكر نعمائي‪ ،‬فليختر رباً سواي" (‪ .)1‬يقول قائلهم رضي اهلل عنهم‪:‬‬
‫جوعك‪ ،‬وإ ن شاء أشبعك‪ ،‬وإ ن شاء‬
‫يا نفس إني أسلمتك إلى ربك‪ ،‬على أنه إن شاء َّ‬
‫أعزك‪ ،‬وإ ن شاء أذلَّك‪ ،‬وإ ن شاء أحياك‪ ،‬وإ ن شاء أماتك‪ ،‬وهو أغنى وأولى ِ‬
‫بك منك‪،‬‬
‫وأنت بال ُكلّية له يا نفس‪ ،‬فما ِ‬
‫لك والحكم على َمن له الحكم والخلق واألمر‪.‬‬
‫وقيل ليحيى بن معاذ الرازي‪ :‬متى يطيب عيش المؤمن؟ قال‪ :‬إذا رضي عن‬
‫اهلل تعالى بكل ما قضى وقدر‪ ،‬وحكم ودبر‪ .‬وقيل له‪ :‬متى يكون العبد راضياً عنه؟‬
‫قال‪ :‬إذا قال العبد لربه‪ :‬إلهي إن أعطيتني شكرت‪ ،‬وإ ن منعتني رضيت‪ ،‬وإ ن‬
‫دعوتني أجبت‪ ،‬وإ ن تركتني عبدت‪.‬‬
‫والزهد عشرة أجزاء‪ ،‬وأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع‪ ،‬والورع‬

‫ضعيف‪ .‬وفي اإلتحافات السنية لعبدالرؤوف المناوي‪ :‬بسم اهلل الرحمن الرحيم‪ .‬إن من استسلم لقضائي‬ ‫(‪)1‬‬

‫ورضي بحكمي وصبر على بالئي بعثته يوم القيامة مع الصديقين " رواه الديلمي‪ .‬عن ابن عباس رضي اهلل‬
‫عنهما أنه قال‪ :‬إن أول شيء كتبه اهلل في اللوح المحفوظ‪ :‬بسم اهلل‪ ..‬إلى آخره" [ اإلتحافات السنية باألحاديث‬
‫القدسية (بيروت – مؤسسة الزعبي ط ‪ )4‬ص ‪ 46‬رقم الحديث ‪ ]96‬ورواه ابن النجار عن علي رضي اهلل عنه [‬
‫كنز العمال ‪ 3/8659‬و ‪ ]15/43402‬وذكر محمد طاهر بن علي الهندي قسماً منه " من نسخة ابن األشعث"‬
‫[ تذكرة الموضوعات ‪ ]190‬وروى بعضه‪ ،‬وهو " إني أنا اهلل ال إله إال أنا‪ ،‬من لم يصبر على بالئي ولم يرض‬
‫بقضائي‪ ،‬ولم يشكر لنعمائي‪ ،‬فليتخذ رباً سواي" وقال‪ :‬ضعيف [ تذكرة ‪.]189‬‬

‫‪147‬‬
‫عشرة أجزاء‪ ،‬وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين‪ ،‬واليقين عشرة أجزاء‪ ،‬وأعلى‬
‫درجة اليقين أدنى درجة الرضا‪ ،‬ألن الرضا أعلى درجة العبودية‪ ،‬وإ ن اهلل سبحانه‬
‫جعل الروح والراحة في الرضا‪ ،‬وجعل الهم في السخط‪.‬‬
‫وحكي أن عطية الحمصي (‪ ،)1‬قال إن والدي قال إلبراهيم بن أدهم (‪ :)2‬يا أبا‬
‫ُ‬
‫اشتغلت بثالثة أجزاء‪ ،‬فإن‬
‫ُ‬ ‫إسحاق‪ ،‬لو كتبت من هذا الحديث كما كتنبا‪ .‬فقال له‪:‬‬
‫فرغت منها فعلت ما تقول‪ .‬قال‪ :‬وما هي ؟ قال‪ :‬التوكل على اهلل فيما تكفل به من‬
‫الرزق‪ ،‬وإ خالص العمل هلل‪ ،‬والرضا بقضاء اهلل‪ .‬فأما التوكل واإلخالص فقد فرغت‬
‫منهما بعون اهلل‪ ،‬وأما الرضا بقضاء اهلل‪ ،‬فإني منه في شغل شاغل‪ ،‬قال‪ :‬فبكى والدي‬
‫بكاء شديداً‪ ،‬وقال‪ :‬ما أبعدنا عما أنت فيه‪ ،‬هل يكون فوق الرضا منزلة نقدر أن نقول‬
‫فيها شيئاً‪.‬‬
‫قال محمد بن واسع (‪ :)3‬إني ال أغبط إال َمن أصبح وليس له غداء وال عشاء‪،‬‬
‫وهو عن اهلل تعالى راض‪ .‬قيل لسفيان الثوري‪ :‬متى يكون العبد عن اهلل راضياً؟‬
‫سرته النعمة‪.‬‬
‫سرته المصيبة كما ّ‬
‫قال‪ :‬إذا ّ‬
‫كان يقول‪:‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫وقال رجل عند اإلمام الحسين(‪ )4‬رضي اهلل عنه‪ :‬إن أبا ذر‬
‫إلى من الصحة‪ ،‬فقال‪ :‬رحم اهلل أبا ذر‪ ،‬أما أنا‬
‫إلي من الغنى‪ ،‬والسقم أحب ّ‬
‫الفقر أحب ّ‬
‫فأقول‪ :‬من رضي بحسن اختيار اهلل تعالى لم يتمن غير ما اختاره اهلل له‪ .‬وقال يحيى‬
‫بن معاذ‪ :‬طلبت العلم فلم أسترح‪ ،‬ثم طلبت العمل فلم أسترح‪ ،‬فرضيت عن اهلل‬

‫عطية بن قيس الحمصي‪ /‬تابعي‪ .‬قال الزركلي في األعالم (ط‪" :4/238 ) 4‬معمر‪ ،‬قيل‪ :‬عاش ‪ 104‬سنين"‬ ‫(‪)1‬‬

‫توفي بعد ‪ 121‬هـ‪.‬‬


‫إبراهيم بن أدهم البلخي التميمي‪ ،‬أبو إسحاق‪ ،‬توفي سنة ‪ 161‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫محمد بن واسع بن جابر األزدي‪ .‬توفي سنة ‪ 123‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫الحسين السبط‪ ،‬الحسن بن علي رضي اهلل عنهما (‪ 61-4‬هـ)‬ ‫(‪)4‬‬

‫اهلل عنه‪.‬‬ ‫أبو ذر‪ :‬جندب بن جنادة ( ت ‪ 32‬هـ) رضي‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪148‬‬
‫رضي اهلل عنه‪ :‬ليس الشأن في أكل خبز الشعير‪ ،‬ولبس‬ ‫فغرقت في الراحة‪ .‬قال أبو الدرداء‬
‫الصوف‪ .‬لكن الشأن في الرضا عن اهلل تعالى‪.‬‬

‫كره العبد أم رضي‬ ‫سيكون الذي قُضي‬


‫كل هذا سينقضي‬ ‫ليس هذا يدوم بل‬

‫رضي اهلل عنه‪:‬‬ ‫كان مكتوباً على سيف عمر بن الخطاب‬


‫فانقضى ما يريده‬ ‫كم ُه‬
‫قد قضى فيك ُح َ‬
‫(‪)1‬‬
‫لم يكن ما تريده‬ ‫فأرد ما يكون إن‬

‫رضي اهلل عنه‪:‬‬ ‫كان مكتوباً على سيف علي بن أبي طالب‬
‫يوم قُِد ْر‬
‫قد ُر أم ٌ‬
‫يوم ال ُي َ‬ ‫أفر‬
‫أي يومي من الموت ّ‬
‫الح ِذ ْر‬ ‫ِ‬
‫المقدور ال ينجو َ‬ ‫ومن‬ ‫قد ُر ال يأتي به‬
‫يوم ال ُي َ‬

‫هذان البيتان‪ ،‬والبيتان قبلهما‪ ،‬من مجزوء الخفيف‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪149‬‬
‫الحديث التاسع والعشرون‬

‫[ ال إله إال اهلل]‬

‫أخبرنا خالي وسيدي أبو المكارم منصور الرباني البطايحي األنصاري‬


‫الواسطي رضي اهلل عنه قال‪ :‬حدثني السيد الشريف حسن بن عسلة الرفاعي برواق‬
‫أبي في أم عبيدة‪ ،‬قال‪ :‬حدثني النقيب السيد يحيى الرفاعي‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبي السيد‬
‫ثابت‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبي السيد علي الحازم الرفاعي‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبي السيد علي أبو‬
‫الفضائل‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبي السيد الكبير رفاعة الحسن المكي الحسيني‪ ،‬نزيل إشبيلية‪،‬‬
‫قال‪ :‬حدثني أبي السيد محمد أبو القاسم‪ ،‬عن أبيه السيد الحسن القاسم‪ ،‬عن أبيه السيد‬
‫حسين عبدالرحمن الرضي المحدث القطيعي‪ ،‬عن أبيه السيد أحمد األكبر‪ ،‬عن أبيه‬
‫السيد موسى‪ ،‬عن أبيه األمير السيد إبراهيم المرتضى‪ ،‬عن أخيه اإلمام علي الرضا‪،‬‬
‫عن أبيه اإلمام موسى الكاظم‪ ،‬عن أبيه اإلمام جعفر الصادق‪ ،‬عن أبيه اإلمام محمد‬
‫الباقر‪ ،‬عن أبيه اإلمام علي زين العابدين‪ ،‬عن أبيه اإلمام الحسين الشهيد بكربالء‪،‬‬
‫عن أبيه أمير المؤمنين علي المرتضى‪ ،‬عن ابن عمه سيد المرسلين‪ ،‬وأشرف‬
‫المخلوقين نبينا محمد المصطفى صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪ " :‬حدثني جبريل عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬قال‪ :‬حدثني رب العزة سبحانه وتعالى قال‪ :‬كلمة ال إله إال اهلل‬
‫حصني‪ ،‬فمن قالها دخل حصني‪ ،‬ومن دخل حصني ِ‬
‫أم َن من عذابي"(‪.)1‬‬

‫هذا الحديث القدسي الذي وصل إلينا بالسند النبوي فيه من إعظام شأن كلمة‬
‫التوحيد‪ ،‬ما يزيد العبد إيماناً‪ ،‬ويملؤه عرفاناً‪ ،‬ويلزمه بالمداومة على الذكر بهذه‬

‫أخرجه ابن عساكر (‪ )2/85‬عن علي رضي اهلل عنه [ كنز العمال ‪ 1/158‬و ‪ ]1769‬وابن النجار عنه‬ ‫(‪)1‬‬

‫وعن أنس رضي اهلل عنهما [ كنز ‪ ]1/235‬وزين الدين المناوي في اإلتحافات السنية (الزعبي) ص ‪ 73‬رقم‬
‫‪ 166‬وقال‪ :‬رواه أبو نعيم وابن النجار وابن عساكر عن علي رضي اهلل عنه‪ .‬وانظر في اإلتحافات الحديث‬
‫‪ .165‬ورواه اإلمام الغزالي في إحياء علوم الدين (دار المعرفة) ‪ 1/167‬وقال الحافظ العراقي " أخرجه الحاكم‬
‫في التاريخ وأبو نعيم في الحلية من طريق أهل البيت من حديث علي بإسناد ضعيف جداً‪ ،‬وقول أبي منصور‬
‫الديلمي‪ " :‬إنه حديث ثابت" مردود عليه"‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫الكلمة‪ ،‬التي هي روح التوحيد‪ ،‬وما على قائلها بعد اإليمان بمبلِّغها صلى اهلل عليه‬
‫وسلم من بأس‪ ،‬وكونها آخذة بالعبد إلى االفتقار إلى اهلل تعالى‪ ،‬واالنقهار تحت عظمة‬
‫فردانيته‪ ،‬فلذلك صارت حصناً للعبد بإذن اهلل تعالى‪.‬‬

‫أي بني‪ ،‬اعلم أن الغنى والفقر صفتان‪ :‬صفة هلل‪ ،‬وصفة للعبد‪ ،‬فصفة الفقر‬
‫صفة مدح‪ ،‬كما أن صفة الغنى هلل‪ ،‬وهو صفة مدح‪ ،‬والفقر بالحقيقة‬ ‫(‪)1‬‬
‫للعبد‪ ،‬وهو‬
‫صفة العبد‪ ،‬إذ ال يشوبه غنى‪ ،‬والغنى بالحقيقة صفة الرب‪ ،‬إذ ال يشوبه فقر‪ ،‬وإ ن‬
‫أشرف صفات العبد افتقاره إلى اهلل في كل شيء كما أن أشرف صفات الرب‬
‫استغناؤه عن العبد في كل شيء قال اهلل تعالى‪ ( :‬واهلل غني وأنتم الفقراء)(‪،)2‬‬
‫و(يأيها الناس أنتم الفقراء إلى اهلل واهلل هو الغني الحميد)(‪.)3‬‬

‫والسر‪ ،‬ففقر‬
‫ّ‬ ‫مقسوم على النفس والروح والقلب‬
‫ٌ‬ ‫واعلم أن االفتقار إلى اهلل‬
‫النفس إلى اهلل تعالى يكون على سبيل القرب والرضاء‪ ،‬وفقر السر إلى اهلل تعالى‬
‫على سبيل المشاهدة واللقاء‪ ،‬فكلما رأى العبد نفسه متحيرة على باب عهده ووفائه‪،‬‬
‫رجع باالفتقار إلى باب عفوه‪ ،‬وكلما رأى روحه متحيرة على باب وده ومحبته‪ ،‬رجع‬
‫باالفتقار إلى باب عنايته‪.‬‬

‫ومن حقيقة االفتقار االستكفاء بالكافي‪ ،‬وطرح النفس السقيمة بين يدي‬
‫المعافي‪ .‬وأيضا حقيقته انتظار السبب من المسبب مع رؤية السبب‪ ،‬واالشتغال‬
‫واالعتذار‪ ،‬بلسان‬ ‫(‪)4‬‬
‫بالمسبب مع نسيان السبب‪ .‬وأيضا من حقيقته دوام التبصبص‬
‫صدق‬

‫أي الفقر‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة محمد صلى اهلل عليه وسلم‪38 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة فاطر‪.15 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫التبصبص‪ :‬التملق [ انظر القاموس المحيط (مؤسسة الرسالة) مادة بصبص (الهامش) وأساس البالغة (دار‬ ‫(‪)4‬‬

‫المعرفة ‪ .)23‬والمراد هنا‪ :‬االسترضاء واالعتذار‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫االفتقار‪ ،‬مع غاية االنكسار‪ ،‬ومن حقيقته تخليص األسرار من رؤية األعمال‪ ،‬وترك‬
‫االعتماد على حسن الحال‪ ،‬ومن حقيقته أن ال ينصرف العبد عنه بخلقه وال بملكه‪.‬‬
‫قيل ألبي عبد اهلل بن مقاتل‪ :‬متى يكون العبد غنياً محتاجاً وهو في غناه‬
‫وحاجته محمود؟ قال‪ :‬إذا كان غناه باهلل عن َخلقه‪ ،‬وحاجته إلى ربه‪ .‬قال الشيخ أبو‬
‫بكر الواسطي‪ :‬إن العبد ال يعرف هلل حق معرفته‪ ،‬حتى يعرف الفاقة الكبرى‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫وما الفاقة الكبرى؟ قال‪ :‬أن يعلم أنه لم يهتد إلى ربه إال به‪ ،‬وال ينجو من سخطه إال‬
‫به‪ .‬ويقال‪ :‬االفتقار لواء أهل الوالية‪ .‬ويقال‪ :‬االفتقار طرح النفس بين يدي الرب‪،‬‬
‫كالصبي الرضيع بين يدي األم‪.‬‬
‫ويقال االفتقار فراغة في رعاية‪ ،‬ورعاية في والية‪ ،‬ووالية في عناية‪ ،‬وعناية‬
‫في هداية‪ ،‬فمن ال فراغة له ال رعاية له‪ ،‬ومن ال رعاية له ال والية له‪ ،‬ومن ال والية‬
‫له ال عناية له‪ ،‬ومن ال عناية له ال هداية له‪.‬‬
‫أسراء تحت‬
‫الخلق بأسرهم فقراء محتاجون إلى اهلل تعالى‪ّ ،‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن َ‬
‫مشيئته‪ ،‬ضعفاء تحت علمه وقدرته‪ ،‬ال يملكون ألنفسهم وال لغيرهم نفعاً وال ضراً‪،‬‬
‫وال ذالً وال عزاً‪ ،‬وال موتا وال حياة‪ ،‬منصوبون بين سهام النعمة والرخاء‪ ،‬موقوفون‬
‫بين القطيعة والشقاء‪ ،‬مستورة عنهم خواتيمهم‪ ،‬لهم الخوف والرجاء‪ ،‬والفقر والدعاء‪،‬‬
‫والتضرع والبكاء‪ ،‬فما أفقر من هذه صفته‪ ،‬وما أضعف من هذه حالته‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫واعلم أن االفتقار أجل مراتب المحبين‪ ،‬وأرفع منازل المنيبين‪ ،‬وأزلف‬
‫َّ‬
‫وأجل مقامات التائبين‪ ،‬وأعلى وسائل‬ ‫(‪)2‬‬
‫حاالت المريدين‪ ،‬وأعظم آالت األوابين‬
‫المقربين‪ ،‬وهو أصل العبودية‪ ،‬وصدر اإلخالص‪ ،‬ورأس التقوى‪ ،‬ومخ الصدق‪،‬‬
‫وأساس الهدى‪ ،‬فمن أراد أن يدخل في ُعصبة أهل االفتقار‪ ،‬فينبغي أن ال يهتم‬
‫بمصلحة نفسه وعياله‪ ،‬وأن يتملق بين يدي اهلل تعالى‪ ،‬وأن يكون آيساً مما سوى‬

‫اهلل‪ ،‬مع االفتقار إلى اهلل تعالى‪ ،‬كرجل يكون في بئر مظلمة‪ ،‬ورأس البئر مسدود‪،‬‬
‫وأثره مستور‪ ،‬وليس له في البئر مؤنس‪ ،‬وال للخلق على رأس البئر ممر‪ ،‬فهل يكون‬
‫رجاؤه وافتقاره إلى أحد دون مواله؟‬
‫(‪ )1‬أزلف‪ :‬أقرب‪.‬‬
‫(‪ )2‬األواب‪ :‬التائب‪ ،‬من آب يؤوب إذا رجع‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫وحكي أن رجالً من الصالحين وقع في بئر في البادية وكان ضريراً ‪ ،‬فمرت‬
‫على رأس البئر قافلة‪ ،‬فناداهم الرجل من قعر البئر‪ ،‬فهتف هانف‪ :‬أيستغيث بغيري‬
‫سدوا رأي البئر‪ ،‬وأرادوا‬
‫وأنا غياث المستغيثين‪ ،‬قال‪ :‬فسكت الرجل‪ ،‬فإذا أهل القافلة ّ‬
‫كي ال يقع فيه أحد‪ ،‬فصار الرجل آيساً من نفسه‪ ،‬وانقطع رجاؤه عن‬ ‫(‪)1‬‬
‫أن ُيخفوه‬
‫الخلق‪ ،‬ثم قال‪ :‬إلهي اآلن لم يبق لي غيرك‪ ،‬وأنا فقير إليك‪ ،‬فسلط اهلل أسداً حتى فتح‬
‫رأس البئر‪ ،‬وهبط فيه‪ ،‬فأخذ الرجل بذنب األسد‪ ،‬فرفعه إلى رأس البئر‪ ،‬فنودي من‬
‫فوقه‪ :‬ال تقطع قلبك عمن ينجيك ٍ‬
‫بتلف َمن تلف‪.‬‬
‫واعلم أن اهلل وضع تحت قوله (إياك نعبد) (‪ )2‬كمال وفاء صدق العبودية‪ ،‬ثم‬
‫علم كمال ضعف العبد وعجزه‪ ،‬فأعطاه كلمة أخرى وجمع له خير الدارين‪ ،‬وهو‬
‫قوله تعالى‪ ( :‬وإ ياك نستعين)(‪ )3‬فكل حق اهلل تعالى على العبد‪ ،‬تحت قوله (إياك‬
‫نعبد)‪ ،‬وكل فقر للعبد إلى اهلل تعالى تحت قوله (وإ ياك نستعين)‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إلهي إليك خرجت وأنت أخرجتني‪،‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫وقيل‪ :‬إن أعرابياً وقف بالموقف‬
‫ولك وقفت وأنت أوقفتني‪ ،‬وقد عصيت أمرك‪ ،‬وأنت خذلتني‪ ،‬ومع ذلك ال عذر لي‬
‫وال حجة‪ ،‬فإن رحمتني وعفوت عني‪ ،‬فأنت أهل اإلحسان‪ ،‬وال فقير لك أفقر مني يا‬
‫سيدي ويا موالي‪.‬‬
‫واعلم أن اهلل تعالى كلَّف العباد صدق االفتقار‪ ،‬كيال يتجاوزوا حد العبودية‬
‫إلى حد الربوبية‪ ،‬ومن اإلرادات العقلية إلى اإلرادات الهوائية‪ ،‬ومن الصفاوة‬
‫الروحية‬

‫تعود الهاء في (يخفوه) و (فيه) و (فوقه) إلى كلمة رأس‪ .‬أما (بئر) فمؤنثة‪.‬‬ ‫( ‪)1‬‬

‫سورة الفاتحة‪5 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة الفاتحة‪5 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫في عرفات‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪153‬‬
‫إلى الكدورة النفسية‪ ،‬ومن الهمم العلوية إلى الهمم السفلية‪.‬‬
‫قال اهلل تعالى لنبيه األعظم عليه الصالة والسالم‪( :‬ليس لك من األمر‬
‫(‪)3‬‬
‫وقال‪ ( :‬بل هلل األمر جميعاً)‬ ‫(‪)2‬‬
‫شيء)(‪ ،)1‬وقال سبحانه‪ ( :‬قل إن األمر كله هلل)‬
‫وقال‪ ( :‬أال له الخلق واألمر)(‪ ،)4‬نعم صالح العبد باالفتقار‪ ،‬نعم االستعانة‬
‫بالمستعان‪ ،‬نعم سبب الوصول إلى طريق الهداية واللحوق بأهل الوالية االفتقار‪.‬‬

‫سورة آل عمران‪.128 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة آل عمران‪.154 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة الرعد ‪.31‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة األعراف‪.54 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪154‬‬
‫الحديث الثالثون‬

‫[ إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل]‬

‫أخبرنا الشيخ الثقة العارف باهلل تعالى خالي أبوبكر بن يحيى النجاري‬
‫األنصاري الواسطي رضي اهلل عنه‪ " :‬قال‪ :‬أخبرنا أبو غالب محمد بن عبدالواحد‬
‫القزاز‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا‬
‫إسحاق بن سعيد‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا محمد بن هارون‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أو آمنة محمد بن‬
‫إبراهيم‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا محمد بن سابق‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا إبراهيم بن طهمان‪ ،‬عن منصور‪،‬‬
‫عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬‬
‫إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل" (‪ .)1‬وهذا الحديث الشريف فيه من إعظام مناجاة اهلل‬
‫الغاية‪ ،‬فإن العبد إذا صلى ناجى ربه‪َّ ،‬‬
‫سيما في يوم الجمعة ومشهدها‪ ،‬فإنه من أعظم‬
‫مشاهد الحضرة‪ .‬واالغتسال عبارة عن غسل القلب والقالب من الوجودات‪ ،‬هذا مع‬
‫ما فيه من فضيلة التطهر الشرعي‪ ،‬وهذا سر من أسرار االغتسال‪ ،‬ولم يكن من حكم‬
‫له العقول‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫تحير‬
‫شرعي إال فيه من األسرار الباطنة والظاهرة ما ّ‬

‫صحيح‪ .‬رواه بهذا اللفظ أحمد في المسند ‪ 1/91‬و ‪ 319‬و ‪ 5/5482‬و ‪ 5488‬والنسائي في الجمعة‪ ،‬باب‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫حض اإلمام في خطبته على الغسل يوم الجمعة ‪ 3/105‬وفتح الباري ‪ 2/360‬وروي في الموطأ‪ :‬الجمعة‪ ،‬باب‬
‫ما جاء في غسل يوم الجمعة رقم ‪" : 429‬إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وهو كذلك في المسند ‪ 4/4466‬و‬
‫‪ 5083‬و ‪ 5169‬و ‪ 5/5311‬و ‪ 5828‬والبخاري‪ :‬الجمعة‪ ،‬باب فضل الغسل يوم الجمعة ‪ 837‬ومسلم‪ :‬الجمعة‬
‫(أوائله) ‪ 844‬و ‪ .845‬وانظر البخاري ‪ 854‬و ‪.877‬‬
‫تحير (بضم الراء)‪ :‬مضارع خففت منه إحدى تاءيه وأصله تتحير‪ ،‬يقال‪ :‬حار يحار وتحير يتحير (انظر‬
‫ّ‬
‫(‪)2‬‬

‫القاموس المحيط)‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن َمن نظر في حسن تدبير اهلل تعالى‪ ،‬ولطائف صنعه‪ ،‬وكمال‬
‫قائم على نفسه بما كسبت‪ ،‬وأن نواصي العباد‬
‫قدرته في كل شيء‪ ،‬علم أنه تعالى ٌ‬
‫في ماضي حكمته‪ ،‬ال راد لقضائه‬ ‫(‪)1‬‬
‫بيده‪ ،‬يقلبهم كيف يشاء‪ ،‬وأن سعادتهم وشقاوتهم‬
‫وال معقب لحكمه‪ ،‬فمتى تحقق ذلك اعتصم باهلل‪ ،‬واستسلم له‪ ،‬وفوض ال ُكـلّية إليه‪،‬‬
‫وقام بقدم االضطرار بين يديه‪ ،‬وبقي بال حول وال قوة‪ ،‬وال اختيار وال تعليق‪ ،‬وال‬
‫تدبير وال سؤال‪ ،‬فإن راحة الدارين وسرورهما في االعتصام باهلل‪ ،‬وهمومهما في‬
‫االعتصام بغير اهلل‪ ،‬ورؤية الحول والقوة بالنفس‪ ،‬أال ترى قول اهلل تعالى لنبيه عليه‬
‫الصالة والسالم‪( :‬قل ال أملك لنفسي نفعاً وال ضراً إال ما شاء اهلل)(‪ )2‬ومعاملة اهلل‬
‫(ال أملك إال نفسي‬ ‫تعالى موسى عليه الصالة والسالم في التيه مكافأة لقوله‪:‬‬
‫وقيل في معنى قوله تعالى‪ ( :‬فاخلع نعليك)(‪ )4‬أي اخلع عن قلبك أهلك‬ ‫(‪)3‬‬
‫وأخي)‬
‫وولدك وكل ما سوى اهلل(‪ ،)5‬ثم قال تعالى‪ ( :‬وما تلك بيمينك يا موسى * قال هي‬
‫أضافها إلى نفسه‪ ،‬قال ما تصنع بها قال‪( :‬أتوكؤا عليها)(‪ )7‬فقال له‪( :‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫عصاي)‬
‫(‪)8‬‬
‫ألقها يا موسى * فألقاها فإذا هي حية تسعى)‬

‫الشقاوة والشقوة (بفتح الشين فيها وكسرها) والشقا‪ :‬الشقاء‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة األعراف‪.188 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة المائدة‪.25 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫( ‪)4‬‬
‫سورة طه‪.12 :‬‬
‫هذا يعني أن يوحد المرء ربه سبحانه‪ ،‬ويفرده بالتوجه والخشية والعبادة‪ ،‬ولكنه ليس يعني أن حب المرء‬ ‫(‪)5‬‬

‫لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم غير واجب‪ ،‬فإن المرء ال يؤمن حتى يكون صلى اهلل عليه وسلم أحب إليه من‬
‫ماله وولده ونفسه التي بين جنبيه‪ ،‬وليس يعني أيضا أال يحب المرء أهله أو أال يرعاهم‪ ،‬فمن الشر أن يضيع‬
‫المكلف َمن يقوت‪ ،‬وخير العباد هو خيرهم ألهله‪ ،‬وهو فيهم راع ومسؤول عنهم‪ ،‬وبحبهم وبحب سائر المسلمين‬
‫في‪"..‬‬
‫في‪ "..‬وفي رواية‪" :‬وجبت محبتي للمتحابين ّ‬
‫يتقرب إلى اهلل تعالى الذي يقول‪" :‬حقت محبتي للمتحابين ّ‬
‫[ اإلتحافات‪ :‬ص‪49‬و ‪.]70‬‬
‫سورة طه‪.18- 17 :‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫سورة طه‪18 :‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫سورة طه‪.20-19 :‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫‪156‬‬
‫قال اهلل تعالى‪ :‬يا موسى هذه التي قلت أتوكأ عليها صارت عدوة لك‪ ،‬لتعلق قلبك‬
‫(‪)1‬‬
‫بغيري‪ ،‬فرجع موسى بقلبه إلى اهلل تعالى‪ ،‬فلما علم ذلك منه‪( :‬قال خذها وال تخف)‬
‫وقال لنبينا عليه الصالة والسالم‪ ( :‬قل لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا)(‪.)2‬‬
‫يقول اهلل تعالى‪ " :‬ما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بمخلوق دوني إال قطعت‬
‫أسباب السماء من يديه‪ ،‬ووكلته إلى نفسه‪ ،‬وما من عبد نزلت به بلية فاعتصم بي‬
‫دون خلقي إال أعطيته قبل أن يسألني‪ ،‬وأستجيب له قبل أن يدعوني"(‪ )3‬وبلغنا أن اهلل‬
‫تعالى أوحى إال داود عليه الصالة والسالم‪ :‬وعزتي وجاللي وعظمتي وارتفاعي‬
‫فوق َخلقي‪ ،‬ال يعتصم عبد من عبيدي بي دون خلقي‪ ،‬فأعلم ذلك من قلبه فيكيده‬
‫ومن فيهن‪ ،‬إال جعلت له من ذلك‬
‫ومن فيهن‪ ،‬واألرضون السبع َ‬
‫السموات السبع َ‬
‫مخرجاً‪ ،‬وعزتي وجاللي‪ ،‬وعظمتي وارتفاعي فوق َخلقي‪ ،‬ال يعتصم عبد من عبادي‬
‫بمخلوق دوني‪ ،‬فأعلم ذلك من قلبه‪ ،‬إال قطعت عنه األسباب‪ ،‬ثم ال أبالي في أي واد‬

‫سورة طه‪21 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة التوبة‪.51 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫أخرجه العسكري عن علي رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬يقول اهلل تعالى‪" :‬ما من‬ ‫(‪)3‬‬

‫مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إال قطعت أبواب السموات واألرض دونه‪ ،‬فإن دعاني لم أجبه‪ ،‬وإ ن سألني لم‬
‫أعطه‪ ،‬وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إال ضمنت السموات رزقه‪ ،‬فإن سألني أعطيته‪ ،‬وإ ن دعاني أحببته‪،‬‬
‫وإ ن استغفرني غفرت له " [ كنز العمال (الرسالة) ‪ .]3/8512‬ورواه ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته‪ ،‬ومن‬
‫أنزلها باهلل تبارك وتعالى أوشك اهلل له بالغنى إما موتاً عاجالً‪ ،‬أو غنى آجالً " [ الزهد (تصوير بيروت) ‪ :‬باب ما‬
‫رواه نعيم بن حماد في نسخته زائداً على ما رواه المروزي عن ابن المبارك ص ‪ 34‬رقم الحديث ‪ ]132‬وفي‬
‫رواية‪ " :‬من نزلت به حاجة فأنزلها بالناس‪ [ "..‬كنز ‪ 6/16781‬عن ابن جرير ي تهذيبه‪ ،‬والطبراني في الكبير‪،‬‬
‫وأبي نعيم في حلية األولياء والبيهقي في شعب اإليمان]‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫(‪)1‬‬
‫أهلكته‪ ،‬وأمأل قلبه شغالً وحرصاً‪ ،‬وأمالً ال يبلغه أبداً"‪.‬‬
‫وفي الخبر‪ ":‬من اعتصم باهلل واستعان به‪ ،‬أحوج اهلل إليه الناس‪ ،‬وأنطقه‬
‫بالحكمة‪ ،‬وجعله من ملوك الدارين‪ ،‬ومن اعتصم بمخلوق دونه‪ ،‬ووكل إليه قلبه‪،‬‬
‫عذبه اهلل‪ ،‬وقطع عنه أسباب الدنيا واآلخرة"‪.‬‬
‫وروي أيضاً‪ " :‬تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم‪ ،‬وأقبلوا إلى اهلل تعالى‬
‫بقلوبكم‪ ،‬واعتصمواـ به في جميع أموركم‪ ،‬ألن العبد إذا أقبل إلى اهلل بقلبه‪ ،‬أقبل اهلل‬
‫(‪)2‬‬
‫بقلوب العباد إليه‪ ،‬ومن يعتصم باهلل كفاه اهلل كل مؤنة"‪.‬‬
‫قيل ليحيى بن معاذ‪ :‬متى يكون الرجل معتصماً باهلل؟ فقال‪ :‬إذا قطع قلبه عن‬
‫كل عالقة موجودة ومفقودة‪ ،‬ورضي باهلل وكيال‪ .‬وروي أن اهلل تعالى قال لداود عليه‬
‫الصالة والسالم‪ :‬ما يتعبد المتعبدون‪ ،‬وال يتقرب المتقربون بشيء أبلغ عندي من‬
‫االعتصام والتسليم‪.‬‬
‫وقال عامر بن قيس(‪ )3‬ألحد العارفين‪ :‬ادع اهلل لي‪ :‬فقال‪ :‬لقد استعنت بمن هو‬
‫أعجز منك‪ ،‬أطع اهلل واعتصم به‪ ،‬يعطك أعظم ما يعطي السائلين‪ .‬وقال‪ :‬فيما‬

‫اإلتحافات السنية باألحاديث القدسية لزين الدين المناوي (بيروت) ص ‪ 99‬رقم الحديث ‪ .229‬وروى‬ ‫(‪)1‬‬

‫الغزالي بعضه في اإلحياء (دار المعرفة) ‪.4/244‬‬


‫الترغيب والترهيب للحافظ المنذري (الترغيب في الفراغ للعبادة) ‪ 4/24‬رقم الحديث ‪ 4632‬وقال‪ :‬رواه‬ ‫(‪)2‬‬

‫الطبراني في الكبير واألوسط‪ ،‬والبيهقي في الزهد‪ .‬ومجمع الزوائد (الفكر) ‪ 10/432‬برقم ‪ 17816‬وقال‪:‬‬
‫"رواه الطبراني في الكبير واألوسط "‪ .‬وكنز العمال ‪ 3/6077‬وحلية األولياء ‪ .1/227‬كلهم عن أبي الدرداء‬
‫رضي اهلل عنه‪ .‬وانظر بهذا المعنى الترغيب والترهيب‪ :‬الترغيب في الفراغ للعبادة واإلقبال على اهلل تعالى‪،‬‬
‫والترهيب من االهتمام بالدنيا واالنهماك عليها ‪ 4/23‬وما بعدها‪.‬‬
‫في الطبقات الكبرى للشعراني (الفكر) ‪ :1/28‬عامر بن عبد اهلل بن قيس‪ .‬وقال النبهاني‪ " :‬عامر بن عبد اهلل‬ ‫(‪)3‬‬

‫المعروف بابن عبد قيس‪ ..‬مات في خالفة معاوية رضي اهلل عنه " [ جامع كرامات األولياء ‪.]2/134‬‬

‫‪158‬‬
‫أنزل على موسى عليه الصالة والسالم‪ :‬إن أردت أن تكون قائداً ألهل الدنيا‪ ،‬وسيداً‬
‫في المنظر األعلى فكن مستسلماً راضياً بحكمي‪.‬‬
‫وقال الفضيل بن عياض (‪ :)1‬إني ألستحي من اهلل أن أقول إني معتصم باهلل‪،‬‬
‫ألن من اعتصم باهلل ال يخاف َمن دونه‪ ،‬وال يرجو غيره‪ ،‬ويقطع قلبه عن عالئقه في‬
‫الدارين‪.‬‬
‫وقيل في معني قوله‪ ( :‬إنا هلل) اآلية‪ ،‬أي نحن عبيد اهلل وإ ماؤه‪ ،‬نتقلب في‬
‫ونواصي العباد بيده (وإ نا إليه راجعون)(‪ )2‬بالرضا عنه‪ ،‬والتسليم‬
‫مشيئته وقضائه‪َ ،‬‬
‫له واالعتصام به‪ ،‬والتفويض إليه‪ ،‬وروي أن اهلل تعالى قال لموسى عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ( :‬اذهب إلى فرعون إنه طغى)(‪ ،)3‬فقال يا رب أهلي وغنمي‪ .‬قال اهلل‬
‫تعالى‪ :‬إذا وجدتني فأي شيء تصنع بغيري؟ يا موسى اذهب واعتصم‪ ،‬واستسلم لي‬
‫إلي‪ ،‬فإني جعلت الذئب راعياً لغنمك‪ ،‬والمالئكة حافظين ألهلك‪ ،‬يا‬
‫األمور ّ‬
‫َ‬ ‫وفوض‬
‫ِّ‬
‫ك‬
‫ومن أنجا َ‬
‫ك بعده؟ َ‬
‫ك إلى أم َ‬ ‫ومن َّ‬
‫رد َ‬ ‫ألقتك أمك فيه؟ َ‬
‫موسى َمن أنجاك من اليم حين َ‬
‫قتلت نفساً‪ ،‬ومن أنجاك من المفازة حين فررت من فرعون؟‬
‫ك فرعون حين َ‬ ‫من عدو َ‬
‫وهو يقول في ذلك كله‪ :‬أنت أنت‪.‬‬
‫واعلم أن َمن اعتصم بغيره أو بشيء دونه فهو مخذول‪ ،‬خارج من حد‬
‫العبودية‪ ،‬ألن حد العبودية ترك االختيار إلى الجبار‪.‬‬
‫قال اهلل تعالى‪ ( :‬وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)(‪( ،)4‬ما‬
‫يفتح اهلل للناس من رحمة فال ممسك لها)(‪ )5‬وقال‪ ( :‬وإ ن يمسسك اهلل بضر فال‬
‫(‪)7‬‬
‫كاشف له إال هو)(‪ )6‬وقال تعالى‪ ( :‬قل لن يصيبنا إال ما كتب اهلل لنا)‬

‫الفضيل بن عياض التميمي (‪ 187- 105‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة البقرة‪.156 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة طه‪.24 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫( ‪)4‬‬
‫سورة القصص‪.68 :‬‬
‫( ‪)5‬‬
‫سورة فاطر‪2 :‬‬
‫( ‪)6‬‬
‫سورة األنعام‪.17 :‬‬
‫( ‪)7‬‬
‫سورة التوبة‪.51 :‬‬

‫‪159‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وقال تعالى‪( :‬ومن يتوكل على اهلل فهو حسبه)‬
‫واعلم أن العبودية مبنية على عشر خصال‪ :‬االعتصام باهلل في كل شيء‪،‬‬
‫والرضا عن اهلل في كل شيء‪ ،‬والرجوع إليه في كل شيء‪ ،‬والفقر إلى اهلل في كل‬
‫شيء‪ ،‬واإلنابة إلى اهلل في كل شيء‪ ،‬والصبر مع اهلل في كل شيء‪ ،‬واالنقطاع إلى‬
‫اهلل في كل شيء‪ ،‬واالستقامة باهلل في كل شيء‪ ،‬والتفويض إلى اهلل في كل شيء‪،‬‬
‫والتسليم له في كل شيء‪.‬‬
‫واعلم أن التسليم واالستسالم‪ ،‬شعبتان من شعب اإليمان والمعرفة‪ ،‬التسليم هو‬
‫تسليم ال ُكـلّية إلى السالم بالسالمة بال تخليط‪ ،‬واالستسالم هو أن يستسلم راضياً بجميع‬
‫ما ينزل عليه منه‪.‬‬

‫( ‪)1‬‬
‫سورة الطالق‪3 :‬‬

‫‪160‬‬
‫الحديث الحادي والثالثون‬

‫[ أفال أكون عبداً شكوراً]‬

‫أخبرنا شيخنا الجليل أبوالفضل علي القاري القرشي الواسطي رضي اهلل عنه‬
‫قال‪ :‬أنبأنا أبوالحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر الداودي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو محمد‬
‫عبد اهلل بن أحمد السرخسي‪ ،‬قال أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن يوسف الفربري‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا صدقة بن الفضل قال‪:‬‬
‫أخبرنا ابن عيينة‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا زياد هو ابن عالقة أنه سمع المغيرة يقول‪ :‬قام النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له‪ :‬غفر اهلل لك ما تقدم من ذنبك وما‬
‫تأخر‪ ،‬قال‪" :‬أفال أكون عبداً شكورا؟ " (‪.)1‬‬
‫في هذا الحديث الشريف من اإللزام بالقيام بواجب العبودية غاية الغاية عند‬
‫َمن يعقل‪ ،‬فإن السيد األعظم‪ ،‬والكنز المطلسم صلى اهلل عليه وسلم (‪ ،)2‬حالة كونه ِس ّر‬
‫الخلق والخالق‪ ،‬قد فعل في مقام‬ ‫الوجودات‪ ،‬وسبب الموجودات‪ ،‬والبرزخ الوسط بين َ‬
‫تورم له قدماه الشريفان‪ ،‬فأين نحن؟ هات أيها العارف‪ ،‬ابذل مهجتك اتباعاً‬
‫عبديته ما ّ‬
‫لهذا الرسول العظيم صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وامحق ُكلّك في اليوم والليلة ألف مرة‪،‬‬
‫وأنت بعدها مقصر‪ ،‬العبودية وصف العارف المحض‪.‬‬

‫صحيح‪ .‬رواه أحمد في المسند (حديث المغيرة بن شعبة رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم)‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 18855‬و ‪ .18159‬والبخاري في التهجد‪ ،‬باب قيام النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى تورم قدماه‪ ،‬رقم ‪1078‬‬
‫والتفسير‪ ،‬باب قوله‪ ( :‬ليغفر لك اهلل ما تقدم من ذنبكـ وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً)‬
‫[ الفتح ‪ ] 2‬رقم ‪ ،4556‬و ‪ 4557‬وفيه‪" :‬أفال أحب أن أكون عبداً شكورا" والرقاق‪ ،‬باب الصبر عن محارم اهلل‬
‫‪ .6106‬ومسلم في صفات المنافقين‪ ،‬باب‪ :‬إكثار األعمال واالجتهاد‪ ،‬رقم ‪.2819‬‬
‫مطلسم‪ :‬غامض [ المعجم الوسيط]‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪161‬‬
‫أي بني‪ ،‬قد ذكر اهلل تعالى في كتب األنبياء نعت األصفياء‪ ،‬يقول اهلل تعالى‪:‬‬
‫عبدي بي وجدتني‪ ،‬وبي وقع بيني وبينك عقد المحبة‪ ،‬وبي صرت من أهل خدمتي‪،‬‬
‫قصدت صحبتي‪،‬‬
‫َ‬ ‫علي‪ ،‬وبي تتلذذ بذكري‪ ،‬وبي‬
‫وبي تعرفني وبي تذكرني وتثني ّ‬
‫وبي قدرت أن تنظر في اآلخرة إلى وجهي‪ ،‬عبدي نفسك لي‪ ،‬وروحك لي‪ ،‬وقلبك‬
‫لي‪ ،‬و ُكلِّيتك لي‪ ،‬فإن أعطيتني الكل أعطيتك الكل‪ ،‬وكنت لك مع الكل‪.‬‬
‫وفي الخبر‪ :‬أوحى اهلل تعالى إلى داود عليه الصالة والسالم‪َ :‬من الذي دعاني‬
‫فقطعت رجاءه؟ ومن الذي قرع بابي فلم يفتح له؟ أنا الذي جعلت آمال َخلقي بي‬
‫إلي‪ ،‬يا داود أنا‬
‫مدخرة‪ ،‬يا داود ما لعبدي ُيعرض عني وأنا أقول ّ‬
‫متصلة‪ ،‬وعندي ّ‬
‫ُّ‬
‫محل اآلمال‪ ،‬أنا الذي جعلت طيران قلوب المشتاقين نحوي‪ ،‬وجعلتها في األرض‬
‫مواضع نظري‪ ،‬وأطلقتُها إلي حتى تزداد شوقاً إلي‪ ،‬وقرباً مني‪ ،‬يا داود ِّ‬
‫بشر أوليائي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وأحبائي بأني كل ساعة أُريهم كرامتي‪ ،‬ولطائف صنعي‪ ،‬وحسن امتناني عليهم‪ ،‬حتى‬
‫إلي حتى ال يصبروا عني‪ ،‬وفتحت لهم‬
‫ينسوني‪ ،‬وال يميلوا إلى غيري‪ ،‬وشوقتهم ّ‬
‫ال َ‬
‫أبواب أُنسي‪ ،‬واستجبت لهم قبل أن يدعوني‪ ،‬وأعطيتم قبل أن يسألوني‪ ،‬يا داود‬
‫َّ‬
‫ألمكننهم من رؤيتي حتى أرضى عنهم‬ ‫ِ‬
‫فوع َّزتي وجاللي ألقعدنهم في الفردوس‪،‬‬
‫ويرضوا عني‪.‬‬
‫وجليس لمن جالسني‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫لمن أحبني‪،‬‬‫حبيب َ‬
‫ٌ‬ ‫يا داود أخبر أهل األرض بأني‬
‫ومختار لمن‬
‫ٌ‬ ‫وصاحب لمن صاحبني‪ ،‬ومطيعٌ لمن أطاعني‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ومؤنس لمن أنِ َس بي‪،‬‬
‫ٌ‬
‫هلموا إلى مصاحبني ومؤانستي‪ ،‬وسارعوا إلى محبتي‬
‫اختارني‪ ،‬وقل لعبادي ّ‬
‫وقربي‪.‬‬
‫زكيي‪،‬‬
‫اعلم يا داود أني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي‪ ،‬ويحيى ّ‬
‫ومحمد حبيبي‪ ،‬يا داود هل رأيت حبيباً يبخل على حبيبه‪ ،‬يا داود أال إن طال شوق‬
‫األبرار إلى لقائي‪ ،‬فإني إليهم ألشد شوقاً‪ ،‬أال َمن طلبني وجدني‪ ،‬ومن طلب غيري لم‬
‫يجدني‪.‬‬
‫يا داود إذا كان الغالب على عبدي االشتياق لي‪ ،‬واالشتغال لي‪ ،‬جعلت‬

‫‪162‬‬
‫راحته ولذته في ذكري وعشقته‪ ،‬ورفعت الحجاب بيني وبينه‪ ،‬أحبه ويحبني‪ ،‬حتى‬
‫ال يغفل إذا غفل الناس‪ ،‬وال يسهو إذا سها الناس‪ ،‬وال يلهو إذا لها الناس‪ ،‬أولئك‬
‫األبرار حقاً‪ ،‬يا داود إن طلبتني وجدتني‪ ،‬وكفيتك األسباب‪ ،‬ولم أطالبك بالحقوق‪ ،‬وإ ن‬
‫طلبت غيري شغلتك باألسباب‪ ،‬وطالبتك بالحقوق‪ ،‬يا داود إني جعلت محبتي لمن ال‬
‫ينساني بلسانه وقلبه‪ ،‬فإنه ال شيء أنقص عندي من الغفلة والنسيان‪.‬‬
‫يا داود إن رضيت عني رضيت عنك‪ ،‬وإ ن أفردتني بالحاجة أفردتك‬
‫باإلنجاح‪ ،‬وإ ن شكرتني صيرتك ملكاً في الدارين‪ ،‬يا داود من لم يصبر على بالئنا ال‬
‫يفزع إلينا‪ ،‬يا داود إني إذا أحببت عبداً من عبيدي مألت قلبه خوفاً مني‪ ،‬وتشوقاً إلى‬
‫لقائي‪ ،‬وحرصاً على طاعتي‪.‬‬
‫يا داود أوليائي في قبابي ال يعرفهم إال أوليائي‪ ،‬فطوبى ألوليائي وطوبى‬
‫ألحبائي‪ ،‬يا داود إني ال أنسى َمن ينساني‪ ،‬فكيف أنسى من يذكرني‪ ،‬يا داود إني أجود‬
‫علي‪ ،‬فكيف أبخل على من يجود بي‪ ،‬يا داود إني أحب َمن يبغضني‪،‬‬
‫على َمن يبخل ّ‬
‫رؤوف رحيم‪ ،‬يا‬
‫ٌ‬ ‫فكيف أُبغض من يحبني‪ ،‬يا داود ِّ‬
‫بشر عبادي السائلين‪ ،‬بأني بهم‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫حبيب يحب خلوةَ حبيبه‪ ،‬وأنا ُمطلع على قلوب أحبائي‪ ،‬قل للمتلذذين‬ ‫داود كل‬
‫أبر مني؟ يا داود َمن أطاعني وهو يحبني أُسكنه(‪ )1‬جنتي‪،‬‬
‫بذكري‪ :‬هل وجدتم ربا َّ‬
‫ُّ‬
‫وأحل عليه سخطي‪ ،‬يا داود‬ ‫ومن عصاني ولم يحبني أدخله ناري‪،‬‬ ‫وأُريه وجهي‪َ ،‬‬
‫وعزتي وجاللي ال يجاورني إال َمن طلب جواري‪.‬‬
‫يا داود كذب من ادعى محبتي وإ ذا َج َّن عليه الليل نام عني‪ ،‬يا داود َمن‬
‫عرفني أرادني‪ ،‬ومن أرادني طلبني‪ ،‬ومن طلبني وجدني‪ ،‬ومن وجدني ال يختار‬
‫حبيباً سواي‪ .‬يا داود َمن طلبني قتلته‪ ،‬ومن أحبني ابتليته‪ ،‬ومن هرب مني أحرقته‪.‬‬
‫يا داود بشر المذنبين بأني غفور‪ ،‬وأنذر الصديقين بأني غيور‪ .‬يا داود من لقيني وهو‬

‫يجوز في المضارع الواقع جواب شرط – إذا كان فعل الشرط ماضياً‪ -‬أن يرفع ويجوز أن يجزم‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪163‬‬
‫يخافني لم أعذبه بناري‪ ،‬ومن لقيني وهو يحبني لم أحزنه بفراقي‪ ،‬ومن لقيني وهو‬
‫مستحي مني لم أخجله يوم يلقاني‪ .‬يا داود جنتي لمن لم يقنط من رحمتي‪ ،‬وغضبي‬
‫عاجلت أحداً بالعقوبة إذاً‬
‫ُ‬ ‫عن َمن أخطأ خطيئة فاستعظمها في جنب عفوي‪ ،‬ولو‬
‫عاجلت القانطين من رحمتي‪ ،‬وما العجلة من شأني‪ ،‬فها أنا مطلع على قلوب أحبائي‪،‬‬
‫إذا جن الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم‪ ،‬فخاطبوني علي المشافهة‪ ،‬وكلموني على‬
‫الحضور‪.‬‬
‫يا داود لوال أني ربطت أرواح أحبائي في أبدانهم‪ ،‬لخرجت األرواح من‬
‫أبدانهم شوقاً إلى لقائي‪ ،‬يا داود إن من عبادي عباداً جعلتهم للخير أهالً‪ ،‬وجعلت لهم‬
‫المؤانسة نصيباً‪ ،‬طوبى لهم وحسن مآب‪.‬‬
‫وروي أن اهلل تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما الصالة والسالم‪ :‬إني‬
‫ُ‬
‫عبد من عبادي أعلم ذلك من قلبه إال كنت سمعه‬
‫قضيت على نفسي أن ال يحبني ٌ‬
‫ُ‬
‫وبصره ولسانه‪ ،‬وأُبغض إليه كل شيء‪ ،‬وأمنعه شهوات الدنيا ولذاتها‪ ،‬وطيب‬
‫عيشها‪ ،‬وأطلع عليه في كل يوم سبعين ألف مرة‪ ،‬وأزيد له كل ساعة لذائذ حبي‪،‬‬
‫وحالوة أنسي‪ ،‬وأمأل قلبه نوراً مني‪ ،‬حتى ينظر إلى كل ساعة فأمسح برأسه‪ ،‬وأضع‬
‫يدي على ألم قلبه‪ ،‬حتى ال يشكو منه‪ ،‬وأنا أسمع خفقان قلبه من الشوق إلى لقائي‪،‬‬
‫علي أن ال يسكن قلبي حتى أصل إليك يا‬
‫والخوف من قطيعتي‪ ،‬وهو يقول‪ :‬حقيق ّ‬
‫ربي‪ ،‬يا يحيى وكيف يسكن قلب المشتاق وأنا غاية ُمنيته‪ ،‬ومنتهى أمله‪ ،‬وهو كل‬
‫ساعة يتقرب إلي وأتقرب إليه‪ ،‬وأسمع كالمه‪ ،‬وأعلم أسفه‪ ،‬وأحب صوته؟ ِ‬
‫فوع َّزتي‬ ‫ّ‬
‫وجاللي‪ ،‬ألنقبنه يوم القيامة منقباً (‪ )1‬يغبطه األولون واآلخرون‪ ،‬ثم آمر منادياً ينادي‬
‫وصفيه‪ ،‬دعاه اهلل ُلي ِق َّر عينه‪ ،‬ثم آمر‬
‫ُّ‬ ‫من تحت عرشي‪ :‬هذا فالن ابن فالن ولي اهلل‬
‫أبشرك‪.‬‬ ‫برفع الحجاب حتى ينظر حبيبي إلي‪ ،‬وأقول‪ :‬السالم عليك عبدي ووليي ِّ‬
‫ّ‬

‫يعده اهلل عز وجل بعلو المقام يوم القيامة‪ .‬ونقيب القوم‪ :‬ضمينهم وعريفهم‪ .‬وقد نقب عليهم نِقابة‪ :‬أي صار‬ ‫(‪)1‬‬

‫ضميناً وعريفاً لهم‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫قال‪ :‬فغشي على يحيى فلم يفق ثالثة أيام‪ ،‬فلما أفاق قال‪ :‬سبحانك سبحانك ما أكثر‬
‫توددك إلى أوليائك وأصفيائك‪ ،‬ال يفصل عنك األمل‪ ،‬يا خير صاحب وأنيس‪ ،‬فنعم‬
‫أنت ونعم النصير‪ .‬وروي أن اهلل تعالى قال في بعض كتبه‪ " :‬إذا كان الغالب‬
‫المولى َ‬
‫على قلب عبدي االشتغال واألنس بي‪ ،‬رفعت الحجاب بيني وبينه في الباطن‪ ،‬حتى‬
‫إلي (‪.")1‬‬
‫كأنه ينظر ّ‬
‫وروي أن اهلل تعالى قال في بعض الكتب‪ :‬وعزتي وجاللي ألقطعن أمل كل‬
‫ُ‬
‫فقطعت‬
‫ُ‬ ‫مؤمل غيري باإلياس‪ ،‬يؤمل عبدي غيري والخير كله بيدي‪َ ،‬من الذي أملني‬
‫ِّ‬
‫عنه أمله‪ ،‬ومن الذي رجاني فخيبت رجاءه‪ ،‬ومن الذي قرع بابي بالدعاء فلم أفتح له؟‬
‫عبدي تنعم بذكري‪ ،‬فإني نعم الحبيب لك في الدنيا واآلخرة‪ ،‬عبدي ستذكرني إذا‬
‫أعرضت‬
‫َ‬ ‫جربت غيري بأني لك خير من كل ما سواي‪ ،‬عبدي ما استحييت مني أن‬
‫إلي ال إلى‬ ‫ِ‬
‫وجهك عني‪ ،‬وتُقبل على غيري؟ عبدي إلى أين تذهب وطريق الوسيلة ّ‬
‫غيري‪ ،‬عبدي أين َمن دعاني فلم أجبه‪ ،‬وأين َمن سألني فلم أعطه‪ ،‬عبدي بابي لك‬
‫مفتوح‪ ،‬عطائي لك مبذول‪ ،‬وأنا أرحم الراحمين‪.‬‬
‫وروي أن اهلل تعالى قال لموسى عليه الصالة والسالم‪ :‬حقَّت محبتي‬
‫للمتحابين من أجلي‪ ،‬وحقت محبتي للمتواصلينـ من أجلي‪ ،‬وحقت محبتي للمتزاورين‬
‫من أجلي‪ ،‬يا موسى إن ذكرتني ذكرتك‪ ،‬وإ ن رضيت عني رضيت عنك‪ ،‬وإ ن كنت‬
‫بت مقعدك‬
‫وقر ُ‬
‫ترد على حكمي واليتك واصطفيتك‪َّ ،‬‬ ‫لي فرداً كنت لك الفرد‪ ،‬وإ ن لم َّ‬
‫أحببت فأحبني حتى أحبك‪ ،‬وأحببك‬
‫َ‬ ‫فت فخفني حتى أؤمنك‪ ،‬وإ ذا‬‫مني‪ ،‬يا موسى إذا ِخ َ‬
‫إلي حتى أنظر إليك من فوق عرشي‪.‬‬
‫إلى قلوب الصالحين‪ ،‬وإ ذا نظرت فانظر ّ‬
‫وروي في بعض األخبار أن اهلل تعالى يقول يوم القيامة ألوليائه‪ :‬يا أوليائي‬
‫طالما لحظتكم‪ ،‬ورأيتكم في دار الدنيا وقد غارت أعينكم‪ ،‬وقلصت شفاهكم‪ ،‬وخفت‬
‫بطونكم‪ ،‬فكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في األيام الخالية‪ ،‬أوليائي وأحبائي‬

‫أخرجه أبو نعيم في حلية األولياء عن الحسن البصري مرسالً [ كنز العمال ‪.]1/1872‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪165‬‬
‫جزائي لكم أفضل البذل‪ ،‬وفضلي لكم أوفر الفضل‪ ،‬ومعاملتي إياكم أحسن المعاملة‪،‬‬
‫ومطالبتي إياكم أشد المطالبة‪ ،‬أنا مؤنس القلوب‪ ،‬وأنا عالّم الغيوب‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫الحديث الثاني والثالثون‬

‫[ المتوكل‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم ]‬

‫أخبرنا شيخنا الشيخ الجليل أبوالفضل علي الواسطي قال‪ :‬أنبأنا أبوالحسن‬
‫عبدالرحمن الداودي قال‪ :‬أنبأنا أبومحمد عبداهلل السرخسي قال‪ :‬أنبأنا أبو عبداهلل‬
‫محمد بن يوسف الفربري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو عبداهلل محمد بن إسماعيل البخاري‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثنا عبداهلل بن مسلمة‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة عن هالل بن أبي هالل‬
‫عن عطاء بن يسار عن عبداهلل بن عمرو بن العاص أن هذه اآلية التي في القرآن‪:‬‬
‫( يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)(‪ )1‬قال في التوراة يا أيها النبي إنا‬
‫وحرزاً لألميين‪ ،‬أنت عبدي ورسولي‪ ،‬سميتك المتوكل‪،‬‬ ‫أرسلناك شاهداً ومبشراً‪ِ .‬‬
‫سخاب باألسواق‪ ،‬وال يدفع السيئة بالسيئة‪ ،‬ولكن يعفو‬ ‫ليس ٍّ‬
‫بفظ وال غليظ‪ ،‬وال ّ‬
‫ويصفح‪ ،‬ولن يقبضه اهلل حتى ُيقيم به الملة العوجاء‪ ،‬بأن يقولوا ال إله إال اهلل‪ ،‬فيفتح‬
‫صماً‪ ،‬وقلوباً ُغلفاً (‪ .)2‬ولنا بهذا السند عن البخاري قال‪ :‬حدثنا‬
‫بها أعيناً ُعمياً‪ ،‬وآذاناً ُ‬
‫خالد بن مخلد قال‪ :‬حدثنا سليمان قال‪ :‬حدثنا عبداهلل بن دينار‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن‬
‫أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ ": :‬الرحم شجنة‬

‫سورة األحزاب‪.45 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أخرجه بهذا اللفظ اإلمام البخاري في التفسير (سورة الفتح) باب‪ ( :‬إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)‬ ‫(‪)2‬‬

‫[ الفتح ‪ ]8‬رقم ‪ 4558‬وفي البيوع‪ ،‬باب كراهية السخب في السوق‪ ،‬رقم ‪ 2018‬وأوله في البيوع‪ " :‬عن عطاء‬
‫بن يسار‪ ،‬قال‪ :‬لقيت عبداهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما‪ ،‬قلت‪ :‬أخبرني عن صفة رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم في التوراة‪ ،‬قال‪ :‬أجل‪ ،‬واهلل إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن‪ ( :‬يأيها النبي إنا‬
‫سخاب‪ :‬يرفع صوته على‬
‫الخلق‪ّ .‬‬
‫أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) وحرزاً لألميين‪ " ..‬الحديث‪ .‬وفظ‪ :‬سيء ُ‬
‫الناس‪ُ .‬غلفاً‪ :‬غطتها ظلمة الشرك‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫ِ‬
‫قطعك قطعته" (‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫وصلك وصلته‪ ،‬ومن‬ ‫من الرحمن‪ ،‬فقال اهلل‪َ :‬من‬
‫يقوم العوجاء‬
‫فالحديث األول أفاد أن اهلل ُيسعف نبيه صلى اهلل عليه وسلم حتى ِّ‬
‫بكلمة ال إله إال اهلل‪ ،‬والحديث الثاني أفاد أن الرحم من أشعة نور الرحمن‪َ ،‬من وصلها‬
‫السرين في الحديثين‪ ،‬هو فتح القلب والعين‬
‫ومن قطعها انقطع‪ ،‬والجمع بين ّ‬
‫اتصل‪َ ،‬‬
‫واألذن بالتوحيد الخالص وإ يصال القلب بالرحمن‪ ،‬بحبل الرحمة والشفقة على‬
‫الخلق‪ ،‬وبهذا تَ َّ‬
‫عين األقرب فاألقرب‪ ،‬يفهم ذلك العارف‪ ،‬فكلمة التوحيد تفيد اإليمان‬ ‫َ‬
‫المبطن‬
‫بخلُق اهلل‪ ،‬وهو الرحمن‪ ،‬وإ ليه المرجع في َ‬
‫باهلل‪ ،‬وصلة الرحم تفيد التخلق ُ‬
‫ِ‬
‫والعيان‪ ،‬وبه المستعان‪ ،‬وعليه التكالن‪ ،‬وما ذاك إال إلعظام أمر اهلل‪ ،‬وهو من إعظام‬
‫اهلل‪.‬‬
‫قال يحيى بن معاذ‪ :‬اعرف ُحرمة من ال تعرف الفض َل إال منه‪ ،‬وال ترجو‬
‫وزينك‬
‫ك شيئاً‪ّ ،‬‬
‫الراحةَ إال منه‪ ،‬واستحي منه حق الحياء‪ ،‬واذكر امتنانه إذ خلقك ولم ت ُ‬
‫بنور المعرفة‪ ،‬حتى كأنك لم تزل تعرفه‪ ،‬ولوال فضله ورحمته عليك‪ ،‬كيف كنت‬
‫سرك وضمائرك من الشك‬
‫طهََّر ّ‬
‫تعرفه بأنه موالك‪ ،‬من غير أن تراه بعينك؟ ثم َ‬
‫وتو َجك بتاجه بال سؤال‪ ،‬ثم دعاك إلى‬
‫والشبهة والنفاق‪ ،‬وألبسك من أحسن لباسه‪َّ ،‬‬
‫دار السالم‪ ،‬ويقال‪ :‬ال يزال المؤمن عظيماً ما أعظم اهلل‪ ،‬وعظَّم أمره‪ ،‬وعظّم‬
‫أولياءه‪ ،‬وعرف قدرهم وحرمتهم‪.‬‬
‫وحكي أن رجالً من ملوك الدنيا قال لشقيق(‪ )2‬سل حاجتك قال‪ :‬إني‬
‫ُ‬

‫البخاري‪ :‬األدب‪ ،‬باب َمن وصل وصله اهلل‪ ،‬رقم ‪ 5642‬وفتح الباري ‪ 10/417‬وأحمد في المسند ‪ 2956‬و‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 8954‬و ‪ 9832‬و ‪ .9244‬ويجوز في شين " شجنة" الضم والكسر والفتح‪ ،‬فهي من المثلثات‪ ،‬وهي في األصل‪:‬‬
‫عروق الشجر المشتبكة‪.‬ـ من الرحمن‪ :‬اشتُق اسمها من هذا االسم الذي هو صفة من صفات الرحمن‪ .‬والمعنى‪( :‬‬
‫ومن وصلها وصلته‬ ‫أن الرحم أثر من آثار رحمته تعالى مشتبكة بها‪ ،‬فمن قطعها منقطعٌ من رحمة اهلل َّ‬
‫عز وج ّل‪َ ،‬‬
‫رحمة اهلل تعالى) [ تعليق الدكتور مصطفى البغا على الحديث بهامش الجزء الخامس ص ‪( 2232‬صحيح‬
‫البخاري‪ ،‬مؤسسة الخدمات الطباعية في بيروت)‪.‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫شقيق بن إبراهيم األزدي البلخي‪ ،‬توفي سنة ‪ 194‬هـ‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫إلي يقول َسل حاجتك بال حشمة‪ ،‬حتى‬
‫ألستحي من ربي أن أسألك‪ ،‬وموالي ناظر ّ‬
‫جماعةٌ من‬ ‫(‪)1‬‬
‫أرضى عنك‪ ،‬وال تسأل غيري فأمقتك‪ .‬ودخل على رابعة البصرية‬
‫الزهاد وفيهم سفيان الثوري (‪ ،)2‬فرأوا لها حالة رثة‪ ،‬فقال لها بعضهم‪ :‬أما تُرسلين‬
‫إلى بعض مواليك ليعطيك شيئاً؟ فقالت‪ :‬واهلل إني ألستحيي أن أسأل الدنيا ممن‬
‫يملكها‪ ،‬فكيف ممن ال يملكها‪ .‬وقيل ألبي عبداهلل‪ :‬ما صفة المريدين؟ قال‪ :‬أن يكونوا‬
‫مع الناس بأبدانهم‪ ،‬وقلوبهم تحت العرش كأنهم يرون ربهم فوق عرشه‪ ،‬ويستحيون‬
‫أن يسألوه شيئاً سواه‪.‬‬
‫وفي الخبر‪ " :‬أرأيتم سليمان وما أعطي من الملك‪ ،‬فإنه لم يرفع رأسه إلى‬
‫وحياء منه‪ ،‬حتى قبضه اهلل" (‪ .)3‬وقال عامر بن عبد قيس(‪ )4‬ما‬
‫ً‬ ‫السماء‪ ،‬تخشعاً هلل‬
‫إلي قب َل نظري إلى ذلك‬ ‫َّ‬
‫إلي منه‪ ،‬وأن نظره ّ‬
‫نظرت إلى شيء إال رأيت اهلل أقرب ّ‬
‫الشيء‪ .‬وكان يحيى بن معاذ رحمه اهلل إذا قرأ ‪ ( :‬ونحن أقرب إليه من حبل‬
‫الوريد)(‪ )5‬قال‪ :‬إلهي هذا قربك إلى أعدائك‪ ،‬فكيف قربك إلى أوليائك؟‬
‫رافعاً رأسه‬ ‫(‪)7‬‬
‫رحمه اهلل‪ :‬ما رأيت إبراهيم التيمي‬ ‫(‪)6‬‬
‫وقال شهر بن َحوشب‬
‫حياء منه‪ ،‬ومرض العارف داود‬
‫وبصره إلى السماء قط‪ ،‬حتى قبضه اهلل ً‬

‫رابعة بن إسماعيل العدوية‪،‬ـ ماتت بحدود ‪ 180‬هـ‪ .‬وقيل سنة ‪ 135‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سفيان بن سعيد الثوري ( ‪ 161 – 97‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫أخرج ابن عساكر عن عبداهلل بن عمرو رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ ( :‬ما شد سليمان‬ ‫(‪)3‬‬

‫طرفه إلى السماء‪ ،‬تخشعاً‪ ،‬حيث أعطاه ما أعطاه) [ كنز العمال ‪.]11/32332‬‬
‫" عامر بن عبداهلل المعروف بابن عبد قيس العنبري البصري التابعي‪ ..‬مات في خالفة معاوية رضي اهلل‬ ‫(‪)4‬‬

‫عنه في بيت المقدس" [ جامع كرامات األولياء ‪.]2/136‬‬


‫سورة ق‪.16 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫شهر بن حوشب األشعري (‪ 100-20‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫إبراهيم التيمي‪ " :‬توفي في حبس الحجاج سنة اثنتينـ وتسعين" [ طبقات الشعراني ‪.]1/41‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫‪169‬‬
‫خرجت إلى صحن الدار‬
‫َ‬ ‫رضي اهلل عنهوهو في جوف بيته‪ ،‬فقيل له‪ :‬لو‬ ‫(‪)1‬‬
‫الطائي‬
‫حتى تهب عليك ريح الهواء‪ ،‬قال‪ :‬إني ألستحي من اهلل أن يراني وأنا أطلب الراحة‬
‫لنفسي في الدنيا‪ .‬ويقال‪ :‬كان في مصر رجل مجذوم فقال‪ :‬إنه يعرف اسم اهلل‬
‫األعظم‪ ،‬فقيل‪ :‬له‪ :‬لو دعوت اهلل باسمه األعظم أن يكشف عنك هذا البالء؟ قال‪ :‬إني‬
‫ألستحي منه أن يكون لي مراد بخالف مراده‪.‬‬
‫وكان سيدنا اإلمام الحسين بن اإلمام علي عليهما السالم‪ ،‬إذا توضأ ليصلي‬
‫أصفر لونه‪ ،‬وارتعدت فرائصه‪ ،‬فقيل له في ذلك‪ ،‬فقال‪ُ :‬ح َّ‬
‫ق لمن وقف بين يدي رب‬
‫يصلي‪ ،‬فانهدمت‬ ‫(‪)2‬‬
‫حياء من إجالله‪ .‬وكان مسلم بن يسار‬
‫العرش أن يتغير لونه ً‬
‫زاوية المسجد ولم يشعر‪ .‬وكان اإلمام علي بن أبي طالب عليه السالم ترتعد فرائصه‬
‫عند قضاء أمانة لم تحملها السموات واألرض‪ ،‬وهي الصالة‪ .‬ولدغت امرأةً حيةٌ في‬
‫أربعين موضعاً ولم تشعر‪ ،‬من حالوة الصالة‪.‬‬
‫وكان مسلم بن يسار يصلي‪ ،‬فوقع الحريق في بيته‪ ،‬وفزع الناس إليه‪ ،‬حتى‬
‫إني ألستحيي من اهلل أن أنام تكلفاً حتى‬ ‫(‪)3‬‬
‫أطفؤوها ولم يشعر‪ .‬قال الجريري‬
‫ما رفعت بصرها إلى السماء‬ ‫(‪)4‬‬
‫يصرعني النوم‪ .‬وحكي أن معاذة بنت عبداهلل‬
‫أربعين عاماً‪ ،‬وكانت تقول‪ :‬عجبت لعين تنام‪ ،‬والحبيب إليها ناظر‪ ،‬وربما كانت‬
‫تتفكر في جاللته وعظمته‪ ،‬حتى ُيغشى عليها‪ .‬وكان داود عليه الصالة والسالم ال‬
‫يرفع رأسه إلى السماء هيبةً من إجالله تعالى‪ .‬وقال ابن سنان (‪ :)5‬ما اتخذ اهلل‬
‫إبراهيم خليالً حتى ألقى في قلبه إجالالً منه‪ ،‬بحيث يسمع خفقان قلبه كالطير في‬
‫الهواء‪.‬‬
‫عالمة السعداء ثالث‪ :‬التمسك بسنة النبي المختار صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫والصحبة مع‬

‫داود بن نصير الطائي‪ ،‬توفي سنة ‪ 165‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫مسلم بن يسار‪ ،‬مفتي البصرة‪ ،‬توفي سنة ‪ 108‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري‪ ،‬مات سنة ‪ 311‬هـ [ طبقات الشعراني ‪.]1/94‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫معاذة بنت عبد اهلل العدوية‪،‬ـ تابعية محدثة‪ ،‬ماتت سنة ‪ 83‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫أبو جعفر أحمد بن حمدان بن علي‪ .‬مات سنة ‪ 311‬هـ [ الشعراني ‪.]1/103‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪170‬‬
‫ومكتوب في الزبور‪ :‬يا داود إني‬
‫ٌ‬ ‫األولياء األخيار‪ ،‬والحياء من الملك الجبار‪،‬‬
‫ألستحيي من عبدي أن أرده إذا دعاني‪ ،‬وإ ن عبدي ال يستحيي أن أدعوه فال يجيبني‪.‬‬
‫قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬اإلحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن‬
‫قال الفضيل‪ :‬إلهي ارحم َمن لو عقل لم يتكلم من الحياء‪ .‬وحكي‬ ‫(‪)1‬‬
‫تراه فإنه يراك"‬
‫انفلت من صالته مسح ظهورهم‬
‫َ‬ ‫أن عامر ابن قيس كان يصلي‪ ،‬فاكتنفته السباع‪ ،‬فلما‬
‫بيده‪ ،‬وقال‪ :‬أنتم كالب اهلل‪ ،‬وأنا عبد اهلل‪ ،‬فقيل له‪ :‬هل ِه َ‬
‫بت منهم؟ قال‪ :‬إني ألستحيي‬
‫من ربي أن أهاب شيئاً دونه‪.‬‬
‫الم ّري (‪ :)2‬رأيت ربي في المنام ليلة‪ ،‬قلت‪ :‬لبيك لبيك‪ ،‬وصرت‬
‫وقال صالح ُ‬
‫كالبعوضة من إجالله‪ ،‬فقال‪ :‬يا صالح إني لخبير بالمريدين‪ ،‬وإ ني أسمع أنينهم‪،‬‬
‫حياء‬
‫وأرى حركاتهم‪ ،‬وإ ني لمطلع على سرائرهم وضمائرهم‪ ،‬قال‪ :‬فدهش عقلي ً‬
‫وحكي أن الحسن البصري صعد موضعاً يؤذن للصالة‪ ،‬فلما قال‪ :‬أشهد أن ال‬
‫منه‪ُ .‬‬
‫إله إال اهلل ُغشي عليه من إجالله‪.‬‬
‫وقالت عائشة رضي اهلل عنها‪ " :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يحدثنا‬
‫وقال بعض أهل المعرفة‬ ‫(‪)3‬‬
‫ونحدثه‪ ،‬فإذا حضرت الصالة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه"‬
‫في معنى قوله عليه الصالة والسالم‪ُ " :‬جعلت قرة عيني في الصالة (‪ ،)4‬لم تكن‬
‫الصالة قرة عينه‪،‬‬

‫البخاري‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب سؤال جبريل النبي صلى اهلل عليه وسلم عن اإليمان واإلسالم واإلحسان وعلم‬ ‫(‪)1‬‬

‫الساعة‪ ،‬رقم ‪ 50‬وهو عن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ .‬ومسلم اإليمان‪ ،‬باب بيان اإليمان واإلسالم واإلحسان‪،‬‬
‫ووجوب اإليمان بإثبات قدر اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬رقم ‪ 9‬و ‪ 10‬وأخرجه برقم ‪ 8‬عن عمر بن الخطاب رضي اهلل‬
‫عنه‪.‬‬
‫أبو بشر صالح المري‪ :‬انظر فيه طبقات الشعراني ‪.1/46‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫إحياء علوم الدين (دار المعرفة) ‪ 1/150‬وقال الحافظ زين الدين العراقي‪ :‬أخرجه األزدي في الضعفاء من‬ ‫(‪)3‬‬

‫حديث سويد بن غفلة مرسالً‪ " :‬كان النبي صلى اهلل عليه وسلم إذا سمع األذان كأنه ال يعرف أحداً من الناس"‪.‬‬
‫مسند أحمد ‪ 10/12233‬و ‪ 12234‬و ‪ 11/12991‬والنسائي في عشرة النساء ‪.7/61‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪171‬‬
‫تقر عينه‪ ،‬لقوله‪ " :‬اإلحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه"‪.‬‬
‫ولكن إذا قام للصالة رأى فيها ما ُّ‬
‫صليت خلف ذي النون صالة العصر‪ ،‬فلما أراد‬ ‫ُ‬ ‫وقال الفضي ُل بن عياض‪:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وبقي كأنه جسد ال روح فيه من إجالله‪ ،‬ثم قال‪ :‬أكبر‪،‬‬ ‫أن يكبِّر‪ ،‬رفع يديه وقال‪ :‬اهلل‪ ،‬فبهت‬
‫فظننت أن قلبي ينخلع من هيبة تكبيره‪.‬‬

‫ظهر تقواهُ‬
‫فكلهم ُي ُ‬ ‫قل حياء الناس من ربهم‬
‫(‪)2‬‬
‫َمن بالى في عاجل دنياهُ‬ ‫الخبث في ثو ِب ِ!ه‬
‫َ‬ ‫ليس يبالي‬
‫قت موالهُ‬
‫وال يبالي َم َ‬ ‫يخاف أن يمقته! أهلُ ُه‬
‫ُ‬

‫َب ِه َ‬
‫ت‪ :‬دهش وتحيَّر‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫ُخطفت األلف المقصورة في بالى ليستقيم الوزن‪ ،‬وهي ضرورة شعرية غير معهودة في شعر األقدمين‪.‬ـ‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪172‬‬
‫الحديث الثالث والثالثون‬

‫[ اللهم بارك لنا في رجب وشعبان ‪]...‬‬

‫أخبرنا شيخنا القاضي المقري القدوة الشيخ أبو الفضل علي الواسطي رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو علي الحسن بن علي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عمر بن أحمد‪ ،‬أنبأنا‬
‫شاهين‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عبداهلل البغوي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عبداهلل بن عمر القواريري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا‬
‫زائدة بن أبي الرقاد‪ ،‬عن زياد النميري‪ ،‬عن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا دخل رجب قال‪ ( :‬اللهم بارك في رجب وشعبان‬
‫وبلغنا رمضان (‪.))1‬‬
‫في هذا الحديث الشريف ٍ‬
‫معان كثيرة‪ ،‬منها طلب فسحة األجل لصالح العمل‪،‬‬
‫ليكون العمر اهلل‪ ،‬والعمل فيه هلل‪ ،‬وكذلك مقاصد العارفين باهلل‪ ،‬الوارثين رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهذا حال أهل التقوى‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن التقوى على وجهين‪ :‬خاص وعام‪ ،‬فأما التقوى الخاص‬
‫والم ْنية من غير ذات اهلل تعالى‪ ،‬حيث قال اهلل تعالى‪( :‬اتقوا‬ ‫ِ‬
‫فاالتقاء بالسر عن اله ّمة ُ‬
‫اهلل حق تقاته)(‪ ،)2‬وأما التقوى العام فاالتقاء بالظاهر عن جميع ما كره اهلل تعالى‪،‬‬
‫قال اهلل سبحانه ( ومن يتق اهلل يكفر عنه سيئاته)(‪ ،)3‬واهلل تعالى جعل الفَ َر َج‬
‫واليسر والسَّعة في التقوى‪ ،‬لقوله تعالى‪ ( :‬ومن يتق اهلل يجعل‬ ‫والمخر َج من الهموم‪ُ ،‬‬
‫َ‬
‫له من أمره يسراً)(‪ ،)4‬وقوله تعالي‪ ( :‬ومن يتق اهلل يجعل له مخرجاً)(‪ )5‬اآلية‪.‬‬

‫ضعيف وهو في مسند أحمد (مسند ابن عباس رضي اهلل عنهما ‪ 3/2346‬وحقه أن يثبت في مسند أنس بن‬ ‫(‪)1‬‬

‫مالك رضي اهلل عنه‪ ،‬وهو من زيادات عبداهلل بن أحمد‪ .‬ومجمع الزوائد (الفكر) ‪ 2/375‬رقم ‪ 3006‬وقال‬
‫الهيثمي‪ " :‬رواه البزار وفيه زائدة بن أبي الرقاد‪ .‬قال البخاري‪ :‬منكر الحديث‪ ،‬وجهّله جماعة" والمعجم األوسط‬
‫للطبراني‪ ،‬رقم ‪.3939‬‬
‫سورة آل عمران‪.102 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة الطالق‪.5 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة الطالق ‪.4 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة الطالق‪2 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪173‬‬
‫قيل في معناه‪ :‬ومن يتق اهلل في أداء الطاعة‪ ،‬يجعل له مخرجاً من غبار‬
‫الذنوب والزالت‪ ،‬ويرزقه النجاة من العقوبات‪ ،‬من حيث ال يحتسب‪ .‬ومعنى آخر‪:‬‬
‫بالحجة‪ ،‬يجعل له مخرجاً من ِش ّد ِة المحاسبة‪ ،‬ويرزقه سالمة‬
‫ومن يتق اهلل عند اإلنابة ُ‬
‫الدارين من حيث ال يحتسب‪ .‬ومعنى آخر‪ :‬يجعل له مخرجاً من جميع االشتغال بغير‬
‫اهلل‪ ،‬ويرزقه حياة طيبة‪ ،‬من حيث ال يحتسب‪ .‬ومعنى آخر‪ :‬من يتق اهلل بترك‬
‫المحارم والشبهات‪ ،‬يجعل له مخرجاً من اإلرادات والشهوات‪ ،‬ويرزقه حالوة‬
‫الطاعة من حيث ال يحتسب‪ ،‬ومن يتق اهلل عند قول الحق‪ ،‬وال يخاف لومة الئم‪،‬‬
‫ومن‬ ‫َّ‬
‫يجعل له مخرجاً من مكر الناس ومكائدهم‪ ،‬ويرزقه الظفَر من حيث ال يحتسب‪َ ،‬‬
‫يتق اهلل بترك التعلّق بغير اهلل يجعل له مخرجاً من عبودية ما سواه‪ ،‬ويرزقه الصدق‬
‫واإلخالص من حيث ال يحتسب‪.‬‬
‫يروى أن أبا هريرة سمع النبي صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ " :‬إذا كان يوم‬
‫القيامة يقول اهلل تعالى‪ :‬يا أيها الناس إني جعلت نسباً‪ ،‬وأنتم جعلتم نسباً‪ ،‬إني جعلت‬
‫أكرمكم أتقاكم‪ ،‬وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم‪ ،‬وإ ني أرفع اليوم نسبي وأضع نسبكم‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫فأين المتقون‪ ،‬اليوم ال خوف عليكم وال أنتم تحزنون"‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ " :‬الحالل بيِّن‪ ،‬والحرام بيِّن‪ ،‬وبينهما أمور‬
‫كثير من الناس‪ ،‬فمن اتقى الشبهات سلم دينه‪ ،‬ومن وقع في‬
‫متشابهات‪ ،‬ال يعلمها ٌ‬
‫فـ " دع ما يريبك إلى ما ال يريبك"(‪.)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الشبهات وقع في الحرام"‬

‫إتحاف السادة المتقين ‪ [ 9/210‬موسوعة أطراف الحديث لمحمد زغلول (عالم التراث ‪.]3/644‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫البخاري‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب‪ :‬فضل من استبرأ لدينه‪،‬ـ رقم ‪ 52‬والبيوع‪ ،‬باب‪ ( :‬الحالل بيِّن والحرام بيِّن وبينهما‬ ‫(‪)2‬‬

‫مشبهات) ‪ 1946‬ومسلم في المساقاة‪ ،‬باب‪ :‬أخذ الحالل وترك الشبهات‪ ،‬رقم ‪.1599‬‬
‫ّ‬
‫(‪ )3‬صحيح‪ .‬أخرجه الترمذي في صفة القيامة‪ ،‬الباب ‪ 61‬رقم ‪ 2520‬والنسائي‪ :‬األشربة‪= ،‬‬

‫‪174‬‬
‫وقال عيسى عليه الصالة والسالم‪ :‬لو صمتم حتى تكونوا كاألوتار‪ ،‬وصليتم‬
‫منبه(‪َ :)1‬من‬
‫حتى تكونوا كالحنايا‪ ،‬ما قبل منكم إال بورع صادق‪ .‬وقال وهب بن ّ‬
‫فر الشيطان من ظله‪ ،‬ومن غلب عقلُه هواه فذاك الصابر‬
‫وضع شهواته تحت قدميه‪َّ ،‬‬
‫الغالب‪.‬‬
‫وقيل لرجل من أهل التقوى‪ :‬من أين جئت؟ قال‪ :‬ما سؤالك عن شيء ال‬
‫ينفعك معرفته‪ ،‬وال يضرك جهله‪ ،‬فاشتغل بما يعنيك عما ال يعنيك‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما رأس‬
‫التقوى؟ قال‪ :‬أن تحفظ نفسك من الشهوات‪ ،‬وحلقك من اللذات‪ ،‬وقلبك من الغفالت‪.‬‬
‫وقال‪ :‬اتق اهلل الذي آخذ آدم بلقمة‪ ،‬وموسى بلطمة‪ ،‬وداود بنظرة‪ ،‬ويوسف‬
‫ب ِه ّمة‪ ،‬ونوحاً بدعوة‪ ،‬ومحمداً بخطرة‪ ،‬صلوات اهلل عليهم أجمعين‪ .‬وقال عبيد بن‬
‫عمير (‪ :)2‬ال ينبغي لمن تزين بلباس الورع والتقوى أن ينظر إلى زهرات الدنيا‪،‬‬
‫ويتكلم بما ال يعنيه‪.‬‬
‫وقال جعفر الخلدي(‪ :)3‬بلت في أصل حائط‪ ،‬فهتف بي هاتف‪َّ :‬‬
‫تدعي التقوى‬
‫وتبول في أصل حائط غيرك؟‬
‫ارتحل من َم ْر َو إلى الشام‪ ،‬من أجل قلم كان قد‬ ‫(‪)4‬‬
‫وحكي أن ابن المبارك‬
‫ُ‬
‫استعاره فلم يرده إلى صاحبه‪ ،‬وفي الخبر‪ :‬ال تفضلوا أحداً على أحد إال بالورع‬
‫والتقوى‪ ،‬ألنهما أفضل األعمال‪.‬‬

‫(= باب الحث على ترك الشبهات ‪ 8/327‬و ‪ 328‬وأحمد في المسند (حديث الحسن بن علي رضي اهلل عنه عن‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ 2/1727‬وحديث أنس بن مالك رضي اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ .10/12488‬وانظر النسائي ‪( 8/230‬القضاة‪ ،‬باب الحكم باتفاق أهل العلم)‪.‬‬
‫منبه الصنعاني الذماري‪ :‬مؤرخ من التابعين ( ‪ 114 – 34‬هـ)‪.‬‬
‫وهب بن ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫عبيد بن عمير المكي‪ ،‬من وعاظ مكة‪ ،‬من التابعين‪ ،‬توفي سنة ‪ 68‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪ :‬جعفر بن محمد ‪ 348 – 253‬هـ‪ .‬شيخ الصوفية في أيامه ببغداد‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫عبد اهلل بن المبارك المروزي (‪ 181 – 118‬هـ) صاحب الزهد‪ ،‬والجهاد‪ ،‬وهما كتابان في الحديث النبوي‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪175‬‬
‫ما من أحد ترك شيئاً هلل إال آتاه اهلل ما‬ ‫(‪)1‬‬
‫ُبي بن كعب رضي اهلل عنه‬
‫وقال أ ّ‬
‫حرام على كل قلب فيه‬
‫ٌ‬ ‫هو خير له منه من حيث ال يحتسب‪ .‬وقال ابن سيرين(‪:)2‬‬
‫رحمه اهلل‪ :‬القليل من‬ ‫(‪)3‬‬
‫حب الدنيا أن تسكن فيه التقوى‪ .‬وقال عمر بن عبدالعزيز‬
‫الورع‪ ،‬خير من صالة أهل الدنيا‪.‬‬
‫خلقت آدم بيدك‪ ،‬وأدخلته‬
‫َ‬ ‫وروي أن موسى عليه الصالة والسالم قال‪ :‬إلهي‬
‫ُ‬
‫الجنة‪ ،‬وفعلت به ما فعلت من اإلحسان‪ ،‬ثم أخرجته منها بزلة واحدة‪ .‬فقال‪ :‬يا موسى‬
‫أما علمت أن جفاء الحبيب شديد‪ ،‬ما يحتمل من األعداء‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫السعيد‬
‫ُ‬ ‫التقي هــــو‬
‫َّ‬ ‫ولكن‬
‫َّ‬ ‫جمع ٍ‬
‫مال‬ ‫ولست أرى السعادةَ َ‬
‫ُ‬

‫أبي بن كعب األنصاري الخزرجي‪ :‬من علماء الصحابة ومجاهديهم رضوان اهلل عليهم‪ .‬توفي سنة‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 21‬هـ‪.‬‬
‫محمد بن سيرين البصري (‪ 110-33‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫أمير المؤمنينـ عمر بن عبدالعزيز بن مروان‪ ،‬أبو حفص‪ ،‬الخليفة الصالح (‪ 99- 61‬هـ)‬ ‫(‪)3‬‬

‫للحطيئة بعد توبته وإ نابته‪ ،‬وبعده‪:‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫يد‬ ‫وعند ِ‬
‫اهلل لألتقى َم ِز ُ‬ ‫َ‬ ‫وتقوى اهلل خير ِ‬
‫الزاد ُذخراً‬ ‫ُ‬

‫‪176‬‬
‫الحديث الرابع والثالثون‬

‫[ َمن ُولد له مولود فسماه محمداً]‬

‫أخبرنا شيخنا القاضي القدوة أبو الفضل علي الواسطي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أبو‬
‫الحسن محمد بن أحمد‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو عبداهلل الحسين‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أحمد بن بكير بن‬
‫حماد العسكري‪ ،‬عن إسحاق بن سيار‪ ،‬عن حجاج بن منهال‪ ،‬عن حماد بن‬
‫حامد‪ ،‬عن ّ‬
‫سلمة‪ ،‬عن برد بن سنان‪ ،‬عن مكحول‪ ،‬عن أبي أمامة الباهلي‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪َ " :‬من ُولد له مولود فسماه محمداً تبركاً به‪ ،‬كان هو ومولوده في‬
‫الجنة"(‪.)1‬‬
‫في هذا الحديث الشريف ِمن ِس ِّر الحب له صلى اهلل عليه وسلم ما يفهمه أهل‬
‫الخصوصية‪ ،‬فإنهم بذكر اسمه المبارك ترتاح هممهم للتخلق بأخالقه الزكية‪،‬‬
‫وللتشبث بأذياله‪ ،‬فتراهم ال تقف هممهم في طريق متابعته وقفة المشغول بالدنيا‪ ،‬بل‬
‫هم متنبهون خاشعون‪ ،‬ومن اهلل خائفون‪ ،‬ولنبيهم متبعون‪ ،‬وبسنته عاملون‪ ،‬وأولئك‬
‫هم العارفون‪.‬‬

‫واآللى المصنوعة للسيوطي‪( ،‬دار الكتاب العربي) ‪1/55‬‬


‫ْ‬ ‫الموضوعات البن الجوزي (ط‪1/157 )1‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫واألسرار المرفوعة لعلي القاري (الرسالة) ‪ 435‬والسلسة الضعيفة‪( ،‬المكتب اإلسالمي) ‪ 171‬وتذكرة‬
‫الموضوعات لمحمد طاهر الهندي (بيروت) ‪ 89‬وقال الهندي‪ " :‬في إسناده َمن تكلم فيه‪ .‬قلت‪ :‬رجاله كلهم ثقات‬
‫معروفون‪ ،‬ورمي بعضهم بالقدر‪ ،‬وهو غير قادح" وكشف الخفاء (التراث اإلسالمي) ‪ 2/393‬برقم ‪ 2644‬وقال‬
‫العجلوني‪ " :‬رواه ابن عساكر عن أبي أمامة رضي اهلل عنه رفعه‪ .‬قال السيوطي في مختصر الموضوعات‪:‬‬
‫( هذا أمثل حديث ورد في هذا الباب‪ .‬وإ سناده حسن) ورواه الرافعي بلفظ َمن ُولد له مولود ذكر فسماه محمداً حباً‬
‫لي وتبركاً باسمي‪ [ "..‬كنز العمال ‪ ]16/45223‬والسيوطي في الحاوي للفتاوي (السعادة) ‪2/100‬و ‪114‬‬
‫[ موسوعة أطراف الحديث ‪.]8/602‬‬

‫‪177‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن أهل المعرفة يبكون إذا ضحك أهل الغفلة‪ ،‬ويحزنون إذا‬
‫فرح أهل ِ‬
‫الغ َّرة‪ ،‬قال اهلل تعالى (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة)(‪ )1‬وقوله‪:‬‬
‫(وجوه يؤمئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة!)(‪ )2‬وأن اهلل تعالى ذكر من دالئل المعرفة‬
‫(‪)3‬‬
‫ومن عالمات العارفين كثرة البكاء وسيل الدموع‪ ،‬قال (ويخرون لألذقان يبكون)‬
‫اآلية‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫وذم أهل الغفلة بالضحك وترك البكاء في قوله (أفمن هذا الحديث تعجبون)‬
‫بكاء العين فهو‬
‫وبكاء القلب وبكاء السر‪ ،‬فأما ُ‬
‫ُ‬ ‫بكاء العين‪،‬‬
‫البكاء ُ‬
‫َ‬ ‫واعلم أن‬
‫ألهل المعرفة من المنيبين‪ ،‬وأما بكاء القلب فهو ألهل المعرفة من المريدين‪ ،‬وأما‬
‫بكاء السر فهو ألهل المعرفة من المحبين‪.‬‬
‫واعلم أن ألهل المعرفة هموماً مخبوءة تحت أسرارهم‪ ،‬مستورة عن أفكارهم‬
‫فكلما هاج من أسرارهم رياح خشية الهيبة‪ ،‬ومن قلوبهم لهب نيران األحزان‪ ،‬أحرقت‬
‫ما عليها من هشيم الغفلة والنسيان‪.‬‬
‫بكاء الحياء‪ ،‬مثل بكاء آدم‪ ،‬وبكاء الخطيئة‪ ،‬مثل‬
‫والبكاء على خمسة أوجه‪ُ :‬‬
‫بكاء داود‪ ،‬وبكاء الخوف مثل بكاء يحيى بن زكريا‪ ،‬وبكاء الفقد‪ ،‬مثل بكاء يعقوب‪،‬‬
‫وبكاء الهيبة‪ ،‬مثل بكاء سائر األنبياء‪ ،‬وهو قوله تعالى (إذا تتلى عليهم ءايت‬
‫اآلية‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫الرحمن)‬
‫وبكاء سادس‪ :‬مثل بكاء شعيب ذلك بكاء الشوق والمحبة‪ ،‬بكى شعيب حتى‬
‫ذهب بصره‪ ،‬ثم ُر َّد إليه بصره‪ ،‬فبكى حتى ذهب بصره‪ ،‬ثالث مرات‪ ،‬فأوحى اهلل‬
‫تعالى إليه‪ :‬أن يا شعيب إن كان بكاؤك من مخافة النار فقد أمنتك من النار‪ ،‬وإ ن كان‬
‫بكاؤك من أجل الجنة فقد أوجبت لك الجنة‪ .‬فقال‪:‬‬

‫سورة القيامة‪.23-22 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة عبس‪.39-38 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سورة اإلسراء‪.109 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة النجم‪.59 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة مريم‪.58 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪178‬‬
‫ق ِل َمن أرادني‬
‫ال يا رب ولكن من الشوق إلى رؤيتك‪ ،‬فأوحى اهلل إليه‪ :‬أن يا شعيب َح َّ‬
‫أن يبكي من شوقي‪ ،‬إنه ليس لهذا دواء غير لقائي‪ ،‬ويروى أن النبي عليه الصالة‬
‫ُمة لرحم اهلل تلك األمة ببكائه"(‪.)1‬‬
‫والسالم قال‪ " :‬لو أن عبداً بكى من خشية اهلل في أ ّ‬
‫وقالت رابعة‪ :‬بكيت عشر سنين عن اهلل‪ ،‬وعشر سنين باهلل‪ ،‬وعشر سنين إلى‬
‫اهلل‪ .‬فأما ما هو باهلل فالرجاء به وأما ما هو عن اهلل فالخوف منه‪ ،‬وأما ما هو إلى اهلل‬
‫فجلست‬
‫ُ‬ ‫فالشوق إليه‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬دخلت على رابعة البصرية فإذا هي ساجدة‪،‬‬
‫فسلمت‬
‫ُ‬ ‫عندها حتى رفعت رأسها‪ ،‬فإذا في موضع سجودها ماء واقف من دموعها‪،‬‬
‫عليها فردت علي السالم‪ ،‬وقالت‪ :‬ما حاجتك ؟ قلت‪ :‬أريد زيارتك‪ ،‬فبكت ثم صرفت‬
‫وجهها عني‪ ،‬وكانت تبكي وتقول‪ :‬قرة عيني البد لي منك‪ ،‬فالعجب ممن عرفك‪،‬‬
‫كيف يشتغل بغيرك‪ ،‬والعجب ممن أرادك‪ ،‬كيف يريد غيرك؟‬
‫كثيراً ما يقول في بكائه" اللهم ارحم انقطاعي إليك‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫وكان عطاء السلمي‬
‫وإ عراضي عن سواك‪ ،‬وغربتي في بالدك‪ ،‬ووحشتي بين عبادك‪ ،‬ووقوفي بين‬
‫يديك‪.‬‬
‫وقال الفضيل بين عياض‪ :‬بينا أنا في الطواف‪ ،‬إذ أنا برجل قد تغير لونه‪،‬‬
‫مع نفسه‪ ،‬فدنوت منه‪ ،‬فإذا هو يقول‪ :‬إلهي قد‬ ‫(‪)3‬‬
‫ونحل جسمه‪ ،‬وهو يبكي ويدندن‬
‫قلوب المحبين‪ ،‬واستراحت إليك قلوب العارفين‪ ،‬فال تقطع منك آمال‬
‫ُ‬ ‫أستأنست بك‬
‫ولي لقد أبكيت السموات السبع‪ ،‬اسكت فإن‬
‫المشتاقين‪ .‬قال‪ :‬فسمعت هاتفاً يقول‪ :‬يا ّ‬
‫لك ما سألت‪.‬‬
‫وروي أن آدم عليه الصالة والسالم لما نزل من الجنة‪ ،‬بكى حتى نبت من‬
‫دموعه النبات‪ ،‬فأوحى اهلل إليه‪ :‬هذا البكاء على فوت الجنان‪ ،‬فأين البكاء على ترك‬

‫( ‪)1‬‬
‫الدار المنثور ‪.4/206‬‬
‫انظر طرفا ً من أخباره في الطبقات الكبرى للشعراني (الفكر) ‪ .1/47‬وجامع كرامات األولياء ‪.2/305‬‬ ‫( ‪)2‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫دندن الرجل‪ :‬تكلم بصوت خفي يُسمع وال يُفهم‪ ،‬أو بصوت خافت‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫خدمتي؟ ففزع آدم إلى كلمة اإلخالص‪ ،‬فقال‪ :‬ال إله إال أنت سبحانك‪ ،‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫( فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه)(‪.)1‬‬
‫وقال ذو النون‪ :‬رأيت بمكة رجال يبكي بكاء العارفين‪ ،‬فدنوت منه وقلت‪ :‬ألك‬
‫موافق لك أم‬
‫ٌ‬ ‫قريب أم بعيد؟ قال‪ :‬قريب‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫حبيب؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪ :‬حبيبك‬
‫علمت أن عذاب‬
‫َ‬ ‫مخالف؟ قال‪ :‬بل موافق لي‪ ،‬قلت‪ :‬سبحان اهلل فلم تبكي؟ قال‪ :‬أما‬
‫القرب والموافقة‪ ،‬أشد من عذاب البعد والمخالفة؟‬
‫وحكي أن رابعة كانت تمر يوماً في بعض طرق البصرة‪ ،‬فقطرت عليها‬
‫قطرةٌ من الميزاب‪ ،‬فسألت عنها‪ ،‬فقيل‪ :‬أنها من بكاء الحسن‪ ،‬قالت‪ :‬قولوا للحسن لو‬
‫ازددت بالدموع‪ ،‬حتى تصل العرش محبةً له‪ ،‬لكان قليال‪.‬‬
‫وقيل لعبادة بن شميط بن عجالن‪ :‬هل يبكي المنافق؟ قال‪ :‬أما من الرأس‬
‫فنعم‪ ،‬وأما من القلب فال‪ .‬قال الفضيل‪ :‬إذا رأيت الرجل يبكي‪ ،‬وقلبه ٍ‬
‫ساه فهو بكاء‬
‫منافق‪ ،‬وإ ن البكاء بكاء القلب‪.‬‬
‫قيل لمالك بن دينار (‪ :)2‬أال تجئ بقارئ يقرأ بين يديك؟ فقال‪ :‬إن الثكلى ال‬
‫تحتاج إلى النائحة‪.‬‬
‫إلي من أن أتصدق‬
‫ألن أبكي دمعة من خشية اهلل أحب ّ‬
‫(‪)3‬‬
‫وقال كعب األحبار‬
‫بجبل من الذهب‪ .‬وكان مالك بن دينار كثيراً ما يبكي ويقول‪ :‬يا نفس تريدين أن‬
‫تجاوري الجبار‪ ،‬وتشاهدي المختار‪ ،‬بأي شهوة تركتِها‪ ،‬بأي بعيد قربته إلى اهلل‪ ،‬بأي‬
‫ولي أحببته هلل‪ ،‬بأي عدو أبغضته هلل‪ ،‬بأي غيظ كظمته هلل‪ ،‬ال واهلل لوال عفو اهلل‬
‫ورحمته‪ ،‬ثم يغشى عليه‪ .‬وروي أن اهلل تعالى قال لموسى عليه الصالة والسالم‪ :‬لن‬
‫إلي المتقربون بمثل البكاء من خشيتي‪.‬‬
‫يتقرب ّ‬
‫وقال ثابت النساج رحمه اهلل‪ :‬ما شرب داود عليه الصالة والسالم شربة من‬
‫الماء بعد الخطيئة إلى وكان نصفه دموعه حتى لحق باهلل عز وجل‪ ،‬فقال يوماً من‬

‫سورة البقرة‪.37 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫مالك بن دينار البصري‪ ،‬محدث ورع‪ ،‬مات سنة ‪ 131‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫كعب بن ماتع‪ :‬من علماء التابعين‪ .‬مات سنة ‪ 32‬هـ ودفن في حمص‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪180‬‬
‫األيام فيما رأى من كثرة دموعه‪ :‬أما ترحم بكائي يا إلهي؟ فنودي من السماء يا داود‬
‫تذكر دموعك‪ ،‬وال تذكر ذنبك؟ فأخذ برمض النار من الرماد‪ ،‬وصار يجعله على‬
‫رأسه‪ ،‬ويقول‪ :‬ذهب ماء وجهي عند ربي‪ .‬وقيل‪ :‬كان في عهد الحسن البصري‬
‫رضي اهلل عنه رجل كان له ابنة تبكي حتى عميت عيناها‪ ،‬فجاء الرجل إلى الحسن‬
‫ودعاه ليعظها‪ ،‬لعلها ترفق بنفسها‪ ،‬فأتاها الحسن وقال لها‪ :‬ارفقي‪ ،‬فقالت‪ :‬أيها‬
‫األستاذ إن عيني ال تخلو من وجهين‪ ،‬إما أن تصلح لرؤية ربي أو ال تصلح‪ ،‬فإن لم‬
‫تصلح فحق لها أن تعمى‪ ،‬وإ ن كانت تصلح فألوف مثل عيني فداء لرؤيته‪ ،‬قال‬
‫فوجدت طبيباً‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مطيباً‬
‫وأتيت ّ‬
‫ُ‬ ‫مداوى‪،‬‬
‫فصرت َ‬
‫ُ‬ ‫جئت مداوياً‬
‫الحسن‪ُ :‬‬
‫وقالت سلمة بنت خالد المخزومي رحمها اهلل‪ :‬كانت امرأة من الشام ببيت اهلل‬
‫الحرام‪ ،‬ويقال لها حزينة‪ ،‬أبداً تبكي من غلبة الشوق‪ ،‬وكلما نظرت إلى باب الكعبة‪،‬‬
‫قالت‪ :‬بيت ربي‪ ،‬بيت ربي‪ ،‬ففُتح باب الكعبة يوماً من األيام‪ ،‬فرأت فيها طائفين‬
‫يبكون‪ ،‬ويقولون‪ :‬مليكنا وقرة أعيننا‪ ،‬طال شوقنا متى تكون مالقاتنا‪ ،‬فسمعت تلك‬
‫المقالة (‪ ،)1‬فصاحت صحية وخرت مغشياً عليها‪ ،‬ولم تزل تضطرب حتى ماتت‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫‪،‬‬ ‫وقال يحيى بن أصفر‪ :‬دخلنا مع جماعة من أصحابنا على عفيرة العابدة‬
‫وكانت عمياء من كثرة بكائها‪ ،‬فقال واحد منا‪ :‬ما أشد العمى بعد البصيرة‪ ،‬فسمعت ذلك فقالت‪ :‬يا أبا عبداهلل‬
‫وددت لو أن اهلل أعطاني ُكنهَ محبته‪ ،‬ولم ُيبق لي جارحة إال أخذها‬
‫ُ‬ ‫عمى القلب عن اهلل أشد من عمى العين‪،‬‬
‫مني‬
‫قيام‬ ‫ِ‬
‫والعارفون لدى الجليل ُ‬ ‫نيام‬
‫والعصاةُ ُ‬
‫داج ُ‬‫اللي ُل ٍ‬
‫جام‬ ‫ُ ِ‬ ‫يتلون ِ‬
‫تفيض س ُ‬ ‫تجري‪ ،‬ومنها قد‬ ‫ودموعهم‬
‫ُ‬ ‫آيات الهدى‬
‫نام‬
‫شوقاً وليس لمن يحب َم ُ‬ ‫ذكر ِه‬
‫سويع ًة عن ِ‬
‫ال يصبرون ُ‬

‫أي سمعت قول الطائفين‪ :‬مليكنا وقرة أعيننا‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫انظر بعض اخبارها في طبقات الشعراني ‪( 1/67‬الترجمة ‪.)132‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫َّ‬
‫انصب‪ ،‬سال‪.‬‬ ‫(‪ )3‬سجم الدمع وانسجم‪:‬‬

‫‪181‬‬
‫الحديث الخامس والثالثون‬

‫أدى حديثاً‪]..‬‬
‫[ َمن ّ‬

‫اخبرنا شيخنا خالي أبو المكارم منصور الباز األشهب البطايحي رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬قال أنبأنا أبو علي الحسن بن شاذان‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو نصر أحمد بن محمد بن‬
‫أشكاب النجاري‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا الحسن بن محمد بن موسى القُ ّمي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا عبدالرحيم‬
‫بن جندب‪ ،‬عن إسماعيل بن يحيى بن عبيداهلل‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬عن ليث‪ ،‬عن طاووس‪،‬‬
‫أدى‬
‫عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اللهصلى اهلل عليه وسلم‪َ " :‬من ّ‬
‫حديثاً إلى أمتي لتُقام به سنة أو لتُثلَم به بدعة فله الجنة" (‪ .)1‬ومن هذا الحديث‬
‫الشريف ُيعلم أن اهل الجنة القائمون بإقامة السنة‪ ،‬وإ ثالم البدعة‪ ،‬تجرداً هلل تعالى‪،‬‬
‫وتوكالً عليه‪ ،‬وإ يماناً به‪ ،‬وحباً له‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن حبيب القلوب سبحانه إذا أحب عبداً أطلع سره على جالل‬
‫قدرته‪ ،‬وحرك قلبه بمراوح ذكر ِمّنته‪ ،‬وسقاه َشربةً من كأس محبته‪ ،‬حتى ُيسكره به‬
‫وصحبته‪ ،‬حتى ال يصبر عن ذكر ربه‪ ،‬وال‬ ‫عن غيره‪ ،‬وجعله من أهل أُنسه وقُربه ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫يختار أحداً عليه‪ ،‬وال ُيشغل بشيء دون أمره‪ .‬وقال الشيخ أبو بكر الواسطي‬
‫رحمه اهلل‪ :‬منزلة الحب أقدم من منزلة الخوف‪ ،‬فمن أراد الدخول في عصبة أهل‬
‫المحبة‪ ،‬فليحسن الظن باهلل‪ ،‬وليعظِّم ُح ْر َمتَهُ‪.‬‬

‫ضعيف‪ .‬رواه نعيم في حلية األولياء (الخانجي) ‪ [ 10/44‬كنز العمال ‪ 10/28815‬والجامع الصغير‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 2/560‬رقم ‪ 8363‬عن ابن عباس رضي اهلل عنهما] وإ تحاف السادة المتقين ‪ 1/75‬والسلسة الضعيفة ‪979‬‬
‫وشرف أصحاب الحديث للبغدادي (بيروت) ‪ [ 171‬موسوعة أطراف الحديث (ط‪.]8/61 )1‬‬
‫أبو بكر محمد بن موسى الواسطي‪ .‬مات بعد ‪ 320‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪182‬‬
‫وروي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالم‪ :‬أن يا داود ِ‬
‫أحبني‪،‬‬
‫ب أحبائي‪ ،‬وحببني إلى عبادي‪ ،‬فقال داود‪ :‬إلهي أحبك وأحب أحباءك‪ ،‬فكيف‬ ‫ِ‬
‫وأح ّ‬
‫وحسن لطائفي‪ .‬وفي الخير‪ " :‬إذا أحب اهلل‬
‫أحببك إلى عبادك؟ فقال‪ :‬ذكرهم آالئي‪ُ ،‬‬
‫عبداً من عباده نادى جبريل عليه الصالة والسالم‪ :‬يا أهل السماء واألرض‪ ،‬يا معشر‬
‫أولياء اهلل وأصفيائه‪ ،‬إن اهلل تعالى يحب فالناً فأحبوه" (‪.)1‬‬
‫النساج (‪ )2‬كل عمل لم يكن فيه محبة اهلل لم ُيقبل‪ .‬وقال‪َ :‬من‬
‫وقال أبو عبداهلل ّ‬
‫أحبه اهلل ابتاله بالمحن‪ ،‬فمن التفت منه إلى ما سواه صار محجوباً عنه‪ ،‬وسقط عن‬
‫مررت برجل نائم في الثلج‪ ،‬وعلى جبينه‬ ‫(‪)3‬‬
‫بساط أهل المحبة‪ .‬وقال عبداهلل بن يزيد‬
‫قطرات من العرق‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا أبا عبداهلل‪ ،‬أما تجد البرد؟ فقال‪َ :‬من شغله حب مواله‬
‫ال يجد البرد‪ ،‬قلت‪ :‬وما عالمة المحب؟ قال‪ :‬استقالل الكثير من نفسه‪ ،‬واستكثار‬
‫القليل من حبيبه‪ ،‬فقلت له‪ :‬أوصني‪ ،‬فقال‪ :‬كن هلل يكن اهلل لك‪.‬‬
‫دخلت سوق النخاسين ألشتري جارية‪ ،‬فرأيت‬ ‫(‪)4‬‬
‫وقال محمد بن الحسين‬
‫جارية مشدودة على وجنتيها عصابة‪ ،‬مكتوب عليها‪َ :‬من أرادنا أفلسناه‪ ،‬ومن هرب‬
‫وسوسناه‪ .‬فقلت‪ :‬كذا قال اهلل تعالى لعباده‪ :‬إن طلبتموني أنسيتكم بنفسي عن‬
‫منا ْ‬
‫غيري‪ ،‬وأفنيتكم بي عن أنفسكم‪ ،‬حتى ال تروا شيئاً دوني‪.‬‬

‫(‪ )1‬صحيح‪ .‬أخرجه مالك في الموطأ (الرسالة ط‪ 2/132 )1‬برقم ‪ 2006‬وأحمد في المسند ‪ 8481‬و ‪10563‬‬
‫المقَ ِة من اهلل تعالى ‪5693‬‬
‫و ‪ 10622‬والبخاري في بدء الخلق‪ ،‬باب ذكر المالئكة ‪ ،3037‬واألدب‪ ،‬باب ِ‬
‫والتوحيد‪ ،‬باب كالم الرب مع جبريل ‪ 7047‬ومسلم‪ :‬البر والصلة واآلداب‪ ،‬باب إذا أحب اهلل عبداً حببه إلى‬
‫عباده‪ ،‬رقم ‪.2637‬‬
‫محمد بن إسماعيل المعروف بخير النساج‪ .‬توفي سنة ‪ 322‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫عبد اهلل بن يزيد الجرمي أبو قالبة التابعي‪ .‬مات بالشام سنة ‪ 104‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫أبو عبد اهلل محمد بن الحسين المعروف بالزعفراني صاحب اإلمام الشافعي‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪183‬‬
‫قال‪ :‬قرع واحد باب محبوبه‪ ،‬فقال َمن داخل الباب‪َ :‬من أنت؟ قال‪ :‬أنا أنت‪ ،‬فقال يا أنا ادخل‪:‬‬

‫أفنيتني بك عني‬ ‫عجبت ِم َ‬


‫نك ومني‬ ‫ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫ظننت أنك أ ّني‬
‫ُ‬ ‫منك حتى‬
‫أدنيتني َ‬

‫يؤول السادة الصوفية مثل هذه العبارة تأويالت تبعدـ عنها معنى االتحاد والحلول ووحدة الوجود‪ .‬واألسلم‬ ‫(‪)1‬‬

‫اجتناب مثل هذه العبارة‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫الحديث السادس والثالثون‬

‫[ سمع اهلل لمن حمده]‬

‫أخبرنا شيخنا العارف باهلل على القاري الواسطي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أبو بكر‬
‫الوراق‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا أبو محمد يحيى بن صاعد‪ ،‬عن أحمد بن عبد المؤمن‪ ،‬عن علي‬
‫ابن الحسن المروزي‪ ،‬عن أبي حمزة‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن علقمة‪ ،‬عن‬
‫عبداهلل قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا قال‪ :‬سمع اهلل لمن حمده قال‪:‬‬
‫ربنا ولك الحمد"(‪ .)1‬في هذا الحديث من أسرار الموافقة لداعي اهلل‪ ،‬الذي يرد شأنه‬
‫على كل لسان‪ ،‬ما يفهمه أهل الذوق من أرباب المحبة‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬قيل لواحد‪ :‬ما حقيقة المحبة؟ قال‪ :‬الموافقة‪ :‬قال النبي عليه الصالة‬
‫والسالم‪" :‬اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك‪ ،‬والعمل الذي يبلغني حبك‪ ،‬واجعل‬
‫إلي" (‪ ،)2‬وقال اإلمام أبو بكر الصديقرضيـ اهلل عنه‪َ :‬من ذاق من‬
‫حبك أحب األشياء ّ‬
‫خالص حب اهلل استوحش عمن سواه‪ ،‬وترك ألجله كل ما يهواه‪ .‬ويقال‪ :‬جفاء العدو‬
‫سم قاتل‪ .‬وكان ذو النون المصري كثيراً ما يقرأ القرآن‪ ،‬ثم‬
‫غم نازل‪ ،‬وجفاء الحبيب ٌّ‬
‫ٌّ‬
‫بعد ذلك يشتغل بالحديث‪ ،‬فسمع في المنام‪:‬‬

‫البخاري‪ :‬صفة الصالة‪ ،‬باب‪ :‬إلى أين يرفع يديه‪ ،‬رقم ‪ .705‬ومسلم‪ :.‬الصالة‪ ،‬باب إثبات التكبير في كل‬ ‫(‪)1‬‬

‫خفض ورفع في الصالة إال رفعه من الركوع رقم ‪.392‬‬


‫الترمذي عن أبي الدرداء رضي اهلل عنه‪ :‬الدعوات‪ ،‬الباب الثالث [ من دعاء داودعليه السالم] رقم ‪3485‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫وورد ضمن حديث معاذ رضي اهلل عنه في التفسير (تفسير سورة ص) رقم ‪ ،3233‬وإ حياء علوم الدين‬
‫(المعرفة) ‪ 1/319‬قال الحافظ‪ :‬وهي في الدعاء للطبراني و ‪ 2/296‬و ‪ .4/295‬ومجمع الزوائد ‪.7/177‬‬
‫وانظر الزهد البن المبارك‪ :‬الجزء الثالث‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في التوكل ص ‪ 144‬رقم ‪.430‬‬

‫‪185‬‬
‫هجرت كتابي‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫فل ْم‬ ‫تزعم حبي‬ ‫كنت‬
‫إن َ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫لطيف عتابي‬ ‫ِـه من‬ ‫تدبرت ما فيـ‬
‫َ‬ ‫أما‬

‫قال‪ /‬فترك الحديث‪ ،‬وأقبل على قراءة القرآن‪.‬‬


‫وروي أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالم‪ :‬ال تجعل بيني‬
‫وبينك عالماً مفتوناً في الدنيا وأهلها‪ ،‬فيصدك عن طريق محبتي‪ ،‬أولئك قطاع‬
‫الم ْح ُو‪ ،‬إال أنها على ثالثة مدارج‪:‬‬
‫الطريق على عبادي‪ .‬ويقال‪ :‬أصل المحبة هو َ‬
‫العام‪ ،‬والخاص‪ ،‬وخاص الخاص‪ ،‬فأما العام فمحو القلب عن حب الذنوب‬
‫والمعاصي‪ ،‬والخاص محو القلب عن حب الدنيا وأهلها‪ ،‬وخاص الخاص محو القلب‬
‫عن حب ما دون اهلل تعالى‪.‬‬
‫أنت حبيبه‪ ،‬إلهي‬
‫وقال يحيى بن ُمعاذ في بعض مناجاته‪ :‬إلهي ال تعذب قلباً َ‬
‫أكرمت َمن‬
‫َ‬ ‫أهنت َمن أحبك‪ ،‬وإ ن أكرمتني‬
‫َ‬ ‫أحبك‪ ،‬وإ ن أهنتني‬
‫عذبت َمن َ‬
‫َ‬ ‫إن تعذبني‬
‫أحبك‪.‬‬
‫َ‬
‫وحكي أن أبا يزيد تكلم يوماً بكالم أهل المحبة‪ ،‬فجاء طائر فلم يزل يدنو منه‬
‫حتى جلس بين يديه‪ ،‬ثم ضرب بمنقاره على األرض وسال منه الدم حتى مات‪.‬‬
‫العيارين(‪ ،)1‬يضرب عبداً له‬
‫وحكي أن واحداً من العارفين‪ ،‬مر برجل من ّ‬
‫بعود‪ ،‬والعبد يضحك في وجهه‪ ،‬فقيل له‪ :‬يا هذا يضربك السيد بالسياط وأنت‬
‫تضحك‪ .‬قال‪ :‬من حالوة حبه ال أجد ألم الضرب‪ ،‬فصاح العارف‪ ،‬وخر مغشياً عليه‪.‬‬
‫وقال يحيى‪ :‬ليس بصادق في حبه َمن لم يحفظ حدوده‪ ،‬ولم يعظم حرمته‪ ،‬ولم‬
‫يعرف ِمَّنته‪ .‬وحكي أن رجالً جاء إلى عبدالواحد بن زيد(‪ )2‬فقال‪ :‬أخبرني بأقرب‬

‫العيار‪ :‬الذي يخلي نفسه وهواها ال يردعها وال يزجرها [ المعجم الوسيط]‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫عبد الواحد بن زيد‪ :‬أدرك الحسن البصري [ الشعراني ‪ ]1/46‬والحسن متوفى سنة ‪ 110‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪186‬‬
‫األعمال إلى اهلل تعالى‪ ،‬وأعظمها عنده زلفى‪ ،‬فقال‪ :‬أن تحب ما يحب اهلل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫اشرح لي صفة المحبة‪ ،‬فبكى عبدالواحد وقال‪ :‬أتحتمل؟ قال‪ :‬ما شاء اهلل‪ ،‬فوصف له‬
‫فغشي على الرجل‪ ،‬فلما أفاق قال‪ :‬سبحان اهلل َمن يستأه ُل‬ ‫شيئاً من المحبة وحقائقها‪ُ ،‬‬
‫قلب قصد محبوبه قصداً‬ ‫ب ٍ‬ ‫يطيق االستقامة على تحقيق المحبة؟ فقال‪ُ :‬ر َّ‬
‫ُ‬ ‫هذا‪ ،‬أو َمن‬
‫الريح العاصف‪ ،‬وال البرق الخاطف‪ ،‬حتى وصل إلى محبوبه‪ ،‬قيل‪ :‬أو هل‬
‫ُ‬ ‫ال يدركه‬
‫يكون للمحب عالمة؟ قال‪ :‬إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها‪ ،‬وكذلك المحبة إذا‬
‫دخلت القلب‪ ،‬تالشت النفس بكل ما فيها عن صفات اإلنسانية‪ ،‬تحت سلطانها‪،‬‬
‫فاحترق ما في القلب من غير اهلل بنيرانها‪.‬‬
‫قيل لبعضهم‪ :‬ما بال المحبين كالمبهوتين؟ قال‪ :‬ألنهم ذاقوا حالوة محبته وسمعوا أصوات عجائب‬
‫حسن دعوته‪ ،‬حتى طارت عقولهم وقلوبهم إليه‪ ،‬وصاروا مدهوشين به‪ ،‬هيهات أين الحب‪ ،‬وأين صفوة الحب‪،‬‬
‫أحبَّه ال يصبر عنه طرفةَ عين‪.‬‬
‫إن َمن َ‬
‫وأين حقائق الحب‪ ،‬وأين َمن يستحق الحب؟ أال ّ‬
‫كالمتفر ِد‬ ‫ِ‬
‫يسير ُ‬
‫بين العباد ُ‬ ‫مستوحش‬
‫ٌ‬ ‫نهارهُ‬
‫حب ُ‬ ‫الم َّ‬
‫إن ُ‬‫َّ‬
‫ِ‬
‫المتوحد‬ ‫ِ‬
‫الواحد‬ ‫لقاء‬ ‫منه! قريرةٌ بحبي ِب ِ!ه‬
‫يرجو َ‬ ‫فالعين ُ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫محمد‬ ‫نحو ِ‬
‫اإلله مع النبي‬ ‫سن موكبهم إذا ما أقبلوا‬
‫يا ُح َ‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫الحديث السابع والثالثون‬

‫[ ال تدخلون الجنة حتى تؤمنوا]‬

‫اخبرنا شيخنا أبو المكارم باز اهلل األشهب خالي الشيخ منصور األنصاري‬
‫الحسيني برواقه في نهر دقلى‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أبو الحسن أحمد اشتُهر بابن الصلت‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالصمد الهاشمي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا الحسين بن الحسن‬
‫المروزي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا الفضيل بن موسى األعمش‪ ،‬عن أبي صالح‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬ال تدخلون الجنة حتى‬
‫تؤمنوا‪ ،‬ولن تؤمنوا حتى تحابوا‪ ،‬أال أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السالم‬
‫بينكم"(‪ .)1‬أمر صلى اهلل عليه وسلم بهذا الحديث الشريف بقمع النفس‪ ،‬ومحق ثورتها‪،‬‬
‫تعدت طورها‪ ،‬بشأن إخوانها المسلمين‪ ،‬وألزم بالمحبة‬ ‫وصفعها بنعل الهمة‪ ،‬إذا َّ‬
‫الخالصة‪ ،‬وجعلها عماد اإليمان‪ ،‬ألنها هلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وعلَّمنا وهو معلم الخير‬
‫ممتحنون بأهل‬
‫َ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم أن إفشاء السالم ُمنتِ ٌج للمحبة‪ ،‬وأهل الحق‬
‫الباطل‪ ،‬ولكن ال تنحرف هممهم عن الحق‪ ،‬اعتماداً عليه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن اهلل تعالى خلق الدنيا‪ ،‬وجعلها دار المحنة‪ ،‬ومحل األخطار‬
‫واألشرار‪ ،‬ثم خلط فيها األبرار والفجار‪ ،‬وأهل المحبة بأهل البطالة‪ ،‬ثم يقلبهم من‬
‫حال النعمة إلى حال الشدة‪ ،‬ومن حال الشدة إلى حال النعمة‪ ،‬إلظهار َمن يعبده على‬
‫المعطي‪ ،‬ممن‬
‫ومن يعبده على رؤية ُ‬
‫بساط المحنة‪ ،‬ممن يعبده على بساط النعمة‪َ ،‬‬

‫مسلم‪ :‬اإليمان‪ ،‬باب بيان أنه ال يدخل الجنة إال المؤمنون‪ ،‬وأن محبة المؤمنينـ من اإليمان رقم ‪ 54‬وأبو‬ ‫(‪)1‬‬

‫داود‪ :‬األدب‪ ،‬باب في إفشاء السالم‪ ،‬رقم ‪ 5193‬والترمذي‪ :‬االستئذان‪،‬ـ باب ما جاء في إفشاء السالم‪ ،‬رقم‬
‫‪ 2689‬وصفة القيامة‪ ،‬باب سوء ذات البين وهي الحالقة رقم ‪.2512‬‬

‫‪188‬‬
‫يعبده على رؤية العطاء‪.‬‬
‫قال اهلل تعالى‪( :‬ومن الناس من يعبد اهلل على حرف)(‪ )1‬اآلية‪ ،‬وفي الخبر إن‬
‫ليجرب بالبالء"(‪ )2‬والحكمة في امتحان اهلل‬
‫ليجرب بالنار‪ ،‬والعبد الصالح َّ‬
‫الذهب َّ‬
‫تعالى عباده الصالحين‪ ،‬إظهار ما في ضمائرهم من صدق الدعوى وكذبه‪ ،‬وحقيقة‬
‫المعنى وبطالنه‪ ،‬ليكون فيه ظهور مرتبة الصديقين وافتضاح غيرهم‪.‬‬
‫أما ترى أنه ال يسع للحاكم أن يحكم للخصم على إحاطة علمه‪ ،‬في تصديق‬
‫دعواه وبطالنه‪ ،‬من غير أن يظهر لغيره ذلك‪ ،‬قال تعالى‪( :‬ألم أحسب الناس أن‬
‫يتركوا)(‪ )3‬اآلية‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)(‪ ،)4‬وقال اهلل‬
‫تعالى‪ُ ( :‬ليحق الحق ويبطل الباطل)(‪ ،)5‬ثم اختلفوا فقال بعض العلماء‪ :‬من يعبده على‬
‫بساط النعمة أولى ممن يعبده على بساط المحنة‪ ،‬ألن منزلة الشكر أفضل من منزلة‬
‫الصبر‪ ،‬وذلك ألن الشكر على النعمة طاعةٌ على بساط الفراغة‪،‬‬

‫سورة الحج واآلية بتمامها هكذا‪( :‬ومن الناس من يعبدـ اهلل على حرف‪ ،‬فإن أصابه خير اطمأن به وإ ن‬ ‫(‪)1‬‬

‫أصابته فتنة انقلب على وجهه‪ ،‬خسر الدنيا واآلخرة‪ ،‬ذلك هو الخسران المبين)‪.‬ـ‬

‫إن‬ ‫لم أجده‪ ،‬ولكن في مسند أحمد (صادر) من حديث عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬‬ ‫( ‪)2‬‬

‫مثل المؤمن لكمثل القطعة من الذهب نفخ عليها صاحبها فلم تغير ولم تنقص‪ [ " ..‬المسند ‪ .2/199‬وهو حديث‬
‫صحيح اإلسناد] وفي الترمذي عن مصعب بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص" رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قلت‪ :‬يا‬
‫فيبتلى الرجل على حسب دينه‪،‬ـ فإن كان دينه‬
‫رسول اهلل‪ ،‬أي الناس أشد بالء؟ قال‪ :‬األنبياء ثم األمثل فاألمثل‪ُ ،‬‬
‫صلباً اشتد بالؤه‪ ،‬وإ ن كان في دينه رقة ابتُلي على حسب دينه‪ " ..‬الحديث [ سنن الترمذي‪ :‬أبواب الزهد‪ ،‬باب ما‬
‫ُ‬
‫جاء في الصبر على البالء‪ ،‬رقم ‪ 2400‬وقال‪ :‬حسن صحيح] وفي رواية البن حبان في صحيحه‪" :‬فمن ثَ ُخن‬
‫ومن ضعف دينه ضعف بالؤه" [ لواقع األنوار القدسية للشعراني (ط‪.]577 )1‬‬
‫دينه اشتد بالؤه َ‬
‫سورة العنكبوت‪ 1 :‬و ‪.2‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة األحقاف‪.35 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة األنفال‪8 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪189‬‬
‫والصبر على الشدة طاعةٌ على بساط الشغل‪ ،‬وليس َمن َعَب َد اهللَ فارغاً كمن عبده‬
‫مشغوال‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪َ :‬من يعبده على بساط المحنة أفضل‪ ،‬ألن األنبياء أفضل مرتبة‬
‫ممن دونهم(‪ ،)1‬فامتحن اهلل عامتهم بأنواع المحن والبالء‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫بالء األنبياء"(‪ )2‬الخبر‪ ،‬وأن الكفرة هم أهون الخلق على اهلل‪ ،‬وعيش‬
‫"إن أشد الناس ً‬
‫عامتهم بأنواع النعم‪ ،‬وليس َمن طلبه بنفي الحجاب كمن طلبه ِمن وراء الحجاب‪،‬‬
‫والشاكر يطلبه من وراء الحجاب‪ ،‬والصابر يطلبه دون الحجاب‪ ،‬والشاكر يطلبه‬
‫على حظ نفسه‪ ،‬والصابر يعبده على حب ربه‪ ،‬والشاكر مفتخر بملكه‪ ،‬والصابر‬
‫المنعم‪،‬‬
‫مفتخر بمليكه‪ ،‬والشاكر حبس نفسه مع النعمة‪ ،‬والصابر حبس قلبه مع ُ‬
‫والشاكر يقول‪ :‬ما دامت النعمة معي ال أبالي إن أصابني ما أصابني‪ ،‬والصابر‬
‫يقول‪ :‬ما دام المنعم معي ال أبالي إن أصابني ما أصابني‪ ،‬قال اهلل تعالى‪( :‬الذين إذا‬
‫أصابتهم مصيبة قالوا إنا هلل وإ نا إليه راجعون)(‪ )3‬وإ ن اهلل تعالى أوجب للشاكر‬
‫الزيادة‪ ،‬ونفى عن أجر الصابر النهاية‪ ،‬حيث قال‪( :‬إنما يوفى الصابرون أجرهم‬
‫بغير حساب)(‪ )4‬وقال‪( :‬واهلل يحب الصابرين)(‪.)5‬‬

‫وفي هذا رد على من زعم أن الوالية أعلى مرتبة من النبوة‪ ،‬وقد َّ‬
‫عد ابن حجر الهيتمي من أنواع الكفر"‬ ‫(‪)1‬‬

‫الذهاب إلى أن "الولي أقرب من النبي" [ الزواجر عن اقتراف الكبائر ( مصر‪ -‬المطبعة الميمنية) ‪.[1/22‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫رواه السيوطي من مسند أحمد والبخاري (باب أشد الناس بالء األنبياء) والترمذي وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص رضي هللا‬
‫عنه‪ ،‬ورمز إلى صحته‪ ،‬ورواه من ابن ماجه من طريق آخر ومسند أبي يعلي‪ ،‬والمستدرك عن أبي سعيد رضي هللا عنه‪ ،‬وصححه‬
‫أيضا‪ ،‬ورواه من المعجم الكبير للطبراني عن أخت حذيفة رضي اهلل عنهما وحسَّنه [ الجامع الصغير (الفكر)‬
‫‪ 1/160‬األحاديث ‪1054‬و ‪ 1056‬و ‪ ]1057‬وكنت قد أشرت من قريب إلى رواية الترمذي‪.‬‬
‫سورة البقرة‪.156 :‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫سورة الزمر‪.10 :‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سورة آل عمران‪.146 :‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪190‬‬
‫رت في أم الكتاب‪ ،‬أني إذا أحببت‬ ‫أوحى اهلل تعالى إلى نبي من األنبياء‪ :‬إني َّ‬
‫قد ُ‬
‫عبداً جعلته للبالء غرضاً‪ ،‬وألبسته جلباب الفقر‪.‬‬
‫وفي الخبر‪ :‬أن اهلل تعالى أوحى إلى داود عليه الصالة والسالم‪ُ :‬قل ألوليائي‬
‫وأصفيائي وأهل محبتي‪ ،‬أن ال يدخلوا مداخل أعدائي‪ ،‬وال يسكنوا مساكن أعدائي‪،‬‬
‫مطاعم أعدائي‪ ،‬فيكونوا أعدائي‪ ،‬كما أولئك أعدائي‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫طعموا‬
‫وال َي َ‬
‫وقال وهب(‪ )2‬إنا نجد في كتاب اهلل المنزل‪ :‬أن عبادي المخلصين‪ ،‬كانوا إذا‬
‫سلكوا طريق الشدة والبالء فرحوا واستبشروا‪ ،‬ويقولون‪ :‬اآلن يتعهدنا ربنا‪.‬‬
‫وفي الحديث القدسي‪ :‬أن البالء أسرع إلى َمن يحبني من السيل إلى منتهاه(‪.)3‬‬
‫حكي أن ذا النون المصري سمع مريضاً يقول‪ :‬أخ أخ‪ ،‬فقال‪ :‬ليس هذا بصادق في‬
‫حبه‪ ،‬فقال المريض‪ :‬أنيني من وجدان اللذة‪ ،‬ال من وجدان الشدة‪.‬‬
‫وحكي أن فتحاً الموصليـ(‪ ،)4‬أصابته الحمى فصلى ألف ركعة‪ ،‬شكراً هلل على‬
‫ذلك‪ ،‬وقال‪ :‬أمثلي يذكره اهلل من فوق عرشه‪ ،‬وعلم أن لي ذنباً فأراد طهارتي‪ .‬وقالت‬
‫رابعة‪ :‬ما عرفت البالء منذ عرفت اهلل‪.‬‬
‫ولي وعدو‪ ,‬والحال حاالن‪ِ :‬شدة ونعمة‪ ،‬فربما‬
‫الخلق صنفان‪ّ :‬‬
‫أي بني‪َ ،‬‬

‫طعم (بفتح الياء والعين) يأكل‪.‬‬


‫َي َ‬
‫(‪)1‬‬

‫وهب بن منبه التابعي المؤرخ (‪ 114 – 34‬هـ)‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫عن أبي هريرة رضي اهلل تعالى عنه قال‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم وهو مستلق‪ ،‬فقال‪ :‬من‬ ‫(‪)3‬‬

‫أي شيء تشتكي؟ قال‪ :‬الخمص‪ .‬يعني‪ :‬الجوع‪ .‬فبكي الرجل‪ ،‬ثم ذهب يعمل‪ .‬فاستقى لرجل دالء‪ ،‬كل دلو بثمرة‪،‬‬
‫فعلت هذا إال وأنت تحبني‪ .‬فقال‪ :‬إي واهلل‪،‬‬
‫ثم جاء إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم بشيء من تمر‪ ،‬فقال‪ :‬ما أراك َ‬
‫للبالء أسرع إلى َمن يحبني من السيل من أعلى الجبل‬
‫ُ‬ ‫كنت صادقاً فأعد للبالء جلباباً‪ ،‬فواهلل‬
‫إني ألحبك‪ .‬قال‪ :‬إن َ‬
‫إلى الحضيض [ تنبيهـ الغافلين للسمرقندي (المطبعة العثمانية) ص ‪.]92‬‬
‫فتح بن سعيد الموصلي‪ ،‬مات سنة ‪ 320‬هـ [ جامع كرامات األولياء (الفكر) ‪.]2/437‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪191‬‬
‫تصل الشدة إلى الولي كرامة له‪ ،‬كما وصلت إلى الرسل واألنبياء عليهم الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬وربما تصل اللذة إلى العدو خسراناً له‪ ،‬كما قال اهلل سبحانه‪( :‬ولنذيقنهم من‬
‫العذاب األدنى دون العذاب األكبر) ربما تصل النعمة إلى الولي استدراجاً وتنبيهاً‬
‫(‪)1‬‬

‫له‪ ،‬وربما تصل النعمة إلى العدو وهو حظه من اآلخرة‪ ،‬كما قال اهلل تعالى‪( :‬قل‬
‫تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)(‪.)2‬‬
‫ثم االبتالء على نوعين‪ :‬إكرام وإ هانة‪ ،‬فكل بالء يقربك من المولى فهو في‬
‫االسم بلوى‪ ،‬وفي الحقيقة ُزلفى(‪ ،)3‬وكل بالء يبعدك عن المولى فهو في الحقيقة‬
‫بلوى‪ ،‬أال ترى أن اهلل تعالى ابتلى إبراهيم عليه الصالة والسالم‪ ،‬وكان سبب ابتالئه‬
‫الخلة(‪ )4‬والقُربة‪ ،‬وابتلى إبليس‪ ،‬وكان سبب ابتالئه اللعنة والفضيحة‪ ،‬فقال إبراهيم في‬
‫ُ‬
‫البلوى‪ :‬حسبي ربي‪ ،‬وقال إبليس‪ :‬حسبي نفسي‪ ،‬فنودي إلبراهيم عليه الصالة‬
‫بالخلة‪ ،‬وإلبليس باللعنة‪.‬‬
‫والسالم ُ‬

‫سورة السجدة‪.21 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة إبراهيم‪.30 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫ُزلفى‪ :‬قُربى‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫الخلّة ([ضم الخاء) الصداقة والمحبة‪.‬‬


‫ُ‬
‫(‪)4‬‬

‫‪192‬‬
‫الحديث الثامن والثالثون‬

‫[ صلة الرحم]‬

‫أخبرنا ابن عمي العبد الصالح السيد سيف الدين عثمان‪ ،‬قال‪ :‬حدثني أبوك‬
‫السيد علي بن يحيى الرفاعي صاحب المشهد المنور بالجانب الشرقي من بغداد‪،‬‬
‫قال‪ :‬حدثني ابن عمي السيد حسن‪ ،‬قال‪ :‬حدثني السيد يحيى‪ ،‬قال‪ :‬حدثني السيد‬
‫ثابت‪ ،‬عن أبيه السيد علي الحازم‪ ،‬ويكنى بأبي الفوارس‪،‬ـ عن أبيه السيد علي‪ ،‬عن‬
‫أبيه السيد رفاعة الحسن المكي‪ ،‬عن أبيه السيد أبي القاسم محمد‪ ،‬عن أبيه السيد‬
‫الحسن الرئيس‪ ،‬عن أبيه السيد الحسين عبدالرحمن الرضي المحدث‪ ،‬عن أبيه السيد‬
‫أحمد األكبر‪ ،‬عن أبيه السيد موسى‪ ،‬عن أبيه السيد إبراهيم المرتضى‪ ،‬عن أخيه‬
‫اإلمام علي الرضا صاحب طوس‪ ،‬عن أبيه اإلمام موسى الكاظم‪ ،‬عن أبيه اإلمام‬
‫جعفر الصادق‪ ،‬عن أبيه اإلمام محمد الباقر‪ ،‬عن أبيه اإلمام زين العابدين علي‪ ،‬عن‬
‫أبيه الشهيد المظلوم اإلمام الحسين‪ ،‬عن أبيه أمير المؤمنين علي المرتضىـ رضي اهلل‬
‫"لما أُسري بي إلى‬
‫عنه‪ ،‬وعنهم أجمعين‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ّ :‬‬
‫السماء رأيت رحماً معلقة بالعرش تشكو رحماً إلى ربها أنها قاطعة لها‪ ،‬قلت‪ :‬كم‬
‫بينك وبينها من أب؟ قالت‪ :‬نلتقي في أربعين أباً"(‪.)1‬‬

‫عن عائشة رضي اهلل عنها عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬الرحم معلقة بالعرش تقول‪َ :‬من وصلني‬ ‫(‪)1‬‬

‫وصله اهلل‪ ،‬ومن قطعني قطعه اهلل" رواه البخاري ومسلم‪ .‬وعن أبي هريرة ‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل‬
‫إلي‪ ،‬يا رب إني‬
‫عليه وسلم يقول‪ :‬إن الرحم شجنة من الرحمن تقول‪ :‬يا رب إني قُطعت‪ ،‬يا رب إني أُسيء ّ‬
‫ظُلمت‪ ،‬يا رب‪ ..‬فيجيبها‪ :‬أال ترضين أن أصل َمن وصلك‪ ،‬وأقطع َمن قطعك؟‪ .‬رواه أحمد بإسناد جيد قوي‪.‬‬
‫وابن حبان في صحيحه [ الترغيب والترهيب للمنذري (ابن كثير وشركته) رقم ‪ 3708‬و ‪ 3711‬وشجنة‪ :‬قرابة‬
‫مشتبكة‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫وفي هذا الحديث الشريف من اإللزام للعبد بالرحمة‪ ،‬ما يقيد نفسه عن‬
‫جموحها‪ ،‬إذا أدرك وكان من الموفقين‪ ،‬وقد بلغني عن بعض العارفين أنه كان يقول‬
‫ٍ‬
‫وبقلوب بك اشتغلت‪.‬‬ ‫في مناجاته‪ :‬إلهي بأرحام اتصلت‪،‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن المحبين في طرائق العبودية‪ ،‬وأوقات المناجاة‪ ،‬على‬
‫أصناف شتى‪ ،‬فمنهم من ناجاه على لسان االعتذار‪ ،‬ومنهم من ناجاه على لسان‬
‫التحير واالضطرار‪،‬ـ ومنهم من ناجاه على لسان الطرب واالفتخار‪ ،‬ولو علم أهل‬
‫الغفلة ما فاتهم في كل نفس‪.‬‬
‫قال النبي صلى اهلل عليه وسلم في مناجاته‪ " :‬إلهي إذ قرت أعين أهل الدنيا‬
‫من دنياهم‪ ،‬فأقر عيني بك‪ ،‬واقر عيني بلذائذ أنسك‪ ،‬والشوق إلى لقائك"(‪ ،)1‬وكذا يقول‬
‫َمن يحب‪ :‬يا خير مؤنس وأنيس‪ ،‬يا خير صاحب وجليس‪ ،‬طوبى لمن اكتفى منك‬
‫بك‪ ،‬اللهم لبيك لبيك يا حبيب القلوب‪ ،‬لبيك يا سرور القلوب‪ ،‬لبيك لبيك يا منى‬
‫القلوب‪ ،‬لبيك اللهم آليت بك عليك‪ ،‬أن ال تصرفني بك عنك‪ ،‬وال تحجبني بك عنك‪.‬‬

‫(‪)1‬‬
‫من دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اللهم إني أسألك إيماناً ال يرتد‪ ،‬ونعيماًـ ال ينفد‪ ،‬وقرة عين األبد‪ ،‬ومرافقة نبيكـ محمد صلى اهلل‬
‫عليه وسلم في أعلى جنة الخلد" [ إحياء علوم الدين ( دار المعرفة) ‪ ]1/319‬قال الحافظ العراقي في المغني‪ :‬أخرجه النسائي في اليوم‬
‫والليلة‪ ،‬والحاكم من حديث عبداهلل بن مسعود رضي اهلل عنه دون قوله‪ " :‬وقرة عين األبد" وقال صحيح اإلسناد‪ ،‬والنسائي من حديث‬
‫عمار بن ياسر بإسناد جيد‪ " :‬وأسألك نعيمًاـ ال يبيد‪ ،‬وقرة عين ال تنقطع"‪ .‬ومن دعائه صلى اهلل عليه وسلم‪ " :‬اللهم بعلمك الغيب‪،‬‬
‫الخلق‪ ،‬أحيني ما كانت الحياة خيراً لي‪ ،‬وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي‪ ،‬أسألك خشيتك في الغيب والشهادة‪ ،‬وكلمة العدل‬
‫وقدرتك على َ‬
‫في الرضا والغضب‪ ،‬والقصد في الغنى والفقر‪ ،‬ولذة النظر إلى وجهك‪ ،‬والشوق إلى لقائك‪ ،‬وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة‪.‬‬
‫اللهم زينا بزينة اإليمان‪ ،‬واجعلنا ُهداةً مهديين ] إحياء ‪ [1/320‬قال الحافظ‪ :‬أخرجه النسائي والحاكم وقال‪ :‬صحيح اإلسناد‪ ،‬من حديث‬
‫عمار بن ياسر رضي اهلل عنهما‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫إلهي لو دعوتني إلى النار ألجبتك‪ ،‬وافتخرت بك‪ ،‬فكيف وقد دعوتني إلى‬
‫نفسك‪ ،‬إلهي إن قربتني منك‪ ،‬فمن الذي يبعدني‪ ،‬وإ ن أعززتني بك فمن الذي يذلني‪،‬‬
‫وإ ن رفعتني إليك فمن الذي يضعني‪ ،‬إلهي َمن أرهب وأنت موالي؟ ولمن أرجو‬
‫وأنت مناي؟ وبمن أستأنس وأنت جليسي؟ فبك عليك أن تتفضل بإتمام فضلك‪ ،‬يا نعم‬
‫المولى ونعم النصير‪ ،‬إلهي ِس ِّري عندك مكشوف‪ ،‬وأنا إليك ملهوف‪ ،‬وأنت بالجود‬
‫معروف‪ ،‬وبالكرم موصوف‪.‬‬
‫إلهي أنت أنيس المستأنسين من أحبائك‪ ،‬ومأوى الموهوبين من أصفيائك‪،‬‬
‫وجليس الملهوفين من أوليائك‪ ،‬إلهي ما أطيب معرفتك في قلوب العارفين‪ ،‬وما أحلى‬
‫ذكرك في أفواه الذاكرين‪ ،‬وما أحلى مودتك في أسرار المحبين‪ ،‬إلهي أنت الذي ال‬
‫تبطل أمل اآلملين‪ ،‬ال يخفى عليك أحوال المريدين‪ ،‬وال يخيب لديك رجاء المنيبين‪.‬‬
‫استكفيت بك منك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نظرت منك إليك وأنت حسبي إذا‬
‫ُ‬ ‫إلهي أنت سروري إذا‬
‫(‪)1‬‬
‫ك بك‪ ،‬اللهم ارحم انقطاعي إليك‪ ،‬وانفرادي بك ووحشتي‬
‫نزلت من َ‬
‫ُ‬ ‫وأنت أنيسي إذا‬
‫عمن سواك‪ ،‬فيا خير مؤنس وأنيس‪ ،‬ويا خير صاحب وجليس‪ ،‬كن دليلي منك وإ ليك‪،‬‬
‫إلهي اجعل َّ‬
‫أجل العطايا في قلبي حياءك‪ ،‬وأعذب الكالم على لساني ثناءك‪ ،‬وأحب‬
‫يكون فيها لقاؤك‪.‬‬
‫إلي ساعةً ُ‬
‫الساعات َّ‬
‫إلهي ما أوحش قلباً ليس فيه ذكرك‪ ،‬وما أخرب قلباً ليس فيه خوفك‪ ،‬وما أقل‬
‫سروراً ليس في حبك‪ ،‬إلهي ال صبر لي في الدنيا عن ذكرك‪ ،‬فكيف أصبر في‬
‫اآلخرة عن رؤيتك؟‬
‫إلهي أشكو إليك غربتي في بالدك‪ ،‬ووحشتي بين عبادك‪ ،‬إلهي ما لمرادنا‬
‫غيرك‪ ،‬وال لبغيتنا دونك‪ ،‬وما لحاجتنا سواك‪ ،‬إلهي هذه لذائذ المناجاة‪ ،‬فكيف لذائذ‬

‫وبعد القلب عن‬


‫الوحشة (بفتح الواو وسكون الحاء) الخلوة‪ ،‬والخوف‪ ،‬والوحشة من الناس‪ :‬االنقطاع عنهم ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫وحش بكسر الحاء في الماضي وفتحها في المضارع (من الباب الرابع)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫موداتهم‪ ،‬والفعل‪َ :‬وح َش َي َ‬

‫‪195‬‬
‫المالقاة؟ إلهي هذا شكري‪ ،‬وشكر شكري‪ ،‬إلهي هذا سروري وسرور سروري‪،‬‬
‫إلهي هذا ودي وود ودي‪ ،‬إلهي أُنسي بك أوحشني من خلقك‪ ،‬ومعرفتي بك تمنعني‬
‫عن مناجاة غيرك‪.‬‬
‫إلهي كيف أشغل لساني بذكر غيرك‪ ،‬أم كيف أشغل بصري برؤية غيرك‪ ،‬أم‬
‫كيف أشغل قلبي بحب سواك‪ ،‬وأنا ال أعرف غيرك؟ إلهي‪ ،‬على من أُثني وأنت‬
‫ومن أرجو وأنت ُمناي؟ يا خير معروف مذكور‪ ،‬أعززتني بوالية معرفتك‪،‬‬
‫وليي‪َ ،‬‬
‫بمن سواك‪ ،‬إلهي عجبت ممن يعرفك كيف ال يستغني عمن‬
‫فال تذلني يا سيدي بعدها َ‬
‫عجبت ممن أنس بك كيف ال يستوحش من غيرك؟‬
‫ُ‬ ‫سواك‪ ،‬إلهي‬
‫إلهي عجبت لمن أرادك كيف يريد سواك‪ ،‬إلهي هذا سروري بك في دار‬
‫(‪)1‬‬
‫الفناء‪ ،‬فكيف سروري بك في دار البقاء؟ إلهي هذا سروري بك في قراطق‬
‫الخدمة‪ ،‬فكيف سروري بك في غالئل(‪ )2‬النعمة؟ إلهي هذه لذائذ المحبة‪ ،‬فكيف لذائذ‬
‫الرؤية؟ إلهي هذه لذائذ المؤانسة‪ ،‬فكيف لذائذ الزيارة؟ إلهي َمن لم يكن مسروراً بك‬
‫فمن أي شيء يكون له سرور؟ إلهي سقيتني بكأس الحب حتى أسكرتني‪ ،‬فالحب‬
‫يقتلني والشوق ُيحرقني‪ ،‬إلهي أريتني حبك‪ ،‬فأرني وصلك‪ ،‬إلهي طال بك حسن‬
‫ظني‪ ،‬على أن ال تردني خائباً فال تخيب ظني بك‪ ،‬يا معروفاً بالمعروف‪ ،‬إلهي ليس‬
‫لي عنك صبر‪ ،‬وال فيك حيلة‪ ،‬وال منك بد‪ ،‬وال عنك َمهرب‪ ،‬وال مع سواك أُنس‪.‬‬
‫إلهي أحييتني بمعرفتك‪ ،‬فال تُمتني بنكرتك‪ ،‬إلهي أريتني وصالك‪ ،‬فال تُرني‬
‫فرغ قلبي لذكر‬
‫فراقك‪ ،‬إلهي إن لم تفعل ما نريد‪ ،‬فصبرنا على ما تريد‪ ،‬إلهي ِّ‬

‫(‪ )1‬قراطق الخدمة‪ :‬مالبسها‪ ،‬مفردها‪ :‬قُرطق‪ :‬كجندب‪ ،‬وقرطقته إياه فتقرطق‪ :‬ألبسته إياه فلبسه [ القاموس‬
‫المحيط (القُرطق)]‪.‬‬
‫(‪ )2‬الغالئل‪ :‬جمع ِ‬
‫الغاللة (بكسر الغين) وهي ثوب رقيق ُيلبس تحت الدثار" [ المعجم الوسيط]‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫عظمتك‪ ،‬وأطلق لساني بوصف منتك‪ ،‬وقوني على شكر نعمتك‪ ،‬إلهي ارحمني فأنا‬
‫عاجز عند النصب‪ ،‬جاهل بالسبب‪ ،‬حيران في الطلب‪ ،‬إلهي جعلت سبب ما تعطي‬
‫رجاءك‪ ،‬وسبب ما يجمع بين أوليائك تأليفك بين قلوبهم‪.‬‬
‫إلهي فأعطني المرجو كما وهبت الرجاء‪ ،‬واجمع بيني وبين أوليائك‪ ،‬كما‬
‫ألفت بين القلوب‪ ،‬كيف يفتقر َمن أنت حظه‪ ،‬أم كيف يستوحش من أنت أنيسه‪ ،‬أم‬
‫كيف يذل من أنت حبيبه‪ ،‬أم كيف يحزن من أنت نصيبه؟ إلهي همك أبطل عني‬
‫الهموم وحبك حال بيني وبين الرقاد‪ ،‬وشوقي إليك منعني اللذات‪ ،‬وأُنسي بك أوحشني‬
‫عمن سواك‪.‬‬
‫إلهي أنت تُوالي َمن يعاديك‪ ،‬فكيف تُعادي َمن يواليك؟ إلهي معرفتي بك دليلي‬
‫عليك‪ ،‬وحبي لك وسيلتي إليك‪ ،‬إلهي عرف المحبون كمال ربوبيتك‪ ،‬والمذنبون‬
‫صنيعك‪ ،‬وكمال قدرتك‪ ،‬فاستسلموا وانقادوا لك‪ ،‬إلهي اجعلني ممن ال يتخذ دونك‬
‫خليالً‪ ،‬وال يلتمس إلى سواك سبيالً‪ ،‬وال يرجو من غيرك فتيالً(‪ .)1‬إلهي ال تجعلني‬
‫ممن صرفت عنه وجهك‪ ،‬وحجبت عنه عفوك‪ ،‬وأغلقت عليه بابك‪ ،‬وقطعت عنه‬
‫أسباب عصمتك‪ ،‬ووكلته إلى نفسه‪ ،‬إنك على كل شيء قدير‪.‬‬
‫قال مالك بن دينار‪ :‬رأيت جارية متعلقة بأستار الكعبة تقول‪:‬‬

‫وليس شيء سواك ُيحيينا‬ ‫إليك جئنا وأنت جئت بنا‬


‫(‪)2‬‬
‫شيء سواك يؤتينا‬ ‫وليس‬ ‫من َك طلبنا وأنت ِ‬
‫تملكنا‬
‫ٌ‬

‫الفتيل‪ :‬الخيط الذي في شق النواة‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫من المنسرح‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪197‬‬
‫الحديث التاسع والثالثون‬

‫[ نظر الولد إلى والديه]‬

‫أخبرنا شيخنا منصور الرباني رضي اهلل عنه‪ ،‬عن أبيه سيدي يحيى‬
‫النجاري‪ ،‬عن سيدي أبي محمد الشنبكي األنصاري ثم الحسيني الحسني‪ ،‬عن الشيخ‬
‫أبي بكر بن هوار البطايحي‪ ،‬عن سيدي سهل بن عبد اهلل التستري‪ ،‬عن الشيخ ذي‬
‫النون المصري‪ ،‬عن الشيخ إسرافيل المغربي‪ ،‬عن اإلمام موسى الكاظم‪ ،‬عن أبيه‬
‫اإلمام جعفر الصادق‪ ،‬عن أبيه اإلمام محمد الباقر‪ ،‬عن أبيه اإلمام زين العابدين علي‬
‫عن أبيه اإلمام الحسين عن أبيه اإلمام علي المرتضى رضي اهلل عنهم عن النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪ " :‬نظر الولد إلى والديه عبادة" (‪ .)1‬قلت‪ :‬وفي هذا‬
‫الحديث الشريف‪ ،‬من إعظام شأن الحب هلل‪ ،‬ما يرفع بهمم المحبين إلى اهلل‪ ،‬فإن‬
‫النظر في اهلل عبادة‪ ،‬وكذلك أي بني‪،‬‬

‫ذكر السيوطي عدة أحاديث في هذا المعنى‪ ،‬أنقلها بأرقامها في كنز العمال للمتقي علي الهندي‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪ 34714‬النظر إلى الكعبة عبادة‪ ،‬والنظر في وجه الوالدين عبادة‪ ،‬والنظر في كتاب اهلل عبادة (أخرجه ابن أبي‬
‫داود في المصاحف عن عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬وفيه زافر‪ ،‬قال ابن عدي‪ :‬ال يتابع على حديثه)‪.‬ـ‬
‫‪ 45536‬النظر في ثالثة أشياء عبادة‪ :‬النظر في وجه األبوين‪ ،‬وفي المصحف‪ ،‬وفي البحر (أخرجه أبو نعيم في‬
‫الحلية عن عائشة رضي اهلل عنها)‪.‬‬
‫‪ 45496‬ما من رجل ينظر إلى وجه والديه نظرة رحمة إال ُكتب له بها حجة مقبولة مبرورة (أخرجه الرافعي‬
‫عن ابن عباس رضي اهلل عنهما) وأخرجه الحاكم في تاريخه وابن النجار عنه [ انظر كنز ‪.]45535‬‬
‫وفي أسنى المطالب (طبعة الحلبي) خبر‪ ( :‬نظرة إلى وجه العالم أحب إلى اهلل من عبادة ستين سنة)‪:‬‬
‫ال يصح‪ ،‬وكذا النظر إلى الوالد ‪ .‬وإ ن كان كل منهما محبوباً شرعاً" [ أسنى المطالب للبيروتي (محمد بن السيد‬
‫درويش) ص ‪.]237‬‬

‫‪198‬‬
‫فاعلم أن ِ‬
‫عال َم أسرار المحبين‪ ،‬والمطلع على همة المشتاقين‪َّ ،‬‬
‫طيب الدنيا للعارفين‬
‫بذكر الخروج منها‪ ،‬كما طيب الجنة ألهلها‪ ،‬بذكر الخلود فيها‪ ،‬وال شيء أحب إلى‬
‫المحب من لقاء المحبوب‪ ،‬ولوال اآلجال التي كتبها اهلل على المشتاقين لماتت‬
‫أرواحهم في أبدانهم‪ ،‬لشدة االشتياق إليه‪.‬‬
‫قال أنس‪ :‬قيل يا رسول اهلل‪ ،‬لو شاء اهلل أن يدوم البقاء ألوليائه في الدنيا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬يأبى اهلل أن يجعل الخلود ألوليائه في الدنيا‪ ،‬بل اختار ألوليائه وأحبائه‪ ،‬ما عنده‬
‫من جزيل كراماته‪ ،‬أما تعلمون أن الحبيب يشتاق إلى الحبيب‪ ،‬فطوبى لمن كان‬
‫روحه وراحته في لقاء اهلل‪.‬‬
‫وحكي أن أبا هريرة قال لرفيق له‪ :‬أين تذهب؟ فقال‪ :‬أشتري شيئاً ألهلي‪،‬‬
‫قدرت أن تشتري الموت لي فافعل‪ ،‬فإنه طال شوقي إلى‬
‫َ‬ ‫فقال أبو هريرة له‪ :‬إن‬
‫إلي من شرب الماء البارد للعطشان‪ ،‬وأحلى من العسل‪ ،‬ثم‬
‫ربي‪ ،‬وإ ن الموت أحب َّ‬
‫وغشي عليه‪.‬‬
‫بكى بكاء شديداً‪ ،‬وقال‪ :‬واشوقاهُ إلى َمن يراني وال أراه‪ُ ،‬‬
‫كيف أصبحت‪ ،‬قال‪ :‬كيف يصبح َمن إذا أصبح ال يشتهي أن‬ ‫(‪)1‬‬
‫قيل ألويس‬
‫ُيمسي‪ ،‬وإ ذا أمسى ال يشتهي أن يصبح‪ ،‬وطال شوقه إلى ُمنى قلبه‪.‬‬
‫قال مالك بن دينار‪ :‬كنت أسير في بعض حيطان البصرة‪ ،‬فرأيت شاباً‬
‫مريضاً‪ ،‬أشعث أغبر‪ ،‬مستقبالً للقبلة‪ ،‬يقول‪ :‬قرة عيني طال شوقي إليك‪ ،‬وما آن أن‬
‫ألقاك‪ ،‬فإلى متى تحبسني عنك؟ فقلت‪ :‬يا شاب هذا الوقت الذي يطلب فيه األحبة‬
‫محبوبهم؟ فقال‪ :‬الحبيب في كل األوقات موجود‪ ،‬ليس بمفقود‪ ،‬بل هذا الوقت الذي‬
‫تظهر األحبة احتراقهم بحبيبهم‪ ،‬ويكشف المشتاقون كتمان سرائرهم‪ ،‬بهيجان نيران‬
‫االشتياق إلى ُمناهم‪.‬‬
‫وحكي أن رجالً من أهل البصرة‪ ،‬بكى على شوقه حتى ذهبت عيناه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫إلهي إلى متى ال ألقاك؟ فبعزتك لو كانت بيني وبينك نار تلتهب‪ ،‬ما رجعت عنك‬
‫بعونك وتوفيقك‪ ،‬حتى أصل إليك‪ ،‬وال أرضى منك بدونك‪.‬‬

‫( ‪)1‬‬
‫أويس بن عامر القرني‪ :‬تابعي من الصالحين‪ ،‬توفي سنة ‪ 37‬هـ‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫قيل‪ :‬كان لفتح الموصلي ابنتان عارفتان فخرجتا إلى الحج‪ ،‬فلما وقعت‬
‫أعينهما على البيت‪ ،‬قالت إحداهما لألخرى‪ :‬يا هذه أهذا بيت ربي؟ فقالت األخرى‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬فصاحت صيحة وماتت من ساعتها وقالت األخرى‪ :‬إلهي أشكو من نفسي إليك‪،‬‬
‫وقد طال شوقي إليك آه آه آه‪ ،‬وتقولها حتى ماتت‪.‬‬
‫وقيل ألبي بكر الواسطي رحمه اهلل‪ :‬ما حظيرة القدس؟ قال‪ :‬هي حظيرةٌ‬
‫جعلها اهلل الستماع كالمه ومناجاته‪ ،‬والنظر إلى وجهه‪ ،‬حيث شاؤوا ومتى شاؤوا‪،‬‬
‫وتال قوله‪ ( :‬ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم)(‪.)1‬‬
‫قال إبراهيم بن أدهم(‪ )2‬دخلت جبل لبنان فإذا أنا بشاب قائم يقول‪ :‬يا َمن قلبي‬
‫له محب‪ ،‬ونفسي له خادمة‪ ،‬وشوقي إليه شديد‪ ،‬متى ألقاك؟ فقلت‪ :‬رحمك اهلل ما‬
‫عالمة حب اهلل؟ قال‪ :‬حب ذكره‪ ،‬قلت‪ :‬فما عالمة المشتاق؟ قال‪ :‬أن ال ينساه في كل‬
‫حال‪.‬‬
‫بعض أهل المعرفة حضرته الوفاة‪ ،‬فبكت امرأته‪ ،‬فقال‪ :‬ما يبكيك؟ قالت‪:‬‬
‫كيف ال أبكي وأنا أبقى منك فرداً‪ ،‬قال‪ :‬يا هذه أنا منذ أربعين سنة بكيت شوقاً إلى هذا‬
‫اليوم‪ ،‬فإنه يوم وصلتي وأُلفتي وراحتي‪ ،‬فمرحباً به‪.‬‬
‫وحكي أن الحسن البصري رضي اهلل عنه حضرته الوفاة‪ ،‬وكانوا يلقنونه‬
‫الشهادة‪ ،‬ففتح عينيه وقال‪ :‬إلى متى تدعونني إليه وأنا محترق به منذ عشرين سنة‪.‬‬
‫وسئل سهل بن علي عن خفقان قلب الخليل‪ ،‬وأزيز قلب المصطفى صلى اهلل‬
‫عليهما وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬خفقانه من الخوف‪ ،‬وأزيزه من الشوق‪.‬‬
‫وبكت رابعة العدوية عند موتها‪ ،‬وضحكت من ساعتها فقيل لها في ذلك‪،‬‬
‫فقالت‪ :‬أما بكائي فمن مفارقتي الذكر آناء ليلي ونهاري‪ ،‬وأما ضحكي فمن سروري‬
‫بلقائه‪ ،‬وماتت من لحظتها‪.‬‬
‫ومرض أبو الدرداء رضي اهلل عنه فقيل له‪ :‬أال ندعو لك طبيباً يداويك؟‬

‫سورة فصلت‪.31 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫إبراهيم بن أدهم بن منصور‪ .‬توفي سنة ‪ 161‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪200‬‬
‫فقال‪ :‬الطبيب أمرضني‪ ،‬طال شوقي إلى ربي‪ ،‬وإ لى قرة عيني محمد صلى اهلل عليه‬
‫أفرق عنهم‪.‬‬
‫وسلم‪ ،‬وإ لى إخواني الذين مضوا من قبلي‪ ،‬وإ ني أخاف أن َّ‬
‫وكان ذو النون يقول ليلةً إلى الصباح‪ :‬المستغاث المستغاث‪ ،‬ثم دخله السكينة‪،‬‬
‫فقيل له في ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬نظرت البارحة بعين السر‪ ،‬في مالحظة الحق حتى بسط إلى‬
‫فاستغثت إليه بالخروج من الدنيا‪ ،‬كما يستغيث‬
‫ُ‬ ‫بساط محبته‪ ،‬وغلبني االشتياق إليه‪،‬‬
‫أهل النار بالخروج منها‪ ،‬ثم نظرت إلى سرور المجتهدين في الدنيا‪ ،‬ومؤانسة‬
‫المريدين في ظلم الليالي‪ ،‬وافتراشهم الجبهة بين يدي عالم الغيوب بصفاء القلوب‪،‬‬
‫علي السكينة‪.‬‬
‫فدخلت ّ‬
‫ْ‬
‫قال عقبة بن سلمة‪ :‬ما من ساعة يكون العبد أقرب إلى اهلل من حين يخر‬
‫ساجداً‪ ،‬وما من َخصلة في العبد أحب إلى اهلل من الشوق إلى لقائه‪ .‬وفي الخبر‪" :‬نعم‬
‫لو خيرت بين أن أعيش في‬ ‫(‪)2‬‬
‫التحفة للمؤمن لقاء مواله"(‪ .)1‬قال محمد بن يوسف‬
‫الدنيا مائة سنة أعبد اهلل تعالى ال أعصيه طرفةَ عين‪ ،‬وبين أن أموت الخترت‬
‫الموت‪ ،‬قيل‪ :‬ولم ذلك؟ قال‪ :‬من شدة اشتياقي إليه‪.‬‬

‫رواه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (ابن كثير) ‪ 4/299‬برقم ‪ 5123‬بلفظ‪ " :‬تحفة المؤمن الموت"‬ ‫(‪)1‬‬

‫وقال‪ :‬رواه الطبراني بإسناد جيد‪ .‬وهو في اإلحياء ‪ 4/450‬وقال الحافظ العراقي‪ :‬أخرجه ابن أبي الدنيا في‬
‫كتاب الموت‪ " ..‬والمستدرك (كتاب الرقاق) ‪ 4/319‬وصححه‪ ،‬ومجمع الزوائد ‪ 2/320‬وكنز ‪15/42110‬‬
‫وكشف الخفاء ‪ 1/352‬وقال‪ :‬رواه ابن المبارك‪ ..‬وأبو نعيم عن ابن عباس رضي اهلل عنهما‪ .‬وأكثر رواياته عن‬
‫ابن عمر‪ ،‬وفي المستدرك عن ابن عمرو رضوان اهلل عليهم‪ ،‬ورواه الديلمي عن الحسن بلفظ "تحفة المؤمن في‬
‫الدنيا الموت"‪ ] .‬كشف ‪ [1/352‬ورواه الدارقطني عن جابر رضي اهلل عنه بلفظ "الموت تحفة المؤمن" [ كنز‬
‫‪ 15/42138‬ورواه العجلوني بهذا اللفظ وقال‪ :‬رواه الديلمي عن جابر بزيادة‪ " :‬والدرهم والدنيار مع المنافق‪،‬‬
‫وهما زاده إلى النار" ورواه عن عائشة رضي اهلل عنها بهذا اللفظ‪ :‬الموت غنيمة‪ ،‬والمعصية مصيبة‪ ،‬والفقر‬
‫راحة‪ ،‬والغني عقوبة‪ ،‬والتائب من الذنب كمن ال ذنب له" [ كشف الخفاء (التراث اإلسالمي) ‪ 2/401‬برقم‬
‫‪.]2667‬‬
‫محمد بن يوسف األصفهاني‪ ،‬توفي ‪ 184‬هـ [ الشعراني ‪.]1/61‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪201‬‬
‫الحديث األربعون‬

‫[ التسبيح للرجال والتصفيق للنساء]‬

‫حدثنا شيخنا الشيخ القدوة علي الواسطي رضي اهلل عنه قال‪ :‬حدثني أبو‬
‫الفوارس طراد بن محمد الزينبي‪ ،‬قال‪ :‬حثنا أبو الحسن محمد بن زرقويه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثنا أبو جعفر محمد بن يحيى الطائي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا جد أبي علي بن حرب بن محمد‬
‫الطائي‪ ،‬عن سفيان بن عيينة‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة رضي‬
‫(‪)1‬‬
‫اهلل عنه عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ " :‬التسبيح للرجال والتصفيق للنساء"‬
‫هذا الحديث يشير إلى ال ِجد في األعمال واالستهالك للحركات والسكنات في اهلل‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وقد ترى جماعة من العارفين‪ ،‬يضربون لإلشارات في الحاالت‪ ،‬ولذي‬
‫الحضرات كفاً بكف‪ ،‬فإياك أن تظن أن إشارتهم هذه من التصفيق فتزلق‪ ،‬إنما هي‬
‫استهالك حركة هلل‪ ،‬في حركة أخرى هلل‪ ،‬فإنهم ماتوا باهلل حالة كونهم أحياء‬

‫البخاري (بتحقيق الدكتور مصطفى البغا) العمل في الصالة‪ ،‬باب‪ :‬التصفيق للنساء ‪1145‬و ‪ 1146‬وأنظر‬ ‫(‪)1‬‬

‫أيضاً ‪ 652‬و ‪ 1143‬و ‪ 1146‬و ‪ 1160‬و ‪ 1177‬و ‪2544‬و ‪ 2547‬و ‪ 6767‬ومسلم‪ :‬الصالة‪ ،‬باب تقديم‬
‫الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر اإلمام‪ ،‬رقم ‪ 421‬وباب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في‬
‫الصالة ‪ .422‬و " ُيسن للرجل الذي نابه شيء في صالته‪ ،‬كتنبيه إمامه لنحو سهو‪ ،‬وإ ذنه لداخل استأذن في‬
‫الدخول عليه‪ ،‬وإ نذاره أعمى مخافة أن يقع في محذور‪ ،‬أو نحو ذلك كغافل وغير مميز‪ ،‬ومن قصده ظالم أو نحو‬
‫سبع‪ ،‬أن يسبح فيقول‪ " :‬سبحان اهلل" بشرط أال يقصد التنبيهـ وحده‪ ،‬وإ ال بطلت صالته‪ .‬وأما المرأة فتصفق‬
‫بضرب بطن اليمين على اليسار أو عكسه‪ ..‬وهذه سنة متفق عليها إال المالكية قالوا‪ :‬الشأن لمن نابه شيء وهو‬
‫يصلي التسبيح (سبحان اهلل) ويكره التصفيق للمرأة" والخنثى كالمرأة في التصفيق" [ د‪ .‬وهبة الزحيلي‪ :‬الفقه‬
‫اإلسالمي وأدلته (ط‪ 2/934 )4‬و ‪ 935‬وانظر ‪( 1122‬تنبيهـ اإلمام على السهو)]‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫فلذلك أحياهم اهلل حالة كونهم أمواتاً‪.‬‬
‫أي بني‪ ،‬اعلم أن هلل تعالى عباداً قد ُملئت قلوبهم بمحبة ربهم‪ ،‬ينتظرون‬
‫الموت اشتياقاً إلى حبيبهم‪ ،‬ويكرهون طول المكث في هذه الدنيا‪ ،‬ال راحة لهم دون‬
‫الخروج منها‪ ،‬وهم مغمومون بطول البقاء فيها‪ ،‬وشوقهم إلى الخروج أشد من شوق‬
‫العطشان إلى الماء الزالل‪ ،‬فإذا قرب أجلهم أتاهم ملك الموت مع سبعين ألف ملك من‬
‫اهلل بالتحية والسالم‪ ،‬كما قال تعالى‪ ( :‬الذين تتوفاهم المالئكة طيبين يقولون سالم‬
‫عليكم)(‪ )1‬اآلية‪ ،‬وكذلك يجيء الملك للمؤمن على أطيب ريح‪ ،‬وأحسن صورة‪ ،‬فيقول‬
‫المؤمن له‪ :‬مرحباً ألي أمر جئت؟ فيقول له‪ :‬لقبض روحك‪ ،‬على أي حال تحب أن‬
‫أقبض روحك؟ فيقول‪ :‬إذا كنت في السجود‪ ،‬فيفعل ذلك ملك الموت‪ ،‬فيأتيه حافظاه‬
‫ويقول أحدهما لصاحبه‪ :‬كان لنا صاحباً وأخاً قد حان له الفراق‪ ،‬فيقوالن له جزاك‬
‫قدمت لنفسك‪( :‬‬
‫َ‬ ‫كنت أيسر مؤمن ونعم ما‬
‫اهلل خيراً‪ ،‬وغفر لك‪ ،‬فنعم األخ كنت‪ ،‬لقد َ‬
‫يأيتها النفس المطمئنة! ارجعي إلى ربك راضية مرضية) (‪ )2‬بالروح (‪ )3‬والراحة‪،‬‬
‫كنت تحب الخير وأهله‪ ،‬وتبغض الشر‬
‫وتقول روحه لجسده‪ :‬جزاك اهلل عني خيراً‪َ ،‬‬
‫وأهله‪ ،‬أستودعك اهلل‪.‬‬
‫ُم َّر بجنازة على أمير المؤمنين علي كرم اهلل وجهه ورضي اهلل عنه فقال‪:‬‬
‫مستريح أو مستراح من نصب الدنيا‪ ،‬وإ يذاء أهلها‪ ،‬فلقي رحمة اهلل عليه‪ ،‬والمستراح‬
‫منه الفاجر‪ ،‬إذا ما استراح منه العباد والبالد‪.‬‬
‫وقال مأمون السلمي رحمه اهلل‪ :‬لما توفي أبو عبداهلل بن مقاتل غسلناه وكفناه‬
‫ودفناه‪ ،‬فهتف بنا هاتف من السماء‪ :‬الحمدهلل الذي أوصل الحبيب إلى الحبيب راضياً‬
‫مرضياً‪.‬‬

‫سورة النحل‪.32 :‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫سورة الفجر‪.27 :‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫الروح‪ :‬الرحمة‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫‪203‬‬
‫وقال رجل من أصحاب أبي عبد اهلل‪ :‬رأيته في المنام بعد موته كان يتبختر‬
‫في حظيرة القدس‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما هذا التبختر يا أبا عبداهلل‪ ،‬أليس قد ُنهينا عنه؟ فقال‪:‬‬
‫هذا مشي الخدام‪ ،‬في دار السالم‪ ،‬عند الملك العالّم‪ .‬ورؤي ذو النون بعد موته في‬
‫المنام‪ ،‬فقيل له‪ :‬ما حالك؟ قال‪ :‬سألت اهلل أربع مسائل‪ ،‬فأعطاني اثنتين‪ ،‬وأنتظر‬
‫قبضت روحي فال تكلني إلى ملك الموت‪،‬‬
‫َ‬ ‫اثنتين‪ ،‬فقيل‪ :‬وما هن ؟ قال‪ :‬قلت إلهي إن‬
‫وإ ن سألتني فال تكلني إلى منكر ونكير‪ ،‬وإ ن أهتني فال تكلني إلى مالك‪ ،‬وإ ن أكرمتني‬
‫فال تكلني إلى رضوان‪.‬‬
‫لما مات حمل إلى قبره‪ ،‬فإذا هو مفروش‬ ‫(‪)1‬‬
‫وحكي أن داود العجمي‬
‫بالريحان‪ ،‬فأخذ الذي يدفنه شعبة من الرياحين‪ ،‬وكان الناس ينظرون إليها تعجباً‬
‫سبعين يوماً لم يتغير حالها‪ ،‬فأشخص األمير وأخذها من الرجل‪ ،‬ففُِقدت فال ُيدرى‬
‫كيف ذهبت؟‬
‫وقال عمار بن إبراهيم‪ :‬رأيت المسكينة الطاوية بعد موتها في المنام‪ ،‬وكانت‬
‫تحب مجلس الذكر‪ ،‬فقلت‪ :‬مرحباً يا مسكينة‪ ،‬فقالت‪ :‬هيهات يا عمار‪ ،‬ذهبت‬
‫المسكينة‪ ،‬وجاء الغنى‪ ،‬قلت‪ :‬هنيئاً لك‪ ،‬فقالت‪ :‬وما تسأل عمن أبيحت له الجنة‬
‫بحذافيرها‪ ،‬قلت‪ :‬بماذا؟ قالت‪ :‬بمجالس الذكر‪ ،‬فقلت‪ :‬فما فعل اهلل بعلي بن زادان؟‬
‫فضحكت وقالت‪ :‬كساه حلة البهاء‪ ،‬وقيل له‪ :‬يا قارئ اقرأ وارق‪.‬‬
‫رأيت الواصليـ بعد موته في المنام‪ ،‬كأنه قائم في‬ ‫(‪)2‬‬
‫وقال ابن أبي الحواري‬
‫الهواء‪ ،‬وقد امتأل الهواء من نوره‪ ،‬فقلت له‪ :‬ما فعل اهلل بك؟ قال‪ :‬نعم المولى موالنا‪،‬‬
‫غفر لنا وأكرمنا‪ ،‬وفعل بنا ما هو أهله‪ ،‬قلت له‪ :‬أوصني‪ ،‬قال‪ :‬عليك بمجالسة‬
‫الذاكرين‪ ،‬فإنهم عندنا في الرفيع من الدرجات‪.‬‬

‫جامع كرامات األولياء ‪ 2/64‬و ‪.65‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫( ‪)2‬‬
‫أحمد بن أبي الحواري الدمشقي‪ .‬مات سنة ‪ 230‬هـ [ الرسالة القشيرية ‪.]59‬‬

‫‪204‬‬
‫ولما حضر معاذاً الموت أغمي عليه‪ ،‬ثم أفاق‪ ،‬فقال‪ِ :‬‬
‫ألحقوني بالذين أنعم اهلل‬
‫عليهم من النبيين والصديقين والشهداء‪ ،‬ثم ضحك وقال‪ :‬ال إله إال اهلل محمد رسول‬
‫اهلل الحمد هلل ثم مات‪.‬‬
‫وحكي أن امرأة دخلت على عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬فصلت عند قبر النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ثم سجدت فلم تزل تقول واشوقاه‪ ،‬فلم ترفع رأسها حتى ماتت‪.‬‬
‫وقال جعفر الضبي‪ :‬حضرت زيارة قبر مالك بن دينار‪ ،‬فقلت‪ :‬ليت شعري ما فعل‬
‫اهلل بمالك؟ فسمعت صوتاً من فوق مالك يقول‪ :‬مالك نجا من المهالك‪ ،‬ومن وعثاء‬
‫المسالك‪ ،‬وصار إلى دار السرور‪ ،‬بمجاورة الرب الغفور‪ ،‬فقلت‪ :‬الحمد هلل‪.‬‬
‫بالمصيصة(‪ ،)1‬فلما سلم اإلمام قام رجل‬
‫ّ‬ ‫وقال ابن ب ّكار‪ :‬صلينا الغداة يوماً‬
‫وقال‪ :‬يا أيها الناس إني رجل من أهل الجنة‪ ،‬وإ ني أموت اليوم‪ ،‬فمن كانت له حاجة‬
‫فليأت‪ ،‬فلما صلينا العصر مات الرجل في سجوده‪.‬‬
‫وحكي أن الحارث بن عمرو الطائي(‪ ،)2‬مرض بإرمينية فيوماً من األيام‪،‬‬
‫استقبل القبلة وصلى ركعتين‪ ،‬ثم قال في آخر سجوده‪ :‬اللهم إن أسألك باسمك الذي‬
‫خير‬
‫هو قوام الدين‪ ،‬وبه ترزق العالمين‪ ،‬وبه تحيي العظام وهي رميم‪ ،‬إن كان لي ٌ‬
‫عندك فعجل قبضتي‪ ،‬ثم سكت فحركوه فإذا هو ميت‪ .‬وقال مالك بن دينار رضي اهلل‬
‫عنه‪ :‬كان لي رفيق‪ ،‬وكان واهلل من العارفين‪ ،‬فمرض فحضرته ألعوده‪ ،‬فإذا هو‬
‫رافع طرفه نحو السماء‪ ،‬وقال‪ :‬اللهم إن كنت تعلم أني أحبك فبارك لي في لقائك‪ ،‬فلم‬
‫يتم كالمه حتى مات‪.‬‬
‫وحكي أن رجالً رأى مالك بن دينار رضي اهلل عنه كأنه في قصر معلق في‬
‫الهواء بحيث لم يصف الواصفون حسنه فقال‪ :‬ما فعل اهلل بك يا مالك؟ فقال‪ :‬أنزلني‬
‫ربي في هذا القصر كما ترى‪ ،‬وأباح لي أن أنظر إليه كلما اشتقت إلى رؤيته بال‬
‫كيف وال شبيه‪،‬‬

‫المصيصة‪ :‬ثغر أنطاكية وبالد الروم قديماً‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫متوفى عام ‪ 112‬هـ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫‪205‬‬
‫والحمد هلل رب العالمين‪ .‬ولما حضرت الوفاة سيدي الشيخ منصور بكينا حوله فأفاق‬
‫من غشيته وقال‪:‬‬
‫قوم وهم في الناس أحياءُ‬
‫قد مات ٌ‬ ‫المحب حياةٌ ال انقطاع لها‬
‫ِّ‬ ‫موت‬
‫ثم قال‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل وأشهد أن محمداً رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وقضى نحبه رضي اهلل عنه وعن عباد اهلل الصالحين أجمعين‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫المحتوى‬

‫تمهيد (للمحقق)‬ ‫‪5‬‬


‫أسانيد راوي الكتاب‬ ‫‪10‬‬
‫مقدمة الكتاب‬ ‫‪12‬‬
‫من يذوق طعم اإليمان؟‬ ‫الحديث األول‪:‬‬ ‫‪14‬‬
‫الكيس والعاجز‬ ‫الحديث الثاني‪:‬‬ ‫‪20‬‬
‫اإلسالم واإليمان‬ ‫الحديث الثالث‪:‬‬ ‫‪23‬‬
‫ذو الوجهين‬ ‫الحديث الرابع‪:‬‬ ‫‪26‬‬
‫انصر أخاك‬ ‫الحديث الخامس‪:‬‬ ‫‪33‬‬
‫استجابة الدعوة‬ ‫الحديث السادس‪:‬‬ ‫‪36‬‬
‫ثالثة َم ْرضيات‬ ‫الحديث السابع‪:‬‬ ‫‪43‬‬
‫الحياء من اإليمان‬ ‫الحديث الثامن‪:‬‬ ‫‪47‬‬
‫(أولئك يبدل اهلل سيئاتهم حسنات)‬ ‫الحديث التاسع‪:‬‬ ‫‪52‬‬
‫أول من يدخل الجنة‪.‬‬ ‫الحديث العاشر‪:‬‬ ‫‪55‬‬
‫يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته‬ ‫الحدي الحادي عشر‪:‬‬ ‫‪60‬‬
‫الراحمون يرحمهم الرحمن‬ ‫الحديث الثاني عشر‪:‬‬ ‫‪64‬‬
‫المرء مع من أحب‬ ‫الحديث الثالث عشر‪:‬‬ ‫‪70‬‬
‫األعمال بالنيات‬ ‫الحديث الرابع عشر‪:‬‬ ‫‪75‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫مرحباً بوصية رسول اهلل‬ ‫الحديث الخامس عشر‪:‬‬ ‫‪79‬‬
‫فضل الصحابة رضوان اهلل عليهم‬ ‫الحديث السادس عشر‪:‬‬ ‫‪84‬‬
‫يدخلون الجنة بغير حساب‬ ‫الحديث السابع عشر‪:‬‬ ‫‪90‬‬

‫أدبني ربي‬ ‫الحديث الثامن عشر‪:‬‬ ‫‪95‬‬

‫‪207‬‬
‫حسبك أن تصوم من كل شهر ثالثة أيام‬ ‫‪ 101‬الحديث التاسع عشر‪:‬‬
‫السنن الرواتب‬ ‫‪ 105‬الحديث العشرون‪:‬‬
‫صنائع المعروف‪.‬‬ ‫‪ 109‬الحديث الواحد والعشرون‪:‬‬
‫ال تحاسدوا‪..‬‬ ‫‪ 114‬الحديث الثاني والعشرون‪:‬‬
‫خيركم من تعلم القرآن وعلمه‬ ‫‪ 119‬الحديث الثالث والعشرون‪:‬‬
‫أحبوا اهلل‪..‬‬ ‫‪ 126‬الحديث الرابع والعشرون‪:‬‬
‫من تصدق من كسب طيب‬ ‫‪ 131‬الحديث الخامس والعشرون‬
‫من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال‬ ‫‪ 135‬الحديث السادس والعشرون‪:‬‬
‫المرء مع من أحب‬ ‫‪ 141‬الحديث السابع والعشرون‪:‬‬
‫من دعاء النبي صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫‪ 143‬الحديث الثامن والعشرون‪:‬‬
‫ال إله إال اهلل‬ ‫‪ 150‬الحديث التاسع والعشرون‪:‬‬
‫إذا راح أحدكم الجمعة فليغتسل‬ ‫‪ 155‬الحديث الثالثون‪:‬‬
‫أفال أكون عبداً شكوراً؟‬ ‫‪ 161‬الحديث الواحد والثالثون‪:‬‬
‫المتوكل صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫‪ 167‬الحديث الثاني والثالثون‪:‬‬
‫اللهم بارك لنا في رجب وشعبان‬ ‫‪ 173‬الحديث الثالث والثالثون‪:‬‬
‫من ولد له مولود فسما محمداً‬ ‫‪ 177‬الحديث الرابع والثالثون‪:‬‬
‫من أدى حديثاً‬ ‫‪ 182‬الحديث الخامس والثالثون‬
‫سمع اهلل لمن حمده‬ ‫‪ 185‬الحديث السادس والثالثون‪:‬‬
‫ال تدخلون الجنة حتى تؤمنوا‬ ‫‪ 188‬الحديث السابع والثالثون‪:‬‬
‫صلة الرحم‬ ‫‪ 193‬الحديث الثامن والثالثون‪:‬‬
‫نظر الولد إلى والديه‬ ‫‪ 198‬الحديث التاسع والثالثون‪:‬‬
‫التسبيح للرجال والتصفيق للنساء‪.‬‬ ‫‪ 203‬الحديث األربعون‪:‬‬

‫‪208‬‬

You might also like