You are on page 1of 16

1

‫مزرعة األسماك ‪ :‬صريح األقوال وصحيح األخبار فيما يتعلق بابن القائد‬
‫والمستشار ‪ ،‬واسترزاقهما من مزرعة لألسماك والحبار‬
‫بقلم ‪ :‬فريد أبو سرايا‬
‫البحريين ‪ :‬فقال ‪ :‬البحر كثير العجائب ‪ ،‬وأهله أصحاب زوائد ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أعاجيب البحر وتز ُّيد‬
‫َ‬ ‫الحكماء‬
‫ِ‬ ‫بعض‬
‫ُ‬ ‫ذك ََر‬
‫الصدق ‪ ،‬وأد َخلوا ما ال يكون في باب ما قد يكاد يكون ‪ .‬فجعلوا تصديق الناس لهم‬‫فأفسدوا بقليل الكذب كثير ِ‬
‫" البيان والتبيين " ‪ ،‬أبوعثمان عمرو بن بحر الجاحظ‬ ‫عاء المحال‪...‬‬
‫في غرائب األحاديث سُلما إلى اد ِ‬

‫كانت البالد كلها عبارة عن مزرعة حيوانات كتلك المزرعة التي حكى عنها جورج أورويل ‪ ،‬وفي وسط مزرعة‬
‫الحيوانات تلك التي يملكها القائد ويربي فيها الثدييات‪ ،‬كانت هناك مزرعة يملكها ابن القائد ‪ ،‬يربي فيها‬
‫األسماك ‪ ،‬ويعتاش من إيراداتها ‪ .‬وبهذا االستحواذ يكون القائد وابنه قد امتلكا البر والبحر‪ ،‬والثدييات‬
‫واألسماك معا ً ‪.‬‬
‫عند االنحدار من قمم جبال رأس الهالل ‪ ،‬وتجاوز المنزل اإليطالي الواقع على يسار الطريق والمقابل لشالل‬
‫"بالفو" ‪ ،‬تلوح هناك في األفق البعيد ‪ ،‬في عرض البحر قبالة الميناء األلماني القديم دائرتان كبيرتان ‪ ،‬ولم‬
‫تكن تانك الدائرتان سوى مزرعة أسماك البن القائد ‪.‬‬

‫لم تكن المزرعة في أعالي البحار بل كانت في المياه اإلقليمية ‪ ،‬محصورةً بين الساحل وخط عرض ‪، 32.5‬‬
‫الذي أطلق عليه القائد اسم " خط الموت " ‪ ،‬ذلك االسم الذي لم يكن نذيرشؤم بالموت إال على بحارة الزورق‬
‫"الوميض" ‪ ،‬والخافرة "عين زقوط " ‪ ،‬الذين ضحى بهم القائد على مذبح مجده وعظمته ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫تتشكل كل دائرة من ثالثة أطواق بالستيكية سوداء ضخمة ‪ ،‬وتشكل هذه األنابيب السوداء ممرا ً يستطيع المرء‬
‫أن يمشي عليه ‪ ،‬وتنتصب على هذا الممر الحلقي أعمدة صفراء اللون ترتبط ببعضها البعض بواسطة حلقة‬
‫صفراء ‪ ،‬وتشكل األعمدة والحلقة الصفراء سياجا ً يرمى منه العلف إلى األسماك المحتجزة داخل شبكة ضخمة‬
‫تتدلى أسفل األطواق الحلقية السوداء‪.‬‬
‫عندما يكون المرء مطلعا ً على كتابات الصادق النيهوم ‪ ،‬فيحلو له أن يعقد مقارنة بين دائرة من تانك الدائرتان‪،‬‬
‫وبين الصحن الذي تحصل عليه "قط القوارشة" في عرض البحر بعد أن استجاب هللا لدعائه ولكن مع فارق‬
‫بسيط‪ ،‬وهو أن صحن "قط القوارشة" كان مليئا ً بالفئران ‪ ،‬وصحنا رأس الهالل كانا مليئان بأسماك القاروص‪.‬‬
‫إن الحديث عن مزرعة أسماك ‪ ،‬ليس المقصود منه المعنى العلمي التصنيفي للمصطلح ‪ ،‬فالمزرعة لم تكن‬
‫مقتصرة فقط على األسماك ‪ ،‬بل كانت تعج باإلضافة إلى األسماك بالعديد من األحياء البحرية االخرى التي‬
‫منها على سبيل المثال ؛ السراطانات ‪ ،‬والرخويات بأنواعها المختلفة والقشريات والرأسقدميات‬
‫والجوفمعويات ‪ ،‬وحتى الحيتان القاتلة ( األوركا ) ‪.‬‬
‫عاش أبناء القائد عيشة عصامية ‪ ،‬فقد ورث أحد أبناءه اآلخرين عن جده قطيعا ً من األبل ‪ ،‬وكان يبيع بعض‬
‫النوق والجمال ‪ ،‬وبأثمان هذه الجمال اعتاد على تنظيم مبارايات في كرة قدم يستضيف للعب فيها أشهر الفرق‬
‫العالمية ‪ ،‬كما كان يستقدم أشهر رياضيي العالم لتدريبه وصقل موهبته الرياضية‪.‬‬
‫فعالً لقد كانت الحيوانات هي مصدر الرزق الذي اعتمد عليه القائد وأبنائه في عيشهم ‪ ،‬وسواء كانت تلك‬
‫الحيوانات حية أو ميتة ‪ .‬على الرغم من غنى أوالده ‪ ،‬إال أن القائد كان يجد نفسه أحيانا ً عند حلول عيد‬
‫األضحى عاجزاً عن توفير المال لشراء أضحية من السوق ‪ ،‬مما يضطره للقيام بسلخ جلود بعض الحيوانات‬
‫النافقة وبيعها ألصحاب المدابغ على أنها جلود حيوانات مذكاة ذكاة شرعية بعد أن يملحها ليزيل عنها رائحة‬
‫الرمم المتعفنة ‪ .‬كانت جلود الحيوانات النافقة هي الملجأ التي يلجأ إليه القائد عندما يكون يعاني من ضيق ذات‬
‫اليد ‪ .‬وهلل در الشاعر القائل ‪:‬‬
‫هل يقبل الشرع بالخنزير تضحية ‪ ....‬يا ليت ما نهبوا منا وال سلبوا‬
‫إن مثل هذا العمل كان يأنف من فعله حتى أراذل البشر وحثالتهم ‪ ،‬ولكن كما قال محمد بلقاسم الزوي ذات يوم‬
‫أن الضرورات تبيح المحظورات ‪ ،‬وقال في يوم آخر أن بنغازي كانت قرية قبل مجيئهم‪.‬‬
‫لقد أراد االبن أن يعمر البحر ‪ ،‬بعد أن أفسد أباه البر ‪ ،‬فمنذ زمن ليس بالبعيد ( في تسعينات القرن العشرين )‬
‫أحرق القائد غابات وأحراش رأس الهالل باسقاطه البراميل المتفجرة من الطائرات فوق المنطقة مما جعل‬
‫الحيوانات البرية كالذئاب والضباع والثعالب تتجه جنوبا ً لتنفذ بجلدها من الجبل المحترق ‪ ،‬ولكن قد تكون‬
‫السرعة وسهولة التنقل قد أسعفت الذئاب والضباع ‪ ،‬ولكن لسوء الحظ لم تسعف السالحف والحلزونات‬
‫والحيوانات بطيئة الحركة فقد التهمتها ألسنة نار القائد ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫اليوم تنمو شجيرات السلوف بأزهارها الصفراء على سفوح جبال رأس الهالل وكأنها تقول إن أزهاري‬
‫الصفراء هي العنقاء التي نهضت من رماد أشجار العرعار والبطوم والشماري التي أحرقتها ألسنة النار‬
‫الصفراء على هذه الجبال التي تغنى بجمالها أحمد رفيق المهدوي‬

‫حباك هللا يا رأس الهـــــــــــال ِل ‪ .....‬يدا ً جعلتك عينا ً للجمـــــــــا ِل‬


‫مناظــــــــــــر للطبيعة قد تجلت ‪ .....‬بآثار المصور ذي الجـــــال ِل‬
‫تحس بروعـــــــة وخشوع قلب ‪ .....‬إذا قلبت طرفك في الجبــــا ِل‬
‫تذكر في الجنان الحوض وانظر ‪ .....‬إلى صاف من العذب الـزال ِل‬
‫فعالُ ‪ ،‬لقد فعل القائد بجبال رأس الهالل ما لم يفعله األستراليون واإليطاليون واإلنجليز واأللمان عندما اجتاحت‬
‫جيوشهم المنطقة ‪ .‬لقد أراد أن يستآصل شآفة مجموعة من الشباب خرجوا على حكمه بعد أن سأموا من‬
‫التفاهة والسخافة ‪ ،‬فخرج هو على الطبيعة وأحرق األخضر واليابس ‪.‬‬
‫كما كان لنابليون في مزرعة الحيوانات مستشاراً يسمى سنوبول ‪ ،‬فقد كان البن القائد مستشاراً يكتب له‬
‫الخطابات ‪ ،‬ويسامره ‪ ،‬ويتقاضى ثمن أتعابه واستشاراته من المال الذي يجنيه ولي نعمته من مزرعة‬
‫األسماك‪ .‬وبالتالي يكون من الواضح أن مزرعة األسماك لم تكن مصدراً لعيش ابن القائد فحسب ‪ ،‬بل‬
‫لمستشاره أيضا ً ‪.‬‬
‫كان ‪ ،‬هذا له أصحاب ‪ ،‬كان لهم شركة اسمها شركة رأس هالل للصيد ‪ ،‬وكان لهم مزارع أسماك ‪ ،‬ومن هذه‬
‫الشركة يصرف في رحالته ‪.‬‬
‫د‪ .‬محمد عبد المطلب الهوني ‪ ،‬مستشار ثقافي خاص سابق لسيف اإلسالم القذافي ‪ .‬قناة العربية ‪ ،‬برنامج‬
‫( إضاءات ) ‪ .‬األحد ‪ 15 ،‬مايو ‪2011‬‬
‫‪4‬‬
‫عندما يروج المرء أقواالً يدعي فيها ما ال يمكن أن تدعيه المبالغة ‪ ،‬وما تأباه الموضوعية ‪ ،‬ويرفضه المنطق‪،‬‬
‫فال ريب أن يكون وهو يأكل أسماك القاروص المشوية ولحم األخطبوط المتبل ‪ ،‬يبتلع ما قيل عن طول قامة‬
‫عوج بن عناق وقدرته على شواء السمك على سطح الشمس ‪.‬‬

‫واعلم أن تلك األفعال لألقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة األيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل‬
‫والمصانع وال تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام األقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس‬
‫بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل واآلثار ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه وسطروا عن‬
‫عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا ً عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق رجل من‬
‫العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى‬
‫الشمس ‪.‬‬

‫عبد الرحمن بن خلدون ‪" ،‬مقدمة كتاب العبر‪ ،‬وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر‪ ،‬ومن‬
‫عاصرهم من ذوي السلطان األكبر "‬

‫في مسامراتهما ‪ ،‬كثيراً ما حذر المستشار ابن القائد من مغبة المضي في الطريق التي ساروا عليها ‪،‬‬
‫واالصرار على السياسة التي انتهجوها ‪ ،‬ولكنهم وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا‬
‫وثائر على على نفس النظام فيما بعد ‪ ً،‬في كتاب له ما جرى‬
‫ٌ‬ ‫واستكبروا استكبارا‪ .‬ويروي أحد أركان نظام القائد‬
‫في مسامرة البن القائد مع نديمه المستشار‪ ،‬وكيف أن تقييم ابن القائد لقومه لم يكن يختلف كثيراً عن تقييمه‬
‫لمن خرج على حكم والده‪ ،‬فالمتمردون على حكمهم بعد أن سأموا من السخافة والتفاهة كانوا في نظره‬
‫جرذان وقناطش‪ ،‬والشعب كان في نظره نعاج وأبقار ‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫الدكتور " الهوني " مثقف ليبي انضم منذ بداية السبعينات إلى األصوات المعارضة للقذافي ‪ ،‬أقام في إيطاليا ‪،‬‬
‫وفي أواخر التسعينات تعرف بسيف اإلسالم ‪ ،‬نشأت بين االثنين عالقة صداقة حميمة ‪ ،‬أصبح الهوني من‬
‫جلساء سيف ‪ ،‬ثم تحول إلى نديمه الدائم ال يكاد يفارقه على مدى عشر سنوات ‪ ،‬أدمن سيف اإلسالم رفقة‬
‫الهوني ‪ ،‬الذي كان يتحدث معه بكامل الصراحة ‪ ،‬وأحيانا ً إلى درجة البذاءة ‪ ،‬كان يشرح له األوضاع المحلية‬
‫والدولية ‪ ،‬ينتقد كل ما يجري في ليبيا دون أدنى تحفظ ‪ ،‬ال يوفر التاريخ والفلسفة ليبين له خطورة األوضاع‬
‫في ليبيا ‪ ،‬كان يتنبأ بانهيار النظام منذ سنوات ‪ ،‬مازجا ً الجد بالهزل ‪.‬‬
‫ذات مرة ‪ ،‬وبحضوري ‪ ،‬قال الهوني لسيف ‪ " :‬انتم تحقرون الشعب الليبي ‪ ،‬وتعتبرونه جبانا ً ‪ ،‬والتاريخ يقول‬
‫ال يوجد شعب جبان ‪ ،‬ولكن يوجد شخص أو أشخاص جبناء " ‪ ،‬رد سيف " بأن الليبيين مجرد أبقار ونعاج ‪،‬‬
‫كل همهم ـ العلفة ـ أي أن يعبئوا بطونهم ـ ‪ ،‬ويرقدون " ‪ ،‬قال له الهوني ‪ " :‬قد يكون هذا صحيحا ً ‪ ،‬لكن‬
‫النعاج تولد الكباش ‪ ،‬والكباش تنطح ‪ ،‬وتكسر األذرع والصدور " ‪ ،‬كان الهوني يومئذ يتنبأ بـ ‪ 17‬فبراير ‪.‬‬

‫عبد الرحمن شلقم ‪ " ،‬نهاية القذافي "‬

‫لقد حذر المستشار ولي نعمته من ميالد كباش نطاحة ‪ ،‬ولكنه لم ينتبه إلى حقيقة أن النعاج نفسها قادرة على‬
‫النطاح إذا استلزم األمر‪ ،‬وإال لما تساءلت نازك المالئكة ‪ ،‬قائلة ‪:‬‬
‫أما في ديار العروبة كلب فينبح؟‬

‫أما من نعاج فتنطح؟‬

‫قدر المستشار مزرعة األسماك حق قدرها ‪ ،‬ولذا فقد كان يأتي إليها بين الحين واآلخر ليتفقد األسماك وليتأكد‬
‫من خلوها من األمراض ‪ ،‬وحصولها على قدر وافر من العلف ‪ ،‬ألن سالمة المزرعة وتطورها ينعكس‬
‫بالضرورة على سالمته هو وسالمة ابن القائد معا ً ‪ .‬وفي كل مرة يأتي فيها المستشار تطفو أعداداً كبيرة من‬
‫الحب ار على سطح المزرعة وتأخذ بنفث سحابات سوداء حتى تصبح مياه المزرعة عبارة عن بركة سوداء‬
‫وسط البحر ‪ .‬لعل تلك المادة السوداء هي الحبر الذي يستعمله الحبار في كتابة رسائله ‪ ،‬ولعل إحدى تلك‬
‫الرسائل هي أن الحبار أراد أن يقول للمستشار ‪:‬‬
‫أنا السبيدج الذي يسمونني أيضا ً الحبار ‪ ،‬لي قريب اسمه الكالمار ‪ ،‬وليس بغريب عني أيضا ً صانع اللؤلؤ‬
‫المسمى المحار ‪ ،‬فنحن ننتمي إلى الرخويات التي ليس لها فقار ‪،‬أحيانا ً يوقع بنا بالشباك ‪ ،‬وأحيانا ً أخرى‬
‫بواسطة الصنار ‪ .‬إنني أعرف جيدا ً السمكة المسماة بالفروج والتي تعرف أيضا ً باسمي الهامور والوقار ‪ ،‬كما‬
‫أعرف السمكة التي تسمى بسمكة المنشار ‪ .‬من المعلوم أن هناك حصان في البحر ‪ ،‬ولكن ليس فيه حمار ‪،‬‬
‫ومن المعلوم أيضا ً أننا نعيش في وسط إذا بُ ِرد تحول إلى جليد وإذا ُ‬
‫س ِخن تحول إلى بُخار ‪ ،‬وغني عن الذكر أن‬
‫الريح إذا اشتدت تجلب األمطار وتتحول إلى إعصار ‪ ،‬ومن نافلة القول أن الضغط يؤدي إلى االنفجار‪.‬‬
‫اعلم يا سيادة المستشار‪ ،‬أنه من المستحيل أن تُربع الدائرة أو يضعف المكعب أو تُثلث الزاوية فقط باستعمال‬
‫المسطرة والفرجار ‪ ،‬ومن المستحيل أن تزيف أفعال األشرار لتبدو كأنها إحسان صادر عن األخيار ‪ ،‬ومن‬
‫المستحيل أن يتحول الدمار إلى إعمار ‪ ،‬ومن المستحيل أن يتساوى فسق الفجار مع بر األبرار ‪ ،‬ومن‬

‫‪6‬‬
‫المستحيل ‪ ،‬بل من رابع المستحيالت أن يُنظر إلى الخزعبالت على أنها كالم ذو اعتبار ‪ ،‬فهي ال تعدو أن تكون‬
‫أكثر من مجموعة من األصفار ‪.‬‬
‫كانت السراطانات تراقب المستشار الواقف على الممر الدائري والمستند بيديه على الحاجز األصفر ‪ ،‬ويخيل‬
‫إليها أنه بنظارته السميكة التي يضعها على عينيه أنه سرطان يسعى ‪ ،‬فتخرج من البحر‪ ،‬ممدودة الكالليب ‪،‬‬
‫وتمشي على الممر الدائري بإتجاه المستشار وكأنها تريد التأكد من أن ذلك المخلوق الواقف أمامها فوق الماء‬
‫هو بالفعل سرطان من السرطانات ‪.‬‬
‫اعتادت السراطانات على افساد لحظات المتعة التي يقضيها المستشار في عرض البحر مستروحا ً نسائمه‬
‫العليلة ‪ ،‬فتأخذ بقرص رجليه بكالليبها الحادة مما يدفعه إلى مغادرة المزرعة ‪ ،‬وركوب قارب مطاطي ليعود به‬
‫إلى المرفأ األلماني القديم ‪.‬‬
‫في بعض األحيان عندما يكون المستشار يرتدي قميصا ً أبيض اللون كانت الحيتان القاتلة األوركا تقفز عاليا ً في‬
‫الهواء وهي تصدر أصواتا ً غريبة وكأنها كانت تريد أن تتحقق من أن ما تراه واقفا ً أمامها هو بالفعل حوت‬
‫قاتل (أوركا) بلونيه المميزين ‪.‬‬
‫لقد رأت السرطانات والحيتان القاتلة في المستشار ما لم يكن غيرها يراه فيه ‪ ،‬وكأن لسان حالها يردد ما قاله‬
‫أحمد بن الحسين الجعفي من قبل ‪:‬‬
‫ومن جهلتْ نفسه قدره ‪ ...‬يرى غيره منه ما ال يرى‬

‫وقد رأى المستشار في الحقيقة ما لم يكن غيره يراه فيها ‪.‬‬

‫أما موضوع معمر القذافي أنه يمتلك أموال ‪ ،‬فأنا أعتقد أنه ال يمتلك أموال شخصية أو حسابات مصرفية ‪ ،‬وال‬
‫حتى سيف اإلسالم ‪ ،‬يعني يجب أن نقول الحقيقة ‪ .‬قد نتخاصم مع القذافي ‪ ،‬ومع سيف اإلسالم ولكن يجب أن‬
‫نقول الح قيقة ‪ ،‬وربما ال تكون الحقيقة ‪ ،‬ولكن حقيقتي أنا ‪ ،‬وهو أنه معمر القذافي وسيف اإلسالم ال يمتلكوا‬
‫أموال خاصة ‪.‬‬
‫د‪ .‬محمد عبد المطلب الهوني ‪ ،‬مستشار ثقافي خاص سابق لسيف اإلسالم القذافي ‪ .‬قناة العربية ‪ ،‬برنامج‬
‫( إضاءات ) ‪ .‬األحد ‪ 15 ،‬مايو ‪2011‬‬

‫عندما يستمع المرء إلى مثل هذا الكالم ال بد أن يتذكر قول الشاعر الذي كان كلما ذكره أبو العالء المعري كان‬
‫يقول قال الشاعر ‪:‬‬
‫اء ُم ْكت َ ِح ُل‬‫ع ْينِ ِه َحقائِقُهُ ‪ ...‬كأنهُ بالذكــــــ ِ‬‫ف في َ‬ ‫ت ُ ْع َر ُ‬
‫شت َ ِع ُل‬‫أخاف يَ ْ‬
‫ُ‬ ‫علَ ْي ِه ِمنها‬
‫كرتِ ِه ‪َ ...‬‬
‫ق ِعن َد اتقـا ِد فِ َ‬
‫ش ِف ُ‬‫أُ ْ‬
‫عرف المبالغة‬
‫للمفكر اللبناني الكبير جبران خليل جبران قول جميل فيما يتعلق بالمبالغة والحقيقة ‪ ،‬فهو يُ ِ‬
‫بقوله‪:‬‬
‫المبالغة هي حقيقة فقدت أعصابها ‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫بمعارضة العبقري جبران ‪ ،‬يمكننا القول أن الحقيقة هي مبالغة ثابت إلى رشدها ‪ ،‬وعادت إلى وعيها ‪ ،‬وإذا‬
‫كانت المبالغة حسب رأي جبران هي حقيقة فقدت أعصابها ‪ ،‬فكالم المستشار ال ريب أنه حقيقة فقدت عقلها ‪.‬‬
‫الحظ الصيادون بخليج رأس الهالل ظهور حورية بحر في مياه الخليج الدافئة ‪ ،‬والحظوا أيضا ً أن ظهور‬
‫الحورية يتزامن مع وجود ابن القائد في المنطقة وكأن االثنان كانا على موعد ‪ . rendez - vous‬خالل‬
‫زياراتها تلك ‪ ،‬تقوم الحورية باستعراضات بهلوانية رائعة فتقفز عاليا ً في الهواء ثم تدور بجسمها الفاتن عدة‬
‫مرات قبل أن تهوي إلى البحر وتغطس في الماء ‪ .‬كانت تلك القفزات االستعراضية هي الرقص بالنسبة لحورية‬
‫البحر ‪ ،‬وبدافع الغيرة أو التنافس يجذب رقص الحورية مجموعة من الدالفين الدوارة ( المدومة ) ‪Spinner‬‬
‫‪ dolphins‬التي تخرج مندفعة من الماء وهي تبرم أو تغزل بأجسادها في الهواء ثم تخر مصطدمة بسطح‬
‫البحر فيتطاير رذاذ الماء هنا وهناك ‪ .‬على الرغم من عرضها المبهر إال أن الدالفين لم يكن في وسعها مجاراة‬
‫الحورية في رقصها اآلخاذ ‪ ،‬ولم يكن لها طلعة كطلعة الحورية الساحرة ‪ ،‬فال تجد بد من اإلنسحاب وترك مياه‬
‫الخليج كلها تحت تصرف الحورية ‪.‬‬
‫يتسمر صيادو رأس الهالل في قواربهم وهم يشاهدون حورية البحر الفاتنة وهي ترقص في خليجهم الجميل‪.‬‬
‫ي تجسد الجمال في كل شيء في رأس الهالل ‪ ،‬فالخليج بشواطئه ومياهه الزرقاء جميل ‪ ،‬والطبيعة التي تحفه‬
‫بجبالها وعيونها وأشجارها وشجيراتها جميلة ‪ ،‬ويضيف مجيء الحورية إلى خليج رأس الهالل جماال على‬
‫جماله ‪.‬‬
‫تضرب الحورية سطح البحر بذيلها الذهبي الجميل فتتناثر المياه وتقع بعض القطرات على جسد ابن القائد‬
‫األسمر ‪ .‬أرادت الحورية برقصاتها تلك أن تلفت نظر ابن القائد إليها‪ ،‬فلفتت بدالً من ذلك نظر المستشار ‪.‬‬
‫تفرس المستشار مليا ً في الحورية ‪ ،‬وأذهله الشبه الواضح بينها وبين فتاة روسية يعرفها من علية القوم ‪،‬‬
‫وكانت تلك الفتاة تحترف الرقص البهلواني ‪ .‬قال المستشار في نفسه لو لم تكن هذه التي ترقص أمامهما ‪،‬‬
‫وتحاول إغراء رفيقه حورية بحر ‪ ،‬لقال أنها هي الحسناء كاترينا تيخونوفا ذات الخدم والحشم ‪ ،‬بشحمها‬
‫ولحمها ‪.‬‬
‫في أحد األيام قدم المقاول التركي المسؤول عن إنشاء مزرعة األسماك عرافة غجرية إلى ابن القائد ‪ ،‬وقال له‬
‫أن لها نبؤات مدهشة ‪ ،‬وأقنعه بأن يسمح لها أن تقرأ له الطالع ‪ .‬وضعت العرافة صدفة كبيرة على أذنها ‪،‬‬
‫وأخذت تنصت إلى األصداء التي تتردد بداخلها ‪ .‬وبعد أن أنصتت العرافة بما فيه الكفاية إلى ما يدور بداخل‬
‫الصدفة ‪ ،‬أنبأت ابن القائد بنبؤتها ؛ فقالت له ‪ :‬لن يؤثر في حكمكم شيء من على األرض ‪ ،‬ولكن ما يؤثر في‬
‫حكمكم سيأتي من السماء ‪ .‬تضايق ابن القائد بعض الشيء مما قالته العرافة ‪ ،‬ولكن الزمن بمروره الثابت‬
‫أسقاه كأسا ً من السلوان ‪ ،‬فذهب كالم العرافة أدراج الرياح وطواه النسيان ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫اعتادت النسور الصلعاء على التحليق في أجواء المنطقة ‪ ،‬مسترخيةً فوق تيارات الهواء الساخنة ‪ ،‬وعندما‬
‫تلوح لها صدفة سلحفاة صغيرة فوق مياه الخليج الزرقاء تهوي إلى سطح البحر وتلتقط السلحفاة البحرية‬
‫وتطير بها عاليا ً في الهواء ‪ .‬لم يكن العثور على السالحف يمثل مشكلة بالنسبة للنسور بقدر ما كان يمثله كسر‬
‫صدفات السالحف التي تصطادها ‪ ،‬والتاريخ خير شاهد على ذلك ‪ ،‬فقديما حاول أحد النسور أن يكسر صدفة‬
‫سلحفاة فألقاها من علو كبيرعلى ما كان يظنه صخرة ‪ ،‬ولكنه بدالً من أن يكسر صدفة السلحفاة ‪ ،‬كسر ما هو‬
‫أهم منها بكثير فقد كسر رأس إيسخيليوس ‪ Aeschylus‬وأصاب المسرح اليوناني القديم في مقتل ‪.‬‬
‫في الواقع كانت تلك الحادثة مأساة لم يكن بوسع حتى إيسخيليوس نفسه قادرا ً على أن يؤلف مثلها ‪ .‬تنبأت له‬
‫عرافة بأنه سيالقي حتفه جراء سقوط شيء على رأسه ‪ ،‬وخوفا ً من تحقق نبؤة العرافة ‪ ،‬هجر إيسخيليوس‬
‫البيوت خشية سقوط سقف أحدها على رأسه ‪ ،‬وعاش في البرية حيث السماء هي سقف بيته ‪.‬‬
‫لقد كان إيسخيليوس حذرا ً ‪ ،‬ولكن ال ينفع حذر من قدر ‪.‬‬
‫إن المآسي كالتاريخ فهي تعيد نفسها على مسرح الحياة مراراً وتكرارا ً ‪ ،‬فذات مرة التقط نسر أصلع سلحفاة‬
‫من مياه خليج رأس الهالل وطار بها إلى األعالي ‪ ،‬وطفق يبحث عن صخرة ليلقي عليها صيده ‪ ،‬وبينما هو في‬
‫سعيه ذاك ‪ ،‬إذ لمح شيء يلمع على سطح البحر فطار إليه وألقى عليه السلحفاة ‪ .‬لم يكن ذلك الشيء اللماع‬
‫سوى رأس ابن القائد الذي كان واقفا ً على ممر مزرعة أسماكه ‪ .‬لحسن الحظ لم تتكرر مأساة إيسخيليوس هذه‬
‫المرة‪ ،‬فبدالً من أن تسقط السلحفاة على رأس ابن القائد وتتكسر صدفتها عليه ‪ ،‬سقطت بجانبه في داخل‬
‫القفص فالتهمها أحد الحيتان القاتلة ‪ .‬بسقوط السلحفاة من السماء ‪ ،‬األمر الذي كاد أن يكسر جمجمته ‪ ،‬تذكر‬
‫ابن القائد نبؤة العرافة التي أخبرته أن الخطر سيأتي من السماء ‪ ،‬وظن أن ما حدث هو تحقق لنبؤة العرافة ‪،‬‬
‫وأن الخطر قد زال فتنفس الصعداء ‪ ،‬وقرت عينه بهذه العاقبة ‪.‬‬
‫ذات يوم من األيام ‪ ،‬وبينما كان ابن القائد مستقيا ً على األطواق البالستيكية السوداء ‪ ،‬مستمتعا ً بأشعة الشمس‬
‫ومستروحا ً نسائم البحر العليلة ‪ ،‬كان هناك ثمة شيء خطير يجري تحت سطح البحر ‪ ،‬فقد جذبت األسماك‬
‫المحتجزة في القفص سمكة قرش جائعة ‪ .‬دارت سمكة القرش حول القفص وهي تحاول النيل من األسماك‬
‫التي بداخله ‪ ،‬ولكن عبثا ً كان ما تحاول فعله ‪ ،‬وبينما كانت في طوافها حول القفص مشرعةً زعنفتها الظهرية‬
‫في الهواء ‪ ،‬لمحت رأس ابن القائد الصقيل اللماع فأرادت أن تنال من ذاك الشيء اللماع بعد أن فشلت‬
‫مساعيها في أن تنال من األسماك المحتجزة داخل القفص ‪ .‬لقد رأت في ذاك الشيء المستلقي على األطواق‬
‫السوداء ‪ ،‬شيء حسن ‪ ،‬فقذفت بجسدها الهائل في الهواء في محاولة منها للنيل منه بيد أن ابن القائد كان‬
‫مسعودا ً ‪ ،‬وقد انقذه سعوده في اللحظة األخيرة‪ ،‬فهب واقفا ً وابتعد عن الحافة متشبثا ً بالحاجز األصفر ‪.‬‬
‫بعد فشلها في النيل من ابن القائد ‪ ،‬كادت سمكة القرش أن تتميز من الغيظ ‪ ،‬وكان الشرر يتطاير من عينيها‬
‫لدرجة أن ابن القائد لم يعد يرى فيها هيئة الحيوان البحري اللطيف ‪ ،‬ولكن حيوان بري أشبه ما يكون بالكالب‬

‫‪9‬‬
‫المسعورة أو الذئاب المتوحشة ‪ .‬إلى حد ما كان ابن القائد مصيبا ً في نظرته تلك فكما أن هناك عبد هللا البري ‪،‬‬
‫هناك عبد هللا البحري ‪ ،‬وكما أن هناك رمال في البحر ‪ ،‬هناك رمال في البر ‪ ،‬وكذلك الملح فهو في البحر والبر‪،‬‬
‫وينحو العالمة الكبير عمرو بن بحر الجاحظ هذا المنحى في اإلقرار بوجود ثنائية حيوانات البحر والبر‪،‬‬
‫فيقول‪:‬‬
‫غ والعظاء مث ُل‬ ‫َ‬
‫والوز ِ‬ ‫والحرباء ‪ ،‬والحلكاء ‪ ،‬وشحمة األرض ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫والورل‬
‫َ‬ ‫الضب‬
‫ِ‬ ‫البر من‬
‫ويزعُمون أن ما كان في ِ‬
‫وأن تلذذك األجنذذاس البريذذة وإن اختلفَذذتُ فذذي‬ ‫س ذلَحفاة والذ اذرق ‪ ،‬والتمسذذاح ‪ ،‬وال ُ‬
‫ضذذفدع ‪ ،‬ا‬ ‫الذذذي فذذي البحذذر مذذن ال ُّ‬
‫األجناس البحرية من تلك ‪ ،‬ككلب الماء من كلب األرض ‪.‬‬
‫َ‬ ‫أُمورها‪ ،‬فإنها قد تتشابه في أمور ‪ ،‬وأن هذه‬
‫" الحيوان " ‪ ،‬أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( ‪ 159‬هـ ‪ 255 -‬هـ )‬
‫ويقرر الكاتب األمريكي الكبير هيرمان ميلفل حقيقة أن هناك شبها ً بين سمكة القرش والكلب إال أنه يميل إلى‬
‫شيطنة سمكة القرش ‪ ،‬وترجيح كفتها في مجال الشر ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬

‫ثم أنك من بعض النواحي األخرى ال تستطيع أن تواجه أية مخلوقات بحرية بالمشاعر عينها التي تواجه بها‬
‫مخلوقات البر‪ .‬نعم ذهب بعض علماء التاريخ الطبيعي القدماء إلى أن لكل مخلوق على البر صنواً في البحر‪،‬‬
‫والحق أيضا ً أنك إذا شملت بنظرك المخلوقات في العالمين البري والبحري وجدت هذا الرأي صحيحا ً في‬
‫مجمله‪ ،‬ولكنك إذا أخذت تتأمل التفصيالت ألفيت األمر مختلفاً‪ .‬هل يستطيع البحر أن يدعي بأن لديه سمكة‬
‫صنوا ً في وداعتها الواثقة للكلب ؟ إن القرش وحده هو الذي يشبه بالكلب في الخلقة ‪ ،‬ولكن أي شيطان مريد‬
‫هو !‬
‫" موبي ديك " ‪ ،‬تأليف‪ :‬هيرمان ميلفل ‪ ،‬ترجمة ‪ :‬د‪ .‬إحسان عباس‬
‫كان رأس ابن القائد هو رأس المتاعب بالنسبة إليه ‪ ،‬فمرة يظنه نسر أصلع صخرة صلداء فيلقي عليها‬
‫سلحفاة‪ ،‬ومرة أخرى تظنه سمكة قرش شيء حسن وتريد النيل منها لوال إنه كان مسعودا بعض الشيء ‪.‬‬
‫من ضمن المواهب التي حبا هللا بها ابن القائد ‪ ،‬كانت موهبة الرسم ‪ ،‬فقد كان رساما ً تكاد األلوان والظالل‬
‫تمتزج في لوحاته بصورة يعجز عن فعلها أعظم الرسامين فالناظر إلى لوحاته ال يكاد يميز فيها بين اللون‬
‫والظل ‪ ،‬وعندما يكون ابن القائد في مزاج فني ‪ ،‬يقوم بنصب حامل اللوحات على األطواق الحلقية السوداء‬
‫لمزرعة األسماك ويضع عليه قطعة قماش ‪ ،‬ويشرع برسم لوحة للساحل الطويل الجميل ‪ ،‬في تلك األثناء تطلع‬
‫الحيتان القاتلة رؤوسها فوق الماء وتميلها قليال لترى ما يرسمه ابن القائد ‪ ،‬ثم تقوم بفعل عجيب ‪ ..‬إذ أنها‬
‫تعب كميات كبيرة من ماء البحر قبل أن تغوص إلى قاع المزرعة ‪.‬‬

‫ليلى الشيخلي ‪ :‬لو طلبت منك أنك ترسم لوحة ‪ ،‬من واقع فنان موش من واقع سياسي ‪ ،‬من واقع مشاعر‬
‫الفنان ‪ ،‬ترسم لوحة وتهديها إلى والدك ‪ ،‬ماذا ترسم فيها ؟‬
‫‪..................................................................................................‬‬
‫سيف اإلسالم القذافي ‪ :‬آه ‪ ،‬وهللا ممكن نرسم الـ ‪ ،‬الـ ‪ ،‬الساحل الليبي الجميل ‪ ،‬هو ألفين كيلومتر ‪ ،‬ونقوله هذا‬
‫الساحل ألفين كيلومتر ‪ ،‬أي واحي مي ‪ ..‬موش عاجبه معمر القذافي يختار أي بقعة في هذا الـ ‪ ،‬الساحل‬
‫الجميل اللي نبي نرسمه ‪ ،‬ويشرب من مية البحر ‪.‬‬
‫سيف اإلسالم القذافي ‪ ،‬رئيس مؤسسة القذافي للتنمية ‪ .‬قناة الجزيرة ‪ ،‬برنامج ( بال حدود ) ‪ .‬األربعاء ‪8 ،‬‬
‫أغسطس ‪2007‬‬
‫‪10‬‬
‫ال شك أن ابن عبدان السقاء كان متضايقا ً إلى حد القرف عندما قال ‪:‬‬
‫كبر‬ ‫َ‬
‫وأهون من مرأى صغير له ُ‬ ‫أحسن منظرا ً ‪...‬‬
‫َ‬ ‫وإني رأيتُ الضر‬
‫عاش ابن القائد ومستشاره في رغد من العيش فترة من الزمن يأكالن األسماك مسلوقةً ‪ ،‬ومشويةً ‪ ،‬ومقليةً‬
‫ويستمتعان بهواء البحر العليل ‪ ،‬ويستروحان نسماته ‪.‬‬
‫في الواقع ‪ ،‬لم تكن أسماك القاروص تعجب المستشار كثيراً ‪ ،‬ولكنه كان مغرما ً بطعام شهي آخر‪ ،‬أال وهو‬
‫األخطبوط ‪ ،‬وبسبب كثرة أكله للحم األخطبوط فقد اكتسب المستشار إذا جاز القول " طبيعة أخطبوطية"‪،‬‬
‫وليس في هذا الوصف شطط في القول أو تعديا ً على الحقيقة ؛ فمن المعروف أن لألخطبوط ثالثة قلوب ‪ ،‬ومن‬
‫المعروف أيضا ً إنه ليس ألي أمرئ طبيعي سوي من قلبين في جوفه ‪ .‬هذا من ناحية القلوب ‪ ،‬أما من ناحية‬
‫شكل بؤبؤ (إنسان) العين ‪ ،‬فمن الثابت أن لألخطبوط بؤبؤ مستطيل الشكل ‪ ،‬وال يمكن بأي حال من األحوال‬
‫استبعاد أن يكون لعين المستشار الواقعة خلف عدسة سميكة كذلك بؤبؤ مستطيل الشكل‪.‬‬
‫عند التفرس في وجه المستشار ‪ ،‬ال بد أن يالحظ المتفرس أن وجه المستشار وتحديدا ً جهة الفم واألنف تبدو‬
‫بارزة قليالً عن مستوى الوجه ‪ ،‬ومدببة بعض الشيء ‪ .‬تضفي هذه السمة البارزة على الهيئة العامة للمستشار‬
‫ملمح غير بشري ‪ ،‬فالناظر إليه يخيل له أنه يرى وجها ً مزودا ً بمنقار ‪ .‬بالطبع ليس المستشار في حفلة تنكرية‬
‫حتى نقول أن ما نشاهده هو من لوازم تلك الحفلة ‪ ،‬ولكن ‪ ،‬من جديد ‪ ،‬ال بد أن هذه السمة المنقارية قد‬
‫‪11‬‬
‫اكتسبها المستشار من خالل أكله للحم األخطبوط ‪ ،‬وليس هذا بمستبعد إذا علمنا أن لألخطبوط هو اآلخر منقار‬
‫حاد ‪ .‬وبسبب التصاقه بالحكام ‪ ،‬ال بد من تصنيف المستشار ضمن طبقة النبالء ‪ ،‬فتاريخيا ً كان النبالء في‬
‫أوروبا العصور الوسطى يلقبون بذوي الدماء الزرقاء ‪ .‬إن االلتصاق الوثيق بالحاكم ال يتم إال إذا كان لك بثور‬
‫ومحاجم ماصة كتلك التي لألخطبوط ‪ ،‬وأن يكون لك دما ً أزرق ال يتأتى إال إذا كنت أخطبوطا متجسداً في صورة‬
‫توحي فقط بأن لك دما ً أحمر ‪.‬‬
‫استناداً على هذه المقدمات ‪ ،‬يمكننا االستنتاج أن المستشار أصبح بالفعل أخطبوطا خالصا ً ‪ ،‬وغدا كاألخطبوط‬
‫األلماني بول الذي كانوا يستشيرونه في نتائج مبارايات كأس العالم ‪ ،‬وكان عنده فعالً الخبر اليقين ‪ .‬في الواقع‬
‫هناك فرق وحيد بين المستشار واألخطبوط ‪ ،‬فللمستشار أطرافا ً أربعة ‪ ،‬بينما لألخطبوط ثمانية أطراف ‪ .‬وهذا‬
‫يجعلنا نميل إلى االستنتاج مرة أخرى إلى أن المستشار هو في الواقع نصف أخطبوط ‪ ،‬وليس أخطبوطا ً كامالً ‪.‬‬
‫لقد حقق كثير من العلماء في هذه الظاهرة ‪ ،‬ومن هؤالء مؤسس علم االجتماع ‪ ،‬العالمة عبد الرحمن بن‬
‫خلدون ‪ ،‬فهو يقول في مقدمته الشهيرة أن للمغتذى تأثير على الغاذي به‬

‫واعلم أن الجوع أصلح للبدن من إكثار األغذية بكل وجه لمن قدر عليه أو على اإلقالل منها وإن له أثرا ً في‬
‫األجسام وا لعقول في صفاتها وصالحها كما قلناه واعتبر ذلك بآثار األغذية التي تحصل عنها في الجسوم فقد‬
‫رأينا المتغذين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك وهذا مشاهد في أهل البادية مع‬
‫أهل الحاضرة وكذا المتغذون بألبان اإلبل ولحومها أيضا ً مع ما يؤثر في أخالقهم من الصبر واالحتمال والقدرة‬
‫على حمل األثقال الموجود ذلك لإلبل وتنشأ أمعاؤهم أيضا ً على نسبة أمعاء اإلبل في الصحة والغلظ فال يطرقها‬
‫الوهن وال ينالها من مدار األغذية ما ينال غيرهم فيشربون اليتوعات الستطالق بطونهم غير محجوبة كالحنظل‬
‫قبل طبخه والدرياس والقربيون وال ينال أمعاءهم منها ضرر وهي لو تناولها أهل الحضر الرقيقة أمعاؤهم بما‬
‫نشأت عليه من لطيف األغذية لكان الهالك أسرع إليهم من طرفة العين لما فيها من السمية ومن تأثير األغذية‬
‫في األبدان ما ذكره أهل الفالحة وشاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غذيت بالحبوب المطبوخة في بعر اإلبل‬
‫واتخذ بيضها ثم حضنت عليه جاء الدجاج منها أعظم ما يكون وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح‬
‫ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العظم ومثال ذلك كثيرة فإذا رأينا هذه اآلثار من األغذية‬
‫في األبدان فال شك أن للجوع أيضا ً آثارا في األبدان ألن الضدين على نسبة واحدة في الـتأثير وعدمه فيكون‬
‫تأثير الجوع في نقاء األبدان من الزيادات الفاسدة والرطوبات المختلطة المخلة بالجسم والعقل كما كان الغذاء‬
‫مؤثراً في وجود ذلك الجسم وهللا محيط بعلمه‪.‬‬
‫عبد الرحمن بن خلدون ‪ " ،‬مقدمة كتاب العبر‪ ،‬وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر‪ ،‬ومن‬
‫عاصرهم من ذوي السلطان األكبر "‬

‫كما أن البن القيم كالما ً يذهب فيه إلى ما يؤيد فكرة تحول المستشار إلى أخطبوط ‪ ،‬فالمستشار ليس استثنا ًء في‬
‫تشبه اآلكل بالمأكول ‪.‬‬

‫وكل من ألف ضربا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه ‪ ،‬فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى فإن‬
‫الغاذي شبيه بالمغتذى‪.‬‬
‫ابن قيم الجوزية ‪ " ،‬مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين "‬

‫‪12‬‬
‫ولعل هذه الفكرة قد خامرت أيضا ً عقل أبي الطيب فاعتبر أن القهر هو غذاء للمقهورين الذين ليس لهم حيلة‬
‫في تغيير واقعهم المر ‪ ،‬ومن الطبيعي ‪ ،‬من كان القهر غذاءه فال بد أن يُقهر جسده ‪:‬‬

‫واحتما ُل األذى ورؤيةُ جانيه ‪ .....‬غذا ٌء تضوى به األجسا ُم‬


‫في تأصيل لغوي السم األخطبوط ‪ ،‬تروى حكاية قد ال يكون لها أي أساس من الصحة ‪ ،‬فيقال والعهدة على‬
‫الراوي أن األخطبوط في األصل كان يسمى طبوط ‪ ،‬ولكن األسماك دأبت من باب االحترام على منادته باألخ‬
‫طبوط ‪ ،‬فكانت تقول على سبيل المثال نحن معشر األسماك لنا قلب وحيد بينما لألخ طبوط ثالثة قلوب ‪ ،‬أو ما‬
‫أحد منقار األخ طبوط أو ما أشد زرقة دم األخ طبوط ‪ ،‬أو لقد أنقض األخ طبوط على سرطانا ً وألتهمه‪ ،‬أو لقد‬
‫نفث األخ طبوط سحابة سوداء من الحبر وأنزلق مبتعدا ً عن الخطر المحدق به ‪ ،‬أو يا للهول ‪ ،‬إن األخ طبوط‬
‫يرى األشياء بعين ذات بؤبؤ ( إنسان ) مستطيل ‪ ، ..‬وهكذا ألتصق بطبوط اسم األخطبوط ‪.‬‬
‫عند الحديث عن األخطبوط ولكي يكون للحديث رونق وبهاء ‪ ،‬ال بد من ذكر شيء مما قاله األديب الفرنسي‬
‫الكبير فكتور هوغو في هذا الخصوص ‪ ،‬وهو يصف الطريقة التي يفتك بها األخطبوط بفرائسه فيقول ‪:‬‬

‫ال يستطيع النمر إال أن يفترسك ‪ ،‬أما األخطبوط ‪ ،‬المرعب ! فهو يستنشقك ‪ .‬إنه يجتذبك نحوه وفي داخله ‪،‬‬
‫غ في هذا الكيس الرهيب ‪ ،‬الذي هو الوحش ‪.‬‬ ‫فتشعر ‪ ،‬وأنت المقيد ‪ ،‬اللزج ‪ ،‬العاجز ‪ ،‬أنك ت ُ ْفر ُ‬
‫إن فيما وراء الحدث الرهيب ‪ ،‬الذي هو أن تُفترس حيا ً ‪ ،‬ما ال سبيل إلى التعبير عنه ‪ ،‬إنه أن ت ُش َْر َب حيا ً ‪.‬‬
‫فكتور هوغو ‪ " ،‬عمال البحر "‬

‫أُغرم المستشار كذلك بأكل الجمبري ( الروبيان ) ‪ ، Shrimp‬وإن كان بدرجة أقل من غرامه بأكل لحم‬
‫األخطبوط ‪ ،‬بيد أن ولي نعمته لم يشاركه استمتاعه بهذا الطبق ‪ ،‬والحق يقال ‪ ،‬فقد كان ابن القائد يكره‬
‫الجمبري ‪ ،‬كراهية وراثية ‪ ،‬ولعل كراهيته للجمبري قد أكتسبها من والده القائد ‪ ،‬وليس في ذلك أي غضاضة ‪،‬‬
‫فمن شابه أباه فما ظلم ‪ .‬يحكي لنا محمد حسنين هيكل عن حادثة طريفة كان القائد يمثل فيها دور اإلنسان‬
‫الصحراوي البسيط الذي ال يأكل الجراد ‪ ،‬ويستغرب إذا شاهد أحد يأكله ‪ ،‬كما أنه ال يأكل السمك ألنه ال يذبح‬
‫على الطريقة اإلسالمية ‪ ،‬ورفض أكل الجمبري في وليمة دُعي إليها ‪ ،‬ألن الجمبري ميت ‪ ،‬وهو ال يأكل الميتة‪.‬‬
‫في الواقع ‪ ،‬كانت البقرة تتظاهر ببساطة مغرقة في بساطتها إلى درجة الزندقة ‪ ،‬وكان حالبوها يتظاهرون‬
‫باحترامها إلى درجة يصبح معها النفاق نوع من االحترام ‪ ،‬ويروي دجال العرب هذه الواقعة ‪ ،‬في كتاب له‬
‫بعنوان (الطريق إلى رمضان) ‪:‬‬
‫وهذه حادثة صغيرة لكنها ذات مغزى ‪:‬‬
‫كان القذافي في إحدى المناسبات ‪ :‬ودعاه الرئيس عبد الناصر إلى تناول طعام العشاء معه ‪ ،‬وكانت أول مرة‬
‫يرى فيها القذافي الجمبري ‪ .‬وبدأ الذعر على وجهه ينظر إلى طبقه ويسأل ‪ " :‬ما هذا ؟ ‪ ..‬جراد ؟ أتأكلون‬
‫الجراد في مصر ؟ " ‪ .‬وضحك عبد الناصر وقال ‪ " :‬كال هذا ليس جراداً وإنما جمبري " ‪ .‬فسأل القذافي ‪" :‬‬
‫وما هو الجمبري " ‪ .‬ورد عبد الناصر أنه نوع من السمك ‪ .‬لكن القذافي رفض أن يأكله وقال ‪ " :‬أنا ال أكل‬
‫السمك ألنه ال يُذبح على الطريقة اإلسالمية ‪ ،‬حيث يقول من يتولى عملية الذبح قبل أن يبدأ الذبح ‪ :‬هللا أكبر ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫إن هذا الجمبري ميت ‪ ،‬وال يمكنني أكل الميتة " ‪ .‬وضحكنا جميعا ً بطبيعة الحال ‪ .‬لكن هذا الرجل نفسه أظهر‬
‫فهما ً تاما ً لطريقة استخدام اإلذاعة في مد تأثيره خارج حدود ليبيا ‪ .‬وكانت دعايته مؤثرة في بعض األحيان ‪،‬‬
‫وغير مؤثرة أحيانا ً أخرى ‪ ،‬لكن من المؤكد أنه استطاع أن ينشىء شبكة إذاعة على درحة عالية من الكفاءة ‪.‬‬
‫محمد حسنين هيكل ‪ " ،‬الطريق إلى رمضان "‬

‫لم تكن العالقة بين زعيم القومية العربية ‪ ،‬وأمين القومية العربية تختلف كثيراً عن العالقة القائمة بين سمكة‬
‫القوبيون ‪ Goby fish‬وجمبري المسدس ‪ ، Pistol Shrimp‬حيث يقوم الجمبري بحفر حفرة في قاع البحر‬
‫الرملي ‪ ،‬ويسهر على رعايتها وصيانتها ‪ ،‬ويستضيف فيها سمكة القوبيون ‪ ،‬ومقابل هذا الكرم تقوم سمكة‬
‫القوبيون بحراسة الجمبري وتنبيهه في حال اقتراب الخطر إذ أنه يكاد يكون أعمى ‪.‬‬
‫إن العالقة بين البقرة وحالبها كانت أيضا ً عالقة تكافلية ‪ ،‬إذ يقوم فيها حالب البقرة بما يتوجب عليه من واجب‬
‫تجاه أي بقرة ‪ ،‬وتستمد البقرة من هذه االستحالب شرعيتها في كونها بقرة حلوب ‪.‬‬
‫ال ريب في أن ابن عبدان ‪ ،‬لو أطلع على هذه التمثيلية الهزلية لقال ‪:‬‬
‫وكم ذا بمصر من المضحكــات ‪ ....‬ولكنه ضحك كالبكــــــــــــا‬
‫عندما تهب الرياح الشمالية ‪ ،‬ويكون إتجاه تيار البحر من الشمال إلى الجنوب ‪ ،‬فيجلب كل من الهواء والماء‬
‫رائحة السمك إلى الشاطئ‪ ،‬عندها تتجمهر أعدادا ً ال حصر لها من القطط على رصيف مرفأ الصيد ‪ .‬ترمي‬
‫األمواج باألسماك الميتة على الشاطئ ‪ ،‬ويعتبر مرفأ الصيد هو المكب الطبيعي الذي يلقي فيه البحر بنفايته ‪،‬‬
‫ولهذا السبب كان المرفأ مهوى أفئدة القطط ‪.‬‬
‫ليس بمستغرب أنه لو ُخير قط بين نار عامرة باألسماك ‪ ،‬وجنة تخلو من األسماك‪ ،‬الختار النار على الجنة ‪،‬‬
‫فهذه هي طبيعة القطط حيثما وجدت ‪ .‬بسبب وفرة األسماك ‪ ،‬ازدادت أوزان القطط حتى أصبحت في غاية‬
‫السمنة ‪ ،‬ولم تعد قادرة على فعل أي شيء سوى األكل ‪.‬‬
‫كثيراً ما عبر ابن القائد ومستشاره عن استيائهما من هذه القطط السمان ‪ ،‬وأعربا عن ضيقهما من سمنتها‬
‫المفرطة‪ ،‬بيد أن ابن القائد نسى حقيقة ناصعة ‪ ،‬أال وهي أن هذه القطط ما كانت لتسمن ‪ ،‬لو لم تجد في‬
‫م شاريعهم ما تقتات عليه ‪ ،‬ولو لم تجد في سياستهم ما تنسجم معه وتصبو إليه ‪ .‬فالقطط ال تسمن من عدم ‪.‬‬
‫أعال المستشار وابن القائد نفسيهما مما كانت تدره مزرعة األسماك من أموال ‪ ،‬فكانا خاليا البال ‪ ،‬مطمئنا‬
‫النفس ‪ ،‬قريرا العين ‪ ،‬بيد أن صروف الدهر ال تثبت على منوال وتقلباتها ال يهدأ لها حال‪ ،‬ففي ذات مرة‬
‫اصطدم نيزك ضخم بالبحر ـ والبعض يقول حسبانا ً من السماء ـ فارتفع سطح البحر واندفعت مياهه في أمواج‬
‫مدية هائلة نحو الساحل ‪ .‬دمر التسونامي كل ما وجده أمامه بما في ذلك مزرعة أسماك ابن القائد ‪ ،‬فقد تمزقت‬
‫الشباك الضخمة وتسربت األسماك إلى البحر ‪ ،‬وعاد كل ما كان من البحر إلى البحر ‪ ،‬وما كان من البر تحطم‬
‫على البر‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫لم يكن ال القائد ‪ ،‬وال األسماك في االنتظار ‪ ،‬فقد الذ هو وهي بالفرار ‪ ،‬وآثرا السالمة على مواجهة قرار‬
‫األقدار‪ ،‬إذ ليس هناك أسهل على الرحى من الجعجعة ‪ ،‬وليس أسهل على العجل من الخوار‪.‬‬

‫إذا نزلوا على األرض ‪ ،‬نحن في انتظارهم وكذلك األسماك ‪ .‬ستأكلهم األسماك ‪ ،‬وستأكلهم بنادقنا إذا نزلوا على‬
‫األرض ‪ .‬نريد هذا ‪ .‬نحن نريد اللقاء بيننا وبينهم ‪.‬‬
‫مداخلة لألخ القائد بالهاتف – الجمعة ‪ 17 ،‬يونيو ‪2011‬‬

‫دارت الدوائر على تانك الدائرتان الضخمتان الطافيتان فوق بحر رأس الهالل ‪ ،‬ولم يكن البن القائد ومستشاره‬
‫من مناص أمام غضب الطبيعة ‪ ،‬وجبروت التسونامي إال أن يتركا مزرعة األسماك التي كانت تعيلهما ‪ ،‬ويلجأا‬
‫إلى البر ليتسلمهما السوقة والدهماء هناك ‪ .‬تكفل الرعاع بما نجى من دوائر القدر ؛ وقاموا بنهب كل ما يمكن‬
‫نهبه من معدات المزرعة وآلياتها ‪.‬‬
‫وجد ابن القائد ومستشاره نفسيهما على قارعة الطريق يعضهما الجوع بنابه بعد أن كان فيهما ال يخلوان من‬
‫أسماك البحر وفواكهه وأطايبه ‪ ،‬وهلل در المتنبي القائل ‪:‬‬
‫ب‬
‫سلي ِ‬
‫راق َ‬ ‫فارقَ َها ال َم ِ‬
‫اضي فِ َ‬ ‫ت َ َمل َك َها اآلتي ت َ َملُّكَ َ‬
‫سا ِلب ‪َ ....‬و َ‬
‫وهكذا فقد ابن القائد جنتيه وأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ‪ .‬وما كان ربك‬
‫ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ‪.‬‬
‫أُصيب ابن القائد في خضم تلك الجائحة إصابة بليغة وفقد جراء تلك اإلصابة ثالثة أصابع من أصابع يده‬
‫اليمنى‪ ،‬وهي تلك األصابع التي كان كان يرفعها في وجوه البؤساء ويهددهم بها ‪ ،‬ولعل تلك األصابع تكون‬
‫تعويضا ً مناسبا ً ألسماك البحر عن أصابع السمك ‪ fish fingers‬التي طالما تلذذ بأكلها هو ومستشاره النهم ‪.‬‬
‫كما عب ابن القائد كثيرا ً من ماء البحر بعد تحطم قاربه على الصخور ‪ ،‬وفقد لوحته الشهيرة التي صور فيها‬
‫ساحل طويل جميل ‪ .‬لقد شرب هو من نفس الكأس التي أراد أن يسقيها لغيره ‪.‬‬
‫ذهبت اللوحة ‪ ،‬وذهب صاحبها وبقى ذلك الساحل الطويل الجميل الذي أوجده الواجد ‪ ،‬الذي ال يغفل وال ينام ‪.‬‬
‫شعر المستشار بفداحة الخطب وهول المصيبة التي وقعت على رأس ابن القائد ‪ ،‬فنظر إليه نظرة تضامن‬
‫وتآزر ‪ ،‬نظرة لو أفصحت عن نفسها بكلمات لرددت ما قاله الذي مأل الدنيا وشغل الناس ‪:‬‬

‫األمير فإنني ‪ ....‬آل ُخذُ ِمن َحاالتِ ِه ِبنَ ِصي ِ‬


‫ب‬ ‫َ‬ ‫ال يُحْ ِز ِن هللا‬
‫يروى عن أحد المؤرخين حكاية قد ال يكون لها أي أساس من الصحة حول ما حدث البن القائد وفقدانه لثالثة‬
‫أصابع ‪ ،‬فيقول ذلك المؤرخ والعهدة عليه ‪ :‬بعد أن أطلق محتجزوه سراحه ‪ ،‬اقترن ابن القائد بفتاة مصرية‬
‫وعاش معها في حب ووئام ‪ ،‬إلى أن آتى يو ٌم اختلف فيه الزوج مع زوجته حول أمر ما ‪ ،‬ووقعا في الخصام‪.‬‬
‫حصلت بينهما مشادة كالمية تنافرا على إثرها‪ ،‬و استمر تنافر الزوجين عن بعضهما البعض لفترة من الزمن‬
‫إلى أن قررت الزوجة وصل حبل المودة بينها وبين زوجها ‪ .‬هناك حقيقة سائدة ‪ ،‬وهي أنه ال يوجد في العالم‬
‫‪15‬‬
‫كله نساء يعرفن أن الطريق إلى قلب الرجل يمر عبر بطنه أكثر من النساء المصريات ‪ ،‬ولتطبيق هذا المبدأ ‪،‬‬
‫قررت الزوجة إعداد وجبة من تلك الوجبات التي تخلب اللب وتسلب العقل‪ ،‬ومن المقرر أنه ليس هناك وجبة‬
‫تفعل هذا الفعل كما تفعله "الملوخية باألرانب" ‪ ،‬وال شك أن الحاكم بأمر هللا الفاطمي كان مصيبا ً عندما استثنى‬
‫هذا الطعام من قائمة قرارته التعسفية ‪ .‬إلعالن نواياها الطيبة وعواطفها الجياشة اقتربت الزوجة من زوجها‬
‫على خفر واستحياء وقالت له بلهجة ملؤُها المودة والحنان ‪ :‬إزيك اليوم يا بيضاء ؟ دا أنا عماللك أكلة إنما‬
‫إيه ‪ .‬دا أنت حتاكل ‪..‬‬
‫وتلعثمت الزوجة الطيبة ‪ ،‬وتوقفت عن الكالم إذ أنها أدركت أنه ليس هناك ثمة ما يُؤكل بعد " الملوخية‬
‫باألرانب"‪ .‬انتهى كالم المؤرخ ‪.‬‬
‫لم يختلف حال ابن القائد ومستشاره عن حال جرذ النيهوم الذي وجد نفسه طافيا على قطعة جبن في عرض‬
‫البحر ؛ إن أكلها مات غرقا ً ‪ ،‬وإن لم يأكلها مات جوعا ً ‪ .‬فهما إن بقيا في البحر كان عليهما مواجهة‬
‫التسونامي‪ ،‬وإن ذهبا إلى البر كان عليهما مواجهة الذل والمهانة على أيدي الرعاع الذين يجوبون أرجاء‬
‫المنطقة ‪.‬‬

‫إنه يحس بالخو ف مثل جرذ يعوم على قطعة جبن في وسط المحيط‪ .‬إذا أكلها غرق ‪ ..‬وإذا لم يأكلها مات‬
‫الصادق النيهوم ‪ "،‬تحية طيبة وبعد "‬ ‫بالجوع ‪.‬‬

‫وما توفيقي إال باهلل‬


‫‪ 5‬رمضان ‪ 1439‬هـ ‪ ،‬الموافق ‪ 21‬مايو ‪2018‬‬ ‫فريد أبو سرايا‬
‫‪16‬‬

You might also like