You are on page 1of 5

1

‫األحجية التشادية ‪ :‬حكاية جندي أسير بات لقمة سائغة لفأر‬


‫فريد أبو سرايا‬

‫كل إنسان يشعر باأللم بطريقته الخاصة ‪ ،‬فلكل شخص ندوبه الخاصة ‪.‬‬
‫هاروكي موراكامي ‪ ،‬كافكا على الشاطئ‬

‫في الخامس من سبتمبر من عام ‪ 1987‬ميالدي ‪ ،‬أستطاعت القوات التشادية االلتفاف حول قاعدة "‬
‫السارة " الجوية ‪ ،‬ومهاجمتها بغتة من الشمال‪ ،‬أي مهاجمتها من ليبيا نفسها ‪ .‬سقطت القاعدة كما تسقط‬
‫رطبة بالغة النضج من نخلة على األرض ‪ .‬سقطت ‪ ،‬فأنفلقت ‪ ،‬ففسقت ‪.‬‬
‫لم يكن سقوط القاعدة راجعا ً لشدة مراس القوات التشادية المدعومة من قوات أفريقية أخرى ‪ ،‬أو لقوة ضاربة‬
‫لألسلحة التي كانت بأيدي تلك القوات ‪ ،‬ولكن ألن من كان يحرسها لم يكن جيشا ً بالمعني الصحيح للكلمة ‪ ،‬ولم‬
‫يكن أفراد ذلك الجيش يعرفون الهدف الحقيقي للحرب التي يخوضون غمارها ‪ ،‬ولم تكن لهم من عقيدة قتالية‬
‫سوى الخوف الشديد ممن جرهم إلى رمال تشاد الرمضاء ‪.‬‬
‫قُتل في ذلك الهجوم من قُتل ‪ ،‬وفُقد من فقد ‪ ،‬وأ ُسر من أسر ‪ ،‬وتكدس األسرى على ظهر ناقلة جنود ‪ ،‬ومضت‬
‫العربة تطوي الصحراء وتقطع الفيافي والقفار في طريقها‪ ،‬متجهةً نحو الجنوب ‪.‬‬
‫بعد مسيرة نهار كامل وصلت ناقلة الجنود إلى وجهتها المنشودة ‪ ،‬وكان الوقت ليالً وقد أرخى الظالم بسدوله‬
‫على المكان ‪ .‬شرع الجنود التشاديون بإنزال أسراهم أرضا ً ‪ ،‬وإدخالهم إلى أحد المباني ‪ .‬كان جو المكان يعبق‬
‫برائحة مطهر الجروح ( الكلوروفورم ) ‪ ،‬ووسط ظالم دامس لم يكن بوسع أحد فيه رؤية لسانه لو أدلعه ‪ ،‬قعد‬
‫األسرى على األرض متالصقين ‪ ،‬إلتماسا ً للدفء ‪ ،‬ولألنس ‪.‬‬
‫عندما ال يكون هناك ثمة أصوات ت ُسمع ‪ ،‬أو صور ت ُرى ‪ ،‬وحيثما يكون المرء في فضاء ليس به اشياء محددة‬
‫يمكنه لمسها ‪ ،‬فليس هناك من ملجأ له سوى أنفه ‪ ،‬فحاسة الشم في هذه الحالة تكون هي فصل الخطاب ‪ .‬أدرك‬
‫‪2‬‬
‫األسرى أنهم في مكان هو أقرب ما يكون إلى عيادة طبية أو مشفى ‪ ،‬وشكل هذا االستنتاج الصحيح أول قطعة‬
‫ُر ِّكبتْ في األحجية التي كانوا يواجهونها أو باألحرى التي كانوا في خضمها ‪ ،‬وبينما كانوا يستكشفون المكان‬
‫بأنوفهم ‪ ،‬أنبثقت من وسط الظالم صرخة متألمة ‪ ،‬أعقبها صياح مذعور يخالطه كالم هو أشبه للهذيان منه‬
‫بأي كالم معقول أومفهوم ‪.‬‬
‫كان الصوت هو عبارة عن استغاثة ‪ ،‬وكان صاحب الصوت يستعيذ بالقادمين من فأر ‪ ،‬ويقول أن الفأر جاء‬
‫ليأكله ‪ ،‬ثم يصيح عاليا ً ‪ :‬أبعدوا عني الفأر‪ ،‬باهلل عليكم أبعدوه عني ‪ ،‬ثم يطلق صرخة حزينة تحمل من معاني‬
‫األلم ما ال تستطيع الكلمات أن تعبر عنه ‪ .‬من الصواب القول أن المتألم كان يشعر باأللم ‪ ،‬ولكن كي يكون‬
‫الوصف دقيقا ً‪ ،‬فاألصوب هو القول ؛ أنه كان يعيش األلم ‪ ،‬ومن يعايش شيء ال بد أنه يدركه ويحيط به ‪.‬‬

‫رويدأ رويداً أخذ ذلك الصياح والصراخ يذوي شيئا ً فشيئا ً ‪ ،‬ثم تحول إلى أنين خافت حزين ‪ ،‬وما لم يفعله‬
‫الصياح والصراخ فعله األنين ‪ ،‬فقد تسرب األنين من فم صاحبه إلى قلوب األسرى ‪ .‬إن األنين ليس كالما ً بل‬
‫هو عبارة عن صوت له نغمة معينة تستقبله األذن وترسله مباشرةً إلى القلب ‪ ،‬فاألنين هو من بقايا اللغة التي‬
‫سبقت لغة الكلمات ‪ ،‬وهو اللغة التي تهمس بها النفوس المتألمة إلى قلوب اآلخرين ‪ .‬المس ذلك الصريخ‬
‫أسماع األسرى‪ ،‬فركب في أحجية األسرى قطعة ثانية ‪ ،‬بيد أن تلكما القطعتان أظهرتا فقط جزءاً صغيراً من‬
‫الصورة ‪ ،‬وظلت معظم أجزاءها مخفية عن العيان‪ ،‬وبالطبع‪ ،‬لم يساعد هذا في إدراك حقيقة الوضع القائم‬
‫وفهمه فهما ً تاما ً‪.‬‬
‫في كثير من األحيان ‪ ،‬ال يساعد إظهار جزء من الصورة أو أجزاء منها البتة في فهم وإدراك ما تريد الصورة‬
‫الكاملة أن تنقله إلى متأملها ‪ ،‬بل إن ذلك يكون أحيانا موهما ً للعقل ‪ ،‬وموجها ً إياه إلى القفز إلى استنتاجات هي‬
‫أبعد ما تكون عن المعاني التي صورت الصورة من أجلها ‪ ،‬والتي أراد المصور أن ينقلها لمن يتمالها ‪.‬‬
‫تميزت الرائحة بقوتها ونفاذيتها ‪ ،‬اما الصوت فالشئ الوحيد الذي فهم منه هو األلم ‪ ،‬فاأللم الشديد ال يدرك‬
‫بالشم ‪ ،‬أو باللمس ‪ ،‬ولكن ال يمكن للسمع والبصر أن يخطأنه ‪.‬‬
‫أتجه األسرى نحو مصدر الصوت وهم يتخبطون في الظالم ‪ .‬من المغري القول أنهم كانوا كحاطب الليل ‪ ،‬بيد‬
‫أنهم كانوا يتميزون عن حاطب الليل بأن ما يبحثون عنه كان يُصوت ‪ ،‬بينما ليس للحطب صوت‪.‬‬
‫تفاعلت حاسة اللمس مع الواقع الملموس ‪ ،‬وباالستعانة بأيديهم وأرجلهم وصل األسرى إلى سرير معدني‬
‫مستلقيا ً عليه صاحب ذلك األنين ‪ ،‬وهكذا ُركبت قطعة ثالثة في أحجية األسرى ‪ ،‬وبدأت صورة الموقف تتشكل ‪،‬‬
‫ولكنها لم تكتمل بعد ‪.‬‬
‫وجدوه ممددا ً على السرير ‪ ،‬يتنفس بصعوبة وببطء ‪ ،‬ويئن من شدة األلم ‪ .‬عندما أدرك أنه محاط برفقة أناس‬
‫استجابوا لصريخه ‪ ،‬وهبوا لنجدته ‪ ،‬ناشدهم باهلل أال يتركوه لقمة سائغة للفأر المتربص به ‪ ،‬ويبدو أن األلم قد‬
‫وصل إلى منتهاه ‪ ،‬فسلم الوعي إلى الالوعي زمام األمور ‪ ،‬وغاب المتألم عن الوعي ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫بأسلوبه الرفيع ‪ ،‬يصف الرافعي مثل هذه الحالة ‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫مهما يبلغ االلم في عذاب انسان فلن يُجاوز حالة معيَّنة ثم يُ ْغ َمى على المتألم ويستريح ولو ُدقَّت في‬
‫عظامه المسامير؛ كالماء مهما تُو ْقد عليه فلن يَ ْعد َُو درجة معروفة في غليَانه ثم يثبت عندها ولو‬
‫أضرمتَ عليه من النار التي َوقُودُها الناس والحجارة ‪.‬‬
‫" رسائل األحزان في فلسفة الجمال والحب " ‪ ،‬مصطفى صادق الرافعي ( ‪ 1880‬ـ ‪) 1937‬‬

‫على الرغم من أن كالمه لم يكن مفهوما ً ‪ ،‬إال أن ما رشح منه من ألم و معاناة شديدة حمل األسرى على‬
‫التحلق حول السرير‪ ،‬فشكلوا بذلك سدا ً منيعا ً في وجه كل من تسول له نفسه االقتراب من السرير ‪ ،‬وكانوا في‬
‫تلك الليلة الليالء طوق نجاة حقيقي له ‪.‬‬
‫مع تباشير الصباح األولى ‪ ،‬غزت رسل الضوء المكان ‪ ،‬فأصبح باالمكان رؤية ما تعذر رؤيته من قبل ‪ ،‬وركبت‬
‫قطعة رابعة في األحجية ‪ ،‬فأكتملت صورة الموقف والحالة ‪.‬‬
‫رأى األسرى شخصا ً مضطجعا ً على سرير معدني بسيط ‪ ،‬وآثار حروق خطيرة تغطي جسمه بالكامل ‪ .‬نشر‬
‫الضوء الدفء في المكان ‪ ،‬فصحا المحروق من نومه‪ ،‬أو باألحرى أفاق من غيبوبته ‪ ،‬وعلم أنه وسط أهله ‪،‬‬
‫فاشتدت عزيمته ‪ ،‬وارتفعت معنويته ‪ ،‬ومال إلى الحديث معهم ‪.‬‬
‫باكتمال الصورة ووضوحها تتم المعرفة ‪ ،‬وبتمام المعرفة ينجلي الغموض ‪ ،‬وبإنجالء الغموض تُحل األحجية ‪:‬‬
‫كان المحروق أحد أفراد طاقم دبابة أصيبت بقذيفة في إحدى المعارك فاحترقت ‪ ،‬ونال صاحبنا نصيبا ً من النار‬
‫التي اشتعلت في الدبابة ‪ ،‬ولكنه لم يمت ‪ ،‬بل وقع في األسر ‪ ،‬وجيء به إلى مكان ‪ ،‬أُريد منه أن يكون مشفى ‪،‬‬
‫ولكنه في الواقع كان عبارة عن مشفى بحاجة لالستشفاء ‪ ،‬أو قد يكون مشفى في حالة نقاهة ‪.‬‬
‫لم يكن في ذلك المشفى ما يساعد على الحياة سوى طيبة قلب الحارس التشادي المكلف بمراقبة األسرى ‪،‬‬
‫ولكن كان فيه ما يساعد على العذاب و الموت ‪ ،‬وكان ذلك الشئ عبارة عن فأر صغير جذبته رائحة الجلد‬
‫المحترق الذي يغطي جسم األسير المحروق ‪ ،‬فأخذ يقوم بغزوات ليلية ‪ ،‬يتناول فيها وجبات هائلة من اللحم‬
‫‪4‬‬
‫المشوي ‪ ،‬وكانت صيحات األلم التي يطلقها المحروق هي بالنسبة للفأر بمثابة الموسيقى التي تعزفها الفرق‬
‫الموسيقية بالمطاعم الراقية ‪ ،‬والتي تصاحب تناول الوجبات ‪.‬‬
‫لقد وجد الفأر الصغير ضالته المنشودة في األسير المحروق ‪ :‬لحوما ً مشوية وأنغاما ً شجية ‪.‬‬
‫أمر هين ‪ ،‬ولكن الشيء الصعب والقاسي هو الموت بالتجزئة ‪ ،‬ففي هذه الحالة يكون‬
‫إن الموت بالجملة هو ٌ‬
‫المرء شاهد عيان على موته ‪.‬‬

‫في لحظات النزع األخيرة ‪ ،‬أخذ األسير المحروق يدعو ربه بدعاء ظل يردده حتى فارق الحياة ‪ ،‬وصعدت‬
‫روحه إلى بارئها ‪ ،‬فكان يقول ‪:‬‬
‫يا رب مصطفى والمصطفى ‪ ،‬بجاه المصطفى ‪ ،‬أرحم عبدك مصطفى ‪.‬‬

‫وكأني بالرافعي قد تكلم بلسان حال بقية األسرى فقال ‪:‬‬


‫إذا بكينا الميت فما بكينا لذهابه عنا ‪ ،‬ولكنا نبكي لبقائنا بدونه ‪ ،‬كما اجتمع نفر من الغرباء في البلد‬
‫وركنًا من قوتهم قد مال ‪ ،‬وجانبًا‬
‫النائي فيُخترم أحدهم ‪ ،‬فما يرونه إال معنى من أنسهم قد زال ‪ُ ،‬‬
‫من نظامهم قد أفسده االختالل ! وما دام في األرض باك على ميت ‪ ،‬فاألرض دار الغربة لكل من‬
‫عليها ‪ ،‬وهي لن تكون وطنًا لمن سيفارقها إال إذا عُد بطن األم وطنًا ألبنها ‪.‬‬
‫مصطفى صادق الرافعي ‪ ،‬السحاب األحمر‬

‫على العموم ‪ ،‬إن حكاية الليبيين مع الفئران والجرذان هي حكاية قديمة ‪ ،‬قدم حكاية توريط الليبيين في حرب لم‬
‫يكن لهم فيها فأر وال جرذ ‪.‬‬

‫فريد أبو سرايا ‪ ،‬وما توفيقي إال باهلل‬


‫عيد سعيد وعمر مديد ‪ ،‬وكل عام وأنتم بألف خير‬
‫الثالثاء ‪ 21 ،‬أغسطس ‪ ، 2018‬الموافق ‪ 10‬ذي الحجة ‪ 1439‬هـ‬
‫‪5‬‬

You might also like