You are on page 1of 309

‫داد )‪(1‬‬

‫ح ّ‬
‫سلسلة كتب المام ال َ‬
‫***************************‬
‫النصائح الدينية و الوصايا اليمانية‬
‫***************************‬

‫تأليف‪:‬‬
‫المام شيخ السلم قطب الدعوة والرشاد‬
‫عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد الحداد‬
‫الحسيني الحضرمي الشافعي‬
‫رحمه الله تعالى‬
‫)‪1044-1132‬هـ(‬

‫الناشر‪ :‬دار الحاوي للطباعة والنشرو‬


‫التوزيع‬
‫الطبعة الولى سنة ‪1413‬هـ‬
‫الطبعة الثانية سنة ‪1418‬هـ‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫ولحول ول قوة البالله العلي العظيم‪.‬‬
‫سبحانك لعلم لنا إل ماعلمتنا إنك أنت العليم الحكيم‪.‬‬
‫الحمد لله رب العالمين ‪ ،‬الذي جعل الدعوة إلى الهدى‪،‬‬
‫والدللة على الخير‪ ،‬والنصيحة للمسلمين ‪ ،‬من أفضل‬
‫القربات‪ ،‬وأرفع الدرجات‪ ،‬وأهم المهمات في الدين‪ ،‬وذلك‬
‫سبيل أنبياء الله المرسلين ‪ ،‬وأوليائه الصالحين‪،‬والعلماء‬
‫العالمين الراسخين في العلم واليقين‪.‬‬
‫وصّلى الله وسّلم على سيدنا ومولنا محمد الرسول‬
‫المين ‪ ،‬والحبيب المكين‪ ،‬خاتم النبيين‪ ،‬وإمام المتقين‪،‬‬
‫وسيد السابقين واللحقين‪ ،‬وعلى آله وأصحابه المخلصين‬
‫الصادقين‪ ،‬وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين‪).‬أما‬
‫بعد( فقد قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫ل امرىٍء ما نوى‪ ،‬فمن‬ ‫))إنما العمال بالنيات‪ ،‬وإنما لك ّ‬
‫ه إلى الله‬
‫كانت هجرت ُ ُ‬
‫) ‪(1/23‬‬

‫ورسوله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ‪ ،‬ومن كانت‬


‫هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ‪،‬فهجرته إلى ما‬
‫هاجر إليه((‬
‫)رواه البخاري ومسلم (‪.‬وقال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫))الدين النصيحة((‪.‬قالوا‪ :‬لمن يا رسول الله؟ قال‪)):‬لله‬
‫والكتابه‬
‫ولرسوله ولئمة المسلمين وعامتهم (()رواه مسلم(‪.‬‬
‫وهذا كتاب ألفناه وجمعنا فيه نبذا ً من النصائح الدينية‬
‫‪،‬والوصايا اليمانية‪.‬وقصدنا بذلك النفع والنتفاع‪ ،‬والتذكر‬
‫والتذكيرلنفسنا ولخواننا من المسلمين‪.‬وقد جعلناه‬
‫بعبارة سهلة قريبة‪،‬وألفاظ سلسلة مفهومة؛ حتى يفهمه‬
‫الخاص والعالم‪،‬من أهل اليمان والسلم ‪ .‬وسميناه كتاب‬
‫)النصائح الدينية والوصايا اليمانية(‪.‬‬
‫نسال الله تعالى أن يجعله خالصا ً لوجهه الكريم‪ ،‬ومقربا ً‬
‫إلى جواره في جنات النعيم‪ ،‬وأن يعظم النفع به لنا‬
‫ولكافة إخواننا من المؤمنون‪ ،‬فإنه ولي ذلك ‪ ،‬والقادر‬
‫عليه‪.‬وحسبنا الله ونعم الوكيل‪.‬وما توفيقي إل بالله عليه‬
‫توكلت وإليه أنيب‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/24‬‬

‫*************‬
‫*************‬
‫مبحث التقوى‬
‫*************‬
‫*************‬
‫) ‪(1/25‬‬

‫************‬
‫************‬
‫************‬
‫************‬
‫************‬
‫************‬
‫************‬
‫) ‪(1/26‬‬

‫مبحث التقوى‬
‫***********‬
‫قال الله تعالى‪ ) :‬وم َ‬
‫ديًثا( ]النساء‪:‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬ ‫صد َقُ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َ‬
‫ل(]النساء‪َ) ،[122:‬يا أي َّها‬ ‫ن الل ّهِ ِقي ً‬ ‫‪) ،[87‬وم َ‬
‫م َ‬ ‫صد َقُ ِ‬
‫نأ ْ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫م‬
‫ن ِإل وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫موت ُ‬
‫حقّ ت َُقات ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫مُنوا ات ُّقوا الل َ‬ ‫نآ َ‬
‫َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي‬
‫ْ‬ ‫مسل ِمون * ول ْتك ُن منك ُ ُ‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬ ‫خي ْرِ وَي َأ ُ‬ ‫ن إ َِلى ال ْ َ‬ ‫عو َ‬ ‫ة ي َد ْ ُ‬
‫م ٌ‬
‫مأ ّ‬ ‫َ َ ْ ِ ْ ْ‬ ‫ُ ْ ُ َ‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫حو َ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫مْفل ِ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫من ْك َرِ وَأوْل َئ ِ َ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن عَ ِ‬‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬
‫ة الل ّهِ‬ ‫ميًعا َول ت ََفّرُقوا َواذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫م َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫حب ْ ِ‬
‫موا ب ِ َ‬ ‫ص ُ‬‫*واعْت َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫مت ِ ِ‬‫م ب ِن ِعْ َ‬ ‫حت ُ ْ‬ ‫م فَ َأ ْ‬
‫صب َ ْ‬ ‫ن قُُلوب ِك ُ ْ‬ ‫ف ب َي ْ َ‬ ‫داًء فَأل ّ َ‬ ‫م أعْ َ‬ ‫م إ ِذ ْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫من َْها ك َذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫م ِ‬ ‫ن الّنارِ فَأن َْقذ َك ُ ْ‬ ‫م َ‬‫حْفَرةٍ ِ‬ ‫شَفا ُ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫واًنا وَك ُن ْت ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬ ‫كوُنوا َ‬ ‫ن * و ل تَ ُ‬ ‫دو َ‬‫م ت َهْت َ ُ‬ ‫م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ي ُب َي ّ ُ‬
‫ك ل َهُ ْ‬
‫م‬ ‫ت وَأ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬‫جاَءهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫خت َل َُفوا ِ‬ ‫ت ََفّرُقوا َوا ْ‬
‫م( ]آل عمران‪. [105-102:‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫عَ َ‬
‫َ‬
‫حقّ ت َُقات ِهِ ((‬ ‫ه َ‬ ‫مُنوا ات ُّقوا الل ّ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫فقوله تعالى‪َ)):‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫]آل عمران‪[102:‬‬
‫ل لعباده المومنين بتقواه‪.‬وكأنه سبحانه قد‬ ‫أمر منه عّز وج ّ‬
‫جمع في التقوى جميع الخيرات العاجلة والجلة‪ ،‬ثم أمر‬
‫عباده المؤمنين بها ليفوزوا ويظفروا بما جعله فيها من‬
‫الخير والصلح‪ ،‬والسعادة والفلح؛ رحمة بعباده‬
‫المؤمنين ‪.‬وكان بالمؤمنين رحيما ً ‪.‬‬
‫ب العالمين للولين والخرين‪،‬‬ ‫))والتقوى(( وصية الله ر ّ‬

‫‪27‬‬
‫) ‪(1/27‬‬

‫قال الله تعالى‪) :‬ول ََقد وصينا ال ّذي ُ‬


‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ ْ َ ّ َْ‬
‫قَبل ِك ُم وإياك ُ َ‬
‫ه (فما من خير عاجل و ل آجل‬ ‫ن ات ُّقوا الل ّ َ‬ ‫مأ ِ‬ ‫ْ ْ َ ِّ ْ‬
‫ظاهر ولباطن ‪ ،‬إل والتقوى سبيل موصل إليه‪ ،‬ووسيلة‬
‫ل ‪ ،‬ظاهر ول باطن إل‬ ‫ل ول آج ٍ‬ ‫مبلغة له‪ .‬و ما من شر عاج ٍ‬
‫والتقوى حرز حريز‪،‬وحصن حصين للسلمة منه‪ ،‬والنجاة‬
‫من ضرره ‪.‬‬
‫وكم عّلق الله العظيم في كتابه العزيز على التقوى من‬
‫خيرات عظيمة‪ ،‬وسعادات جسمية‪.‬‬
‫فمن ذلك المعية اللهية الحفظية اللطفية ‪،‬قال الله‬
‫َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫مت ِّقي َ‬‫مع َ ال ْ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل َ ُ‬
‫تعالى‪َ) :‬وات ُّقوا الل ّ َ‬
‫ومن ذلك العلم اللدني قال الله تعالى ‪َ):‬وات ُّقوا الل ّ َ‬
‫ه‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه(‪،‬‬ ‫وَي ُعَل ّ ُ‬
‫مك ُ ُ‬
‫ومن ذلك الفرقان عند الشتباه ووقوع الشكال‪ ،‬والكفارة‬
‫للسيئات‪ ،‬والمغفرة للذنوب؛ قال الله تعالى‪ِ) :‬يا أ َي َّها‬
‫عنك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م فُْرَقانا ً وَي ُك َّفْر َ‬ ‫جَعل ل ّك ُ ْ‬ ‫ه يَ ْ‬‫مُنوا ْ َإن ت َت ُّقوا ْ الل ّ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫م( ]النفال‪:‬‬ ‫ظي ِ‬‫ل ال ْعَ ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ذو ال َْف ْ‬ ‫ه ُ‬‫م َوالل ّ ُ‬ ‫م وَي َغِْفْر ل َك ُ ْ‬ ‫سي َّئات ِك ُ ْ‬‫َ‬
‫‪.[8‬‬
‫م ِإل‬‫من ْك ُ ْ‬‫ن ِ‬ ‫ومن ذلك النجاة من النار‪ ،‬قال الله تعالى ‪ ):‬وَإ ِ ْ‬
‫ن ات َّقوا‬ ‫ذي َ‬‫جي ال ّ ِ‬ ‫ضّيا * ث ُ ّ‬
‫م ن ُن َ ّ‬ ‫مْق ِ‬ ‫ما َ‬ ‫حت ْ ً‬‫ك َ‬ ‫ن عََلى َرب ّ َ‬ ‫كا َ‬‫ها َ‬ ‫َوارِد ُ َ‬
‫جث ِّيا( ]مريم ‪.[72-71:‬‬ ‫ن ِفيَها ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫وّن َذ َُر ال ّ‬
‫م‬‫سه ُ ُ‬
‫م ّ‬ ‫م ل يَ َ‬ ‫مَفاَزت ِهِ ْ‬ ‫وا ب ِ َ‬
‫ن ات َّق ْ‬‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫جي الل ّ ُ‬ ‫وقال ‪) :‬وَ ي ُن َ ّ‬
‫ن(]الزمر‪.[61:‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬‫سوُء َول هُ ْ‬ ‫ال ّ‬
‫‪28‬‬
‫) ‪(1/28‬‬

‫ومن ذلك المخروج من الشدائد‪ ،‬والرزق من حيث ل‬


‫ق‬
‫من ي َت ّ ِ‬ ‫يحتسب‪ ،‬واليسر وعظم الجر قال الله تعالى ‪) :‬وَ َ‬
‫ب(‬ ‫س ُ‬ ‫حت َ ِ‬ ‫ث ل يَ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫جا*وَي َْرُزقْ ُ‬ ‫خَر ً‬ ‫م ْ‬‫ه َ‬ ‫جَعل ل ّ ُ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫]الطلق‪.[3-2:‬‬
‫َ‬
‫سًرا(]الطلق ‪.[4:‬‬ ‫مرِهِ ي ُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫جَعل ل ّ ُ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ق الل ّ َ‬ ‫من ي َت ّ ِ‬ ‫)و َ َ‬
‫َ‬
‫جًرا(‬ ‫هأ ْ‬ ‫م لَ ُ‬ ‫سي َّئات ِهِ وَي ُعْظ ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ي ُك َّفْر عَن ْ ُ‬ ‫ق الل ّ َ‬ ‫من ي َت ّ ِ‬ ‫)و َ َ‬
‫]الطلق ‪.[5:‬‬
‫ة ال ِّتي‬ ‫جن ّ ُ‬‫ك ال ْ َ‬ ‫ومن ذلك الوعد بالجنة‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬ت ِل ْ َ‬
‫ن ت َِقّيا(]مريم ‪ ،[63:‬وقال الله‬ ‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫عَبادَِنا َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ث ِ‬ ‫ُنورِ ُ‬
‫ن (]الرعد‪،[35:‬‬ ‫مت ُّقو َ‬‫عد َ ال ْ ُ‬ ‫جن ّةِ ال ِّتي وُ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫تعالى ‪ّ ):‬‬
‫ُ‬
‫ن‬‫مت ِّقي َ‬ ‫ن ل ِل ْ ُ‬‫ن (]الشعراء ‪) ،[26:‬إ ّ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫مت ِّقي َ‬ ‫جن ّ ُ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫)وَأْزل َِف ِ‬
‫ن ِفي‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ت الن ِّعيم ِ (]القلم ‪) ،[68:‬إ ِ ّ‬ ‫جّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫عند َ َرب ّهِ ْ‬ ‫ِ‬
‫مْقت َدٍِر(]القمر ‪:‬‬ ‫ك ّ‬ ‫مِلي ٍ‬ ‫عند َ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫صد ْ ٍ‬‫مْقعَدِ ِ‬ ‫ر* ِفي َ‬ ‫ت وَن َهَ ٍ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫َ‬
‫‪.[55-54‬‬
‫ن‬
‫ومن ذلك الكرامة في الدنيا والخرة‪ ،‬قال تعالى‪ ) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م (]الحجرات‪.[49:‬‬ ‫عند َ الل ّهِ أت َْقاك ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫مك ُ ْ‬ ‫أك َْر َ‬
‫فجعل الكرامة عنده بالتقوى‪ ،‬ل بالنساب ول بالموال ول‬
‫بشيء آخر‪ .‬وكم وعد الله ورسوله على التقوى من‬
‫خيرات وسعادات‪ ،‬ودرجات وحسنات‪ ،‬وصلح وفلح‪،‬‬
‫وغنائم وأرباح‪ ،‬يطول ذكرها‪ ،‬ويتعذر حصرها ‪.‬‬
‫وما أحسن ما قيل في المعنى ‪:‬‬
‫ح‬
‫سيقَ إليه المتجُر الراب ُ‬
‫ق الله فذاك الذي ‪ِ ...‬‬
‫من يت ّ ِ‬
‫‪29‬‬
‫) ‪(1/29‬‬

‫وقيل أيضًا‪:‬‬
‫من عرف الله فلم تغنه ‪ ...‬معرفة الله فذاك الشقي‬
‫ما ضّر ذا الطاعة ما ناله ‪ ...‬في طاعة الله وماذا لقي‬
‫ل العّز للمتقي‬ ‫ما يصنع العبد بعّز الغنى ‪ ...‬والعّز ك ّ‬
‫قال العلماء رضوان الله عليهم ‪ :‬التقوى عبارة عن امتثال‬
‫أوامر الله تعالى ‪ ،‬واجتناب نواهيه ظاهرا ً وباطنا ً ‪ ،‬مع‬
‫استشعار التعظيم لله ‪ ،‬والهيبة والخشية والرهبة من‬
‫الله ‪.‬‬
‫وقال بعض المفسرين رحمهم الله في قوله تعالى ‪:‬‬
‫ه(]ال عمرن‪ :[102:‬هو أن يطاعَ فل‬ ‫حقّ ت َُقات ِ ِ‬
‫ه َ‬ ‫)ات ُّقوا الل ّ َ‬
‫يعصى ‪ ،‬ويذكر فل ينسى ‪ ،‬ويشكر فل يكفر‪ .‬انتهى‬
‫ولن يستطع العبد ولو كان له ألف ألف نفس إلى نفسه‪،‬‬
‫و ألف ألف عمر إلى عمره ‪ ،‬أن يتقي الله حق تقاته ولو‬
‫أنفق جميع ذلك في طاعة الله ومحابه ‪ ،‬وذلك لعظم حق‬
‫الله تعالى على عباده ‪ ،‬ولجلل عظمة الله‪ ،‬و علو كبريائه‬
‫‪ ،‬و ارتفاع مجده‪ ،‬و قد قال أفضل القائمين بحقّ الله‪،‬‬
‫وأكملهم ‪ ،‬محمد ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬في دعائه‬
‫‪،‬اعترافا ً بالعجز عن القيام بإحصاء الثناء على الله ‪)):‬أعوذ‬
‫برضاك من سخطك ‪ ،‬وبمعافاتك من عقوبتك ‪ ،‬وأعوذ بك‬
‫منك ‪ ،‬ل أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ((‪.‬‬
‫وقد بلغنا أن لله ملئكة لم يزالوا منذ خلقهم الله في‬
‫ركوع‬
‫‪30‬‬
‫) ‪(1/30‬‬

‫وسجود‪ ،‬وتسبيح وتقديس‪ ،‬ل يفترون عنه‪ ،‬ول يشتغلون‬


‫بغيره ‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة يقولون ‪ )) :‬سبحانك ولك‬
‫ق‬
‫الحمد‪ .‬ما عرفناك حق معرفتك و ل عبدناك ح ّ‬
‫عبادتك((‪.‬‬
‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ه َ‬‫وقد قال بعض العلماء ‪ :‬إن قوله تعالى ‪) :‬ات ُّقوا الل ّ َ‬
‫ما‬
‫ه َ‬ ‫ه(]ال عمران‪ ،[102:‬منسوخ بقوله ‪َ):‬فات ُّقوا الل ّ َ‬ ‫ت َُقات ِ ِ‬
‫م (]التغابن‪.[16:‬‬ ‫ست َط َعْت ُ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫وقال بعضهم ‪:‬الية الثانية مبينة للمراد من الية الولى ل‬
‫ناسخة لها ‪ ،‬وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى ‪ ،‬فإن‬
‫الله تعالى ‪ -‬وله الحمد ‪ -‬ل يكلف نفسا ً إل وسعها ‪ ،‬وإن‬
‫كان له ذلك لو أراده وأمربه ‪ ،‬لن له أن يفعل في ملكه‬
‫وسلطانه ما شاء ؛ ولكنه سبحانه قد خفف ويسر ‪ ،‬كما‬
‫ن‬
‫سا ُ‬ ‫لن َ‬ ‫خل ِقَ ا ِ‬ ‫م وَ ُ‬‫عنك ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫خّف َ‬ ‫ه َأن ي ُ َ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬ ‫قال تعالى ‪ ):‬ي ُ ِ‬
‫ضِعيًفا(]النساء‪.[28:‬‬ ‫َ‬
‫سَر (]البقرة‪:‬‬ ‫م ال ْعُ ْ‬ ‫ريد ُ ب ِك ُ ُ‬‫سَر َول ي ُ ِ‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُ ُ‬ ‫)ي ُ ِ‬
‫‪.[185/2‬‬
‫قال المام الغزالي رحمه الله في ))الحياء((‪ :‬لما نزل‬
‫ت وما ِفي ال َ‬
‫ض وَِإن‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫ماوا ِ َ َ‬ ‫س َ‬‫قوله تعالى‪) :‬ل ّل ّهِ ما ِفي ال ّ‬
‫ه (]البقرة‪:‬‬ ‫كم ب ِهِ الل ّ ُ‬
‫سب ْ ُ‬‫حا ِ‬ ‫خُفوهُ ي ُ َ‬ ‫م أ َوْ ت ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ما ِفي أنُف ِ‬ ‫دوا ْ َ‬ ‫ت ُب ْ ُ‬
‫‪.[284/2‬‬
‫شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫ورضي عنهم ‪،‬فجاء وا إليه وقالوا ‪ :‬يا رسول الله ‪ ،‬ك ُّلفنا‬
‫ما ل نطيق ! وفهموا من الية المؤاخذة والمحاسبة حتى‬
‫على حديث النفس ‪ ،‬فقال لهم عليه لسلم ‪ )):‬أتريدون‬
‫أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل ‪ :‬سمعنا وعصينا ! ولكن‬
‫قولوا سمعنا وأطعنا‪ ،‬غفرانك ربنا وإليك المصير((‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫) ‪(1/31‬‬

‫ل إ ِل َي ْهِ ِ‬
‫من‬ ‫ما ُأنزِ َ‬
‫ل بِ َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫م َ‬‫فقالوا ذلك ‪ ،‬فأنزل الله ‪) :‬آ َ‬
‫سل ِهِ ل َ‬ ‫ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬‫ن ِبالل ّهِ وَ َ‬
‫م َ‬‫لآ َ‬‫ن كُ ّ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫ّرب ّهِ َوال ْ ُ‬
‫ك‬‫معَْنا وَأ َط َعَْنا غُْفَران َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫سل ِهِ وََقاُلوا ْ َ‬
‫من ّر ُ‬ ‫حدٍ ّ‬
‫نَفرقُ بي َ‬
‫نأ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ ّ‬
‫صيُر (]البقرة‪.[285:‬‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬
‫ك ال َ‬ ‫َ‬
‫َرب َّنا وَإ ِلي ْ َ‬
‫فحكى ذلك عنهم وما بعده من دعائهم ‪:‬بأن ل يؤاخذهم‬
‫بالنسيان والخطأ‪, ،‬أن ل يحمل عليهم الصر ‪ ،‬إلى آخر ما‬
‫أخبر به عنهم‪ .‬فاستجاب لهم وخفف ويسر ورفع الحرج‪،‬‬
‫فله الحمد كثيرا ً ‪.‬‬
‫وبّين ذلك عليه السلم بقوله ‪)) :‬تجوز لي عن أمتي الخطأ‬
‫والنسيان وما استكبر هوا عليه ‪ ،‬وما حدثوا به أنفسهم ما‬
‫لم يقولوا أو يعلموا(( الحديث‬
‫***‬
‫َ‬
‫ن(]ال عمران ‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ن إ ِل ّ وَأنُتم ّ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫وقوله تعالى ‪):‬وَل َ ت َ ُ‬
‫‪ .[102‬أمر منه سبحانه بالموت على السلم ‪ ،‬وهو دين‬
‫الله الذي أخبر في كتاب أنه الدين عنده ‪ ،‬وأنه ل يقبل من‬
‫أحد سواه ‪ ،‬وأنه الدين الذي رضيه لرسوله ولعباده‬
‫م (]ال‬ ‫سل َ ُ‬ ‫عند َ الل ّهِ ال ِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫المؤمنين ‪ ،‬فقال تعالى ‪) :‬إ ِ ّ‬
‫عمران‪.[19:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُ‬‫م ْ‬‫م وَأت ْ َ‬ ‫م ِدين َك ُ ْ‬‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬‫م أك ْ َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬ال ْي َوْ َ‬
‫م ِديًنا (]المائدة‪،[3:‬‬ ‫سل َ َ‬‫م ال ِ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬ ‫ضي ُ‬‫مِتي وََر ِ‬
‫ن ِعْ َ‬
‫‪32‬‬
‫) ‪(1/32‬‬

‫وليس يقدر النسان على أن يميت نفسه على السلم ‪،‬‬


‫ولكن قد جعل الله له سبيل ً إلى ذلك ‪ ،‬إذا أخذ به كان قد‬
‫أتى بالذي هو عليه ‪ ،‬وامتثل ما أمره به وهو أن يختار‬
‫الموت على السلم ‪ ،‬ويحبه ويتمناه ‪ ،‬ويعزم عليه ‪،‬ويكره‬
‫الموت على غيره من الديان‪ ،‬ول يزال داعيا ً متضرعا ً‬
‫وسائل ً من الله أن يتوفاه مسلما ً ‪ ،‬وبذلك وصف الله‬
‫النبياء والصالحين من عباده فقال مخبرا ً عن يوسف بن‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫خَر ِ‬ ‫ت وَل ِّيي ِفي الد ّن َُيا َوال ِ‬ ‫يعقوب عليهما السلم ‪) :‬أن َ‬
‫ن(]يوسف‪.[101:‬‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫حْقِني ِبال ّ‬ ‫ما وَأ َل ْ ِ‬ ‫سل ِ ً‬
‫م ْ‬ ‫ت َوَفِّني ُ‬
‫عدهم فرعون بالعقوبة‪َ) :‬رب َّنا‬ ‫وعن السحرة حين آمنوا فتو ّ‬
‫َ‬
‫ن( ]العراف‪.[126 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫صب ًْرا وَت َوَفَّنا ُ‬ ‫أفْرِغْ عَل َي َْنا َ‬
‫وحكى الله تعالى عن إبرهيم عليه السلم الوصية بالموت‬
‫ه‬
‫م ب َِني ِ‬‫هي ُ‬
‫صى ب َِها إ ِب َْرا ِ‬ ‫على السلم فقال تعالى‪ ) :‬وَوَ ّ‬
‫ن إ َل ّ‬ ‫موت ُ ّ‬‫ن فَل َ ت َ ُ‬‫دي َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫صط ََفى ل َك ُ ُ‬ ‫ها ْ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫ي إِ ّ‬ ‫ب َيا ب َن ِ ّ‬‫وَي َعُْقو ُ‬
‫ن( ]البقرة‪.[132:‬‬ ‫َ‬
‫مو َ‬
‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬
‫وَأنُتم ّ‬
‫***‬
‫و على النسان الجتهاد في حفظ إسلم وتقويته بفعل ما‬
‫أمر به من طاعة الله تعالى ‪ ،‬فإن المضيع لوامر الله‬
‫متعرض للموت على غير ال'سلم ‪،‬فإن تركه لذلك دليل‬
‫على استهانته بحق الدين معلى الستخفاف به ‪ ،‬فليحذر‬
‫المسلم من ذلك غاية الحذر ‪.‬‬
‫وعليه أيضا ً أن يجانب المعاصي والثام ‪ ،‬فإنها تضعف‬
‫السلم وتوهنه ‪،‬‬
‫‪33‬‬
‫) ‪(1/33‬‬

‫وتزلزل قواعده وتعرضه للسب عند الموت‪ ،‬كما وقع ذلك‬


‫‪-‬والعياذ بالله ‪ -‬لكثير من الملبسين لها ‪ ،‬والمصرين عليه‪.‬‬
‫سوَأى َأن‬ ‫سا ُ‬
‫ؤوا ال ّ‬
‫ة ال ّذي َ‬
‫نأ َ‬‫عاقِب َ َ ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫م َ‬ ‫وفي قوله تعالى‪) :‬ث ُ ّ‬
‫ؤون( ]الروم‪[10:‬‬ ‫ست َهْزِ ُ‬
‫كاُنوا ب َِها ي َ ْ‬‫ت الل ّهِ وَ َ‬
‫ك َذ ُّبوا ِبآَيا ِ‬
‫سك بامتثال أوامر الله‬ ‫مله ‪ ،‬وخذ ْ نف َ‬ ‫ل على ذلك ‪ ،‬فتأ ّ‬ ‫ما يد ُ‬
‫تعالى‪ ،‬و اجتناب محارمه ‪ .‬وإن وقعت في شيء منها فتب‬
‫إلى الله تعالى منه‪ ،‬واحذر كل الحذر من الصرار عليه ‪.‬‬
‫ول تزال سائل ً من الله حسن الخاتمة ‪ ،‬وقد بلغنا أن‬
‫الشيطان ‪ -‬لعنه الله ‪ -‬يقول ‪ :‬قصم ظهري الذي يسأل‬
‫الله تعالى حسن الخاتمة ‪ .‬أقول ‪ :‬متى يعجب هذا بعمله!‬
‫أخاف أن قد فطن ‪.‬‬
‫وأكثر من الحمد والشكر لله على نعمة السلم ‪ ،‬فإنها‬
‫أعظم النعم وأكبرها ‪ ،‬فإن الله لو أعطى الدنيا بحذافيرها‬
‫عبدا ً ومنعه السلم لكان ذلك وبال ً عليه ‪.‬‬
‫ولو أعطاه السلم ومنعه الدنيا لم يضّره ذلك ‪ ،‬لن الول‬
‫يموت فيصير إلى النار ‪ ،‬وهذا الثاني يموت فيصير إلى‬
‫الجنة‪.‬‬
‫وعليه أن ل تزال خائفا ً وجل ً من سوء الخاتمة ‪ ،‬فإن الله‬
‫مقلب القلوب ‪ ،‬يهدي من يشاء ‪،‬ويضل من يشاء ‪ .‬وفي‬
‫الحديث الصحيح ‪ )) :‬والذي ل إله غيره ‪ :‬إن أحدكم ليعمل‬
‫بعمل أهل الجنة ‪،‬‬

‫‪34‬‬
‫) ‪(1/34‬‬

‫وحتى ما يكون بينه وبينها إل ذراع ‪ ،‬فيسبق عليه الكتاب ‪،‬‬


‫فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها(( الحديث‪.‬‬
‫وفيه غاية التخويف لهل التقوى والستقامة ‪،‬فضل ً عن‬
‫أهل التفريط والتخليط ‪ .‬وكان بعض السلف الصالح‬
‫يقول ‪:‬‬
‫والله ما أمن أحد على دينه أن يسلب إل سلب ‪.‬‬
‫وقد كان السلف الصالح ‪ -‬رحمة الله عليهم‪ -‬في غاية‬
‫الخوف من خاتمة السوء مع صلح أعمالهم وقلة‬
‫ي الموت على‬ ‫ذنوبهم ‪،‬حتى قال بعضهم ‪ :‬لو عرض عل ّ‬
‫السلم بباب الحجرة ‪ ،‬والشهادة بباب الدار ‪ ،‬يعني‬
‫الشهادة في سبيل الله ‪ ،‬لخترت الموت على السلم‬
‫على باب الحجرة ‪ ،‬على الشهادة على باب الدار‪ ،‬لني ل‬
‫أدري ما الذي يعرض لقلبي فيما بين الحجرة إلى باب‬
‫الدار!‬
‫وقال آخر لبعض إخوانه ‪ :‬إذا حضرني الموت فاقعد عند‬
‫ت على السلم فخذ‬ ‫م ّ‬
‫رأسي وانظر ‪ ،‬فإن رأيتني قد ِ‬
‫جميع ما معي فبعه ‪ ،‬وخذ ْ به سكرا ً ولوزا ً وفَّرقه على‬
‫ت على غير ذلك فأعلم الناس‬ ‫م ّ‬‫الصبيان ‪ .‬وإن رأيتني قد ِ‬
‫صّلي ‪ ،‬على بصيرة ‪ .‬وكان قد‬ ‫ي من أراد أن ي ُ َ‬
‫ليصلي عل ّ‬
‫ذكر له علمة يعرف بها الفرق بين المرين ‪ .‬قال ‪ :‬فرأيته‬
‫قد مات على السلم‬

‫‪35‬‬
‫) ‪(1/35‬‬
‫وفعل ما أمره به من التصدق على الصبيان ‪ .‬وحكاياتهم‬
‫في ذلك كثيرة مشهورة ‪.‬‬
‫واعلم أنه كثيرا ً ما يختم بالسوء للذين يتهاونون بالصلة‬
‫المفروضة ‪ ،‬والزكاة الواجبة‪ ،‬والذين يتتعبون عورات‬
‫المسلمين‪ ،‬والذين ينقصون المكيال والميزان‪ ،‬والذين‬
‫يخدعون المسلمين ويغشونهم ويلبسون عليهم‬
‫ذبون أولياء الله‪،‬‬ ‫في أمور الدين والدنيا‪ ،‬والذين ي ُك َ ّ‬
‫دعون أحوال الولياء‬ ‫وينكرون عليهم بغير حق ‪ ،‬والذين ي ّ‬
‫ومقاماتهم من غير صدق‪ ،‬وأشباه ذلك من المور الشنيعة‬
‫‪.‬‬
‫ومن أخوف ما يخاف منه على صاحبه سوء الخاتمة‪،‬‬
‫ك في الله ورسوله‬ ‫البدعة في الدين ‪،‬وكذلك إضمار الش ّ‬
‫واليوم الخر ‪ .‬فليحذر المسلم من ذلك غاية الحذر‪ ،‬ول‬
‫عاصم من أمر الله إل من رحم‪.‬‬
‫م يا أرحم الرحمين ‪ ،‬نسألك بنور وجهك الكريم ‪ ،‬أن‬ ‫الّله ّ‬
‫تتوفانا مسلمين ‪،‬وأن تلحقنا بالصالحين في عافية يا رب‬
‫العالمين ‪.‬‬
‫***‬

‫‪36‬‬
‫) ‪(1/36‬‬

‫ميًعا وَل َ ت ََفّرُقوا ْ (‬ ‫ل الل ّهِ َ‬


‫ج ِ‬ ‫موا ْ ب ِ َ‬
‫حب ْ ِ‬ ‫ص ُ‬
‫وقوله تعالى ‪َ ) :‬واعْت َ ِ‬
‫]آل عمران ‪ .[03:‬أمر بالعتصام بدين الله ‪ ،‬وهو التمسك‬
‫والخذ به‪ ،‬والستقامة عليه ‪ ،‬والجتماع على ذلك‪ ،‬ونهي‬
‫عن التفّرق فيه‪ ،‬لن الجماعة رحمة والفرقة عذاب ‪ ،‬كما‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪.‬‬
‫ولما كان قيام هذا الدين الشريف في أصله بالجتماع ‪،‬‬
‫والمعاونة واتحاد الكلمة ‪.‬كان الفتراق فيه وعدم‬
‫المساعدة على إقامته موجبا ً لوهنه وضعفه‪ ،‬فظهر أن‬
‫الجتماع في الدين أصل كل خير وصلح ‪ .‬والتفّرق فيه‬
‫أصل كل شّر وبلء ‪.‬‬
‫***‬
‫َ‬
‫داء‬ ‫م أعْ َ‬ ‫م إ ِذ ْ ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫وقوله تعالى‪َ ) :‬واذ ْك ُُروا ْ ن ِعْ َ‬
‫م َ‬
‫كنت ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شَفا‬ ‫ى َ‬ ‫م عَل َ‬ ‫واًنا وَ ُ‬ ‫خ َ‬ ‫مت ِهِ إ ِ ْ‬
‫حُتم ب ِن ِعْ َ‬ ‫م َ فَأ ْ‬
‫صب َ ْ‬ ‫ن قُُلوب ِك ُ ْ‬ ‫ف ب َي ْ َ‬ ‫فَأل ّ َ‬
‫ه‬
‫م آَيات ِ ِ‬‫ه ل َك ُ ْ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫من َْها ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫كم ّ‬ ‫ن الّنارِ فَأنَقذ َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫حْفَرةٍ ّ‬ ‫ُ‬
‫ن(]ال عمران‪.[103:‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬ ‫ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫أمر بشكره تعالى على نعمة اللفة التي أنعم الله بها‬
‫عليهم بعد العداوة الشديدة التي كانت بين الوس‬
‫والخزرج ‪.‬‬
‫وهم أنصار الله ورسوله خصوصًا‪ ،‬وبين سائر عمومًا‪،‬‬
‫فإنهم إنما كانوا يقتتلون ويتناهبون ‪ ،‬ويأكل بعضهم بعضا ً‬
‫حتى بعث الله فيهم رسوله ‪،‬وأنزل عليه كتابه ‪ ،‬فجمع به‬
‫شتاتهم ‪،‬وألف بين قلوبهم‪ ،‬وأزال به ما كان بينهم من‬
‫الضغائن والعداوات‪،‬والفتن والمقاطعات‪ ،‬فأصبحوا بنعمته‬
‫إخونا ً في دينه ونصرة رسوله‪ ،‬وتعظيم شعائره‪.‬‬
‫وقد ذكر الله تعالى ذلك في معرض المتنان على رسوله‬
‫عليه السلم في‬

‫‪37‬‬
‫) ‪(1/37‬‬

‫ن‬ ‫ن(وَأ َل ّ َ‬
‫ف ب َي ْ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫صرِهِ وَِبال ْ ُ‬ ‫قوله تعالى‪) :‬هُوَ ال ّذِيَ أ َي ّد َ َ‬
‫ك ب ِن َ ْ‬
‫م ‪](...‬النفال‪.[63-62:‬‬ ‫قُُلوب ِهِ ْ‬
‫وقد كانوا من قبل أن يبعث الله إليهم رسوله على شفا‬
‫حفرة من النار ‪،‬وذلك بما كانوا عليه من الكفر بالله‬
‫وعبادة الصنام ‪ ،‬فأنقذهم الله منها بما شرعه لهم من‬
‫توحيده‪ ،‬والعمل بطاعته ؛ فطلب منهم سبحانه أن‬
‫يشكروه على ذلك‪ ،‬ويعرفوا حقّ نعمته عليهم في إنقاذهم‬
‫ذرهم في ضمن‬ ‫من الضللة ‪ ،‬واجتماعهم بعد الفرقة وح ّ‬
‫ذلك من موجبات الفرقة ‪،‬والختلف بعد الجتماع‬
‫ن( ]آل‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬‫م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ن الل ّ ُ‬ ‫والئتلف )ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬
‫عمران‪.[103:‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫أي تزدادون هدى إلى هداكم ‪،‬كما قال الله تعالى‪َ):‬وال ّ ِ‬
‫م(‬
‫م ت َْقواهُ ْ‬‫دى َوآَتاهُ ْ‬ ‫م هُ ً‬‫اهْت َد َْوا َزاد َهُ ْ‬
‫]محمد‪.[17/47:‬‬
‫***‬
‫ن إ َِلى‬ ‫ُ‬ ‫وقوله تعالى‪):‬وَل ْت َ ُ‬
‫عو َ‬
‫ة(أي جماعة ‪)،‬ي َد ْ ُ‬ ‫م ٌ‬
‫مأ ّ‬ ‫منك ُ ْ‬
‫كن ّ‬
‫ر(]ال عمران‪[104/3:‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫خي ْ ِ‬
‫وهو أغني الخير على الجملة‪ -‬المان والطاعة‪ .‬والدعوة‬
‫إلى ذلك منزلة عند الله رفيعة ‪،‬‬
‫وقربة إلى الله عظيمة ‪.‬‬
‫قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من دعا إلى هدى‬
‫كان له من الجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص‬
‫يء ومن دعا إلى ضللة كان عليه من الثم‬ ‫من أجورهم ش ْ‬
‫مثل آثام من تبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيء ((‬

‫‪38‬‬
‫) ‪(1/38‬‬

‫ل على الخير كفاعله((‪.‬‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬الدا ّ‬


‫فمن جعل الدعاء إلى الخير دأَبه وشغَله فقد أخذ بح ّ‬
‫ظ‬
‫وافرٍ من ميراث رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ ، -‬وسار على سبيله التي قال الله تعالى فيها‪ ) :‬قُ ْ‬
‫ل‬
‫َ‬ ‫سِبيِلي أ َد ْ ُ‬
‫ن ات ّب َعَِني‬ ‫م ِ‬‫صيَرةٍ أن َا ْ وَ َ‬ ‫عو إ َِلى الل ّهِ عََلى ب َ ِ‬ ‫هَذِهِ َ‬
‫َ‬
‫ن( ]يوسف‪.[108:‬‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ما أن َا ْ ِ‬ ‫ن الل ّهِ وَ َ‬ ‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬
‫وَ ُ‬
‫فلم يكن شغله عليه الصلة والسلم في جميع أوقاته غير‬
‫الدعوة إلى الله بقوله وفعله‪ ،‬ولذلك بعثه الله‪ ،‬وبذلك‬
‫ل إنما أ ُمرت أ َ َ‬
‫ه َول‬ ‫ن أعْب ُد َ الل ّ َ‬ ‫أمره‪،‬كما قال تعالى ‪ ) :‬قُ ْ ِ ّ َ ِ ْ ُ ْ‬
‫ب( ]الرعد‪.[36:‬‬ ‫مآ ِ‬ ‫عو وَإ ِل َي ْهِ َ‬ ‫ك ب ِهِ إ ِل َي ْهِ أ َد ْ ُ‬
‫شرِ َ‬ ‫أُ ْ‬
‫فأقرب الناس من رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬وأولهم به في الدنيا والخرة ‪ ،‬أحرصهم على هذا‬
‫المر ‪ ،‬وأكثرهم شغل ً به ‪ ،‬وأتمهم دخول ً فيه‪ ،‬أعني به‬
‫سر باليمان والطاعة ‪ ،‬والنهي عن‬ ‫الدعوة إلى الخير المف ّ‬
‫ضديهما اللذين هما الكفر والمعصية ‪.‬‬
‫ْ‬
‫منك َ ِ‬
‫ر‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬‫مُرو َ‬ ‫وقوله تعالى‪ ) :‬وَي َأ ُ‬
‫ن(]ال عمران‪ . [104:‬والفلح‪ :‬هو‬ ‫حو َ‬
‫مْفل ِ ُ‬‫م ال ْ ُ‬ ‫وَأ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬
‫الفوز بسعادة الدنيا والخرة‪.‬‬
‫والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ :‬من أعظم شعائر‬
‫الدين‪ ،‬وأقوى دعائم السلم‪ ،‬وأهم الوظائف على‬
‫المسلمين و بهما قوام المر و صلح الشأن كّله ‪ ،‬و‬
‫طل الحقوقُ ‪ ،‬وت ُت َّعدى الحدود ُ ‪ ،‬ويخفى‬ ‫بإهمالهما تتع ّ‬
‫ق‪ ،‬ويظهر الباطل‪.‬‬ ‫الح ّ‬

‫‪39‬‬
‫) ‪(1/39‬‬

‫والمعروف ‪ :‬عبارة عن كل شيء أمر الله بفعله‪ ،‬وأحب‬


‫من عباده القيام به‪ .‬والمنكر‪ :‬كل شيء كره الله فعله‪،‬‬
‫وأحب من عباده تركه‪.‬‬
‫والقيام بذلك ‪ ،‬أعني المر والنهي‪ ،‬لبد ّ منه‪ ،‬ول رخصة‬
‫في تركه‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من رأى‬
‫منكم منكرا ً فليغيره بيده ‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن‬
‫لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان (( وفي رواية‬
‫أخرى ‪ )) :‬وليس وراء ذلك ‪ -‬يعنى النكار بالقلب ‪ -‬من‬
‫اليمان مثقال ذرة (( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ليس منا من لم يرحم‬
‫ه عن المنكر ((‪.‬‬ ‫صغيرنا ويوقر كبيرنا‪ ،‬ويأمر بالمعروف وين َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬والذي نفسي بيده ‪،‬لتأمرن‬
‫بالمعروف ‪،‬ولتنهون عن المنكر ‪ ،‬ولتأخذن على يد الظالم‬
‫أو ليبعثن الله عليكم عقابا ً من عنده(( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إذا هابت أمتي أن تقول‬
‫للظالم يا ظالم ‪ ،‬فقد ت ُوُد ّعَ منها (( ومعنى ذلك ‪:‬فقد ذهب‬
‫خيرها‪،‬ودنا هلكها‪.‬‬
‫***‬
‫ول يقبل الله تعالى العذار الباردة‪ ،‬والتعللت الكاذبة التي‬
‫يتعلل بها أبناء الزمان في ترك المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر ‪ ،‬وذلك كقولهم ‪ :‬إنه ل يقبل مّنا مهما أمرنا أو‬
‫نهينا‪ .‬أو أنه يحصل لنا بواسطة المر والنهي أذى ل‬
‫‪40‬‬
‫) ‪(1/40‬‬

‫نطيقه ‪ ،‬وأشباه ذلك من توهمات من ل بصيرة له ‪ ،‬ول‬


‫غيرة على دين الله ‪ .‬وإنما يجوز السكوت عند تحقق‬
‫وقوع الذى الكثير‪ ،‬أو تّيقن عدم القبول‪ ،‬ومع وجود ذلك‬
‫فالمر والنهي أفضل وأولى ‪ ،‬غير أنه يسقط الوجوب ‪.‬‬
‫خذ َ من ماله ولو شيئا ً‬ ‫م أو أ ُ ِ‬
‫شت ِ َ‬‫والعجب أن أحدهم إذا ُ‬
‫يسيرا ً تضيق عليه الدنيا‪ ،‬ول يمكنه السكوت ول يتعّلل‬
‫بشيء من تلك التعّللت التي يتعّلل بها في السكوت على‬
‫المنكرات ‪.‬‬
‫فهل لهذا محمل ‪ ،‬أو وجه سوى أن أعراضهم وأموالهم‬
‫أعّز عليهم من دينهم !‬
‫ُ‬
‫مُروا أو أنكروا ‪ ،‬فما‬‫معُ منهم إذا أ ِ‬ ‫وإذا سّلمنا لهم أنه ل ُيس َ‬
‫الذي يحملهم على مخالطة أهل المنكر ومعاشر تهم !؟‬
‫وقد أوجب الله عليهم تركهم والعراض عنهم مهما لم‬
‫يستجيبوا الله ورسوله‪.‬‬
‫وقد ثبت أن الذي يشاهد المنكرات‪ ،‬ول ينكرها مع القدرة‬
‫شريك لصحابها في الثم ‪ .‬وكذلك الذي يرضى بها وإن‬
‫لم يكن حاضرا ً عندها ‪ .‬بل؛ وإن كان بينه وبين الموضع‬
‫الذي تعمل فيه مثل ما بين المشرق والمغرب ‪.‬‬
‫والذي يخالط أهل المنكر ويعاشرهم؛ وإن لم يعمل‬
‫بعملهم معدود عند الله منهم‪ ،‬وإن نزلت بهم عقوبة‬
‫م بالمجانبة‬ ‫أصابته معهم‪ ،‬ول ينجو ول يسلم إل بالنهي‪ ،‬ث ّ‬
‫والمفارقة لهم إن لم يقبلوا وينقادوا للحق ‪ .‬والحب في‬
‫الله لهل طاعته‪ ،‬والبغض في الله لهل معصيته من أوثق‬
‫عَُرى اليمان ‪.‬‬
‫وقد بلغنا عن رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫‪41‬‬
‫) ‪(1/41‬‬
‫أنه قال ‪ )) :‬لما أحدث بنو إسرائيل الحداث نهتهم‬
‫علماؤهم فلم يستجيبوا لهم‪ ،‬فخالطوهم بعد ذلك‬
‫ما فعلوا ذلك ضرب الله بقلوب بعضهم على‬ ‫وواكلوهم‪ ،‬فل ّ‬
‫بعض ‪ ،‬ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ((‪.‬‬
‫ما‬
‫وفي قصة أهل القرية التي كانت حاضرة البحر‪ :‬أنهم ل ّ‬
‫استحلوا الصطياد المحّرم عليهم يوم السبت؛ تفّرقوا‬
‫ثلث فرق ‪ :‬ففرقة اصطادوا واستحلوا ما حرم الله‬
‫عليهم‪ ،‬وفرقة أمسكوا ونهوهم ولم يفارقوهم‪ ،‬وفرقة‬
‫فارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم بعد النهي لهم ‪ ،‬فلما‬
‫مت الولى وكذا الثانية‪ ،‬لقامتهم مع أهل‬ ‫نزلت العقوبة ع ّ‬
‫المعصية وإن لم يعملوا بعملهم ‪ .‬ونجت الفرقة الثالثة ‪،‬‬
‫سوِء وَأ َ َ‬
‫خذ َْنا‬ ‫ن ال ّ‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫جي َْنا ال ّ‬
‫َ‬
‫وذلك قوله تعالى‪َ ) :‬‬
‫أن‬
‫ن(]العراف‪:‬‬ ‫س ُ َ‬
‫قو‬ ‫كاُنوا ْ ي َْف ُ‬ ‫ما َ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ب ب َِئي ٍ‬ ‫ذا ٍ‬ ‫موا ْ ب ِعَ َ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫‪ .[165‬فمسخنهم الله قردة ولعنهم ‪ ،‬كما في الية‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت (]النساء‪:‬‬ ‫سب ْ ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫حا َ‬ ‫ص َ‬ ‫ما ل َعَّنا أ ْ‬ ‫م كَ َ‬ ‫الخرى ‪):‬أوْ ن َل ْعَن َهُ ْ‬
‫‪.[47/4‬‬
‫وتكون الهجرة والمجانبة لهل المعاصي ‪،‬عند الياس من‬
‫قبولهم للحق‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أنه ليس بواجب على أحد أن يبحث عن المنكرات‬
‫المستورة حتى ينكرها إذا رأها ‪ ،‬بل ذلك محّرم لقوله‬
‫سوا( ]الحجر‪.[49:‬‬ ‫س ُ‬ ‫ج ّ‬ ‫تعالى ‪) :‬وََل ت َ َ‬
‫‪42‬‬
‫) ‪(1/42‬‬

‫ولقول النبي عليه الصلة والسلم ‪)):‬من تتبع عورة أخيه‬


‫تتبع الله عورته ‪ ((..‬الحديث ‪.‬‬
‫وإنما الواجب هو المر بالمعروف عندما ترى التاركين له‬
‫في حال تركهم ‪ ،‬والنكار للمنكر كذلك فاعلم هذه‬
‫الجملة‪ ،‬فإنا رأينا كثيرا ً من الناس يغلطون فيها ‪.‬‬
‫ومن المهم‪ :‬أن ل تصدق ‪ ،‬ول تقبل كل ما ينقل إليك ‪ ،‬من‬
‫أفعال الناس وأقولهم المنكرة حتى تشاهد ذلك بنفسك ‪،‬‬
‫أو ينقله إليك مؤمن تقي ل يجازف ‪ ،‬ول يقول إل الحق ‪.‬‬
‫وذلك لن حسن الظن بالمسلمين أمر لزم ‪ ،‬وقد كثرت‬
‫م التساهل في‬ ‫بلغات الناس بعضهم على بعض‪ ،‬وع ّ‬
‫ذلك ‪ ،‬وقلت المبالة ‪ ،‬وارتفعت المانة ‪ ،‬وصار المشكور‬
‫عند الناس من وافقهم على هوى أنفسهم وإن كان غير‬
‫مستقيم لله ! والمذموم عندهم من خالفهم وإن كان عبدا ً‬
‫صالحًا‪ ،‬فتراهم يمدحون من ل يستأهل المدح لموافقته‬
‫إياهم وسكوته على باطلهم ‪ ،‬ويذمون من يخالفهم‪،‬‬
‫وينصحهم في دينهم !!‬
‫هذا حال الكثر إل من عصمه الله ‪ ،‬فوجب الحتراز‬
‫ن الزمان مفتون‪،‬‬‫حّفظ والحتياط في جميع المور ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫والت َ‬
‫وأهله عن الحق ناكبون إل من شاء الله منهم وهم‬
‫القّلون‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن الرفق واللطف ‪ ،‬ومجانبة الغلظة والعنف ‪،‬‬
‫أصل كبير في قبول الحق والنقياد له‪ ،‬فعليك بذلك مع‬
‫من أمرته أو‬
‫‪43‬‬
‫) ‪(1/43‬‬

‫ة في ذلك‬ ‫ن السياس َ‬ ‫س ِ‬
‫نهيته أو نصحته من المسلمين‪ ،‬وأح ِ‬
‫ن له جناحًا‪ ،‬فإن الرفق ما كان في‬ ‫‪ ،‬وكّلمه خاليا ً ‪ ،‬ول ِ ْ‬
‫شيء إل زانه‪ ،‬ول ن ُزِعَ من شيء إل شانه؛ كما قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ،‬وكما قال الله تعالى لرسوله‪) :‬فَب ِ َ‬
‫ما‬
‫ب‬‫ظ ال َْقل ْ ِ‬
‫ظا غَِلي َ‬ ‫ت فَ ّ‬ ‫م وَل َوْ ُ‬
‫كن َ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ِلن َ‬ ‫م َ‬ ‫مة ٍ ّ‬ ‫ح َ‬
‫َر ْ‬
‫ك ( ]آل عمران‪.[159:‬‬ ‫حوْل ِ َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ضوا ْ ِ‬ ‫لنَف ّ‬ ‫َ‬
‫***‬
‫من ب َعْدِ‬ ‫خت َل َُفوا ْ ِ‬‫ن ت ََفّرُقوا ْ َوا ْ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫كوُنوا ْ َ‬‫وقوله تعالى ‪) :‬وَل َ ت َ ُ‬
‫ت (]ال عمران‪[105:‬‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬ ‫جاءهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫نهي من الله لعباده المؤمنين عن التشّبه بالمتفّرقين‬
‫ك( الذين‬ ‫المختلفين في دينهم من أهل الكتاب )وَُأوَلئ َ‬
‫م( فاستعظم ‪ -‬رحمك‬ ‫ظي ٌ‬
‫بع ِ‬
‫ذا ٌ‬ ‫اختلفوا في دينهم )ل َهُ ْ‬
‫م عَ َ‬
‫ماه الله العظيم عظيمًا‪ ،‬وتفك ّْر فيه‪،‬‬ ‫الله ‪ -‬جدا ً عذابا ً س ّ‬
‫ج بنفسك منه‪ ،‬وذلك بملزمة الكتاب والسنة‪ ،‬و مجانبة‬ ‫وان ُ‬
‫الزيغ والبدعة ‪ ،‬والراء المختلفة ‪ ،‬والهواء المتفرقة‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أنه كما تفّرق أهل الكتاب واختلفوا في دينهم ‪ ،‬فقد‬
‫تفّرقت هذه المة واختلفت أيضا ً على وفق ما أخبر به‬
‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬في قوله‪:‬‬
‫)) افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة‪ ،‬وافترقت‬
‫النصارى على اثنتين وسبعين فرقة‪ ،‬وستفترق‬
‫‪44‬‬
‫) ‪(1/44‬‬

‫أمتي على ثلث وسبعين فرقة كلها في النار إل فرقة‬


‫واحدة((‬
‫وقد افترقت هذه المة على هذا العدد من زمان قديم ‪،‬‬
‫م ما وعد به الصادق المين على وحي الله تعالى‬ ‫وت ّ‬
‫وتنزيله‪ ،‬ولما سئل عليه الصلة والسلم عن الفرقة‬
‫الناجية من هي ؟ قال‪)) :‬التي تكون على مثل ما أنا عليه‬
‫و أصحابي ((‪.‬‬
‫وأمر عليه الصلة والسلم عند الختلف بلزوم السواد‬
‫العظم؛ وهو الجمهور الكثر من المسلمين ‪.‬‬
‫ولم يزال أهل السنة بحمد الله تعالى من الزمن الول‬
‫ح أنهم الفرقة الناجية‬ ‫إلى اليوم هم السواد العظم‪ ،‬وص ّ‬
‫بفضل الله لذلك ‪ ،‬ولملزمتهم للكتاب والسنة ‪ ،‬وما كان‬
‫عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين‪ ،‬رضوان الله‬
‫عليهم أجمعين ‪.‬‬
‫وبعد‪ :‬فإنا والحمد لله قد رضينا بالله رب ًّا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وبالقران إمامًا‪ ،‬وبالكعبة قبلة‪،‬‬
‫وبمحمد نبيا ً ورسو ً‬
‫وبالمؤمنين إخوانا ً ‪ .‬وتبّرأنا من كل دين يخالف دين‬
‫السلم‪ ،‬وآمنا بكل كتاب أنزله الله ‪ ،‬وبكل رسول أرسله‬
‫الله‪ ،‬وبملئكة الله ‪ ،‬وبالقدر خيره وشّره‪ ،‬وباليوم الخر ‪،‬‬
‫وبكل ما جاء به محمد رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬عن الله تعالى ‪ ،‬على ذلك نحيا وعليه نموت ‪،‬‬
‫وعليه نبعث إن شاء الله من المنين؛ الذين ل خوف‬
‫ب العالمين ‪.‬‬ ‫عليهم ول هم يحزنون‪ ،‬بفضلك الّله ّ‬
‫م يا ر ّ‬
‫وقد قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬ذاق‬
‫طعم اليمان من رضي بالله رب ًّا‪ ،‬وبالسلم دينًا‪ ،‬وبمحمد‬
‫نبي ّا ً (( ‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫) ‪(1/45‬‬

‫و قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من قال حين يصبح وحين‬
‫يمسي ثلث مرات‪ :‬رضيت بالله ربا ً وبالسلم دينًا‪،‬‬
‫وبمحمد نبيًا‪ ،‬كان حقا ً على الله أن يرضيه((‪.‬‬
‫***‬
‫واعلموا معاشر الخوان أنه من رضي بالله ربًا‪ :‬لزمه أن‬
‫يرضى بتدبيره واختياره له‪ ،‬وبمّر قضائه ‪ ،‬وأن يقنع بما‬
‫قسمه له من الرزق‪ ،‬وأن يداوم على طاعته‪ ،‬ويحافظ‬
‫على فرائضه‪ ،‬ويجتنب محارمه‪ ،‬ويكون صابرا ً عند بلئه‪،‬‬
‫شاكرا ً لنعمائه‪ ،‬محب ّا ً للقائه‪ ،‬راضيا ً به وكيل ً ووليا ً وكفي ً‬
‫ل‪،‬‬
‫مخلصا ً له في عبادته‪ ،‬ومعتمدا ً عليه في غيبته وشهادته‪.‬‬
‫ليفزع في المهمات إل إليه ‪،‬ول يعول في قضاء الحاجات‬
‫إل عليه سبحانه وتعالى ‪.‬‬
‫ظم حرماِته وشعائ َِرهُ ‪ ،‬ولم‬ ‫ومن رضي بالسلم دينًا‪ :‬ع ّ‬
‫كده ويزيده رسوخا ً واستقامة من‬ ‫يزل مجتهدا ً فيما يؤ ّ‬
‫العلوم والعمال ‪ ،‬ويكون به مغتبطًا‪،‬ومن سلبه خائفًا‪،‬‬
‫ولهله متحرما ً ‪ ،‬ولمن كفر به مبغضا ً ومعاديًا‪.‬‬
‫ومن رضي بمحمد صّلى الله عليه وآله وسّلم نبيا ً ‪:‬كان به‬
‫متقديا ً ‪،‬و بهديه مهتديًا‪ ،‬ولشرعه متبعا ً ‪ ،‬وبسنته متمسكا ً‬
‫ولحقه معظمًا‪ ،‬ومن الصلة و السلم عليه مكثرًا‪ ،‬ولهل‬
‫بيته وأصحابه محبًا‪ ،‬وعليهم منرضيا ً ومترحمًا‪ ،‬وعلى أمته‬
‫مشفقا ً ولهم ناصحًا‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫) ‪(1/46‬‬

‫فينبغي لك أيها المؤمن ‪ :‬أن تطالب نفسك بتحقيق هذه‬


‫المعاني التي ذكرناها في معنى قولك ‪)) :‬رضيت بالله‬
‫ربا ً ‪ ،‬وبالسلم دينًا‪ ،‬وبمحمد نبيًا(( وكلف نفسك التصاف‬
‫بها‪ ،‬ول تقع منها بمجرد القول‪ ،‬فإنه قيل الجدوى‪ ،‬وأن‬
‫كان ل يخلو عن منفعة‪.‬‬
‫وكذلك فافعل في جميع ما تقوله من الذكار والدعية‬
‫ونحوها‪ ،‬وطالب نفسك بحقائقها والتصاف بمعانيها‪ ،‬مثل‬
‫ذلك‪ :‬أن تكون عند قولك ))سبحان الله(( ممتلئ القلب‬
‫بتنزيه الله وتعظيمه‪ ،‬وعند قولك ))الحمد لله((ممتلئ‬
‫ب‬
‫القلب بالثناء على الله تعالى وشكره ‪ ،‬وعند قولك ))ر ّ‬
‫اغفر لي((‬
‫ممتلئا ً من الرجاء في الله أن يغفر لك‪ ،‬ومن خوفه أن ل‬
‫يغفر لك ‪ ،‬فقس على ذلك ‪.‬‬
‫واجتهد في الحضور مع الله‪ ،‬وتدبر معاني ما تقوله‪،‬‬
‫واجتهد في التصاف بما يحبه الله منك والجتناب لما‬
‫يكرهه ‪.‬‬
‫***‬
‫واصرف نّيتك إلى أمر القلب والباطن ‪ ،‬فقد قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ )) :‬إن الله ل ينظر إلى صور كم‬
‫وأعمالكم‪ ،‬وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم (( فحّقق قولك‬
‫بعملك‪ ،‬وعملك بنيتك وإخلصك‪ ،‬ونيتك وإخلصك بتصفيه‬
‫ضميرك وإصلح قلبك‪ ،‬فإن القلب هو الصل وعليه المدار‬
‫‪.‬‬
‫ت‬
‫ح ْ‬‫صل َ َ‬
‫وفي الحديث ‪ )) :‬أل إن في الجسد مضغة إذا َ‬
‫صل َ َ‬
‫ح‬ ‫َ‬
‫‪47‬‬
‫) ‪(1/47‬‬
‫سائر الجسد ‪ ،‬وإذا فسدت فسد سائر الجسد‪ ،‬أل وهي‬
‫القلب(( فوجب الهتمام به‪ ،‬وصرف العناية إلى إصلحه‬
‫وتقويمه ‪ ،‬وهو ‪ -‬أعني القلب ‪ -‬سريع التقّلب ‪ ،‬وكثير‬
‫الضطراب حتى قال عليه الصلة والسلم فيه‪ )) :‬إنه‬
‫أسرع تقلبا ً من القدر إذا استجمعت غليانها ((‪.‬‬
‫وكان عليه الصلة والسلم كثيرا ً ما يدعو‪ )) :‬يا مقلب‬
‫القلوب ثّبت قلبي على دينك(( ‪ ،‬ويقول ‪)):‬إن القلوب بين‬
‫أصبعين من أصابع الرحمن‪ ،‬إن شاء أقامها وإن شاء‬
‫أزاغها (( ‪.‬‬
‫وكان عليه الصلة والسلم إذا حلف واجتهد في اليمين‬
‫يقول‪ )) :‬ل ‪ ..‬ومقلب القلوب (( ‪.‬‬
‫وقال تعالى حاكيا ً عن إبرهيم خليله عليه السلم ‪َ):‬ول‬
‫ن أ ََتى‬‫م ْ‬ ‫ن * إ ِّل َ‬ ‫ل وََل ب َُنو َ‬‫ما ٌ‬ ‫م ل َينَفعُ َ‬ ‫ن* ي َوْ َ‬ ‫م ي ُب ْعَُثو َ‬ ‫خزِِني ي َوْ َ‬ ‫تُ ْ‬
‫سِليم ٍ ( ]الشعراء‪.[98-96:‬‬ ‫ب َ‬ ‫ه ب َِقل ْ ٍ‬
‫الل ّ َ‬
‫ل الحرص ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬على أن تأتي ربك‬ ‫فاحرص ك ّ‬
‫بالقلب السليم من‬
‫الشرك والنفاق ‪ ،‬والبدعة ومنكرات الخلق‪ ،‬مثل الكبر‬
‫والرياء ‪ ،‬و الحسد والغش للمسلمين ‪ ،‬وأشباه ذلك ‪.‬‬
‫ل كثيرا ً ) َرب َّنا ل َ‬ ‫مْر ‪ ،‬وقُ ْ‬ ‫ش ّ‬ ‫ن بالله واصبْر ‪ ،‬واجتهد ْ و َ‬ ‫واستع ْ‬
‫َ‬
‫ت‬‫ك أن َ‬ ‫ة إ ِن ّ َ‬
‫م ً‬
‫ح َ‬
‫ك َر ْ‬‫دن َ‬ ‫من ل ّ ُ‬ ‫ب ل ََنا ِ‬‫ت ُزِغْ قُُلوب ََنا ب َعْد َ إ ِذ ْ هَد َي ْت ََنا وَهَ ْ‬
‫ب(]ال عمران‪ .[8:‬فبذلك وصف الله الراسخين في‬ ‫ها ُ‬‫ال ْوَ ّ‬
‫العلم من عباده المومنين ‪.‬‬
‫***‬
‫‪48‬‬
‫) ‪(1/48‬‬

‫وإياك والقسوة‪ ،‬وهي غلظ القلب وجموده حتى ل يتأثر‬


‫بالموعة‪ ،‬ول يرق ول يلين عند ذكر الموت والوعد وأحوال‬
‫الخرة ‪ ،‬قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬أبعد‬
‫الشياء من الله تعالى القلب القاسي((‪ ،‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)) :‬من الشقاء أربع‪ :‬قسوة القلب ‪،‬‬
‫وجمود العين ‪،‬و الحرص ‪،‬وطول المل ((‪ .‬فاحترز من‬
‫هذه الربع ‪.‬‬
‫وفي الحديث الخر ‪)) :‬واعملوا أن الله ل يقبل دعاء من‬
‫قلب غافل((‪.‬‬
‫والغفلة دون القسوة‪ ،‬وهي مذمومة ‪ ،‬وفيها غاية الضرر‪.‬‬
‫والقلب الغافل ‪ :‬وهو الذي ل يستيقظ ول ينتبه إذا وردت‬
‫عليه المواعظ والزواجر ‪ ،‬ول يلتفت إليها من غفلته‬
‫وسهوه‪ ،‬واشتغاله بلعبه ولهوه‪،‬‬
‫وزخارف دنياه‪ ،‬واتباع هواه‪ ،‬قال الله تعالى لرسوله عليه‬
‫ة‬
‫خيَف ً‬‫ضّرعا ً وَ ِ‬ ‫ك تَ َ‬ ‫س َ‬‫ك ِفي ن َْف ِ‬ ‫كر ّرب ّ َ‬ ‫الصلة والسلم ‪َ) :‬واذ ْ ُ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫كن ّ‬ ‫ل وَل َ ت َ ُ‬ ‫صا ِ‬‫ل ِبال ْغُد ُوّ َوال َ‬ ‫ن ال َْقوْ ِ‬‫م َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫جهْرِ ِ‬ ‫دو َ‬‫وَ ُ‬
‫ن(]العراف‪ .[205:‬فنهاه عن أن يكون من أهل‬ ‫ال َْغافِِلي َ‬
‫الغفلة‪ ،‬كما نهاه عن طاعة الغافلين والسماع منهم في‬
‫قوله تعالى ‪):‬ول تطع م َ‬
‫عن ذِك ْرَِنا َوات ّب َعَ هَ َ‬
‫واهُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن أغَْفل َْنا قَل ْب َ ُ‬ ‫َ ُ ِ ْ َ ْ‬
‫مُرهُ فُُر ً‬ ‫كا َ‬
‫طا( ]الكهف‪.[28:‬‬ ‫نأ ْ‬ ‫وَ َ َ‬
‫ومن الغفلة أن يقرأ العبد القرآن الكريم أو يسمعه فل‬
‫يتدّبره ول يتَفّهم معانيه‪ ،‬ول يقف عند أوامره وزواجره‪،‬‬
‫ومواعظه وقوارعه‪ .‬وكذلك أحاديث الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬وكلم السلف الصالح رضوان الله عليهم ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫) ‪(1/49‬‬

‫ومن الغفلة أن ل يكثر ذكر الموت‪ ،‬وما بعده من أمور‬


‫الخرة‪ ،‬وأحوال أهل السعادة‪ ،‬وأهل الشقاوة فيها‪ ،‬ول‬
‫يدمن على التف ّ‬
‫كر في ذلك ‪،‬‬
‫ومن الغفلة أن ل يكثر مجالسة العلماء بالله وبدينه ‪،‬‬
‫كرين بأيامه وآلئه ووعده ووعيده‪ ،‬المحّرضين على‬ ‫المذ ّ‬
‫طاعته‪ ،‬وعلى اجتناب معصيته؛ بأفعالهم وأقوالهم ‪ ،‬ومن‬
‫لم يجدهم فكتبهم التي صنفوها تجزي عن مجالستهم عند‬
‫فقدهم ؛ على أن الرض ل تخلو إن شاء الله منهم ‪ ،‬وإن‬
‫م فساد الزمان وتفاحش ظهور الباطل وأهله ‪ ،‬وأدبر‬ ‫ع ّ‬
‫الخاص والعام وأعرضوا عن الله وعن إقامة الحق إل من‬
‫شاء الله وقليل ما هم ‪ ،‬ذلك لقول النبي عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ )):‬لتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ ل‬
‫يضّرهم من ناوأهم حتى يأتي أمر الله (( ‪ ،‬مع أخبار وآثار‬
‫ل على أن الرض ل تخلو في كل زمان عن‬ ‫كثيرة تد ّ‬
‫عصابة من أهل الحق‪ ،‬مستقيمين على كتاب الله تعالى‬
‫وسنة رسوله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ ،-‬يدعون الناس‬
‫إلى التمسك بالكتاب والسنة‪ ،‬غير أنهم يقّلون جدا ً في‬
‫آخر في الزمان‪ ،‬وقد يستترون حتى ل يعرفهم ويهتدي‬
‫إليهم إل الطالب الصادق ‪ ،‬والراغب المخلص ‪ ،‬والله‬
‫تعالى أعلم ‪.‬‬
‫***‬
‫‪50‬‬
‫) ‪(1/50‬‬

‫‪ ...‬واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬أيدنا الله وأياكم ‪ -‬أن خير‬


‫القلوب وأحبها الله ‪ :‬ما كان نظيفا ً نقيا ً من الباطل و‬
‫الشكوك‪ ،‬ومعاني الشّر كّلها ‪ ،‬واعيا ً للحق والهدى‪،‬‬
‫ومعاني الخير والصواب ‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪ )) :‬القلوب أربعة‪ :‬قلب أجرد فيه سراج‬
‫يزهر؛ فذلك قلب المؤمن ‪ ،‬وقلب أسود منكوس فذلك‬
‫قلب الكافر ‪ ،‬وقلب مربوط على غلفه فذلك القلب‬
‫المنافق ‪ ،‬وقلب مصّفح فيه إيمان ونفاق ‪ ،‬فمثل اليمان‬
‫دها الماء العذب ‪ ،‬ومثل النفاق فيه مثل‬ ‫فيه مثل البقلة يم ّ‬
‫دها القيح والصديد فأيّ المادتين غلبت عليه‬ ‫الُقرحة يم ّ‬
‫ذهبت به((‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬والظاهر أن هذا القلب الخير وصف قلوب أهل‬
‫التخليط و التفريط من عامة المسلمين ‪.‬‬
‫ن اليمان يبدو في القلب ُلمعة‬ ‫وفي الحديث أيضًا‪)) :‬إ ّ‬
‫ن النفاق يبدو‬‫ب كّله ‪ ،‬وإ ّ‬‫ض القل ُ‬
‫بيضاء‪ ،‬ثم تزيد حتى يبي َ ّ‬
‫ب كّله ((‬
‫في القلب نكتة سوداء‪ ،‬ثم تزيد حتي يسود ّ القل ُ‬
‫نسأل الله العافية‪ ،‬والوفاة على السلم لنا والمسلمين‬
‫وإنما يزيد اليمان بالمداومة على العمال الصالحة‬
‫والكثار منها مع الخلص لله‪.‬‬
‫وأما النفاق فزيادته بالعمال السيئة ‪ :‬من ترك الواجبات‪،‬‬
‫وارتكاب المحرمات ‪ ،‬كما قال النبي عليه الصلة‬
‫والسلم ‪:‬‬
‫‪51‬‬
‫) ‪(1/51‬‬

‫ت في قلبه نكتة سوداء‪ ،‬فإن تاب‬ ‫‪)) :‬من أذنب ذنبا ً ن ُك ِ َ‬


‫ب؛ زاد ذلك حتى يسود ّ قلُبه (( ‪.‬‬ ‫ه‪ ،‬وإن لم يت ْ‬ ‫ل قلب ُ ُ‬ ‫صِق َ‬‫ُ‬
‫ن عََلى قُُلوب ِِهم ّ‬
‫ما‬ ‫ل َرا َ‬ ‫فذلك الران الذي قال تعالى ‪):‬ك َّل ب َ ْ‬
‫ن(]المطففين‪. [14:‬‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫َ‬
‫فل شيء أشّر وأضّر على النسان في الدنيا والخرة من‬
‫الذنوب‪ ،‬ول يكاد يخلص إليه سوء‪ ،‬ول ينال مكروه إل من‬
‫صاب َ ُ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫صيب َةٍ فَب ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ّ‬ ‫كم ّ‬ ‫ما أ َ‬ ‫جهتها‪ ،‬قال الله تعالى ‪ ):‬وَ َ‬
‫َ‬
‫م (]الشورى‪. [30:‬‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫كَ َ‬
‫سب َ ْ‬
‫فينبغي للمؤمن أن يكون على نهاية الحتراز منها‪ ،‬وفي‬
‫غاية البعد عنها‪ ،‬و إن أصاب منها شيئا ً فليبادر بالتوبة منه‬
‫إلى الله‪ ،‬فإنه تعالى يقبل التوبة عن عباده‪ ،‬ويعفو عن‬
‫السيئات‪ ،‬ويعلم ما تفعلون ‪ .‬ومن لم يتب فإولئك هم‬
‫الظالمون ‪ ،‬ظلموا أنفسهم فعّرضوها لسخط الله بالوقوع‬
‫في معصيته‪ ،‬ثم بالصرار عليها بتركهم التوبة منها التي‬
‫أمرهم رّبهم بها ووعدهم بقبولها‪ ،‬ووصف نفسه بذلك‬
‫ب ِذي‬ ‫ديدِ ال ْعَِقا ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ل الت ّوْ ِ‬ ‫ب وََقاب ِ ِ‬ ‫ذن ِ‬‫غافِرِ ال ّ‬ ‫فقال تعالى‪َ ) :‬‬
‫صيُر(]غافر‪. [3:‬‬ ‫م ِ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ إ ِل َي ْهِ ال ْ َ‬‫ل َل إ ِل َ َ‬ ‫الط ّوْ ِ‬
‫فتأملوا ‪ -‬رحمكم الله ‪ -‬هذه الية‪ ،‬وما جمعت من المعاني‬
‫الشريفة‪ ،‬و السرار اللطيفة الباعثة على الخوف‬
‫من‬ ‫ما ي َت َذ َك ُّر إ ِّل َ‬‫والرجاء ‪ ،‬والرغبة والرهبة ‪ ،‬وغير ذلك‪) ،‬وَ َ‬
‫ن(‬‫كافُِرو َ‬ ‫ن وَل َوْ ك َرِهَ ال ْ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ن لَ ُ‬‫صي َ‬ ‫خل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫عوا الل ّ َ‬ ‫ب * َفاد ْ ُ‬ ‫ي ُِني ُ‬
‫]غافر‪.[14-13:‬‬
‫***‬
‫‪52‬‬
‫) ‪(1/52‬‬

‫وقال علي بن أبي طالب ‪ -‬كرم الله وجهه ‪ : -‬إن لله في‬
‫الرض آنية أل وهي القلوب‪ ،‬فخيرها أصفاها وأصلبها‬
‫سر ذلك فقال‪ :‬أصفاها في اليقين‪ ،‬وأصلبها‬ ‫وأرّقها‪ ،‬ثم ف ّ‬
‫في الدين ‪ ،‬وأرّقها على المؤمنين ‪.‬‬
‫ن اليمان من القلب‬ ‫قلت‪ :‬واليقين عبارة عن تمك ّ ِ‬
‫واستيلئه عليه ‪ ،‬وهو الطمأنينة التي سألها إبراهيم عليه‬
‫السلم ربه فيما أخبر عنه بقوله ‪َ) :‬قا َ َ‬
‫ل‬‫من َقا َ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬‫ل أو َ ل َ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن قَل ِْبي(]البقرة ‪. [260:‬‬ ‫كن ل ّي َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫ب ََلى وَل َ ِ‬
‫فبان من هذا أن اليقين غاية اليمان ونهايته ‪ .‬وفي‬
‫الحديث ‪ )):‬اليقين هو اليمان كله((‪ ،‬وما نزل من السماء‬
‫أشرف من اليقين‪ ،‬وكفى باليقين غنى ‪ .‬وقال أيضا ً عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ )):‬سلوا الله اليقين والعافية‪ ،‬فإنه ما‬
‫ل من العافية ((‪.‬‬ ‫ُأوتي أحد ٌ بعد اليقين أفض َ‬
‫وأما الصلبة في الدين فهي القوة فيه‪ ،‬والثبات عليه‪،‬‬
‫والغيرة له حتى يقول الحقّ وإن كان مرًا‪ ،‬ول يخاف في‬
‫الله لومة لئم ‪ .‬وبذلك وصف الله أحّباءه في قوله ‪َ) :‬يا‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف ي َأِتي الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫سو ْ َ‬ ‫عن ِدين ِهِ فَ َ‬ ‫م َ‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫من ي َْرت َد ّ ِ‬ ‫مُنوا ْ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫أي َّها ال ّ ِ‬
‫عّزةٍ عََلى‬ ‫ن أَ ِ‬‫مِني َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ه أذِل ّةٍ عََلى ال ْ ُ‬
‫حبون َ‬
‫م وَي ُ ِ ّ َ ُ‬ ‫حب ّهُ ْ‬‫ب َِقوْم ٍ ي ُ ِ‬
‫ة لئ ِم ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ن ل َوْ َ‬‫خاُفو َ‬ ‫ل الل ّهِ وَل َ ي َ َ‬ ‫سِبي ِ‬‫ن ِفي َ‬ ‫دو َ‬ ‫جاهِ ُ‬‫ن يُ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬‫ال ْ َ‬
‫م(‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫شاء َوالل ّ ُ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ك فَ ْ‬ ‫ذل َ‬ ‫َ‬
‫]المائدة‪.[54:‬‬

‫‪53‬‬
‫) ‪(1/53‬‬

‫وبذلك وصف رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬


‫عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال فيه ‪)):‬أقواكم في‬
‫دين الله عمر‪ ،‬قوله الحق‪ ،‬وما له في الناس من‬
‫صديق ((‪.‬‬
‫وقد كان رضي الله عنه من أصلب المؤمنين في الله دين‬
‫الله‪ ،‬وأشدهم أخذا ً به في حقّ نفسه وفي حق غيره‪ ،‬حتى‬
‫صارت المثال تضرب به في عدله‪،‬وأمره بالمعروف ونهيه‬
‫عن المنكر‪ ،‬وقيامه بالحق على القريب والبعيد‪ ،‬رضي‬
‫الله عنه وعن أصحاب رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬أجمعين ‪.‬‬
‫وأما الّرّقة على المؤمنين فأن يكون رحيما ً بهم مشفقا ً‬
‫عليهم‪ ،‬وذلك من أشرف الخلق وأفضل الخصال ‪ ،‬وبه‬
‫لم َ‬
‫سك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن أنُف ِ‬ ‫سو ٌ ّ ْ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاءك ُ ْ‬ ‫ه رسوَله فقال ‪) :‬ل ََقد ْ َ‬ ‫ف الل ُ‬ ‫ص َ‬‫وَ َ‬
‫م(‬
‫حي ٌ‬ ‫ف ّر ِ‬ ‫ؤو ٌ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫كم ِبال ْ ُ‬‫ص عَل َي ْ ُ‬
‫ري ٌ‬
‫ح ِ‬
‫م َ‬ ‫زيٌز عَل َي ْهِ َ‬
‫ما عَن ِت ّ ْ‬ ‫عَ ِ‬
‫]التوبة‪.[128:‬‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫حم ((‪.‬‬ ‫حم ل ُير َ‬ ‫))الراحمون يرحمهم الرحمن ‪ .‬ومن ل َير َ‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬أيضًا‪)) :‬إن‬
‫أبدال أمتي ل يدخلون الجنة بكثرة صلة ول صيام ‪ ،‬بل‬
‫بسلمة الصدور‪ ،‬وسخاوة النفوس ‪ ،‬والرحمة بكل‬
‫مسلم ((‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬ول يفهم من هذا أن البدال ليسوا بمكثرين من‬
‫الصلة والصيام ‪ ،‬بل كانوا مكثرين منهما من غيرهما من‬
‫العمال الصالحة ‪ .‬ولكن هذه الصاف التي وصفهم بها‬

‫‪54‬‬
‫) ‪(1/54‬‬

‫نبي الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬قدمتهم إلى الله‬
‫وقربتهم إليه لفضلها وشرفها أكثر من غيرها من بقية‬
‫أعمالهم الصالحة ل نهما من أعمال القلوب ‪ ،‬وأوصاف‬
‫السرائر ‪ ..‬فافهم ‪.‬‬
‫واعلم أنها ل توزن أعمال القلوب بأعمال الجوارح في‬
‫الخير والشر إل وترجح أعمال القلوب رجحانا ً بّينا ً على‬
‫أعمال الجوارح ‪ ،‬وتزيد عليها زيادة كثيرة ‪ .‬ومن هذه‬
‫ل التصوف‪ ،‬المعتنون بتزكية القلوب‪،‬‬ ‫ل أه ُ‬ ‫الحيثية فَ َ‬
‫ض َ‬
‫والمهتمون بما يخصها من الوصاف والعمال الصالحة‪،‬‬
‫ف المسلمين من العُّباد والعلماء الذين‬ ‫غيَرهم من طوائ ِ‬
‫ليس لهم من العناية بأمر الباطن مثل ما لهل التصوف‪،‬‬
‫والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ‪.‬‬
‫والرحمة بالمسلمين أمر واجب وحقّ لزم ‪ ،‬وهي‬
‫بالضعفاء والمساكين وأهل البليا والمصائب أولى‬
‫وأوجب ‪ .‬ومن لم يجد في قلبه عند مشاهدة ضعفاء‬
‫والمسلمين وأهل البلء منهم ‪ ،‬رقة ورحمة فهو غليظ‬
‫القلب ‪ ،‬قد غلبت عليه القسوة ‪ ،‬ونزعت منه الرحمة ‪ ،‬ول‬
‫تنزع الرحمة إل من شقي‪ ،‬كما قال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪.‬‬
‫جد َ مع ذلك ‪ -‬أعني هذا القاسي ‪ -‬في نفسه تكّبرا ً‬ ‫فإن وَ َ‬
‫ة واستنكافا ً من مخالطة أهل الضعف والمسكنة من‬ ‫وأ ََنف ً‬
‫ل به ما‬ ‫مْقتا ً من الله ‪ ،‬قد ح ّ‬
‫حقا ً له وب ُْعدا ً و َ‬
‫س ْ‬
‫المسلمين ف ُ‬
‫استوجب الطرد عن باب الله‪ ،‬ويكون في جملة المتكبرين‬
‫المنازعين لله‬

‫‪55‬‬
‫) ‪(1/55‬‬

‫تعالى ‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل يدخل الجنة‬
‫من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر((‪.‬‬
‫***‬
‫ومن الرقة ‪ :‬خشوع القلب‪ ،‬وكثرة البكاء من خشية الله‪،‬‬
‫وذلك وصف شريف ‪ ،‬ومسعى حميد‪ ،‬به وصف الله‬
‫ذا ت ُت َْلى‬
‫أنبياءه‪ ،‬والصالحين من عباده؛ فقال تعالى ‪) :‬إ ِ َ‬
‫دا وَب ُك ِّيا( ]مريم‪.[58:‬‬ ‫ج ً‬‫س ّ‬
‫خّروا ُ‬ ‫من َ‬ ‫ح َ‬ ‫ت الّر ْ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫م آَيا ُ‬
‫ن ي َب ْ ُ‬ ‫خرو َ َ‬
‫عا (‬ ‫شو ً‬ ‫خ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫زيد ُهُ ْ‬
‫ن وَي َ ِ‬
‫كو َ‬ ‫ن ل ِلذ َْقا ِ‬ ‫وقال تعالى‪ ) :‬وَي َ ِ ّ‬
‫]السراء‪.[109:‬‬
‫وقد عد ّ عليه الصلة والسلم في السبعة الذين يظلهم‬
‫ل إل ظّله‪ )) :‬رجل ً ذكر الله خاليا ً‬ ‫الله في ظّله يوم ل ظ ّ‬
‫ل عين‬ ‫ففاضت عيناه (( ‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ك ّ‬
‫باكية يوم القيامة إل عين بكت من خشية الله ‪ ،‬وعين‬
‫باتت تحرس في سبيل الله (( يعني في الجهاد ‪ ،‬وكان‬
‫البكاء الخالص من خشية الله عزيزا ً جدا ً حتى صار بهذه‬
‫المنزلة من الله مع كثرة من يبكي من الناس‪ ،‬حتى ورد‬
‫عنه عليه الصلة والسلم ‪ )):‬ل يلج النار من بكى من‬
‫خشية الله ‪ ،‬حتى يعود اللبن في الضرع ‪ ،‬وحتى يلج‬
‫خياط ‪ ،‬وفي رواية ‪)) :‬من خرج من‬ ‫م ال ِ‬
‫س ّ‬
‫الجمل في َ‬
‫عينه مثل رأس الذباب من خشية الله ((‬
‫وى عليه الصلة والسلم بين الدمع من خشية الله‬ ‫وقد س ّ‬
‫وبين الدم يهراق في سبيل الله‪ .‬وورد‪)) :‬لو أن باكيا ً بكى‬
‫في أمة لرحمهم الله ببكائه((‪ ،‬فتبين‬

‫‪56‬‬
‫) ‪(1/56‬‬

‫بما ذكرناه أن البكاء كثير‪ ،‬وأن الذي يكون من خشية الله‬


‫ك‬‫ك من خشية الله‪ ،‬فأن لم َتب ِ‬ ‫فقط من البكاء قليل‪ ،‬فاب ِ‬
‫ك‪.‬‬ ‫فت ََبا َ‬
‫وإّياك والرياء والتصّنع والتزّين للمخلوقين فتسقط بذلك‬
‫ب العالمين ‪.‬‬ ‫من عين ر ّ‬
‫***‬
‫كر ما بين يديك من أهوال الخرة‬ ‫وإن عّز عليك البكاء فتذ ّ‬
‫ك ول ريب‪ ،‬إن كنت قد آمنت‬ ‫التي أنت ملقيها من غير ش ّ‬
‫بالله وما جاء به محمد رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ ،-‬فسوف تبكي ل محالة إن كان لك قلب يفقه‪،‬‬
‫وعقل يعقل‪ ،‬فإن لم يكن لك شيء من ذلك فاعدد نفسك‬
‫في النعام السائمة في المرعى‪ ،‬والبهائم الراتعة في‬
‫الكل‪ ،‬فإن الله تعالى إنما خاطب أهل القلوب وذكرهم‪،‬‬
‫ب أ َْو‬ ‫ه قَل ْ ٌ‬
‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫ك ل َذِك َْرى ل ِ َ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫فقال تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫د(]ق‪.[37:‬‬ ‫شِهي ٌ‬ ‫معَ وَهُوَ َ‬ ‫أل َْقى ال ّ‬
‫س ْ‬
‫ك ل ّي َد ّب ُّروا آَيات ِ ِ‬
‫ه‬ ‫مَباَر ٌ‬‫ك ُ‬‫ب َأنَزل َْناهُ إ ِل َي ْ َ‬‫وقال تعالى ‪) :‬ك َِتا ٌ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب(]ص‪ .[29:‬وفي غير موضع من‬ ‫وَل ِي َت َذ َك َّر أوُْلوا الل َْبا ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما ي َذ ّك ُّر إ ِل ّ أوُْلوا ْ الل َْبا ِ‬
‫ب(]البقرة‪:‬‬ ‫الكتاب العزيز ‪) :‬وَ َ‬
‫‪ .[269/2‬وهم أولو العقول ‪ ،‬فانظر كيف نفى التذ ّ‬
‫كر عن‬
‫كر أه َ‬
‫ل النابة وهم‬ ‫ص الله تعالى بالتذ ّ‬ ‫غيرهم‪.‬كما خ ّ‬
‫الراجعون إليه‪ ،‬وأهل الخشية وهم الخائفون منه‪ ،‬وأهل‬
‫اليمان وهم المصدقون به وبرسوله وبوعده ووعيده‪،‬‬
‫فقال الله تعالى ‪:‬‬

‫‪57‬‬
‫) ‪(1/57‬‬

‫ماء رِْزًقا وَ َ‬
‫ما‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫كم ّ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫م آَيات ِهِ وَي ُن َّز ُ‬ ‫ريك ُ ْ‬ ‫ذي ي ُ ِ‬ ‫)هُوَ ال ّ ِ‬
‫ب(]غافر‪ ،[13:‬وقال تعالى‪) :‬فَذ َك ّْر ِإن‬ ‫من ي ُِني ُ‬ ‫ي َت َذ َك ُّر إ ِّل َ‬
‫شى(]العلى‪ ،[9-10:‬وقال‬ ‫خ َ‬ ‫من ي َ ْ‬ ‫سي َذ ّك ُّر َ‬ ‫ت الذ ّك َْرى* َ‬ ‫ن َّفعَ ِ‬
‫ن(]الذاريات‪.[55:‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ن الذ ّك َْرى َتنَفعُ ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫تعالى ‪) :‬وَذ َك ّْر فَإ ِ ّ‬
‫فشرع التذكر وأمر به رسوله عمومًا‪ ،‬وخص بنفعه‬
‫المؤمنين من عباده‪،‬وكان ذلك لهم حجة عنده ومحجة‬
‫إليه‪ ،‬وكما كان على الخرين حجة قائمة مدحضة لحججهم‬
‫الباطلة‪ ،‬فإنهم أعرضوا بعد العلم ‪ ،‬وأنكروا بعد المعرفة‪،‬‬
‫َ‬
‫ما‬‫م ّ‬‫ولم يستجيبوا لله ورسوله‪) ،‬وََقاُلوا قُُلوب َُنا ِفي أك ِن ّةٍ ّ‬
‫م ْ‬
‫ل‬ ‫ب َفاعْ َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ح َ‬‫ك ِ‬ ‫من ب َي ْن َِنا وَب َي ْن ِ َ‬ ‫ذان َِنا وَقٌْر وَ ِ‬ ‫عوَنا إ ِل َي ْهِ وَِفي آ َ‬ ‫ت َد ْ ُ‬
‫ن(]فصلت‪،[5:‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫عا ِ‬ ‫إ ِن َّنا َ‬
‫َ‬ ‫ذيٌر ل ّي َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دى‬‫ن أه ْ َ‬ ‫كون ُ ّ‬ ‫م نَ ِ‬ ‫جاءهُ ْ‬ ‫م ل َِئن َ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫جهْد َ أي ْ َ‬ ‫موا ِبالل ّهِ َ‬ ‫س ُ‬ ‫)وَأقْ َ‬
‫م إ ِّل ن ُُفوًرا(‬ ‫ُ‬
‫ما َزاد َهُ ْ‬ ‫ذيٌر ّ‬ ‫م نَ ِ‬‫جاءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫مم ِ فَل َ ّ‬ ‫دى اْل َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫]فاطر‪ . [42:‬فهذا وصف من دعاه رّبه إلى توحيده‬
‫وطاعته على لسان رسوله فأبى واستكبر‪ ،‬وجحد وكفر ‪.‬‬
‫ومن آمن بلسانه وصدق بظاهره‪ ،‬وأنكر بقلبه فهو‬
‫المنافق ‪ ،‬والذي له ما للكافر وعليه ما عليه من غضب‬
‫الله ولعنته‪.‬‬
‫ومن آمن بقلبه ولسانه‪ ،‬وضّيع ما فرض الله عليه من‬
‫طاعته‪ ،‬وارتكب ما حرم الله عليه من معصيته‪ ،‬فأمره في‬
‫غاية الخطر‪ ،‬ويخشى عليه إن لم يتداركه الله بالتوفيق‬
‫لتوبة خالصة‬
‫‪58‬‬
‫) ‪(1/58‬‬

‫قبل مماته أن يلتحق بالمنافقين والكافرين ‪،‬ويكون معهم‬


‫في نار الله الموقدة )ال ِّتي ت َط ّل ِعُ عََلى اْل َفْئ ِد َةِ * إ ِن َّها عَل َي ِْهم‬
‫ة(]الهمزة‪.[9-7:‬‬ ‫مد ّد َ ٍ‬ ‫م َ‬ ‫مدٍ ّ‬ ‫صد َةٌ * ِفي عَ َ‬ ‫مؤ ْ َ‬ ‫ّ‬
‫فاثبت أيها المؤمن المطيع على طاعة ربك ‪،‬واستكثر‬
‫منها‪ ،‬واصبر عليه‪ ،‬وأخلص له فيها‪ ،‬ودم على ذلك حتى‬
‫تلقاه جل وعل ‪ ،‬فيرضيك ويرضى عنك ‪،‬ويحلك دار كرامته‬
‫حت َِها ال َن َْهاُر‬ ‫من ت َ ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫مت ُّقو َ‬ ‫عد َ ال ْ ُ‬ ‫جن ّةِ ال ِّتي وُ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫‪ّ ):‬‬
‫ن ات َّقوا ْ وّعُْقَبى ال ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك عُْقَبى ال ّ ِ‬ ‫م وِظ ِل َّها ت ِل ْ َ‬ ‫دآئ ِ ٌ‬‫أك ُل َُها َ‬
‫الّناُر(]الرعد‪.[35/13:‬‬
‫وانزع أيها المؤمن العاصي عن معصيتك‪ ،‬وتب إلى ربك‬
‫منها من قبل أن ينزع بك الموت ‪،‬فتلقى ربك دنسا ً خبيثًا‪،‬‬
‫ْ‬
‫م‬
‫جهَن ّ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ما فَإ ِ ّ‬ ‫جرِ ً‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ت َرب ّ ُ‬ ‫من ي َأ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫فتكون كما قال الله )إ ِن ّ ُ‬
‫حيى(]طه‪ .[74/20:‬ول تأمن إن لم‬ ‫ت ِفيَها وََل ي َ ْ‬ ‫مو ُ‬ ‫َل ي َ ُ‬
‫تبادر بالتوبة من عصيانك أن ينزل الله بك عقابا ً من عقابه‬
‫‪ ،‬فأن العاصين لربهم متعرضون لذلك في كل وقت ‪ ،‬ألم‬
‫ت َأن‬ ‫َ َ‬
‫سي َّئا ِ‬‫مك َُروا ْ ال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫تسمع قول الله تعالى ‪ ) :‬أفَأ ِ‬
‫م ال ْعَ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ث لَ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ض أوْ ي َأت ِي َهُ ُ‬ ‫م الْر َ‬ ‫ه ب ِهِ ُ‬ ‫ف الل ّ ُ‬ ‫س َ‬ ‫خ ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫م َلر ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫ؤو ٌ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫ف فَإ ِ ّ‬ ‫خو ّ ٍ‬ ‫م عََلى ت َ َ‬ ‫خذ َهُ ْ‬ ‫ن * أوْ ي َأ ُ‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ْ‬
‫ن(]النحل‪:‬‬ ‫زي َ‬‫ج ِ‬ ‫مع ْ ِ‬ ‫هم ب ِ ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫م فَ َ‬ ‫م ِفي ت ََقل ّب ِهِ ْ‬ ‫خذ َهُ ْ‬ ‫م * أ َوْ ي َأ ُ‬ ‫حي ٌ‬ ‫ّر ِ‬
‫‪.[47-45‬‬
‫اللهم اجعلنا يا كريم بتذكيرك منتفعين‪ ،‬ولكتابك ورسولك‬

‫‪59‬‬
‫) ‪(1/59‬‬

‫مّتبعين‪ ،‬على طاعتك مجتمعين‪ .‬وتوّفنا يا رّبنا مسلمين‪،‬‬


‫وألحقنا بالصالحين‪ ،‬ووالدينا وأحبابنا برحمتك يا أرحم‬
‫الراحمين ‪.‬‬
‫***‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬أيقظ الله قلوبنا وقلوبكم من‬
‫سنة الغفلة‪ ،‬ووفقنا وإياكم للستعداد للنقلة من الدار‬
‫الفانية إلى الدار الباقية ‪ -‬وأن من أضر الشياء على‬
‫النسان طول المل ‪ .‬ومعنى طول المل ‪ :‬استشعار‬
‫طول البقاء في الدنيا حتى يغلب ذلك على القلب فيأخذ‬
‫في العمل بمقتضاه ‪ ،‬وقد قال السلف الصالح ‪ -‬رحمة‬
‫الله عليهم ‪ -‬من طال أمله ساء عمله ‪ .‬وذلك لن طول‬
‫المل يحمل على الحرص على الدنيا‪ ،‬والتشمير لعمارتها‪،‬‬
‫حتى يقطع النسلن ليله ونهاره بالتفكير في إصلحها‪،‬‬
‫وكيفية السعي لها تارة بقلبه وتارة بالعمل في ذلك‪،‬‬
‫والخذ فيه بظاهره‪ ،‬فيصير قلبه وجسمه مستغرقين في‬
‫العمل لها‪ ،‬فيكون في أمر دنياه مبادرا ً ومشمرًا‪ ،‬في أمر‬
‫آخرته مسوفا ً ومقصرًا‪ ،‬وكان الذي ينبغي له أن يعكس‬
‫المر‪ ،‬فيشمر للخرة التي هي دار البقاء وموطن القامة‪،‬‬
‫وقد أخبره الله تعالى ورسوله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬أنه ل ينالها بدون السعي والطلب والجد في ذلك‬
‫والتشمير له‪ .‬وأما الدنيا فهي دار زوال وانتقال‪ ،‬وعن‬

‫‪60‬‬
‫) ‪(1/60‬‬

‫قريب يرتحل منها إلى ال خرة ويخلفها وراء ظهره ‪،‬‬


‫وليس مأمورا ً بطلبها والحرص عليها ‪،‬بل هو منهي عنه‬
‫في كتاب الله تعالى ‪ ،‬وفي سنة رسوله ‪-‬صّلى الله عليه‬
‫وآله وسّلم‪ -‬ونصيبه المقدار له منها ل يفوته ولو لم يطلبه‬
‫‪ ،‬ولكن لما طال عليه المل حمله على الحرص على‬
‫الدنيا والتسويف في الخرة‪ ،‬فل يخطر له أمر الموت ‪،‬‬
‫ووجوب الستعداد له بالعمال الصالحة‪ ،‬إل وعد نفسه‬
‫بالفراغ لذلك من أشغال الدنيا في أوقات مسنقبلة كأن‬
‫أجله في يده يموت متى شاء ‪ .‬وهذا كله من شؤم طول‬
‫المل ‪ ،‬فاحذروه ‪ -‬رحمكم الله ‪ -‬واجعلوا التسوبف‬
‫والتأخير في أمور الدنيا ‪ ،‬ومبادرة والتشمير في أمور‬
‫الخرة‪ ،‬كما قال النبي عليه الص ‪)):‬اعما لدنياك كأنك ل‬
‫تموت أبدا ً ‪،‬واعمل لخرتك كأنك ميت غدًا((‪.‬‬
‫واستشعروا قرب الموت‪ ،‬فإنه كما في الحدث ‪)):‬أقرب‬
‫غائب ينتظر((وما يدري النسان ! لعله لم يبق من أجله‬
‫إل السيء اليسير ‪،‬وهو مقبل على دنياه ومعرض عن‬
‫لخرته‪ ،‬فإن نزل به الموت وهو على تلك الحالة رجع إلى‬
‫الله ‪ ،‬وهو غير مستعد للقائه ‪ ،‬وربما يتمنى المهال عندما‬
‫ينزل الموت به فل يجاب إليه ول يمكن منه ‪ ،‬كما قال الله‬
‫َ‬
‫ن(‬‫جُعو ِ‬ ‫ب اْر ِ‬
‫ل َر ّ‬ ‫ت َقا َ‬ ‫مو ْ ُ‬‫م ال ْ َ‬ ‫حد َهُ ُ‬
‫جاء أ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬
‫تعالى ‪َ ) :‬‬
‫ة هُوَ َقائ ِل َُها‬ ‫َ‬
‫ت ك َّل إ ِن َّها ك َل ِ َ‬
‫م ٌ‬ ‫ما ت ََرك ْ ُ‬
‫حا ِفي َ‬‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫م ُ‬‫)ل َعَّلي أعْ َ‬
‫ن(]المؤمنون‪.[100-99:‬‬ ‫خ إ َِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ‬‫من وََرائ ِِهم ب َْرَز ٌ‬
‫وَ ِ‬
‫وف العمل‪ ،‬ويغفل عن‬ ‫فل يطيل المل ويس ّ‬

‫‪61‬‬
‫) ‪(1/61‬‬

‫الستعداد للموت إل أحمق مغرور‪ ،‬وقد قال رسول الله‬


‫ه‪-‬‬
‫س ُ‬‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )): -‬الكيس من دان نف َ‬
‫ل لما بعد الموت‪ .‬والعاجز من أتبع‬ ‫م َ‬
‫يعني حاسبها ‪ -‬وعَ ِ‬
‫منى على الله الماني ((‪ .‬فطول المل‬ ‫نفسه هواها‪ ،‬وت َ ّ‬
‫من اّتباع هوى النفس والنخداع بأمانيها الكاذبة ‪.‬‬
‫وقال بعض السلف الصالح ‪ -‬رضي الله عنهم ‪ :-‬لو رأيتم‬
‫الجل ومسيره لبغضتم المل وغروره‪.‬‬
‫وقال آخر‪ :‬كم من مستقبل يوما ً لم يستكمله‪ ،‬ومؤمل غدا ً‬
‫ل أكفانه قد‬ ‫ب ضاحك ملء فيه ولع ّ‬ ‫لو يدركه‪ .‬وقال آخر‪ُ :‬ر ّ‬
‫خرجت من عند القصار ‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪)) :‬ينجو أول هذه المة بالزهد واليقين ‪،‬‬
‫ويهلك آخرها بالحرص وطول المل ((‪.‬‬
‫وقال علي رضي الله عنه‪ :‬أخوف ما أخاف عليكم اتباع‬
‫ق‪،‬‬‫الهوى وطول المل فإما اتباع الهوى فيصد ّ عن الح ّ‬
‫وأما طول المل فينسي الخرة‪ ،‬ومن نسي الخرة لم‬
‫يعمل لها‪ ،‬ومن لم يعمل لها قدم إليها وهو مفلس من‬
‫العمال الصالحة التي ل نجاة ول فوز في الخرة بدونها‪،‬‬
‫فإن طلب عند ذلك أن يرد ّ إلى الدنيا ليعمل صالحا ً ِ‬
‫حي َ‬
‫ل‬
‫مه حيث ل‬ ‫سره وند ُ‬
‫بينه وبين ذلك‪ ،‬فيعظم عند ذلك تح ّ‬
‫ينفع الندم‪.‬‬
‫وفي وصية رسول الله لبن عمر رضي الله عنهما ‪)) :‬كن‬
‫في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (( ‪ ،‬وفي ذلك غاية‬
‫ث على قصر المل‪ ،‬وقلة الرغبة في الدنيا‪ .‬وكان ابن‬ ‫الح ّ‬
‫عمر‬

‫‪62‬‬
‫) ‪(1/62‬‬

‫يقول ‪ " :‬إذا أصبحت فل تنتظر الموت المساء ‪ ،‬وإذا‬


‫أمسيت فل تنتظر الصباح ‪ .‬وخذ من حياتك لموتك ومن‬
‫صحتك لسمقك" ‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن الناس في المل على ثلث أصناف ‪:‬‬
‫الصنف الول ‪ :‬وهم السابقون من النياء والصديقين ‪ ،‬ل‬
‫أمل لهم أصل ً ‪،‬وفهم على الدوام مستشعرون لنزول‬
‫الموت بهم ‪ ،‬مستعدون له بالقبال الدائم على الله وعلى‬
‫طاعته ‪ ،‬متفرغين عن أشغال الدنيا بالكلية ‪ ،‬إل ما كان‬
‫منها ضروريا ً في حق أنفسهم أو في حق من ل بد لهم‬
‫منه من أتباعهم ‪.‬وقد صاروا من القبال على الله وعلى‬
‫الدار الخرة بحيث لو قيل لحدهم ‪ :‬إنك ميت غدا ً لم يجد‬
‫موضعا ً‬
‫للزيادة على ما هو عليه من العمل الصالح ‪ ،‬لنتهائه فيه‬
‫إلى الغاية القصوى التي ليس وراء ها غاية وكذلك ل يجد‬
‫شيئا ً يتركه ‪ ،‬لنه قد ترك كل شيء ل يحب أن ينزل به‬
‫الموت وهو ملبس له ‪ .‬وإلى ما ذكرناه من حال هذا‬
‫الصنف الشريف الشارة بقوله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ )) -‬و الذي نفسي بيده ما رفعت قدمي فظننت أني‬
‫أضعها حتى أقبض ‪ ،‬ول رفعت لقمة فضننت أني أسيغها‬
‫حتى أغص بها من الموت ‪ ((..‬الحديث ‪.‬‬
‫مم والماء منه قريب‪،‬‬ ‫وكان عليه الصلة والسلم رّبما يتي ّ‬
‫فُيقال له في ذلك فيقول ‪ )) :‬ل أدري لعلي ل أبلغه ((‪.‬‬
‫والصنف الثاني ‪ :‬وهم المقتصدون من الخيار‪ ،‬والبرار‬
‫لهم‬

‫‪63‬‬
‫) ‪(1/63‬‬

‫أمل قصير ل يلهيهم عن الله وعن ذكره‪ ،‬ول ينسيهم الدار‬


‫الخرة‪ ،‬ول يشغلهم عن الستعداد للموت‪ ،‬ول يحملهم‬
‫على عمارة الدنيا وتزيينها ‪ ،‬والغترار بزخارفها وشهواتها‬
‫الفانية المنغصة‪ .‬ولكنهم لم يعطوا من القوة مثل ما‬
‫أعطي الصنف الول من دوام الستشعار لنزول الموت‬
‫في كل وقت‪ ،‬ولو دام عليهم ذلك لتعطلت عليهم أمور‬
‫طل عليهم أمور‬ ‫معايشهم التي لبد ّ لهم منها ‪ ،‬وربما تتع ّ‬
‫آخرتهم من غلبة الذهول والدهش عليهم ‪ ،‬فأن استشعار‬
‫نزول الموت على الدوام أمر عظيم‪ ،‬ل تستقل بحمله إل‬
‫قوة النبوة أو الصديقية الكاملة ‪.‬‬
‫ومن هذه الحيثية يقال ‪ :‬إن من المل رحمة‪ ،‬أعني هذا‬
‫المل الذي لول وجوده لتزلزت أمور الدين والدنيا‪ ،‬وإلى‬
‫ذلك الشارة بما بلغنا أن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم‬
‫عليه يوم الميثاق من ظهره ورأت الملئكة كثرتهم قالوا ‪:‬‬
‫يا رّبنا ل تسعهم الدنيا ! فقال تعالى ‪ )):‬إني جاعل‬
‫موتًا(( ؛ فقالوا‪ :‬ل يهنؤهم العيش ؟ فقال ‪ )):‬إني جاعل‬
‫أمل ً ((‪.‬‬
‫وعن النبي عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إن الملئكة يقولون‬
‫لهل الميت إذا انصرفوا عن قبره‪ :‬انصرفوا إلى دنياكم‪،‬‬
‫أنساكم الله موتاكم (( والملئكة عليه الصلة والسلم ل‬
‫يدعون للمؤمنين بالشّر الذي هو طول المل المذموم ‪،‬‬
‫بل بالخير الذي هو قصر المل ‪ -‬أعني القدر الذي ل يلهي‬
‫عن الخرة ‪ ،‬ويتيسر معه القيام بالمعايش التي ل غنى‬
‫عنها ‪ -‬والله أعلم ‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫) ‪(1/64‬‬

‫والصنف الثالث‪ :‬وهم المغرورون والحمقى الذين طال‬


‫عليهم المل جدا ً حتى أنساهم الخرة ‪ ،‬وألهاهم عن ذكر‬
‫الموت ‪،‬وأقلبوا بقلوبهم على محبة الدنيا ‪ ،‬والحرص على‬
‫عمارتها ‪ ،‬وجمع حطامها ‪ ،‬والغترار بزخارفها وزبنتها ‪،‬‬
‫والنظر إلى زهرتها التي نهى الله نبيه عليه الصلة‬
‫ك‬‫ن عَي ْن َي ْ َ‬ ‫مد ّ ّ‬ ‫والسلم عن مد العين إليها فقال تعالى ‪):‬وََل ت َ ُ‬
‫َ‬
‫م‬
‫دنَيا ل ِن َْفت ِن َهُ ْ‬ ‫حَياةِ ال ّ‬ ‫م َزهَْرةَ ال ْ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫جا ّ‬ ‫مت ّعَْنا ب ِهِ أْزَوا ً‬ ‫ما َ‬‫إ َِلى َ‬
‫خي ٌْر وَأ َب َْقى(]طه‪.[131:‬‬ ‫ك َ‬ ‫ِفيهِ وَرِْزقُ َرب ّ َ‬
‫فترى أحدهم ل يكاد يذكر الخرة‪ ،‬ول يتفكر فيها‪ ،‬ول‬
‫يخطر له أمر الموت وقرب الجل‪ ،‬وإن خطر له نادرا ً لم‬
‫يؤثر في قلبه شيئًا‪ ،‬وإن خاف من تأثيره فيه صرفه عنه‬
‫وش عليه‬ ‫وأدخل على نفسه ما ينسيه ذلك‪ ،‬حتى ل يتش ّ‬
‫إقباله على الدنيا والتمّتع بلذاتها وشهواتها ‪.‬‬
‫والمل على هذا الوجه هو المل المردي المذموم على‬
‫الطلق ‪ ،‬وصاحبه من الخاسرين الذين ألهتهم أموالهم‬
‫وأولدهم عن ذكر الله‪ ،‬وسوف يقول عندما ينزل به‬
‫َ‬ ‫ول أ َ ّ‬
‫ب(‬ ‫ري ٍ‬ ‫ل قَ ِ‬ ‫ج ٍ‬ ‫خْرت َِني إ َِلى أ َ‬ ‫ب لَ ْ‬ ‫الموت ويعاين الخرة‪َ) :‬ر ّ‬
‫]المنافقون‪.[10:‬‬
‫َ‬
‫على وفق ما ذكر الله في كتابه حيث يقول تعالى‪َ) :‬يا أي َّها‬
‫َ‬ ‫ال ّذين آمنوا ل تل ْهك ُ َ‬
‫عن ذِك ْرِ الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫م وََل أوَْلد ُك ُ ْ‬ ‫وال ُك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ُ ِ ْ‬ ‫ِ َ َ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما‬ ‫من ّ‬ ‫فُقوا ِ‬ ‫ن * وَأن ِ‬ ‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ك فَأوْل َئ ِ َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬‫من ي َْفعَ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ول‬ ‫ب لَ ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫ت فَي َُقو َ‬ ‫مو ْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َك ُ ُ‬ ‫يأ َ‬ ‫ل أن ي َأت ِ ََ‬ ‫من قَب ْ ِ‬ ‫كم ّ‬ ‫َرَزقَْنا ُ‬
‫ن‬
‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫كن ّ‬ ‫صد ّقَ وَأ َ ُ‬ ‫ب فَأ ّ‬ ‫ري ٍ‬ ‫ل قَ ِ‬ ‫ج ٍ‬
‫َ‬
‫خْرت َِني إ َِلى أ َ‬ ‫أَ ّ‬

‫‪65‬‬
‫) ‪(1/65‬‬

‫َ‬
‫ما‬
‫خِبيٌر ب ِ َ‬ ‫جل َُها َوالل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫جاء أ َ‬ ‫سا إ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫خَر الل ّ ُ‬
‫ه ن َْف ً‬ ‫)وََلن ي ُؤَ ّ‬
‫ن(]المنافقون‪.[11-9:‬‬ ‫مُلو َ‬‫ت َعْ َ‬
‫وقد بلغنا أن ملك الموت عليه الصلة والسلم يظهر‬
‫ي يسير فيخبره به فيقول‬ ‫للنسان عندما يبقى من أجله ش ْ‬
‫له ‪:‬يا ملك الموت ‪ ،‬أخرني قليل لتوب إلى ربي وأستغفر‬
‫ه فيقول له الملك ‪ :‬قد طالما أخرت وعمرت فلم تتب‬
‫ولم ترجع إلى ربك حتى الن ‪ .‬وقد أنقضت المدة وبلغت‬
‫الجل الذي كتبه الله لك ‪ ،‬فل سبيل إلى التأخير‪.‬‬
‫قال بعض العلماء ‪ -‬رحمة الله عليهم ‪ :‬فلو كانت الدنيا‬
‫بأسرها لهذا النسان وأمكنه أن يشتري بها ساعة واحدة‬
‫يزيدها في العمره ‪،‬ويعتذر فيها إلى ربه ‪ ،‬لفعل ‪.‬‬
‫ثم إن الغفلة عن الخرة والعراض عنها بالكلية إقبال ً‬
‫على الدنيا واشتغال بها قد يكون سببه طول المل كما‬
‫ذكرناه ‪ ،‬وقد يكون سببه شكا ً في الخرة وترددا ً في كونها‬
‫حقا ً ‪ -‬والعياذ بالله من ذلك ‪ -‬فإن من الكفر بالله ورسوله‬
‫‪ .‬والعلمة المميزة للغافل عن الخرة بين أن يكون سبب‬
‫غفلته طول المل أو الشك ‪ ،‬هي أن الغافل الذي يكون‬
‫سبب غفلته طول المل إذا مرض أو حصل له شيء‬
‫يتوقع عنده قرب الموت يكثر ذكر الخرة ‪ ،‬ويتحسر على‬
‫ترك العمل لها ‪ ،‬ويتمنى أن يعافى ليعمل صالحا ً ‪.‬‬
‫ك ل يظهر عليه عند‬ ‫و الذي تكون غفلته عن الش ّ‬
‫‪66‬‬
‫) ‪(1/66‬‬

‫سف‬ ‫المرض ونحوه شيء مما ذكرناه ‪ ،‬بل يظهر عليه التأ ّ‬
‫وف على أولده وأمواله أن تضيع‬ ‫على فراق دنياه ‪ ،‬والتخ ّ‬
‫ل على قصور النظر والرغبة‬ ‫من بعده‪ ،‬وأشباه ذلك مما يد ّ‬
‫في أحوال الدنيا ‪ .‬فاعتبر هذا ‪ -‬رحمة الله ‪ -‬في نفسك ‪،‬‬
‫وفي غيرك؛ حتى تعظه وتنصحه إن شممت منه روائح‬
‫ك في الخرة في‬ ‫ك في الدار الخرة ‪ .‬فليس الش ّ‬ ‫الش ّ‬
‫م والخطر بمنزلة طول المل وإن كان طول المل‬ ‫الذ ّ‬
‫المنسي للخرة مذموما ً جدا ً ‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن الكثار من ذكر الموت مستحب ومرغب فيه ‪،‬‬
‫وله منافع و فوائد جليلة منها ‪ :‬قصر المل ‪ ،‬والتزهيد في‬
‫الدنيا‪ ،‬والقناعة منها باليسير ‪ ،‬والرغبة في الخرة‪ ،‬والتزود‬
‫لها بالعمال الصالحة‪ ،‬وقد قال رسول الله ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪)) : -‬أكثروا من ذكر هاذم اللذات (( يعني‪:‬‬
‫الموت ‪.‬‬
‫وكان عليه الصلة والسلم يقوم من الليل فينادي ‪)) :‬جاء‬
‫الموت بما فيه ‪ ،‬جاءت الراجفة)‪ (1‬تتبعها الرادفة ‪((..‬‬
‫الحديث ‪.‬‬
‫ولما سئل صلوات الله عليه من الكياس من الناس من‬
‫هم؟ قال‪)) :‬أكثرهم للموت ذكرًا‪ ،‬واحسنهم له استعدادًا‪،‬‬
‫أولئك الكياس ذهبوا بشرف الدنيا ونعيم الخرة ((‪.‬‬
‫‪------------------------‬‬
‫)‪ (1‬الراجفة نفخة الصعق ‪ .‬والرادفة نفخة البعث ‪.‬‬
‫‪67‬‬
‫) ‪(1/67‬‬

‫قلت ‪:‬وليس ذكر الموت النافع هو أن يقول النسان‬


‫بلسانه ‪:‬الموت الموت فقط ‪،‬فإن ذلك قليل المنفعة وإن‬
‫أكثر منه‪ ،‬بل ل بد مع ذلك من تفكر القلب واستحضاره‬
‫عند ذكر الموت بالسان ‪.‬كيف يكون حاله عند الموت‬
‫وأهواله وسكراته ‪ ،‬ومعانيته أمور الخرة‪ .‬وما الذي بقي‬
‫من أجله وبم يختم له ‪،‬وكيف كان حال من مضى من‬
‫أقرانه وأصحابه عند الموت ‪ ،‬وإلى أي مصير صاروا !!‬
‫وأشباه ذلك من الفكار والذكار النافعة للقلب والمؤثرة‬
‫فيه ‪.‬‬
‫قال بعض السلف ‪ :‬أنظر كل شيء تحب أن يأتيك الموت‬
‫وأنت عليه فاجتنبه ‪ .‬فتأمل ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬هذه المقالة ‪،‬‬
‫فأنها عظيمة النفع لمن عمل بها ‪ .‬والله الموفق‬
‫والمعين ‪ ،‬لرب غيره ‪.‬‬
‫وأما كراهية الموت فإمر طيبعي ل يكاد النسان ينفك عنه‬
‫‪ ،‬وذلك لن الموت وؤلم في النفسه ‪ ،‬ومفرق بين‬
‫النسان وبين محبوباته ومألو فاته من دنياه ‪ .‬ولما قال‬
‫ب لقاَء‬ ‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من أح ّ‬
‫ب الله لقاَءه ‪ .‬ومن ك َرِهَ لقاَء الله ك َرِهَ الله‬‫الله أح ّ‬
‫لقاَءه (( قالت له عائشة رضي الله عنها‪ :‬يارسول الله ‪،‬‬
‫كّلنا نكره الموت ؟ فقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إن‬
‫ب لقاء‬ ‫شر برحمة الله‪ ،‬فإح ّ‬ ‫المؤمن إذا حضره الموت ب ُ ّ‬
‫شر‬ ‫ب الله لقاءه ‪ ،‬وإن الكافر إذا حضره الموت ب ُ ّ‬ ‫الله وأح ّ‬
‫بعذاب الله ‪ ،‬فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ((‬
‫‪68‬‬
‫) ‪(1/68‬‬

‫وفي وصف المؤمن المحبوب المذكور في قوله عليه‬


‫الصلة والسلم عن الله ‪)):‬ما تقّرب المتقّربون‪((...‬‬
‫فساق الحديث عن الله تعالى إلى أن قال تعالى ‪)):‬وما‬
‫ددت في شيء أنا فاعله كترّددي في قبض نفس عبدي‬ ‫تر ّ‬
‫المؤمن يكره الموت‪ ،‬وأكره مساءته ‪ ،‬ول بد ّ له منه((‪.‬‬
‫فانظر كيف وصفه بكراهية الموت مع كمال إيمانه‪ ،‬وعلو‬
‫منزلته عنده تعالى ‪ ،‬تعلم صحة ما ذكرناه ‪.‬‬
‫وفي أخبار موسى عليه الصلة والسلم ‪ :‬أنه لطم ملك‬
‫الموت حين جاء ليقبضه فأخرج عينه ‪.‬‬
‫س في حال قوة‬ ‫نعم ‪ ،‬قد تنغمر كراهية الموت حتى ل يح ّ‬
‫إشراق أنوار المعرفة واليقين‪ ،‬ويكون ذلك لهله في وقت‬
‫دون وقت ‪ .‬وأما المر العام في أهل اليمان‪ :‬فهو أنهم‬
‫يحبون الموت لما فيه من لقاء الله‪ ،‬والمصير إلى الدار‬
‫الباقية‪ ،‬والخروج من الدنيا محل الفتن والمحن ‪.‬‬
‫ويكرهون الموت بالنفس بالطبع‪ ،‬لما فيه من اللم وفراق‬
‫المحبوبات‪ ،‬وكلما كان اليمان أقوى كانت الكراهية أق ّ‬
‫ل‬
‫طن لذلك‪ ،‬والله‬ ‫ومقتضى الطبع أضعف‪ ،‬وبالعكس فتف ّ‬
‫يتولى هداك ‪.‬‬
‫***‬
‫وأما طول العمر في طاعة الله فهو محبوب ومطلوب‪،‬‬
‫عمره‬ ‫لقوله عليه الصلة والسلم ‪)):‬خيُركم من َ‬
‫طال ُ‬
‫مُله((‪.‬‬
‫ن عَ َ‬
‫س َ‬
‫ح ُ‬
‫و َ‬

‫‪69‬‬
‫) ‪(1/69‬‬

‫وكلما كان العمر أطول في طاعة الله كانت الحسنات‬


‫أكثر والدرجات أرفع ‪ .‬وأما طوله في غير طاعة الله فبلء‬
‫وشّر ‪ :‬تكثر السيئات وتتضاعف الخطيئات ‪.‬‬
‫ب طول البقاء في الدنيا‬ ‫ومن زعم من الناس أنه يح ّ‬
‫ليستكثر من العمال الصالحة المقّربة إلى الله تعالى ‪،‬‬
‫مرا ً فيها ‪ ،‬ومجانبا ً لما‬
‫فإن كان مع ذلك حريصا ً عليها ‪،‬ومش ّ‬
‫يشغل عنها من أمور الدنيا‪ ،‬فهو بالصادقين أشبه ‪ .‬وإن‬
‫وفا ً فيها ‪ -‬أعني العمال الصالحة ‪-‬‬ ‫كان متكاسل ً عنها ومس ّ‬
‫ب‬‫فهو من الكاذبين المتعّللين بما ل يغني عنه‪ ،‬لن من أح ّ‬
‫أن يبقى لجل شيء وجد في غاية الحرص على ذلك‬
‫الشيء؛ مخافة أن يفوته‪ ،‬وُيحال بينه وبينه‪.‬‬
‫سيما والعمل الصالح ل يمكن إل في الدنيا‪ ،‬ول يتصور‬
‫وجوده في غيرها البتة‪ ،‬لن الخرة دار جزاء وليس بدار‬
‫كر في ذلك جدا ً عسى الله أن ينفعك به‪،‬‬ ‫عمل‪ ،‬فتف ّ‬
‫مر ‪ ،‬وبادر بالعمال‬ ‫واستعن بالله واصبر‪ ،‬واجتهد وش ّ‬
‫ل‪ ،‬واغتنم فسحة المهل‬ ‫الصالحة من قبل أل تجد إليها سبي ً‬
‫من قبل أن يفجأك الجل‪ ،‬فإنك غرض للفات‪ ،‬وهدف‬
‫منصوب لسهام المنيات‪ ،‬وإنما رأس مالك الذي يمكنك أن‬
‫تشتري به من الله سعادة البد ‪ .‬هذا العمر ‪ .‬فإياك أن‬
‫تنفق أو قاته وأيامه وساعاته وأنفاسه فيها ل خير فيه ول‬
‫منفعة‪ ،‬فيطول تحسرك‪ ،‬ويعظم أسفك بعد الموت إذا‬
‫عرفت قدر الفائت وتحققته ‪.‬‬
‫وقد ورد أنه تعرض على النسان في الدار الخرة ساعات‬
‫‪70‬‬
‫) ‪(1/70‬‬

‫أيامه ولياليه في هيئة الخزائن كل يوم وليلة أربع‬


‫وعشرون خزانه بعدد ساعاتهما‪ ،‬فيرى الساعة التي عمل‬
‫فيها بطاعة الله خزانة مملوءة نورًا‪ ،‬والتي عمل فيها‬
‫بمعصية الله مملوءة ظلمة‪ ،‬والتي لم يعمل فيها بطاعة‬
‫ول معصية يجدها فارغة ل شيء فيها ‪.‬‬
‫فيعظم تحسره إذا نظر إلى الفارغة أن ل يكون عمل فيها‬
‫بطاعة الله فيجدها مماوءة نورًا‪.‬‬
‫ت‬
‫ضي عليه أن يمو َ‬ ‫و أما التي يجدها مملؤة ظلمة؛ فلو قُ ِ‬
‫عند النظر إليها من السف والحسرة لمات‪ ،‬غير أنه ل‬
‫موت في الخرة ‪.‬‬
‫فالعامل بطاعة الله يكون فيها فرحا ً مغتبطا ً على الدوام‪،‬‬
‫يزيد فرحه و اغتباطه على ممّر اليام ‪ .‬والعامل بمعصية‬
‫الله ترح مغموم ‪ ،‬ل يزال يزداد ترحه وغمه إلى غير‬
‫ت في دار‬ ‫م َ‬‫نهاية ‪ .‬فاختر لنفسك ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬ما د ُ ْ‬
‫ت خرج المر عن‬ ‫م ّ‬ ‫الختيار ما ينفعها ويرفعها‪ ،‬فإنك لو قد ُ‬
‫اختيارك‪.‬‬
‫***‬
‫وف ‪ ،‬فإن التسويف شّر ‪ ،‬والنسان معّرض‬ ‫س ّ‬
‫وبادْر ول ت ُ َ‬
‫لفات وشواغل كثيرة ‪ ،‬قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫)) اغتنم خمسا ً قبل خمس‪ :‬شبابك قبل هرمك‪ ،‬وصحتك‬
‫قبل سقمك‪ ،‬وفراغك قبل شغلك‪ ،‬وغناك قبل فقرك‪،‬‬
‫وحياتك قبل موتك ((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬بادروا بالعمال الصالحة‬
‫صلوا الذي بينكم وبين رّبكم بكثرة‬ ‫قبل أن تشغلوا‪ ،‬و ِ‬
‫ذكركم له((‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫) ‪(1/71‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬نعمتان مغبون فيهما كثير‬


‫من الناس ‪ :‬الصحة‪ ،‬والفراغ ((‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬فالمغبون فيهما من أوتيهما فعاش صحيحا ً فارغًا‪،‬‬
‫ينفق صحته وفراغه في الغفلت والبطالت‪ ،‬أو في معاناة‬
‫الشغال الدنيويات الملهيات عن ذكر الله وعن العمال‬
‫الصالحات ‪ ،‬وإنما يستبين له أنه مغبون بعد الموت حين‬
‫يعاين ما فاته من الدرجات العلى التي لو أنفق في طلبها‬
‫صحته وفراغه لنالها ‪.‬‬
‫قال علي كرم الله وجهه ‪ :‬الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ‪.‬‬
‫م‬
‫ك ي َوْ ُ‬‫مِع ذ َل ِ َ‬ ‫م ل ِي َوْم ِ ال ْ َ‬
‫ج ْ‬ ‫معُك ُ ْ‬
‫ج َ‬
‫م يَ ْ‬‫وقال الله تعالى‪) :‬ي َوْ َ‬
‫ن(]التغابن‪.[9:‬‬ ‫الت َّغاب ُ ِ‬
‫سر أه ُ‬
‫ل‬ ‫وقال النبي عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ليس يتح ّ‬
‫الجنة إل على ساعة مّرت بهم لم يذكروا الله فيها ((‬
‫وذلك إذا رأوا قدر الفائت بسبب الغفلة في تلك الساعة‬
‫من القرب والنعيم ‪.‬‬
‫وأما من أنفق صحته وفراغه في معاصي الله‪،‬‬
‫ومساخطه؛ فهو خاسر ممقوت وليس بمعبون‪ ،‬وإنما‬
‫المغبون من ينفقها في البطالت والمباحات ‪.‬‬
‫وقد يكون معنى الغبن في الصحة والفراغ ‪ :‬أن ل‬
‫يعطاهما النسان فيبتلى بالمراض أو الضعف وكثرة‬
‫الشتغال‪ ،‬فل يتمكن بسبب ذلك من العمال الصالحات‬
‫حاء الفارغون ‪ ،‬فافهم ههنا‬ ‫كن منها الص ّ‬ ‫التي يتم ّ‬
‫‪72‬‬
‫) ‪(1/72‬‬

‫قوله تعالى ‪:‬‬


‫َ‬ ‫ن عََلى ال َْقا ِ‬
‫ما(‬
‫ظي ً‬
‫جًرا عَ ِ‬
‫نأ ْ‬‫دي َ‬
‫ع ِ‬ ‫دي َ‬
‫جاهِ ِ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫)وَفَ ّ‬
‫ض َ‬
‫]النساء‪.[95:‬‬
‫ب‬
‫وقوله عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬المؤمن القوي خير وأح ّ‬
‫ل خير‪،‬‬ ‫إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي ك ّ‬
‫فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ول تعجز ‪ ،‬فإن‬
‫در الله وما شاء فعل‪ .‬وإّياك و ))لو((؛‬ ‫غلبك أمر فقل ق ّ‬
‫فإن ))لو(( تفتح عمل الشيطان((‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬لن ))لو(( ل يقولها في الكثر إل عاجز كسلن‪،‬‬
‫كن منها من عجزه وكسله‪،‬‬ ‫وت المور الحسنة عند التم ّ‬ ‫يف ّ‬
‫أو معتمد على حوله وقوته ‪ ،‬وسعيه وحيلته ‪ ،‬يحسب أنه‬
‫ما قضى الله عليه ‪ ،‬و قد قال‬ ‫ينجو باحترازه وحرصه ع ّ‬
‫در((‪ .‬فتأمل‬ ‫حذ ٌَر من قَ َ‬ ‫عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل يغني َ‬
‫ذلك وأمعن النظر فيه‪ ،‬فإن معنى جليل‪ ،‬تحته علم كثير‪.‬‬
‫وإلى الله عاقبة المور ‪.‬‬
‫***‬
‫وأما أماني المغفرة ودخول الجنة من غير سعي لذلك‬
‫بفعل المأمورات‪ ،‬و المسارعة الخيرات‪ ،‬مع ترك‬
‫المحظورات‪ ،‬ومجانية السيئات‪ ،‬فهو حمق وغرور ‪،‬‬
‫وموالة للشيطان ‪ -‬لعنه الله ‪ -‬بقبول تزويره وتلبيسه‪،‬‬
‫من‬ ‫وترويجه للشّر في معرض الخير‪ ،‬قال الله تعالى ‪ ) :‬وَ َ‬
‫مِبيًنا‬
‫سَراًنا ّ‬
‫خ ْ‬‫سَر ُ‬ ‫ن الل ّهِ فََقد ْ َ‬
‫خ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ن وَل ِّيا ّ‬‫طا َ‬‫شي ْ َ‬ ‫خذِ ال ّ‬ ‫ي َت ّ ِ‬
‫ن إ ِل ّ غُُروًرا(]النساء‪:‬‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ما ي َعِد ُهُ ُ‬
‫م وَ َ‬ ‫مّنيهِ ْ‬
‫م وَي ُ َ‬‫* ي َعِد ُهُ ْ‬
‫‪.[120- 119‬‬

‫‪73‬‬
‫) ‪(1/73‬‬

‫م ل يتوب إلى الله توبة صحيحة‪ ،‬وأنه‬ ‫ن أنه يذنب ث ّ‬ ‫فمن ظ ّ‬


‫تعالى يغفر به‪ ،‬وكذلك يتكاسل عن الطاعات ويتشاغل‬
‫عنها بأمور الدنيا‪ ،‬ويتوهم مع ذلك أن الله تعالى يكرمه‬
‫ويرفعه في درجات الجنة مع المحسنين فهو المتمني‬
‫المغرور‪ ،‬العاجز الحمق‪ ،‬وذلك لن الله تعالى يقول‬
‫ت وما ِفي اْل َ‬
‫ض‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ماَوا ِ َ َ‬
‫س َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬ ‫وقوله الحق ‪) :‬وَل ِل ّهِ َ‬
‫ؤوا بما عَمُلوا ويجزي ال ّذي َ‬ ‫ل ِيجزي ال ّذي َ‬
‫سُنوا‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬‫ََ ْ ِ َ ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫سا ُ ِ َ‬ ‫نأ َ‬‫َ ْ ِ َ ِ َ‬
‫سَنى(]النجم‪.[31 :‬‬ ‫ِبال ْ ُ‬
‫ح ْ‬
‫ن‬
‫جت َن ُِبو َ‬‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ثم وصف الله الذين أحسنوا بقوله تعالى ‪) :‬ال ّ ِ‬
‫مغِْفَرةِ (‬ ‫سع ُ ا ل ْ َ‬ ‫ك َوا ِ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ش إ ِّل الل ّ َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬‫ك ََبائ َِر ال ِث ْم ِ َوال َْف َ‬
‫]النجم‪.[53:‬‬
‫والّلمم ‪ :‬هو الصغائر من الذنوب التي ل يكاد العبد يخلو‬
‫منها ‪.‬‬
‫َ‬
‫ت‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫جع َ ُ‬
‫م نَ ْ‬ ‫وقال تعالى ‪) :‬أ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جاِر(] ص‪:‬‬ ‫كال ُْف ّ‬
‫ن َ‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫جع َ ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫ضأ ْ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫مْف ِ‬ ‫كال ْ ُ‬
‫َ‬
‫‪ .[28‬أي ل نجعلهم سواء عندنا ل في الدنيا ول في‬
‫ً‬
‫حوا‬ ‫جت ََر ُ‬ ‫نا ْ‬‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫الخرة‪ ،‬كما قال تعالى ‪) :‬أ ْ‬
‫ّ‬
‫واء‬
‫س َ‬‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫م َ‬ ‫جعَل َهُ ْ‬ ‫ت أن ن ّ ْ‬ ‫سي َّئا ِ‬‫ال ّ‬
‫ن(]الجاثية‪.[21:‬‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ساء َ‬ ‫م َ‬ ‫مات ُهُ ْ‬‫م َ‬‫هم وَ َ‬ ‫حَيا ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫م حكمهم بذلك‪ ،‬أعني‪:‬‬ ‫همهم ‪ ،‬وذ ّ‬ ‫فأبطل حسبانهم وتو ّ‬
‫ظّنهم التسوية بينهم و بين أهل الحسان عند رّبهم ‪.‬‬
‫***‬
‫‪74‬‬
‫) ‪(1/74‬‬

‫وقد وصف الله ملئكته وأنبياءه عليهم السلم‪ ،‬وعباده‬


‫المؤمنين في كتابه بالعمال الصالحة‪ ،‬وبالملزمة لها‪،‬‬
‫والمسارعة فيها مع الخوف والخشية والشفاق والوجل‪،‬‬
‫ه‬
‫سب ُِقون َ ُ‬ ‫ن * ل يَ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫مك َْر ُ‬ ‫عَباد ٌ ّ‬ ‫ل ِ‬ ‫فقال تعالى في الملئكة ‪) :‬ب َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫م وَ َ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ن أي ْ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن * ي َعْل َ ُ‬ ‫مُلو َ‬ ‫مرِهِ ي َعْ َ‬ ‫هم ب ِأ ْ‬ ‫ل وَ ُ‬ ‫ِبال َْقوْ ِ‬
‫ه‬
‫شي َت ِ ِ‬‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫ضى وَ ُ‬ ‫ن اْرت َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن إ ِّل ل ِ َ‬ ‫شَفُعو َ‬ ‫م َول ي َ ْ‬ ‫خل َْفهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن (]النبياء‪.[28- 26:‬‬ ‫فُقو َ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ن إ ِلى‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن ي َب ْت َُغو َ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى في النبياء‪) :‬أولئ ِك ال ِ‬
‫ة أ َيه َ‬
‫ه‬
‫ذاب َ ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫ه وَي َ َ‬ ‫مت َ ُ‬
‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫جو َ‬ ‫ب وَي َْر ُ‬ ‫م أقَْر ُ‬ ‫سيل َ َ ّ ُ ْ‬ ‫م ال ْوَ ِ‬ ‫َرب ّهِ ُ‬
‫ذوًرا(]السراء‪ .[57:‬وقال أيضا ً‬ ‫ح ُ‬ ‫م ْ‬‫ن َ‬ ‫كا َ‬‫ك َ‬ ‫ب َرب ّ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫عون ََنا َرغًَبا‬ ‫ت وَي َد ْ ُ‬ ‫خي َْرا ِ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫كاُنوا ي ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫فيهم ‪) :‬إ ِن ّهُ ْ‬
‫ن(]النبياء‪.[90:‬‬ ‫شِعي َ‬ ‫خا ِ‬ ‫كاُنوا ل ََنا َ‬ ‫وََرهًَبا وَ َ‬
‫ن‬
‫هاُرو َ‬ ‫سى وَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫وقال تعالى في المؤمنين ‪) :‬وَل ََقد ْ آت َي َْنا ُ‬
‫ن َرب ُّهم‬ ‫شو ْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * ال ّ ِ‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫ضَياء وَذِك ًْرا ل ّل ْ ُ‬ ‫ن وَ ِ‬ ‫ال ُْفْرَقا َ‬
‫ن(]النبياء‪.[49-48 :‬‬ ‫فُقو َ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ساعَةِ ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫هم ّ‬ ‫ب وَ ُ‬ ‫ِبال ْغَي ْ ِ‬
‫خ ْ‬
‫شي َةِ َرب ِّهم‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫وقال أيضا ً فيهم ‪) :‬إ ِ ّ‬
‫هم‬ ‫ن ُ‬‫ذي َ‬ ‫ن * َوال ّ ِ‬‫مُنو َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬‫ت َرب ّهِ ْ‬ ‫هم ِبآَيا ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * َوال ّ ِ‬ ‫فُقو َ‬‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫ةَ‬
‫جل ٌ‬‫م وَ ِ‬ ‫ُ‬
‫ما آَتوا وّقُلوب ُهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ي ُؤُْتو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن * َوال ِ‬ ‫شرِكو َ‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ل يُ ْ‬ ‫ب َِرب ّهِ ْ‬
‫ن ِفي ال ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ن * أوْل َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫خي َْرا ِ‬ ‫عو َ‬‫سارِ ُ‬ ‫ك يُ َ‬ ‫جُعو َ‬ ‫م َرا ِ‬ ‫م إ َِلى َرب ّهِ ْ‬‫أن ّهُ ْ‬
‫ن(]المؤمنون‪.[61-57:‬‬ ‫ساب ُِقو َ‬ ‫م ل ََها َ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫ما سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله ‪-‬صّلى الله‬ ‫ول َ ّ‬
‫عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫‪75‬‬
‫) ‪(1/75‬‬

‫ة(‬ ‫جل َ ٌ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫ما آَتوا وّقُُلوب ُهُ ْ‬ ‫ن ي ُؤُْتو َ‬


‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫عن قوله تعالى ‪َ) :‬وال ّ ِ‬
‫]المؤمنون‪.[60:‬‬
‫أهو أن الرجل يزني ويسرق ثم يخاف ‪ .‬قال ‪ )) :‬ل‪ ،‬بل هو‬
‫الرجل يصلي ويصوم‪ ،‬ويتصدق‪ ،‬ويخاف أن ل يقبل‬
‫منه ‪ ((..‬الحديث‪.‬‬
‫ولما وصف الله بعض أعدائه وصفهم بالغرور والتمّني‬
‫َ‬
‫خي ًْرا‬ ‫ن َ‬ ‫جد َ ّ‬‫ت إ َِلى َرّبي ل ِ‬ ‫فقال عن واحد منهم ‪) :‬وَل َِئن ّرِدد ّ‬
‫منَقل ًَبا(]الكهف‪ .[36:‬يعني من جنته التي أعجب بها‬ ‫من َْها ُ‬ ‫ّ‬
‫ونسي نعمة الله عليه فيها‪ ،‬وتكّبر بها وافتخر على من هو‬
‫خير منه من عباد الله !‬
‫فانظر ذلك في جملة قصته التي حكاها الله عنه‪ ،‬وعن‬
‫ن‬ ‫مث َل ً ّر ُ َ‬ ‫ب ل َُهم ّ‬
‫جلي ْ ِ‬ ‫ضرِ ْ‬‫العبد الصالح في قوله تعالى ‪َ) :‬وا ْ‬
‫جعل ْنا ل َحدهما جنتين م َ‬
‫جعَل َْنا‬ ‫ل وَ َ‬ ‫خ ٍ‬ ‫ما ب ِن َ ْ‬‫حَفْفَناهُ َ‬ ‫ب وَ َ‬‫ن أعَْنا ٍ‬‫َ ِ ِ َ َ َّْ ِ ِ ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫عا(]الكهف ‪.[32‬‬ ‫ما َزْر ً‬ ‫ب َي ْن َهُ َ‬
‫مال ً‬ ‫ُ‬
‫ن َ‬ ‫وقال تعالى عن آخر من العداء المغرورين‪) :‬لوت َي َ ّ‬
‫عده‬ ‫ذبه الله وتو ّ‬ ‫دا( ]مريم‪ .[77:‬يعني في الخرة‪ ،‬فك ّ‬ ‫وَوَل َ ً‬
‫بالعذاب وإنزاله به ‪.‬‬
‫ن ِلي‬ ‫ت إ َِلى َرّبي إ ِ ّ‬ ‫وقال تعالى عن آخر منهم ‪) :‬وَل َِئن ّر ِ‬
‫جع ْ ُ‬
‫سَنى (]فصلت‪.[50:‬‬ ‫ح ْ‬‫عند َهُ ل َل ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫ف الله أحبابه‬ ‫ص َ‬ ‫فانظر الن ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬بأيّ شيء وَ َ‬
‫وأولياءه وبغضاءه وأعداءه ‪ ،‬فبأيّ الفريقين اقتديت‬
‫ه ‪ ،‬فإن من تشّبه بقوم فهو منهم ‪ ،‬كما‬ ‫مع َ ُ‬‫ت َ‬
‫وتشّبهت كن َ‬
‫ورد ‪.‬‬
‫وقد تبين لك عن ملئكة الله وأنبيائه وعباده الصالحين ‪:‬‬

‫‪76‬‬
‫) ‪(1/76‬‬

‫أنهم كانوا يسارعون في الخيرات وأنهم ملزمون لصالح‬


‫العمل‪ ،‬ومجانبون للسيئات والّزلل‪ ،‬مع الخوف من الله‬
‫والوجل‪ ،‬وأن العداء كانوا على الضد ّ من ذلك ‪ :‬على‬
‫العصيان وترك الحسان‪ ،‬مع الغرور‪ ،‬والمن من مكر الله‪،‬‬
‫والتمّني على الله‪ ،‬فاختر لنفسك صحبة خير الفريقين‪،‬‬
‫وتشّبه بهم في العمال والوصاف‪ ،‬تكن معهم إن شاء‬
‫الله تعالى ‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن أماني المغفرة مع الكسل والبطالة من أضّر‬
‫شيء على النسان‪ ،‬وقد فشت على ألسنة المخّلطين من‬
‫ولنا الكلم فيها رجاء أن ينفع‬ ‫أهل هذا الزمان‪ ،‬ولذلك ط ّ‬
‫الله به من وقف عليه منهم‪ ،‬فيتنّبه من غفلته‪ ،‬و يستيقظ‬
‫من رقدته عندما يعلم أن أهل النبوة وأهل الصلح كانوا‬
‫في نهاية الخوف من الله‪ ،‬حتى كان نبينا محمد ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪ -‬يقول‪ )) :‬لو آخذني الله أنا وابن مريم‬
‫بما جنت هاتان ‪ -‬يعني السبابة والبهام ‪ -‬لع ّ‬
‫ذبنا ثم لم‬
‫يظلمنا شيئا ً ((‪.‬‬
‫ك أن النبياء والولياء أعرف بالله وبكرمه العظيم‬ ‫ول ش ّ‬
‫ورحمته الواسعة من غيرهم‪ ،‬فلم يبقَ إل أن يكون أهل‬
‫ل وجهٍ ‪ ،‬وعلى ك ّ‬
‫ل‬ ‫التخليط والتفريط أولى بالخوف من ك ّ‬
‫ل‪.‬‬‫حا ٍ‬
‫***‬
‫‪77‬‬
‫) ‪(1/77‬‬
‫واعلم أن المتمني المغرور مقطوع الحجة بأيسر مئونة‪،‬‬
‫فإذا قال ‪ :‬إن الله تعالى ل تضّره الذنوب‪ ،‬ول تنفعه‬
‫الطاعة‪ ،‬وهو غني عّني وعن عملي‪ ،‬فقل له‪ :‬صدقت‪،‬‬
‫ولكن الذنوب تضّرك والطاعات تنفعك‪ ،‬وأنت فقير إلى‬
‫العمل الصالح ‪.‬‬
‫ثم قل له‪ :‬اقعد عن الكسب والحركة والسعي للمعاش‪،‬‬
‫فإن الله تعالى قد ضمن لك الرزق‪ ،‬وخزائن السماوات‬
‫والرض في قبضته‪ ،‬فسوف يقول لك‪ :‬صدقت‪ ،‬ولكن ل‬
‫ب ُد ّ من السعي والحركة‪ ،‬وقّلما رأينا شيئا ً يحصل بدون‬
‫ذلك ‪ .‬فقل له ‪ :‬إن الدنيا التي أمرك الله بتركها‪ ،‬ونهاك‬
‫عن الرغبة فيها‪ ،‬وضمن لك قدر الكفاية منها ل تحصل إل‬
‫غبك الله فيها‪ ،‬وأمرك‬ ‫بالسعي والطلب ‪ .‬والخرة التي ر ّ‬
‫بطلبها‪ ،‬وأخبرك في كتابه وعلى لسان نبيه بأنك ل تنجو‬
‫فيها من عذابه‪ ،‬وتفوز بثوابه حتى تسعى لها وتجتهد في‬
‫ث بها‪ ،‬فما أنت إل شا ّ‬
‫ك‬ ‫طلبها نراك مضّيعا ً لها‪ ،‬وغير متكر ٍ‬
‫مرتاب‪ ،‬أو أحمق مغرور‪ ،‬قد عكست المر‪ ،‬ووضعت‬
‫الشياء في غير مواضعها‪ .‬فبأي حجة ‪ ،‬وبأي وجه تلقى‬
‫الله ‪ ،‬وتلقى رسوله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬الذي‬
‫أرسله إليك يدعوك من الدنيا إلى الخرة!؟ فعند ذلك‬
‫تنقطع حجته‪ ،‬ول يدري ما يقول‪.‬‬

‫***‬
‫‪78‬‬
‫) ‪(1/78‬‬

‫واعلم ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬يقينا ً أنه كّلما كان اليمان أقوى‬


‫والعمل أصلح‪،‬كان الخوف أكثر‪ .‬وكّلما كان اليمان أضعف‬
‫ب‪،‬‬‫ن والغتراُر أغل َ‬ ‫والعمل أسوأ‪ ،‬كان الخوف أق ّ‬
‫ل‪ ،‬والم ُ‬
‫فاعتبر ذلك في نفسك وفي غيرك تجده بينًا‪.‬‬
‫وعلى الجملة‪ ،‬فأن المؤمن الصادق هو الذي يعمل‬
‫بالصالحات‪ ،‬ويخلص فيها ‪ ،‬ويرجو القبول والثواب عليها‬
‫من فضل الله‪ ،‬ويجانب السيئات‪ ،‬ويبعد عنها‪ ،‬ويخاف أن‬
‫يبتلى بها‪ ،‬ويخشى العقاب على ما عمله منها‪ ،‬ويرجو‬
‫المغفرة من الله بعد التوبة والنابة إلى الله‪ ،‬فمن كان‬
‫من المؤمنين على غير هذه الوصاف فهو من المخّلطين‪،‬‬
‫وأمره في غاية الخطر ‪.‬‬
‫ج وت َُفْز إن شاء‬
‫فافهم هذه الجملة‪ ،‬وطالب نفسك بها تن ُ‬
‫الله تعالى ‪.‬‬
‫واعلم أن عنوان السعادة أن يوّفق الله العبد للعمل‬
‫الصالح في حياته‪ ،‬و ييسره له‪ ،‬وعنوان الشقاوة أن ل‬
‫سر للعمل الصالح‪ ،‬ويبتلى بالعمل السوء‪ ،‬قال رسول‬ ‫ي ُي َ ّ‬
‫سر‬
‫مي ّ‬ ‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) :-‬واعملوا فك ّ‬
‫ل ُ‬
‫سَر لعمل أهل الجنة‪ ،‬ومن‬ ‫خل ِقَ له‪ ،‬من خلق للجنة ي ُ ّ‬ ‫ما ُ‬
‫سَر لعمل أهل النار(( ‪.‬‬‫خل ِقَ للنار ي ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ما قبض الله القبضتين قال لقبضة السعداء ‪ :‬هؤلء‬ ‫و لَ ّ‬
‫للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ‪ .‬وقال لقبضة الشقياء‪:‬‬
‫وهؤلء للنار وبعمل أهل النار يعملون‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫) ‪(1/79‬‬

‫ثم اعلم أن المؤمن البصير بالدين‪ ،‬الراسخ في العلم‬


‫ل لله‪ ،‬ويجتهد في ذلك‬ ‫ن العم َ‬
‫س ُ‬
‫واليقين‪ :‬هو الذي ُيح ِ‬
‫بك ُل ّي ِّته‪ .‬ثم يعتمد على الله و على فضله‪ ،‬ول يعتمد على‬
‫عمله وإحسانه‪ .‬وعلى هذا الوصف مضى النبياء والعلماء‬
‫وصالحو السلف والخلف عليهم السلم والرحمة‬
‫والرضوان‪.‬‬
‫وإلى ذلك أشار ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬بقوله‪)) :‬لن‬
‫يدخل أحد الجنة بعمله(( ‪ .‬قالوا ‪ :‬ول أنت يارسول الله ؟‬
‫قال ‪ )) :‬ول أنا إل أن يتغمدني الله برحمته ((‪.‬‬
‫ثم كان ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬يجتهد في العمال‬
‫الصالحة إلى الغاية والنهاية‪ ،‬حتى توّرمت قدماه من طول‬
‫القيام بالليل ‪.‬‬
‫وأما الذي يجتهد في العمال الصالحة ويعتمد عليها فهو‬
‫ن له‬ ‫ب بنفسه‪ ،‬جريء على رّبه‪ ،‬وُرّبما ُيبَتلى ليستبي َ‬ ‫ج ٌ‬ ‫مع ْ َ‬ ‫ُ‬
‫م صلحيته لشيء من الصالحات لول فضل الله‬ ‫عجُزه وعد ُ‬
‫ه‬
‫مت ُ ُ‬
‫ح َ‬‫م وََر ْ‬ ‫ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ض ُ‬‫ول فَ ْ‬ ‫ورحمته‪ ،‬كما قال تعالى‪) :‬وَل َ ْ‬
‫َ‬ ‫كم م َ‬
‫شاء َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫من ي َ َ‬ ‫كي َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي َُز ّ‬ ‫دا وَل َك ِ ّ‬
‫حدٍ أب َ ً‬
‫نأ َ‬‫من ُ ّ ْ‬ ‫كا ِ‬‫ما َز َ‬ ‫َ‬
‫م(]النور‪.[21:‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬‫َ‬
‫وكما بلغنا ‪ :‬أن عابدا ً عبد الله خمسمائة سنة‪ ،‬فإذا كان‬
‫يوم القيامة يقول الله له ‪ :‬يا عبدي ادخل الجنة برحمتي ‪.‬‬
‫ب على‬ ‫س ُ‬ ‫حا َ‬ ‫ب ‪ ،‬بل بعملي ! فيأمر الله به في ُ َ‬ ‫فيقول ‪ :‬يا ر ّ‬
‫م الله‬ ‫نعمة البصر فتستغرق جميع عبادته‪ ،‬وتبقى عنده ن ِعَ ٌ‬
‫ب ! أدخلني الجنة‬ ‫كثيرة‪ ،‬فيإمر به إلى النار؛ فيقول‪ :‬يا ر ّ‬
‫ل وعل ‪.‬‬ ‫برحمتك‪ ،‬فيإمر به إليها ويثني عليه ويمدحه ج ّ‬

‫‪80‬‬
‫) ‪(1/80‬‬

‫فقد ظهر أنه ل ب ُد ّ من أمرين‪:‬‬


‫أحدهما‪ :‬إصلح العمل ‪ .‬والثاني‪ :‬العتماد على الله دونه‪.‬‬
‫وما أحسن ما قاله الشيخ محي الدين عبد القادر الجيلني‬
‫ص ُ‬
‫ل ‪ ،‬ول ب ُد ّ‬ ‫رضي الله عنه‪ ،‬حيث يقول في ذلك‪ :‬ب ِ َ‬
‫ك ل نَ ِ‬
‫منك‪ .‬يعني أننا ل نصل بالعمل دون فضل الله‪ ،‬ول ب ُد ّ من‬
‫العمل امتثال ً لمر الله ‪.‬‬
‫ن‬
‫وقال الشيخ أبو سعيد الخراز رحمه الله تعالى ‪ :‬من ظ ّ‬
‫ن أنه بدون العمل‬ ‫ن‪ ،‬ومن ظ ّ‬ ‫مت َعَ ّ‬
‫ل فهو ُ‬ ‫أنه بالعمل يص ُ‬
‫ن ‪ -‬يعني أن يصل إلى الله‪ ،‬والمتمني ‪ :‬هو‬ ‫م ّ‬
‫مت َ َ‬
‫يصل فهو ُ‬
‫ل على فضل الله‪ ،‬وذلك‬ ‫مت ّك ِ ٌ‬‫الذي ل يعمل ويزعم أنه ُ‬
‫ح منه الّتكال على الله وعلى فضله‬ ‫غرور وحماقة ل يص ّ‬
‫إل مع العمل الصالح كما تقدم ‪.‬‬
‫قال الحسن لبصري ‪ -‬رحمه الله ‪ : -‬إن أماني المغفرة قد‬
‫لعبت بإقوام حتى خرجوا من الدنيا مفاليس ‪ .‬أي ‪ :‬من‬
‫العمال الصالحة ‪.‬‬
‫وقال أيضا ً ‪ :‬إن المؤمن جمع إحسانا ً وخوفًا‪ ،‬وإن المنافق‬
‫جمع إساءة وأمنا ً ‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وذلك عجيب جدا ً ‪ ،‬لن الخوف بصاحب الساءة‬
‫أليق ؛‬
‫‪------------------------‬‬
‫ن ‪ :‬أي متكّلف ما يشق عليه ‪.‬‬ ‫)‪ (1‬متع ّ‬

‫‪81‬‬
‫) ‪(1/81‬‬

‫لتعرضه بإساءته لسطوات الله ‪ ،‬وإنما أمن مع الساءة‬


‫من ي َهْدِ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫لنتكاس قلبه‪ ،‬وعمى عين بصيرته‪ ،‬ولكن ) َ‬
‫دا(]الكهف‪:‬‬ ‫ش ً‬ ‫مْر ِ‬ ‫جد َ ل َ ُ‬
‫ه وَل ِّيا ّ‬ ‫ل فََلن ت َ ِ‬‫ضل ِ ْ‬‫من ي ُ ْ‬ ‫دي وَ َ‬ ‫فَهُوَ ال ْ ُ‬
‫مهْت َ ِ‬
‫‪.[17‬‬
‫ن لنا يا رّبنا وليا ً مرشدا ً إلى ما تحّبه مّنا‪ ،‬و‬ ‫م اهدنا‪ ،‬وك ُ ْ‬ ‫الّله ّ‬
‫ن‪،‬‬‫مسِلمي َ‬ ‫وضنا إليك أمرنا‪ ،‬وتوّفنا ُ‬ ‫ترضى به عّنا‪ ،‬فقد ف ّ‬
‫وألحقنا بالصالحين ‪.‬‬
‫***‬
‫وأما الحتجاج بالقدر الذي يجريه الشيطان اللعين على‬
‫ألسنة كثير من عامة المسلمين ففيه خطر كبير‪ .‬وهو أن‬
‫أحدهم إذا قيل له ‪ -‬وقد ترك بعض الواجبات أو فعل بعض‬
‫ت ذلك‪ ،‬وخالفت أمر الله وأمر‬ ‫م فعل َ‬ ‫المحرمات‪ : -‬ل ِ َ‬
‫ي‪،‬‬‫ي ‪ ،‬ومكتوب ومقض ّ‬ ‫در عل ّ‬ ‫رسوله ؟ ؛ فيقول ‪ :‬ذلك مق ّ‬
‫ج على الله‬ ‫ي َعْذ ُُر بذلك نفسه‪ ،‬ويرفع الحرج عنها‪ ،‬ويحت ّ‬
‫تعالى الذي له الحجة البالغة على جميع خلقه في كل حال‬
‫ل وه م ي َ‬ ‫سأ َ ُ‬
‫ن(]النبياء‪.[23:‬‬ ‫سأُلو َ‬ ‫ما ي َْفعَ ُ َ ُ ْ ُ ْ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫)ل ي ُ ْ‬
‫وأقول‪ :‬إن قول العاصي هذا أعظم من معصيته‪ ،‬وأكثر‬
‫ضررا ً عليه في دنياه وآخرته‪ ،‬لن معنى هذه المقالة يد ّ‬
‫ل‬
‫من صاحبها أنه قالها عن اعتقاد باطن على تزلزل قواعد‬
‫دينه من أصلها‪ ،‬فمتى يتوب هذا العاصي‪ ،‬ومتى يندم على‬
‫فعله القبيح‪ ،‬ومتى يستغفر منه! وهو ل يرى له فعل ً ويرى‬
‫أنه‬

‫‪82‬‬
‫) ‪(1/82‬‬

‫مجبورمقهور‪ ،‬ليس له اختيار ول قدرة‪ .‬وهذا هو بعينه‬


‫مذهب الجبرية‪ :‬وهم فرقة من المبتدعين في الدين‪،‬‬
‫يقولون بعدم الختيار على ضد ّ ما تقوله المعتزلة‪ :‬وهم‬
‫فرقة أخرى من أهل البدعة‪ .‬ومعتقد أهل الحق و السنة و‬
‫الجماعة‪ :‬وسط بين هاتين الفرقتين ‪ .‬وهو كما قال بعض‬
‫ث ودم لبنا ً خالصا ً سائغا ً‬ ‫العلماء‪ :‬خارج من بين فر ٍ‬
‫ٍ‬
‫للشاربين ‪.‬‬
‫ومعتقد أهل السنة جعلنا الله منهم بفضله‪ :‬أنه ل يكون‬
‫كائن صغيرة ل كبير إل بقضاء الله تعالى ومشيئته‪ ،‬وإرادته‬
‫ن العباد وأفعالهم خيرها وشّرها خلق الله‬ ‫وقدرته‪ .‬وأ ّ‬
‫تعالى ‪ ،‬ثم بعد ذلك يطالبون أنفسهم بامتثال أوامر الله‬
‫خصون لها في ترك شيء منها‬ ‫ل المطالبة‪ ،‬ول ُير ّ‬ ‫ك ّ‬
‫ويحملونها على ترك المنهيات وعلى اجتنابها رأسا ً ‪.‬‬
‫وإن وقعوا في شيء منها بادروا إلى الله تعالى بالتوبة‬
‫والستغفار‪ .‬وإن فرطوا في شيء من الوامر بادروا‬
‫بقضائه وتابوا إلى الله تعالى من تركه‪ .‬ول يحتجون‬
‫لنفسهم على الله أبدًا‪ ،‬ول يعذرونها بسبق القدر‪ ،‬ول‬
‫يرخصون في ذلك لحد‪ ،‬فإن الله تعالى وصف بعض‬
‫أعدائه في كتابه بالحتجاج بالمشيئة ثم أنكر عليهم ذلك‬
‫ووبخهم عليه‪ ،‬ولم يقبله منهم ورده عليهم وكذبهم فقال‬
‫شَرك َْنا وَل َ‬ ‫ما أ َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫شاء الل ّ ُ‬ ‫كوا ْ ل َوْ َ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫سي َُقو ُ‬ ‫تعالى ‪َ ) :‬‬
‫من قَب ْل ِِهم‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫ك ك َذ ّ َ‬‫يٍء ك َذ َل ِ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫مَنا ِ‬‫حّر ْ‬ ‫آَباؤَُنا وَل َ َ‬
‫جوهُ ل ََنا ِإن‬ ‫ْ‬
‫خرِ ُ‬‫عل ْم ٍ فَت ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫عند َ ُ‬ ‫ل ِ‬ ‫ل هَ ْ‬ ‫سَنا قُ ْ‬‫ذاُقوا ْ ب َأ َ‬
‫حّتى َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫ج ُ‬‫ح ّ‬‫ل فَل ِل ّهِ ال ْ ُ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫صو َ‬ ‫خُر ُ‬ ‫م إ َل ّ ت َ ْ‬‫ن أنت ُ ْ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬‫ن إ ِل ّ الظ ّ ّ‬ ‫ت َت ّب ُِعو َ‬
‫ة(]النعام‪.[149-148:‬‬ ‫ال َْبال ِغَ ُ‬

‫‪83‬‬
‫) ‪(1/83‬‬
‫ما‬ ‫ه َ‬ ‫شاء الل ّ ُ‬ ‫كوا ْ ل َوْ َ‬
‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وفي الية الخرى ‪) :‬وََقا َ‬
‫ه‬
‫دون ِ ِ‬ ‫من ُ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ن َول آَباؤَُنا وَل َ َ‬
‫حّر ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫يٍء ن ّ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫دون ِهِ ِ‬ ‫من ُ‬ ‫عَب َد َْنا ِ‬
‫ل‬
‫س ِ‬ ‫ل عََلى الّر ُ‬ ‫م فَهَ ْ‬ ‫من قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬ ‫يٍء ك َذ َل ِ َ‬
‫ك فَعَ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫ِ‬
‫ن(]النحل‪.[35:‬‬ ‫مِبي ُ‬ ‫إ ِل ّ ال َْبلغُ ال ْ ُ‬
‫ب‬‫فإياك والقتداء بالمشركين في الحتجاج على الله ر ّ‬
‫العالمين ‪.‬‬
‫سك‬ ‫ف نف َ‬ ‫وحسُبك من القدر اليمان به خيره وشّره‪ ،‬ثم كل ّ ْ‬
‫ب على الدوام من‬ ‫ب لنهيه‪ ،‬وت ُ ْ‬ ‫ل لمر الله والجتنا َ‬ ‫المتثا َ‬
‫تقصيرك عن القيام بحقه تعالى‪ ،‬واستعن بالله تعالى‪،‬‬
‫وتوكل عليه‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬إذا ذ ُك َِر‬
‫القدُر فإمسكوا (( فنهى عن الخوض فيه‪ ،‬لما في ذلك من‬
‫الخطر وكثرة الضرر‪.‬‬
‫وسأل رجل عليا ً رضي الله عنه‪ ،‬عن القدر؟ فقال له في‬
‫جوابه‪ :‬هو بحر عميق فل تلجه‪ ،‬وطريق مظلم فل تسلكه‪،‬‬
‫شهِ ‪.‬‬ ‫سّر الله تعالى قد خفي عليك فل ت ُْف ِ‬
‫وسأل رجل من ولة المور محمد بن واسع ‪ -‬رحمه الله‬
‫عن القدر ؟ فقال له ‪ :‬جيرانك من أهل القبور‪ ،‬لك في‬
‫ل شاغل عن القدر‪.‬‬ ‫كر فيهم شغ ٌ‬ ‫التف ّ‬
‫وقد مضى عمل السلف والخلف من أهل الحق على‬
‫اليمان‬

‫‪84‬‬
‫) ‪(1/84‬‬

‫بالقدر خيره وشّره‪ .‬وانعقد إجماعهم ‪ -‬رحمة الله عليهم ‪-‬‬


‫على ذلك ‪ ،‬وعلى المساك عن الحتجاج بالقضاء والقدر‬
‫عند ترك المر وإتيان النهي ‪ .‬وكانوا يرون ذلك من أعظم‬
‫المنكرات ‪ -‬أعني الحتجاج بأمر القدر عند ارتكاب‬
‫المحارم وترك الواجبات ‪ -‬فإن كنت من أهل الحق فاقتد ْ‬
‫ك سبيلهم‪ ،‬وإل فقد سمعت ما قال الله تعالى‬ ‫بهم ‪ ،‬واسل ْ‬
‫للمّتبعين غير سبيل المؤمنين‪ ،‬واسمعه الن‪ ،‬قال الله‬
‫دى‬‫ه ال ْهُ َ‬
‫ن لَ ُ‬
‫ما ت َب َي ّ َ‬
‫من ب َعْدِ َ‬ ‫سو َ‬
‫ل ِ‬ ‫ق الّر ُ‬ ‫من ي ُ َ‬
‫شاقِ ِ‬ ‫تعالى ‪) :‬وَ َ‬
‫م‬
‫جهَن ّ َ‬ ‫ما ت َوَّلى وَن ُ ْ‬
‫صل ِهِ َ‬ ‫ن ن ُوَل ّهِ َ‬‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬‫ل ال ْ ُ‬
‫سِبي ِ‬‫وَي َت ّب ِعْ غَي َْر َ‬
‫صيًرا(]النساء‪.[115:‬‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساء ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ح للمؤمن أن‬ ‫ثم اعلم ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬أنه ل يجوز ول يص ّ‬
‫ح عليه إذا ترك واجبا ً أو‬ ‫جَنا َ‬‫ج ول ُ‬ ‫يعتقد في نفسه أنه ل حر َ‬
‫فعل محرمًا‪ ،‬لن القدر غالب له وسابق عليه‪ .‬ثم إذا صدر‬
‫ك ل يرضى الله به‪ ،‬فإن احتج بالقدر على‬ ‫ل أو َتر ٌ‬ ‫منه فع ٌ‬
‫إقامة العذر لنفسه وهو باق على الختيار والتمييز فقد‬
‫احتمل بهتانا ً وإثما ً مبينًا‪.‬‬
‫ت أن تكون هذه البلية قد د َّبت إلى أناس من‬ ‫وقد خشي ُ‬
‫المنسوبين إلى العلم والصلح‪ ،‬فضل ً عن غيرهم من عامة‬
‫ل على وجود هذا المر منهم أنه ل‬ ‫المسلمين‪ ،‬ويكاد يد ّ‬
‫َ‬
‫ف عندما يصدر من‬ ‫س ٍ‬ ‫جٍع وَتأل ّم ٍ وت َأ ُ‬ ‫يظهر عليهم كثير توَ ّ‬
‫ن‬
‫ه مؤم ٌ‬ ‫ق الل َ‬ ‫ً‬
‫م به شرعا‪ .‬فليت ِ‬ ‫م عليه ويذ ّ‬ ‫بعضهم ما يل ُ‬
‫ه عنها‪ ،‬وليعلم أن الله‬ ‫أحس من نفسه بذلك‪ ،‬وليتكّلف نفي َ‬
‫ل يعذره بالقدر‪ ،‬ول يقبل‬
‫‪85‬‬
‫) ‪(1/85‬‬

‫منه الحتجاج به ما دام مختارا ً أبدًا‪ ،‬فإذا سمعت من أحد‬


‫المسلمين هذه الحجة الساقطة فازجره عنها‪ ،‬وعّرفه بأن‬
‫إثمه في الحتجاج بالقضاء والقدر على ترك الوامر وفعل‬
‫المحرمات‪ ،‬أعظم من إثمه على نفس الترك للواجب‬
‫والفعل للمحرم‪ .‬فليتق الله ول يجمع على نفسه بليتين‪،‬‬
‫ويقودها إلى سخط رّبه من جهتين‪.‬‬
‫***‬
‫وأما ذكر القضاء والقدر والتذكير به عند الشدائد والبليا‬
‫والمصائب فل بأس به‪ ،‬وهو احتجاج على النفس وليس‬
‫احتجاجا ً لها‪ ،‬لن العبد المبتلى والمصاب إذا علم أن‬
‫المبتلي له هو رّبه الرحيم به‪ ،‬وأنه بذلك البلء سبق عليه‬
‫ن أن ضمن ذلك له‬ ‫الكتاب من الله تعالى تحّقق وأيَق َ‬
‫صلحا ً وخيرا ً كثيرا ً ‪ ،‬فيحمله العلم بذلك على الّرضا‬
‫والتسليم لله الحكيم العليم ‪.‬‬
‫فقد وضح وتبّين لك أن الحتجاج بالقدر عند المر والنهي‬
‫محظور ومذموم‪ ،‬فاحذره‪ ،‬وعند البلء والمصائب نافع‪،‬‬
‫ما‬ ‫ولكن لمن يعقل عن الله تعالى‪ ،‬قال الله تعالى‪َ ) :‬‬
‫َ‬ ‫صيب َةٍ ِفي ال َ‬ ‫أَ‬
‫ب‬
‫في ك َِتا ٍ‬ ‫م إ ِّل ِ‬‫سك ُ ْ‬‫ض َول ِفي أنُف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫صا‬‫َ‬
‫ْ‬
‫وا‬ ‫س ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سيٌر * ل ِكي ْل ت َأ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ك عَلى اللهِ ي َ ِ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬‫ها إ ِ ّ‬‫ل َأن ن ّب َْرأ َ َ‬ ‫من قَب ْ ِ‬ ‫ّ‬
‫ل‬‫ب كُ ّ‬ ‫ح ّ‬‫ه َل ي ُ ِ‬‫م َوالل ّ ُ‬‫ما آَتاك ُ ْ‬ ‫حوا ب ِ َ‬ ‫م وََل ت َْفَر ُ‬ ‫ما َفات َك ُ ْ‬ ‫عََلى َ‬
‫خوٍر(]الحديد‪.[23-22:‬‬ ‫ل فَ ُ‬ ‫خَتا ٍ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫وإن تذكر العبد عند المصائب والبليا ما وعد الله عليها‬
‫من‬
‫‪86‬‬
‫) ‪(1/86‬‬

‫الدرجات والحسنات‪ ،‬والكفارات للسيئات‪ ،‬فذلك حسن‪،‬‬


‫وهو أنفع لعامة المسلمين وأقرب إلى أفهامهم‪ ،‬لن‬
‫النظر إلى العلم الزلي والقضاء والقدر السابق يفتقر إلى‬
‫فطنة وبصيرة يخلو عنها كثير من الناس‪ ،‬بخلف الوعد‬
‫الخروي فإن كل أحد يفهمه‪ ،‬وكذلك الوعيد‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك كان التذكير بالوعد والوعد عام المنفعة‬
‫عند البليا‪ ،‬وعند الطاعات‪ ،‬وعند المعاصي وغير ذلك ‪.‬‬
‫ولهذا ترى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ‪-‬صّلى الله عليه‬
‫وآله وسّلم‪ -‬مشحونين بذكر الوعد والوعيد‪ ،‬والوعظ‬
‫والتذكير بهما‪ ،‬فافهم هذه الجملة وتأملها ترشد ‪ .‬وتوكل‬
‫على الله إن الله يحب المتوكلين ‪.‬‬
‫ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم ‪.‬‬
‫***‬
‫‪87‬‬
‫) ‪(1/87‬‬

‫) ‪(1/88‬‬
‫***********‬
‫***********‬
‫مبحث العلم‬
‫***********‬
‫***********‬
‫) ‪(1/89‬‬

‫************‬
‫************‬
‫***‬
‫************‬
‫************‬
‫) ‪(1/90‬‬

‫مبحث العلم‬
‫***********‬
‫واعلموا معاشر الخوان من الله علينا وعليكم بالعافية‬
‫واليقين ‪ ،‬وسلك بنا وبكم مسالك المتقين أنه ل بد لكل‬
‫مسلم ومسلمة من معرفة العلم ‪ ،‬ول رخصة لحد من‬
‫المسلمين في تركه أبدًا‪ ،‬أعني العلم الذي ل يصح اليمان‬
‫والسلم بدون معرفته ‪.‬‬
‫وجملته ‪ :‬العلم بالله ورسوله واليوم الخر‪ ،‬والعلم بما‬
‫أوجب الله فعله من الفرائض‪ ،‬وبما أوجب تركه من‬
‫المحارم ‪ ،‬وقد قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪)) :-‬طلب العلم فريضة على كل مسلم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬اطلبوا العلم ولو بالصين((‪.‬‬
‫والصين‪ :‬إقليم بعيد من أبعد المواضع‪ ،‬وقيل من الناس‬
‫الذين يصل إليه لبعده ‪ .‬فإذا وجب على المسلم أن يطلب‬
‫العلم وإن كان في هذا المحل البعيد ‪ ،‬فكيف ل يحب عليه‬
‫إذا كان بين العلماء ول يلحقه في طلبه كثير مئونة‪ ،‬ول‬
‫كبير مشقة؟ فأما علوم السلم فترجع جملتها إلى قول‬
‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬حين سأله جبريل‬
‫عليه السلم في الحديث المشهور فقال له‪ :‬أخبرني عن‬
‫السلم؟ قال‪ )) :‬السلم أن يشهد أن ل إله إل الله وأن‬
‫محمدا ً رسول الله‪ ،‬وتقيم الصلة‪،‬‬
‫‪91‬‬
‫) ‪(1/91‬‬

‫وتؤتي الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وتحج البيت إن استطعت‬


‫ل(( ثم قال له‪ :‬فأخبرني عن اليمان؟ قال‪:‬‬ ‫إليه سبي ً‬
‫))اليمان أن تؤمن بالله‪ ،‬وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم‬
‫الخر‪ ،‬والقدر خيره وشره ‪ ((..‬الحديث بطوله ‪.‬‬
‫وأما ما يجب علمه على كل مسلم من علوم اليمان‬
‫فيوجد في عقائد الئمة المختصرة التي وضعوها لعامة‬
‫المسلمين‪ ،‬مثل عقيدة المام الغزالي رحمه الله‪ ،‬وهي‬
‫جامعة نافعة وفيها زيادات كثيرة على القدر الولجب علمه‬
‫على كل مؤمن‪ ،‬ولكنها مؤكدات ومقويات ومكملت‬
‫لليمان وسنورد في آخر هذا‬
‫التصنيف إن شاء الله )عقيدة وجيزة تشتمل على ما ل بد ّ‬
‫من علمه من علوم اليمان(‪.‬‬
‫وأما علوم السلم فتوجد في تصانيف الئمة من الفقهاء‬
‫رضي الله عنهم‪ ،‬والواجب من ذلك هو القدر الذي ل يسع‬
‫مسلما ً أن يجعهله‪ ،‬كالعلم بوجوب الصلوات الخمس‪،‬‬
‫وكيفية فعلها وشرائطها ومواقيتها والطهارة لها ‪ ،‬وما في‬
‫معنى ذلك ‪.‬‬
‫وكالعلم بوجوب الزكاة والقدر الواجب منها‪ ،‬والوقت الذي‬
‫تجب فيه‪ .‬والعلم بوجوب صوم شهر رمضان وشرائط‬
‫الصوم ومبطلته‪ ،‬والعلم بوجوب الحج على المستطيع‬
‫شروط الستطاعة ‪.‬‬
‫***‬
‫‪92‬‬
‫) ‪(1/92‬‬
‫وبالجملة‪ :‬فيجب على المسلم أن يعلم بوجوب جميع‬
‫الواجبات العينية‪ ،‬وبتحريم جميع المحرمات التي هو‬
‫مستهدف للوقوع فيها‪ :‬كالزنا واللواط وشرب المسكر‪،‬‬
‫وظلم الناس‪ ،‬والسرقة والخيانة‪ ،‬والكذب والنميمة‪،‬‬
‫والغيبة وأشباه ذلك ‪.‬‬
‫وأما العلم بأحكام الزكاة على من ل مال له تجب عليه‬
‫الزكاة فيه؛ فل يجب‪ ،‬وكذلك العلم بأركان الحج وشرائطه‬
‫في نفسه ل يجب على غير المستطيع‪ ،‬ول على‬
‫المستطيع حتى يعزم على السفر أو على الشروع في‬
‫الحج‪ .‬وأما العلم بوجوب الزكاة والحج على كل مسلم‬
‫فيجب علم ذلك على الجملة ‪.‬‬
‫وأما العلم بشروط البيع والشراء والمعاملت والنكاح‬
‫فيجب على من أراد الدخول في شيء منها أن يعلم حكم‬
‫الله تعالى فيها‪ ،‬وما تصح به‪ ،‬وما تفسد به‪ ،‬في ابتدائها‬
‫وفي الدوام عليها‪.‬‬
‫ل بد ّ له من ذلك‪ ،‬وإل وقع فيما يسخط الله عليه شاء أم‬
‫أبى ‪ .‬فإن الجاهل متعّرض بجهله لسخط الله وللوقوع في‬
‫الهلك على كل حال‪ ،‬وكيف ل يكون كذلك‪ ،‬وربما يعتقد‬
‫في بعض الواجبات أنها من المحّرمات‪ ،‬أو أنها ليست‬
‫بواجبة‪ ،‬و في بعض المحّرمات أنها واجبات أو من‬
‫الطاعات‪ ،‬أو أنها ليست بمحرمة‪ ،‬وفي ذلك غاية الخطر‬

‫‪93‬‬
‫) ‪(1/93‬‬

‫ونهاية الضرر على أهل الجهل‪ ،‬وربما وقعوا بسبب جهلهم‬


‫في أمور تشبه الكفر‪ ،‬أو هي الكفر بعينه كما يعرف ذلك‬
‫مل أحوالهم‪ ،‬واعتبر أفعالهم وأقوالهم‪ ،‬وليس‬ ‫من تأ ّ‬
‫يعذرهم الله في شيء من ذلك فإنه سبحانه قد فرض‬
‫سر لهم السباب‪ ،‬وأوجب على‬ ‫عليهم طلب العلم‪ ،‬وي ّ‬
‫العلماء تعليمهم‪ ،‬فتقصيرهم بعد ذلك كله اشتغال ً بالدنيا‪،‬‬
‫واتباعا ً للهوى يزيدهم عن الله بعدًا‪ ،‬ويوجب لهم عنده‬
‫مقتا ً وطردًا‪.‬‬
‫وهذا كّله في العلم الواجب الذي ل يسع أحدا ً من‬
‫المسلمين أن يجهله ‪.‬‬
‫والعجب أنك ترى الجاهل المغرور ل يفتر عن طلب الدنيا‬
‫ليل ً ونهارًا‪ ،‬ول يزال متكالبا ً عليها‪ ،‬وشديد العناية بجمعها‬
‫ومنعها‪ ،‬والتمتع بها‪ ،‬ويقيم‬
‫لنفسه العذار الكثيرة على ذلك‪ ،‬ثم تجده جاهل ً بأمر‬
‫ط‪.‬‬‫دينه‪ ،‬لم يطلب علما ً ‪ ،‬ولم يجالس عالما ً ليتعلم منه ق ّ‬
‫فإن قيل له في ذلك‪ ،‬احتج لنفسه بما يسقط به من عين‬
‫الله من عدم الفراغ‪ ،‬وكثرة الشغال‪ ،‬مع أن الله وله‬
‫سر له طلب العلم بوجوده العلماء القدر‬ ‫الحمد قد ي ّ‬
‫الواجب من العلم‪ ،‬وأمر الدنيا على الضد ّ من ذلك ‪ ،‬فل‬
‫يكاد ينال منها شيئا ً يسيرا ً إل بعسر ومشقة وتعب كثير‪،‬‬
‫فليس ذلك‬
‫إل من موت القلب‪ ،‬وهوان أمر الدين على النسان‪ ،‬وقّلة‬

‫‪94‬‬
‫) ‪(1/94‬‬

‫الحتفال بأمر الخرة فإنه يرى حاجته إلى متاع الدنيا‬


‫ظاهرة حاضرة‪ ،‬ويرى حاجته إلى العلم بعيدة غائبة‪ ،‬لنه ل‬
‫يحتاج إليه ول يعرف منفعته إل بعد الموت‪ ،‬وهو قد نسي‬
‫الموت‪ ،‬ونسي ما بعده لغلبة الجهل علبه‪ ،‬وفقد العلم‬
‫عنده‪.‬‬
‫وصاحب هذا الوصف من الذين قال الله تعالى فيهم‪:‬‬
‫)ول َك َ‬
‫ة‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫حَيا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬
‫ظاهًِرا ّ‬ ‫ن * ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫س َل ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ن أك ْث ََر الّنا ِ‬
‫َ ِ ّ‬
‫ن( ]الروم‪.[7-6 :‬‬ ‫غافُِلو َ‬‫م َ‬‫خَرةِ هُ ْ‬ ‫ن اْل ِ‬
‫م عَ ِ‬ ‫الد ّن َْيا وَهُ ْ‬
‫قال الحسن البصري ‪ -‬رحمه الله ‪ : -‬يأخذ أحدهم الدرهم‬
‫دة معرفته بأمور‬ ‫على ظفره فيخبرك بزنته‪ ،‬يعني من ش ّ‬
‫الدنيا‪ .‬قال ‪ :‬ولو سألته عن شروط الطهارة والصلة لم‬
‫يعرف شيئا ً منها‪ .‬انتهى بمعناه ‪.‬‬
‫وعلى الجملة‪ :‬فالجهل رأس الشرور والبليا كلها في‬
‫الدنيا والخرة ‪ .‬ولو اجتمع على الجاهل أعداؤه ليضروه‬
‫لم يقدروا أن يضروه بمثل ما قد ضّر به نفسه‪ ،‬كما قال‬
‫القائل ‪:‬‬
‫ه‬
‫س ِ‬
‫ل من نف ِ‬‫ل ‪ ...‬ما يبلغ الجاه ُ‬‫ما يبلغ العداء من جاه ٍ‬
‫وقال الخر‪:‬‬
‫دهم قبل القبوِر‬ ‫وفي الجهل قبل الموت لهل ِهِ ‪ ...‬فأجسا ُ‬
‫قبوُر‬
‫ثم إن الجهل المذموم على الطلق‪ :‬هو أن يجهل النسان‬
‫من العلم ما فرض الله عليه علمه ‪.‬‬
‫فاحذر أّيها الخ من ذلك‪ ،‬واخرج من ظلمات جهلك إلى‬
‫أنوار العلم‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫) ‪(1/95‬‬

‫وليس بواجب عليك أن تتسع في العلم‪ ،‬بل واجب عليك‬


‫تعلم القدر الذي ل بد ّ لك منه‪ ،‬ول غنى لك عنه ‪.‬‬
‫***‬
‫وكما يجب عليك أن تتعلم في نفسك‪ :‬يجب عليك أيضا ً أن‬
‫م أهلك وأولدك وكل من لك ولية عليه‪ ،‬فإن لم تقدر‬ ‫تعل ّ َ‬
‫أن تلمهم كان عليك أن تأمرهم بالخروج إلى أهل العلم‬
‫ت‬
‫حتى يتعلموا منهم القدر المفروض منه‪ ،‬وإل أثم َ‬
‫وأثموا ؛ أعني يأثم منهم من كان مكلفا ً ‪.‬‬
‫والقدر الواجب من العلم على كل مسلم ليس بكثير‪ ،‬ول‬
‫يكاد يلحق الطالب له في طلبه مشقة إن شاء الله‬
‫لسهولته ‪.‬‬
‫ولن الله تعالى يعينه على ذلك‪ ،‬وييسره له إذا صلحت‬
‫نيته‪ .‬وله في طلبه ثواب عظيم ‪.‬‬
‫قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من سلك طريقا ً‬
‫سر الله له به طريقا ً إلى لجنة (( ‪ ،‬وقال‬ ‫يلتمس به علما ً ي ّ‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬إن الملئكة لتضع أجنحتها لطلب‬
‫العلم رضا ً بما يصنع((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬حضور مجلس علم أفضل‬
‫من صلة الف ركعة‪ ،‬وعيادة ألف مريض‪ ،‬وحضور ألف‬
‫جنازة ‪((..‬‬

‫‪96‬‬
‫) ‪(1/96‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إن الله تكّفل لطالب العلم‬
‫برزقه((‪.‬‬
‫ه‬ ‫ت‪ :‬وهذا تكّفل خاص بعد التكّفل العام الذي تكّف َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫قل ُ‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫لك ّ‬
‫دآب ّةٍ ِفي الْر ِ‬
‫من َ‬‫ما ِ‬
‫ل دابة في الرض في قوله‪) :‬وَ َ‬
‫إ ِل ّ عََلى الل ّهِ رِْزقَُها(]هود‪ .[6:‬فيكون معناه زيادة التيسير‪،‬‬
‫ورفع المئونة والكلفة في طلب الرزق و حصوله‪ ،‬والله‬
‫أعلم ‪.‬‬
‫وفي لحديث الطويل الذي ذكر فيه عليه الصلة والسلم‬
‫مه السعداء ‪ -‬يعني العلم‬ ‫فضل العلم قال في آخره ‪)) :‬ي ُل ْهَ ُ‬
‫مه الشقياء((‪.‬‬‫حَر ُ‬
‫‪ -‬وي ُ ْ‬
‫وليس من شيء يجمع جميع أنواع الخير غير السعادة‪،‬‬
‫وليس من شيء يجمع جميه أنواع الشر سوى الشقاوة ‪.‬‬
‫فقد علمت ‪ -‬بما تقدم ‪ -‬أنه ل عذر لجاهل عند الله تعالى‬
‫في ترك العلم ‪،‬وكذلك ل عذر لعالم في العمل بعلمه‪.‬‬
‫***‬
‫ومثل الجاهل المقصر في طلب العلم الواجب عليه كمثل‬
‫عبد أرسل إليه سيده كتابا ً يأمره فيه بأشياء وينهاه فيه‬
‫عن أشياء‪ ،‬فلم ينظر في ذلك الكتاب ولم يعرف ما فيه‬
‫كن منه‪.‬‬ ‫أصل ً مع القدرة على ذلك والتم ّ‬
‫ومثل العالم الذي لم يعمل بعلمه كمثل من نظر في‬
‫كتاب‬

‫‪97‬‬
‫) ‪(1/97‬‬

‫سيده وعلم ما فيه؛ فلم يمتثل لشيء من أوامره ولم‬


‫ص عليها في كتابه‪.‬‬ ‫يجتنب شيئا ً من نواهيه التي ن ّ‬
‫فانظر ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬هل ترى تقصيرا ً أشنع من تقصير‬
‫هذين العبدين في حقّ سيدهما؟ وهل تقوم لهما عنده‬
‫حجة أو عذر! وهل أحد أحقّ بالعقاب والنكال منهما‬
‫لجراءتهما وقلة تعظيمهما لسيدهما ‪ .‬فاحذر أن تكون أحد‬
‫الرجلين المشئومين‪ :‬الجاهل الذي ل يتعلم‪ ،‬أو العالم‬
‫الذي ل يعمل؛ فتكن مع الهالكين‪ .‬وتخسر الدنيا والخرة‪،‬‬
‫ذلك هو الخسران المبين ‪.‬‬
‫وأما التساع في العلوم الدينية النافعة ‪ ،‬والستكثار منها‬
‫والزيادة على قدر الحاجة فذلك من أعظم الوسائل إلى‬
‫الله‪ ،‬وأفضل الفضائل عند الله‪ ،‬ولكن مع الخلص لوجه‬
‫الله في طلب العلم‪ ،‬ومع مطالبة النفس بالعمل بما تعلم‬
‫‪ .‬وتعليمه لعباد الله‪ ،‬مريدا ً بذلك كّله وجه الله والدار‬
‫الخرة‪.‬‬
‫***‬
‫وتلك المرتبة هي التي تلي مرتبة النبوة‪ .‬وجميع مراتب‬
‫المؤمنين أنزل منها‪ .‬فإن العلماء العاملين هم الواسطة‬
‫بين رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬وبين‬
‫المسلمين‪ ،‬وقد قال الله تعالى في فضل أهل العلم‪:‬‬
‫ما ً‬ ‫شهد الل ّه أ َنه ل َ إل َه إل ّ هُو وال ْمل َئ ِك َ ُ ُ‬
‫ة وَأوُْلوا ْ ال ْعِل ْم ِ َقآئ ِ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ُ ّ ُ‬ ‫) َ ِ َ‬
‫ط (]آل عمران‪.[18:‬‬ ‫س ِ‬ ‫ِبال ِْق ْ‬

‫‪98‬‬
‫) ‪(1/98‬‬

‫فانظر كيف قرنهم مع ملئكته في الشهادة على‬


‫التوحيده‪ ،‬وقيامه بالقسط وهو العدل ‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪) :‬قل هل يستوى الذي يعلمون والذين ل‬
‫يعلمون (]الزمر‪ .[9:‬أي ‪ :‬ل يستوون ل في الدنيا ول في‬
‫الخرة ‪ ،‬ولكن يفضل الله من يعلم على من ل يعلم‬
‫منك ُ ْ‬
‫م‬ ‫مُنوا ِ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬
‫بدرجات كثيرة‪ ،‬قال تعالى‪) :‬ي َْرفَِع الل ّ ُ‬
‫وال ّذي ُ‬
‫ت (]المجادلة‪ .[11:‬أي ‪ :‬على‬ ‫جا ٍ‬ ‫ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ‬
‫م د ََر َ‬ ‫َ ِ َ‬
‫الذين آمنوا‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬العلماء ورثة النبياء؛ لن‬
‫النبياء لم ي ُوَّرثوا دينارا ً ول درهما ً وإنما وَّرثوا العلم ‪((..‬‬
‫الحديث ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل حسد إل في اثنتين‪ :‬رجل‬
‫آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها و يعّلمها آناء الليل و آناء‬
‫ل‪ ،‬فهو ينفق منه آنا ء الليل وآناء‬ ‫ه ما ً‬‫ل آتاه الل ُ‬ ‫النهار ‪ ،‬ورج ٌ‬
‫النهار (( ومعنى الحسد ههنا‪ :‬البغطة ‪ ،‬وهي محمودة في‬
‫أمور الخرة‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬فضل العالم على العابد‬
‫كفضلي على أدنى رجل من أصحابي(( وفي رواية أخرى ‪:‬‬
‫))كفضل القمر ليلة البدرعلى سائر الكواكب ((‪.‬‬
‫فإذا كان فضل العالم على العابد بهذه المثابة مع العابد ل‬
‫م عابدا ً فكيف‬ ‫يخلو عن علم بعبادته‪ ،‬ولو ل ذلك لم يس ّ‬
‫يكون فضل العالم على الجاهل ؟‬
‫وفضائل العلم وأهله ل تحصى ‪ ،‬وكتاب الله وسنة رسوله‬
‫‪99‬‬
‫) ‪(1/99‬‬

‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬وآثار السلف الصالح‬


‫مشهورة ومعروفة في ذلك‪ ،‬والكتب مشحونة بها‪ ،‬أعني‬
‫بفضائل العلم والعلماء ‪.‬‬
‫قال علي رضي الله عنه‪ :‬العلم خير من المال‪ :‬العلم‬
‫يحرسك‪ ،‬وأنت تحرس المال ‪ ،‬والعلم يزيد بالنفاق ‪،‬‬
‫والمال ينقص به ‪ .‬والعلم حاكم‪ ،‬والمال محكوم عليه‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن العالم الذي ل يعمل بعلمه مسلوب الفضيلة‪،‬‬
‫فل ينبغي له أن يغتّر بما ورد عن الله وعن رسوله في‬
‫فضل العلم ‪ ،‬ويوهم نفسه أنه داخل في ذلك بمجرد العلم‬
‫من غير عمل‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم‪)):‬تعلموا ما‬
‫شئتم‪ ،‬فوالله ل يقبل منكم حتى تعملوا به (( ‪ ،‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪ )) :‬من ازداد علما ً ولم يزدد هدى‪ ،‬لم‬
‫يزدد من الله إل بعدًا((‪.‬‬
‫وإنما صار العلم بتلك المنزلة الرفيعة عند الله لما فيه من‬
‫المنفعة العامة لجميع عباد الله تعالى ‪.‬‬
‫وإذا لم ينتفع العالم بعلمه في نفسه فكيف ينتفع به‬
‫غيره؟‬
‫فاعرف من ههنا بطلن الفضيلة في حق من يعلم ول‬
‫يعمل‪ .‬وقد قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬أشد الناس‬
‫عذابا ً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه((‪ .‬وكان عليه‬
‫الصلة والسلم يستعيذ بالله من علم ل ينفع‪ ،‬وقلب ل‬
‫يخشع ‪.‬‬
‫وليس عند العالم الذي ل يعمل بعلمه إل صورة العلم‬
‫‪100‬‬
‫) ‪(1/100‬‬

‫ورسمه دون معناه وحقيقته ‪ ،‬كما قال بعض السلف‬


‫‪-‬رحمة الله عليهم‪ :-‬العلم يهتف بالعمل‪ ،‬فإن أجابه وإل‬
‫ارتحل ‪ ،‬أعني يرتحل منه روحه ونوره وبركته‪ ،‬وأما‬
‫جة على العالم‬ ‫ح ّ‬ ‫كدة لل ُ‬ ‫صورته فل ترتحل بل تبقى مؤ ّ‬
‫السوء‪.‬‬
‫ثم إن كان هذا العالم يعلم علمه للناس وينفعهم به كان‬
‫بمنزلة الشمعة تضيء للناس وهي تحترق‪ ،‬وكالبرة تكسو‬
‫س ِبال ْب ِّر‬ ‫َ ْ‬
‫ن الّنا َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫الناس وهي عارية‪ ،‬قال تعالى ‪):‬أت َأ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وتنسو َ‬
‫ن(]البقرة‪:‬‬ ‫ب أفَل َ ت َعِْقُلو َ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬
‫م ت َت ُْلو َ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م وَأنت ُ ْ‬ ‫ن أنُف َ‬
‫ََ َ ْ َ‬
‫‪.[44‬‬
‫وفي الحديث ‪)) :‬إنه يؤمر بالعالم إلى النار فتخرج أمعاؤه‬
‫فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرحى ‪ ،‬فيطوف به‬
‫أهل النار فيقولون له‪ :‬ما بالك ؟ فيقول‪ :‬إني كنت آمر‬
‫بالخير ول آتيه‪ ،‬وأنهى عن الشر وآتيه ‪ ((..‬الحديث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا العالم الذي يعلم الناس ول يعمل خاسر‪،‬‬
‫وأمره في غاية الخطر ‪ ،‬ولكنه أحسن حال من الذي ل‬
‫يعمل ول يعلم الناس ‪ ،‬فإنه خاسر من كل وجه ‪ ،‬وهالك‬
‫على كل حال ‪ ،‬إذ لم يبق فيه خير ول نفع البتة‪ ،‬وأخشى‬
‫أن يكون من الذين قال فيهم عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫)) يؤمر بأقوام من حملة القرآن إلى النار قبل عبدة‬
‫الوثلن‪ ،‬فيقولون‪ :‬يبدأ بنا قبل عبدة الصنام ! فيقال لهم ‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬ليس من يعلم كمن ل يعلم((‪.‬‬
‫***‬
‫‪101‬‬
‫) ‪(1/101‬‬

‫فإن كان العالم مع كونه ل يعمل ول يعلم يدعو إلى الشر‪،‬‬


‫ويفتح للعامة أبواب التأويلت والرخص ‪ ،‬ويلقنهم‬
‫المخادعات‬
‫والحيل التي يخرجون بها من الحقوق التي عليهم‪،‬‬
‫ويتوصلون بها إلى أخذ حقوق الناس فهو شيطان مارد ‪،‬‬
‫فاجر معاند لله ورسوله‪ ،‬قد استخلفه الشيطان‪ ،‬وجعله‬
‫نائبا ً عنه في الفتنة والضللة والغواء‪ ،‬وهو عند الله من‬
‫الذين شبههم بالحمير والكلب في الخسة والمهانة‪ ،‬وإل‬
‫فالحمير والكلب خير منه‪ ،‬لن الحمير والكلب يصيرون‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫إلى التراب وهو يصير إلى النار‪ ،‬قال تعالى‪َ ) :‬‬
‫حمار يحم ُ َ‬
‫سَفاًرا‬ ‫لأ ْ‬ ‫ل ال ْ ِ َ ِ َ ْ ِ‬ ‫مث َ ِ‬ ‫ها ك َ َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ح ِ‬
‫م يَ ْ‬ ‫م لَ ْ‬ ‫مُلوا الت ّوَْراةَ ث ُ ّ‬ ‫ح ّ‬‫ُ‬
‫دي‬ ‫ه َل ي َهْ ِ‬ ‫ت الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال َْقوْم ِ ال ّ ِ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ب ِئ ْ َ‬
‫ن(]الجمعة‪.[5:‬‬ ‫َ‬ ‫مي‬
‫ظال ِ ِ‬‫م ال ّ‬ ‫ال َْقوْ َ‬
‫سل َ َ‬ ‫َ‬
‫خ‬ ‫م ن َب َأ ال ّذِيَ آت َي َْناهُ آَيات َِنا َفان َ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ْ‬ ‫وقال تعالى ‪َ) :‬وات ْ ُ‬
‫منها فَأ َ‬
‫شئ َْنا‬‫ن * وَل َوْ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫وي‬ ‫غا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫طا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ّ‬
‫ش‬ ‫ال‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ت‬ ‫ِ َْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ه كَ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫مث َل ُ ُ‬ ‫واهُ فَ َ‬ ‫ض َوات ّب َعَ هَ َ‬ ‫خلد َ إ ِلى ا َلْر ِ‬
‫هأ ْ َ َ‬ ‫ل ََرفَعَْناهُ ب َِها وَل َك ِن ّ ُ‬
‫ه ي َل َْهث(]العراف‪:‬‬ ‫ث أوْ ت َت ُْرك ْ ُ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ي َل ْهَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ِ‬‫ب ِإن ت َ ْ‬ ‫ال ْك َل ْ ِ‬
‫‪.[176-175‬‬
‫***‬
‫وكان عمر رضي الله عنه يقول‪ :‬أخوف ما أخاف عليكم‬
‫منافق عليم باللسان ‪ .‬وقد يتمكن مثل هذا الفاجر‬
‫المنافق من علم الكتاب والسنة‪ ،‬فيكون بلء على‬
‫المسلمين وفتنة‪ .‬وفي وفي مثله قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫) ‪(1/102‬‬

‫جال (( قيل‪:‬‬‫جال أخوف عليكم من الد ّ‬ ‫))أنا من غير الد ّ‬


‫وما ذلك ؟ قال ‪)) :‬علماء السوء(( ‪.‬‬
‫وقد وصف عليه الصلة والسلم أناسا ً يقرءون القرآن كما‬
‫أنزل وأنه ل يجاوز تراقيهم‪ ،‬وأنهم يمرقون من السلم‬
‫مّية(‪.‬‬‫كما يمرق السهم من الّر ِ‬
‫ل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل‬ ‫مث َ َ‬
‫ن َ‬
‫وفي الحديث‪ )) :‬إ ّ‬
‫مه مّر ((‪.‬‬ ‫الريحان ريحه طّيب وطع ُ‬
‫فل يستبعد بعد هذا أن من يعلم ظاهر العلم منافق فاجر ‪،‬‬
‫وعلمته أن ل ينتفع بالعلم ول ينفع به‪ ،‬بل يضّر به نفسه‬
‫ويضّر به غيره ‪.‬‬
‫وبالجملة فإن العالم المعلم لعباد الله هو الفاضل الخّير‬
‫المعدود من ورثة النبياء‪ .‬والعالم الذي ل يعمل ولكنه‬
‫يعلم الناس الخير والعلم أمره مخطر ‪ ،‬وهو خير بكثير من‬
‫العلم الشرير الذي ل يعمل ول يعلم خيرا ً ‪ ،‬ويدعو مع ذلك‬
‫إلى الشر بتيسير أسبابه وفتح أبوابه‪ .‬ففّرق بين العلماء ‪،‬‬
‫سر على سبيله تكن‬ ‫واقتد بخيرهم ‪ ،‬واتصف بصفته ‪ ،‬و ِ‬
‫من المهتدين والله يهدي من يشاء إلى صراط المستقيم ‪.‬‬
‫***‬
‫‪103‬‬
‫) ‪(1/103‬‬

‫ثم اعلم رحمك الله أن للعالم العامل بعلمه ‪ ،‬المعدود‬


‫عند الله ورسوله من علماء الدين وعلماء الخرة‪ :‬علمات‬
‫وأمارات تفّرق بينه وبين العالم المخلط المعدود عند الله‬
‫ورسوله من علماء اللسان ‪ ،‬المتبعين للهوى ‪ ،‬المؤثرين‬
‫الدنيا على العقبى ‪ .‬فمن علمات العالم المعدود من‬
‫جل ً‬‫علماء الخرة ‪ :‬أن يكون خاشعا ً متواضعا ً خائفا ً وَ ِ‬
‫مشفقا ً من خشية الله ‪ ،‬زاهدا ً في الدنيا قانعا ً باليسير‬ ‫ُ‬
‫ما في يده ‪ ،‬ناصحا ً لعباد‬ ‫منها ‪ ،‬منفقا ً للفاضل عن حاجته م ّ‬
‫الله ‪ ،‬شفيقا ً عليهم ‪ ،‬رحيما ً بهم ‪ ،‬آمرا ً بالمعروف‪ ،‬ناهيا ً‬
‫عن المنكر ‪ ،‬مسارعا ً في الخيرات ‪ ،‬ملزما ً للعبادات ‪ ،‬دال ً‬
‫على الخير ‪ ،‬داعيا ً إلى الهدى ‪ ،‬ذا سمت تؤدة ‪ ،‬ووقار‬
‫ن الجانب ‪،‬‬ ‫ن الخلق ‪ ،‬واسعَ الصدر‪ ،‬لي ّ َ‬ ‫س َ‬
‫ح َ‬ ‫وسكينة ‪َ ،‬‬
‫جَناح للمؤمنين ‪ ،‬ل متكبرا ً ول متجبرا ً ‪ ،‬ول‬ ‫مخفوض ال َ‬
‫طامعا ً في الناس ‪،‬ول حريصا ً على الدنيا ‪ ،‬ول مؤثرا ً لها‬
‫على الخرة ‪ ،‬ول جامعا ً للمال ‪ ،‬ول مانعا ً له عن حقه ‪ ،‬ول‬
‫فَظ ّا ً ول غليظا ً ‪ ،‬ول مماريا ً ول مجادل ً ول مخاصما ً ‪ ،‬ول‬
‫صدر ‪ ،‬ول مداهنا ً‬ ‫قاسيا ً ‪ ،‬ول سيَء الخلق ‪ ،‬ول ضي ّقَ ال ّ‬
‫شا ً ‪ ،‬ول مقدما ً للغنياء على الفقراء ‪،‬‬ ‫ول مخادعا ً ‪ ،‬ول غا ّ‬
‫ول مترددا ً إلى السلطين ‪ ،‬و ل ساكتا ً عن النكار عليهم‬
‫مع القدرة ‪ ،‬ول محبا ً للجاه والمال والوليات ‪ ،‬بل يكون‬
‫كارها ً لذلك كله ‪ ،‬ل يدخل في شيء منه ‪ ،‬ول يلبسه إل‬
‫من حاجة أو ضرورة ‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫) ‪(1/104‬‬

‫وبالجملة يكون متصفا ً بجميع ما يحّثه عليه العلم ‪ ،‬ويأمره‬


‫به من الخلق المحمودة والعمال الصالحة ‪ ،‬مجانبا ً لكل‬
‫ما ينهاه العلم عنه من الخلق والعمال المذمومة ‪.‬‬
‫وهذه الشياء التي ذكرناها في وصف علماء الخرة يجب‬
‫أن يتحلى بها كل مؤمن‪ ،‬غير أن العالم أولى بها وأحق ‪،‬‬
‫وهي عليه أوجب وأكد‪ ،‬لنه علم به يهتدى ‪ ،‬وإمام به‬
‫يقتدى ‪ .‬فإن ضل وغوى وآثر الدنيا على الخرة ‪ ،‬وكان‬
‫عليه إثمه وإثم من تابعه على ذلك ‪ ،‬وإن استقام واتقى‬
‫كان له أجره وأجر من تابعه على ذلك‪.‬‬
‫وينبغي للعالم بأمور الدين الظاهرة‪ :‬أن يضيف إلى ذلك‬
‫العلم بالخلق الباطنة من صفات القلوب‪ ،‬والعلم بأسرار‬
‫العمال وآفاتها‪ ،‬والعلم بالوعد والوعيد الواقعين في‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬من ذكر ثواب المحسنين وعقاب‬
‫المسيئين‪ ،‬فبذلك يتم أمر العالم‪ ،‬ويكمل النفع له والنتفاع‬
‫م بعضها بدون‬ ‫به‪ .‬فإن هذه العلوم التي ذكرناها ل يت ّ‬
‫بعض‪ ،‬وهي علوم السلف الصالح‪ ،‬يعرف ذلك من طالع‬
‫سيرهم‪.‬‬
‫وأما علم الباطن فل ِقوام له بدون علم الظاهر‪ ،‬وأما علم‬
‫الظاهر فل تمام له بدون علم الباطن‪.‬‬
‫وأما علم الوعد والوعيد فلما فيهما من الترغيب في‬
‫إقامة الوامر والفضائل‪ ،‬ومن الترهيب عن الوقوع في‬
‫المحارم والرذائل‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫) ‪(1/105‬‬

‫وقبيح بالعالم أن يتكلم في حكم بعض الواجبات‪ ،‬أو‬


‫فضائل الخيرات‪ ،‬أو شيء من المحرمات‪ ،‬فإذا طولب عند‬
‫ذلك بذكر بعض ما ورد عن الله وعن رسوله في ذلك‬
‫المر لم يقدر أن يورد َ شيئا ً في ذلك‪ ،‬وصدور المؤمنين‬
‫إنما تنشرح بكلم الله وبكلم رسوله‪ ،‬تطمئن قلوبهم‪،‬‬
‫مُهم‪.‬‬
‫م ُ‬
‫وتنتهض هِ َ‬
‫فتأمل هذه الجملة وأحسن النظر فيها‪ ،‬وخذ من هذه‬
‫العلوم الثلثة قدرا ً صالحا ً ‪ :‬وهي علم الحكام الظاهرة‬
‫من العبادات والمعاملت‪ ،‬وعلم المور الباطنة من‬
‫الخلق وأوصاف القلوب‪ ،‬وعلم الوعد والوعيد وأعني به‬
‫ما ورد عن الله ورسوله في فضل الطاعات‪ ،‬وهو الوعد‪،‬‬
‫وعقاب السيئات وهو الوعيد‪.‬‬
‫وينبغي ويتأكد على أهل لعلم أن يبالغوا في نشره‬
‫وإذاعته‪ ،‬وبذله وتعليمه لجميع المسلمين؛ أعني العلم‬
‫العام النافع علمه لكل أحد من أهل السلم‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي للعالم أن يكون حديثه مع العامة في حال‬
‫مخالطته ومجالسته لهم في بيان الواجبات و المحرمات‪،‬‬
‫ونوافل الطاعات‪ ،‬وذكر الثواب والعقاب على الحسان‬
‫والساءة‪ ،‬ويكون كلمه معهم بعبارة قريبة واضحة‬
‫يعرفونها ويفهمونها‪ ،‬ويزيد بيانا ً للمور التي يعلم أنهم‬
‫ملبسون لها‪ ،‬ول يسكت‬
‫‪106‬‬
‫) ‪(1/106‬‬

‫سأل عن شيء من العلم وهو يعلم أنهم محتاجون‬ ‫حتى ي ُ ْ‬


‫مه بذلك سؤال منهم بلسان‬ ‫عل ْ َ‬
‫ن ِ‬ ‫إليه ومضطرون له‪ ،‬فإ ِ ّ‬
‫الحال‪.‬‬
‫والعامة قد غلب عليهم التساهل بأمر الدين علما ً وعم ً‬
‫ل‪،‬‬
‫فل ينبغي للعلماء أن يساعدوهم بذلك السكوت عن‬
‫م الهلك‪ ،‬ويعظم البلء‪ ،‬وقلما‬ ‫تعليمهم وإرشادهم‪ ،‬فيع ّ‬
‫تختبر عاميا ً ‪ -‬وأكثر الناس عامة ‪ -‬إل وجدته جاهل ً‬
‫بالواجبات والمحرمات‪ ،‬وبأمور الدين التي ل يجوز ول‬
‫جد َ‬ ‫جد جاهل ً بالك ّ‬
‫ل وُ ِ‬ ‫يسوغ الجهل بشيء منها‪ ،‬وإن لم ُيو َ‬
‫ت علمه به‬ ‫جاهل ً بالبعض‪ .‬وإن علم شيئا ً من ذلك وجد َ‬
‫علما ً مسموعا ً من ألسنة الناس‪ ،‬ولو أردت أن تقلبه له‬
‫جهل ً فعلت ذلك بأيسر مئونة لعدم الصل والصحة فيما‬
‫يعلمه‪.‬‬
‫***‬
‫و ينبغي للعالم إذا جاءه من يطلب العلم أن ينظر فيه‪،‬‬
‫فإن كان فارغا ً ومتأهل ً لفهم العلم فليأمره بقراءة الكتب‪،‬‬
‫وإن كان عاميا ً يقصد أن يتعلم ما ل ب ُد ّ له من العلم‬
‫فل ْي ُل َّقنه ذلك تلقينًا‪ ،‬وليعّلمه ويفّهمه‪ ،‬ويختصر له المر‪ ،‬ول‬
‫ول عليه بقراءة الكتب التي عساه ل يفهمها ول يفرغ‬ ‫يط ّ‬
‫لها‪ ،‬ول يحتاج لكثر ما فيها فإن حاجة العامة من العلم‬
‫ليست شيئا ً كثيرًا‪.‬‬
‫***‬
‫‪107‬‬
‫) ‪(1/107‬‬

‫وينبغي للعلماء وخصوصا ً منهم ولة الحكام أن ي َعِ ُ‬


‫ظوا‬
‫وفوهم بما ورد‬ ‫عامة المسلمين عند الختصام إليهم‪ ،‬وُيخ ّ‬
‫عن الله تعالى وعن رسوله من التشديدات والتهديات في‬
‫الدعاوي الكاذبة‪ ،‬وشهادة الزور واليمان الفاجرة‪،‬‬
‫والمعاملت الفاسدة‪ ،‬مثل الربا وغيره‪ .‬ويذكروا لهم بعض‬
‫دة العقاب‬ ‫ما ورد في الشرع من تحريم هذه المور‪ .‬وش ّ‬
‫فيها‪ ،‬وذلك لغلبة الجهل‪ ،‬وشدة الحرص‪ ،‬وقلة المبالة‬
‫بأمر الدين‪ .‬وكم من عامي من المسلمين إذا سمع تحريم‬
‫الكذب في الدعاوي والشهادات واليمان ؛ يرجع عن‬
‫شيء قد عزم عليه ذلك لجهله وقّلة علمه‪.‬‬
‫كد على العلماء أن يجالسوا الناس‬ ‫وعلى الجملة فيتأ ّ‬
‫دثوهم به‪ ،‬وُيبّينوه هم‪ .‬ويكون كلم العالم‬ ‫ح ّ‬
‫بالعلم ‪ ،‬وي ُ َ‬
‫معهم في بيان المر الذي جاءوا إليه من أجله‪ :‬مثل ما إذا‬
‫جاءوا لعقد نكاح يكون كلمه معهم فيها يتعلق بحقوق‬
‫النساء‪ :‬من الصداق‪ ،‬والنفقة والمعاشرة بالمعروف‪ ،‬وما‬
‫يجري هذا المجرى‪ .‬ومثل ما إذا جاءوا لعقد بيع وكتاب‬
‫مسطور بينهم في ذلك‪ .‬يكون كلمه معهم‪ :‬في‬
‫الشهادات‪ ،‬وفي صحيح البيوع وفاسدها‪ ،‬ونحو ذلك ‪.‬‬
‫وهذا والله خير وأولى في هذه المجالس من الخوض في‬
‫فضول الكلم‪ ،‬وما ل تعلق له بالمر الذي من أجله‬
‫دين رأسًا‪.‬‬‫جاءوا ‪ ،‬ول بال ّ‬
‫‪108‬‬
‫) ‪(1/108‬‬

‫ول ينبغي للعالم أن يخوض مع الخائضين‪ ،‬ول أن يصرف‬


‫شيئا ً من أوقاته في غير إقامة الدين‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكرناه من أنه ينبغي للعالم ويتأ ّ‬
‫كد عليه‪ :‬أن‬
‫يجعل مجالسته ومخالطته مع عامة المسلمين معمورة‬
‫ومستغرقة بتعليمهم وتنبيههم وتذكيرهم؛ قد صار في هذا‬
‫مات على أهل العلم؛‬ ‫الزمان بالخصوص من أهم المه ّ‬
‫لستيلء الغفلة والجهل والعراض عن العلم والعمل على‬
‫مة الناس‪ ،‬فإن ساعدهم أهل العلم على ذلك بالسكوت‬ ‫عا ّ‬
‫م الضرر‪ .‬وذلك‬ ‫عن التعليم والتذكير غلب الفساد‪ ،‬وع ّ‬
‫دين‪ ،‬وسكوت العلماء عن‬ ‫مشاهد لهمال العامة أمر ال ّ‬
‫تعليمهم وتعريفهم‪ ،‬فل حول ول قوة إل بالله !‬
‫***‬
‫م إن من آكد الوظائف والداب في حقّ العالم‪ :‬أن يكّلم‬ ‫ث ّ‬
‫الناس بفعله قبل قوله‪ ،‬وأن ل يأمرهم بشيء من الخير إل‬
‫ويكون من أحرصهم على فعله والعمل به‪ ،‬ول ينهاهم عن‬
‫دهم تركا ً‬‫شيء من الشّر إل يكون من أبعدهم عنه وأش ّ‬
‫ه الله والدار‬ ‫له‪ ،‬وأن يكون مريدا ً بعلمه وعمله وتعليمه وج َ‬
‫ل أو ولية أو‬ ‫الخرة فقط‪ ،‬دون شيء آخر من جاهٍ أو ما ٍ‬
‫شيء من أعراض الدنيا‪ ،‬قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه‬
‫ه الله‬
‫ما ُيبت ََغى به وج ُ‬ ‫وآله وسّلم‪ )) : -‬من طلب علما ً ِ‬
‫م ّ‬
‫ي به العلماَء أو ليماريَ به السفهاَء‪ ،‬أو‬
‫ليباه َ‬
‫‪109‬‬
‫) ‪(1/109‬‬

‫ليصرف به وجوه الناس إليه؛ لقي الله وهو عليه‬


‫غضبان (( ‪.‬‬
‫م انفعنا بما عّلمتنا‪ ،‬وعّلمنا ما ينفعنا‪ ،‬وزِد َْنا علمًا‪،‬‬
‫الله ّ‬
‫والحمد لله على كل حال‪ ،‬ونعوذ بالله من أحوال أهل‬
‫النار‪.‬‬

‫***‬

‫‪110‬‬
‫) ‪(1/110‬‬
‫************‬
‫************‬
‫مبحث الصلة‬
‫************‬
‫************‬
‫) ‪(1/111‬‬

‫************‬
‫************‬
‫***‬
‫************‬
‫************‬
‫) ‪(1/112‬‬

‫مبحث الصلة‬
‫***********‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬فقهنا الله وإياكم في الدين‪،‬‬
‫وألهمنا رشدنا‪ ،‬وأعاذنا من شر أنفسنا‪ ،‬أن الصلة عماد‬
‫الدين‪ ،‬وأجل مباني السلم الخمس بعد الشهادتين‪.‬‬
‫ومحلها من الدين محل الرأس من الجسد‪ ،‬فكما أنه ل‬
‫حياة لمن ل رأس له‪ ،‬فكذلك ل دين لمن ل صلة له‪،‬‬
‫كذلك ورد في الخبار‪.‬‬
‫جعلنا الله وإياكم من المحافظين على الصلة‪ ،‬المقيمين‬
‫لها‪ ،‬الخاشعين فيها‪ ،‬الدائمين عليها‪ ،‬فبذلك أمر الله عباده‬
‫المؤمنين في كتابه‪ ،‬وبه وصفهم فقال عز من قائل‪:‬‬
‫موا ْ ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫س َ‬
‫طى وَُقو ُ‬ ‫صل َةِ ال ْوُ ْ‬
‫ت وال ّ‬
‫وا ِ‬‫صل َ َ‬
‫ظوا ْ عََلى ال ّ‬
‫حافِ ُ‬ ‫) َ‬
‫ن (]البقرة‪.[238:‬‬ ‫َقان ِِتي َ‬
‫فالصلوات هي المكتوبات الخمس ‪ :‬الظهر‪ ،‬والعصر‪،‬‬
‫والمغرب‪ ،‬والعشاء‪ ،‬والصبح ‪ .‬فتلك هي الصلوات التي ل‬
‫يسع أحدا ً من المسلمين ترك شيء منها في حال من‬
‫الحوال ما دام يعقل‪ ،‬ولو بلغ به العجز والمريض إلى‬
‫أقصى غاياته‪.‬‬
‫والصلة الوسطى‪ :‬هي العصر كما ورد به الحديث‬
‫‪113‬‬
‫) ‪(1/113‬‬

‫الصحيح خصها الله بالذكر لزيادة الفضل والشرف‪ ،‬وذلك‬


‫معروف ومشهور في السلم‪ ،‬حتى بلغنا في سبب نزول‬
‫الرخصة في صلة الخوف‪ :‬أن المسلمين كانوا مع رسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬في بعض الغزوات‪،‬‬
‫فصل بهم عليه الصلة والسلم صلة الظهر على الوجه‬
‫المعهود‪ ،‬وكان المشركون قريبا ً منهم يرونهم‪ ،‬فلما فرغوا‬
‫من صلتهم قال بعض المشركين ‪ :‬لو أغرتم عليهم وهم‬
‫في صلتهم لصبتموهم‪ ،‬فقال بقية المشركين ‪ :‬إن لهم‬
‫بعد هذه الصلة صلة ً هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم ‪-‬‬
‫يعنون العصر ‪ -‬فنزل جبريل على رسول الله ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪ -‬بصلة الخوف‪ .‬فانظر كيف صار فضل‬
‫هذه الصلة ‪ -‬أعني العصر ‪ -‬معلوما ً حتى للمشركين‪.‬‬
‫صَلةَ وََل ت َ ُ‬ ‫َ‬
‫كوُنوا‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ن إ ِل َي ْهِ َوات ُّقوهُ وَأِقي ُ‬ ‫مِنيِبي َ‬ ‫وقال تعالى(‪ُ ):‬‬
‫ن(]الروم‪.[31:‬‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ِ‬
‫فالنابة‪ :‬هي الرجوع إلى الله‪ ،‬والتقوى‪ :‬هي الخشية من‬
‫الله‪ ،‬والقامة للصلة‪ :‬هي التيان بها على الوجه الذي أمر‬
‫الله به‪.‬‬
‫َ‬
‫صَلت ِهِ ْ‬
‫م‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن*ال ّ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ح ال ْ ُ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬قَد ْ أفْل َ َ‬
‫م‬
‫ن هُ ْ‬ ‫ن*َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫ن الل ّغْوِ ُ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن*َوال ّ ِ‬ ‫شُعو َ‬ ‫خا ِ‬‫َ‬
‫ن*إ ِّل عََلى‬ ‫ظو َ‬ ‫حافِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫جه ِ ْ‬ ‫م ل ُِفُرو ِ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن*َوال ّ ِ‬ ‫عُلو َ‬ ‫كاةِ َفا ِ‬ ‫ِللّز َ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫ن*‬ ‫مي‬ ‫لو‬‫م ُ‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫ي‬‫أ َزواجهم أو ما مل َك َت أ َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ِ ِ ْ ْ َ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ك فَأوْل َئ ِ َ‬ ‫اب ْت ََغى وََراء ذ َل ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬
‫‪114‬‬
‫) ‪(1/114‬‬
‫م‬ ‫ن*َوال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن*َوال ّ ِ‬ ‫ال َْعا ُ‬
‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫عو َ‬‫م َرا ُ‬ ‫م وَعَهْدِهِ ْ‬ ‫ماَنات ِهِ ْ‬‫م ِل َ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫دو َ‬
‫ن(]المؤمنون‪.[9-1:‬‬ ‫ظو َ‬ ‫حافِ ُ‬ ‫م يُ َ‬ ‫وات ِهِ ْ‬‫صل َ َ‬‫عََلى َ‬
‫م‬‫صَلت ِهِ ْ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫ن هُ ْ‬‫ذي َ‬‫ن*ال ّ ِ‬ ‫صّلي َ‬ ‫م َ‬ ‫وقال تعالى ‪ ) :‬إ ِّل ال ْ ُ‬
‫ن(]المعارج‪.[23-22:‬‬ ‫مو َ‬ ‫دائ ِ ُ‬
‫َ‬
‫فاستثناهم من نوع النسان المخلوق على الهلع والجزع‬
‫عند مس الشر له‪ ،‬والمنع عند مس الخير له‪ ،‬كأنه سبحانه‬
‫يقول ‪ :‬أن المصلين على الحقيقة ليسوا ممن يهلع ويجزع‬
‫ويمنع ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لن هذه الوصاف من المنكر‪ ،‬وقد قال تعالى‪:‬‬
‫منك َرِ وَل َذِك ُْر‬ ‫َ‬
‫شاء َوال ْ ُ‬‫ح َ‬ ‫ن ال َْف ْ‬‫صلةَ ت َن َْهى عَ ِ‬
‫ن ال ّ َ‬ ‫صَلةَ إ ِ ّ‬ ‫)وَأقِم ِ ال ّ‬
‫الل ّهِ أ َك ْب َُر (]العنكبوت‪.[45:‬‬
‫فالمصلي المقيم للصلت كما أمر الله ورسوله‪ ،‬تنهاه‬
‫صلته عن فعل ما يكرهه الله منه‪ ،‬مثل هذه الصفات‬
‫المذكورة وغيرها من المكاره ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬صلوا كما رأيتموني‬
‫أصلي(( ‪.‬‬
‫فالمصلي على التباع والقتداء برسول الله ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪ -‬في صلته‪ ،‬على الوجه الذي نقلته علماء‬
‫المة من السلف والخلف رضي الله عنهم‪ :‬هو المصلي‬
‫المعدود عند الله من المقيمين للصلة والمحافظين عليها‪.‬‬
‫***‬
‫‪115‬‬
‫) ‪(1/115‬‬

‫ثم إن للصلة صورة ظاهرة‪ ،‬وحقيقة باطنة ل كمال‬


‫للصلة ول تمام لها إل بإقامتهما جميعا ً ‪ .‬فأما صورتها‬
‫الظاهرة‪ :‬فهي القيام‪ ،‬والقراءة‪ ،‬والركوع‪ ،‬والسجود‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك من وظائف الصلة الظاهرة‪ .‬وأما حقيقتها الباطنة‪:‬‬
‫فمثل الخشوع‪ ،‬وحضور القلب‪ ،‬وكمال الخلص‪ ،‬والتدبر‬
‫والتفهم لمعاني القراءة‪ ،‬والتسبيح‪ ،‬ونحو ذلك من وظائف‬
‫الصلة الباطنة‪.‬‬
‫فظاهر الصلة ‪ :‬حظ البدن والجوارح ‪ .‬باطن الصلة‪ :‬حظ‬
‫القلب والسر‪ ،‬بذلك محل نظر الحق من العبد ‪ -‬أعني‬
‫قلبه وسره‪.‬‬
‫قال المام الغزالي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ : -‬مثل الذي يقيم‬
‫صورة الصلة الظاهرة ويغفل عن حقيقتها الباظنة‪ ،‬كمثل‬
‫الذي يهدي لملك عظيم وصيفة ميتة ل روح فيها‪ .‬ومثل‬
‫الذي يقصر في إقامة ظاهر الصلة‪ ،‬كمثل الذي يهدي إلى‬
‫لملك وصيفة مقطوعة الطراف‪ ،‬مفقوءة العينين‪ ،‬فهو‬
‫والذي قلبه متعرضان من الملك بهديتهما للعقاب والنكال‪،‬‬
‫لستهانتهما بالحرمة‪ ،‬واستخفافهما بحق الملك‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫فأنت تهدي صلتك إلى ربك‪ ،‬فإياك أن تهديها بهذه الصفة‬
‫فتستوجب العقوبة‪ .‬انتهى بمعناه‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫) ‪(1/116‬‬

‫ومن المحافظة على الصلة والقامة لها ‪ :‬كمال الطهارة‬


‫والحتياط فيها في البدن والثواب والمكان‪ ،‬قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)) :‬الطهور مفتاح الصلة (( وفي الحديث‬
‫الخر‪)) :‬الطهور شطر اليمان ((‪.‬‬
‫وإسباغ الوضوء‪ :‬وتثليثه من غير وسوسة ول إسراف ‪،‬‬
‫فإن الوسوسة في الطهارة والصلة من عمل الشيطان‪،‬‬
‫يلبس بها على من قل علمه وضعف عقله‪ ،‬كما قال بعض‬
‫السلف‪ :‬الوسوسة من جهل بالسنة أو خبال في العقل‪.‬‬
‫ومذهب السلف في الطهارات هو المذهب المحمود‪ ،‬وفي‬
‫جميع الشياء‪ ،‬فإنهم القدوة‪ ،‬وبهم السوة‪ ،‬وتجديد‬
‫الوضوء لكل صلة من السنة‪ ،‬والدوام على الوضوء‬
‫مطلقا ً محبوب وفيه منافع كثيرة‪.‬‬
‫بلغنا‪ :‬أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلة والسلم‪ :‬إذا‬
‫أصابتك مصيبة وأنت على غير طهارة فل تلومن إل‬
‫نفسك‪.‬‬
‫وقد وردت الحاديث الصحيحة بأن من توضأ فأحسن‬
‫الوضوء خرجت جميع خطاياه من أعضائه‪ ،‬ودخل في‬
‫الصلة نقيا ً من الذنوب‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المحافظة على الصلة ‪ ،‬والقامة لها‪ :‬المبادرة بها‬
‫في أول موقيتها‪ ،‬وفي ذلك فضل عظيم‪ .‬وهو دليل على‬
‫محبة الله تعالى وعلى المسارعة في مرضاته ومحاّبه‪،‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم‬
‫‪117‬‬
‫) ‪(1/117‬‬

‫‪)) :‬أول الوقت رضوان الله‪ ،‬وأخره عفو الله‪ ،‬وإن العبد‬
‫ليصلي الصلة ولم يخرجها من وقتها‪ ،‬ولما فاته من أول‬
‫الوقت خير له من الدنيا وما فيها((‪ .‬وقبيح بالمؤمن أن‬
‫يدخل عليه وقت صلته وهو على شغل من أشغال الدنيا‬
‫فل يتركه ‪ ،‬ويقوم إلى فريضته التي كتبها الله عليه‬
‫فيؤديها‪ ،‬ما ذلك إل من عظم الغفلة وقلة المعرفة بالله‪،‬‬
‫ومن ضعف الرغبة في الخرة‪.‬‬
‫***‬
‫وأما تأخير الصلة حتى وقتها أو يقع بعضها خارجه فغير‬
‫جائز وفيه إثم‪ .‬والذان والقامة من شعائر الصلة تتأكد‬
‫المحافظة عليهما‪ ،‬وفيهما طرد للشيطان‪ ،‬لقوله عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)):‬إذا نودي للصلة أدبر الشيطان((‬
‫الحديث‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المحافظة على الصلة والقامة لها‪ :‬حسن الخشوع‬
‫فيها‪،‬وحضور القلب وتدبير القراءة‪ ،‬وفهم معانيها‪،‬‬
‫واستشعار الخضوع والتواضع لله عند الركوع والسجود‪،‬‬
‫وامتلء القلب بتعظيم الله وتقديسه عند التكبير‪،‬‬
‫والتسبيح‪ ،‬وفي سائر أجزاء الصلة‪ ،‬ومجانبة الفكار‬
‫والخواطر الدنيوية‪ ،‬والعراض عن حديث النفس في ذلك‪،‬‬
‫بل يكون‬
‫‪118‬‬
‫) ‪(1/118‬‬

‫م في الصلة مقصورا ً على إقامتها وتأديتها كما أمر‬ ‫اله ّ‬


‫الله ‪ .‬فإن الصلة مع الغفلة وعدم الخشوع والحضور ل‬
‫حاصل لها ول نفع فيها‪.‬‬
‫قال الحسن البصري ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬كل صلة ل يحضر‬
‫فيها القلب فهي إلى العقبة أسرع‪.‬‬
‫وفي الحديث‪)):‬ليس للعبد من صلته إل ما عقل منها‪،‬‬
‫وإن المصلي قد يصلي الصلة فل يكتب له منها سدسها‬
‫ول عشرها((‪ ،‬أعني‪:‬أنه يكتب له منها القدر الذي كان فيه‬
‫حاضرا ً مع الله وخاشعا ً له‪ ،‬وقد يقل ذلك وقد يكثر‬
‫بحسب الغفلة والنتباه‪ .‬فالحاضر الخاشع في جميع‬
‫الصلة تكتب له صلته كلها‪ .‬والغافل اللهي في جميع‬
‫صلته ل يكتب له شيء منها‪.‬‬
‫فاجتهد ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬في الخشوع‪ ،‬والحضور في الصلة‪،‬‬
‫وتدبر ما تقرؤه من كلم ربك في صلتك‪ ،‬ول تعجل إذا‬
‫قرأت‪ ،‬فإنه ل تدبر مع العجلة‪.‬‬
‫***‬
‫وإذا ركعت وسجدت فاطمئن‪ .‬ول تنقر الصلة نقر الديك‪،‬‬
‫فل تصح صلتك‪ .‬وذلك لن الطمأنينة في الركوع‬
‫والعتدال منه‪ ،‬وفي السجدتين وفي الجلوس بينهما‪،‬‬
‫واجبة ل بد منها في الفرض والنفل‪ ،‬تبطل الصلة‬
‫‪119‬‬
‫) ‪(1/119‬‬

‫بتركها‪ ،‬والذي ل يتم ركوعه وسجوده وخشوعه في صلته‬


‫هو الذي يسرق الصلة‪ ،‬كما ورد به الحديث ‪.‬‬
‫وورد‪ :‬أن من حافظ على الصلة وأتمها تخرج صلته‬
‫بيضاء مسفرة‪ .‬تقول ‪ :‬حفظك الله كما حفظتني ‪ .‬والذي‬
‫ل يتم الصلة تخرج صلته سوداء مظلمة‪ ،‬تقول ‪ :‬ضيعك‬
‫الله كما ضيعتني‪ ،‬ثم تلف كم يلف الثوب الخلق فيضرب‬
‫بها وجهه‪ .‬وفي الحديث‪)) :‬إنما الصلة تمسكن وتخضع‬
‫وتخشع((‪.‬‬
‫ولما رأى عليه الصلة والسلم الرجل الذي يعبث بلحيته‬
‫في صلته قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬لو خشع قلب هذا‬
‫لخشعت جوارحه ((‪.‬‬
‫فبين أن خشوع الجوارح من خشوع القلب‪ ،‬وأنه ل كمال‬
‫للصلة بدون ذلك‪ .‬وقد قال السلف ‪ -‬رضوان الله تعالى‬
‫عليهم ‪ :-‬من عرف من على يمينه وشماله وهو في‬
‫الصلة فليس بخاشع‪.‬‬
‫وقد بلغ الخشوع في الصلة برجال من السلف الصالح‬
‫مبلغا ً عجيبًا‪ ،‬فمن ذلك ‪ :‬أن أحدهم كان يقع عليه الطير‬
‫وهو قائم في الصلة أو ساجد يحسب أنه حائط أو جماد‬
‫من شدة هدوئه وطول قيامه وسجوده‪ .‬وسقطت في‬
‫جامع البصرة أسطوانة انزعج لسقوطها أهل السوق‪،‬‬
‫وكان بعضهم يصلي في المسجد فلم يشعر بها من شدة‬
‫استغراقه في صلته ‪ .‬وكان‬
‫‪120‬‬
‫) ‪(1/120‬‬

‫بعضهم يقول لهله وأولده‪ :‬إذا دخلت في الصلة فافعلوا‬


‫ما بدا لكم ‪ -‬يعني من رفع الصوات وكثرة اللغط ‪ -‬فإني‬
‫ل أحس بكم‪ .‬فكونوا ربما يضربون بالدف عنده فل يشعر‬
‫به‪.‬‬
‫واحترق بيت علي بن الحسين رضي الله عنهما بالنار وهو‬
‫ساجد‪ ،‬فجعلوا يصيحون عليه‪ :‬النار النار ياابن رسول‬
‫الله ! فلم يرفع رأسه‪ .‬فلما فرغ من صلته قيل له في‬
‫ذلك فقال‪ :‬ألهتني عنها النار الخرى‪.‬‬
‫وقيل لبعضهم‪ :‬هل تجد في صلتك ما نجده من وساوس‬
‫ي من ذلك‪.‬‬ ‫ب إل ّ‬‫ة أح ّ‬
‫ي السن ُ‬
‫الدنيا ؟ فقال‪ :‬لن تختلف ف ّ‬
‫دث نفسك في الصلة بشيء؟ فقال‪:‬‬ ‫وقيل لخر‪ :‬هل تح ّ‬
‫ث نفسي به‬ ‫وهل شيء أحب إلي من الصلة حتى أحد ّ َ‬
‫فيها !‬
‫وجاء السارق فسرق فرس الربيع بن خيثم وهو في‬
‫الصلة‪ ،‬فجعل الناس يدعون عليه‪ ،‬فقال الربيع‪ :‬لقد رأيته‬
‫حين أطلقه‪ .‬فقالوا‪ :‬لو طلبته فأخذته منه؟ فقال‪ :‬كانت‬
‫صلتي أحب إلى من الفرس‪ ،‬وهو منه في حل‪.‬‬
‫وصلى بعض أصحاب الرسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬في حائط نخل له‪ ،‬فجعلت الطير تطير من شجرة‬
‫إلى شجرة‪ ،‬وجعل ينضر إليها‪ ،‬فألهاه ذلك عن شيء من‬
‫صلته‪ ،‬فلما عرف ذلك من نفسه‪ ،‬شق عليه‪ ،‬فجعل ذلك‬
‫الحائط كله في سبيل الله لما إلهاه عن صلته‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫) ‪(1/121‬‬

‫قلت‪ :‬وهذا كله لمعرفة السلف الصالح رضي الله عنهم‬


‫بجللة قدر الصلة وعظم موقعها من الدين‪.‬‬
‫وقد بلغنا‪ :‬أن الله تعالى قسم أعمال الصلة على أربعين‬
‫ألف صف من الملئكة‪ ،‬في كل صف سبعون ألفًا‪ :‬عشرة‬
‫منها قيام ل يركعون‪ ،‬وعشرة منها ركوع ل يسجدون‪،‬‬
‫وعشرة سجود ل يرفعون‪ ،‬وعشرة قعود ل يقومون‪،‬‬
‫وجمع جميع ذلك لعبده المؤمن في ركعتين يصليهما‪:‬‬
‫فانظر عظم منته وفضله على عباده المؤمنين‪ ،‬وقد قال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)) :‬مثل الصلوات الخمس مثل نهر‬
‫غمر على باب أحدكم يقتحمه في كل يوم وليلة خمس‬
‫مرات‪ ،‬أفترون ذلك يبقي عليه من درنه شيئًا؟ قالوا‪ :‬ل‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬الصلة إلى الصلة كفارة‬
‫لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر((‪.‬‬
‫وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا حضر وقت‬
‫الصلة يقول‪ :‬قوموا إلى ناركم التي أوقدتموها فأطفئوها‪.‬‬
‫يريد بالنار الذنوب‪ ،‬وباطفائها القيام إلى الصلة‪ ،‬فإنه‬
‫صل َةَ‬ ‫َ‬
‫مكفر للسيئات ومذهب لها‪ ،‬قال تعالى )وَأقِم ِ ال ّ‬
‫ت ي ُذ ْهِب ْ َ‬
‫ن‬ ‫سَنا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫ل إِ ّ‬‫ن الل ّي ْ ِ‬‫م َ‬‫ي الن َّهارِ وَُزل ًَفا ّ‬
‫ط ََرفَ ِ‬
‫ن(]هود‪.[114:‬‬ ‫ري َ‬ ‫ك ذِك َْرى ِلل ّ‬
‫ذاك ِ ِ‬ ‫ت ذ َل ِ َ‬
‫سي َّئا ِ‬
‫ال ّ‬
‫وقد ورد أن هذه الية نزلت في رجل أصاب من امرأة ما‬
‫دون الزنا‪ ،‬وجاء إلى رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬يسأله أن يقيم عليه الحد‪ ،‬فلم يرد عليه حتى‬
‫أقيمت الصلة‪ ،‬فلما فرغ عليه‬

‫‪122‬‬
‫) ‪(1/122‬‬

‫الصلة والسلم من صلته استحضره فقرأ عليه هذه الية‪،‬‬


‫فقال الرجل‪ :‬اهذ لي خاصة أم للناس عامة؟ قال ‪)) :‬بل‬
‫هو للناس عامة((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وفيه دليل على أن الصغائر من السيئات تكفر‬
‫بالصلوات وغيرها من الحسنات‪ ،‬والتوبة منها ‪ -‬أعني‪:‬‬
‫الصغائر مع ذلك أتم وأحوط ‪.‬‬
‫قلت‪:‬ول حد على الرجل فيما أصابه من المرأة دون الزنا‪:‬‬
‫من القبلة واللمس ونحو ذلك‪ ،‬ولكنه حسب أن عليه في‬
‫ذلك حدًا‪ ،‬والله ورسوله أعلم‪.‬‬
‫ومن المحافظة على الصلة والقامة لها‪ :‬المداومة‬
‫والمواظبة على فعلها في الجماعة‪ ،‬وذلك لن الصلة في‬
‫الجماعة تفضل على صلة وحده بسبع وعشرين درجة‪،‬‬
‫كما ورد به الحديث الصحيح‪.‬فمن تساهل بهذا الربح‬
‫الديني الخروي الذي ل تعب في تحصيله ول مشقة في‬
‫نيله‪ ،‬فقد عظمت عن مصالح الدين غفلته‪ ،‬وقلت في أمر‬
‫الخرة رغبته‪ ،‬ول سيما وهو يعلم من نفسه كثرة ما‬
‫يتحمله من التعب‪ ،‬ويقاسي من المشاق في طلب ربح‬
‫الدنيا اليسير الحقير‪ ،‬وإذا حصل له منه شيء تافه بتعب‬
‫كثير نسي تعبه‪ ،‬وعد ما ناله من ربح الدنيا الفانية غنما ً‬
‫جسيمًا‪ .‬أفل يخشى من يعرف من نفسه هذه والوصاف‬
‫أن يكون عند الله من المنافقين‪ ،‬وفيما وعد الله به من‬
‫المتشككين!‬
‫‪123‬‬
‫) ‪(1/123‬‬

‫ولم يبلغنا في جملة ما بلغنا عن رسول الله ‪-‬صّلى الله‬


‫عليه وآله وسّلم‪ -‬أنه صلى منفردا ً ول صلة واحدة! وقال‬
‫ابن مسعود رضي الله عنه‪ :‬لقد رأيتنا وما يتخلف عنها ‪-‬‬
‫يعني صلة الجماعة ‪ -‬إل منافق معلوم النفاق‪ ،‬ولقد كان‬
‫الرجل يؤتى به على عهد رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬يهادى بين الرجلين من اِلكَبر حتى يقام في‬
‫والصف‪.‬‬
‫ولما شكا ابن أم مكتوم العمى إلى رسول الله ‪-‬صّلى‬
‫الله عليه وآله وسّلم‪ -‬أنه ل قائد له‪ ،‬وذكر له ما بالمدينة‬
‫يومئذٍ من البار والهوام‪ ،‬وبعد منزله عن المسجد ليعذره‬
‫عن المجيء لصلة الجماعة‪ ،‬فعذره بعد ذكره لهذه‬
‫الشياء كلها‪ .‬فلما قام وذهب دعاه عليه الصلة والسلم‬
‫فلما رجع إليه قال له‪)):‬هل تسمع حي على الصلة‪ ،‬حي‬
‫على الفلح((؟ فقال ‪ :‬نعم‪ .‬فقال له عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)):‬فهلم هل((‪ -‬يعني بذلك‪ :‬تعالى إلى الصلة فل‬
‫عذر لك‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من سمع النداء فارغا ً‬
‫صحيحا ً فلم يجب‪ ،‬فل صلة له((وقد هم عليه الصلة‬
‫والسلم بإحراق بيوت أقوام عليهم بالنار كانوا يتخلفون‬
‫عن الصلة في الجماعة‪ ،‬كذلك ورد في الحديث‪ :‬وهو‬
‫الغاية في التشديد والتهديد لمن يترك صلة الجماعة من‬
‫غير عذر صحيح ‪.‬‬
‫والعذر الصحيح‪ :‬هو الذي ل يمكن الحضور معه بوجه‬
‫‪124‬‬
‫) ‪(1/124‬‬

‫ما‪،‬وإن أمكن فبمشقة ظاهرة يعسر على أكثر الناس‬


‫تحملها‪ ،‬ومع ذلك فالحضور أفضل‪ ،‬ثواب فيه أكثر إل في‬
‫صور نادرة ‪ :‬مثل أن يكون عذره داء السهال المتواتر‪،‬‬
‫ويخشى لو حضر من تلويث المسجد‪ ،‬وما في معنى ذلك‪.‬‬
‫والعذر إنما معناه‪ :‬سقوط الحرج عن المعذور‪ .‬وقد‬
‫يحصل الثواب مع إسقاط الحرج لمن كان عذره صادقًا‪،‬‬
‫وهو يود أن لو استطاع‬
‫الحضور بأي ممكن‪ ،‬ويقع في قلبه لعدم حضوره حزن‬
‫وتعب على ما فاته من طاعة ربه وتعظيم حرماته‪ ،‬كما‬
‫قال عليه الصلة والسلم في بعض غزواته ‪)):‬إن أقواما ً‬
‫خلفنا بالمدينة ما سرنا مسيرًا‪ ،‬ول قطعنا واديا ً إل كانوا‬
‫معنا‪ ،‬حبسهم العذر‪ ((..‬الحديث‪.‬‬
‫ما‬
‫ذا َ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫وكأنهم هم الذين قال الله فيهم‪) :‬وَل َ عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أ َت َوْ َ‬
‫م عَل َي ْهِ ت َوَّلوا ْ وّأعْي ُن ُهُ ْ‬
‫م‬ ‫مل ُك ُ ْ‬
‫ح ِ‬
‫ما أ ْ‬ ‫ت لَأ ِ‬
‫جد ُ َ‬ ‫م قُل ْ َ‬‫مل َهُ ْ‬
‫ح ِ‬‫ك ل ِت َ ْ‬
‫حَزًنا(]التوبة‪.[92:‬‬ ‫مِع َ‬ ‫ن الد ّ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ض ِ‬ ‫ت َِفي ُ‬
‫ومن في معناهم من أهل الصدق والخلص‪ ،‬وقوة الرغبة‬
‫فيما عند الله ‪ ،‬وبذل النفس فما دونها في طلب مرضاته‪.‬‬
‫فإياك أن تتخلف عن صلة الجماعة لغير عذر ناجز يمكنك‬
‫أن تعتذر به بين يدي الله علم الغيوب! وإن بدا لك القعود‬
‫في بيتك لمر رأيت فيه خيرا ً وصلحا ً لك في دين أو دنيا‪،‬‬
‫فاخرج إلى المسجد أوقات الصلوات لتصليها في جماعة‪،‬‬
‫أو خذ إليك من يصلي معك في بيتك ولو واحدا ً حتى تسلم‬
‫من‬

‫‪125‬‬
‫) ‪(1/125‬‬

‫الحرج‪ ،‬وتفوز بالثواب‪ ،‬فإن الجماعة يحصل بإمام‬


‫ومأموم‪ ،‬وكلما كثروا كان أفضل‪.‬‬
‫وتزكو الصلة ويزيد ثوابها خلف الئمة من أهل الخير‬
‫والصلح‪ ،‬وترجح على اللة خلف من ليس بهذا الوصف‪.‬‬
‫فينبغي أن تتحرى وتجتهد أن تصلي خلف الئمة‬
‫المعروفين بالتقوى‪ ،‬وهذا من حيث الفضل والولى‪ ،‬وإل‬
‫فقد قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬صلوا خلف كل بر‬
‫وفاجر((‪.‬‬
‫وفي الشي إلى المسجد ل جل الصلة فيه‪ ،‬ثواب عظيم‪،‬‬
‫وردت به الخبار‪ ،‬حتى ورد أن كل خطوة يخطوها العبد‬
‫إلى المسجد تحسب له‪ ،‬وتكتب له في حسناته‪.‬‬
‫وانتظار الصلة بعد الصلة من القربات ‪ .‬ومثاله‪:‬أن تصلي‬
‫المغرب ثم تجلس في المسجد لجل العشاء حتى تصليها‪.‬‬
‫سواء كان ذلك انتظار صلة بعد صلة‪ ،‬أو سبق إلى‬
‫المسجد قبل أن تقام الصلة فقعد ينتظرها ‪.‬والذي يمكث‬
‫في محاه الذي صلى فيه‬
‫ل تزال الملئكة تستغفر له وتدعو له حتى يحدث‪ ،‬أو‬
‫يتكلم‪ .‬كل ذلك قد وردت به الخبار عن النبي ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪ ، -‬قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪)): -‬أل أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به‬
‫الدرجات‪:‬إسباغ الوضوء على المكاره‪،‬‬
‫وكثرة الخطى إلى المساجد‪ ،‬وانتظار الصلة بعد الصلة‪،‬‬
‫‪126‬‬
‫) ‪(1/126‬‬

‫فذلكم الرباط فذلكم الرباط ((‪ ،‬وقال عليه الصلة‬


‫والسلم ‪)):‬إنكم لن تزالوا في صلة ما انتظرتم الصلة((‪،‬‬
‫شر المشائين ألى‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )):‬ب ّ‬
‫المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة((‪.‬‬
‫وورد أن مشي النسان إلى المسجد يكتب له‪ ،‬ويجعل‬
‫الله له ثوابه‪ :‬خطوة يكفر بها عنه سيئة‪ ،‬وخطوة له يكتب‬
‫له بها حسنة‪ ،‬وخطوة يرفع له درجة‪ ،‬وكما يكتب له‬
‫ممشاه ألى المسجد كذلك يكتب له رجوعه من المسجد‬
‫ألى منزله ‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ل تزال الملئكة‬
‫تصلي على أحدكم ما دام في محّله الذي صلي فيه ما لم‬
‫يحدث أو يتكلم تقول‪ :‬اللهم اغفر له‪ ،‬اللهم ارحمه((‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المتأكد الذي ينبغي العتناء به‪ ،‬والحرص عليه‬
‫الملزمة للصف الول‪ ،‬والمداومة على الوقوف فيه لقوله‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)):‬لو يعلم الناس ما في الذان‬
‫والصف الول ثم لم يجدوا إل أن يستهموا عليه ل‬
‫ستهموا((‪ ،‬ومعنى الستهام‪ :‬القتراع‪.‬‬
‫ويحتاج من يقعد الصلة في الصف الول لفضله إلى‬
‫المبادرة قبل ازدحام الناس‪ ،‬وسبقهم ألى الصف الول‪،‬‬
‫فإنه مهما تأخر ثم أتى وقد سبقوه ربما يتخطى رقابهم‬
‫فيؤذيهم‪ ،‬وذلك محظور‪ ،‬ومن خشي ذلك فصلته في غير‬
‫‪127‬‬
‫) ‪(1/127‬‬

‫خره حتى‬ ‫الصف الول أولى به‪ .‬ثم يلوم نفسه على تأ ّ‬
‫يسبقه الناس إلى أوائل الصفوف‪ .‬وفي الحديث ‪)) :‬ل‬
‫خرهم الله((‪.‬‬ ‫خرون حتى يؤ ّ‬ ‫يزال أقوام يتأ ّ‬
‫***‬
‫ومن السنن المهمة المغفول عتها‪ :‬تسوية الصفوف‬
‫والتراص فيها‪ ،‬وقد كان عليه الصلة والسلم يتول فعل‬
‫لك بنفسه‪ ،‬ويكثر التحريض عليه والمر به ويقول‪:‬‬
‫))لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم((‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫))أني لرى الشياطين تدخل في خلل الصفوف((‪،‬ومعنى‬
‫بها الفرج التي تكون فيها‪ .‬فيستحب إلصاق المناكب مع‬
‫التسوية‪ ،‬بحيث ل يكون أحد متقدما ً على أحد ول متأخرا ً‬
‫عنه فذلك هو السنة‪ .‬ويتأكد العتناء بذلك‪ ،‬والمر به من‬
‫الئمة وهم به أولى من غيرهم من المسلمين‪ ،‬فإنهم‬
‫أعوان على البر والتقوى‪ ،‬وبذلك أمروا‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ْ َ‬ ‫)وَت ََعاوَُنوا ْ عََلى اْلبّر َوالت ّْق َ‬
‫وى وَل َ ت ََعاوَُنوا عَلى ال ِث ْم ِ‬
‫ن(]المائدة‪.[2/5:‬‬ ‫َوال ْعُد َْوا ِ‬
‫فعليك ‪ -‬رحمك الله تعالى ‪ -‬بالمبادرة إلى الصف الول‪،‬‬
‫وعليك برص الصفوف وتسويتها ما استطعت‪ ،‬فإن هذه‬
‫سنة ميتة من سنن رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪، -‬ومن أحياها كان معه في الجنة‪ .‬كما ورد‪.‬‬
‫***‬
‫‪128‬‬
‫) ‪(1/128‬‬

‫واعلمو أن من أهم المهمات‪ :‬ملزمة الصلوات في‬


‫الجماعة كما تقدم‪ ،‬وهو أعني حضور الجماعة‪ ،‬وفي صلة‬
‫ل‪ ،‬لقوله عليه الصلة‬‫العشاء والصبح أشد تأكدا ً وأكثر فض ً‬
‫والسلم ‪)) :‬من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام‬
‫نصف الليل‪ .‬ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام‬
‫الليل كله((‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬فرق ما بيننا‬
‫وبين المنافقين أنهم ل يسطيعون حضور العشاء والصبح‬
‫في الجماعة ((الحديث‪.‬‬
‫وورد أن ‪)):‬من صلى العشاء في جماعة كان في ذمة الله‬
‫حتى يصبح‪ .‬ومن صلى الصبح في جماعة كان في ذمة‬
‫الله حتى يمسي((‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬فل يطلبنكم الله بشيء من‬
‫ذمته((‪ ،‬ينهى عن التعرض لمن هو في ذمة الله بشيء‬
‫من السوء‪.‬‬
‫وقد بلغنا‪:‬أن الحجاج مع جوره وظلمه وتعديه لحدود الله‬
‫كان يسأل كل من يؤتي به نهارا ً ‪ :‬هل صليت الصبح في‬
‫جماعة؟ فإن قال ‪:‬نعم ‪ .‬خلى سبيله‪ ،‬مخافة أن يطلبه‬
‫الله بشيء من ذمته‪.‬‬
‫***‬
‫وإذ قد عرفت من قبل ما ورد عن الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم من التشديدات في ترك الجماعة من غير عذر‬
‫صحيح ‪.‬فاعلم وتحقق أن المتخلف عن صلة الجماعة‬
‫بذلك الوعيد‬
‫‪129‬‬
‫) ‪(1/129‬‬

‫أحق‪ ،‬والتشديد عليه في تركها أعظم‪ ،‬وذلك لنها فرض‬


‫عين بالجماع‪ .‬وقد قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من ترك‬
‫ثلث جمع من غير عذر طبع الله على قلبه((‪ .‬وسئل ابن‬
‫عباس رضي الله عنهما عن رجل يقوم الليل ويصوم‬
‫النهار‪ ،‬ولكنه ل يحضر الجمة والجماعة فقال‪ :‬هو في‬
‫النار‪.‬‬
‫وليس يسع مؤمنا ً أن يترك الجمعة من غير عذر وهو‬
‫َ‬
‫ذا ُنوِدي‬ ‫مُنوا إ ِ َ‬
‫نآ َ‬ ‫يسمع قول الله تعالى ‪َ):‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫وا إ َِلى ذِك ْرِ الل ّهِ وَذ َُروا ال ْب َي ْ َ‬
‫ع‬ ‫سعَ ْ‬‫معَةِ َفا ْ‬ ‫من ي َوْم ِ ال ْ ُ‬
‫ج ُ‬ ‫صَلةِ ِ‬‫ِلل ّ‬
‫ن(]الجمعة‪.[9/62:‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫م ِإن ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫خي ٌْر ل ّك ُ ْ‬ ‫ذ َل ِك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫ثم إنك ترى أقواما ً يدعون السلم واليمان‪ ،‬ويسمعون‬
‫كلم الله تعالى ‪ ،‬وكلم رسوله‪ ،‬يتخلفون عن الجماعة‬
‫بغير عذر‪ ،‬أو بعذر فاسد ل يصح كونه عذرا ً عند الله وعند‬
‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬تسقط به‬
‫الفرائض اللزمة‪.‬‬
‫وقد أسلفنا أن العذر المرخص في ترك الجماعة هو الذي‬
‫ل يمكن‬
‫الحضور معه‪ ،‬وإن أمكن فمبشقة شديدة ل يسهل‬
‫احتمالها‪ ،‬ويكاد يتعذر في العادة ‪ ،‬وهذا في الجماعة أولى‬
‫وأولى! فل يتخلف عنهما لغير عذر صحيح إل منافق‬
‫مرتاب‪ ،‬قد أخطأ الحق والصواب‪ ،‬وخرجت من قلبه أنوار‬
‫التعظيم لله العظيم‪ ،‬ولحقوق ربوبيته التي ل عز للعبد‪ ،‬ول‬
‫شرف له ول سعادة‪ ،‬ول فلح في الدنيا والخرة‪ ،‬إل في‬
‫القيام بها‪ ،‬والملزمة لها‪ ،‬والمداومة عليها‪.‬بل ل نجاة ول‬
‫سلمة له من عذاب الله وسخطه إل في القيام بها‪،‬‬
‫والمحاظة عليها‪ .‬فانظر كيف‬

‫‪130‬‬
‫) ‪(1/130‬‬

‫يزهد هذا العبد السوء في سعادة نفسه وفلحها‪ ،‬ثم ل‬


‫يبالي بخسرانها وهلكها حتى يترك حقوق الله‪ ،‬وما أوجبه‬
‫عليه من فرائضه! نسأل الله العافية والسلمة‪ ،‬ونعوذ به‬
‫من درك الشقاء والسوؤ القضاء‪.‬‬
‫ثم أعلم أن الحضور إلى الجمعة مع العذر الصحيح الذي‬
‫يمكن الحضور معه أفضل‪ ،‬ويدل من صاحبه على كمال‬
‫التعظيم لله ولحوقه‪ ،‬وعلى تمام‬
‫الرغبة فيها عند الله من الثوابه‪ ،‬وشدة الرهبة من سخطه‬
‫وعقابه‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم ‪ -‬أسعدك الله ‪ -‬أن يوم الجمعة سيد اليام‪ ،‬وله‬
‫شرف عند الله عظيم‪ ،‬وفيه خلق الله آدم عليه السلم ‪،‬‬
‫وفيه يقيم الساعة‪ ،‬وفيه يأذن الله أهل الجنة في زيارته‪.‬‬
‫والملئكة تسمي يوم الجمعة‪:‬يوم المزيد‪ ،‬لكثرة ما يفتح‬
‫الله فيه من أبواب الرحمة‪ ،‬ويفيض من الفضل‪ ،‬ويبسط‬
‫من الخير‪.‬‬
‫وفي هذا اليوم ساعة شريفة يستجاب فيها الدعاء مطلقًا‪،‬‬
‫وهي مبهمة في جميع اليوم‪ ،‬كما قاله المام الغزالي ‪-‬‬
‫رحمه الله ‪ -‬وغيره‪.‬‬
‫فعليك في هذا اليوم بملزمة العمال الصالحة‪ ،‬والوظائف‬
‫الدينية‪ ،‬ول تجعل لك شغل ً بغيرها إل أن يكون‬
‫‪131‬‬
‫) ‪(1/131‬‬

‫شغل ً ضروريا ً لبد منه‪ ،‬فإن هذا اليوم للخرة خصوصًا‪،‬‬


‫وكفى بشغل بقية اليام بأمر الدنيا غبنا ً وإضاعة! وكان‬
‫ينبغي للمؤمن أن يجعل جميع أيامه ولياليه مستغرقة‬
‫بالعمل لخرته‪،‬‬
‫فإذا لم يتيسر له ذلك‪ ،‬وعوقته عنه أشتغال دنياه فل أقل‬
‫له من التفلغ في هذا اليوم لمور الخرة‪.‬‬
‫***‬
‫ومن السنة ‪ :‬قراءة سورة الكهف‪ ،‬والكثار من الصلة‬
‫على النبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬في يوم الجمعة‬
‫وليلتها‪ .‬فعليك بذلك‪ ،‬وبالبكور إلى الجمعة‪ ،‬وأقل ذلك أن‬
‫تروح قبيل الزوال أو معه‬
‫وليس من السنة تأخير صلة الجمعة حتى يمضي نصف‬
‫الوقت أو نحوه‪ ،‬بل السنة أن تصلى أول وقت الظهر كما‬
‫كان عليه الصلة والسلم يفعل ذلك‪.‬‬
‫وكن ‪ -‬رحمهالله ‪ -‬حسن الصغاء والستماع إلى الخطبة‬
‫والوعظ‪ ،‬واتعظ بما تسمعه‪ ،‬واستشعر في نفسك أنك‬
‫مقصود ومخاطب بذلك‪.‬‬
‫***‬
‫ومن البدع المنكرات‪ :‬تأخر بعض أهل السواق والحرف‬
‫من الذين تجب عليهم الجماعة عن المجيء إليها‪.‬‬
‫ويجب على ولة المور أن يحماوهم على ذلك‪ ،‬ويعاقبوا‬

‫‪132‬‬
‫) ‪(1/132‬‬

‫من تخلف منهم عن الجمعة بعد التعرف والنذار‪.‬ول‬


‫رخصة لولة المور في ترك ذلك وما يجري مجراه‪.‬وما‬
‫ولهم الله أمر عباده إل ليقيموا فيهم شعائر دينه‪،‬‬
‫ويحملوهم على إقامة فرائضه واجتناب محارمه‪ .‬وما‬
‫ترتب من المصالح الدنيوية‬
‫على وجود الولة فهو تبع لذلك ول حق به ‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫***‬
‫ومن تمام المحافظة على الصلوات‪ :‬حسن المحافظة‬
‫على رواتبها وسننها التي ندب الشارع عليه الصلة‬
‫والسلم إلى فعلها قبل الصلة وبعدها‪ ،‬وذلك لن النوافل‬
‫جوابر للفرائض كما ورد‬
‫فإذا وقع في الفريضة نقص واختلل بسبب قلة خشوع أو‬
‫حضور قلب أو غير ذلك كانت النوافل متممات لذلك‬
‫النقصان‪ ،‬ومصلحات لذلك الختلل‪ .‬ومن لم تكن له نافلة‬
‫بقيت فريضته ناقصة‪ ،‬وفاته الثواب العظيم الموعود به‬
‫على فعل تلك النوافل‪.‬وقد ورد‬
‫‪:‬أن أول شيء يحاسب عليه العبد الصلة‪ .‬فإذا وجدت‬
‫ناقصة يقال‪ :‬أنظروا‪ ،‬هل له من نافلة تكمل بها صلته‪.‬‬
‫وهذه الرواتب معروفة ومشهورة‪ ،‬تغني شهرتها عن‬
‫ذكرها‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المتأكد فعله والمواظبة عليه‪ :‬صلة الوتر‪،‬قال‬
‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬إن الله وتر‬
‫يحب الوتر‪ ،‬فأوتروا يا أهل القرآن((‪.‬‬
‫وكل مسلم يعد من أهل القرآن لنه مؤمن به‪،‬‬
‫‪133‬‬
‫) ‪(1/133‬‬

‫ومطالب بالعمل بما فيه‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬


‫))الوترحق‪ ،‬فمن لم يوتر فليس منا((‪ .‬وأكثر صلة الوتر‬
‫إحدى عشرة ركعة‪ ،‬وأقلها‬
‫ركعة واحدة‪ ،‬ول ينبغي القتصار عليها‪ ،‬ول بأس بالقتصار‬
‫على ثلث‪.‬‬
‫ومن أوتر بثلث كان المستحب له أن يقرأ في الولى بعد‬
‫ل َيا أ َي َّها‬‫ك اْل َعَْلى(‪ ،‬وفي الثانية‪) :‬قُ ْ‬
‫م َرب ّ َ‬
‫س َ‬
‫حا ْ‬
‫سب ّ ِ‬
‫الفاتحة‪َ ) :‬‬
‫ن( والمعوذتين‪ .‬ومن أوتر بأكثر من ثلث قرأ فيما‬ ‫ال ْ َ‬
‫كافُِرو َ‬
‫قبل الثلث الذي يتيسر من القرآن‪ ،‬وكلما طال وكُثر كان‬
‫دم ذكره‪.‬‬
‫أفضل‪ ،‬وقرأ في الثلث ما تق ّ‬
‫واليتار من آخر الليل أفضل لمن كانت له عادة في القيام‬
‫بحيث ل يفوته إل ناردًا‪ ،‬ون ليس كذلك فإيتاره قبل أن‬
‫ينام‬
‫خير له وأحوط‪ ،‬ومهما أوتر قبل نومه‪ ،‬ثم استيقظ من‬
‫الليل وقصد أن يصلي فليصل ما بداله ‪ ،‬ووتره الول‬
‫كافيه‪.‬‬
‫***‬
‫ومن السنة‪ :‬المحافظة على صلة الضحى‪ ،‬وأقلها ركعتان‪،‬‬
‫وأكثرها ثمان ركعات‪.‬وقيل ‪:‬أثنتا عشرة‪.‬وفضلها كبير‪.‬‬
‫ووقتها الفضل‪ :‬أن تصلى عند مضي قريب من ربع النهار‪،‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬يصبح على كل سلمى‬
‫‪134‬‬
‫) ‪(1/134‬‬
‫من أحدكم صدقة‪ ،‬وكل تسبيحة صدقة ‪ ،‬وكل تكبيرة‬
‫صدقة‪ ،‬وأمر بالمعروف صدقة‪ ،‬وكل تهليلة صدقة‪ ،‬ونهي‬
‫عن المنكر صدقة‪ ،‬ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من‬
‫الضحى((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من حافظ على شفعة‬
‫الضحى غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد‬
‫البحر((و))الشفعة((‪ :‬هي الركعتان‪ ،‬و))السلمى((‪ :‬هو‬
‫المفصل‪ ،‬وفي كل إنسان ثلثمائة وستون مفصل ً بعدد‬
‫أيام السنة ‪.‬‬
‫وتسمى صلة الضحى صلة الوبين‪ ،‬كالصلة بين‬
‫العشاءين‪ .‬و))الواب(( هو الرجاع إلى الله في أوقات‬
‫الغفلة ‪ .‬وهذان الوقتان ‪ -‬أعني وقت صلة الضحى‪ ،‬وما‬
‫بين العشاءين ‪ -‬من أوقات الغفلة‪.‬‬
‫أما الول‪ :‬فلكباب الناس فيه على المعايش والمكاسب‬
‫الدنيوية‪.‬‬
‫وأما الثاني ‪:‬فل شتغال الناس فيه بالرجوع إلى المنازل‬
‫وتناول الطعمة‪ .‬فمن رجع إلى الله واستيقظ لطاعته في‬
‫هذه الوقات كان عنده بمكان ‪.‬‬
‫ومن المستحب‪ :‬صلة التسبيح وهي أربع ركعات‪ .‬وقد‬
‫وردت الخبار بفضلها‪،‬وأن من صلها غفر الله له ما تقدم‬
‫من ذنوبه وما تأخر‪ .‬وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫لعمه العباس رضي الله عنه حين‬
‫‪135‬‬
‫) ‪(1/135‬‬

‫علمه إياها ‪)):‬صلها في كل يوم‪ ،‬أو في كل جمعة‪ ،‬أو في‬


‫كل شهر‪ ،‬أو في كل سنة‪ ،‬أو في العمر مرة((الحديث ‪.‬‬
‫قال بعض العلماء ‪ -‬رحمة الله عليهم ‪ : -‬وهذاه الصلة‬
‫مجربة لقضاء الحوائج المهمة‪.‬وقال بعضهم ‪:‬إذا صليت‬
‫ليل ً‬
‫كان الذي ينبغي أن تصلى بتحرمين وتشهدين وتسليمتين‪:‬‬
‫ركعتين بعد ركعةين ‪, .‬أن صليت نهارا ً فبتحرم واحد‬
‫وتشهد واحد ‪:‬‬
‫أربع ركعات جماة واحدة‪.‬ولها كيقيتان‪:‬‬
‫والولى ‪:‬أن تحرم ثم تقرأ دعاء الفتتاح‪ ،‬ثم تقول ‪:‬سبحان‬
‫الله والحمد لله ‪،‬ول إله أل الله ‪ ،‬والله أكبر) خمس عشرة‬
‫مرة(‪ ،‬ثم تقرأ الفاتحة وسورة بعدها‪ ،‬ثم تقولها )عشرًا( ‪،‬‬
‫ثم تركع فتقولها )عشرًا(‪ ،‬ثم ترفع فتقولها )عشرًا(ثم‬
‫تسجد فتقولها )عشرًا(‪ ،‬ثم ترفع من السجود فتقولها‬
‫)عشرًا(‪ ،‬ثم تسجد فتقولها )عشرا ً (‪ .‬ثم تقوم إلى الثانية‬
‫فتقولها قبل القراءة )خمس عشرة(‪.‬وعلى هذا السبيل‬
‫إلى آخر الصلة ‪.‬‬
‫والكيفية الثانية‪ :‬مثل الولى‪ ،‬غير أنك ل تسبح بين التحرم‬
‫والقراءة‪ ،‬بل بعدها تسبيح )خمس عشرة(ثم تركع‬
‫فتقولها)عشرًا( وعلى ذلك السياق في الركان )عشرا ً‬
‫‪،‬عشرًا(وتبقى )عشر( فتقولها بعد الرفع من السجود‬
‫الثاني ‪ ،‬إما قبل القيام وأما بعده وقبل القراءة‪ ،‬فافهم ‪.‬‬
‫وفي كل ركعة خمس وسبعون تسبيحة ‪ ،‬والجملة ثلثمائة‬
‫في أربع ركعات‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫) ‪(1/136‬‬

‫قال العلماء‪ :‬ويأتي بأذكار الركوع والعتدال والسجود‬


‫والجلوس قبل التسبيحات‪ ،‬ومن نسي التسبيحات أو‬
‫بعضها في ركن أتى بها في الذي بعده‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وينبغي للمتنسك أن ل يدع هذه الصلة في كل‬
‫أسبوع‪ ،‬أو في كل شهر وذلك أقله‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المستحب المتأكد ‪ :‬إحياء ما بين العشاءين بصلة‬
‫وهو الفضل‪ ،‬أو تلوة قرآن أو ذكر لله تعالى ‪ :‬من تسبيح‬
‫أو تهليل‬
‫أو نحو ذلك‪ .‬قال النبي عليه الصلة والسلم ‪)):‬من صلى‬
‫بعد المغرب ست ركعات ل يفصل بينهن بكلم عدلن له‬
‫عبادة اثنتي عشرة سنة((‪.‬‬
‫وورد أيضا ً ‪ :‬أن من صلى بين المغرب والعشاء عشرين‬
‫ركعة بني له بيت في الجنة‪.‬‬
‫وبالجملة‪ :‬فهذا الوقت من أشرف الوقات وأفضلها‪،‬‬
‫فتتاكد عمارته بوظائف الطاعات ومجانبة الغفلت‬
‫والبطالت وورد كراهة النوم قبل صلة العشاء‪ ،‬فاحذر‬
‫منه وهو من عادة اليهود‪ .‬وفي الحديث ‪)) :‬من نام قبل‬
‫صلة العشاء الخرة فل أنام الله عينه((‪.‬‬
‫***‬
‫‪137‬‬
‫) ‪(1/137‬‬

‫وحافظ على أربع ركعات بعد صلة العشاء‪ ،‬فإن فيها‬


‫فضل كثيرا ً لقوله عليه الصلة والسلم ‪)):‬أربع بعد العشاء‬
‫كمثلهن من ليلة القدر((‬
‫والركعة في ليلة القدر تعدل ثلثين ألف ركعة في غيرها‬
‫من الليالي وهذا مفهوم بالحساب من قوله تعالى‪):‬ل َي ْل َ ُ‬
‫ة‬
‫خير م َ‬
‫ر(]القدر‪.[3/97:‬فتأمله‪.‬‬ ‫شه ْ ٍ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أل ْ ِ‬ ‫ال َْقد ْرِ َ ْ ٌ ّ ْ‬
‫ويكره الحديث والكلم بعد صلة العشاء كراهة شديدة إل‬
‫في خير وصواب‪ ،‬كمدارسة علم‪ ،‬أو مذاكرته‪ ،‬أو النظر‬
‫فيه‪ ،‬وما أشبه ذلك من أعمال البر‪.‬‬
‫***‬
‫وأما قيام الليل ففضله عظيم ‪ ،‬وثوابه جزيل‪ ،‬والوارد في‬
‫فضله من الكتاب والسنة شيء كثير يطول ذكره‪ ،‬ويعسر‬
‫حصره‪ ،‬قال الله تعالى لرسوله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫ل إ ِّل قَِليًل(‬ ‫ل( )قُم ِ الل ّي ْ َ‬ ‫َ‬
‫م ُ‬ ‫مّز ّ‬ ‫وسّلم‪َ) : -‬يا أي َّها ال ْ ُ‬
‫ن ت َْرِتيًل(‬ ‫َ‬ ‫)ن ِصَف َ‬
‫ل ال ُْقْرآ َ‬ ‫ه قَِليًل()أوْ زِد ْ عَل َي ْهِ وََرت ّ ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ص ِ‬ ‫ه أوِ انُق ْ‬ ‫ْ ُ‬
‫]المزمل‪.[4-1/73:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ي‬‫من ث ُل ُث َ ِ‬ ‫م أد َْنى ِ‬ ‫ك ت َُقو ُ‬ ‫م أن ّ َ‬ ‫ك ي َعْل َ ُ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ثم قال تعالى‪):‬إ ِ ّ‬
‫ك(]المزمل‪:‬‬ ‫مع َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫م َ‬ ‫ة ّ‬ ‫طائ َِف ٌ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫ه وَث ُل ُث َ ُ‬ ‫صَف ُ‬ ‫الل ّي ْ ِ‬
‫ل وَن ِ ْ‬
‫‪.[20/73‬‬
‫سى َأن‬ ‫ك عَ َ‬ ‫ة لّ َ‬ ‫جد ْ ب ِهِ َنافِل َ ً‬ ‫ل فَت َهَ ّ‬ ‫ن الل ّي ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫وقال تعالى‪):‬وَ ِ‬
‫دا(]السراء‪.[79/17:‬‬ ‫مو ً‬
‫ح ُ‬‫م ْ‬ ‫ما ّ‬ ‫مَقا ً‬‫ك َ‬ ‫ك َرب ّ َ‬ ‫ي َب ْعَث َ َ‬
‫ن‬
‫م عَ ِ‬ ‫جاَفى ُ‬
‫جُنوب ُهُ ْ‬ ‫وقال تعالى في وصف المؤمنين‪):‬ت َت َ َ‬
‫م‬‫ما َرَزقَْناهُ ْ‬
‫م ّ‬
‫مًعا وَ ِ‬ ‫خوًْفا وَط َ َ‬‫م َ‬‫ن َرب ّهُ ْ‬
‫عو َ‬ ‫جِع ي َد ْ ُ‬ ‫ضا ِ‬‫م َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن(]السجدة‪.[16/32:‬‬ ‫فُقو َ‬ ‫ُين ِ‬
‫‪138‬‬
‫) ‪(1/138‬‬

‫َ‬
‫حاِر‬‫س َ‬‫ن *وَِبال ْ‬
‫جُعو َ‬
‫ما ي َهْ َ‬
‫ل َ‬‫ن الل ّي ْ ِ‬
‫م َ‬‫كاُنوا قَِليل ً ّ‬‫وقال تعالى ‪َ ) :‬‬
‫ن(]الذاريات‪.[18-17:‬‬ ‫ست َغِْفُرو َ‬
‫م يَ ْ‬‫هُ ْ‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬أفضل الصلة بعد‬
‫المكتوب صلة الليل ((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬عليكم بقيام الليل‪ ،‬فإنه‬
‫دأب الصالحين قبلكم وقربة لكم إلى ربكم‪ ،‬ومكفرة‬
‫للسيئات‪ ،‬ومنهاة عن الثم‪ ،‬ومطردة للداء عن الجسد((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬أيها الناس‪ :‬أفشوا السلم‪،‬‬
‫صّلوا بالليل والناس‬ ‫صلوا الرحام ‪ ،‬و َ‬ ‫و أطعموا الطعام‪ ،‬و ِ‬
‫نيام‪ ،‬تدخلوا الجنة بسلم((‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫ل من الليل ولو كحلب شاة((‪ ،‬وقال عليه الصلة‬ ‫))ص ّ‬
‫ف المؤمن قيام الليل‪ ،‬وعّزه استغناؤه عن‬ ‫والسلم ‪)):‬شر ُ‬
‫الناس((‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪ )):‬من قام بعشر‬
‫ت لم يكتب من الغافلين‪ ،‬ومن قام بمائة آية كتب من‬ ‫آيا ٍ‬
‫القانتين‪ ،‬و من قام بألف آية كتب من المقنطرين((‪ .‬وفي‬
‫الحديث الخر‪ :‬القنطار اثنتا عشرة ألف أوقية‪ ،‬الوقية‬
‫خير مما بين السماء والرض‪.‬‬
‫ملك إلى آخر القرآن ألف‬ ‫ك ( ال ُ‬ ‫قال العلماء ‪ :‬من )ت ََباَر َ‬
‫آية‪.‬‬
‫وفي الحديث الصحيح ‪)) :‬إن في الليل لساعة ل يوافقها‬
‫م يسأل الله خيرا ً من أمر الدنيا والخرة إل‬ ‫عبد ٌ مسل ٌ‬
‫ل ليلة ‪ .‬فلو لم ي َرِد ْ في فضل الليل‬ ‫أعطاه إّياه(( وذلك ك ّ‬
‫وفضل قيامه سوى هذا الحديث لكفى‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ينزل رّبنا إلى سماء الدنيا‬
‫حين يبقى ثلث الليل الخر‪ ،‬فيقول ‪ :‬هل من‬
‫‪139‬‬
‫) ‪(1/139‬‬

‫ل فأعطيه‪ ،‬هل من‬ ‫داٍع فأستجيب له‪ ،‬هل من سائ ٍ‬


‫مستغفرٍ فأغفر له((‪.‬‬
‫مل ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬هذا الحديث والذي قبله‪ ،‬وأكثر‬ ‫فتأ ّ‬
‫النظر فيهما لعّله ينشرح صدرك لقيام الليل ويكمل‬
‫نشاطك‪ ،‬وتصدق رغبتك فيه‪ ،‬وينتفي‬
‫عنك الكسل والغفلة‪ ،‬والكثار من النوم الذي فيه ذهاب‬
‫بركة العمر وضياع الوقت‪.‬‬
‫وقد ورد في بعض الثار‪ :‬أن من يكثر النوم بالليل يأتي‬
‫فقيرا ً يوم القيامة‪ .‬وورد ‪ :‬أن ركعتين في جوف الليل كنز‬
‫من كنوز البر‪.‬‬
‫ب من‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬أقرب ما يكون الر ّ‬
‫عبده في جوف الليل‪ ،‬فإن استطعت أن تكون مصليا ً في‬
‫ذلك الوقت فكن((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬يحشر الناس في صعيد‬
‫واحد فينادي مناٍد‪ :‬أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن‬
‫المضاجع؟ فيقومون وهم قليل‪ ،‬فيدخلون الجنة بغير‬
‫حساب‪((..‬الحديث‪.‬‬
‫واعلم أن قيام الليل من أثقل شيء على النفس ول سيما‬
‫بعد النوم‪ ،‬وإنما يصير خفيفا ً بالعتياد والمداومة‪ ،‬والصبر‬
‫على المشقة‪ ،‬والمجاهدة في أول المر‪ ،‬ثم بعد ذلك‬
‫ينفتح باب النس بالله تعالى وحلوة المناجاة له‪ ،‬ولذة‬
‫الخلوة به عز وجل‪ ،‬وعند ذلك ل يشبع النسان من القيام‪،‬‬
‫فضل ً عن أن يستثقله أو يكسل عنه‪ ،‬كما وقع ذلك‬
‫للصااحين من عباد الله حتى قال قائلهم‪ :‬إن كان أهل‬
‫الجنة في مثل ما نحن فيه بالليل إنهم لفي عيش طيب‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫) ‪(1/140‬‬
‫مني شيء إل طلوع‬ ‫وقال آخر‪ :‬منذ أربعين سنة ما غ ّ‬
‫الفجر‪.‬‬
‫ل الليل في ليلهم ألذ ّ من أهل اللهو في‬ ‫وقال آخر ‪ :‬أه ُ‬
‫لهوهم ‪.‬‬
‫وقال آخر‪ :‬لول قيام الليل وملقاة الخوان في الله ما‬
‫ت البقاء في الدنيا‪.‬‬ ‫أحبب ُ‬
‫وأخبارهم في ذلك كثيرة مشهورة‪ .‬وقد صّلى خلئق منهم‬
‫دى‬‫ن هَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫الفجر بوضوء العشاء رضي الله عنهم )أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ه(]النعام‪.[90:‬‬ ‫م اقْت َدِ ْ‬
‫داهُ ُ‬‫ه فَب ِهُ َ‬‫الل ّ ُ‬
‫فعليك ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬بقيام الليل وبالمحافظة عليه‬
‫ن‬
‫شو َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬
‫عَبادِ الّر ْ‬ ‫وبالستكثار منه‪ ،‬وكن من ِ‬
‫عََلى ال َ‬
‫ما ‪،‬‬ ‫سل ً‬ ‫ن َقاُلوا َ‬ ‫جاهُِلو َ‬‫م ال ْ َ‬‫خاط َب َهُ ُ‬
‫ذا َ‬ ‫ض هَوًْنا وَإ ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬
‫ما‪.‬‬‫ن ي َِبي ُ َ ِ َ ّ ِ ْ ُ ّ ً َ ِ َ ً‬
‫يا‬‫ق‬ ‫و‬ ‫دا‬ ‫ج‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫تو‬ ‫ذي َ‬‫َوال ّ ِ‬
‫صف ببقية أوصافهم التي وصفهم الله بها في هذه‬ ‫وات ّ ِ‬
‫ت عن كثير من القيام بالليل‬ ‫اليات إلى آخرها‪ .‬وإن عجز َ‬
‫سَر‬‫ما ت َي َ ّ‬ ‫ؤوا َ‬ ‫فل تعجز عن القليل منه‪ ،‬قال تعالى ‪َ) :‬فاقَْر ُ‬
‫ن (]المزمل‪ ،[20:‬أي‪ :‬في القيام من اليل ‪.‬‬ ‫ن ال ُْقْرآ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬عليكم بقيام الليل ولو‬
‫ركعة((‪.‬‬
‫وما أحسن وأجمل بالذي يقرأ القرآن الكريم بالغيب أن‬
‫يقرأ كل ليلة في قيامه باليل شيئا ً منه‪ ،‬ويقرؤه على‬
‫التدريج من أول القرآن إلى آخره‪ ،‬حتى تكون له في قيام‬
‫الليل ختمة‪ ،‬إما في‬
‫‪141‬‬
‫) ‪(1/141‬‬

‫كل شهر أو في كل أربعين‪ ،‬أو أقل من ذلك أو أكثر‪ ،‬على‬


‫حسب النشاط والهمة‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع‪ ،‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)) :‬أحب العمال إلى الله أدومها‬
‫وأن قل((‪.‬‬
‫وليتخذ هذا القارئ المذكور وردا ً لزما ً يواظب عليه‪،‬‬
‫ويقضيه إذا فاته‪ ،‬حتى تعتاد النفس المواظبة وتتمّرن على‬
‫المداومة‪ ،‬ول يفوته إل لعذر‪.‬‬
‫وقد ورد‪ :‬أن من نام عن حزبه من القرآن‪ ،‬أو عن شيء‬
‫منه فقرأه فيما بين الصبح والظهر كتب له كأنما قرأه من‬
‫الليل‪.‬‬
‫وكان عليه الصلة والسلم إذا منعه من قيامه بالليل عذر‬
‫من مرض أو غيره يصليه بالنهار‪.‬‬
‫***‬
‫ثم اعلم أن من أنكر المنكات‪ ،‬وأكبر الكبائر‪ ،‬وأفحش‬
‫المحرمات‪ :‬ترك بعض المسلمين للصلوات المكتوبات‪،‬‬
‫وقد ورد عن رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫الحاديث الصحيحة الكثيرة بكفر تارك الصلة ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬العهد الذي بيننا وبينهم‬
‫الصلة‪ ،‬فمن تركها فقد كفر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من ترك الصلة متعمدا ً فقد‬
‫كفر جهارًا((‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫) ‪(1/142‬‬

‫وفي الحديث الخر‪)) :‬من ترك الصلة متعمدا ً فقد برئت‬


‫منه ذمة الله وذمة رسوله((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من حافظ على الصلة‬
‫كانت له نورا ً وبرهانا ً ونجاة يوم القيامة‪ ،‬ومن لم يحافظ‬
‫عليه لم تكن له نورا ً ول برهانا ً‬
‫ونجاة‪ ،‬وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي‬
‫بن خلف((‪.‬‬
‫فقد وقع التصريح من رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬بكفر تارك الصلة وكذلك ورد عن الصحابة‬
‫والسلف الصالح حتى قال بعضهم ‪ :‬ما سمعت أصحاب‬
‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬يقولون في شيء‬
‫من العمال‪ :‬إن تركه كفر إل الصلة ‪ ،‬فإياك وترك الصلة‬
‫أو ترك شيء منها! فإن فعلت ذلك فقد هلكت مع‬
‫الهالكين‪ ،‬وخسرت الدنيا والخرة ذلك هو الخسران‬
‫المبين‪.‬‬
‫***‬
‫وكما يجب عليك أن تحافظ على الصلة‪ ،‬ويحرم عليك أن‬
‫دد على أهلك وأولدك‬ ‫تضيعها‪ ،‬كذلك يجب عليك أن تش ّ‬
‫ل من لك عليه ولية في إقامة الصلة‪ ،‬ول تدع لهم‬ ‫وك ّ‬
‫دده وعاقبه‪،‬‬‫عذرا ً في تركها‪ ،‬ومن لم يسمع منهم ويطع فه ّ‬
‫ما تغضب عليه لو أتلف‬ ‫م ّ‬‫م ِ‬
‫واغضب عليه أشد ّ وأعظ َ‬
‫ت من المستهينين بحقوق الله‬ ‫مالك‪ ،‬فإن لم تفعل ذلك كن َ‬
‫تعالى وبدينه‪ ،‬ومن عاقبته وغضبت عليه‪ ،‬ولم يمتثل‬
‫وينزجر فأبعده عنك‪ ،‬واطرده منك فإنه شيطان ل خير فيه‬
‫ول بركة‪ ،‬تحرم موالته ومعاشرته‪ ،‬وتجب معاداته‬
‫ومقاطعته‪ ،‬وهو من المحادين لله ورسوله‪،‬‬

‫‪143‬‬
‫) ‪(1/143‬‬

‫ر‬
‫خ ِ‬‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ما ي ُؤْ ِ‬ ‫جد ُ قَوْ ً‬ ‫قال تعالى‪ ) :‬ل ت َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه وَل َوْ َ‬
‫م‬
‫م أوْ أب َْناءهُ ْ‬ ‫كاُنوا آَباءهُ ْ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫حاد ّ الل ّ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ن َ‬ ‫دو َ‬ ‫وا ّ‬ ‫يُ َ‬
‫ن‬
‫ما َ‬ ‫لي َ‬‫ماِْ‬ ‫ب ِفي قُُلوب ِهِ ُ‬ ‫ك ك َت َ َ‬‫م أ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫شيَرت َهُ ْ‬
‫خوانه َ‬
‫م أو ْ ع َ ِ‬ ‫أو ْ إ ِ ْ َ َ ُ ْ‬
‫َ‬
‫حت َِها اْل َن َْهاُر‬ ‫من ت َ ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬
‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬‫م َ‬ ‫خل ُهُ ْ‬ ‫ه وَي ُد ْ ِ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ح ّ‬‫ٍ‬ ‫هم ب ُِرو‬ ‫وَأ َي ّد َ ُ‬
‫ب الل ّهِ‬ ‫حْز ُ‬ ‫ك ِ‬ ‫ه أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ضوا عَن ْ ُ‬ ‫م وََر ُ‬ ‫ه عَن ْهُ ْ‬ ‫ي الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ِفيَها َر ِ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن(]المجادلة‪.[22:‬‬ ‫حو َ‬ ‫مْفل ِ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ب الل ّهِ هُ ُ‬ ‫حْز َ‬ ‫ن ِ‬ ‫أَل إ ِ ّ‬
‫دين له ولرسوله وإن‬ ‫دين للمحا ّ‬ ‫فنفى اليمان عن الموا ّ‬
‫كانوا من أقرب القربين‪.‬‬
‫وغاية ما يسمح به للعامي الغافل المستغفر مهما فاتته‬
‫الصلة‪ :‬أن يقضيها مع التوبة عن العود إلى مثل ذلك‪ :‬فأما‬
‫الضاعة فل! كيف وعليه في إخراج الصلة عن وقتها إثم‬
‫عظيم وإن بادر بقضائها‪ .‬وليس بعذر الشتغال بالدنيا ول‬
‫بغيرها عن الصلة حتى تفوت‪ .‬ول عذر إل النوم أو‬
‫النسيان فقط‪.‬‬
‫***‬
‫وعلى ولة المور أن يحملوا العامة على فعل لصلة‬
‫المكتوبة‪ .‬وعليهم أن يعاقبوا من تركها كسل ً بالقتل‪ ،‬وذلك‬
‫بعد الستتابة إن لم يتب ‪.‬‬
‫وعلى الولة إثم عظيم وحرج‪ ،‬إذا سكتوا عن ذلك مع‬
‫العلم وقصروا في القيام به‪.‬‬
‫ول رخصة لهم في ترك ذلك وما يجري مجراه من أمور‬
‫الدين‪.‬‬
‫والحمد لله رب العالمين‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫) ‪(1/144‬‬

‫*************‬
‫*************‬
‫مبحث الزكاة‬
‫*************‬
‫*************‬
‫) ‪(1/145‬‬

‫) ‪(1/146‬‬

‫مبحث الزكاة‬
‫***********‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬جعلنا الله وإيكم ممن تزكى‬
‫وذكر اسم ربه فصلى ولم يؤثر الحياة الدنياعلى الخرة‪،‬‬
‫التي هي خير وأبقى ‪ -‬أن الزكاة أحد مباني السلم‬
‫الخمس‪ ،‬وقد جمع الله تعالى بينهما وبين الصلة في كتابه‬
‫صل َةَ َوآُتوا ْ الّز َ‬ ‫َ‬
‫كاةَ‬ ‫موا ْ ال ّ‬ ‫العزيز فقال عز من قائل ‪) :‬وَأِقي ُ‬
‫وما ت َُقد ّموا ْ َ‬
‫ما‬‫ه بِ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫عند َ الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫دوهُ ِ‬ ‫ج ُ‬‫خي ْرٍ ت َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫س ُ‬ ‫لنُف ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫صيٌر(]البقرة‪.[110:‬‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ت َعْ َ‬
‫ن‬
‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى في وصف عباده المؤمنين‪) :‬ال ّ ِ‬
‫ن(]النفال‪-3:‬‬ ‫فُقو َ‬ ‫م ُين ِ‬ ‫ما َرَزقَْناهُ ْ‬ ‫م ّ‬‫صلةَ وَ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ب وَي ُِقي ُ‬ ‫ِبال ْغَي ْ ِ‬
‫‪.[4‬‬
‫َ‬
‫ض‬
‫م أوْل َِياء ب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫ت ب َعْ ُ‬ ‫مَنا ُ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫وقال تعالى ‪َ) :‬وال ْ ُ‬
‫يأ ْ‬
‫صل َةَ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مو َ‬ ‫منك َرِ وَي ُِقي ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫رو‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ن ِبال ْ‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ه أوْل َئ ِ َ‬
‫م‬‫مه ُ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫سي َْر َ‬ ‫ك َ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫كاةَ وَي ُ ِ‬ ‫ن الّز َ‬ ‫وَي ُؤُْتو َ‬
‫م(]التوبة‪.[71:‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫إلى غير ذلك من اليات‪.‬‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬من كان‬
‫يؤمن بالله واليوم الخر فليؤد زكاة ماله((‪ .‬فأفهم عليه‬
‫الصلة والسلم أن من لم يؤد ّ الزكاة فليس بمؤمن‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫) ‪(1/147‬‬

‫ك ماله لم يقبل‬ ‫واعلم أن من صّلى وصام وح ّ‬


‫ج ولم يز ِ‬
‫الله له صلة ول صياما ً ول حجا ً حتى يخرج الزكاة‪ .‬وذلك‬
‫لن هذه الشياء مرتبط بعضها ببعض‪ ،‬ل يقبل الله من‬
‫عامل العمل ببعضها حتى يعمل بها كلها‪ ،‬كما ورد ذلك عن‬
‫الرسول عليع الصلة والسلم‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن الزكاة ل تجب إل في مال مخصوص ‪ :‬وهو‬
‫النصاب من الذهب والفضة‪ ،‬وأموال التجارة‪ ،‬والحبوب‬
‫والثمار‪ ،‬والنعام‪.‬وكذلك ل‬
‫تجب إل في وقت مخصوص‪ :‬وهو الحول في النقود‬
‫والتجارت والنعام‪،‬وعند الحصااد في الزرع‬
‫والثمار‪.‬والواجب قدر مخصوص‪.‬‬
‫وهو بع العشر من النقد والتجارة‪ ،‬والعشر في التي‬
‫تسقى بالمؤونة‪ ،‬وأما النعم‪ :‬وهي البل والبقر والغنم‬
‫فيطول النظر فيها‪ ،‬وتفصيل ذلك في كتب الفقيه فيجب‬
‫على صاحب المال أن يتعلم من علوم الزكاة ما يجب‬
‫عليه علمه‪ :‬من معرفة النصاب‪ ،‬والقدر الذي يخرج‪،‬‬
‫والمستحقين الذين يجب عليه صرف الزكاة إليهم وما في‬
‫معنى ذلك‪.‬‬
‫***‬
‫‪148‬‬
‫) ‪(1/148‬‬

‫وللمزكي في إخراج الزكاة ثواب عظيم وأجر كريم‪ ،‬وله‬


‫فيه منافع وفوائد دينتة ودنيوية‪ .‬وفي المال بليا وفتن‬
‫وآفات يسلم منها المحافظ على إخراج الزكاة إن شاء‬
‫الله تعالى‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إذا أديت زكاة‬
‫مالك طيبة بها نفسك فقد أذهبت عنك شّره (( ‪ ,‬وكذلك ل‬
‫يعرض للمال المزكى شيء من المتالف والمهالك‪ ,‬لقوله‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)):‬ما هلك مال في بحر ول بر إل‬
‫صنوا‬
‫بحسن الزكاة((‪ ،‬وقوله عليه الصلة والسلم ‪)):‬ح ّ‬
‫أموالكم بالزكاة‪ .‬وداووا مرضاكم بالصدقة((‪.‬‬
‫فالمال المزكى محصن ومحفوظ في حرز الله‪ ،‬لنه طيب‬
‫مبارك‪ .‬والمال الذي ليس بمزكى ضائع‪ ،‬لنه خبيث وغيؤ‬
‫مبارك‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ما خلطت الزكاة‬
‫مال ً إل محقته((‪.‬‬
‫وأي خير! وأي نفع! في المال الممحوق الذي قد محقت‬
‫بركته وبقي شره وفتنته‪ ،‬والمحق منه ظاهر‪ ،‬وهو ذهاب‬
‫صورة المال ورجوع النسان بعد الستغناء فقيرا ً هلوعا ً‬
‫جزوعًا‪ ،‬متبرما ً بقضاء الله ‪ .‬وقد وقع ذلك لخلق كثير من‬
‫المتساهلين بأمر الزكاة‪ .‬ومن المحق ‪ :‬محق بالطن وهو‬
‫أن يكون المال في الصورة موجودا ً وكثيرًا‪ ،‬ولكن ل ينتفع‬
‫به صاحبه‪ ،‬ول في دينه بالنفاق وبذل المعروف‪ ،‬ول في‬
‫نفسه ومروءته بالستر والصيانة‪ ،‬ومع ذلك يتضررا ً كثيرا ً‬
‫‪149‬‬
‫) ‪(1/149‬‬
‫بإمساكه عن حقه‪ ،‬ووضعه في غيروجه‪ :‬إما بإنفاقه في‬
‫المعاصي والعياذ بالله‪ ،‬وإما في الشهوات البهيمية التي ل‬
‫نفع فيها ول حاصل لها‪.‬‬
‫وأما منع الزكاة فهو من أكبر الكبائر‪ .‬وقد وردت فيه عن‬
‫الله ورسوله تشديدات هائلة‪ ،‬وتهديدات عظيمة‪ .‬ويخشى‬
‫على مانع الزكاة من سوءالخاتمة‪ ،‬والخروج من الدنيا‬
‫على غير ملة السلم‪.‬‬
‫وقد يعاقب قبل الموت كما وقع ذلك لقارون من بني‬
‫ه‬
‫دارِ ِ‬
‫سْفَنا ب ِهِ وَب ِ َ‬ ‫إسرائيل حين منع الزكاة‪ ،‬قال تعالى‪) :‬فَ َ‬
‫خ َ‬
‫َ‬
‫ض(]القصص‪. [81:‬‬ ‫اْلْر َ‬
‫وقد ورد أن المال الذي ل يزكى يتمّثل لصاحبه في موقف‬
‫القيامة حية عظيمة فيطوق بها عنقه‪ ،‬قال‬
‫مةِ (]آل عمرن‪:‬‬ ‫م ال ِْقَيا َ‬
‫خُلوا ْ ب ِهِ ي َوْ َ‬
‫ما ب َ ِ‬ ‫سي ُط َوُّقو َ‬
‫ن َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬
‫‪.[180‬‬
‫ب ول‬ ‫و قال عليه الصلة والسلم ‪ )):‬ما من صاحب ذه ٍ‬
‫فضة ل يؤدي منها حّقها إل إذا كان يوم القيامة صفحت له‬
‫صفائح فأحمي علبيه في تار جهنم فيكون بها جبينه وجنبه‬
‫وظهره‪ ،‬كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره‬
‫خمسين ألف سنة(( الحديث بطوله‪.‬‬
‫وفيه أن صاحب الماشية التي ل يخرج زكاتها تأتيه يوم‬
‫القيامة أوفر ما كانت‪ ،‬فتطؤه بأخفافها وأظلفها‪ ،‬وتعضه‬
‫بأفواها وتنطحه بقرونها‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫) ‪(1/150‬‬

‫ومن آداب المزكي التي تتأكد عليه‪ :‬أن يكون طيس‬


‫النفس بإخراج الزكاة‪ ،‬فرحا ً مسرورًا‪ ،‬مستبشرا ً ممتنا ً‬
‫للمستحق بقبول زكاته منه‪ ،‬وغير مان عليه بها‪ ،‬فإن المن‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫بالصدقة محبط لثوابها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ذى (]البقرة‪.[264:‬‬ ‫ن َوال َ‬ ‫كم ِبال ْ َ‬
‫م ّ‬ ‫مُنوا ْ ل َ ت ُب ْط ُِلوا ْ َ‬
‫صد ََقات ِ ُ‬ ‫آ َ‬
‫ول ينبغي للمزكي أن يكون كارها ً لخراج الزكاة‪ ،‬وليحذر‬
‫من ذلك فإنه من صفات المنافقين‪ .‬قال الله تعالى‪ :‬وَل َ‬
‫ْ‬
‫ن(‬
‫هو َ‬ ‫م َ‬
‫كارِ ُ‬ ‫ن إ ِل ّ وَهُ ْ‬ ‫ساَلى وَل َ ُين ِ‬
‫فُقو َ‬ ‫م كُ َ‬
‫صل َةَ إ ِل ّ وَهُ ْ‬
‫ن ال ّ‬
‫ي َأُتو َ‬
‫]التوبة‪.[54:‬‬
‫وأراد بالنفاق ههنا‪ :‬إخرج الزكاة ‪ .‬وعّرف سبحانه أن‬
‫المنافق قد يصلي ولكن مع الكسل‪ ،‬وقد يزكي ولكن مع‬
‫الكراهية‪ ،‬ومن تشّبه بقوم فهو منهم‪.‬‬
‫ومن الواجب على مخرج الزكاة‪ :‬أن ل يفرقها على‬
‫مقتضى هوى نفسه‪ ،‬بل على موافقة الكتاب والسنة‪.‬‬
‫ومن المستحقين من تحصل له منه منفعة دينوية‪ ،‬من‬
‫خدمة ونحوها‪ ،‬فإذا أعطاه لنه يخدمه أو يختلف إليه‪ ،‬أو‬
‫يعظمه‬

‫‪151‬‬
‫) ‪(1/151‬‬

‫كان بذلك مسيئًا‪ ،‬وربما ل يقبل منه زكاته‪ .‬وإن كان الذي‬
‫ما إذا أعطاه لكونه من أهل‬ ‫أعطاه مع ذلك مستحقًا‪ ،‬فأ ّ‬
‫ل مع ذلك أكان ينفعه‪ ،‬ويعرفه أم ل ‪،‬‬ ‫الزكاة فقط‪ ،‬ولم يبا ِ‬
‫فل يضّر ذلك ‪ .‬وإن كانت له فيه منفعة وبه حاجة ‪ -‬أعني‪:‬‬
‫المستحق ‪ -‬؛ نّبهنا على ذلك لتساهل بعض الغنياء فيه‪،‬‬
‫وقّلة تمييزهم له ‪.‬‬
‫ي الفقير شيئا ً من الزكاة‬‫ومن المشكل أن يعطي الغن ّ‬
‫ويريه في الظاهر أن ذلك صلة له أو هدية أو نحو ذلك‪.‬‬
‫وكذلك من يعطي زكاته لقاربه المحتاجين الذين تجب‬
‫لهم عيه النفقة‪ ،‬مثل الوالدين والولد‪ ،‬وأما بقية القارب‬
‫الفقراء الذين ل تجب عليهم نفقتهم فيجوز له إعطاؤهم‬
‫زكاته‪ ،‬وهي عليهم أفضل منها على غيرهم‪ ،‬لمكان‬
‫القرابة‪ ،‬وأستشراف نفوسهم إليه منه‪.‬‬
‫***‬
‫وأما زكاة الفطر فتجب في كل شهر رمضان على كل‬
‫كبير وصغير‪ ،‬وحّر وعبد من المسلمين القادرين عليها‪.‬‬
‫ومن وجبت عليه النفقة لحد وجبت عليه فطرته ‪.‬‬
‫ده عليه الصلة والسلم من التمر‬ ‫والفطرة أربعة أمداد بم ّ‬
‫أو الب ُّر أو الذرة أو الشعير‪ ،‬أو من أي قوت يقتاته الناس‬
‫في حال الختيار‪.‬‬
‫ن منه‬‫من أحس َ‬ ‫والخراج من النوع الذي يقتاته المخرج أو ِ‬
‫ن وأفض ُ‬
‫ل‪.‬‬ ‫أحس ُ‬

‫‪152‬‬
‫) ‪(1/152‬‬

‫ل عنه كثير من عامة‬ ‫وفي زكاة الفطر تضييق يغُف ُ‬


‫صرون عن الخراج‪ ،‬ويرون أنهم غير‬ ‫المسلمين فيَق ّ‬
‫قادرين عليه وهم من القادرين‪.‬‬
‫قال العلماء ‪ -‬رحمهم الله ‪ : -‬يباع من المتاع في زكاة‬
‫الفطر ما زاد على قوت ليلة العيد ويومها‪ ،‬وعلى ما ل ب ُد ّ‬
‫منه من الكسوة والمسكن ونحوهما‪ .‬وفي ذلك نهاية‬
‫التضييق‪ ،‬وبه جاءت الشريعة فليحذر المسلم من ترك‬
‫الخراج مع الستطاعة‪.‬‬
‫***‬
‫ثم أعلم أنه متى طلب السلطان العادل أن تحمل الزكاة‬
‫إليه وجب ذلك‪ ،‬وبرئت ذمة المزكي بدفعها إليه‪ .‬وكانت‬
‫العهدة على السلطان في التفريق ‪ .‬وكذلك إذا طلبه‬
‫السلطان الذي ليس بعادل‪ ،‬وذلك لخوف الفتنة وافتراق‬
‫الكلمة‪ .‬ثم إن فرق الزكاة على الذين كتبها الله لهم وهم‬
‫الموجودن من الصناف الثمانية أثابه الله ثوابا ً عظيمًا‪،‬‬
‫وأثاب أهل الزكاة كذلك ‪.‬‬
‫وإن فّرقها على غير من أمر الله بتفريق الزكاة عليهم في‬
‫ت‬ ‫صد ََقا ُ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫كتابه وهم المذكورون في قوله تعالى‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫م وَِفي‬ ‫مؤَل َّفةِ قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫ن عَل َي َْها َوال ْ ُ‬ ‫ن َوال َْعا ِ‬
‫مِلي َ‬ ‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِل ُْفَقَراء َوال ْ َ‬
‫ة‬
‫ض ً‬‫ري َ‬ ‫ل فَ ِ‬‫سِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫سِبي ِ ّ‬ ‫ب َوال َْغارِ ِ‬ ‫الّرَقا ِ‬
‫ل اللهِ َواب ْ ِ‬ ‫ن وَِفي َ‬ ‫مي َ‬
‫م(]التوبة‪[60:‬؛ فقد أثم إثما ً‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫م َ‬‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬
‫م َ‬‫ّ‬
‫عظيما ً وظلم‬
‫‪153‬‬
‫) ‪(1/153‬‬

‫ظلما ً فاحشًا‪ ،‬وصار ظالما ً للغنياء بوضعه زكواتهم في‬


‫غير موضعها‪ ،‬وظالما ً للفقراء بمنعه أياهم حقوقهم التي‬
‫كتبها الله لهم في أموال الغنياء من عباده ‪ .‬وإنما فرض‬
‫الله الزكاة لتكون طهرة للغني‪ ،‬وقواما ً للفقير‪ ،‬وبلغا ً له‪،‬‬
‫فمن عمل فيها على خلف ذلك فقد احتمل بهتانا ً وإثما ً‬
‫عظيمًا‪.‬‬
‫وإذا أخذ الزكاة السلطان الظالم ووضعها في غير‬
‫موضعها‪ ،‬وسمحت نفس المزكي بتفريق زكاة ثانية على‬
‫المستحقين كان ذلك أحوط له وأفضل‪ ،‬وليس ذلك‬
‫بواجب‪.‬‬
‫وإذا أمكن المزكي أن يمنع زكاته أو شيئا ً منها عن أخذ‬
‫السلطان الظالم لها جاز ذلك‪ ،‬ولكن بشرط أن ل تترتب‬
‫على المنع فتنة‪ ،‬ول معصية لله‪ :‬من كذب صريح‪ ،‬أو يمين‬
‫فاجرة أو نحو ذلك‪ ،‬ويكون نيته في المنع تخليص‬
‫السلطان من الثم الذي يكون عليه في وضع الزكاة في‬
‫غير موضعها‪ ،‬وإعانه الفقراء على إقامة دينهم بإعطائهم‬
‫ما فرض الله لهم عليه في ماله‪ .‬وبالله التوفيق‪.‬‬
‫وأما صدقة التطوع والنفاق في وجوه البر والخير ابتغاء‬
‫مرضاة الله وثوابه‪ ،‬فقد ورد في فضل ذلك من اليات‬
‫والخبار ما يطول‬
‫ما‬
‫م وَ َ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫خي ْرٍ َفلنُف ِ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫فُقوا ْ ِ‬ ‫ما ُتن ِ‬‫ذكره‪ ،‬قال الله تعالى‪):‬وَ َ‬
‫ف إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫خي ْرٍ ي ُوَ ّ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬‫فُقوا ْ ِ‬‫ما ُتن ِ‬‫جهِ الل ّهِ وَ َ‬
‫ن إ ِل ّ اب ْت َِغاء وَ ْ‬ ‫فُقو َ‬ ‫ُتن ِ‬
‫َ‬
‫ن(]البقرة‪.[272/2:‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ل َ ت ُظ ْل َ ُ‬ ‫وَأنت ُ ْ‬
‫‪154‬‬
‫) ‪(1/154‬‬
‫وقال تعالى ‪):‬ال ّذين ينفُقو َ‬
‫سّرا‬ ‫ل َوالن َّهارِ ِ‬ ‫وال َُهم ِبالل ّي ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ ُ ِ‬
‫ة فَل َه َ‬
‫م وَل َ هُ ْ‬
‫م‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خو ْ ٌ‬ ‫م وَل َ َ‬ ‫عند َ َرب ّهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫وَعَل َن ِي َ ً‬
‫ن(]البقرة‪.[274/2:‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫جعَل َ ُ‬ ‫َ‬
‫كم‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬ ‫فُقوا ِ‬ ‫سول ِهِ وَأن ِ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ‬ ‫وقال تعالى‪):‬آ ِ‬
‫جٌر ك َِبيٌر(‬ ‫خل َفين فيه َفال ّذين آمنوا منك ُم وَأنَفُقوا ل َه َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ِ ْ َ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫ست َ ْ ِ َ ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫]الحديد‪.[11/57:‬‬
‫سًنا‬‫ح َ‬ ‫ضا َ‬ ‫ه قَْر ً‬ ‫ض الل ّ َ‬‫ذي ي ُْقرِ ُ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬
‫من َ‬ ‫وقال تعالى ‪َ ):‬‬
‫َ‬
‫ريم(]الحديد‪.[11/57:‬‬ ‫جٌر ك َ ِ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ه وَل َ ُ‬‫ه لَ ُ‬
‫عَف ُ‬ ‫ضا ِ‬ ‫فَي ُ َ‬
‫فاستشعر في نفسك هذا الجر الذي سماه الله كبيرا ً‬
‫وكريمًا‪ ،‬أي أجر هو! وكذلك المضاعفة التي لم يحصر ها‬
‫ه(]الحديد‪ .[11:‬وفي الية‬ ‫ه لَ ُ‬‫عْف ُ‬ ‫ضا ِ‬‫الله بعدد في قاله‪) :‬في ُ َ‬
‫ضَعافَا ً كثيرة(]البقرة‪ .[245:‬فأطلق الكثرة ولم‬ ‫َ‬
‫الخرى‪) :‬أ ْ‬
‫يجعلها إلى حد‪.‬‬
‫فأيّ ترغيب من الله الجواد الكريم يزيد على هذا‬
‫الترغيب‪.‬‬
‫ف لمن ل يعقل عن الله‪ ،‬ول يفهم في آياته حتى غلب‬ ‫فأ ّ‬
‫ح بما عنده من‬ ‫عليه البخل بماله‪ ،‬واستولى عليه الش ّ‬
‫فضل الله‪ .‬حتى ربما ينتهي به ذلك إلى منع الحقوق‬
‫الواجبة‪ ،‬فضل ً عن التطوع بالصدقات‪ .‬فلو كان هذا فقيرا ً‬
‫ل يملك قليل ً ول كثيرا ً كان ذلك أجمل به وأحسن له‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في فضل التصدق والنفاق عن‬
‫ن آدم َأنِفقْ ُأنِفقْ عليك((‪.‬‬ ‫الله تعالى‪)) :‬اب َ‬

‫‪155‬‬
‫) ‪(1/155‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪)):‬ما طلعت الشمس إل وعلى‬


‫جنبيها ملكان يقول أحدهما‪:‬اللهم أعط منفقا ً خالفًا‪.‬ويقول‬
‫الخر ‪:‬اللهم أعط ممسكا ً تلفًا((‪ .‬قلت ‪ :‬ودعاء الملئكة‬
‫مستجاب‪.‬‬
‫ومن أمسك فلم يتلف ماله التلف الظاهر فهو تالف‬
‫بالحقيقة‪ ،‬لقلة انتفاعه به في آخرته ودنياه‪ ،‬وذلك أعظم‬
‫من التلف الذي هو ذهاب المال‪.‬‬
‫وقال‪)) :‬من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب‪ ،‬ول يقبل‬
‫الله إل طّيبًا‪ ،‬فإن الله يإخذها بيمينه فُيرّبيها له‪ ،‬كما ي َُرّبي‬
‫وه )‪ (1‬حتى تكون مثل الجبل((‪ ،‬وكذلك ورد في‬ ‫دكم فِل ْ َ‬
‫أح ُ‬
‫الكسرة واللقمة من الخبز الطيب وهو الحلل‪ ،‬ول يقبل‬
‫الله غيره‪.‬‬
‫وقال ‪ )) :‬يا أبن آدم ‪ ،‬إنك إن تبذل الفضل خير لك‪ ،‬وأن‬
‫تمسكه شر لك‪ ،‬ول تلم على كفاف ‪ ،‬وابدأ بمن تعول‪.‬‬
‫واليد العليا خير من اليد السفلى((‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬أراد عليه الصلة والسلم ببذل الفضل ‪ :‬الفضل‬
‫من المال‪ .‬وبالكفاف قدر الحاجة من المال ‪ .‬وبمن‬
‫تعول ‪ :‬الذين تجب عليك نفقتهم‪ ،‬ول يجوز أن تضيعهم ول‬
‫تنفق عليهم‪،‬‬
‫‪---------------------------‬‬
‫)‪ (1‬الفلو بالكسر‪ :‬المهر يفصل عن أمه‪.‬‬
‫‪156‬‬
‫) ‪(1/156‬‬

‫وتتصدق على الغير وهم محتاجون‪ .‬وباليد العليا‪ :‬يد‬


‫المعطي‪ .‬وذكر خيريتها على يد الخذ ترغيبا ً منه عليه‬
‫الصلة والسلم في الستغناء عن الناس‪ ،‬والتصون عن‬
‫مسألتهم‪.‬‬
‫والحاجة إليهم حسب الستطاعة ‪ .‬وأما إذا مست‬
‫الضرورة فللخذ ثواب كالمعطى ‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)):‬ما الذي يأخذ عن حاجة بأقل ثوابأ من الذي‬
‫يعطي من سعة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬اتقوا النار ولو بشق تمرة‪،‬‬
‫فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة((‪ ،‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)) :‬الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء‬
‫النار((‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬يحشر الناس يوم‬
‫القيامة أعرى ما كانوا قط‪ ،‬وأجوع ما كانوا قط‪ ،‬وأعطش‬
‫ما كانوا قط‪ ،‬وأنصب ما كانوا قط‪ ،‬فمن كسا لله كساه‬
‫الله‪ ،‬ومن أطعم لله أطعمه الله‪ ،‬ومن سقى لله سقاه‬
‫الله(( الحديث‪ ،‬وأراد بقوله‪)) :‬لله(( أن تفعل ذلك مخلصا ً‬
‫لوجه الله‪ ،‬من غير رياء ول تصنع للناس ول طلب محمدة‬
‫منهم‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬من أطعم أخاه حتى‬
‫يشبعه‪ ،‬وسقاه حتى يرويه‪ ،‬باعده الله من النار سبعة‬
‫خنادق‪ ،‬ما بين كل خنجقين خمسمائة عام((‪.‬‬
‫وقد ورد في فضل إطعام الطعام وسقي الماء أخبار‬
‫كثيرة‪ ،‬فعليك بهما‪ ،‬واجتهد في ذلك ول تعجز‪.‬‬
‫***‬
‫‪157‬‬
‫) ‪(1/157‬‬

‫واعلم أن القليل عند الله كثير‪.‬وكل معروف صدقة‪ ،‬ول‬


‫تستحقر شيئا ً تفعله من الخير‪ ،‬استحقارا ً يمنعك من فعله‪،‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل تحقرن من المعروف‬
‫شيئًا‪ ،‬ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق‪ ،‬وتصدق كل يوم‬
‫بشيء وإن قل‪ ،‬واجعله من أول النهار‪ ،‬فإن البلء ل‬
‫يتخطى الصدقة(( كما ورد‪ .‬ومنعاه‪ .‬أن الصدقة تكون‬
‫حاجزا ً بينك وبين ما يقصدك من البليا‪.‬‬
‫***‬
‫ده خائبا ً ولو بشيء يسير‪،‬‬‫وإذا وقف السائل عليك فل تر ّ‬
‫فإن لم تفعل أو لم تستطع فإياك أن تنهره أو تشتمه‪،‬‬
‫واصرفه عنك برفق ووجه طلق‪ ،‬فإن النسان قد ينهر‬
‫السائل نهرة لو أعطاه معها نصف ماله مثل ً كانت تلك‬
‫النهرة أرجح منه‪ ،‬وربما ل يساوي ثواب ما أعطاه إثم ذلك‬
‫النتهار‪.‬‬
‫ل سائل يسألك‪ ،‬واحذر من ذلك‪.‬‬ ‫ول ترد ّ أوّ َ‬
‫***‬
‫وإذا تصدقت فابدأ بأقاربك وأرحامك الفقراء‪ ،‬وجيرانك‬
‫المحتاجين فإنهم أولى به من غيرهم‪ .‬والثواب في‬
‫الصدقة عليهم أكثر وأعظم‪ ،‬قال النبي ‪-‬صّلى الله عليه‬
‫وآله وسّلم‪)) : -‬الصدقة على القارب صدقة وصلة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬المتعدي في الصدقة‬
‫كمانعها((‪،‬‬

‫‪158‬‬
‫) ‪(1/158‬‬

‫ومن التعدي‪ :‬أن تعطي صدقاتك للجانب والباعد‪ ،‬وأنت‬


‫تعلم أن أقاربك وجيرانك أحوج إليها‪.‬‬
‫***‬
‫وعليك بصدقة السر‪ ،‬فقد ورد ‪:‬أن ثوابها يضاعف على‬
‫ثواب الصدقة الظاهرة سبعين ضعفًا‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫سر تطفئ غضب الرب((‪.‬‬ ‫والسلم ‪)) :‬صدقة ال ّ‬
‫وأيّ شيء أعظم من غضبه سبحانه وتعالى‪ ،‬وما أطفأته‬
‫صدقة السر إل لعظمها عنده سبحانه وتعالى‪ ،‬قال الله‬
‫ها وَت ُؤُْتو َ‬
‫ها‬ ‫خُفو َ‬ ‫ي وَِإن ت ُ ْ‬ ‫ت فَن ِعِ ّ‬
‫ما هِ َ‬ ‫صد ََقا ِ‬‫دوا ْ ال ّ‬ ‫تعالى‪ِ) :‬إن ت ُب ْ ُ‬
‫ما‬ ‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫سي َّئات ِك ُ ْ‬
‫من َ‬ ‫كم ّ‬‫عن ُ‬ ‫خي ٌْر ل ّك ُ ْ‬
‫م وَي ُك َّفُر َ‬ ‫ال ُْفَقَراء فَهُوَ َ‬
‫خِبيٌر(]اليقرة‪.[271:‬‬ ‫ن َ‬‫مُلو َ‬
‫ت َعْ َ‬
‫وإنما فضلت صدقة السّر لنها أقرب إلى الخلص الذي‬
‫هو روح العمال‪ ،‬ولنها أبعد من الرياء المفسد للعمال‪،‬‬
‫فإياك والرياء في صدقتك‪ ،‬أو في شيء من أعمالك‪.‬‬
‫وأياك والمن بالصدقة على الفقراء! فقد ورد فيه وعيد‬
‫شديد‪.‬‬
‫***‬
‫ول تطلب ممن تتصدق عليه مكافأة على الصدقة بنفع‬
‫منه لك‪ ،‬أو خدمة‪ ،‬أو تعظيم‪ ،‬فإن طلبت شيئا ً من ذلك‬
‫على صدقتك كان هو حظك ونصيبك منها‪.‬‬
‫‪159‬‬
‫) ‪(1/159‬‬
‫وقد كان السلف الصالح يكافئون الفقير على دعائه لهم‬
‫عند التصدق عليه بمثل دعائه‪ ،‬مخافة نقصان الثواب‪،‬‬
‫وذلك غاية الحتياط‪.‬‬
‫وكذلك ل تطلب من الفقير شكرا ً ول مدحًا‪ ،‬ول أن يذكر‬
‫للناس الذي أعطيته فينقص بذلك أجرك‪ ،‬أو يذهب رأسًا‪.‬‬
‫ول تترك الصدقة مخافة الفقر أو نقصان المال‪ ،‬فقد قال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ما نقص مال من صدقة((‪.‬‬
‫والتصدق هو الذي يجلب الغنى والسعة‪ ،‬ويدفع والعيلة‪.‬‬
‫وترك التصدق على الضد ّ من ذلك‪ :‬يجلب الفقر‪ ،‬ويذهب‬
‫ه‬ ‫يٍء فَهُوَ ي ُ ْ‬ ‫من َ‬ ‫َ‬
‫خل ُِف ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫ما أنَفْقُتم ّ‬
‫الغنى‪،‬قال الله تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫ن(]سبأ‪.[39:‬‬ ‫خي ُْر الّرازِِقي َ‬
‫وَهُوَ َ‬
‫واعلم أن التصدق بالقليل من المقل أفضل عند الله من‬
‫التصدق بالكثير من المكثر‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫))سبق درهم ألف درهم ‪ .‬قيل له ‪ :‬وكيف ذلك؟ فقال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)) :‬رجل ل يملك إل درهمين تصدق‬
‫بأحدهما‪ ،‬ورجل تصدق من عرض ماله بألف درهم فسبق‬
‫الدرهم اللف(( أو كما قال عليه الصلة والسلم‪ ،‬فصار‬
‫الدرهم الواحد من المقل أفضل من اللف من المكثر‬
‫وهو صاحب المال الكثير‪.‬‬
‫***‬
‫‪160‬‬
‫) ‪(1/160‬‬

‫ومن المذموم المحظور‪ :‬تعيير الفقراء بفقرهم‪،‬‬


‫واستحقارهم لجله ‪ -‬وهو شعار النبياء‪ ،‬وحلية الصفياء‬
‫‪-‬والتكبر عليهم‪ ،‬والستهانة بهم‪ ،‬والستخفاف بحقهم‪،‬‬
‫وتقديم الغنياء لجل الدنيا عليهم‪ .‬فكل ذلك من الجرائم‬
‫المحظورة فاحذر منه‪ .‬وعظم الناس على قدر تعظيمهم‬
‫لله ولرسوله‪،‬‬
‫وإقامتهم ادينه‪ ،‬ومعرفتهم بحقه‪ ،‬إن كانوا مع ذلك فقراء‬
‫أو أغنياء‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬للفقراء عند الستواء مع الغنياء في الديانة‪ ،‬زيادة‬
‫لفقرهم‪ ،‬وانكسار قلوبهم‪ ،‬وقلة احتفال أكثر الناس بهم‪.‬‬
‫بخلف الغنياء‪ ،‬فإن نفوس الغافلين‪ ،‬وهم أكثر الناس‪،‬‬
‫من شأنهم تعظيم الغنياء لعظمة الدنيا التي بأيديهم في‬
‫نفوس أهل الغفلة‪.‬‬
‫***‬
‫ب لتنال البر‪ ،‬وقال الله‬ ‫وعليك بالتصدق والنفاق مما تح ّ‬
‫ن(]آل عمران‪:‬‬ ‫حّبو َ‬
‫ما ت ُ ِ‬ ‫فُقوا ْ ِ‬
‫م ّ‬ ‫حّتى ُتن ِ‬‫تعالى‪َ) :‬لن ت ََناُلوا ْ ال ْب ِّر َ‬
‫‪.[92‬‬
‫قال المفسرون ‪ :‬البر ههنا‪ :‬هو الجنة‪ .‬وعليك باليثار على‬
‫نفسك‪ .‬ومعنى اليثار‪ :‬أن يكون عندك شيء من الدنيا‬
‫وتكون محتاجا ً إليه‪ ،‬فتؤثر به على‬
‫نفسك محتاجا ً من إخوانك المؤمنين فتكون بذلك من‬
‫المفلحين‪ ،‬والمفلحون هم الفائزونوقال الله تعالى‪:‬‬
‫م وَل َوْ َ‬ ‫َ‬
‫ة‬‫ص ٌ‬
‫صا َ‬‫خ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب ِهِ ْ‬
‫كا َ‬ ‫ن عََلى أنُف ِ‬
‫سه ِ ْ‬ ‫) وَي ُؤْث ُِرو َ‬

‫‪161‬‬
‫) ‪(1/161‬‬

‫ن(‬‫حو َ‬ ‫مْفل ِ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬‫سهِ فَأ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫ح ن َْف ِ‬


‫ش ّ‬‫من ُيوقَ ُ‬ ‫‪ -‬أي حاجة ‪ -‬وَ َ‬
‫]الحشر‪.[9:‬‬
‫واستبشر بالسائل إذا وقف على بابك‪ ،‬فإنه هدية الله‬
‫تعالى إليك‪ ،‬وله حقّ وإن جاء على فرس كما ورد‪ .‬وأق ّ‬
‫ل‬
‫ذلك الرد ّ الجميل‪.‬‬
‫وباشر إعطاء السائل بنفسك ولو في بعض الوقات‪ ،‬فإنه‬
‫عليه الصلة والسلم كان يناول السائل بيده الكريمة‪.‬‬
‫وذلك لن الله تعالى يأخذ الصدقات بيده المقدسة من يد‬
‫المتصدق فتقع في يده سبحانه قبل أن تقع في يد السائل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫موا ْ أ ّ‬
‫ن‬ ‫م ي َعْل َ ُ‬ ‫كما جاء في الخبر‪ ،‬وكما قال الله تعالى‪) :‬أل َ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ت وَأ ّ‬ ‫صد ََقا ِ‬ ‫خذ ُ ال ّ‬ ‫عَبادِهِ وَي َأ ُ‬
‫ن ِ‬‫ة عَ ْ‬
‫ل الت ّوْب َ َ‬‫ه هُوَ ي َْقب َ ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫م(]التوبة‪.[104:‬‬ ‫حي ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫هُوَ الت ّ ّ‬
‫***‬
‫وينبغي لمن كان فقيرا ً أن يصبر على فقره‪ ،‬ويقنع بما‬
‫قسم الله له‪ ،‬ويرضى عن الله فيما قضى له به من‬
‫الفقر‪.‬‬
‫وليحذر أن يكون جزوعا ً هلوعًا‪ ،‬متسخطًا‪ ،‬قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ )):‬يا معاشر الفقراء‪ ،‬أعطوا الله من‬
‫قلوبكم الرضا‪ ،‬تظفروا بثواب فقركم(( وإل فل ‪ .‬قال عليه‬
‫صّبر جلساء الله يوم‬‫الصلة والسلم ‪)):‬الفقراء ال ّ‬
‫القيامة((‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬كاد الفقر أن‬
‫يكون كفرًا((‪.‬‬
‫خطا ً لقضاء ربه‪ ،‬وغير قانع‬
‫قلت‪ :‬هذا إذا كان الفقير متس ّ‬
‫بقسمته‪،‬‬

‫‪162‬‬
‫) ‪(1/162‬‬

‫وربما يقع مع ذلك في بلية العتراض على الله تعالى في‬


‫تفضيله بعض عباده على بعض في الرزق‪ .‬ومن مثل هذا‬
‫يخشى على الفقي الذي ل صبر له‪ ،‬ول معرفة بالله عنده‪.‬‬
‫وكذلك ينبغي للفقير أن يكون شاكرا ً لله‪ ،‬ولمن أسدى‬
‫إليه معروفا ً من عباد الله‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ل‬
‫يشكر الله من ل يشكر الناس(( ويكون أبضا ً مثنيا ً على‬
‫أهل المعروف‪ ،‬وداعيا ً‬
‫لهم بالخير‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من قال لمن‬
‫أسدى إليه معروفًا‪ :‬جزاك الله خيرا ً فقد أبلغ في الثناء((‪.‬‬
‫ول ينبغي للفقير أن يذم ويغتاب من لم يعطه شيئا ً ‪ ،‬فإن‬
‫ذلك مذموم جدًا‪ ،‬والمعطي والمانع بالحقيقة إنما هو الله‬
‫تعالى‪ ،‬والخلق مسخرون تحت مشيئته‪ ،‬يصرفهم كيف‬
‫يشاء‪.‬‬
‫وليحذر الفقير من كثرة التشوف إلى الناس والتعلق بهم‬
‫والطمع فيهم‪ ،‬فإن الطمع فقر حاضر‪ ،‬والمتشوف‬
‫والمتعلق بغير الله خائب وخاسر‪.‬‬
‫وليكن متعففا ً ومستغنيا ً بالله‪ ،‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)):‬من يستعفف يعفه الله‪ .‬ومن يستغن يغنه‬
‫الله(( وفوعده عليه الصلة والسلم بالعفاف والغنى إذا‬
‫تعفف واستغنى‪ ،‬ووعد الله ورسوله حق ل شل فيه‪.‬‬
‫وايحذر الفقير من قوله‪ :‬أعطاني فلن كذا وهو كاذب‪،‬‬
‫‪163‬‬
‫) ‪(1/163‬‬

‫يريد بذلك التلبيس على السامع لعله يعطيه‪.‬ومن قوله ‪:‬‬


‫لم يعطني فلن شيئا ً إذا سئل وقد أعطاه ‪ ،‬مخافة أن‬
‫يعطيه الخر‪.‬‬
‫وليحذر من كتمانه ما أعطاه الله من فضله‪ ،‬ومن كثرة‬
‫الشكوى إلى الناس‪ ،‬ومن إظهار حاجته لكل واحد ‪ ،‬وقد‬
‫يفعل ذلك بعض الفقراء‬
‫ويتوهم أن من سمع ذلك منه إعطاه‪ .‬وربما فعل ذلك‬
‫كاذبا ً فيأثم على الكذب‪ ،‬وعلى أخذه ما يعطاه على‬
‫التلبيس‪ .‬وهذه الشياء وما في معناها قد يبتلى بها كثير‬
‫من الفقراء الذين يقل علمهم‪ ،‬ويكثر في الناس طمعهم‪.‬‬
‫***‬
‫وأما المسألة للناس فهي مذمومة جدا ً إل عند الحاجة‬
‫الشديدة‪ ،‬وهي ‪ -‬أعني‪ :‬المسألة ‪ -‬من الفواحش ‪ ،‬ولم‬
‫يحل من الفواحش غيرها كما‬
‫ورد ‪.‬وقد قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫))لتزال المألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس فب وجهه‬
‫مزعة لحم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ل تحل المسألة لغني ول‬
‫لذي مرة سوي ((‪ ،‬والمرة‪ :‬هي القوة‪.‬ومعنى الحديث ‪:‬‬
‫أن من كان غنيا ً عن المسألة بمال أو قريب ينفق عليه ‪،‬‬
‫أو كان قويا ً‬
‫يقدر على الكسب والحرفة ثم يسأل‪ ،‬فإن يأثم‪ ،‬وتحرم‬
‫عيله المسألة ‪ .‬وأما الذي يعطيه فل يأثم بل يؤجر على‬
‫العطاء ول‬
‫‪164‬‬
‫) ‪(1/164‬‬

‫يأثم أحد على العطاء‪ ،‬حتى يعطي من يعلم أنه يستعين‬


‫بما يعطاه على معاصي الله فاعلم ذلك ‪.‬‬
‫وأحذر رحمك الله‪ ،‬وحذر إخوانك المسلمين من مسألة‬
‫الناس عند الغنى عنها وفقد الحاجة الشديدة إليها‪ ،‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬لو تعلمون ما في المسألة ما‬
‫مشى أحد إلى أحد يسأله((‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫))مسألة الغني نار‪ ،‬إن قليل ً فقليل‪ ،‬وأن كثيرا ً فكثير((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ليس المرد بالغني ههنا من له مال كثير‪ ،‬بل المراد‬
‫ههنا هو الغني عن المسألة بكسب أو بشيء يكفيه في‬
‫ل‪ ،‬فإن اضطررت إلى المسألة فاسأل ول‬ ‫وقته وإن ق ّ‬
‫تلحف ول تلح‪ ،‬وليكن قلبك متعلقا ً بالله وسائل ً منه وإذا‬
‫أعطيت ما يكفيك في الحال الحاضر فأمسك عن‬
‫المسألة‪ ،‬واشكر من أحسن‬
‫إليك‪ ،‬واعذر من لم يعطك شيئا ً فإنه ل رزق لك عنده‪ ،‬ولو‬
‫كان‪ ،‬ولم يقدر على حبسه عنك‪.‬‬
‫ول تسأل النسان وهو بين الناس على قصد أن يعطيك‬
‫حياء منهم ‪ ،‬فإن فعات ذلك وإعطاك من الحياء‪ ،‬ولو‬
‫سألته وهو وحده لم يعطك شيئًا‪ ،‬فقد قال المام الغزالي‬
‫‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬ما يؤخذ بالحياء على هذا الوجه ل يحل‬
‫للخذ في الباطن وإن حل له في الظاهر ‪ .‬أنتهى بمعناه‪.‬‬
‫وأما إذا أعطيت شيئا ً من الدنيا من غير مسألة ول‬
‫استشراف نفس فخذه ول ترده‪ ،‬خصوصا ً إذا كنت محتاجا ً‬
‫إليه ‪ .‬ولك أن‬
‫‪165‬‬
‫) ‪(1/165‬‬

‫ترده إذا علمت أن في الرد صلحا ً لدينك أو قابك ‪ .‬فأما‬


‫إذا رددت لجل الجاه وانتشار الصيت وأن يقال‪ :‬أن فلنا ً‬
‫ل يقبل الدنيا‪ ،‬فقد وقعت في الحرج فاحذر من ذلك ول‬
‫يقبل الحرام‪ ،‬ول ما فيه شبهة ظاهرة وإن جاءك بدون‬
‫مسألة‪ ،‬فاعلم هذه الجملة راشدا ً وبالله التوفيق‪ ،‬وهو‬
‫حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬
‫***‬
‫‪166‬‬
‫) ‪(1/166‬‬

‫*************‬
‫*************‬
‫مبحث الصوم‬
‫*************‬
‫*************‬
‫) ‪(1/167‬‬

‫) ‪(1/168‬‬

‫مبحث الصوم‬
‫*************‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬يسرنا الله وإياكم لليسرى‪،‬‬
‫وجنبنا العسرى‪ ،‬وغفر لنا في الخرة والولى ‪ :-‬أن شهر‬
‫رمضان شهر عظيم القدر والمنزلة عند الله وعند رسوله‪،‬‬
‫وهو سيد الشهور‪ .‬فرض الله صيامه على المسلمين‬
‫َ‬
‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬
‫م‬ ‫مُنوا ْ ك ُت ِ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وكتبه عليهم‪ ،‬فقال تعالى‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن(‬‫م ت َت ُّقو َ‬‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬‫من قَب ْل ِك ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ب عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما ك ُت ِ َ‬
‫م كَ َ‬
‫صَيا ُ‬
‫ال ّ‬
‫]البقرة‪.[183:‬‬
‫وفيه ‪ -‬أعني‪ :‬شهر رمضان ‪ -‬أنزل الله كتابه‪ ،‬وجعل من‬
‫لياليه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر‪ .‬واللف شهر‬
‫أكثر من ثلث وثمانين سنة‪ .‬فتأمل حساب ذلك‪ ،‬وتفكر‬
‫في نفسك أي ليلة هذه الليلة! التي صارة عند الله خيرا ً‬
‫وأفضل من هذه المدة الطويلة‪.‬‬
‫ن‬‫ل ِفيهِ ال ُْقْرآ ُ‬ ‫ن ال ّذِيَ ُأنزِ َ‬ ‫ضا َ‬‫م َ‬ ‫شهُْر َر َ‬ ‫وقال الله تعالى‪َ ) :‬‬
‫ن (]البقرة‪.[185:‬‬ ‫دى َوال ُْفْرَقا ِ‬ ‫ن ال ْهُ َ‬
‫م َ‬ ‫ت ّ‬‫س وَب َي َّنا ٍ‬ ‫ِ‬ ‫دى ّللّنا‬ ‫هُ ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ك َ‬ ‫ما أد َْرا َ‬ ‫ثم قال سبحانه‪) :‬إ ِّنا أنَزل َْناهُ ِفي ل َي ْل َةِ ال َْقد ْرِوَ َ‬
‫مَلئ ِك َ ُ‬ ‫خير م َ‬
‫ة‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫شهْرٍ ت َن َّز ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أل ْ ِ‬‫ة ال َْقد ْرِ َ ْ ٌ ّ ْ‬ ‫ة ال َْقد ْرِل َي ْل َ ُ‬‫ل َي ْل َ ُ‬
‫مط ْل َِع‬ ‫والروح فيها بإذ ْن ربهم من ك ُ ّ َ‬
‫حّتى َ‬ ‫ي َ‬ ‫م هِ َ‬ ‫سَل ٌ‬‫مرٍ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫َ ّ ُ ِ َ ِِ ِ َ ِّ ّ‬
‫ر(]القدر‪.[5-1:‬‬ ‫ال َْف ْ‬
‫ج ِ‬
‫فعرفنا سبحانه أنه أنزل القرآن في رمضان‪ ،‬ثم أنه أنزله‬
‫في ليلة القدر منه بالخصوص‪.‬‬
‫وهذا النزال من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من‬
‫السماء الدنيا‪،‬‬
‫‪169‬‬
‫) ‪(1/169‬‬

‫نزل القرآن جملة واحدة من اللوح إلى بيت العزة‪ ،‬ونزل‬


‫به جبريل بأمر الله على رسوله عليهما السلم مفرقا ً في‬
‫نحو ثلث وعشرين سنة‪ ،‬وهي مدة الوحي إلى رسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬؛ إذ أوحى الله إليه وهو‬
‫ابن أربعين سنة وقبض عليه الصلة والسلم عن ثلث‬
‫وستين سنة‪ .‬وكذلك قال العلماء المحققون من السلف‬
‫والخلف‪.‬‬
‫وفي فضل شهر رمضان قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه‬
‫وآله وسّلم‪)): -‬رمضان إلى رمضان ‪ ،‬والجمعة إلى‬
‫الجمعة‪ ،‬والصلة إلى الصلة مكفرات‬
‫لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في شهر رمضان‪)) :‬هو شهر‬
‫الصبر‪ ،‬والصبر ثوابه الجنة((‪،‬وقال فيه‪)):‬أوله رحمة‪،‬‬
‫وأوسطه مغفرة‪،‬وآخره عتق من النار((‪.‬‬
‫وأن الله تعالى ينظر في أول ليلة منه إلى المسلمين‪،‬‬
‫ومن نظر إليه لم يعذبه‪ ،‬ويغفر لهم في آخر ليلة منه‪.‬‬
‫وقال جبريل لرسول الله عليهما السلم‪)):‬من أدرك‬
‫رمضان فلم يغفر له أبعده الله‪ ،‬قل آمين‪ .‬فقال رسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬آمين((الحديث‪.‬‬
‫سر أسباب المغفرة في رمضان أكثر منها‬ ‫قلت‪ :‬وذلك لتي ّ‬
‫في غيره من الشهور‪ ،‬فليس يحرم المغفرة فيه إل من‬
‫تفاحش إعراضه عن الله‪ ،‬وعظمت جراءته على الله‬
‫تعالى ‪ ،‬فاستوجب البعد والطرد عن باب الله ‪ .‬نسأل الله‬
‫العافية من سخطه وعذابه وجميع بلئه‪.‬‬
‫وقد ورد أن أبواب السماء وأبواب الجنة تفتح كلها في‬
‫رمضان ‪،‬‬
‫‪170‬‬
‫) ‪(1/170‬‬

‫وتغلق أبواب النيران‪ ،‬وتقيد مردة الشياطين ويذهب بهم‬


‫إلى البحار كي ل يفسدوا على المسلمين صيامهم‬
‫وقيامهم‪ ،‬وينادي مناد كل ليلة من رمضان‪ :‬يا باغي الخير‬
‫أقبل‪ ،‬ويا باغي الشر أقصر‪.‬‬
‫وورد أيضًا‪)) :‬أن من تقّرب إلى الله تعالى في رمضان‬
‫بفريضة عدلت له سبعين فريضة في غيره ‪.‬ومن تقّرب‬
‫فيه بنافلة عدلت له فريضة يؤديها في غيره((‪.‬‬
‫فنوافل رمضان بمنزلة الفرائض في غيره من الشهور ‪،‬‬
‫من حيث الثواب‪ .‬وفرائضه مضاعفة على الفرائض في‬
‫غيره إلى سبعين ضعفًا‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من صام رمضان وقامه‬
‫إيمانا ً واحتسابا ً غفر له ما تقدم من ذنبه((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واليمان ‪ :‬هو التصديق بوعد الله ‪ .‬والحتساب ‪ :‬هو‬
‫الخلص لله‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وللصائم آداب ل يكمل صيامه إل بها‪ .‬فمن أهمها ‪:‬‬
‫أن يحفظ لسانه عن الكذب والغيبة‪ ،‬وعن الخوض فيما ل‬
‫يعنيه‪ ،‬ويحفظ عينه وأذنه عن النظر والستماع إلى ما‬
‫ليحل له‪ ،‬وإلى ما يعد فضول ً في حقه‪.‬‬
‫وكذلك ويحفظ بطنه عن تناول الحرام والشبهة‪،‬‬
‫وخصوصا ً‬
‫‪171‬‬
‫) ‪(1/171‬‬

‫عند الفطار يجتهد جدا ً أن يفطر إل على الحلل‪.‬‬


‫قال بعض السلف‪ :‬إذا صمت فانظر على أي شيء تفطر‪،‬‬
‫وعند من تفطر؟ إشارة إلى الحث على التحري والحتياط‬
‫فيما يفطر عليه‪.‬‬
‫وكذلك يحفظ الصائم جميع جوارحه عن ملبسة الثام ثم‬
‫عن الفضول ‪ ،‬فبذلك يتم صومه ويزكو‪ ،‬وكم من صائم‬
‫يتعب نفسه بالجوع والعطش‪ ،‬ويرسل جوارحه في‬
‫المعاصي فيفسد بذلك صومه‪ ،‬ويضيع بذلك تعبه‪ ،‬كما قال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)):‬كم من صائم ليس له من صيامه‬
‫إل الجوع والعطش((‪.‬‬
‫وترك المعاصي واجب على الدوام على الصائم وعلى‬
‫المفطر‪ ،‬غير أن الصائم أولى بالتحفظ‪ ،‬وهو عليه أوجب‬
‫وآكد‪ ،‬فافهم‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬الصوم جنة‪ ،‬فإذا كان يوم‬
‫صوم أحدكم فل يرفث ول يفسق ول يجهل‪ ،‬فإن امرؤ‬
‫شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم ‪((...‬الحديث‪.‬‬
‫ومن آداب الصائم‪ :‬أن ل يكون النوم بالنهار‪ ،‬ول يكثر‬
‫الكل بالليل‪ ،‬وايقتصد في ذلك حتى يجد مس الجوع‬
‫والعطش‪ ،‬فتتهذب نفسه وتضعف شهوته‪ ،‬ويستنير قلبه‪،‬‬
‫وذلك سّر الصوم ومقصوده‪ ،‬وليجانب الصائم‬
‫‪172‬‬
‫) ‪(1/172‬‬

‫الرفاهية والكثار من تناول الشهوات واللذات كما ذكرناه‪.‬‬


‫وأقل ذلك أن تكون عادته من الترفه واحدة في رمضان‬
‫وغيره‪ .‬وهذا أقل ما ينبغي‪ .‬وإل فللرياضة ومجانبة شهوات‬
‫النفس أثر كبير في تنوير القلب‪ ،‬وتطلب بالخصوص في‬
‫رمضان‪.‬‬
‫وأما الذين لهم في رمضان عادات من الترفهات‬
‫والشهوات التي ل يعتادونها في غير رمضان فغرور غرهم‬
‫به الشيطان حسدا ً منه لهم حتى ل يجدوا بركات صومهم‪،‬‬
‫ول تظهر عليهم آثاره من النوار والمكاشفات‪ ،‬و الخشوع‬
‫لله تعالى والنكسار بين يديه‪ ،‬والتلذذ بمناجاته‪ ،‬وتلوة‬
‫كتابه وذكره‪.‬‬
‫وكانت عادة السلف ‪ -‬رحمة الله عليهم ‪ :-‬التقليل من‬
‫العادات والشهوات‪ ،‬والستكثار من العمال الصالحات‬
‫في رمضان بالخصوص‪ ،‬وإن كان ذلك معروفا ً من سيرهم‬
‫في جميع الوقات‪.‬‬
‫ومن آدابه‪ :‬أن كثير التشاغل بأمور الدنيا في شهر‬
‫رمضان‪ ،‬بل يتفرغ عنها لعبادة الله وذكره ما أمكنه‪ ،‬ول‬
‫يدخل في شيء من أشتغال الدنيا إل إن كان ضروريا ً في‬
‫حقه‪ ،‬أو في حق من يلزمه القيام به من العيال ونحوهم ‪،‬‬
‫وذلك لن شهر رمضان في الشهور بمنزلة يوم الجمعة‬
‫في اليام؛ فينبغي للمؤمن أن يجعل يوم جمعته وشهره‬
‫هذا لخرته خصوصًا‪.‬‬
‫ومن السنة‪ :‬تعجيل الفطور‪ ،‬وأن يكون على التمر‪ ،‬فإن‬
‫لم يجده فعلى الماء‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫) ‪(1/173‬‬

‫وكان عليه الصلة والسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب‬


‫ويقول‪)):‬ل تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطور وأخروا‬
‫السحور(( فتأخير السحور من السنة أيضًا‪.‬‬
‫وينبغي للصائم أن يقلل من الكل ول يستكثر منه‪ ،‬وذلك‬
‫حتى يظهر عليه أثر الصوم‪ ،‬ويحظى بسره ومقصوده‬
‫الذي هو تأديب النفس‪ ،‬وتضعيف شهواتها‪ ،‬فإن للجوع‬
‫وخلو المعدة أثرا ً عظيما ً في تنوير القلب‪ ،‬ونشاط‬
‫الجوارح في العبادة‪ .‬والشبع أصل القسوة والغفلة‪،‬‬
‫والكسل عن الطاعة‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ما مل‬
‫أبن آدم وعاء شرا ً من بطنه‪ .‬حسب أبن آدم لقيمات‬
‫يقمن صلبه‪ ،‬فإن كان ل محالة فثلث لطعامه وثلث‬
‫لشرابه وثلث لنفسه((‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪)) :‬إذا شبعت البطن جاعت جميع الجوارح‪،‬‬
‫وإذا جاعت البطن شبعت جميع الجوارح((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وجوع الجوارح عبارة عن طلبها وحرصها على‬
‫شهواتها‪ ،‬فيشتهي اللسان الكلم‪ ،‬والعين النظر‪ ،‬والذن‬
‫الستماع‪ ،‬وكذلك سائر الجوارح‪ .‬ويكون انبعاثها لطلب‬
‫الفضول من شهواتها عند امتلء البطن‪ .‬وعند خلوه يكون‬
‫سكونها وهدوءها المعبربه عن شبع الجوارح‪ ،‬وذلك‬
‫مشاهد‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫ومن المستحب المتأكد تفطير الصائمين ولو على تمرات‪،‬‬
‫أو شربة من الماء‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬من‬
‫فطر‬
‫‪174‬‬
‫) ‪(1/174‬‬

‫صائما ً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره‬


‫شيء((‪ ،‬يعني‪ :‬من أجر الصائم‪ .‬وهذا الثواب إنما يحصل‬
‫لمن فطره ولو على الماء‪ ،‬فإما من أطعم الصائم من بعد‬
‫فطره في بيته أو فيس موضع آخر فليس يحصل له هذا‬
‫الثواب‪ ،‬ولكن يحصل له ثواب الطعام‪ ،‬وهو عظيم‪،‬‬
‫وثواب من أشبع الصائم مهما أطعمه حتى يشبعه وهو‬
‫كثير‪.‬‬
‫وصلة التراويح في كل ليلة من رمضان سنة مأثورة‪.‬‬
‫وعادة السلف‪ -‬رحمة الله عليهم ‪ -‬توزيع القرآن من أوله‬
‫إلى آخره عليه‪ ،‬يقرؤون منها في كل ليلة ما تيسر‪،‬‬
‫ويجعلون الختم في بعض الليالي من آخر الشهر‪ ،‬فمن‬
‫أمكنه أن يقتدي بهم في ذلك فليشمر ول يقصر‪ ،‬فإن‬
‫عند َ‬
‫دوهُ ِ‬
‫ج ُ‬ ‫س ُ‬ ‫الخير غنيمة )وما ت َُقد ّموا ْ َ‬
‫خي ْرٍ ت َ ِ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫كم ّ‬ ‫لنُف ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫الل ّهِ (]المزمل‪.[73/20:‬‬
‫ومن لم يتفق له القتداء بهم في ذلك فليحذر من‬
‫التخفيف المفرط الذي يعتاده كثير من الجهلية في‬
‫صلتهم للتراويح‪ ،‬حتى ربما يقعون بسببه في الخلل‬
‫بشيء من الواجبات‪ ،‬مثل ‪ :‬ترك الطمأنينة في الركوع‬
‫والسجود‪ ،‬وترك قراءة الفاتحة على الوجه الذي لبد منه‬
‫بسبب العجلة‪ ،‬فيصير أحدهم عند الله تعالى ل هو صلى‬
‫ففاز بالثواب‪ ،‬ول هو ترك فاعترف بالتقصير وسلم من‬
‫العجاب‪ ،‬يبطل على العامل منهم عمله مع فعله للعمل‪.‬‬
‫فاحذروا من ذلك‪ ،‬وتنبهوا له معاشر الخوان‪.‬‬
‫‪175‬‬
‫) ‪(1/175‬‬

‫وإذا صليتم التراويح أو غيرها من الصلوات فأتموا القيام‬


‫والقراءة‪ ،‬والركوع والسجود‪ ،‬والخشوع والحضور‪ ،‬وسائر‬
‫الركان والداب‪ .‬ول تجعلوا للشيطان عليكم سلطانًا‪ ،‬فإنه‬
‫ن(؛‬‫م ي َت َوَك ُّلو َ‬‫مُنوا وَعََلى َرب ّهِ ْ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن عََلى ال ّ ِ‬‫طا ٌ‬ ‫سل ْ َ‬
‫ه ُ‬ ‫س لَ ُ‬‫)ل َي ْ َ‬
‫م‬
‫ن هُ ْ‬‫ذي َ‬‫ه َوال ّ ِ‬ ‫ن ي َت َوَل ّوْن َ ُ‬ ‫ه عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫طان ُ ُ‬ ‫سل ْ َ‬
‫ما ُ‬
‫فكونوا منهم‪) .‬إ ِن ّ َ‬
‫ن(؛ فل تكونوا منهم‪.‬‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫م ْ‬‫ب ِهِ ُ‬
‫واستكثروا من أعمال البر‪ ،‬وإفعال الخير ما استطعتم في‬
‫شهر رمضان‪ ،‬لفضل أوقاته وحصول المضاعفة فيه‪،‬‬
‫وكثرة الثواب وتيسر العمل بالخيرات‪.‬‬
‫فإما المضاعفة فلما ورد‪ :‬أن النافلة في رمضان يعدل‬
‫ثوابها ثواب الفريضة‪ ،‬والفريضة فيه بسبعين فريضة في‬
‫غيره ‪ .‬فمن يسمح بفوات هذا الربح ويكسل عن اغتنام‬
‫هذه التحارة التي ل تبور!‬
‫سر العمل بالخير في رمضان فلن النفس المارة‬ ‫وأما تي ّ‬
‫بالسوء مسجونة بالجوع والعطش‪ ،‬والشياطين المثبطين‬
‫عن الخير المعوقين عنه مصّفدون ل يستطيعون الفساد‬
‫ول يتمكنون منه‪ ،‬فلم يبقَ بعد ذلك عن الخيرات مانع‪ ،‬ول‬
‫من دونها حاجز إل من غلب عليه الشقاء‪ ،‬واستولى عليه‬
‫الخذلن والعياذ بالله! فيكون رمضان وغيره عنده سواء‬
‫في الغفلة عن الله‪ ،‬بل ربما يكون في رمضان أعظم‬
‫إعراضا ً عن رّبه وأكثر غفلة‪.‬‬
‫‪176‬‬
‫) ‪(1/176‬‬

‫وكما ينبغي للمؤمن أن يستكثر من العمال الصالحة في‬


‫هذا الشهر ويسارع فيها‪ ،‬كذلك ينبغي له أن يبالغ في‬
‫التحرز عن المخالفات‪ ،‬ويكون في نهاية البعد عنها‪ ،‬فإن‬
‫المعاصي في الوقات الفاضلة يكون إثمها عظيما ً ووزرها‬
‫كثيرا ً ‪ ،‬نظير كثرة الثواب على العمال الصالحة الواقعة‬
‫في الوقات الفاضلة‪.‬‬
‫وقد ورد‪ :‬أنه عليه الصلة والسلم كان يجتهد في رمضان‬
‫ما ل يجتهد في غيره‪ ،‬وكان يجتهد في العشر الواخر منه‬
‫ما ل يجتهد في غيرها في غيرها من رمضان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وذلك لفضل العشر الواخر على غيرها من الشهر ‪،‬‬
‫وقد أمر عليه الصلة والسلم بالتماس ليلة القدر فيها‪.‬‬
‫قال العلماء ‪ -‬رحمهم الله تعالى ‪ :-‬وهي في الوتار منها‬
‫أرجى‪.‬‬
‫وبالجملة‪ :‬فينبغي للمؤمن الفطن أن يكون في كل ليلة‬
‫من ليالي رمضان مستعدا ً لليلة القدر ومستيقظا ً لها‪،‬‬
‫ومداوما ً على العمل الصالح‪ ،‬فإن المقصود الذي عليه‬
‫المعول‪ :‬أن تأتي عليه ليلة القدر وهو مستغرق بالعمل‬
‫الصالح‪ ،‬ذاكرا ً لله تعالى‪ ،‬غير غافل ول ساه ول له‪،‬‬
‫وسواء بعد ذلك رأى ليلة القدر أو لم يرها‪ ،‬فإن العامل‬
‫فيها بطاعة الله يكون عمله فيها خيرا ً من عمله في ألف‬
‫شهر علم بها أو يعلم‪ .‬وإنما قلنا‪ :‬إنه ينبغي أن يتنبه لليلة‬
‫القدر ويستعد لها في كل ليلة من هذا الشهر‪،‬‬
‫‪177‬‬
‫) ‪(1/177‬‬

‫لكثرة ما وقع بين العلماء من الخلف في تعيينها ‪ ،‬وأنها‬


‫أي ليلة هي؟ حتى قال بعضهم‪ :‬إنها مبهمة في جميع‬
‫ليالي الشهر‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬إنها متنقلة في لياليه‪ ،‬وليست ليلة بعينها‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬وأجدني أميل إلى هذا القول‪ ،‬وأرى أنها قد تكون‬
‫في غير العشر الواخر وإن كان وقوعها هو الكثر‪ ،‬وعليه‬
‫جمهور العلماء‪ ،‬أعني ‪ :‬أن ليلة القدر في العشر الواخر‬
‫من رمضان‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي الكثار من الصدقة والمواساة‪ ،‬وتفقد الرامل‬
‫واليتام في هذا الشهر الشريف‪ ،‬فقد ورد))أنه كان عليه‬
‫الصلة والسلم أجود بالخير من الريح المرسلة‪ ،‬وأنه أجود‬
‫ما يكون في رمضان((‪.‬‬
‫وينبغي الكثار فيه من تلوة القرآن ومدارسته‪ ،‬ومن‬
‫العتكاف في المساجد ول سيما في العشر الواخر‪ ،‬إذ‬
‫كان عليه الصلة والسلم يعتكفها‪.‬‬
‫ثم أعلم أن شهر رمضان شهر مبارك على المسلمين‪،‬‬
‫وفي اليوم السابع عشر منه كانت ))وقعة بدر(( وهو يوم‬
‫الفرقان يوم التقى الجمعان‪.‬‬
‫وفي رمضان كان ))فتح مكة المشرفة(( ودخول الناس‬
‫في دين الله أفواجا ً ‪ .‬وفيه ))ليلة القدر(( التي هي خير‬
‫من ألف شهر‪ ،‬ومن أدركها وعمل فيها‬
‫‪178‬‬
‫) ‪(1/178‬‬

‫بطاعة الله اثنتي عشرة سنة مثل ً كان بمثابة من عاش‬


‫في طاعة الله ألف سنة ‪ ،‬فهل شيء أعظم من ذلك‬
‫ل قدرًا‪ ،‬وكم في رمضان من البركات والخيرات!‬ ‫وأج ّ‬
‫فطوبى لمن عرف قدره‪ ،‬واغتنم أوقاته وساعاته‪،‬‬
‫واستغرق لياليه وأيامه بفعل ما يقربه من ربه‪ ،‬وذلك‬
‫فضل الله يؤتيه من يشاء‪ ،‬والله ذو فضل العظيم‪.‬‬
‫واعلم أن أفضل الصيام صيام شهر رمضان‪ ،‬وكذلك يكون‬
‫المر في جميع الفرائض‪ ،‬أعني أنها تكون أفضل من‬
‫الفرئض التي من جنسها بشيء كثير‪ ،‬لقوله عليه الصلة‬
‫والسلم عن الله تعالى‪ )) :‬ما تقرب المتقربون إلي بمثل‬
‫ي‬
‫أداء ما أفترضته عليهم‪ .‬ول يزال العبد يتقّرب إل ّ‬
‫بالنوافل حتى أحّبه‪((...‬الحديث‪.‬‬
‫ثم صوم الشهر الحرم وهي أربعة‪ :‬ذوالقعدة وذو الحجة‬
‫عند َ‬
‫شُهورِ ِ‬‫عد ّةَ ال ّ‬‫ن ِ‬‫والمحرم ورجب‪ ،‬قال الله تعالى‪ ) :‬إ ِ ّ‬
‫ماَوات‬ ‫خل َقَ ال ّ‬
‫س َ‬ ‫م َ‬‫ب الل ّهِ ي َوْ َ‬
‫شهًْرا ِفي ك َِتا ِ‬ ‫شَر َ‬ ‫الل ّهِ اث َْنا عَ َ‬
‫م (]التوبة‪.[36:‬‬ ‫حُر ٌ‬ ‫من َْها أ َْرب َعَ ٌ‬
‫ة ُ‬ ‫ض ِ‬ ‫َ‬
‫َوالْر َ‬
‫وقد ورد ‪ )):‬أن صوم يوم من الشهر الحرم يعدل صيام‬
‫ثلثين يوما ً من غيرها‪ .‬وصيام يوم من رمضان يعدل صيام‬
‫ثلثين يوما ً من الشهر الحرم((‪.‬‬
‫وورد ‪)):‬أن من صام ثلثة أيام متتابعة من شهر من الحرم‬
‫‪ :‬الخميس والجمعة والسبت باعده الله من النار((‪.‬‬
‫***‬
‫‪179‬‬
‫) ‪(1/179‬‬

‫ومن السنة‪ :‬صيام ست من شوال على أثر رمضان‪،‬‬


‫توديعا ً له وجبرا ً للخلل إن عرض فيه للصائم‪ .‬والنوافل‬
‫جوابر الفرئض‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬من صام‬
‫رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر كله((‪.‬‬
‫ومن الفضائل‪ :‬صوم يوم عرفة‪ ،‬وهو يوم الحج‪ ،‬التاسع‬
‫من ذي الحجة‪ .‬وقد ورد أن صومه ي ُك َّفر سنتين‪.‬‬
‫قال العلماء‪ :‬وهو أفضل يوم يصام في السنة بعد رمضان‪،‬‬
‫ول يستحب للحاج أن يصومه لجل القوة على الدعاء في‬
‫الموقف ‪ ،‬والقيام بالمناسك‪.‬‬
‫وصوم يوم عاشوراء‪ ،‬وهو العاشر من المحرم‪ ،‬وقد ورد‬
‫أن صومه ي ُك َّفر سنة‪.‬‬
‫كد المستحب من الصيام ‪ :‬صيام ثلثة أيام من‬ ‫ومن المتأ ّ‬
‫كل شهر‪ ،‬وقد وردت الحاديث الكثيرة بأنها تعدل صيام‬
‫الدهر‪ ،‬وإن تحّرى بها الصائم اليام البيض كان أفضل‬
‫وأحسن ‪ ،‬لنه ورد عن النبي عليه الصلة والسلم أنه كان‬
‫ل يترك صيام اليام البيض في حضر ول سفر‪ ،‬وهي‬
‫الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشرمن الشهر‪ .‬وإن‬
‫صام هذه الثلثة من غير البيض فل بأس إل أنها أولى‪،‬‬
‫وكذلك إذا صام هذه الثلثة مفّرقة‪.‬‬
‫ول ينبغي للمتنسك أن يترك صيام هذه الثلثة من كل‬
‫شهر‪ ،‬فإنه صوم خفيف المؤونة عظيم الفضيلة‪ .‬وحسبك‬
‫من‬
‫‪180‬‬
‫) ‪(1/180‬‬

‫فضله أنه يعدل صيام الدهر‪ ،‬وقد أوصى به عليه الصلة‬


‫والسلم جماعة من أصحابه رضي الله عنهم‪ ،‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ )) :‬صام نوح الدهر‪ ،‬وصام داود نصف‬
‫الدهر ‪،‬كان يصوم يوما ً ويفطر يومًا‪ .‬وصام إبراهيم الدهر‬
‫وأفطر الدهر‪ ،‬كان يصوم ثلثة من كل شهر(( صلوات الله‬
‫عليهم أجمعين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأفضل الصيام صيام داود عليه السلم‪ ،‬وهو أن‬
‫يصوم يوما ً ويفطر يوما ً وهو أفضل من صيام الدهر كما‬
‫ورد في الحاديث الصحيحة ‪.‬‬
‫قال المام الغزالي رحمه الله تعالى‪ :‬وهو ‪ -‬أعني صوم‬
‫داود عليه السلم ‪ -‬أبلغ في رياضة النفس‪ ،‬وأقوى في‬
‫مجاهدتها من صيام الدهر‪.‬‬
‫وفي صيام الثنين والخميس من السبوع فضل كثير‪ ،‬كان‬
‫عليه الصلة والسلم يصومهما ويقول‪)) :‬هما يومان‬
‫ب أن يعرض علمي‬ ‫تعرض فيهما العمال على الله‪ ،‬فأح ّ‬
‫وأنا صائم((‪.‬‬
‫وصيام يوم الجمعة محبوب لفضله وشرفه‪ ،‬لكن مع‬
‫الخميس أو السبت ‪ ،‬لنه ورد في إفراده بالصوم نهي عن‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫***‬
‫وعليك بالكثار من الصوم مطلقًا‪ ،‬فإنه من أبلغ الشياء‬
‫في رياضة النفس وكسر الشهوة‪ ،‬واستنارة القلب‬
‫وترقيقه‪،‬‬
‫‪181‬‬
‫) ‪(1/181‬‬

‫وتأديب الجوارح وتقويمها‪ ،‬وتنشيطها للعبادة‪ .‬وفيه الثواب‬


‫العظيم‪ ،‬والجزاء الكريم الذي ل نهاية له ول غاية‪.‬‬
‫وليس شيء من العمال إل ولثوابه حد ّ ومقدار سوى‬
‫د‪ ،‬قال النبي‬‫در بقدر‪ ،‬ولم يحد ّ بح ّ‬ ‫الصوم‪ ،‬فإن ثوابه لم يق ّ‬
‫صلى الله عليه وسلم‪)):‬كل عمل ابن آدم يضاعف له‬
‫الحسنة بعشر أمثالها‪ ،‬قال تعالى ‪ :‬إل الصوم فإنه لي وأنا‬
‫أجزي به‪ ،‬يدع النسان طعامه وشرابه وشهوته من‬
‫أجلي ‪ .‬للصائم فرحتان‪ :‬فرحة عند إفطاره وفرحة عند‬
‫لقاء ربه‪ .‬ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح‬
‫مل رحمك الله تعالى جدا ً قوله تعالى ‪ :‬إل‬ ‫المسك((‪ ،‬فتأ ّ‬
‫كر في الوعد بالجزاء‬ ‫الصوم فإنه لي وأنا أجزي به((‪ ،‬وتف ّ‬
‫مل أيضا ً في‬‫المطلق من السيد الكريم الجواد الرحيم‪ ،‬وتأ ّ‬
‫خُلوف فم الصائم الذي هو عند الله أطيب بهذه المنزلة!!‬ ‫ُ‬
‫خُلوف ومكانته عند الله تعالى‬ ‫قلت‪ :‬ومن أجل فضل هذا ال ُ‬
‫كره الستياك للصائم بعد الزوال حتى يفطر‪ ،‬لن السواك‬
‫يزيله أو يخففه‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم في فضل‬
‫الصوم‪)) :‬للجنة باب يقال له الرّيان ل يدخله إل‬
‫الصائمون‪ ،‬فإذا دخلوا منه أغلق((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬الصوم نصف الصبر ‪.‬ولكل‬
‫شيء زكاة‪ ،‬وزكاة الجسد الصوم((‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫‪182‬‬
‫) ‪(1/182‬‬

‫والسلم ‪)):‬الصوم جنة وحصن حصين من النار ((‪.‬‬


‫واعلم‪ :‬أن الصوم صورة وروحًا‪ .‬فأما صورته‪ :‬فهي‬
‫المساك عن الكل والشرب والجماع من طلوع الفجر‬
‫إلى غروب الشمس مع لبية‪ .‬فمن‬
‫أكل أو شرب أو جامع في نهاره وهو عامد عالم مختار‬
‫بطل صومه‪ .‬وإن كان ناسيا ً أو جاهل ً أو مكرها ً لم يبطل‬
‫صومه‪ ،‬هذه هي صورة الصوم‪.‬‬
‫وأما روحه‪ :‬فهو المساك عن الثام والمحرمات‪ ،‬والقيام‬
‫بالفرائض والواجبات ‪ .‬والذي يصوم عن الكل والشرب‬
‫والجماع‪ ،‬ول يصوم عن المخالفات‪ ،‬هو الصائم الذي ليس‬
‫له من صيامه إل العناء والتعب‪ .‬فإذا صمت فأحسن‪،‬‬
‫وكذلك في جميع أعمالك اجتهد في إحسانها وإكمالها‬
‫وإخلصها‪ ،‬حتى ينفعك الله بها‪ ،‬ويعظم لك الجر عليها‬
‫عند الرجوع إليه‪ ،‬وله سبحانه المر كله‪ ،‬فاعبده وتوكل‬
‫عليه‪ ،‬وما ربك بغافل عما تعملون‪ .‬ل إله إل هو إليه‬
‫المصير‪.‬‬
‫***‬
‫‪183‬‬
‫) ‪(1/183‬‬

‫) ‪(1/184‬‬

‫*************‬
‫*************‬
‫مبحث الحج‬
‫*************‬
‫*************‬
‫) ‪(1/185‬‬

‫) ‪(1/186‬‬

‫مبحث الحج‬
‫**********‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬جعلنا الله وإياكم من الذين‬
‫سبق لهم منه الحسنى‪ ،‬ومن الذين قالوا ربنا الله ثم‬
‫استقاموا ‪ :-‬أن الحج إلى بيت الله الحرام أحد مباني‬
‫السلم‪ ،‬وهو فرض لزم محتوم على كل مسلم مستطيع‬
‫في العمر مرة وكذلك العمرة‪.‬‬
‫ست َ َ‬
‫طاعَ‬ ‫نا ْ‬ ‫ج ال ْب َي ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م ِ‬‫ت َ‬ ‫ح ّ‬ ‫س ِ‬ ‫قال الله تعالى‪) :‬وَل ِلهِ عَلى الّنا ِ‬
‫ل(]آل عمران‪.[97:‬‬ ‫سِبي ً‬ ‫إ ِل َي ْهِ َ‬
‫س‬‫ذن ِفي الّنا ِ‬ ‫وقال الله لخليله إبراهيم عليه السلم‪) :‬وَأ َ ّ‬
‫ْ‬ ‫جاًل وَعََلى ك ُ ّ‬ ‫ج ي َأ ُْتو َ‬
‫ل فَ ّ‬
‫ج‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫مرٍ ي َأِتي َ‬ ‫ضا ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ك رِ َ‬ ‫ح ّ‬‫ِبال ْ َ‬
‫َ‬ ‫س َ ّ‬
‫م اللهِ ِفي أّيام ٍ‬ ‫م وَي َذ ْك ُُروا ا ْ‬ ‫مَنافِعَ ل َهُ ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫شه َ ُ‬‫ق* ل ِي َ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫مي‬
‫عَ ِ‬
‫من َْها‬ ‫مةِ اْل َن َْعام ِ فَك ُُلوا ِ‬ ‫من ب َِهي َ‬ ‫ما َرَزقَُهم ّ‬ ‫ت عََلى َ‬ ‫ما ٍ‬ ‫معُْلو َ‬ ‫ّ‬
‫م وَل ُْيوُفوا‬ ‫َ‬
‫ضوا ت ََفث َهُ ْ‬ ‫م ل ْي َْق ُ‬ ‫س ال َْفِقيَر * ث ُ ّ‬ ‫موا ال َْبائ ِ َ‬ ‫وَأط ْعِ ُ‬
‫من ي ُعَظ ّ ْ‬
‫م‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ق * ذ َل ِ َ‬ ‫م وَل ْي َط ّوُّفوا ِبال ْب َي ْ ِ ْ‬
‫ت العَِتي ِ‬ ‫ذوَرهُ ْ‬ ‫نُ ُ‬
‫ه(]الحج‪.[22:‬‬ ‫عند َ َرب ّ ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫خي ٌْر ل ّ ُ‬
‫ت الل ّهِ فَهُوَ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫حُر َ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫وقال رسوله الله ‪-‬صلى الله عليه وآله وسلم‪)) : -‬بني‬ ‫ّ‬
‫السلم على خمس‪:‬‬

‫‪187‬‬
‫) ‪(1/187‬‬

‫شهادة أن ل إله إل الله وأن محمدا ً رسول الله‪ ،‬وإقام‬


‫الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وحج البيت‪ ،‬وصوم رمضان((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من ملك زادا ً وراحلة تبلغه‬
‫إلى بيت الله تعالى ثم لم يحج فل عليه أن الموت إن‬
‫يهوديا ً وإن شاء نصرانيًا((‪.‬‬
‫وفي هذا نهاية التشديد على من يترك الحج مع‬
‫الستطاعة‪.‬‬
‫فل ينبغي للمؤمن أن يؤخر ويتكاسل ويسوف‪ ،‬ويتعلل‬
‫بالعذار من سنة إلى سنة‪ ،‬وهو مع ذلك مستطيع‪ ،‬وما‬
‫يدريه لعل الموت ينزل به‪ ،‬أو تذهب استطاعته‪،‬وقد‬
‫استقر الحج في ذمته لتمكنه منه فيلقى الله تعالى عاصيا ً‬
‫آثمًا!‬
‫والستطاعة أن يملك النسان ما يحتاج إليه في سفره‬
‫إلى الحج ذهابا ً ورجوعا ً من زاد ومركوب‪ ،‬ما في معنى‬
‫ذلك مما ل بد له منه‪ ،‬ونفقة من تلزمه نفقته من الولد‬
‫والزواج ونحوهم إلى وقت رجوعه‪.‬‬
‫وتختلف الستطاعة باختلف الناس‪ ،‬وباختلف الماكن في‬
‫القرب والبعد ‪.‬ومن تكلف الحج شوقا ً إلى بيت الله‬
‫الحرام‪ ،‬وحرصا ً على إقامة هذه الفريضة من دين الله‬
‫وليس بمستطيع من كل الوجوه فإيمانه أكمل‪ ،‬وثوابه‬
‫أعظم وأجزل‪ ،‬ولكن بشرط أن ل يضيع بسبب ذلك من‬
‫حقوق الله تعالى ل في سفره ول في وطنه‪ ،‬وإل كان آثما ً‬
‫وفي حرج‪ ،‬مثل أن يسافر ويترك من فرض الله تعالى‬
‫عليه نفقتهم ضائعين ل شيء لهم‪ ،‬أو يكون في سفره‬
‫متكل ً على مسألة الناس‪ ،‬مشغول‬

‫‪188‬‬
‫) ‪(1/188‬‬

‫القلب بالتشوف إليهم‪ ،‬أو يضيع بسبب السفر شيئا ً من‬


‫الصلوات المكتوبات‪ ،‬أو يقع في شيء من المحرمات‪،‬‬
‫فمثل من يسافر إلى الحج على هذا الوجه وقد وسع الله‬
‫له في الترك حيث لم يكن مستطيعا ً مثل من يعمر قصرًا‪،‬‬
‫ويهدم مصرًا‪.‬‬
‫نبهنا على ذلك‪ ،‬لن كثيرا ً من العامة يسافرون على هذا‬
‫الوجه‪ ،‬ويظنون انهم يتقربون إلى الله تعالى بحج بيته‬
‫وهم في غاية العبد عنه‪ ،‬لنهم لم يدخلوا المر من بابه‪.‬‬
‫وإذا كان هذا في الحج المفروض‪ ،‬فاعلم أنه يكون في‬
‫الحج الذي ليس بمفروض أعظم حرجا ً وأكثر تشديدًا‪.‬‬
‫وكلمنا هذا في حق العاجز الضعيف ‪ .‬وأما القوي‬
‫المستطيع فقد ذكرنا أنه تتأكد عليه المبادرة بحجة‬
‫السلم‪ ،‬ثم يستحب له بعد ذلك أن ل يترك التطوع‬
‫بالحج‪.‬قال بعض السلف رحمة الله تعالى عليهم‪ :‬أقل ذلك‬
‫أن ل تمر عليه خمسة أعوام إل ويحج فيها حجة‪ .‬وقد بلغنا‬
‫عن الله تعالى أنه قال‪)) :‬أن عبدا ً صححت له جسمه‪،‬‬
‫ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام ولم‬
‫يفد علي لمحروم((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وإنما ينبغي للمسلم القادر‪ :‬الستكثار من الحج لما‬
‫فيه من التعظيم لحرمات الله العظيم الذي وردت به‬
‫الخبار‪ ،‬قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫))أفضل الجهاد الحج((‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫) ‪(1/189‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إن الحج يهدم ما قبله((‪،‬‬


‫أي‪ :‬من الذنوب‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من حج فلم يرفث ولم‬
‫يفسق خرج من ذنوب كيوم ولدته أمه(( والرفث‬
‫والفسوق‪ :‬شيئان جامعان للقوال و الفعال القبيحة‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬العمرة إلى العمرة كفارة‬
‫لما بينهما‪ ،‬والحج المبرور ليس له جزاء إل الجنة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬بر الحج إطعام الطعام‪،‬‬
‫ولين الكلم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬الحجاج والعمار وفد الله‪،‬‬
‫إن سألوا أعطوا‪ ،‬وإن دعوا أجيبوا‪ ،‬وإن أنفقوا أخلف‬
‫لهم((‪.‬‬
‫ومن آكد المهمات على المسافر إلى الحج‪ :‬الجتهاد في‬
‫ل‪ ،‬وليحرص كل الحرص‬ ‫أن يكون زاده طيبًا‪ ،‬ونفقته حل ً‬
‫على ذلك‪ ،‬فإن الذي يحج بالمال الحرام ل يقبل الله حجه‪،‬‬
‫وإذا لبى عند إحرامه يقول له سبحانه‪ :‬ل لبيك ول‬
‫سعديك‪ ،‬زادك حرام وراحلتك حرام وحجك غير مبرور‪،‬‬
‫ويقول تعالى للذين يحج بالمال الحلل إذا لّبى‪ :‬لّبيك‬
‫دك حلل‬ ‫وسعديك‪ ،‬زا ُ‬
‫جك مبرور‪ ،‬وكذلك ورد في الخبر‪.‬‬ ‫وراحلُتك حلل وح ّ‬
‫ب النفس بما ينفقه من‬ ‫وليكن المسافر إلى الحج طي ّ َ‬
‫المال في سفره‪ ،‬فإنها نفقة مخلوفة بالخير‬
‫‪190‬‬
‫) ‪(1/190‬‬
‫والبركة‪ ،‬واليسر والسعة‪ .‬وقد ورد أن النفقة في الحج‬
‫كالنفقة في سبيل الله‪ ،‬الدرهم بسيعمائة ‪.‬‬
‫كان الحاج موسرا ً فليبالغ في نوسيع النفقة على الفقراء‬
‫والمساكين‪،‬وبذل المعروف للضعفاء والمقلبن‪ ،‬خصوصا ً‬
‫لهؤلء ‪ ،‬ولغيرهم من المسلمين عموما ً مخلصا ً في ذلك‬
‫لله رب العالمين‪.‬‬
‫***‬
‫وليكن في سفره متواضعا ً متخشعا ً ‪ ،‬متمسكنًا‪ .‬فعلى مثل‬
‫هذه الوصاف ينبغي له أن يفد على الله الملك‬
‫الجبارالمتكبر‪.‬‬
‫ول يكون في سفره عند الله من المطرودين‪ ،‬قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)):‬إنما الحاج أشعت أغبر((‪.‬‬
‫ث وتحته قطيفة‬ ‫وحج عليه الصلة والسلم على رحل ر ّ‬
‫رّثة ل تساوي أربعة دراهم ‪ .‬فكّلما كان الحاج أكثر تواضعا ً‬
‫ب‬‫جه أطي َ‬ ‫ث هيئة يريد بذلك وجه الله كان ح ّ‬‫وتمسكنًا‪ ،‬وأر ّ‬
‫ل وأكم َ‬
‫ل‪.‬‬ ‫وأزكى‪ ،‬وأج ّ‬
‫قال حجة السلم الغزالي رحمه الله‪ :‬جعل الله السفر‬
‫إلى الحج مثال ً للسفر إلى الخرة‪ ،‬فينبغي لك أن‬
‫تستحضر عند كل عمل من أعمال السفر أمرا ً من أمور‬
‫الخرة يوازيه ويماثله‪ ،‬فتتذكر عند وداع الهل والصحاب‬
‫عند السفر‪ ،‬وداعهم في سكرات الموت‪.‬‬
‫‪191‬‬
‫) ‪(1/191‬‬

‫ومن أخذ الزاد للطريق‪ ،‬أخذ الزاد لطريق الخرة‪ ،‬ومن‬


‫بعد الطريق وخوف السباع والقطاع فيها‪ ،‬وتذكر بعد‬
‫طريق الخرة‪،‬وفتنة منكر ونكير‪ ،‬وعذاب القبر‪ .‬ومن‬
‫اللتفاف في ثياب الحرام اللتفاف في الكفان‪ .‬ومن‬
‫السعي بين الصفا والمروة التردد بين كفتي الميزان إيهما‬
‫ترجح‪ .‬ومن الموقف موقف القيامة‪ .‬هذا كلمه ملخصا ً‬
‫بمعناه فانظره في محله‪ .‬والمر كما ذكره رحنه الله‪،‬‬
‫وجزاه عن المسلمين خيرًا‪.‬‬
‫وينبغي للحاج إذا وصل إلى حرم الله وبلده الحرام‬
‫المين))مكة المشرفة((زادها الله شرفًا‪ :‬أن يكون‬
‫ممتلىء القلب بتعظيم الله وإجلله‪ ،‬ويكون على أتم ما‬
‫يمكن منه ويستطيعه من التذلل والتواضع‪ ،‬والخضوع‬
‫والخشوع والنكسارلله تعالى ولتكن هذه الوصاف شعاره‬
‫ودثاره في جميع المواطن والمواقف الشريفة‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي له أن يستكثر جدا ً من الطواف البيت‪ ،‬ومن الصلة‬
‫عنده‪ ،‬فقد ورد ))أن من طاف أسبوعا ً كان له كعدل‬
‫رقبة(( أي يعتقها لوجه الله تعالى‪ .‬وورد ))أن الطائف‬
‫بالبيت ل يرفع قدمه في طوافه‪ ،‬ول يضعها إل محيت عنه‬
‫سيئة أو كتبت اه حسنة‪ ،‬أو رفعت له درجة((‪.‬‬
‫وورد أيضا ً )) أنها تنزل في كل يوم على‬

‫‪192‬‬
‫) ‪(1/192‬‬

‫البيت عشرون ومائة رحمة‪ :‬ستون منها للطائفين‪،‬‬


‫وأربعون للمصلين عند البيت وعشرون للناظرين إليه((‪.‬‬
‫وليكثر في طوافه من تلوة القرآن‪ ،‬ومن الذكار والدعية‪،‬‬
‫وخصوصا ً منها لبوارد في الطواف‪.‬‬
‫وليكثر من استلم الحجر السود المبارك‪ ،‬فإنه يمين الله‬
‫في الرض يصافح بها عباده‪ .‬ومن الصلة في الحجر‪ ،‬فإنه‬
‫من البيت تركته قريش لما بينه في الجاهلية حين قصرت‬
‫بهم النفقة من الحلل‪.‬‬
‫***‬
‫وليكثر من شرب ماء زمزم‪ ،‬فإنه خير ماء على وجه‬
‫الرض كما قال عليه الصلة والسلم ‪ .‬وقال أيضًا‪)):‬ماء‬
‫زمزم لما شرب له‪،‬و إنها طعام طعم وشفاء سقم((‪.‬‬
‫وقد شرب منها جماعات من الكابر لمطالب شرفة‬
‫فنالوها بفضل الله وببركات رسوله الله ‪-‬صّلى الله عليه‬
‫وآله وسّلم‪.-‬‬
‫***‬
‫وإذا وقف بعرفات فليكثر من الستغفار والدعاء‪ ،‬والتضرع‬
‫والبكاء وليسأل الله بصدق ورغبة‪ ،‬وإقبال وإنابة‪ ،‬لنفسه‬
‫ولوالديه وأحبابه ولكافة المسلمين بصلح جميع المور‬
‫الخروية والدنيوية‪ ،‬فإنه يسأل كريما ً جوادًا‪ ،‬بيده الخير‬
‫كله‪ ،‬وله خزائن السموات والرض‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫) ‪(1/193‬‬

‫وهذا الموقف أعظم المواقف السلمية وأجمعها‪،‬‬


‫ويحضره من ملئكة الله وعباده الصالحين خلئق ل‬
‫يحصون‪ ،‬وقد ورد ))أن الله تعالى يباهي بأهل الموقف‬
‫أهل السماء‪ ،‬ويشهد ملئكته على أنه غفر لهم ‪ -‬أعني ‪:‬‬
‫لهل الموقف ‪ -‬وأنه تعالى قيل محسنهم ووهب مسيئهم‬
‫لمحسنهم((‪.‬‬
‫وفي بعض الثار‪ :‬أعظم الناس ذنبا ً من وقف بعرفات‬
‫فظن أنه لم يغفرله‪ .‬وجاء في الخبر‪ :‬أن إبليس لعنه الله‬
‫ل يرى أصغر ول أدحر ول أغيظ منه في يوم عرفة‪ ،‬وما‬
‫ذلك إل لكثرة ما يرى من تنزل الرحمة‪ ،‬وتجاوز الله عن‬
‫المذنبين من الواقفين بعرفات‪.‬‬
‫***‬
‫ومن آداب الحاج المهمة‪ :‬أن يكون قصده مجرد حج بيت‬
‫الله وتعظيم حرماته‪ ،‬فإن لم ينفق له ذلك فليحذر كل‬
‫الحذر أن يستصحب شيئا ً من أمور الدنيا التي تشغله عن‬
‫إقامة المناسك‪ ،‬وتعظيم شعائر الله كما يجب وينبغي‪ ،‬كما‬
‫يقع ذلك لكثير من الغافلين عن الله‪ ،‬والمشغوفين بمحبة‬
‫الدنيا من الشتغال بأمور التجارت والمبايعات عن تعظيم‬
‫الحرمات ولقامة المناسك‪ ،‬وربما أفضى المر ببعضهم‬
‫إلى أن يجعل قصد التجارة هو الصل والحج تابع له‪ ،‬وهذا‬
‫عظيم وفيها ذم كثير‪.‬‬
‫‪194‬‬
‫) ‪(1/194‬‬

‫وأما التجار في الحج إذا لم يشتغل عن إقامته‪ ،‬والتيان‬


‫به على وجهه فل جناح فيه ول حرج‪ ،‬وقد أذن الله فيه‬
‫وأنزل في شأنه‪):‬ل َيس عَل َيك ُم جنا َ‬
‫من‬ ‫ضل ً ّ‬ ‫ح أن ت َب ْت َُغوا ْ فَ ْ‬ ‫ْ ْ ُ َ ٌ‬ ‫ْ َ‬
‫ربك ُم فَإ َ َ‬
‫ر‬
‫شع َ ِ‬‫م ْ‬‫عند َ ال ْ َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ت َفاذ ْك ُُروا ْ الل ّ َ‬
‫ن عََرَفا ٍ‬ ‫م ْ‬‫ضُتم ّ‬ ‫ذا أفَ ْ‬ ‫ّ ّ ْ ِ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫من قَب ْل ِهِ ل َ ِ‬ ‫كنُتم ّ‬ ‫م وَِإن ُ‬ ‫داك ُ ْ‬ ‫حَرام ِ َواذ ْك ُُروهُ ك َ َ‬
‫ما هَ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن(]البقرة‪[2:‬‬ ‫ضآّلي َ‬
‫ال ّ‬
‫ولكن تجريد القصد للحج فقط هو الفضل‪ ،‬واستصحاب‬
‫شيء من أمور التجارة الذي ل يشغل عن الحج و ل يفرق‬
‫القلب ل بأس به‪ .‬وما يفرق القلب ويكثر به الشتغال عن‬
‫إقامة المناسك هو المذموم‪ ،‬فاحذر منه أيها الحاج الراغب‬
‫في أن يكون حجك مبرورًاسعيك مشكورًا‪.‬‬
‫ومن المذموم في الستئجار للحج ما يقع لبعض العامة‪:‬‬
‫من أن أحدهم يسير إلى الحج ونيته أن يفرغ ذمته من‬
‫حجة السلم حتى يصير بذلك صالحا ً لأن يستأجره‬
‫الناس‪ ،‬حتى يحج لهم رغبة منه في الجارة‪ ،‬وحرصا ً قبيحا ً‬
‫على الدنيا‪ .‬ولعل الله تعالى ل يقبل حجة السلم من‬
‫الذين يكون ضميره منطويا ً على مثل ذلك‪ .‬فليتق الله‬
‫وليحذر هذا القصد الذي ل خير فيه‪ ،‬وإنما ذكرناه لظهوره‬
‫على بعض العامة الذين ل بصائر لهم‪ ،‬فليعرفوا به وليشاع‬
‫ذكره‪.‬‬
‫وأما الستئجار للحج فل بأس به ول حرج فيه‪ .‬ول يخلو‬
‫الجير الذي يكون له قصد في زيارة البيت وتعظيم‬
‫الحرمات اللهية ٌوسقاط الفرض عن أخيه المسلم شفقة‬
‫عليه‪ :‬ل يخلو‬
‫‪195‬‬
‫) ‪(1/195‬‬
‫من ثواب كبير من فضل الله تعالى‪ .‬وأما الجير الذي‬
‫ليس له قصد إل إلجارة فقط فأمره غير خال من الخطر‪.‬‬
‫قال المام الغزالي رحمه الله تعالى‪ :‬ينبغي لمن يؤجر‬
‫نفسه في الحج أن يجعل أن قصد البيت هو الصل‬
‫والجارة تابعة‪ ،‬ول يعكس فيجعل الجارة أصل والحج تابعا ً‬
‫‪ .‬انتهى بمعناه‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي للحج أن يأتي بالحج على أكمل وجوهه فرضا ً‬
‫ل‪ ،‬مع القيام بجميع السنن والداب على وفق المنقول‬ ‫ونف ً‬
‫من حج رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ ، -‬ويعرف‬
‫ذلك من المناسك التي وضعها العلماء رحمة الله عليهم‪.‬‬
‫ومن أحسنها ما ألفه المام النووي رحمه الله‪ ،‬فل‬
‫يستغني الحاج عن استصحاب شيء منها أي ‪:‬من‬
‫المناسك التي ألفها العلماء‪ ،‬ليكون‬
‫على بصيرة من أمره وبينة من ربه‪ ،‬وايزر جميع المشاهد‬
‫والمواضع المعظمة‪ ،‬وهي مشهورة ومعروفة‪.‬‬
‫***‬
‫وليحرص كل الحرص على زيارة رسول الله ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪ ، -‬وليحذر كل الحذر من تركها مع‬
‫القدرة‪ ،‬وخصوصا ً بعد حجة السلم‪ ،‬وقد ورد عنه عليه‬
‫الصلة والسلم أنه قال‪)) :‬من حج ولم يزرني فقد‬
‫جفاني‪ .‬ومن زارني ميتا ً فكأنما زارني حيًا(( ‪.‬‬
‫فل ينبغي للمؤمن أن يقصر عن زيارة نبيه عليه الصلة‬
‫والسلم‬
‫‪196‬‬
‫) ‪(1/196‬‬

‫والسلم إل لعذر ناجز‪ ،‬فإن حقه ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬


‫وسّلم‪ -‬على أمته عظيم‪ .‬ولو أن أحدهم يجئ على رأسه‬
‫أو على بصره من أبعد موضع من الرض عن قبره‬
‫الشريف لزيارته عليه الصلة والسلم لم يقم بالحق الذي‬
‫عليه لنبيه‪.‬‬
‫جزاه الله عنا وعن سائر المسلمين أفضل ما جزى نبيا ً‬
‫عن أمته‪ ،‬فقد أدى الرسالة‪ ،‬وأوضح الدللة‪ ،‬ونصح المة‪،‬‬
‫وكشف الغمة‪ ،‬وتركنا على بيضاء نقية‪ ،‬ومحجة واضحة‬
‫من الحق‪ ،‬ليلها مثل نهارها صلى الله وبارك وسلم عليه‬
‫وعلى لله أفضل ما صلى وبارك وسلم على أحد من‬
‫خلقه وأدومه‪ ،‬عدد ما علم وزينة ما علم وملء ما علم‪،‬‬
‫كاما ذكره الذاكرون‪ ،‬وسها وغفل عن ذكره الغافلون‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/197‬‬

‫) ‪(1/198‬‬

‫****************************‬
‫****************************‬
‫مبحث تلوة القرآن العظيم و الذكر‬
‫****************************‬
‫****************************‬
‫) ‪(1/199‬‬

‫) ‪(1/200‬‬

‫مبحث تلوة القرآن العظيم‬


‫*******************‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬جعلنا الله وإياكم من التالين‬
‫لكتابه العزيز حق تلوته‪ ،‬المؤمنين به الحافظين له‬
‫المحفوظين به‪ ،‬المقيمين له القائمينبه ‪ :-‬أن تلوة القرآن‬
‫العظيم من أفضل العبادات وأعظم القربات‪ ،‬وأجل‬
‫الطاعات‪ ،‬وفيها أجر عظيم ‪ ،‬وثواب كريم‪ ،‬قال الله تعالى‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫م ّ‬‫صَلةَ وَأنَفُقوا ِ‬ ‫موا ال ّ‬‫ب الل ّهِ وَأَقا ُ‬ ‫ن ك َِتا َ‬ ‫ن ي َت ُْلو َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫‪):‬إ ِ ّ‬
‫جاَرةً ّلن ت َُبوَر * ل ِي ُوَفّي َهُ ْ‬
‫م‬ ‫ن تِ َ‬‫جو َ‬ ‫سّرا وَعََلن ِي َ ً‬
‫ة ي َْر ُ‬ ‫م ِ‬ ‫َرَزقَْناهُ ْ‬
‫ش ُ‬
‫ه غَُفوٌر َ‬ ‫ُ‬
‫كوٌر(]فاطر‪.[35 :‬‬ ‫من فَ ْ‬
‫ضل ِهِ إ ِن ّ ُ‬ ‫هم ّ‬
‫زيد َ ُ‬
‫م وَي َ ِ‬
‫جوَرهُ ْ‬
‫أ ُ‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬أفضل عبادة أمتي‬
‫تلوة القرآن (( وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من قرأ‬
‫حرفا ً من كتاب الله له حسنة‬
‫والحسنة بعشر أمثالها‪ .‬ل قوله ألم حرف واحد‪ ،‬بل ألف‬
‫حرف‪ ،‬ولم حرف‪ ،‬وميم حرف((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬يقول الله تعالى‪ :‬من شغله‬
‫ذكري وتلوة كتابي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي‬
‫السائلين ‪ .‬وفضل كلم الله تعالى على سائر الكلم‬
‫كفضل الله على خلقه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬اقرؤوا القرآن فإنه يأتي‬
‫يوم القيامة شفيعا ً لصحابه((‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫) ‪(1/201‬‬

‫وقال علي كرم الله وجهه‪ :‬من قرأ القرآن وهو قائم في‬
‫الصلة كان له بكل حرف مائة حسنة‪ ،‬ومن قرأه وهو‬
‫قاعد في الصلة كان له بكل حرف خمسون حسنة‪ ،‬ومن‬
‫قرأه خارج الصلة وهو على طهارة كان له بكل حرف‬
‫خمس وعشرون حسنة‪ ،‬ومن قرأه وهو على غير طهارة‬
‫كان له بكل حرف عشر حسنات‪.‬‬
‫واعلموا‪ :‬أن للتلوة آدابا ً ظاهرة وباطنة‪ ،‬ول يكون العبد‬
‫من التالين حقيقة‪ ،‬الذين تزكو تلوتهم‪ ،‬ويكون من الله‬
‫بمكان حتى يتأدب بتلك الداب ‪ ،‬وكل من قصر فيها ولم‬
‫يتحقق بها لم تكمل تلوته‪ ،‬ولكنه ل يخلو في تلوته من‬
‫ثواب‪ ،‬وله فضل على قدره‪.‬‬
‫فمن أهم الداب وآكدها‪ :‬أن يكون التالي في تلوته‬
‫مخلصا ً لله تعالى ومريدا ً بها وجهه الكريم‪ ،‬والتقرب إليه‬
‫والفوز بثوابه‪ ،‬وأن ل يكون مرائيا ً ول متصنعًا‪ ،‬ول متزينا ً‬
‫للمخلوقين‪ ،‬ول طالبا ً بتلوته شيئا ً من الحظوظ العاجلة‬
‫والغراض الفانية الزائلة‪ ،‬وأن يكون ممتلئ الير والقلب‬
‫والجوارح‪ ،‬حتى كأنه من تعظيمه وخشوعه واقف بين يدي‬
‫الله تعالى يتلون عليه كتابه الذي أمره فيه ونهاه‪ .‬وحق‬
‫لمن عرف القرآن وعرف المتكلم به‪ ،‬أن يكون كذلك‬
‫وعلى أتم من ذلك‪ ،‬كيف وقد قال الله تعالى‪) :‬ل َوْ َأنَزل َْنا‬
‫َ‬
‫ة‬
‫شي َ ِ‬‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫عا ّ‬ ‫صد ّ ً‬ ‫مت َ َ‬
‫شًعا ّ‬ ‫خا ِ‬‫ه َ‬‫ل ل َّرأي ْت َ ُ‬ ‫ن عََلى َ‬
‫جب َ ٍ‬ ‫ذا ال ُْقْرآ َ‬ ‫هَ َ‬
‫َ‬
‫ن( ]الحشر‪:‬‬ ‫س ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م ي َت ََفك ُّرو َ‬ ‫ضرِب َُها ِللّنا ِ‬ ‫ل نَ ْ‬‫مَثا ُ‬
‫ك ال ْ‬‫الل ّهِ وَت ِل ْ َ‬
‫‪.[21‬‬

‫‪202‬‬
‫) ‪(1/202‬‬

‫فإذا كان هكذا يكون حال الجبل مع جموده وصلبته لو‬


‫أنزل عليه القرآن‪ ،‬فكيف يكون حال النسان الضعيف‬
‫المخلوق من ماء وطين‪،‬لول‬
‫غفلة القلوب وقسوتها‪ ،‬وقلة معرفتها بعظمة الله عزه‬
‫وجلله!!‬
‫وقال تعالى في وصف الخاشعين من عباده عند تلوة‬
‫كتابه‪) :‬إن ال ّذي ُ‬
‫م‬‫ذا ي ُت َْلى عَل َي ْهِ ْ‬ ‫من قَب ْل ِهِ إ ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن أوُتوا ْ ال ْعِل ْ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ ّ‬
‫ن َرب َّنا ِإن َ‬ ‫دا *وَي َُقوُلو َ‬ ‫َ‬
‫ن وَعْد ُ‬ ‫كا َ‬ ‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬‫ن ُ‬ ‫ج ً‬‫س ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫ن ل ِلذ َْقا ِ‬ ‫خّرو َ‬ ‫يَ ِ‬
‫َ‬
‫عا(‬‫شو ً‬ ‫خ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫زيد ُهُ ْ‬ ‫ن وَي َ ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ن ي َب ْ ُ‬ ‫ن ل ِلذ َْقا ِ‬ ‫خّرو َ‬ ‫مْفُعول ً *وَي َ ِ‬ ‫َرب َّنا ل َ َ‬
‫]السراء‪.[17:‬‬
‫َ‬
‫شاب ًِها‬ ‫مت َ َ‬‫ث ك َِتاًبا ُ‬ ‫دي ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ه ن َّز َ‬ ‫وقال تعالى‪ ) :‬الل ّ ُ‬
‫ن‬
‫م ت َِلي ُ‬ ‫م ثُ ّ‬‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫شو ْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫جُلود ُ ال ّ ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫من ْ ُ‬
‫شعِّر ِ‬ ‫ي ت َْق َ‬ ‫مَثان ِ َ‬ ‫َ‬
‫ه( ]الزمر‪ ،[23:‬فالتعظيم‬ ‫م إ َِلى ذِك ْرِ الل ّ ِ‬ ‫م وَقُُلوب ُهُ ْ‬ ‫جُلود ُهُ ْ‬ ‫ُ‬
‫والخشية والخشوع والخضوع عند تلوة القرآن من‬
‫أصناف المؤمنين الصادقين‪ ،‬العارفين بجلل الله رب‬
‫العالمين‪ .‬والغفلة والقسوة والسهو واللهو عند تلوة‬
‫القرآن من أوصاف المعرضين المخلطين‪ ،‬الذين ضعف‬
‫إيمانهم‪ ،‬وقل يقينهم‪ ،‬وخلت قلوبهم من حقائق معرفة‬
‫الله‪ ،‬ومعرفة كلمه‪ .‬نسأل الله لنا ولكم العافية من ذلك‪،‬‬
‫ومن جميع أنواع البلء والمهالك‪.‬‬
‫***‬
‫‪203‬‬
‫) ‪(1/203‬‬

‫ومن أهم الداب وأجبها‪ :‬أن يكون في حال تلوته متدبرا ً‬


‫لما يقرأ متفهما له‪ ،‬حاضر القلب عند‪ ،‬قال الله تعالى‪:‬‬
‫ك ل ِي َد ّب ُّروا آَيات ِهِ وَل ِي َت َذ َك َّر أ ُوُْلوا‬
‫مَباَر ٌ‬
‫ك ُ‬‫ب َأنَزل َْناهُ إ ِل َي ْ َ‬‫)ك َِتا ٌ‬
‫َ‬
‫ب (]ص‪.[29:‬‬ ‫الل َْبا ِ‬
‫و قال تعالى في معرض النكار والتوبيخ لقوام‪) :‬أ ََفل‬
‫ب أ َقَْفال َُها(]محمد‪.[24:‬‬ ‫م عََلى قُُلو ٍ‬
‫يتدبرون ال ُْقرآ َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ َُّ َ‬
‫وقال علي رضي الله عنه‪ :‬ل خير في قراءة ل تدب َّر فيها‪.‬‬
‫وصدق رضي الله عنه‪ ،‬فإن القرآن إنما أنزل‬
‫ليتدبر‪،‬وبالتدبر يفهم المراد منه‪ ،‬ويتوصل إلى العلم به‬
‫والعمل بما فيه‪ ،‬وهذا هو المقصود بإنزاله وبعثة الرسول‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬به‪.‬‬
‫فعليك في حال تلوتك بالتدبر والتفهم‪ ،‬فإن قليل ً تقرؤه‪.‬‬
‫من القرآن مع التدبر والتفهم‪ ،‬خير من كثير تقرؤه من‬
‫القرآن بدون ذلك‪.‬‬
‫قال بعض السلف رحمة الله عليهم‪ :‬لن أقرأ إذا زلزلت‬
‫والقارعة‪ ،‬أتدبرهما وأتفهمهما أحب إلي من أن أقرأ‬
‫القرآن كله‪.‬‬
‫وسئل بعضهم عن قارئين‪ :‬قرأ أحدهما البقرة فقط‪ ،‬وقرأ‬
‫الخر البقرة آل عمران‪ ،‬وابتدآ معا ً وختما معًا‪ ،‬أيهما‬
‫أفضل؟ فقال‪ :‬الذي قرأ البقرة فقط أفضل‪.‬‬
‫فقال‪ :‬الذي قرأ البقرة فقط أفضل‪.‬‬
‫ل‪ ،‬ومع أن‬ ‫قلت‪ :‬وإنما صار هذا الذي قرأ البقرة أكثر فض ً‬
‫‪204‬‬
‫) ‪(1/204‬‬

‫الخر قرأ مثله نحوا ً من مرتين لكون قارئ البقرة كان‬


‫ل‪ .‬دل على ذلك استغراقه بقراء تها ذلك‬‫أكثر تدبيرا ً وترتي ً‬
‫الوقت الذي قرأ فيه الخر البقرة وآل عمران‪.‬‬
‫فقد تبين لك أن التدبر والمقصود‪ ،‬والذي عليه المعول في‬
‫حال التلوة للقرآن الكريم‪ ،‬فعليك به رحمك الله ‪.‬‬
‫قال الحسن البصري رحمه الله‪ :‬أن من كان قبلكم وأوا‬
‫هذا القرآن رسائل إليهم من ربهم‪ ،‬فكانوا يتدبرونها بالليل‬
‫وينفذونها بالنهار‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وكلما كان العبد أوسع علما ً ومعرفة بالله‪ ،‬كان أكثر تدبرا ً‬
‫للقرآن‪ ،‬وأعظم فيهما ً فيه‪ ،‬ولذلك اتسع المجال في تدبر‬
‫القرآن وفهمه للعارفين بالله من العلماء الراسخين‬
‫والئمة المهتدين‪.‬قال أبو ذر رضي الله عنه‪:‬قام بنا رسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬ليلة بقوله تعالى‪ِ):‬إن‬
‫ك وإن تغْفر ل َهم فَإن َ َ‬
‫ت ال ْعَ ِ‬
‫زيُز‬ ‫ك أن َ‬ ‫عَباد ُ َ َ ِ َ ِ ْ ُ ْ ِ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫م فَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫ت ُعَذ ّب ْهُ ْ‬
‫م(]المائدة‪.[5:‬‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الية في قيامه من الليل‬
‫فيتدبرها حتى ربما يقط من قيامه من شدة خشيته‬
‫وخشوعه‪ .‬وربما مرض بسبب ذلك حتى يعاد‪.‬‬
‫م‬ ‫ً‬
‫وقام تميم الداري ليلة بهذه الية يرددها إلى الصباح‪ ) :‬أ ْ‬
‫ّ‬
‫مُنوا‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫م َ‬ ‫جعَل َهُ ْ‬ ‫ت أن ن ّ ْ‬ ‫سي َّئا ِ‬‫حوا ال ّ‬‫جت ََر ُ‬
‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫ساء َ‬ ‫م َ‬ ‫مات ُهُ ْ‬‫م َ‬ ‫هم وَ َ‬‫حَيا ُ‬
‫م ْ‬ ‫واء ّ‬‫س َ‬
‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫وَعَ ِ‬
‫ن(]الجاثية‪.[21:‬‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪205‬‬
‫) ‪(1/205‬‬

‫مَتاُزوا‬
‫وقام سعيد بن جبير رحمه الله ليلة بقوله تعالى‪َ) :‬وا ْ‬
‫ال ْيو َ‬
‫ن(]يس‪ [59:‬يرددها‪.‬‬ ‫مو َ‬
‫جرِ ُ‬ ‫م أي َّها ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫وما يحكى عن السلف الصالح في هذا المعنى كثير‬
‫منتشر‪.‬‬
‫وكان الخوف والبكاء يغلب عليهم عند قراءة القرآن من‬
‫شدة‬
‫معرفتهم بالله وفهمهم في كتابه‪ ،‬وتدبر هم له‪ .‬وكان‬
‫يغشى على كثير منهم عند قراءته وسماعه‪ ،‬وربما مات‬
‫بعضهم‪.‬‬
‫وذلك معروف في أخبارهم وسيرهم‪ ،‬رحمهم الله ونفعنا‬
‫بهم‪.‬‬
‫فإذا قرأت القران فتدبر وتفهم وتفكر ‪ ،‬وتوقف عند كل‬
‫آية يكون فيها أمر من أوأمر الله تعالى‪ ،‬أو نهي من نهيه‪،‬‬
‫أو وعد أو وعيد‪ ،‬ثم أنظر‪ ،‬فإن وجدت نفسك ممتثل ً لذلك‬
‫االمأمور‪ ،‬مجتنبا ً لذلك المنهي‪ ،‬ومصدقا ً موقنا ً بذلك الوعد‬
‫والوعيد‪ ،‬فاحمد الله‪ ،‬واعلم أن ذلك حصل لك بتوفيقه‬
‫ومعونته‪ ،‬وزد في الجد والتشمير‪ ،‬واحتز من التساهل‬
‫والتقصير‪ .‬وإن وجدت نفسك غير ممتثل لذلك المأمور‪،‬‬
‫وغير مجتنب لذلك المنهي‪ ،‬وغير قوي اليقين بالوعد‬
‫والوعيد‪ ،‬فاستغفر ربك‪ ،‬وتب إليه من تقصيرك‪ ،‬واعزم‬
‫على امتثال أمره واجتناب نهيه‪ ،‬وألزم قلبك اليقين‬
‫الكامل بوعده ووعيده‪.‬‬
‫وكذلك إذا تلوت آيات التوحيد لله والتقديس له عز وجل‪،‬‬
‫واليات التي فيها من معاني جلله‪ ،‬ورفيع مجده وكماله‪،‬‬
‫‪206‬‬
‫) ‪(1/206‬‬

‫وتكون عند ذلك ممتلئ القلب بتوحيده وتقديسه وتعظيمه‬


‫وإجلله‪.‬‬
‫وإذا تلوت اليات التي فيها ذكر أوصاف المؤمنين‬
‫والصالحين من عباد الله تعالى‪ ،‬وفيها شرح أخلقهم‬
‫المحمدة‪ ،‬تتدبرها وتنظر فيها‪ ،‬وتطالب نفسك بالتصاف‬
‫والتخلق بها‪.‬‬
‫وإذا تلوت اليات التي فيها ذكر العداء من الكافرين‬
‫والمنافقين‪ ،‬وذكر أوصافهم وأخلقهم القبيحة‪ ،‬تتدبرها‬
‫وتنظر هل أنت ملبس لشيء منها‪ ،‬فتتنزه عنه وتتوب إلى‬
‫الله منه لئل ينزل بك من الله مثل الذي بهم من السخط‬
‫والعقاب‪.‬‬
‫وعلى مثل هذا النحو فتدبر في آيات الله عند كل آية منها‬
‫على حسب المناسبة والموافقة‪ ،‬فإن آيات القرآن كثيرة ‪،‬‬
‫وهي أنواع وأقسام متعددة‪ ،‬وفيها العلوم الواسعة الغزيرة‬
‫ما فَّرط َْنا ِفي‬ ‫التي ل غاية لها ول نهاية‪ ،‬قال تعالى‪ّ ):‬‬
‫يٍء(]النعام‪.[38:‬‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬‫ب ِ‬
‫الك َِتا ِ‬
‫يٍء(]النحل‪:‬‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ب ت ِب َْياًنا ل ّك ُ ّ‬
‫ك ال ْك َِتا َ‬
‫وقال تعاى‪):‬وَن َّزل َْنا عَل َي ْ َ‬
‫‪.[89‬‬
‫وفي الحديث‪)):‬إن لكل آية ظهرا ً وبطنًا‪ ،‬وحدا ً ومطلعًا((‪.‬‬
‫***‬
‫‪207‬‬
‫) ‪(1/207‬‬

‫واستعن على حسن التدبر والتفهم لمعاني القرآن بحسن‬


‫الترتيل‪ ،‬والتأني في حال تلوته‪ ،‬ومجانبة العجلة والهذ‬
‫والهذرمة‪ ،‬فقد ورد النهي عن ذلك‪ :‬أعني عن الهذ‬
‫والهذرمة‪ ،‬وهو عبارة عن الستعجال‪ ،‬وترك الترتيل‬
‫المأموربه‪ ،‬قال الله تعالى لرسوله عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫ن ت َْرِتيًل(]المزمل‪.[4:‬‬
‫ل ال ُْقْرآ َ‬
‫)وََرت ّ ِ‬
‫ولما وصفت أم سلمة وغيرها من الصحابة رضي الله‬
‫عمهم قراءة رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪، -‬‬
‫وصفوا قراءة مرتلة مفسرة حرفا ً حرفًا‪.‬‬
‫وقد قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬يقال لقائ القرآن‪ :‬اقرأ‬
‫وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر‬
‫آية تقرؤها((‪.‬‬
‫قال بعض العلماء رحمهم الله تعالى ‪ :‬عدد درج الجنة‬
‫بعدد آي القرآن ‪ ،‬فتكون منزلة من يقرأ القرآن كله في‬
‫أعلى درجات الجنة‪ .‬انتهى بمعناه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا يكون للقارئ المحسن في تلوته‪ ،‬العامل بما‬
‫يقرؤه من القرآن دون القارئ المخلط الغافل ‪ .‬دلت على‬
‫ذلك الحاديث الصحيحة الوردة في عقاب القارئ الذي ل‬
‫يعمل بالقرآن وإن كان أنزل في الظاهر‪ .‬وعدد آيات‬
‫القرآن الكريم أكثر من سته آلف آية فيكون عدد درجات‬
‫الجنة بحسب ذلك على وفق ما ذكره العالم الذي نقلنا‬
‫قوله قريبًا‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫***‬
‫‪208‬‬
‫) ‪(1/208‬‬

‫ومن المندوب إليه‪ :‬تحسين الصوت بالقرآن‪ ،‬وهو معين‬


‫على حضور القلب وخشوعه وحزنه‪ ،‬وباعث على حسن‬
‫الستماع والصغاء إلى القرآن‪ .‬وقد قال رسول الله‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬حسنوا القرآن‬
‫بأصواتكم ((‪.‬‬
‫ن بالقرآن فليس‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من لم يتغ ّ‬
‫مّنا((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في معرض الثناء على أبي‬
‫موسى الشعري رضي الله عنه‪ ،‬وقد سمعه يقرأ القرآن‬
‫بصوت حسن‪)) :‬لقد ُأوتي مزمارا ً من مزامير آل داود(( ‪.‬‬
‫ولكن ينبغي أن يكون ذلك التحسين على وجه يليق‬
‫بتعظيم القرآن و احترامه‪ ،‬بحيث ل يشبه بالغناء‪ ،‬وإنشاد‬
‫الشعار باللحان كما يفعل ذلك بعض الغنياء‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي أن تكون في حال تلوتك على أكمل الحوال‪ :‬من‬
‫الطهارة واستقبال القبلة‪ ،‬وسكون الجوارح‪ ،‬وقلة‬
‫اللتفات‪ ،‬والثياب والمكان‪ ،‬طيب الرائحة‪ ،‬وهذا هو الكمل‬
‫الفضل‪ .‬ولو أن القارئ قرأ وهو محدث غير مستقبل‬
‫القبلة‪ ،‬أو هو قائم أو سائر أو مضطجع جاز ذلك‪ ،‬وله في‬
‫تلوته فضل وثواب‪ ،‬ولكن دون ثواب من يكون على ما‬
‫ذكرناه من حسن الداب وكمال الهيئات‪.‬‬
‫***‬
‫‪209‬‬
‫) ‪(1/209‬‬

‫ثم اعلوا ‪ -‬رحمكم الله ‪ : -‬أن قارئ القرآن وحافظه عند‬


‫الله بمكان‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬الذي يقرأ القرآن وهو به‬
‫ماهر مع السفرة الكرام البَرَرة‪ .‬والذي يقرؤه وي ُت َعْت ِعُ فيه‬
‫وهو عليه شاقّ له أجران((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أهل القرآن هم أهل الله‬
‫وخاصته (( إلى غير ذلك من الفضائل التي وردت بها‬
‫الخبار الكثيرة الشهيرة‪.‬‬
‫***‬
‫ولكن ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف للقرآن حّقه‪ ،‬وما‬
‫يجب له من الحترام والتعظيم‪ ،‬وما يتعين عليه من الخذ‬
‫به والعمل بما فيه‪ ،‬وما أرشد إليه من جميل الوصاف‪،‬‬
‫وكريم الخلق وصالح العمال‪ .‬وهذا وإن كان مطلوبا ً من‬
‫عامة المسلمين فهو على قارئ القرآن أوجب وآكد‪ ،‬وهو‬
‫به أجدر وأولى‪ ،‬لفضله وفضل ما معه من كتاب الله‬
‫وبيناته وحججه‪.‬‬
‫قال عمر رضي الله عنه‪ :‬يا معشر القراء‪ ،‬ارفعوا‬
‫رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق‪ ،‬واستبقوا الخيرات‪.‬‬
‫وقال عبد الله بن المسعود رضي الله عنه‪ :‬ينبغي لصاحب‬
‫س نائمون‪ ،‬وبنهاره إذ الناس‬ ‫القرآن أن يعرف ب َِليل ِهِ إذِ النا ُ‬
‫مفطرون‪ ،‬وبحزنه إذ ِ الناس يفرحون‪ ،‬وببكائه إذِ الناس‬
‫‪210‬‬
‫) ‪(1/210‬‬

‫يضحكون‪ ،‬وبصمته إذ الناس يخوضون‪ ،‬وبخشوعه إذ‬


‫الناس يختالون‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬معنى كلم ابن مسعود هذا أنه ينبغي أن يتمّيز‬
‫صاحب القرآن عن غيره من عامة الناس‪ ،‬بزيادة التشمير‬
‫في طاعة الله وكثرة المسارعة في الخيرات‪ ،‬وشدة‬
‫الحتراز من الغفلة مع مجانبة اللهو وكمال الخشية‪،‬‬
‫والخوف من الله تعالى‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضًا‪ :‬نزل القرآن ليعمل‬
‫به فاتخذتم دراسته عم ً‬
‫ل‪.‬‬
‫***‬
‫فأما القارئ المخلط الغافل الذي ل يعمل بالقرآن‪ ،‬ول‬
‫يأتمر بأوامره‪ ،‬ول ينزجر بزواجره‪ ،‬ول يقف عند حدوده‪،‬‬
‫فقد وردت في ذمه الخبار‪ ،‬وجاءت في حقه تشديدات‪،‬‬
‫وتخويفات كثيرة‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬اقرأ القرآن ما نهاك‪ ،‬فإن‬
‫ت تقرؤه((‪.‬‬
‫س َ‬ ‫لم ينه ْ‬
‫ك فل ْ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من جعل القرآن أمامه‬
‫قاده إلى الجنة‪ ،‬ومن جعله وراء ظهره ساقه إلى‬
‫النار‪ ((...‬الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬النار إلى فسقة القّراء‬
‫أسرعُ‬
‫‪211‬‬
‫) ‪(1/211‬‬

‫ن القرآن غريب في‬ ‫منها إلى عبدة الوثان(( ‪ .‬و ورد أ ّ‬


‫جوف الظالم‪ ،‬و أّنه كم من قارئ يقرأ القرآن و القرآن‬
‫يلعنه؛ يعني لمخالفته له‪ ،‬و عمله على خلف ما يدعوه‬
‫إليه‪.‬‬
‫و بلغنا أنه يؤمر بأناس من حملة القرآن إلى النار قبل‬
‫عبدة الصنام ؛ فيقولون‪ :‬أُيبدأ بنا قبل عبدة الصنام؟؛‬
‫ل لهم‪ :‬ليس من يعرف كمن ل يعرف‪.‬‬ ‫فُيقا ُ‬
‫ن قارئ القرآن إذا ركب المعاصي‬ ‫و في بعض الثار‪ :‬أ ّ‬
‫يناديه القرآن في جوفه ‪ :‬أين زواجري؟ أين قوارعي؟ أين‬
‫مواعظي؟! ‪ .‬الثر إلى آخره‪.‬‬
‫و قال ميمون بن مهران ‪-‬رحمه الله تعالى‪:-‬إن أحدهم‬
‫يقرأ القرآن و هو يلعن نفسه‪ِ ،‬قيل له ‪ :‬و كيف ذلك؟ قال‪:‬‬
‫ن(]آل عمران‪ [61:‬و‬ ‫كاذِِبي َ‬‫ة الل ّهِ عََلى ال ْ َ‬ ‫جَعل ل ّعْن َ ُ‬ ‫يقرأ ) فَن َ ْ‬
‫ن(]هود‪ [18:‬وهو‬ ‫مي َ‬ ‫ة الل ّهِ عََلى ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫هو يكذب‪ ) ،‬أ َل َ ل َعْن َ ُ‬
‫يظلم ‪.‬‬
‫ل‬ ‫مث َُله َ‬
‫مث َ ُ‬ ‫ن المنافق الذي يقرأ القرآن َ‬ ‫وفي الحديث‪ )) :‬إ ّ‬
‫الريحانة ريحها طّيب و طعمها مّر(( ‪ .‬و فيه أيضًا‪ )) :‬إ ّ‬
‫ن‬
‫ل‪ ،‬ل يجاوز تراقيهم‪،‬‬ ‫أقواما ً يقرؤون القرآن كما ُأنزِ َ‬
‫مّية(( ‪.‬‬
‫يمرقون من السلم كما بمرق السهم من الر ِ‬
‫سك‬ ‫نسأل الله تعالى الّلطَفو العافية‪ ،‬و التوفيقَ للّتم ّ‬
‫ل بما أرشد إليه‪ ،‬مع‬ ‫م فيه‪ ،‬و العم َ‬‫م به و الفه َ‬
‫بكتابه‪ ،‬والعل َ‬
‫حسن الخاتمة و حسن العاقبة في المور كّلها لنا ولحبابنا‬
‫و للمسلمين ‪.‬‬
‫***‬
‫‪212‬‬
‫) ‪(1/212‬‬

‫ومن القربات العظيمة والفضائل الجسمية تعلم القرآن‬


‫الكريم وتعليمه‪ ،‬وذلك من فروض الكفايات المتأكدات‪.‬‬
‫وقد قال رسول الله صّلى الله عليه وآله وسّلم ‪)) :‬خيركم‬
‫من تعلم القرآن وعلمه((‪.‬‬
‫وسئل سفيان الثوري رحمه الله تعالى ‪ ،‬فقيل له الرجل‬
‫يتعلم القرآن أحب إليك‪ ،‬أو يغزو في سبيل الله؟ فقال ‪:‬‬
‫بل يتعلم القرآن‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي للقارئ لكتاب الله ‪ :‬أن يستكثر من تلوته آناء‬
‫الليل والنهار‪ ،‬ومع التدبر والترتيل‪ ،‬وغاية الداب والحترام‬
‫وليحذر كل‬
‫الحذر من هجران التلوة‪ ،‬وترك تعهد القرآن! فيتعرض‬
‫بذلك لنسيانه الذي هو من أعظم الذنوب‪ ،‬ففي الحديث‬
‫عنه عليه الصلة والسلم ‪)):‬عرضت علي ذنوب أمتي فلم‬
‫أر ذنبا ً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم‬
‫نسيها‪ ((...‬الحديث‪ .‬وفي حديث آخر‪)) :‬إن الذي ينسى‬
‫القرآن بعد حفظه يلقى الله يوم القيامة وهو أجذم((‪.‬‬
‫وقد أمر عليه الصلة والسلم صاحب القرآن بتعهده‪،‬‬
‫وأخبر أن القرآن أسرع تفّلتا ً من صدور الرجال من البل‬
‫من عُُقلها‪.‬‬
‫وقد كان للسلف ‪ -‬رحمهم الله ‪ -‬عناية تامة بقراءة‬
‫القرآن‪،‬‬
‫‪213‬‬
‫) ‪(1/213‬‬

‫ولهم في ذلك عادات مختلفة‪ ،‬فمنهم من كان يختم في‬


‫كل شهر ختمة‪ ،‬ومنهم في كل عشر ليال‪ ،‬وفي كل ثمان‬
‫ليال‪ ،‬وفس كل سبع‪ -‬ومنهم في كل ثلث‪ ،‬ومنهم من كان‬
‫يختم في كل يوم وليلة ختمة‪.‬‬
‫وختم بعضهم في اليوم واليلة ختمتين وبعضهم أربعًا‪،‬‬
‫وانتهى بعضهم إلى الختم في اليوم والليلة ثمان ختمات‪.‬‬
‫قال المام النووي رحمه الله‪ :‬وهذا أكثر ما بلغنا‪ ،‬يعني‬
‫الختم في اليوم والليلة ثمان مرات ‪ .‬وكره بعضهم الختم‬
‫في أقل من ثلثة أيام ‪ ،‬أعني المداومة على ذلك‪ .‬وقد‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ل يفقه من قرأ القرآن في‬
‫أقل من ثلث(( ‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي لصاحب القرآن‪ :‬أن يجعل له وردا ً من القرآن‬
‫يقوم به في صلته من الليل‪ ،‬فيتتبع القرآن من أوله حتى‬
‫يختمه في صلته من الليل‪ ،‬إما في كل شهر‪ ،‬أو في كل‬
‫أربعين‪ ،‬أو أقل أو أكثر حسب النشاط والتيسير‪ ،‬ول يترك‬
‫ذلك ول يكسل عنه‪ ،‬فقد ورد في الحديث‪)) :‬أن القرآن‬
‫والصوم يشفعان في العبد عند الله‪ ،‬فيقول القرآن‪ :‬منعته‬
‫النوم بالليل فشفعني فيه ويقول الصوم‪ :‬منعته من‬
‫الطعام بالنهار فشفعني فيه فيشفعان(( ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وقد قال تعالى‪ ) :‬ل َيسوا ْ سواء م َ‬
‫ة‬ ‫ة َقآئ ِ َ‬
‫م ٌ‬ ‫م ٌ‬
‫بأ ّ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫ن أه ْ ِ‬‫ّ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ن‬ ‫ن * ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫دو َ‬‫ج ُ‬ ‫س ُ‬‫م يَ ْ‬ ‫ت الل ّهِ آَناء اللي ْ ِ‬
‫ل وَهُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ي َت ُْلو َ‬
‫ن آَيا ِ‬
‫‪214‬‬
‫) ‪(1/214‬‬

‫ْ‬
‫ن ال ْ ُ‬
‫منك َ ِ‬
‫ر‬ ‫ن عَ ِ‬‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬
‫معُْرو ِ‬‫ن ِبال ْ َ‬ ‫مُرو َ‬‫خرِ وَي َأ ُ‬ ‫ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫ن(]آل‬ ‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬‫م َ‬
‫ك ِ‬‫ت وَأ ُوْل َئ ِ َ‬
‫خي َْرا ِ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬‫وَي ُ َ‬
‫عمران‪[114-113:‬‬
‫فيتأكد على القارئ للقرآن أن يقوم من الليل‪ ،‬وأن يقرأ‬
‫سر من القرآن‪ ،‬وكما قال تعالى‪:‬‬ ‫في صلته بالليل ما تي ّ‬
‫ه (]المزمل‪.[20:‬‬ ‫من ْ ُ‬
‫سَر ِ‬
‫ما ت َي َ ّ‬ ‫)َفاقَْر ُ‬
‫ؤوا َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من قام بعشر آيات لم‬
‫ُيكتب من الغافلين‪ ،‬ومن قام بمائة آية ك ُت ِ َ‬
‫ب من القانتين‪،‬‬
‫ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين((‪.‬‬
‫قال العامري رحمه الله في ))بهجته((‪ :‬ينبغي لقارئ‬
‫القرآن أن يقرأ في كل شهر ختمتين‪ ،‬ختمة بالليل في‬
‫القيام من الليل‪ ،‬وختمة بالنهار‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذا شيء سهل‪ ،‬والمداومة عليه متيسرة‪ .‬وصدق‬
‫رحمه الله‪ ،‬والموفق من وفقه الله تعالى‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي لمن أراد أن يخنم القرآن‪ :‬أن يختمه من أول الليل‬
‫أو من أول النهار‪ ،‬حتى يتسع وقت صلة الملئكة عليه ‪،‬‬
‫فإنه ورد في بعض الثار‪ :‬أن من ختم القرآن أّية ساعة‬
‫من الليل صّلت عليه الملئكة حتى يصبح‪ ،‬وأّية ساعة من‬
‫النهار صّلت‬

‫‪215‬‬
‫) ‪(1/215‬‬

‫عليه الملئكة حتى يمسي‪ .‬وفي صلة الملئكة على العبد‬


‫كل خير‪ ،‬وكل سعادة له‪ .‬ومعنى صلتهم عليه‪ :‬استغفارهم‬
‫له ودعاؤهم له بالخير‪.‬‬
‫***‬
‫وليكثر من الدعاء عند الختم ‪ ،‬فإنها ساعة شريفة مباركة‪،‬‬
‫ب فيها الدعاء وتتنّزل الرحمة‪.‬‬‫جا ُ‬‫ومن المواطن التي ُيست َ َ‬
‫قال المام النووي رحمه الله‪ :‬وينبغي أن يكون أكثر دعائه‬
‫عند الختم في صلح أمور المسلمين‪ .‬وذكر طرفا ً من‬
‫عى بها عند ختم القرآن‪ ،‬وذلك‬ ‫الدعية التي ينبغي أن ي ُد ْ َ‬
‫في كتاب ))التبيان(( له ‪ ،‬وهو كتاب جليل نفيس‪ ،‬جمع فيه‬
‫من آداب حملة القرآن وقراءته قدرا ً صالحًا‪ ،‬ول يستغني‬
‫حامل القرآن عن معرفته والوقوف عليه‪.‬‬
‫***‬
‫ومما ينبغي المداومة عليه والتمسك به ل سيما في هذه‬
‫الزمنة المباركة‪ :‬الحزب المبارك الذي تعتاد قراءته‪،‬‬
‫والمواظبة عليه في كثير من‬
‫البلدان‪ ،‬وإقامته في المساجد بين المغرب والعشاء وبعد‬
‫صلة الفجر‪ ،‬وهو معروف بحزب السبوع‪ .‬يفتتح ليلة‬
‫الجمعة ويختم يوم الخميس‪ ،‬وقد روي‬
‫عن عثمان رصي الله عنه أنه كان يفتتح القرآن ليلة‬
‫الجمعة ويختتمه ليلة الخميس‪ .‬فهذا الحزب موافق لما‬
‫ُروِيَ عنه من‬
‫‪216‬‬
‫) ‪(1/216‬‬

‫حيث البتداء والختم‪ .‬وأما من حيث توزيع القراءة وقسمة‬


‫السباع فهو أيضا ً على مثل هذه القسمة أو قريب منها‪،‬‬
‫منقول عن عثمان رضي الله عنه وعن غيره من السلف‪.‬‬
‫قال الفقيه أبو عبد الله بن عّباد شارح الحكم رحمه الله‬
‫تعالى عند ذكره لحزب السبوع في بعض))رسائله(( ‪ :‬هو‬
‫من البدع الحسنة‪ ،‬ويتأكد التمسك به في مثل هذه الزمنة‬
‫التي ضعفت فيها شعائر الدين‪ .‬انتهى كلمه بمعناه‪ ،‬والمر‬
‫كما ذكره رحمه الله‪.‬‬
‫ولكن ينبغي للمداوم على هذا الحزب المبارك أل يغفل‬
‫عن أدبين قد أغفلهما كثير من المواظبين عليه‪.‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن ل يقصر من تلوة القرآن على قراءة هذا‬
‫الحزب فقط‪ ،‬فإنه في الكثر يقرأ في جماعة وقد يكثرون‬
‫فيكون نصيبه منه الذي يقرؤه شيئا ً يسيرًا‪.‬‬
‫والثاني من ‪ -‬الدبين ‪ :-‬أن ل يفعل كما يفعل بعض‬
‫الغافلين‪ ،‬وهو أن بعضهم ينعس في حال القراءة حتى ل‬
‫يشعر بالمقرأ الذي يدور عليه حتى يوقظوه له‪.‬‬
‫وبعضهم يأخذ في الحديث والكلم فيما ل يعني مع صاحبه‬
‫القريب منه‪ ،‬حتى يأتيه المقرأ‪ .‬وهذا مما ل ينبغي! بل هو‬
‫مكروه ومستقبح‪ ،‬سيما إذا كان ذلك في المساجد‪،‬‬
‫والكلم فيها بغير ذكر الله وتلوة كتابه شديد الكراهة‪ .‬وقد‬
‫ورد‪ :‬الكلم في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار‬
‫الحطب‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫) ‪(1/217‬‬

‫ونّبهنا على هذين الدبين لنا رأينا كثيرا ً من قّراء هذا‬


‫الحزب يغفلون عنهما‪.‬‬
‫والذي يقرأ عليه كتاب الله وهو ينعس أو يلغو حاله‬
‫مشكل‪ ،‬وأمره مخطر‪ ،‬لنه يصير كالمعرض عن كتاب الله‬
‫تعالى واللهي عنه‪ .‬فليحذر من يّتقي الله ويعظم حرماته‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي لمن يحفظ كتاب الله تعالى‪ :‬أن يكثر من استماعه‬
‫رىَء ال ُْقْرآ ُ‬
‫ن‬ ‫ذا قُ ِ‬
‫ومن الصغاء عند قراءته‪ ،‬قال تعالى‪) :‬وَإ ِ َ‬
‫َ‬
‫ن(]العراف‪.[204:‬‬ ‫مو َ‬
‫ح ُ‬ ‫صُتوا ْ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت ُْر َ‬ ‫مُعوا ْ ل َ ُ‬
‫ه وَأن ِ‬ ‫َفا ْ‬
‫ست َ ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬من استمع إلى آية من‬
‫كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة‪ .‬ومن قرأها كانت له‬
‫نورا ً يوم القيامة((‪ ،‬وليس طلب الستماع خاصا ً بمن ل‬
‫يقرأ القرآن‪ ،‬بل هو عام لكل أحد من قارئ وغيره‪ ،‬وقد‬
‫قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬لبن مسعود‬
‫رضي الله عنه‪)) :‬اقرأ علي (( ‪ .‬فقال له‪ :‬كيف أقرأ عليك‬
‫ب أن‬ ‫وعليك أنزل! فقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬إني أح ّ‬
‫أسمعه من غيري(( فقرأ عليه من أول سورة‬
‫النساء‪...‬الحديث‪.‬‬
‫واستمع عليه الصلة والسلم إلى قراءة أبي موسى‪،‬‬
‫وإلى قراءة سالم مولى أبي حذيفه ثم قال‪)) :‬الحمد لله‬
‫الذي جعل في أمتي مثله((‪ .‬وإلى قراءة ابن مسعود أيضا ً‬
‫هو وأبو بكر‬
‫‪218‬‬
‫) ‪(1/218‬‬
‫وعمر ثم قال‪)) :‬من سّره أن يقرأ القرآن رطبا ً كما أنزل‪،‬‬
‫فليقرأ على قراءة ابن أم عبد((‪ ،‬وهو ابن مسعود رضي‬
‫الله عنهم أجمعين‪.‬‬
‫ومما ينبغي المحافظة عليه ويتأكد‪ :‬قراءة السور واليات‬
‫التي وردت الخبار بفضائلها‪ ،‬وجزالة الثواب في تلوتها‪،‬‬
‫ث على المواظبة عليها في بعض الوقات‪.‬‬ ‫والح ّ‬
‫فمن ذلك‪ :‬قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلة الجمعة‪،‬‬
‫وففي الحديث‪ )) :‬أن من قرأها غفر له إلى الجمعة‬
‫الخرى‪ ،‬وسطع له نور من قدمه إلى عنان السماء(( وفي‬
‫رواية‪)) :‬أضاء من النور ما بينه وبين البيت العتيق(( وورد‪:‬‬
‫))أن من حفظ عشر آيات من أول الكهف ثم خرج‬
‫الدجال عصم من فتنته((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في سورة البقرة ‪)) :‬اقرؤوا‬
‫سورة البقرة‪ ،‬فإن أخذها بركة وتركها حسرة ول‬
‫يستطيعها البطلة((‪.‬‬
‫وورد‪)) :‬أن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ل يقربه‬
‫شيطان ثلثًا((‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬قراءة سورة يس المباركة‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)):‬يس قلب القرآن‪ ،‬ل يقرؤها رجل يريد الله‬
‫والدار الخرة إل غفر له(( وورد ‪)):‬أن من قرأها كان كمن‬
‫قرأ القرآن عشر مرات((‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫) ‪(1/219‬‬

‫ومن ذلك‪ :‬قراءة سورة تبارك كل ليلة‪ ،‬قال عليه الصلة‬


‫والسلم ‪)):‬هي النافعة والمنجية من عذاب القبر‪ .‬ووددت‬
‫أنها في قلب كل مؤمن‪ ،‬وأنها شفعت في رجل فغفر‬
‫له((‪.‬‬
‫وكان عليه الصلة والسلم ل ينام كل ليلة حتى يقرأ آلم‬
‫السجدة‪ ،‬وتبارك الملك‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬قراءة سورة )الدخان(‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)) :‬من قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح مغفورا ً‬
‫له((‪.‬‬
‫وقال في سورة )الواقعة(‪)) :‬من قرأها كل ليلة لم تصبه‬
‫فاقة((‪.‬‬
‫وقال في سورة )إذا زلزلت(‪)) :‬إنها تعدل نصف القرآن((‪.‬‬
‫وفي سورة )ألهاكم التكاثر(‪)) :‬أن من قرأها كان كمن قرأ‬
‫ألف آية((‪.‬‬
‫وفي )قل هو الله أحد(‪ :‬إنها تعدل ثلث القرآن‪ ،‬وأن من‬
‫ث‬
‫قرأها عشر مرات بني له قصر في الجنة(( ‪ ،‬وورد الح ّ‬
‫على قراءتها بعد كل صلة عشر مرات‪ ،‬وعند الصباح‬
‫وعند المساء وعند النوم‪ .‬ووردت قراءتها مع المعوذتين‬
‫ثلث مرات‪ .‬وفي ذلك حفظ من الفات وكفاية لجميع‬
‫المهمات‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في الفاتحة‪)) :‬إنها أعظم‬
‫سورة‬
‫‪220‬‬
‫) ‪(1/220‬‬

‫في القرآن‪ ،‬وأنها السبع المثاني والقرآن العظيم‪ ،‬وأنها‬


‫أنزلت هي وآية الكرسي وخواتيم سورة البقرة من كنز‬
‫تحت العرش ‪ .‬وأن الفاتحة لما قرئت له‪ ،‬وأنها رقية‬
‫حق((‪.‬‬
‫وورد في آية الكرسي أنها ‪ :‬سيدة آي القرآن‪ ،‬وأن من‬
‫قرأها بعد كل صلة مكتوبة لم يكن بينه وبين دخول الجنة‬
‫إل أن يموت‪ ،‬وأن من قرأها عند النوم لم يقربه شيطان‬
‫حتى يصبح‪.‬‬
‫وورد‪)) :‬أن من قرأ اليتين من آخر سورة البقرة في ليلة‬
‫كفتاه((‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬علموهما نساءكم‬
‫وأبناءكم فإنهما صلة وقرآن ودعاء‪ ((...‬الحديث‪.‬‬
‫وقال علي رضي الله عنه‪ :‬ما أعلم أحدا ً يعقل دخل في‬
‫السلم ينام حتى يقرأ بالثلث اليات من آخر سورة‬
‫َ‬
‫ض وَِإن‬
‫ما ِفي الْر ِ‬
‫ت وَ َ‬
‫ماوا ِ‬ ‫البقرة‪ ،‬يعني‪) :‬ل ّل ّهِ ما ِفي ال ّ‬
‫س َ‬
‫ه فَي َغِْفُر‬ ‫كم ب ِهِ الل ّ ُ‬ ‫سب ْ ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫خُفوهُ ي ُ َ‬ ‫م أ َوْ ت ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ما ِفي أنُف ِ‬ ‫دوا ْ َ‬ ‫ت ُب ْ ُ‬
‫ديٌر *‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫شاء َوالل ّ ُ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ب َ‬ ‫شاء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫لِ َ‬
‫ُ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫لآ َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫من ّرب ّهِ َوال ْ ُ‬ ‫ل إ ِل َي ْهِ ِ‬‫ما أنزِ َ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫م َ‬ ‫آ َ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫سل ِ ِ‬ ‫من ّر ُ‬ ‫حدٍ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫سل ِهِ ل َ ن َُفّرقُ ب َي ْ َ‬ ‫ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬ ‫ِبالل ّهِ وَ َ‬
‫صيُر * ل َ‬ ‫م ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ك َرب َّنا وَإ ِل َي ْ َ‬ ‫معَْنا وَأ َط َعَْنا غُْفَران َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫وََقاُلوا ْ َ‬
‫ما‬‫ت وَعَل َي َْها َ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫سعََها ل ََها َ‬ ‫سا إ ِل ّ وُ ْ‬ ‫ه ن َْف ً‬ ‫ف الل ّ ُ‬ ‫ي ُك َل ّ ُ‬
‫ْ‬
‫ل‬‫م ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫خط َأَنا َرب َّنا وَل َ ت َ ْ‬ ‫سيَنا أ َوْ أ َ ْ‬ ‫خذ َْنا ِإن ن ّ ِ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫ت َرب َّنا ل َ ت ُ َ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫اك ْت َ َ‬
‫مل َْنا‬ ‫ح ّ‬ ‫من قَب ْل َِنا َرب َّنا وَل َ ت ُ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه عََلى ال ّ ِ‬ ‫مل ْت َ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َ‬ ‫صًرا ك َ َ‬ ‫عَل َي َْنا إ ِ ْ‬
‫َ‬
‫موْل ََنا‬ ‫ت َ‬ ‫مَنآ أن َ‬ ‫ح ْ‬‫ف عَّنا َواغِْفْر ل ََنا َواْر َ‬ ‫ة ل ََنا ب ِهِ َواعْ ُ‬ ‫طاقَ َ‬ ‫ما ل َ َ‬ ‫َ‬
‫ن(]البقرة‪.[286-284:‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫صْرَنا عََلى ال َْقوْم ِ ال ْ َ‬ ‫َفان ُ‬
‫‪221‬‬
‫) ‪(1/221‬‬

‫وأما اليتان المذكورتان في قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬


‫ن‬
‫م َ‬ ‫))من قرأ بهما في ليلة كفتاه(( فهي قوله تعالى‪) :‬آ َ‬
‫ن ِبالل ّهِ‬ ‫م َ‬‫لآ َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫من ّرب ّهِ وَ ال ْ ُ‬ ‫ل إ ِل َي ْهِ ِ‬ ‫ما ُأنزِ َ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫سو ُ‬ ‫الّر ُ‬
‫سل ِهِ وََقاُلوا ْ‬ ‫َ‬
‫من ّر ُ‬ ‫حدٍ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫سل ِهِ ل َ ن َُفّرقُ ب َي ْ َ‬ ‫ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬
‫ف الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫صيُر * ل َ ي ُك َل ّ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ك َرب َّنا وَإ ِل َي ْ َ‬ ‫معَْنا وَأط َعَْنا غُْفَران َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫ت َرب َّنا ل َ‬ ‫سب َ ْ‬‫ما اك ْت َ َ‬ ‫ت وَعَل َي َْها َ‬ ‫سب َ ْ‬‫ما ك َ َ‬ ‫سعََها ل ََها َ‬ ‫سا إ ِل ّ وُ ْ‬ ‫ن َْف ً‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫صًرا ك َ َ‬ ‫ل عَل َي َْنا إ ِ ْ‬ ‫م ْ‬‫ح ِ‬ ‫خط َأَنا َرب َّنا وَل َ ت َ ْ‬ ‫سيَنا أوْ أ ْ‬ ‫خذ َْنا ِإن ن ّ ِ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫تُ َ‬
‫ة ل ََنا‬ ‫طاقَ َ‬‫ما ل َ َ‬ ‫مل َْنا َ‬‫ح ّ‬ ‫من قَب ْل َِنا َرب َّنا وَل َ ت ُ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه عََلى ال ّ ِ‬ ‫مل ْت َ ُ‬
‫ح َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صْرَنا عَلى‬ ‫موْل ََنا َفان ُ‬ ‫ت َ‬ ‫مَنآ أن َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ف عَّنا َواغِْفْر لَنا َواْر َ‬ ‫ب ِهِ َواعْ ُ‬
‫ن(]البقرة‪.[286-285:‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬‫ال َْقوْم ِ ال ْ َ‬
‫قال العلماء في معنى قوله عليه الصلة والسلم‬
‫مه‪ ،‬أو كفتاه من قيام الليل‪.‬‬ ‫))كفتاه((‪ :‬أي كفتاه ما أه ّ‬
‫قال المام النووي رحمه الله‪ :‬يجوز أن يكون‬
‫مه ‪ ،‬ومن قيام الليل جميعًا‪.‬‬ ‫المراد))بكفتاه((‪:‬أي ما أه ّ‬
‫انتهى بمعناه‪.‬‬
‫وهذا الباب منتشر‪ ،‬وما ورد فيه كثير معروف عند أهل‬
‫العلم‪ .‬والقصد الشارة إلى بعض المهم من ذلك‪ ،‬ليتمسك‬
‫به الراغبون في الخير فيفوزوا بما ترتب عليه من جزيل‬
‫الثواب‪ ،‬ومن الحفظ والكفاية للفات‪ ،‬والله‬
‫الموّفق والمعين‪ ،‬ل ر ّ‬
‫ب غيره ول إله سواه‪ ،‬وحسبنا الله‬
‫ونعم الوكيل‪.‬‬
‫***‬
‫‪222‬‬
‫) ‪(1/222‬‬

‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬جعلنا الله وإياكم من الذاكرين‬


‫له كثيرا ً من الذين ل تلهيهم أموالهم ول أولدهم عن ذكر‬
‫الله‪ : -‬أن الذكر لله تعالى من أعظم الوامر‪ ،‬وأفضل‬
‫القربات وأوصل الوسائل‪ ،‬قال الله عّز من قائل‪:‬‬
‫َ‬
‫ن(]البقرة‪:‬‬ ‫شك ُُروا ْ ِلي وَل َ ت َك ُْفُرو ِ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫)َفاذ ْك ُُروِني أذ ْك ُْرك ُ ْ‬
‫‪.[152‬‬
‫َ‬
‫ه ذِك ًْرا ك َِثيًرا(‬ ‫مُنوا اذ ْك ُُروا الل ّ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫]الحزاب‪[33:‬‬
‫ن‬
‫دو َ‬ ‫ة وَ ُ‬ ‫خيَف ً‬ ‫ضّرعا ً وَ ِ‬ ‫ك تَ َ‬ ‫س َ‬‫ك ِفي ن َْف ِ‬ ‫كر ّرب ّ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ) :‬واذ ْ ُ‬
‫ن(‬ ‫ن ال َْغافِِلي َ‬‫م َ‬ ‫كن ّ‬ ‫ل وَل َ ت َ ُ‬ ‫صا ِ‬ ‫ل ِبال ْغُد ُوّ َوال َ‬ ‫ن ال َْقوْ ِ‬‫م َ‬ ‫جهْرِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫]العراف‪.[205:‬‬
‫َ‬
‫ن قُُلوب ُُهم ب ِذِك ْرِ الل ّهِ أل َ‬ ‫مُنوا ْ وَت َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬ال ّ ِ‬
‫ب(]الرعد‪.[28:‬‬ ‫ن ال ُْقُلو ُ‬ ‫ب ِذِك ْرِ الل ّهِ ت َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬
‫وقال رسول الله صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) :‬يقول الله‬
‫ن عبدي بي‪ ،‬وأنا معه حيث يذكرني‪ ،‬فإن‬ ‫تعالى أنا عند ظ ّ‬
‫ذكرني في نفسه؛ ذكرته في نفسي‪ ،‬وإن ذكرني في مل ؛‬
‫ت إليه‬ ‫ي شبرا ً تقّرب ُ‬ ‫ه في مل ٍ خيرٍ منهم‪ ،‬وإن تقّرب إل ّ‬ ‫ذكرت ُ ُ‬
‫ت إليه باعًا‪ ،‬وإن أتاني‬ ‫ي ذراعا ً تقّرب ُ‬ ‫ذراعًا‪ ،‬وإن تقّرب إل ّ‬
‫يمشي أتيُته هرولة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أل أنبئكم بخير أعمالكم‬
‫وأزكاها عند مليككم‪ ،‬وأرفعها في درجاتكم‪ ،‬وخير لكم من‬
‫إنفاق الذهب والورق‪،‬‬
‫ومن أن تلقوا عدوكم فيضربوا أعناقكم وتضربوا أعناقهم؟‬
‫قالوا‪ :‬بلى ‪ ،‬قال ‪ :‬ذكر الله((‪.‬‬
‫‪223‬‬
‫) ‪(1/223‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ما عمل ابن آدم عمل ً أنجى‬
‫له من عذاب الله من ذكر الله((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬لذكر الله بالغداة والعشي‬
‫أفضل من حطم السيوف في سبيل الله تعالى‪ ،‬ومن‬
‫حًا(( )‪.(1‬‬ ‫إعطاء المال س ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬مثل الذي يذكر الله والذي‬
‫ل يذكره مثل الحي والميت‪ ،‬ومثل الشجرة الخضراء بين‬
‫الشجر اليابس‪ .‬وذاكر الله في الغافلين كالمقاتل بين‬
‫الفاّرين((‪.‬‬
‫وما ورد في المر بالذكر وفي فضله من اليات والخبار‬
‫ذر حصره‪.‬‬ ‫يطول ذكره ويتع ّ‬
‫***‬
‫قال العلماء رحمهم الله‪ :‬أفضل الذكر ما كان بالقلب‬
‫واللسان جميعًا‪ .‬وذكر القلب على انفراده أفضل من ذكر‬
‫اللسان على انفراده‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومعنى ذكر القلب‪ :‬أن يكون صورة الذكر الجاري‬
‫على اللسان حاضرة فيه وجارية عليه‪ ،‬مثل ‪ :‬ما إذا قال‬
‫الذاكر بلسانه‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬يكون معنى الذكر الجاري‬
‫على اللسان حاضرا ً فيه‪.‬‬
‫مثل‪ :‬أن يقول بلسانه‪ :‬ل إله إل الله‪،‬‬
‫‪------------------------------‬‬
‫ب والسيلن من فوق‪.‬‬ ‫ح‪ :‬الص ّ‬‫)‪ (1‬الس ّ‬
‫‪224‬‬
‫) ‪(1/224‬‬

‫ويكون معنى هذه الكلمة الشريفة الذي هو انفراد الحق‬


‫باللهية حاضرا ً في القلب‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫قال حجة السلم رحمه الله‪ :‬الذكر على أربع مراتب‪:‬‬
‫الولى‪ :‬ذكر اللسان فقط‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬ذكر القلب مع اللسان تكلفًا‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬ذكر القلب طبعا ً وحضوره مع اللسان من غير‬
‫تكلف‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬استيلء المذكور على القلب واستغراقه به‪.‬‬
‫قال ‪ :‬والمرتبة الولى قليلة النفع وضعيفة الثر‪ ،‬يعني بها‬
‫ذكر اللسان مع غفلة القلب‪ .‬انتهى كلمه بمعناه‪.‬‬
‫ول شك أن ذكر اللسان مع غفلة القلب قليل الفائدة‬
‫والنفع‪ ،‬ولكنه خير من ترك الذكر رأسًا‪.‬‬
‫قيل لبعض العارفين‪ :‬إنا لنذكر الله ول نجد حضورا ً فقال ‪:‬‬
‫احمدوا الله الذي زّين جارحة من جوارحكم بذكره؛ يعني‬
‫بها اللسان‪.‬‬
‫فينبغي لمن أخذ في الذكر بلسانه أن يتكّلف إحضار قلبه‬
‫مع اللسان‪ ،‬حتى يصير ذاكرا ً بهما جميعا ً تكّلفا ً في أّول‬
‫المر‪ ،‬ثم ل يزال يواظب على ذلك حتى يذوق القلب لذة‬
‫الذكر‪ ،‬وتشرق عليه أنواره‪ ،‬فعند ذلك يحضر بل تكّلف ول‬
‫مؤنة‪ ،‬بل ربما صار إلى حالة ل يمكنه معها الصبر عن‬
‫الذكر‪ ،‬ول الغفلة عنه‪.‬‬
‫‪225‬‬
‫) ‪(1/225‬‬

‫ثم اعلموا رحمكم الله‪ :‬أن للذكر آدابًا‪ ،‬وأن حضور القلب‬
‫اللسان حال الذكر هو أهمها وآكدها‪ ،‬فعليكم به‪ .‬فإن اكر‬
‫ل يكاد يصل إلى شيء من فوائد الذكر وثمراته المقصودة‬
‫بالحضور‪.‬‬
‫ومن آداب الذكر‪ :‬أن يكون الذكر لله على أكمل الداب‬
‫وأحين الهيئات ظاهرا ً وباطنا ً ‪ ،‬وأن يكون على طهارة‬
‫ونظافة تامة‪ ،‬وأن يكون في حال ذكره خاشعا ً لله ‪،‬‬
‫معظما ً لجلله‪ ،‬مستقبل ً للقبلة‪ ،‬مطرقا ً ساكن الطراف‬
‫كأنه في الصلة‪.‬‬
‫ثم إن المطلوب من العبد‪ :‬أن ل يزال ذاكرا ً لله في جميع‬
‫أحواله وعلى دوام أوقاته‪ ،‬فإن أمكنه الدوام على هذه‬
‫الداب التي ذكرناها‪ ،‬من الطهارة والستقبال وغيرهما في‬
‫دوام أحواله‪ ،‬كما هو شأن أرباب الخلوة و النقطاع إلى‬
‫الله تعالى فعل وداوم‪.‬وإن لم يمكنه الدوام على ذلك ‪-‬‬
‫وهو الكثر والغلب ‪ -‬فينبغي له أن يجعل له وقتا ً معينا ً‬
‫يجلس فيه للذكر‪ ،‬متأدبا ً بهذه الداب التي ذكرناها‪ ،‬وبما‬
‫في معناها مما لم نذكره‪ ،‬ثم ل يزال في بقية أوقاته ذاكرا ً‬
‫لله ‪ :‬قائما ً وقاعدا ً ومضطجعا ً من غير حد ول تقييد‪ ،‬كما‬
‫م(‬ ‫دا وَعََلى ُ‬
‫جُنوب ِك ُ ْ‬ ‫ما وَقُُعو ً‬ ‫قال تعالى‪َ:‬فاذ ْك ُُروا ْ الل ّ َ‬
‫ه قَِيا ً‬
‫]النساء‪.[103:‬‬
‫***‬
‫وليحذر من الغفلة عن الذكر في وقت من الوقات‪ ،‬فإن‬
‫الغفلة عن ذكر الله كثيرة الضرر‪ ،‬قال النبي ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪)) : -‬من قعد‬
‫‪226‬‬
‫) ‪(1/226‬‬

‫مقعدا ً لم يذكر الله تعالى فيه إل كانت عليه من الله ترة ‪،‬‬
‫ومن اضطجع مضطجعا ً لم يذكر الله تعالى فيه إل كانت‬
‫عليه من الله ترة‪ ،‬ومن مشى ممشى ل يذكر الله تعالى‬
‫فيه إل كانت عليه من الله ترة(( ‪ .‬انتهى‪ .‬ومعنى الترة‪:‬‬
‫الحسرة‪ ،‬وقيل‪ :‬التبعة‪.‬‬
‫وُرّبما تسّلط الشيطان على الغافل‪ ،‬واستولى عليه بسبب‬
‫عن‬ ‫ش َ‬ ‫من ي َعْ ُ‬ ‫غفلته عن ذكر موله‪ ،‬كما قال تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫ن(]الزخرف‪:‬‬ ‫ري ٌ‬ ‫ه قَ ِ‬‫طاًنا فَهُوَ ل َ ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ه َ‬‫ض لَ ُ‬ ‫ن ن َُقي ّ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ذِك ْرِ الّر ْ‬
‫ح َ‬
‫‪.[36‬‬
‫َ‬
‫م ذِك َْر الل ّ ِ‬
‫ه(‬ ‫ساهُ ْ‬ ‫ن فَأن َ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫م ال ّ‬ ‫حوَذ َ عَل َي ْهِ ُ‬‫ست َ ْ‬
‫وقال تعالى‪) :‬ا ْ‬
‫]المجادلة‪.[19:‬‬
‫ومن شأن المؤمن أن يذكر ربه كثيرًا‪ .‬كما أن وصف‬
‫ل‪ ،‬قال الله تعالى في وصف‬ ‫المنافق أن ل يذكر ربه إل قلي ً‬
‫ل(‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه إ ِل ّ قَِلي ً‬ ‫س وَل َ ي َذ ْك ُُرو َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫ؤو َ‬ ‫المنافقين‪) :‬ي َُرآ ُ‬
‫]النساء‪.[142:‬‬
‫وفي ملزمة الذكر والمداومة عليه طرد للشيطان‪ ،‬وقطع‬
‫لوسوسته‪ ،‬كما ورد ‪)) :‬إن الشيطان جاثم على قلب‬
‫العبد‪ ،‬فإذا ذكر الله خنس‪ ،‬وإذا غفل وسوس له((‪.‬‬
‫فينبغي وتتأكد المواظبة والملزمة لذكر الله على دوام‬
‫الوقات‪ ،‬وفي عموم الحوال‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم‬
‫للرجل الذي قال له‪ :‬يا رسول الله ‪ ،‬قد ك َُثرت عل ّ‬
‫ي‬
‫شرائع السلم‪ ،‬فمرني بشيء به‪ .‬فقال له‪ )) :‬ل يزال‬
‫لسانك رطبا ً من ذكر الله((‪.‬‬
‫‪227‬‬
‫) ‪(1/227‬‬

‫وقد عد ّ العلماء ‪ -‬رحمهم الله ‪ -‬من فضائل الذكر‬


‫وأرجحيته على غيره من العمال الصالحة‪ :‬أنه تمكن‬
‫المداومة عليه في جميع الوقات والحوال‪ ،‬لنه غير‬
‫مؤّقت بوقت‪ ،‬بل هو مأمور به على الدوام‪ ،‬ويتعاطاه‬
‫المحدث والجنب‪ ،‬والمشغول والفارغ‪ .‬ول هكذا غيره من‬
‫الصلة والصوم و التلوة‪ ،‬فإن لها شرائط تتوقف عليها‪،‬‬
‫وأوقاتا ً ل تص ّ‬
‫ح إل فيها‪.‬‬
‫وأفضل العمال الصلة وهي ممنوعة في نحو ثلث النهار‪:‬‬
‫من بعد صلة الصبح إلى ارتفاع الشمس‪ ،‬ومن بعد صلة‬
‫العصر إلى الغروب‪ .‬والصوم ممنوع إل في النهار‪.‬‬
‫وقراءة القرآن الكريم ممنوعة على صاحب الجنابة وغير‬
‫محبوبة من صاحب الشغال التي تفرق القلب بحيث ل‬
‫يجتمع معها قلبه‪ ،‬وذلك لحرمة القرآن وجللته‪ ،‬وأما الذكر‬
‫سع الله تعالى المر فيه رحمة لعباده ومنة عليهم‪،‬‬ ‫فقد و ّ‬
‫ومع ذلك فالمؤونة فيه قليلة‪ ،‬والكلفة خفيفة بالنسبة إلى‬
‫غيره‪ .‬ففضل الذكر من هذه الحيثيات غيره من العمال‪،‬‬
‫وإن كان لبعضها فضل عليه من حيثيات أخرى‪.‬‬
‫فمن خصوصيات الذكر خّفة المؤونة فيه مع فضله‪ ،‬وأنه‬
‫يمكن المداومة عليه‪ ،‬حتى إنه ينبغي لمن يكون على حالة‬
‫يكره له فيها أن يذكر الله بلسانه‪ ،‬مثل‪ :‬الخلء والجماع‪،‬‬
‫أن ل يغفل عن الذكر الله بقلبه‪ ،‬كذلك قال العلماء بالله‬
‫رحمهم الله‪.‬‬
‫‪228‬‬
‫) ‪(1/228‬‬

‫فل تزال ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬ذاكرا ً وإن كنت صانعا ً ومحترفا ً‬


‫ذكَر مع ذلك‬ ‫وملبسا ً لشيء من أشغال الدنيا‪ ،‬فلزم ِ ال ّ‬
‫بقلبك وبلسانك حسب المكان‪.‬‬
‫وإن ذكرت الله تعالى في سّرك‪ ،‬وبحيث تسمع نفسك‬
‫فقد أصبت و أحسنت‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬خير‬
‫الذكر الخفي‪ ،‬وخير الرزق ما يكفي(( وفي الية الكريمة‪:‬‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫جهْرِ ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ة وَ ُ‬
‫خيَف ً‬ ‫ضّرعا ً وَ ِ‬ ‫ك تَ َ‬ ‫س َ‬ ‫ك ِفي ن َْف ِ‬‫كر ّرب ّ َ‬ ‫)َواذ ْ ُ‬
‫ن(]العراف‪:‬‬ ‫ن ال َْغافِِلي َ‬
‫م َ‬ ‫كن ّ‬ ‫ل وَل َ ت َ ُ‬ ‫صا ِ‬‫ل ِبال ْغُد ُوّ َوال َ‬‫ال َْقوْ ِ‬
‫‪.[205‬‬
‫وش‬ ‫وإن جهرت بالذكر مع الخلص لله فيه‪ ،‬ولم تش ّ‬
‫ل ول قارئ بحيث تخلط عليه صلته‬ ‫بسبب ذلك على مص ّ‬
‫ب‬
‫وقراءته فل بأس بالجهر‪ ،‬ول مانع منه بل هو مستح ّ‬
‫ومحبوب‪.‬‬
‫***‬
‫وإن كان ذلك مع جماعة اجتمعوا لذكر الله على وفق ما‬
‫ذكرناه من الخلص وعدم التشويش على المصّلين‬
‫غب فيه‪ ،‬وردت‬ ‫والتالين ونحوهم‪ ،‬فذلك مندوب إليه ومر ّ‬
‫بفضله الخبار‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ما اجتمع قوم في بيت من‬
‫بيوت الله يذكرون الله تعالى يريدون بذلك وجه الله‬
‫دل سيئاتهم حسنات((‪.‬‬ ‫تعالى إل غفرلهم‪ ،‬وب ّ‬
‫‪229‬‬
‫) ‪(1/229‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ما قعد قوم يذكون الله‬
‫لئكة‪ ،‬وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم‬‫تعالى إل حفتهم الم ً‬
‫السكينة‪ ،‬وذكرهم الله فيمن عنده((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إذا مررتم برياض الجنة‬
‫فارتعوا (( قيل ‪ :‬وما رياض الجنة؟ قال‪)) :‬حلق الذكر(( ‪.‬‬
‫وفي رواية ))مجالس الذكر((‪،‬‬
‫وورد في الحديث الطويل الذي أّوله‪)) :‬إن لله ملئكة‬
‫سيارة في الرض يطلبون مجالس الذكر(( ثم ساق‬
‫الحديث إلى أن قال في آخره‪ )):‬فيقول الله للملئكة‪:‬‬
‫أشهدكم أني قد غفرت لهم ‪ -‬أي للذاكرين ‪ -‬وأعطيتهم‬
‫ما يسألون‪ ،‬وأعذتهم مما يستعيذون‪ ،‬فتقول الملئكة‪:‬‬
‫طاء وأنما مّر فجلس معهم‪ ،‬فيقول‬ ‫فيهم فلن عبد خ ّ‬
‫تعالى‪ :‬هم القوم ل يشقى بهم جليسهم‪((..‬الحديث‪ ،‬وهو‬
‫مشهور‪.‬‬
‫***‬
‫وقد اختار جماعة من أهل طريق التصوف الجهر بالذكر‪،‬‬
‫والجتماع لذلك‪ ،‬ولهم في ذلك طرائق معروفة‪ .‬واختار‬
‫آخرون السرار به‪ ،‬والجميع على خير من ربهم‪ ،‬وسداد‬
‫من طرائقهم رحمهم الله ونفع بهم ‪.‬‬
‫ثم إن أهل هذه الطريق أعني طريقة التصوف ل يعدلون‬
‫بالذكر لله شيئًا‪ ،‬وعليه تعويلهم‪ ،‬وفيه شغلهم بعد إقامة‬
‫الفرائض واجتناب المحارم‪ ،‬وبه يأمرون المريد والسالك‬
‫لطريقهم‪ ،‬ويأخذون عليه العهد بالمداومة‬
‫‪230‬‬
‫) ‪(1/230‬‬

‫عليه والملزمة له‪ ،‬مع شرائط وآداب لهم في طريقهم‪،‬‬


‫مها وآكدها‪.‬‬‫الذكر لله أه ّ‬
‫ل نوع منها فضل وثواب‬ ‫والذكر على أنواع كثيرة‪ ،‬ولك ّ‬
‫عظيم‪ ،‬وفيه فوائد جمة‪ ،‬وله ثمرات وآثار شريفة‪.‬‬
‫فمن أنواع الذكر بل هو أشرفها وأفضلها‪)) :‬ل إله إل‬
‫الله((؛ قال النبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬أفضل‬
‫الذكر ل إله إل الله ‪.‬وأفضل الدعاء الحمد لله((‪ ،‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬أفضل ماقلت أنا والنبيون من‬
‫قلبي ‪ :‬ل إله إل الله((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم فيما يرويه عن الله تعالى‪)) :‬ل‬
‫إله إل الله حصني‪ ،‬ومن دخل حصني أمن من عذابي((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬جددوا إيمانكم(( قالوا‪:‬‬
‫وكيف نجدد إيماننا؟ قال ‪)) :‬أكثروا من قول ل إله إل‬
‫الله((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬سبحان الله نصف الميزان‪،‬‬
‫والحمد لله تملؤه‪ ،‬ولإله إل الله ليس لها دون الله‬
‫حجاب((‪.‬‬
‫وورد‪ :‬أن عمودا ً من نور واقف بين يدي الله تعالى‪ ،‬فإذا‬
‫قال القائل‪ :‬ل إله إل الله؛ أهتّز ذلك العمود‪ ،‬فيقول الله‬
‫تعالى‪ :‬اسكن فيقول‪ :‬كيف أسكن ولم تغفر لقائلها‪،‬‬
‫فيقول الله تعالى‪ :‬قد غفرت له‪ .‬فيسكن‪.‬‬
‫وورد أيضًا‪ :‬أن العبد إذا قال ‪ :‬ل إله إل الله‪ ،‬لم تمر‬
‫‪231‬‬
‫) ‪(1/231‬‬

‫ل إله إل الله على سيئة في صحيفته إل محتها‪ ،‬حتى تجد‬


‫حسنة فتسكن إلى جنبها‪.‬‬
‫وورد أيضًا‪)) :‬أنه لو كانت السماوات السبع والرضون‬
‫السبع وما فيهن في كفة‪ ،‬ول إله إل الله في كفة لرجحت‬
‫بهن ل إله إل الله((‪.‬‬
‫وما ورد في فضل هذه الكلمة كثير شهير‪ ،‬والقصد‬
‫الشارة دون الستقصاء‪ .‬ويكفي في معرفة فضلها أنها‬
‫الكلمة التي يدخل بها النسان في السلم‪ ،‬ومن ختم له‬
‫عند الموت بها فاز بالسعادة البدية التي ل شقاوة بعدها‪.‬‬
‫اللهم يا كريم‪ :‬نسألك أن تحيينا وتميتنا وتبعثنا على قوال‬
‫))ل إله إل الله((مخلصين‪ ،‬ووالدينا وأحبابنا والمسلمين‪.‬‬
‫آمين‬
‫وقال صلى الله عليه وسلم في )ل إله إل الله وحده ل‬
‫شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير(‬
‫‪)) :‬من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من‬
‫ولد إسماعيل عليه السلم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من قال ل إله إل الله وحده‬
‫ل شريك له‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء‬
‫قدير‪ ،‬في يوم مائة مرة‪ ،‬كانت له عدل عشر رقاب‪،‬‬
‫وكتبت له مائة حسنة‪ ،‬ومحت عنه مائة سيئة‪ ،‬وكانت له‬
‫ت أحد ّ‬‫حرزا ً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي‪ .‬ولم يأ ِ‬
‫بأفضل مما جاء به إل رجل عمل أكثر منه((‪.‬‬
‫‪232‬‬
‫) ‪(1/232‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم أيضا ً ‪)):‬من قال ل إله إل الله‪،‬‬


‫وحده ل شريك له ‪ ،‬له الملك‪ ،‬وله الحمد‪ ،‬وهو على كل‬
‫شيء قدير‪ ،‬لم يسبقها عمل‪ ،‬ول تبقى معها خطيئة((‪.‬‬
‫***‬
‫ومن أفضل أنواع الذكر وأجمعها قول‪)) :‬سبحان الله‪،‬‬
‫والحمد لله‪ ،‬ول إله إل الله‪ ،‬والله أكبر(( فقد ورد عنه عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)):‬أنها خير الكلم وأحّبه إلى الله تعالى((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬لن أقول سبحان الله‪،‬‬
‫ي مما‬ ‫ب إل ّ‬
‫والحمد لله‪ ،‬و ل إله إل الله‪ ،‬والله وأكبر‪ ،‬أح ّ‬
‫طلعت عليه الشمس((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬لقيت إبراهيم عليه السلم‪،‬‬
‫وأخبرني فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬اقرأ على أمتك مني السلم‪،‬‬
‫وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة‪ ،‬عذبة الماء‪ ،‬وأنها قيعان)‬
‫‪ (1‬وأن غراسها‪ :‬سبحان الله‪ ،‬والحمد لله‪ ،‬ول أله إل الله‪،‬‬
‫والله أكبر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في هذه الكلمات الربع‪)) :‬من‬
‫ست له بكل واحدة منهن شجرة((‪ ،‬أي ‪ :‬في‬ ‫قالهن غُرِ َ‬
‫الجنة‪.‬‬
‫‪---------------------------‬‬
‫)‪ (1‬جمع قاع‪ ،‬وهو في الصل‪ :‬المكان المستوي الواسع‬
‫في وطأة من الرض يعلوه ماء السماء فيمسكه‪ ،‬ويستوي‬
‫نباته‪.‬‬
‫‪233‬‬
‫) ‪(1/233‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم لبي الدرداء رضي الله عنه‪:‬‬
‫))قل سبحان الله‪ ،‬والحمد لله‪ ،‬ول إله إل الله‪ ،‬والله أكبر‪،‬‬
‫ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم‪ ،‬فإنهن الباقيات‬
‫ط الشجرة‬ ‫الصالحات‪ ،‬وهن يحططن الخطايا كما تح ّ‬
‫ورقها((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في‪ :‬ل حول ول قوة ل بالله‬
‫العلي العظيم‪ )) :‬إنها كنز من كنوز الجنة‪ ،‬وإنها دواء من‬
‫م((‪.‬‬
‫تسعة وتسعين داء أدناها اله ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من كانت لله عليه نعمة‬
‫وأحب بقاءها فليكثر من‪ :‬ل حول ول قوة إل بالله العلي‬
‫العظيم((‪.‬‬
‫ومن أنواع الذكر الفاضلة قول ‪ :‬سبحان الله وبحمده‪ ،‬قال‬
‫عليه الصلة والسلم‪ )) :‬أحب الكلم إلى الله تعالى‪،‬‬
‫سبحان الله وبحمده(( ‪،‬‬
‫وسئل عليه الصلة والسلم‪ :‬أيّ الكلم أفضل؟ قال ‪)) :‬ما‬
‫اصطفى الله لملئكته‪ :‬سبحان الله وبحمده((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من قال سبحان الله‬
‫وبحمده غرست له نخلة في الجنة‪ .‬ومن قالها مائة مرة‬
‫طت عنه ألف خطيئة((‪.‬‬ ‫ح ّ‬‫ف حسنة‪ ،‬و ُ‬ ‫ك ُت َِبت له أل ُ‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬من قال حين يصبح‬
‫وحين يمسي‪ :‬سبحان الله وبحمده مائة مرة‪ ،‬لم يأت أحد‬
‫يوم القيامة بأفضل مما جاء به إل أحد قال مثل ما قال أو‬
‫زاد عليه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬كلمتان خفيفتان على‬
‫اللسان‪ ،‬ثقلتان في الميزان‪ ،‬حبيبتان إلى الرحمن‪ :‬سبحان‬
‫الله وبحمده‪ ،‬سبحان الله العظيم((‪.‬‬
‫‪234‬‬
‫) ‪(1/234‬‬

‫وعن أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها‪ :‬أن النبي ‪-‬صّلى‬


‫الله عليه وآله وسّلم‪ -‬خرج من عندها ثم رجع بعد أن‬
‫ت على الحالة‬ ‫أضحى وهي جالسة تسبح فقال‪)) :‬ما زل ِ‬
‫التي فارقتك عليها؟(( قالت‪ :‬نعم‪ .‬قال النبي ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪)) : -‬لقد قلت بعدك أربع كلمات )ثلث‬
‫مرات( لو‬
‫ت منذ اليوم لوزنتهن ‪ :‬سبحان الله وبحمده‬ ‫وُزَِنت بما ُقل ِ‬
‫عدد خلقه‪ ،‬ورضا نفسه‪ ،‬وزنة عرشه‪ ،‬ومداد كلماته((‪.‬‬
‫ومن أنواع الذكار الكثيرة الخير والبركة‪ ،‬العظيمة الفضل‬
‫والثواب‪ :‬الستغفار‪ ،‬والصلة على النبي المختار ‪-‬صّلى‬
‫الله عليه وآله وسّلم‪ ،-‬والدعاء‪.‬‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫أما الستغفار فقال الله عّز من قائل في فضله‪) :‬وَ َ‬
‫َ‬
‫م‬‫م وَهُ ْ‬ ‫معَذ ّب َهُ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ت ِفيهِ ْ‬ ‫م وَأن َ‬ ‫ه ل ِي ُعَذ ّب َهُ ْ‬‫الل ّ ُ‬
‫ن(]النفال‪.[33:‬‬ ‫ست َغِْفُرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫كم‬ ‫مت ّعْ ُ‬ ‫م ُتوُبوا ْ إ ِل َي ْهِ ي ُ َ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ست َغِْفُروا ْ َرب ّك ُ ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَأ ِ‬
‫َ‬
‫ضل َ ُ‬
‫ه‬ ‫ل فَ ْ‬ ‫ض ٍ‬‫ل ِذي فَ ْ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫مى وَي ُؤْ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ّ‬ ‫ج ٍ‬ ‫سًنا إ َِلى أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫عا َ‬ ‫مَتا ً‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ر(]هود‪.[3:‬‬ ‫ب ي َوْم ٍ كِبي ٍ‬ ‫ذا َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ف عَلي ْك ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫يأ َ‬ ‫وَِإن ت َوَلوْا فَإ ِن ّ َ‬
‫ت‬‫وقال تعالى فيما حكاه عن نبيه نوح عليه السلم‪) :‬فَُقل ْ ُ‬
‫كم‬ ‫ماء عَل َي ْ ُ‬ ‫س َ‬‫ل ال ّ‬ ‫س ِ‬ ‫ن غَّفاًرا * ي ُْر ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ست َغِْفُروا َرب ّك ُ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫َ‬
‫جَعل‬ ‫ت وَي َ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫جَعل ل ّك ُ ْ‬ ‫ن وَي َ ْ‬ ‫ل وَب َِني َ‬ ‫وا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫مدِد ْك ُ ْ‬ ‫مد َْراًرا * ي ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫م أن َْهاًرا(]نوح‪[12-10:‬‬ ‫ل ّك ْ‬‫ُ‬
‫َ‬
‫ر‬
‫ست َغِْف ِ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ه ثُ ّ‬‫س ُ‬ ‫م ن َْف َ‬ ‫سوًءا أوْ ي َظ ْل ِ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫من ي َعْ َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫ما(]النساء‪.[110:‬‬ ‫حي ً‬ ‫ه غَُفوًرا ّر ِ‬ ‫جدِ الل َ‬ ‫ه يَ ِ‬ ‫الل َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من لزم الستغفار جعل الله‬

‫‪235‬‬
‫) ‪(1/235‬‬

‫م فرجًا‪ ،‬ومن كل ضيق مخرجًا‪ ،‬ورزقه من‬ ‫له من كل هَ ّ‬


‫حيث ل يحتسب((‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬طوبى‬
‫جد َ في صحيفته استغفارا ً كثيرًا((‪.‬‬
‫لمن وُ ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من قال أستغفر الله في‬
‫يوم سبعين مرة غفر الله له سبعمائة ذنب‪ ،‬وقد خاب عبد‬
‫أو أمة يذنب في يوم وليلة أكثر من سبعمائة ذنب((‪ ،‬وقال‬
‫عليه الصلة والسلم‪)) :‬والله إني لستغفرالله وأتوب إله‬
‫في اليوم أكثر من سبعين مرة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ال أخبركم بدائكم‪ ،‬أل إن‬
‫داءكم الذنوب‪ ،‬ودواءكم الستغفار((‪،‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬قال إبليس‪ :‬وعزتك‬
‫ب ل أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في‬ ‫وجللك يا ر ّ‬
‫أجسادهم‪ .‬فقال الله‪ :‬وعزتي وجللي ل برحت أغفر لهم‬
‫ما استغفروني((‪.‬‬
‫وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‪ :‬كّنا نعد ّ لرسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬في المجلس لواحد‬
‫)مائة مرة(‪)) :‬رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب‬
‫الرحيم((‪.‬‬
‫فعليك ‪ -‬رحمك الله ‪ : -‬بالكثار من هذا الذكر المبارك‪،‬‬
‫الذي كان من رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫بهذه المنزلة‪.‬‬
‫وبلغنا أن المام أحمد بن حنبل رحمه الله ُرِئي بعد موته‬
‫في المنام فذكر‪ :‬أن الله نفعه كثيرا ً بكلمات سمعها من‬
‫بك ّ‬
‫ل‬ ‫سفيان الثوري رحمه الله‪ ،‬وهي هذه‪ :‬اللهم يا ر ّ‬
‫شيء‪ ،‬بقدرتك على كل شيء‪ ،‬اغفر لي كل شيء‪ ،‬ول‬
‫تسألني عن شيء‪ .‬انتهى يمعناه‪.‬‬
‫‪236‬‬
‫) ‪(1/236‬‬

‫فعليك أيضًا‪ :‬بالكثار من هذه الكلمات المباركات‪ .‬ومن‬


‫المأثور‪ :‬أن من استغفر الله كل يوم للمؤمنين والمؤمنات‬
‫م‬ ‫)سبعا ً وعشرين مرة( صار من العباد الذين بهم ُير َ‬
‫ح ُ‬
‫طرون وُيرزقون‪ .‬وهذه صفة البدال‬ ‫م َ‬‫الخلق‪ ،‬وبهم ي ُ ْ‬
‫من رجال الله وعباده الصالحين‪.‬‬
‫وأما الصلة على رسول الله صّلى الله عليه وآله وسّلم‬
‫ففضلها عظيم‪ ،‬ونفعها في الدينا والخرة للمكثرين منها‬
‫ن عََلى الن ّب ِ ّ‬
‫ي‬ ‫صّلو َ‬ ‫مَلئ ِك َت َ ُ‬
‫ه يُ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه وَ َ‬ ‫كثير‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫ما(]الحزاب‪:‬‬ ‫سِلي ً‬
‫موا ت َ ْ‬ ‫سل ّ ُ‬‫صّلوا عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫مُنوا َ‬‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫‪.[56‬‬
‫ص الله عليه في هذه الية تشريفا ً لنبيه‬
‫فناهيك بما ن ّ‬
‫وتعظيمًا‪ ،‬وحثا لعباده المؤمنين على الصلة والتسليم‬
‫عليه وتحريضًا‪.‬‬
‫وقال عليه‪ )):‬من صلى علي واحدة صلى الله عليه‬
‫عشرًا((‪.‬‬
‫قال بعض العلماء المحققين رحمهم الله ‪:‬لو صلى الله‬
‫على العبد في طول عمره مرة وأحدة لكفاه ذلك شرفا ً‬
‫وكرامة‪ ،‬فكيف بعشر صلوات على كل صلة يصليها‬
‫الميلم على نبيه؟! انتهى‬
‫‪237‬‬
‫) ‪(1/237‬‬

‫فالحمد لله على عظيم فضله وجزيل عطائه‪.‬‬


‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من صلى علي صلة صلى‬
‫الله عليه بها عشر صلوات‪ ،‬ورفع له بها عشر خطيئات((‪،‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أولى الناس بي يوم القيامة‬
‫أكثرهم علي صلة((‪.‬وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من‬
‫قال الللهم صل على محمد‪ ،‬وأنزله المقعد المقرب عندك‬
‫يوم القيامة وجبت له شفاعتي(( وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪)) :‬من قال جزى الله عنا محمدا ً ما هو أهله‪،‬‬
‫أتعب سبعين كاتبا ً ألف صباح((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬صلوا علي حيثما كنتم‪ ،‬فإن‬
‫صلتكم تبلغني((‪.‬‬
‫وورد‪)) :‬أن لله ملئكة سياحين في الرض يبلغونه عليه‬
‫صلة من يصلي عليه من أمته‪.‬‬
‫وورد‪)) :‬أنه ل يسلم عليه أحد من أمته إل رد الله عليه‬
‫روحه الشريفة حتى يردعليه((‪ .‬قال الشيخ ابن حجر‬
‫في))الدر المنضود((‪ :‬وروي عن النبي ‪-‬صّلى الله عليه‬
‫وآله وسّلم‪ -‬أنه قال ‪)):‬ما من أحد يسلم عليه إل رد الله‬
‫روحه الشريفة حتى يرد عليه((‪.‬‬
‫وقد ورد في السلم عليه المضاعفة بالسلم من الله‬
‫عشر مرات على المسلم عليه كما ورد في الصلة‪.‬‬
‫‪238‬‬
‫) ‪(1/238‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬رغم أنف رجل ذكرت عنده‬


‫فلم يصل علي‪((...‬الحديث‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫))من ذكرت عنده فأخطأ الصلة علي أخطأ طريق‬
‫الجنة((‪.‬‬
‫وقد أمر عليه بالكثار من الصلة عليه في يوم الجمعة ‪،‬‬
‫فإن صلة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة‪ :‬فأقربهم‬
‫مني منزلة أكثرهم علي صلة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬صلوا علي في الليلة الغراء‬
‫واليوم الزهر(‪ ،‬يعني ‪ :‬ليلة الجمعة ويومها‪.‬‬
‫فينبغي لكل مؤمن‪ :‬أن يكثر من الصلة على رسول الله‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬في دوام الوقات‪ ،‬وفي ليلة‬
‫الجمعة ويومها خصوصًا‪.‬‬
‫وليجعل السلم عليه مع الصلة‪ ،‬فقد أمر الله بهما جميعًا‪.‬‬
‫وفي الحديث عن الله تعالى أنه قال له عليه الصلة‬
‫والسلم‪ )) :‬من صلى عليك صليت عليه‪ ،‬ومن سلم عليك‬
‫سلمت عليه((‪.‬‬
‫وينبغي لمن صّلى وسّلم على نبيه‪ :‬أن يصلي ويسلم على‬
‫آله بعده‪ ،‬فإنه عليه يحب لهم ذلك‪ ،‬وقد وردت به‬
‫الحاديث‪ .‬وجاء في بعض الثار ‪ :‬أن الصلة التي ل يصلى‬
‫فيها على الل تسمى الصلة البتراء‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫‪239‬‬
‫) ‪(1/239‬‬

‫وأما الدعاء‪ :‬فقد أمر الله به وحث عليه ورغب فيه‪ ،‬فقال‬
‫ب‬ ‫ه ل َ يُ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ة إ ِن ّ ُ‬‫خْفي َ ً‬ ‫عا وَ ُ‬ ‫ضّر ً‬ ‫م تَ َ‬‫عوا ْ َرب ّك ُ ْ‬
‫عز من قائل كريم‪):‬اد ْ ُ‬
‫َ‬ ‫س ُ ْ‬
‫عوهُ‬ ‫حَها َواد ْ ُ‬ ‫صل َ ِ‬ ‫ض ب َعْد َ إ ِ ْ‬‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫ن*وَ ل َ ت ُْف ِ‬ ‫دي َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫معْت َ ِ‬
‫ن(‬‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ب ّ‬ ‫ت الل ّهِ قَ ِ‬
‫ري ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬
‫ن َر ْ‬
‫مًعا إ ِ ّ‬‫خوًْفا وَط َ َ‬ ‫َ‬
‫]العراف‪[56-55:‬‬
‫ماء ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫عوهُ ب َِها(‬ ‫سَنى َفاد ْ ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫س َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَل ِل ّهِ ال ْ‬
‫]العراف‪.[180:‬‬
‫َ‬
‫م (]غافر‪:‬‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫ج ْ‬ ‫ست َ ِ‬
‫عوِني أ ْ‬ ‫م اد ْ ُ‬ ‫ل َرب ّك ُ ُ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وََقا َ‬
‫‪[60‬‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫صي َ‬‫خل ِ ِ‬
‫م ْ‬‫عوهُ ُ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ َفاد ْ ُ‬‫ي َل إ ِل َ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬هُوَ ال ْ َ‬
‫ن(]غافر‪.[65:‬‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫دي َ‬
‫ال ّ‬
‫وقال النبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) :-‬الدعاء هو‬
‫العبادة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬الدعاء سلح المؤمن‪،‬‬
‫وعماد الدين‪ ،‬ونور السموات والرض(( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ل يرد القضاء إل الدعاء‪ ،‬ول‬
‫يزيد في العمر إل البر((‪.‬‬
‫خ العبادة((‪.‬‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬الدعاء م ّ‬
‫وقال‪)) :‬ل يهلك مع الدعاءأحد ‪ .‬والدعاء ينفع مما نزل‬
‫ومما لم ينزل((‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ادعوا الله‬
‫وأنتم موقنون بالجابة‪ .‬وأعلموا أن الله ل يستجيب دعاء‬
‫ه((‪.‬‬ ‫من قلب غافل لهٍ سا ٍ‬
‫وأمر عليه الصلة والسلم بتعظيم المسألة وبجزمها‪ .‬وأن‬
‫ة‪،‬‬
‫ت‪ .‬بل يعزم المسأل َ‬ ‫م اغفر لي إن شئ َ‬ ‫ل يقول العبد‪ :‬الّله ّ‬
‫‪240‬‬
‫) ‪(1/240‬‬

‫ويعظم الرغبة‪ ،‬ويلح في المسألة‪ ،‬ويوقن بالجابة‪ ،‬ويكون‬


‫عند دعائه حاضر القلب مع ربه‪ ،‬خائفا من الرد من حيث‬
‫غفلته عن موله‪ ،‬وتقصير في القيام بحقه وطامعا ً في‬
‫الجابة ونيل الرغبة لكمال الجود وصدق الوعد‪.‬‬
‫وقد ورد‪)) :‬أن الله حيي كريم‪ ،‬يستحي من العبد إذا رفع‬
‫إليه يديه أن يردهما فارغتين((‪.‬‬
‫وورد أيضًا‪ )) :‬أنه ل يدعو الله داع إل استجاب له‪ ،‬فإما أن‬
‫يجعل له ما سأل‪ ،‬وأما أن يدفع عنه البلء أعظم من‬
‫ذلك ‪ ،‬وأما أن يدخر له في الخرة ما هو أفضل وأكمل((؛‬
‫فينبغي للعبد أن ل يزال داعيا ً ومتضرعا ً في رخائه وشدتة‪،‬‬
‫ويسره وسره وخيرة في تأخير بعض المور‪ .‬ويكون للعبد‬
‫وض‪.‬‬ ‫في ذلك صلح ونفع من حيث ل يشعر‪ ،‬فليدعُ ويف ّ‬
‫وكّلما سأل رّبه شيئا ً فليسأل معه الّلطف والعافية وصلح‬
‫ل ما يشاء مما فيه رضاه من أمور‬ ‫العاقبة‪ .‬وليسأل الله ك ّ‬
‫الخرة والدنيا‪ ،‬ومن كل جليل وحقير‪.‬‬
‫ول يغفل عن أكل الحلل‪ ،‬فإنه من أهم الشرائط ل‬
‫ستجابة الدعاء‪ ،‬كما ورد في الحديث الصحيح‪ )) :‬ثم ذكر‬
‫الرجل يطيل السفر‪ ،‬وأشعث أغبر يمد ّ يديه إلى السماء‪،‬‬
‫م‪ ،‬وغُذ ّ َ‬
‫ي‬ ‫سه حرا ٌ‬‫م‪ ،‬وملب ُ‬
‫مه حرا ٌ‬ ‫ب‪ ،‬ومطع ُ‬ ‫ب يا ر ّ‬‫يا ر ّ‬
‫ب لذلك!((‪.‬‬ ‫جا ُ‬‫بالحرام‪ ،‬فأّنى ُيست َ َ‬
‫‪241‬‬
‫) ‪(1/241‬‬

‫وقال بعض السلف ‪ :‬الدعاء كالمفتاح‪ ،‬وأسنانه لقم‬


‫الحلل‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وينبغي للنسان أن ل يغفل عن الدعاء في أوقات الشدة‬
‫والرخاء‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬تعّرف إلى الله في الرخاء‬
‫يعرفك في الشدة((‪ ،‬وقال عليه الصلة والسلم‪)):‬من‬
‫سّره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فلي ُك ْث ِْر من‬
‫دعاء في حالة الّرخاء((‪.‬‬‫ال ّ‬
‫وبالجملة‪ :‬فالدعاء من أعظم ما أنعم الله به على عباده‬
‫حين أمرهم به وحرضهم عليه‪ ،‬حتى إنه عز وجل يغضب‬
‫على من لم يسأله‪،‬كما قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من‬
‫لم يسأل الله تعالى يغضب عليه((‪.‬‬
‫وكما ينبغي للنسان أن يدعو لنفسه بالخير وبالنجاة من‬
‫الشر‪ ،‬ينبغي له أن يدعو بمثل ذلك لوالديه ول حبابه‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫وليحذر كل الحذر من الدعاء بالشر على نفسه أو على‬
‫أولده أو على ماله‪ ،‬أو على أحد من عباد الله‪ ،‬وإن ظلمه‬
‫فليكل أمره إلى الله‪ ،‬وليرض بنصرة الله تعالى له‪ ،‬وفي‬
‫الحديث‪)) :‬من دعا على من ظلمه فقد انتصر((‪.‬‬
‫ول خير في الدعاء بالشّر على ظالم ول على غيره‪،‬‬
‫وليجعل بدل الدعاء عليه الدعاء له‪ ،‬كما هي صفة عباد‬
‫الله الرحماء‪.‬‬
‫***‬
‫‪242‬‬
‫) ‪(1/242‬‬

‫وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها‪ :‬أنه كان عليه‬


‫ب من الدعاء الجوامع الكوامل‪،‬‬ ‫الصلة والسلم يستح ّ‬
‫ويدعُ ما سوى ذلك‪.‬‬
‫فمن الدعوات النبويات الجامعات‪:‬‬
‫م إني أسألك العافية في الدنيا والخرة((‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫َ‬
‫جرنا من خزي‬ ‫م أحسن عاقبتنا في المور كّلها‪ ،‬وأ ِ‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫الدنيا وعذاب الخرة((‬
‫م ارزقني طيبا ً واستعملني صالحًا((‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫م ألهمني رشدي وأعذني من شّر نفسي((‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫م إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى((‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫م كما حسنت خلقي فحسن خلقي((‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫م اجعل سريرتي خيرا ً من علنيتي‪ ،‬واجعل‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫علنيتي صالحة((‬
‫م إني أسالك علما ً نافعًا‪ ،‬وأسألك رزقا ً طيبًا‪،‬‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫وأسألك عمل ً متقب ً‬
‫ل((‬
‫م اجعل خير عمري آخره‪ ،‬خير عملي خواتمه‪،‬‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫وخير أيامي يوم لقائك((‬
‫م أرني الحقّ حّقا ً وارزقني اتباعه‪ ،‬وأرني الباطل‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫باطل ً وارزقني اجتنابه((‬
‫م استر عوراتنا وآمن روعاتنا((‪،‬‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫م ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الخرة حسنة‪،‬‬ ‫‪))...‬الّله ّ‬
‫وقنا عذاب النار((‪.‬‬
‫وليفتتح الدعاء بالحمد لله والثناء عليه‪ ،‬ثم بالصلة‬
‫والسلم على النبي و على آله‪ ،‬وليختم دعاءه بمثل ذلك‪،‬‬
‫ثم ليقل بعده آمين‪.‬‬
‫وليكثر العبد جدا ً من سؤال العافية في الدنيا والخرة‪،‬‬
‫فقد ورد في الحديث‪)) :‬أنه ما سئل الله شيئا ً أح ّ‬
‫ب إليه‬
‫ة في الدنيا والخرة((‪ ،‬فهي من أجمع‬ ‫من أن ُيسأل العافي َ‬
‫الدعوات وأفضلها‪ .‬والله ولي التوفيق‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫) ‪(1/243‬‬

‫ثم إنه قد ورد عن رسول الله صّلى الله عليه وآله وسّلم‬
‫من الذكار والدعية المطلقة والمقيدة بالوقات‬
‫المتعاقبة‪ ،‬والحوال المتغايرة ما كثر وانتشر‪ ،‬وقد رتبها‬
‫عليه لمته‪ ،‬ورغبهم فيها‪ ،‬لتكون سببا ً لهم إلى نيل الخير‬
‫والخيرات‪ ،‬والسلمة من الشر والفات الواقعة بمشيئة‬
‫الله تعالى في تلك الحوال والوقات‪ .‬فمن حافظ عليها‬
‫نجا وسلم ‪ ،‬وفاز وغنم‪ .‬ومن فرط فيها وأهمل العمل بها‬
‫فل يلومن إل نفسه‪ .‬وما ربك بظلم للعبيد‪.‬‬
‫وقد جمع المام النووي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في ))كتاب‬
‫م إليها من‬
‫الذكار(( له‪ ،‬جملة مستكثرة من ذلك‪ ،‬وض ّ‬
‫اليضاح والبيان‪ ،‬ونفائس الحكام‪ ،‬ومهمات الفوائد ما‬
‫يطمئن به القلب‪ ،‬وينشرح له الصدر شكر الله سعيه‪،‬‬
‫وجزاه عن المسلمين خيرًا‪.‬‬
‫وذكر أيضا ً صاحب ))عدة الحصن الحصين(( فيها من ذلك‬
‫طرفا ً صالحا ً رحمه الله‪ .‬وقد جمعنا لصحابنا من أذكار‬
‫الصباح والمساء خاصة نبذة مختصرة مباركة إن شاء الله‬
‫تعالى‪ .‬والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل‪.‬‬
‫***‬
‫‪244‬‬
‫) ‪(1/244‬‬
‫*******************************‬
‫*******************************‬
‫مبحث المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫*******************************‬
‫*******************************‬
‫) ‪(1/245‬‬

‫) ‪(1/246‬‬

‫مبحث المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬


‫*******************************‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬جعلنا الله واياكم من القوامين‬
‫بالقسط‪ ،‬المرين به ‪ :-‬أن المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر من أعظم شعائر الدين‪ ،‬وأهم المهمات على‬
‫المؤمن‪ ،‬وقد أمر الله بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ ، -‬وحث عليه ورغب فيه‪،‬‬
‫ن إ َِلى‬ ‫كن منك ُ ُ‬
‫عو َ‬ ‫ة ي َد ْ ُ‬ ‫م ٌ‬ ‫مأ ّ‬ ‫وشدد في تركه فقال تعالى‪):‬وَل ْت َ ُ ّ ْ‬
‫منك َرِ وَأ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫ال ْخير ويأ ْ‬
‫م‬‫ك هُ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫رو‬ ‫م‬
‫َ ْ ِ ََ ُ‬
‫ُ‬
‫ن(]آل عمران‪.[104:‬‬ ‫حو َ‬ ‫مْفل ِ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬ ‫س ت َأ ُ‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫خرِ َ‬ ‫مة ٍ أ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬ ‫م َ‬ ‫كنت ُ ْ‬‫وقال تعالى‪ُ ):‬‬
‫ه(]آل عمران‪:‬‬ ‫ن ِبالل ّ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫منك َرِ وَت ُؤْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫ف وَت َن ْهَوْ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫‪.[110‬‬
‫ض‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وال ْمؤْمنون وال ْمؤْمنات بعضه َ‬
‫م أوْل َِياء ب َعْ ٍ‬ ‫َ ُ ِ ُ َ َ ُ ِ َ ُ َْ ُ ُ ْ‬
‫ْ‬
‫صل َةَ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مو َ‬ ‫منك َرِ وَي ُِقي ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ن عَ‬ ‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫ي َأ ُ‬
‫م‬
‫مه ُ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫سي َْر َ‬ ‫ك َ‬ ‫ه أ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫كاةَ وَي ُ ِ‬ ‫ن الّز َ‬ ‫وَي ُؤُْتو َ‬
‫م(]التوبة‪.[71:‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ل عََلى‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫من ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ن ك ََفُروا ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬ل ُعِ َ‬
‫كاُنوا ْ‬ ‫صوا وّ َ‬ ‫ما عَ َ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫م ذ َل ِ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬ ‫عي َ‬ ‫داُوود َ وَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سا ِ‬ ‫لِ َ‬
‫كاُنوا ْ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫منك َرٍ فَعَُلوهُ ل َب ِئ ْ َ‬ ‫عن ّ‬ ‫ن َ‬ ‫كاُنوا ْ ل َ ي َت ََناهَوْ َ‬ ‫ن* َ‬ ‫دو َ‬ ‫ي َعْت َ ُ‬
‫ن(]المائدة‪.[79-78:‬‬ ‫ي َْفعَُلو َ‬
‫‪247‬‬
‫) ‪(1/247‬‬

‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) :-‬من رأى‬
‫منكن منكرا ً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن‬
‫لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اليمان((وقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪)) :‬يا أيها الناس‪ ،‬مروا بالمعروف وأنهوا‬
‫عن المنكر قبل أن تدعوا فل يستجاب لكم‪ ،‬وقبل أن‬
‫تستغفروا فل يغفر لكم((‪ ،‬إن المر بالمعروف والنهي عن‬
‫ل‪ ،‬وأن الحبار من‬‫المنكر ل يدفع رزقًا‪ ،‬ول يقرب أج ً‬
‫اليهود‪ ،‬والرهبان من النصارى لما تركوا المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم‪ ،‬ثم‬
‫موا بالبلء‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أفضل الجهاد‬ ‫عُ ّ‬
‫كلمة حق عند سلطان جائر((‪.‬‬
‫وسئل صلوات الله عليه عن خير الناس فقال‪)) :‬أتقاهم‬
‫للرب‪ ،‬وأوصلهم للرحم‪ ،‬وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن‬
‫المنكر((‪.‬‬
‫***‬
‫ذب قرية فيها ثمانية عشر ألفًا‪،‬‬ ‫ن الله تعالى ع ّ‬‫وبلغنا أ ّ‬
‫أعمالهم كأعمال النبياء غير أنهم كانوا ل يغضبون لله‪.‬‬
‫فقد تبين واتضح أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر ل‬
‫رخصة لحد في تركهما عند القدرة والمكان‪ ،‬وأن من‬
‫أضاع ذلك وتساهل فيه فهو متهاون بحق الله‪ ،‬وغير‬
‫ل من الله‬ ‫معظم لحرماته كما ينبغي‪ ،‬وقد ضعف إيمانه وق ّ‬
‫خوفه وحياؤه‪ .‬فإن كان‬
‫‪248‬‬
‫) ‪(1/248‬‬

‫سكوته رغبة في الدنيا‪ ،‬وطمعا ً في الجاه والمال‪ ،‬ويخشى‬


‫أنه إذا أمر أو نهى سقطت منزلته‪ ،‬وضعف جاهه عند من‬
‫أمره أو نهاه من العصاة والظلمة‪ ،‬فقد عظم إثمه‪،‬‬
‫وتعرض بسكوته لسخط ربه ومقته‪ .‬فأما إذا سكت عن‬
‫المر والنهي لعلمه أنه يحصل له إذا أمر أو نهى مكروه‬
‫في نفسه أو ماله‪ ،‬فقد يجوز له السكوت إذا تحقق ذلك‬
‫وكان المكروه الذي يحصل له شديدا ً وله وقع ظاهر‪ .‬ولو‬
‫أمر ونهى مع ذلك كان له أجر عظيم‪ ،‬وثواب جزيل‪ ،‬وكان‬
‫ذلك منه دليل ً على محبة الله‪ ،‬وإيثاره على نفسه‪ ،‬وعلى‬
‫مْر‬ ‫ْ‬
‫نهاية الحرص على نصرته لدينه‪ ،‬كما قال تعالى‪):‬وَأ ُ‬
‫َ‬
‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫صاب َ َ‬
‫ك إِ ّ‬ ‫صب ِْر عََلى َ‬
‫ما أ َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫منك َرِ َوا ْ‬ ‫ه عَ ِ‬
‫ف َوان ْ َ‬‫معُْرو ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ُ‬
‫موِر(]لقمان‪.[17:‬‬ ‫ن عَْزم ِ اْل ُ‬‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫وما أحسن حال العبد إذا ضرب أو حبس أو شتم بسبب‬
‫قيامه بحقوق رّبه‪ ،‬وأمره بطاعته‪ ،‬ونهيه عن معصيته!!‬
‫ذلك دأب النبياء والمرسلين‪ ،‬والولياء الصالحين‪ ،‬والعلماء‬
‫العاملين‪ ،‬كما هو منقول في أخبارهم‪ ،‬ومعروف من‬
‫سيرهم وآثارهم‪ ،‬ول خير في الجبن والضعف المانعين من‬
‫نصرة الدين‪ ،‬ومجاهدة الظالمين والفاسقين ‪ ،‬لردهم إلى‬
‫طاعة الله رب العالمين‪ .‬فإن الغضب لله والغيرة عند‬
‫ترك أوامره‪ ،‬وارتكاب نواهيه وزواجره‪ ،‬شأن النبياء‬
‫والصديقين‪ ،‬وبذلك وصفوا‪ ،‬واشتهرو وعرفوا‪ ،‬كما ورد في‬
‫الحديث‪ :‬أنه عليه كان ل يغضب لنفسه‪ ،‬فإذا انتهك شيء‬
‫من‬
‫‪249‬‬
‫) ‪(1/249‬‬

‫حرمات الله تعالى لم يقم لغضبه شيء‪ ،‬وكما قال عليه‬


‫الصلة والسلم في حقّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه‪:‬‬
‫))قوله الحق‪ ،‬وماله في الناس من صديق((‪.‬‬
‫َ‬
‫وقال تعالى في وصف أحبابه من المؤمنين‪) :‬أذِل ّةٍ عََلى‬
‫ل الل ّهِ وَل َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬‫دو َ‬
‫جاهِ ُ‬
‫ن يُ َ‬
‫ري َ‬ ‫عّزةٍ عََلى ال ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫ن أَ ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫ة لئ ِم ٍ (]المائدة‪.[54:‬‬ ‫م َ‬‫ن ل َوْ َ‬
‫خاُفو َ‬ ‫يَ َ‬
‫فتبين أن المؤمن الكامل ل يقدر أن يملك نفسه عند‬
‫مشاهدة المنكرات حتى يغيرها أو يحال بينه وبين ذلك بما‬
‫ل طاقة له على دفعه‪ .‬وأما المنافق ومن ضعف إيمانه‬
‫جدًا‪ ،‬فإذا رأوا المنكرات تعللوا وعذرو أنفسهم بالعذار‬
‫الركيكة التي ل تقوم بها حجة عند الله وعند رسوله ‪-‬صّلى‬
‫الله عليه وآله وسّلم‪. -‬‬
‫وتراهم إذا شتموا أو ظلموا بشيء من أموالهم يقومون‬
‫أتم القيام ويغضبون أشد الغضب‪ .‬ومن فعل معهم ذلك‬
‫يخاصمونه ويصارمونه الزمان الطويل‪ ،‬المضيعين لحقوق‬
‫الله تعالى‪ .‬وأن المؤمنين الصادقين على العكس من‬
‫ذلك‪ ،‬يغضبون لله ول يغضبون لنفسهم‪ ،‬ويقاطعون من‬
‫عصى الله وترك أمره‪ ،‬ويصار مونه إذا لم يقبل الحق‪،‬‬
‫ويصفحون ويتجاوزون عمن ظلمهم أو شتمهم‪.‬‬
‫فانظروا الفرق ما بين الفريقين‪ ،‬وكونوا مع أحسنهم‬
‫صب ُِروا ْ إ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫ست َِعيُنوا ِبالل ّهِ َوا ْ‬‫فريقًا‪ ،‬وأقومهم طريقًا‪،‬و)ا ْ‬
‫َ‬
‫ن(‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫مت ِّقي َ‬ ‫عَبادِهِ َوال َْعاقِب َ ُ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫شاء ِ‬ ‫ض ل ِل ّهِ ُيورِث َُها َ‬
‫من ي َ َ‬ ‫الْر َ‬
‫]العراف‪.[128:‬‬
‫‪250‬‬
‫) ‪(1/250‬‬

‫ثم إن المر بالمعروف ‪ ،‬والنهي عن المنكر وأجب على‬


‫الكفاية‪ ،‬فحيث قام به البعض من المسلمين سقط الحرج‬
‫بقيامهم عن الباقين‪ ،‬واختص الثواب بالقائمين فقط‪.‬‬
‫وحيث قصروا فيه كلهم عم الثم والحرج كل علم بالمنكر‬
‫منهم يستطيع إزالته وتغييره بيد أو لسان‪.‬‬
‫***‬
‫وأول ما يجب عند مشاهدة المنكر‪ :‬التعريف والنهي‬
‫بلطف ورفق وشفقة‪ ،‬فإن حصل بذلك المقصود وإل‬
‫أنتقل منه إلى الوعظ والتخويف‪ ،‬والغلظة في القول‬
‫والتعنيف‪ ،‬ثم إلى المنع والقهر باليد وغيرها‪ ،‬ومباشرة‬
‫تغيير المنكر بالفعل‪.‬‬
‫وأما الرتبتان الولتان‪ :‬التعريف باللطف‪ ،‬والوعظ‬
‫والتخويف‪،‬فهما عامتان والغالب فيهما الستطاعة‪،‬‬
‫ومدعي العجز عنهما متعلل ومتعذر في الكثر بما ل يقوم‬
‫به عذر‪.‬‬
‫وأما الرتبة الثالثة‪ :‬التي هي المنع بالقهر‪ ،‬وتغيير المنكر‬
‫باليد‪ ،‬فل يستطيعه ويتمكن منه في الكثر إل من بذل‬
‫نفسه لله تعالى‪ ،‬وجاهد بماله ونفسه في سبيل الله‪،‬‬
‫وصار ل يخاف في الله لومة لئم‪ ،‬أو كان مأذونا ً له في‬
‫تغيير المنكر من جهة السلطان‪.‬‬
‫والحاصل‪ :‬أن النسان يأتي من ذلك بما يستطيع‪ ،‬ول‬
‫يقصر في نصرة دين الله‪ ،‬ول يعتذر في إسقاط ذلك‬
‫بالعذار التي ل يصح ول يسقط بها ما وجب عليه من أمر‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫‪251‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/251‬‬

‫واعلم‪ :‬أن الخذ بالرفق واللطف‪ ،‬وإظهار الشفقة‬


‫والرحمة عليه مدار كبير عند المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬فعليك به‪ ،‬ول تعدل عنه‪ ،‬ما دمت ترجو نفعه‬
‫وحصول المقصود به‪ ،‬وفي الحديث‪)) :‬ما كان الرفق في‬
‫شيء إل زانه‪ ،‬وما نزع من شيء إل شانه(( ‪.‬‬
‫وورد أيضًا‪ )) :‬أنه ل يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إل‬
‫رفيق فيما يأمر به‪ ،‬رفيق فيما ينهى عنه((‪.‬‬
‫وكذلك ينبغي للنسان ‪ :‬أن يكون عامل ً بما يأمر به‪ ،‬مجتنبا ً‬
‫لما ينهى عنه‪ ،‬فإنه يكون لكلمه وقع في القلوب‪ ،‬وهيبة‬
‫الصدور‪ ،‬وقد ورد الوعيد الشديد في حق من يأمر بالخير‬
‫ول يأتيه‪ ،‬وينهى عن الشر ويأتيه‪ ،‬وهذا هو الفضل‬
‫والولى‪ .‬وإل فعلى النسان أن يأمر وينهى وإن كان غير‬
‫عامل بما يدعو إليه‪ ،‬فإن العالم الذي ل يعمل بعلمه ول‬
‫يعلمه الناس أخس حا ً‬
‫ل‪،‬‬
‫وأشد عقابا ً من الذي يعلم ول يعمل‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫***‬
‫واحذروا معاشر الخوان ‪ -‬أرشدكم الله ‪ -‬من المداهنة‬
‫في الدين‪ .‬ومعناها‪ :‬أن يسكت النسان عن المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وعن قول الحق وكلمة‬
‫العدل‪ ،‬طمعا ً في‬
‫‪25‬‬
‫) ‪(1/252‬‬

‫الناس‪ ،‬وتوقعا ً لما يحصل منهم من جاه أو مال‪ ،‬أو حظ‬


‫من حظوظ الدنيا‪ ،‬فقلما فعل ذلك أحد إل أذله الله‬
‫وأهانه‪ ،‬وسلط عليه الناس‪ ،‬وحرم ما يرجوه مما في‬
‫أيديهم ‪.‬‬
‫وأما المداراة فهي مباحة‪ ،‬وربما تندب‪ ،‬ومعناها ‪ :‬أن يبذل‬
‫النسان شيئا ً من دنياه لصلح دينه‪ ،‬أو لصلح دنياه‪ ،‬أو‬
‫لسلمة عرضه من مذمة أهل الشر‪ ،‬وفي الحديث‪)) :‬ما‬
‫وقى به المرء عرضع فهو له صدقة((‪ .‬فإذا استكفى‬
‫النسان ما يخافه من شر الشرار بما ل يضره في دينه ‪،‬‬
‫لم يكن عليه في ذلك بأس ول جناح إن شاء الله ‪ .‬ولكن‬
‫العدول عن الشرار ومجانبتهم أحسن من ذلك وأحوط‪.‬‬
‫وهذا الذي ذكرناه إنما يكون عند البتلء بهم‪ ،‬وإل فل‬
‫رخصة لمؤمن تقي في الحتراز منهم‪.‬‬
‫***‬
‫وكذلك فاحذرو من التجسس‪ ،‬وهو طلب الوقوف على‬
‫سوا(‪.‬‬‫س ُ‬ ‫عورات الناس المستورة‪ ،‬قال الله تعالى‪):‬وََل ت َ َ‬
‫ج ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من تتبع عوراة أخيه تتبع‬
‫الله عورته‪ ،‬ومن تتبع عورته يفضحه ولو في جوف‬
‫بيته‪ ((...‬الحديث‪.‬‬
‫‪253‬‬
‫) ‪(1/253‬‬

‫وعليكم بستر عورات المسلمين‪ ،‬والكف عن ذكرها‬


‫حبو َ‬
‫ع‬
‫شي َ‬
‫ن أن ت َ ِ‬ ‫ن يُ ِ ّ َ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫وإشاعتها‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫م ِفي الد ّن َْيا‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬‫مُنوا ل َهُ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫ة ِفي ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ش ُ‬ ‫ال َْفا ِ‬
‫ح َ‬
‫ة(]النور‪.[19:‬‬ ‫خَر ِ‬‫َواْل ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬من ستر مسلما ً ستره الله‬
‫في الدنيا و الخرة((‪.‬‬
‫ول يكثر الخوض في عيوب الناس وذكر مساوئهم وكشف‬
‫عوراتهم‪ ،‬إل كل منافق ممقوت‪.‬‬
‫والذي يجب على المسلم إذا رأى من أخيه المسلم عورة‬
‫أن يسترها عليه‪ ،‬وأن ينصحه في السر بلطف وشفقة‬
‫))والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه((‪.‬‬
‫ومن الواجب على من رأى منكرا ً ل يستطيع تغييره‬
‫والنهي عنه‪ ،‬أن يبغض فاعله‪ ،‬ويكرهه ويكره فعله بقلبه‪،‬‬
‫كما قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬فإن لم يستطع فبقلبه((‬
‫ويبغض المصرين على المعاصي من القرابات‪ ،‬وعليه أن‬
‫يفارق ذلك الموضع‪ ،‬فإن مشاهدة المنكرات وحضورها‬
‫بالختيار غير جائز‪.‬‬
‫ومن نهاه عن منكر فلم ينته وأصر على منكره‪ ،‬فعليه أن‬
‫يهجره ويجانبه حتى يترك المنكر‪ ،‬ويتوب إلى ربه منه‪،‬‬
‫وقد قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من أوثق عرى اليمان‬
‫ض في الله((‪.‬‬ ‫ب في الله‪ ،‬والبغ ُ‬‫الح ّ‬
‫***‬
‫‪254‬‬
‫) ‪(1/254‬‬

‫وليحذر كل الحذر من أمر بمعروف ونهي عن منكر من‬


‫لمره وناهيه‪ :‬عليك‬ ‫الكبر والنفة ورد الحق‪ ،‬والقول ً‬
‫نفسك! وما في معنى ذلك من نزول مقت الله به وحول‬
‫ذا ِقي َ‬
‫ل‬ ‫غضبه عليه‪ ،‬ويكون حاله كحال من قال الله فيه‪):‬وَإ ِ َ‬
‫م وَل َب ِئ ْ َ‬
‫س‬ ‫جهَن ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫سب ُ ُ‬
‫ح ْ‬‫ه ال ْعِّزةُ ِبال ِث ْم ِ فَ َ‬ ‫ه أَ َ‬
‫خذ َت ْ ُ‬ ‫ق الل ّ َ‬
‫ه ات ّ ِ‬‫لَ ُ‬
‫د(]البقرة‪.[206:‬‬ ‫ال ْ ِ‬
‫مَها ُ‬
‫وأما المر بالمعروف والناهي عن المنكر فل عليه من‬
‫ذلك‪ ،‬وإن ُرد ّ عليه قوله كان أبلغ في ثوابه وأعظم في‬
‫أجره‪ ،‬فليصبر وليحتسب‪.‬‬
‫وليكن قصده تخليص نفسه وتخليص أخيه من الثم‪،‬‬
‫وليكن حاله كحال من وقع أخوه المسلم في هلكة أو‬
‫ورطة من الورطات‪ ،‬كحرق أو غرق وهو قادر على‬
‫تخليصه وإنقاذه‪ ،‬بل أولى ‪ .‬فإن هلك الدين والتعرض‬
‫لسخط رب العالمين أشد وأعظم من هلك الدنيا‪ ،‬وتلف‬
‫النفوس الذي ل يفوت به إل مفارقة هذه الحياة الفانية‪،‬‬
‫وهذه الدار الزائلة‪ ،‬بل ل مناسبة‬
‫ول مقاربة بين إتلف الدين‪ ،‬وبين تلف الدنيا‪ ،‬وإن الذي‬
‫يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬ساع في خلص نفسه‬
‫ونجتها‪ ،‬سواء أخذ بقوله أم لم يؤخذ به‪ .‬وقد بلغنا أن‬
‫الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو ل يعرف‪،‬‬
‫‪255‬‬
‫) ‪(1/255‬‬

‫ي! وما بيني وبينك معرفة‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫فيقول له‪ :‬مالك إل ّ‬


‫كنت تراني على الخطأ والمنكر فل تنهاني‪.‬‬
‫وفي الحديث‪)) :‬مثل القائم على حدود الله‪ ،‬ومثل الواقع‬
‫فيها كمثل قوم استهموا على سفينة‪ ،‬فأصاب بعضهم‬
‫أعلها وبعضهم أسفلها ‪،‬‬
‫فكان الذين من أسفل إذا ستقوا الماء يمرون على من‬
‫فوقهم فقالوا‪ :‬لو خرقنا خرقا ً في نصيبنا ولم نؤذ من‬
‫فوقنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا‪ ،‬وإن أخذوا‬
‫على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا(( والمعنى‪ :‬أن الذي يأمر‬
‫وينهى ساع لنفسه‪ ،‬ومجتهد في نجاتها بالسلمة مما جعل‬
‫الله عليه من الثم لو سكت عن المر والنهي مع‬
‫الستطاعة‪ ،‬وبما يرجو من ثواب الله وكريم وعده‪ ،‬الذي‬
‫ن‬
‫صَر ّ‬ ‫وعد به من نصر دينه وقام بأمره قالب تعالى‪) :‬وَل ََين ُ‬
‫زيٌز(]الحج‪.[40:‬‬ ‫ه ل ََقوِيّ عَ ِ‬‫ن الل ّ َ‬
‫صُرهُ إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫من َين ُ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫م‬‫صْرك ُ ْ‬‫ه َين ُ‬ ‫صُروا الل ّ َ‬
‫مُنوا ِإن َتن ُ‬‫نآ َ‬‫ذي َ‬‫وقال تعالى‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫م(]محمد‪.[7:‬‬ ‫مك ُ ْ‬ ‫ت أقْ َ‬
‫دا َ‬ ‫وَي ُث َب ّ ْ‬
‫***‬
‫ومن أهم الداب وآكدها على من أمر بمعروف أو نهى عن‬
‫منكر‪:‬مجانبة الكبر والتعنف‪ ،‬والتعيير‪ ،‬والشماتة بأهل‬
‫المعاصي‪ ،‬فإن ذلك قد يبطل الثواب ويوجب العقاب‪،‬‬
‫وربما يكون داعيا ً إلى رد الحق وعدم قبوله والستجابة‬
‫له‪ .‬فليحذر‬
‫‪256‬‬
‫) ‪(1/256‬‬

‫كل الحذر من ذلك‪ ،‬وليكن رفيقا ً شفيقا ً لينًا‪ ،‬رحيما ً‬


‫متواضعًا‪ ،‬مخفوض الجناح‪ ،‬والله الموفق والمعين‪ ،‬وبه‬
‫الثقة وعليه التكلن‪.‬‬
‫ثم إنا قد قدمنا في أول التأليف هذا طرفا ً من الكلم على‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وذلك عند ذلك قوله‬
‫ْ‬ ‫كن منك ُ ُ‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬ ‫ن إ َِلى ال ْ َ‬
‫خي ْرِ وَي َأ ُ‬ ‫عو َ‬ ‫ة ي َد ْ ُ‬ ‫م ٌ‬
‫مأ ّ‬ ‫تعالى‪) :‬وَل ْت َ ُ ّ ْ‬
‫ن(]آل‬‫حو َ‬ ‫مْفل ِ ُ‬‫م ال ْ ُ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫منك َرِ وَأ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن عَ ِ‬‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬
‫عمران‪.[104:‬‬
‫وربما أنا أعدنا ههنا بعض الكلم الذي قد ذكرناه هنالك‬
‫لمناسبة المحل‪ ،‬ولجل زيادة القناع ‪ ،‬وشدة الحرص على‬
‫تأثر القلوب لرجاء النتفاع‪ .‬فإن هذا الصل ‪ -‬أعني المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ -‬جدير بطول الكلم وتكرره‪،‬‬
‫لعظم موقعه من الدين‪ ،‬وعموم نفعه للمسلمينطن‬
‫ومسيس حاجتهم إليه‪ ،‬سيما وقد رأينا من يتساهل من‬
‫الناس في ترك هذا المر حيث ل عذر له فيه‪ ،‬ول ضير‬
‫عليه لو قام به‪ .‬فدعانا ذلك إلى الكثار والتكرار والعمال‬
‫بالنيات‪ ،‬ولكل امرئ مانوى‪.‬‬
‫***‬
‫‪257‬‬
‫) ‪(1/257‬‬

‫***********‬
‫***********‬
‫***‬
‫***********‬
‫***********‬
‫) ‪(1/258‬‬

‫***********‬
‫***********‬
‫مبحث الجهاد‬
‫***********‬
‫***********‬
‫) ‪(1/259‬‬

‫***********‬
‫***********‬
‫***‬
‫***********‬
‫***********‬
‫) ‪(1/260‬‬

‫مبحث الجهاد‬
‫***********‬
‫وقد رأينا أن نذكر طرفا ً مما ورد في الجهاد من اليات‬
‫والخبار في المر بالجهاد في سبيل الله وفي فضله‪،‬‬
‫تتميما ً للفائدة‪.‬‬
‫وهذا الموضع من أنسب المواضع لذكر ذلك ‪ ،‬لن الجهاد‬
‫من أقسام المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وهو‬
‫أعلها‪،‬‬
‫وأشرفها وأفضلها‪ ،‬لنه أمر برأس المعروف الذي هو‬
‫التوحيد والسلم‪ ،‬ونهي عن أفحش المنكرات والثار‪،‬‬
‫الذي هو الكفر والشراك بالله‪.‬‬
‫وأول الجهاد الدعوة إلى السلم‪ ،‬ثم القتال بالسيف‪ .‬وقد‬
‫ورد في الجهاد من اليات والخبار ما يطول ذكره‪ ،‬ويتعذر‬
‫حصره‪ ،‬ونحن نذكر‬
‫من ذلك شيئا ً يسيرا ً تبركا ً بذكر هذا الصل الشريف من‬
‫أصول الدين‪ ،‬الذي أعز الله به السلم والمسلمين‪ ،‬وأذل‬
‫به الشرك والمشركين‪ ،‬قال‬
‫َ‬
‫سى أن‬ ‫م وَعَ َ‬ ‫ل وَهُوَ ك ُْرهٌ ل ّك ُ ْ‬ ‫م ال ِْقَتا ُ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫الله تعالى‪) :‬ك ُت ِ َ‬
‫حّبوا ْ َ‬
‫شي ًْئا وَهُوَ َ‬
‫شّر‬ ‫سى َأن ت ُ ِ‬ ‫م وَعَ َ‬ ‫خي ٌْر ل ّك ُ ْ‬ ‫شي ًْئا وَهُوَ َ‬ ‫هوا ْ َ‬ ‫ت َك َْر ُ‬
‫َ‬
‫ن(]البقرة‪.[216:‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ل َ ت َعْل َ ُ‬ ‫م وَأنت ُ ْ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ل ّك ُ ْ‬
‫‪261‬‬
‫ن‬
‫دي ُ‬
‫ن ال ّ‬‫كو َ‬‫ة وَي َ ُ‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫حّتى ل َ ت َ ُ‬
‫كو َ‬ ‫م َ‬ ‫وقال تعالى‪):‬وََقات ُِلوهُ ْ‬
‫ه(]البقرة‪.[193:‬‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫) ‪(1/261‬‬

‫عدي َ‬
‫جًرا‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن عََلى ال َْقا ِ ِ َ‬ ‫دي َ‬ ‫جاهِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَفَ ّ‬
‫ه غَُفوًرا‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫م ً‬ ‫ح َ‬ ‫مغِْفَرةً وََر ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ت ّ‬ ‫جا ٍ‬ ‫ما * د ََر َ‬ ‫ظي ً‬ ‫عَ ِ‬
‫ما(]النساء‪[96-95:‬‬ ‫حي ً‬ ‫ّر ِ‬
‫م‬
‫ذوهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫م وَ ُ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫جدت ّ ُ‬ ‫ث وَ َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وقال تعالى‪َ) :‬فاقْت ُُلوا ْ ال ْ ُ‬
‫موا ْ‬ ‫َ‬
‫صدٍ فَِإن َتاُبوا ْ وَأَقا ُ‬ ‫مْر َ‬ ‫ل َ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫دوا ْ ل َهُ ْ‬ ‫م َواقْعُ ُ‬ ‫صُروهُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫َوا ْ‬
‫م(‬ ‫حي ٌ‬ ‫ه غَُفوٌر ّر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫سِبيل َهُ ْ‬ ‫خّلوا ْ َ‬ ‫كاةَ فَ َ‬ ‫صل َةَ َوآت َوُا ْ الّز َ‬ ‫ال ّ‬
‫]التوية‪.[5:‬‬
‫ل الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫سِبي ِ‬ ‫دوا ْ ِفي َ‬ ‫جاهَ ُ‬ ‫جُروا ْ وَ َ‬ ‫ها َ‬ ‫مُنوا ْ وَ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬ال ّ ِ‬
‫عند َ الل ّهِ وَأ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫بأ َموال ِهم وَأنُفسه َ‬
‫م‬‫ك هُ ُ‬ ‫ة ِ‬ ‫ج ً‬ ‫م د ََر َ‬ ‫م أعْظ َ ُ‬ ‫ِ ِ ْ‬ ‫ِ ْ َ ِ ْ َ‬
‫م‬ ‫ّ‬
‫ت لهُ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫وا ٍ‬ ‫ض َ‬ ‫ه وَرِ ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫مة ٍ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫م َرب ُّهم ب َِر ْ‬ ‫شُرهُ ْ‬ ‫ن * ي ُب َ ّ‬ ‫ال َْفائ ُِزو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جٌر‬ ‫عند َهُ أ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫دا إ ِ ّ‬ ‫ن ِفيَها أب َ ً‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫م* َ‬ ‫مِقي ٌ‬ ‫م ّ‬ ‫ِفيَها ن َِعي ٌ‬
‫م(]التوبة‪.[22-20:‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫عَ ِ‬
‫َ‬
‫وال ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َ‬‫دوا ْ ب ِأ ْ‬ ‫جاهِ ُ‬ ‫خَفاًفا وَث َِقال ً وَ َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬ان ِْفُروا ْ ِ‬
‫َ‬
‫ن(‬‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫م ِإن ُ‬ ‫خي ٌْر ل ّك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل الل ّهِ ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫وَأنُف ِ‬
‫]التوبة‪.[41:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫موا وَإ ِ ّ‬ ‫م ظ ُل ِ ُ‬ ‫ن ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ن ي َُقات َُلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬أذِ َ‬
‫ديٌر(]الحج‪.[39:‬‬ ‫م ل ََق ِ‬ ‫صرِهِ ْ‬ ‫عََلى ن َ ْ‬
‫شترى من ال ْمؤْمِني َ‬
‫م‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ن أنُف َ‬ ‫ُ ِ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ها ْ ََ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ل الل ّهِ فَي َْقت ُُلو َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫ة ي َُقات ُِلو َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫م ال َ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬ ‫وال َُهم ب ِأ ّ‬ ‫م َ‬ ‫وَأ ْ‬
‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ل َوال ُْقْرآ ِ‬ ‫جي ِ‬ ‫لن ِ‬ ‫حّقا ِفي الت ّوَْراةِ َوا ِ‬ ‫دا عَل َي ْهِ َ‬ ‫ن وَعْ ً‬ ‫وَي ُْقت َُلو َ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ذي َباي َعُْتم ب ِ ِ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫شُروا ْ ب ِب َي ْعِك ُ ُ‬ ‫ست َب ْ ِ‬‫ن الل ّهِ َفا ْ‬ ‫م َ‬ ‫أوَْفى ب ِعَهْدِهِ ِ‬
‫م(]التوبة‪.[111:‬‬ ‫ك هُوَ ال َْفوُْز ال ْعَ ِ‬
‫ظي ُ‬ ‫وَذ َل ِ َ‬
‫‪262‬‬
‫) ‪(1/262‬‬

‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬جاهدوا‬


‫المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم((‪.‬‬
‫ل عليه الصلة والسلم عن أفضل العمال فقال‪:‬‬ ‫سئ ِ َ‬‫و ُ‬
‫))اليمان بالله‪ ،‬والجهاد في سبيل الله((‪.‬‬
‫ل أيضا ً عليه الصلة والسلم‪ :‬أيّ العمل أفضل؟‬ ‫سئ ِ َ‬‫و ُ‬
‫م ماذا؟ قال‪:‬‬ ‫ل‪ :‬ث ُ ّ‬‫فقال‪)) :‬اليمان بالله ورسوله((‪ِ .‬قي َ‬
‫ج‬
‫م ماذا؟ قال‪)) :‬ح ّ‬ ‫ل‪ :‬ث ُ ّ‬
‫))الجهاد في سبيل الله((‪ِ .‬قي َ‬
‫مبرور((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬اغزوا في سبيل الله؛ من‬
‫قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة((‪.‬‬
‫والَفواق‪ :‬ما بين الحلبتين‪ ،‬قاله النووي رحمه الله‪.‬‬
‫عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‪ :‬أتى رجل إلى‬
‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬فقال‪ :‬أيّ الناس‬
‫أفضل؟ فقال‪)):‬مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله‪.‬‬
‫ب‬
‫شَعا ِ‬‫شعب من ال ّ‬ ‫من؟ قال‪)) :‬ثم مؤمن في ِ‬ ‫م َ‬‫قال‪ :‬ث ّ‬
‫يعبد الله ويدعُ الناس من شّره((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬رباط يوم في سبيل الله‬
‫خير من الدنيا وما عليها‪ ،‬وموضع سوط أحدكم من الجنة‬
‫خير من الدنيا وما عليها‪ ،‬والروحة يروحها العبد في سبيل‬
‫الله تعالى والغدوة خير من الدنيا وما عليه((‪.‬‬
‫‪263‬‬
‫) ‪(1/263‬‬

‫ن الله لمن خرج في‬ ‫م َ‬


‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬تض ّ‬
‫سبيله ل يخرجه إل جهاد في سبيلي‪ ،‬وإيمان بي‪ ،‬وتصديق‬
‫برسلي‪ ،‬فأنا ضامن أن أدخله الجنة‪ ،‬أو أرجعه إلى منزله‬
‫الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة‪ .‬والذي نفس‬
‫م في سبيل الله إل جاء يوم‬ ‫محمد بيده‪ ،‬ما منكم أحد ي ُك ْل َ ُ‬
‫ح‬
‫ه ري ُ‬
‫ح ُ‬‫دم‪ ،‬وري ُ‬‫ن ال ّ‬
‫ه لو ُ‬ ‫م‪ ،‬لون ُ ُ‬‫القيامة كهيئته يوم ك ُل ِ َ‬
‫المسك‪ .‬والذي نفس محمد بيده‪ ،‬لول أن أشقّ على‬
‫ت خلف سرية تغزو في سبيل الله‬ ‫المسلمين ما قَعَد ْ ُ‬
‫تعالى أبدًا‪ ،‬ولكن ل أجد سعة فاحملهم ول يجدون سعة‪،‬‬
‫ويشق عليهم أن يتخلفوا عني‪ .‬والذي نفس محمد بيده‪،‬‬
‫لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل‪ ،‬ثم أغزو فأقتل‪ ،‬ثم‬
‫أغزو فأقتل((‪ ،‬الكلم‪ :‬هو الجرح‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬يارسول الله‪ ،‬ما يعدل الجهاد؟ قال‪)) :‬ل‬
‫تستطيعونه((‪ ،‬فأعادوا عليه مرتين أو ثلثًا‪ ،‬كل ذلك يقول‪:‬‬
‫))ل تستطيعونه((‪ ،‬ثم قال في الثالثة‪)):‬مثل المجاهد في‬
‫سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله‪ ،‬ل يفتر‬
‫من صلة ول صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬إن في الجنة مائة درجة‬
‫دها الله تعالى للمجاهدين في سبيل الله‪ ،‬ما بين‬ ‫أع ّ‬
‫الدرجتين كما بين السماء والرض((‪.‬‬
‫ما عبدٍ في‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬ما اغبرت قَد َ َ‬
‫سه النار((‪.‬‬ ‫سبيل الله فتم ّ‬
‫‪264‬‬
‫) ‪(1/264‬‬

‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) :-‬ل يلج النار رجل‬
‫بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع‪ ،‬ول يجتمع‬
‫غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم‬
‫أبدًا((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬كل عين باكية يوم القيامة‬
‫إل عينا ً بكت من خشية الله‪ ،‬وعينا ً باتت تحرس في سبيل‬
‫الله((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من رمى بسهم في سبيل‬
‫الله كاان له كعدل محرر(( )‪.(1‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من احتبس فرسا ً‬
‫في سبيل الله إيمانا ً بالله وتصديقا ً بوعده‪ ،‬فإن شبعه وريه‬
‫وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة((‪ ،‬يعني ‪ :‬حسنات‪.‬‬
‫***‬
‫وللنفقة في سبيل اللع وإعانة الغزاة فضل وثواب عظيم‪،‬‬
‫قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من جهز غازيا ً في‬
‫سبيل الله فقد غزا‪ ،‬ومن خلف غازيا ً في أهله بخير فقد‬
‫غزا((‪.‬‬
‫وجاء رجل إلى رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫بناقة مخطومة وقال ‪ :‬هذه في سبيل الله ‪.‬فقال له عليه‬
‫الصلة والسلم‪)) :‬لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها‬
‫مخطومة((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من أنفق نفقة في‬
‫سبيل الله ك ُت َِبت له سبعمائة ضعف((‪.‬‬
‫‪---------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬أي ‪ :‬كمثل عبد محّرر من الرق‪ ،‬والمراد كمثل أجر‬
‫عتقه‪.‬‬
‫‪265‬‬
‫) ‪(1/265‬‬

‫وروي عنه ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬أن من أنفق‬


‫على الغازي ولم يغز فله بكل دوهم سبعمائة درهم‪ ،‬ومن‬
‫أنفق على نفسه في الغزو فله بكل درهم سبعمائة ألف‬
‫درهم((‪.‬‬
‫***‬
‫وللرباط في سبيل الله فضل عظيم‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪)) :‬رباط يوم في سبيل الله أفضل من ألف يوم‬
‫فيما سواه من المنازل((‪.‬‬
‫ُ‬
‫ه إلى‬ ‫وورد‪)) :‬أن من مات مرابطا ً أجرِيَ عليه أجُرهُ ورزقُ ُ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬وأمن من فتنة القبر((‪.‬‬
‫***‬
‫وأما فضل الشهادة في سبيل الله فأعظم من أن يحاط‬
‫به‪ ،‬وأجل وأكبر من أن يأخذه حد ومقدار ‪ ،‬قال الله‬
‫َ‬
‫ل‬‫واًتا ب َ ْ‬ ‫ل الل ّهِ أ ْ‬
‫م َ‬ ‫ن قُت ُِلوا ْ ِفي َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سب َ ّ‬ ‫تعالى‪) :‬وَل َ ت َ ْ‬
‫ح َ‬
‫َ‬
‫من فَ ْ‬
‫ضل ِهِ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫ن بِ َ‬‫حي َ‬ ‫ن * فَرِ ِ‬ ‫م ي ُْرَزُقو َ‬ ‫عند َ َرب ّهِ ْ‬‫حَياء ِ‬ ‫أ ْ‬
‫ف‬ ‫م أ َل ّ َ‬
‫خو ْ ٌ‬ ‫خل ِْفهِ ْ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫حُقوا ْ ب ِِهم ّ‬ ‫م ي َل ْ َ‬
‫ن لَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ن ِبال ّ ِ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ست َب ْ ِ‬
‫وَي َ ْ‬
‫ن(]آل عمران‪.[170-169:‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫م وَل َ هُ ْ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ض ّ‬
‫ل‬ ‫ل الل ّهِ فََلن ي ُ ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن قُت ُِلوا ِفي َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ):‬وال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ة عَّرفََها‬ ‫م ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫خل ُهُ ُ‬
‫م * وَي ُد ْ ِ‬ ‫ح َبال َهُ ْ‬
‫صل ِ ُ‬‫م وَي ُ ْ‬ ‫ديهِ ْ‬‫سي َهْ ِ‬ ‫م* َ‬ ‫مال َهُ ْ‬ ‫أعْ َ‬
‫م(]محمد‪.[6-4:‬‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬أن للشهيد عند‬
‫الله سبع خصال‪ :‬أن يغفر له في لول دفعة من دمه‪،‬‬
‫ويرى مقعده من الجنة‪ ،‬ويحلى حلية إليمان‪ ،‬ويجار من‬
‫عذاب القبر‪ ،‬و يأمن من الفزع الكبر‬
‫‪266‬‬
‫) ‪(1/266‬‬

‫ويوضع على رأسه تاج الوقار ‪ ،‬الياقوتة منه خير من الدنيا‬


‫وما فيها ‪ ،‬ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين‪،‬‬
‫ويشفع سبعين من أقاربه((‪.‬‬
‫وقال صّلى الله عليه و آله و سّلم‪)):‬ليس شيء أحب إلى‬
‫الله من قطرتين وأثرين‪ :‬قطرة دموع من خشية الله ‪،‬‬
‫وقكرة دم تهراق في سبيل الله‪ .‬وأما الثران ‪ :‬فأثر في‬
‫سبيل الله‪ ،‬وأثر في فريضة من فرائض الله((‪ .‬وقال‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )): -‬ما يجد الشهيد من ألم‬
‫القتل إل كما يجد أحدكم مس القرصة((‪.‬‬
‫***‬
‫وورد‪)) :‬أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر‪ ،‬تأكل‬
‫من ثمر الجنة‪ ،‬وتشرب من أنهارها‪ ،‬وتأوي إلى قناديل‬
‫معلقة بالعرش((‪.‬‬
‫وورد‪)) :‬أن الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر‬
‫مرات لما يرى من فضل الشهادة((‪.‬‬
‫وسئل عليه الصلة والسلم‪ :‬هل يفتن الشهيد في قبره؟‬
‫فقال‪)) :‬كفى ببارقة السيوف فتنة على رأسه‪((...‬‬
‫الحديث‪.‬‬
‫ومن أهم المور على المجاهد في سبيل الله‪ ،‬وأوجبها‬
‫عليه وآكدها في حّقه‪ :‬الخلص لله في جهاده‪ ،‬وأن يريد‬
‫به وجه الله تعالى‪ ،‬ونصرة دينه وإعلء كلمته‪ ،‬دون غرض‬
‫آخر‬
‫‪267‬‬
‫) ‪(1/267‬‬

‫من مراءاة الناس‪ ،‬وطلب الذكر والمنزلة عندهم‪ ،‬ونيل‬


‫غنيمة أو شيء من حظوظ الدنيا‪ .‬وقد قال عليه الصلة‬
‫عَقال ً فله ما‬ ‫والسلم‪)) :‬من غزا في سبيل الله ولم ينو إل ِ‬
‫نوى((‪.‬‬
‫وقال رجل‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬وإني أقف الموقف أريد وجه‬
‫الله‪ ،‬وأريد أن يرى موطني؟ فلم يرد عليه حتى نزلت‬
‫شرِ ْ‬
‫ك‬ ‫حا َول ي ُ ْ‬ ‫مًل َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫ل عَ َ‬ ‫جو ل َِقاء َرب ّهِ فَل ْي َعْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن ي َْر ُ‬
‫كا َ‬‫من َ‬ ‫)فَ َ‬
‫دا(]الكهف‪.[110:‬‬ ‫َ‬
‫ح ً‬
‫ب ِعَِباد َةِ َرب ّهِ أ َ‬
‫وقيل ‪ :‬يارسول الله‪ ،‬الرجل يقاتل للمغنم‪ ،‬والرجل يقاتل‬
‫للذكر‪ ،‬والرجل يقاتل لي َُرى مكانه؟ فأيّ ذلك في سبيل‬
‫الله؟ فقال عليه الصلة والسلم‪)):‬من قتل لتكون كلمة‬
‫الله هي العليا فهو في سبيل الله((‪.‬‬
‫وفي الحديث الثلثة الذين قال فيهم عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫))إنهم أول خلق الله تسعر بهم النار((‪ .‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ )) :‬ورجل قتل في سبيل الله فأتي به وعرفه‬
‫نعمته فعرفها قال‪ :‬فما عملت فيها؟ قال‪ :‬قاتلت في‬
‫سبيلك حتى قتلت‪ .‬فيقول الله تعالى‪ :‬كذبت‪ ،‬بل أردت أن‬
‫يقال هو جريء فقد قيل ‪ ،‬ثم يؤمر به فيسحب على وجهه‬
‫حتى يلقى في النار((‪.‬الحديث‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬أكثر شهيدء أمتي‬
‫أصحاب الفرش‪ ،‬وكم من قتيل بين الصفين الله أعلم‬
‫بنيته((‪.‬‬
‫فينبغي للمجاهد‪ :‬أن يحترز كل الحتراز من الرياء‪،‬‬
‫‪268‬‬
‫) ‪(1/268‬‬
‫وإرادة غير وجه الله بجهاده‪ ،‬وايخلص نيته لله‪ ،‬وليبالغ في‬
‫ذلك عند القتال‪ ،‬وليزدد من التحفظ والجتهاد في إضلح‬
‫النية‪ ،‬مخافتة أن يقتل على غير كمال الخلص فيحبط‬
‫عمله‪ ،‬ويبطل أجره‪ ،‬وتكون خاتمته والعياذ بالله غير‬
‫حسنة‪ ،‬ويصير أمره في غاية الخطر‪.‬‬
‫***‬
‫ومما ينبغي للمجاهد أن يحذره ويحترز منه غاية الحترتز‪:‬‬
‫الفرار من الزحف حيث ل يجوز الفرار‪ ،‬فقد عد عليه ذلك‬
‫من الموبقات‪ ،‬ومن الكبائر المهلكات‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم‪)) :‬ثلث ل ينفع معهن عمل‪ :‬الشراك بالله‪،‬‬
‫وعقوق الوالدين‪ ،‬والفرار من الزحف((‪.‬‬
‫***‬
‫وكذلك يجتنب الغلول كل الجتناب‪ ،‬فإن إثمه عظيم‪ ،‬وقد‬
‫ور فيه عن رسوال الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫تشديدات هائلة‪ .‬ومعناه‪ :‬أن يأخذ شيئا ً من الغنيمة مختصا ً‬
‫به دون بقية المجاهدين‪ ،‬ودون علمهم بذلك ورضاهم ‪.‬‬
‫والله أعلم‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي لكل مسلم أن ينوي الجهاد‪ ،‬ويحدث نفسه به حتى‬
‫يسلم من الوعيد الوارد في ترك ذلك‪ ،‬قال عليه‬
‫‪269‬‬
‫) ‪(1/269‬‬

‫والسلم‪)) :‬من مات ولم يغز‪ ،‬ولم يحدث نفسه بالغزو‬


‫مات على شعبة من النفاق((‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي الكثار من سؤال الشهادة‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪)) :‬من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل‬
‫الشهداء وإن مات على فراشه((‪.‬‬
‫اللهم اجعلنا من المجاهدين في سبيلك بأموالهم وأنفسهم‬
‫ابتغاء مرضاتك‪ ،‬فضلك ومنتك يا كريم‪.‬‬
‫وقد ذكرنا هذه الحرف الوجيزة في الجهاد تيمنا ً وتبركا ً‬
‫بذكره‪ ،‬وكراهية أن يخلو هذا الكتاب منه‪ ،‬ورجاء ورغبة‬
‫في أن يقف عليها أحد من البمسلمين‪ ،‬فتنبعث له نية‬
‫صالحة على الجهاد في سبيل الله فيجاهد‪ ،‬فيكون لنا في‬
‫ذلك نصيب من ثواب المجاهديين وأجرهم‪)) ،‬فإن الدال‬
‫على الخير كفاعله‪ ،‬ومن دعا إلى هدى كان له من الجر‬
‫مثل أجور من تبعه ل ينقص ذلك من أجور هم شيئًا((‪ ،‬كما‬
‫في الحديث الصحيح‪ .‬وما توفيقي إل بالله‪ ،‬عليه توكلت‬
‫وإليه أنيب‪.‬‬
‫***‬
‫فقد علمتم معاشر الخوان ‪ -‬رحمكم الله ‪ -‬فضل الجهاد‬
‫في سبيل الله ومكانته من الدين‪ ،‬فمن استطاع الجهاد‬
‫كن منه‪،‬‬‫وتم ّ‬
‫‪270‬‬
‫) ‪(1/270‬‬

‫صر‪ .‬ومن لم‬ ‫مر‪ ،‬ول يتكاسل ول ي َُق ّ‬ ‫فليجاهد وليبادر ويش ّ‬
‫كن‪ ،‬فعليه بحسن النية في الجهاد‪ ،‬وكثرة‬ ‫يستطع ولم يتم ّ‬
‫الدعاء للمجاهدين‪ ،‬وإعانتهم بما يقدر عليه‪ ،‬وليشتغل‬
‫بمجاهدة نفسه وهواه في طاعة رّبه وموله‪ ،‬فإن ذلك من‬
‫أقسام الجهاد‪ ،‬قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫)) المجاهد من جاهد هواه‪ ،‬والمهاجر من هجر ما نهى الله‬
‫عنه((‪.‬‬
‫وبلغنا أنه عليه الصلة والسلم‪ :‬قال لبعض أصحابه وقد‬
‫قدموا من الجهاد النفس((‪.‬‬
‫***‬
‫ثم إن من أكبر الكبائر الموبقات‪ ،‬وأعظم الجرائم‬
‫المهلكات‪ :‬قتال المسلمين بعضهم بعضا ً على الرياسة‬
‫والملك‪ ،‬وحظوظ الدنيا والحمية والعصبية التي هي من‬
‫مًنا‬‫مؤ ْ ِ‬
‫ل ُ‬ ‫من ي َْقت ُ ْ‬ ‫أمور الجاهلية‪ ،‬وقد قال الله تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫ه عَل َي ْهِ وَل َعَن َ ُ‬
‫ه‬ ‫ب الل ّ ُ‬‫ض َ‬‫دا ِفيَها وَغَ ِ‬
‫خال ِ ً‬
‫م َ‬ ‫جَزآؤُهُ َ‬
‫جهَن ّ ُ‬ ‫دا فَ َ‬ ‫م ً‬ ‫مت َعَ ّ‬‫ّ‬
‫َ‬
‫ما(]النساء‪.[93:‬‬ ‫ظي ً‬ ‫ه عَ َ‬
‫ذاًبا عَ ِ‬ ‫وَأعَد ّ ل َ ُ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إذا التقى المسلمان‬
‫بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‪ .‬قالوا‪ :‬هذا القاتل‬
‫ل المقتول؟ قال ‪ :‬إنه كان حريصا ً على قتل‬ ‫فما با ُ‬
‫صاحبه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم في خطبة يوم النحر في حجة‬
‫‪271‬‬
‫) ‪(1/271‬‬

‫الوداع‪)) :‬إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم‬


‫وأعراضكم‪ ،‬كحرمة يومكم هذا‪ ،‬في شهركم هذا‪ ،‬في‬
‫بلدكم هذا‪ ،‬ويحكم‪ ،‬انظروا ل ترجعوا بعدي كفارا ً يضرب‬
‫بعضكم رقاب بعض((‪.‬الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬سباب المؤمن فسوق‪،‬‬
‫وقتاله كفر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬لن يزال الرجل في فسحة‬
‫من دينه ما لم يصب دما ً حرامًا((‪ ،‬وقال ‪-‬صّلى الله عليه‬
‫وآله وسّلم‪)) : -‬لزوال الدنيا أهون على الله من قتل‬
‫مؤمن لدخلهم الله النار((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من أعان على قتل مسلم‬
‫بشطر كلمة‪ ،‬لقي الله مكتوبا ً بين عينيه‪ :‬آيس من رحمة‬
‫الله((‪.‬‬
‫والتشديدات في هذا الباب كثيرة هائلة‪ ،‬فليحذر المسلم‬
‫من ذلك كل الحذر‪ ،‬ول يعرض نفسه للوقع في سخط الله‬
‫تعالى وغضبه‪ ،‬ولعنته وعذابه العظيم‪ ،‬والياس من رحمته‪،‬‬
‫نسأل الله العافية والسلمة من جميع أنواع الخزي والبلء‬
‫في الخرة والولى‪ ،‬لنا ولحبابنا وكافة المسلمين‪.‬‬
‫***‬
‫‪272‬‬
‫) ‪(1/272‬‬
‫********************‬
‫مبحث الوليات والحقوق‬
‫********************‬
‫ثم إنا نرى أن نذكر ها هنا شيئا ً يسيرا ً مما يتعلق‬
‫بالوليات‪ ،‬فإن هذا الموضوع من أنسب المواضع لذكر‬
‫ذلك‪.‬‬
‫***‬
‫) ‪(1/273‬‬

‫) ‪(1/274‬‬

‫مبحث الوليات والحقوق‬


‫********************‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬أمدنا الله وإياكم بدوام التوفيق‬
‫‪ :-‬أن تعرض للوليات فيه خطر‪ ،‬وأن الدخول فيها والتقلد‬
‫لعهدتها من أثقل المور وأشقها‪ ،‬فينبغي للمؤمن المشفق‬
‫على دينه‪ ،‬الحرص على نجاة نفسه وسلمتها وخلصها أن‬
‫يحتز من الوليات ويتباعد عنها ما وجد إلى ذلك سبي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫ثم إن من أهم الوليات المارة والسلطة‪ ،‬ثم القضاء‬
‫والحكم‪ ،‬ثم الولية على أموال اليتامى والوقاف ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬وفي جميعها خطر‪.‬‬
‫قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬في المارة‪ )) :‬أولها‬
‫ملمة‪ ،‬ووسطها ندامة‪ ،‬وآخرها عذاب يوم القيامة((‪.‬‬
‫الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ما من وال يلي عشرة فما‬
‫فوق ذلك إل جيء به يوم‬
‫‪275‬‬
‫) ‪(1/275‬‬
‫القيامة مغلولة يده إلى عنقه‪ ،‬فكه عدله‪ ،‬أو أوبقه‬
‫جوره((‪.‬‬
‫وورد‪)) :‬أن الوالي يوقف على جسر جهنم‪ ،‬فإن كان‬
‫محسنا ً نجا‪ ،‬وإن كان مسيئا ً إنخرق به الجسر فهوى في‬
‫جهنم سبعين خريفًا((‪.‬‬
‫ل لو أن ذوائبهم ‪ -‬أي ‪:‬شعر‬ ‫ن رجا ٌ‬ ‫وورد أيضًا‪)) :‬لَيود ّ ّ‬
‫روؤسهم ‪ -‬علقت بالثريا بين السماء والرض ولم يلوا من‬
‫أمر المسلمين شيئًا((‪.‬‬
‫وقال وقال عليه الصلة والسلم في القضاء‪)):‬من جعل‬
‫قاضيا ً فقد ذبح بغير سكين ((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من قضى بالجهل فهو في‬
‫النار‪ ،‬ومن قضى بالجور فهو في النار‪ ،‬ومن قضى بالعدل‬
‫فحري أن ينجو كفافًا((‪ ،‬أي‪ :‬ل له ول عليه‪.‬الحديث‪.‬‬
‫***‬
‫وبالجملة فالبعد من الوليات هو الحزم والذي ينبغي ‪ .‬فإن‬
‫ُبلي العبد ُ بها فليعرف ما لله عليه فيها وما لعباده‪ ،‬ثم‬
‫مر في الوفاء بذلك وفي إقامته‪ ،‬والعمل به‬ ‫ليجتهد ويش ّ‬
‫من غير تفريط ول إضاعة‪ ،‬ول عجز ول تقصير‪ ،‬فبذلك‬
‫ينجو من الوعيد الوبيل‪ ،‬ويفوز بالثواب الجزيل‪ .‬وقد قال‬
‫عليه الصلة والسلم‪)) :‬ليوم ٍ من إمام عادل خير من‬
‫عبادة ستين سنة‪ ،‬وحد ّ يقام في الرض بحقه أزكى فيها‬
‫من مطر أربعين صباحًا((‪.‬‬
‫‪276‬‬
‫) ‪(1/276‬‬

‫وورد‪)) :‬أن المام العادل مستجاب الدعوة‪ ،‬وأنه ل‬


‫يستخف به إل منافق‪ ،‬وأنه أحد السبعة الذين يظلهم الله‬
‫في ظله يوم ظل إل ظله((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬المقسطون يوم القيامة‬
‫على منابر من نور على يمين الرحمن ‪ ((...‬الحديث ‪.‬‬
‫والمقسطون‪ :‬هم أهل العدل والنصاف‪.‬‬
‫من َولي فجار و ظلم‪ ،‬فويل له من عذاب الله‬ ‫وأما َ‬
‫وعقابه‪.‬‬
‫وكم ورد في خزيه ومقته من الخبار والثار‪ ،‬وإن تمتع في‬
‫الدنيا قليل ً فسوف يقاسي في الدار الخرة من الوبال‬
‫والنكال قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬اللهم من ولي من‬
‫أمر أمتي شيئا ً فشقّ عليهم‪ ،‬فاشُقق عليه‪ ،‬ومن رفق بهم‬
‫فارفق به((‪.‬‬
‫وورد‪ :‬أنه ))ما من وال يموت يوم يموت غاشا ً لرعيته إل‬
‫حرم الله عليه الجنة ((‪.‬‬
‫فعليك أيها الوالي الموّفق بنصح رعيتك‪ ،‬وبالرفق بهم‪،‬‬
‫وبحسن النظر في أمورهم ‪ ،‬وكمال التعّهد والتفّقد لهم‬
‫ه‪ ،‬فإن الله‬‫في جميع أحوالهم ‪ ،‬ول تغفل عنهم ول تل ُ‬
‫ل راٍع مسؤول عن رعيته‪.‬‬ ‫سائلك عما استرعاك‪ ،‬وك ّ‬
‫وإياك ثم أياك والظلم والجور على الرعية! فإن فيه هلك‬
‫دنياك وآخرتك‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫) ‪(1/277‬‬

‫وكما يحرم عليك أن تظلم رعيتك‪ ،‬فكذلك يحرم عليك أن‬


‫تمكن بعضهم من ظلم بعض‪ .‬وكذلك تحرم عليك الضاعة‬
‫لمورهم‪ ،‬وترك النظر فيها‪ ،‬قال عمر بن الخطاب رضي‬
‫الله عنه‪ :‬لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضياعا ً‬
‫لخشيت أن ُأسأل عنها‪.‬انتهى‪.‬‬
‫فكيف بأضاعة اليتام والرامل ومساكين المسلمين‬
‫وضعفائهم!‬
‫وعليك أيها القاضي المبارك بالحتراز والتثبت في قضائك‪،‬‬
‫حتى يتبين لك الحق الذي ل شك فيه فتقضي به‪.‬‬
‫وإياك والنحراف والميل إلى أحد المتخاصمين! وإن‬
‫وجدت شيئا ً من ذلك فأنسك عن القضاء حتى يصيرا‬
‫عندك بمثابة وأحدة‪ ،‬بحيث ل تبالي ليهما يكون الحق‪ ،‬أو‬
‫كون عليه‪ ،‬وإل هلكت‪.‬‬
‫وإياك وقبول الرشا فإنها من السحت‪ ،‬وقد لعن عليه‬
‫الراشي‪ ،‬والمرتشي‪ ،‬والساعي بينهما‪.‬‬
‫واحكم بما أنزل الله بين عباد الله‪ ،‬فإنه عز من قائل‬
‫م‬
‫ك هُ ُ‬‫ه فَأ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫ما َأنَز َ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫ح ُ‬
‫كم ب ِ َ‬ ‫من ل ّ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫كريم يقول ‪):‬وَ َ‬
‫ن( في‬ ‫سقو َ‬ ‫ن( و)الَف ِ‬ ‫ن(]المائدة‪[44:‬و )الظ ِّلمو َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫كافُِرو َ‬
‫آيات بينات محكمات في كتاب مجيد‪ ،‬ل يأتيه الباطل من‬
‫بين يديه ول من خلفه تنزيل من حكيم حميد‪.‬‬
‫‪278‬‬
‫) ‪(1/278‬‬

‫وأما الولية على أموال اليتامى فهي من المور الخطرة‪،‬‬


‫وفيها عسر ومشقة‪ ،‬فينبغي ويتأكد على من بلى بذلك أن‬
‫يبالغ في الحتراز و الحتياط‪ ،‬وأن يجتهد غاية الجتهاد في‬
‫حفظ أموالهم وتنميتها‪ ،‬وليحذر من تفريطها وإضاعتها‪،‬‬
‫مى‬ ‫ومن أكلها وتبذيرها‪ ،‬فقد قال الله تعالى‪َ ) :‬وآُتوا ْ ال ْي ََتا َ‬
‫م إ َِلى‬ ‫ث بالط ّيب ول َ تأ ْك ُُلوا ْ أ َ‬ ‫َ‬
‫وال َهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ّ ِ َ َ‬ ‫خِبي َ ِ‬ ‫م وَل َ ت َت َب َد ُّلوا ْ ال ْ َ‬ ‫وال َهُ ْ‬
‫م َ‬‫أ ْ‬
‫حوًبا ك َِبيًرا(]النساء‪.[2:‬‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ن ُ‬ ‫كا َ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬
‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫م‬‫أ ْ‬
‫وقال تعالى‪) :‬إن ال ّذين يأ ْك ُُلو َ‬
‫ما‬‫ما إ ِن ّ َ‬ ‫مى ظ ُل ْ ً‬ ‫ل ال ْي ََتا َ‬‫وا َ‬
‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ن ِفي ب ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫سِعيًرا(]النساء‪.[10:‬‬ ‫ن َ‬ ‫ص لو ْ َ‬
‫سي َ ْ‬
‫م َناًرا وَ َ‬ ‫طون ِهِ ْ‬ ‫ي َأك ُُلو َ‬
‫وقد عد عليه الصلة والسلم أكل مال اليتيم في السبع‬
‫الموبقات‪ ،‬والكبائر المهلكات‪.‬‬
‫ويقرب من أكل مال اليتيم في الثم والحرج‪ :‬أكل مال‬
‫الوقاف ظلما ً وتعديًا‪ ،‬فينبغي الحتراز من ذلك‪ ،‬وغاية‬
‫التوقي عنه‪ ،‬ومن توليها رأسًا؛ إيثارا ً للسلمة‪ ،‬و بعدا ً عن‬
‫ن الحرج‪ .‬والله أعلم‪.‬‬ ‫مواضع الخطر ومظا ّ‬
‫***‬
‫وكما يجب على الوالي العدل في أهل وليته‪ ،‬ومجانبة‬
‫الظلم والجور عليهم‪ ،‬والضاعة والهمال لمورهم؛‬
‫فكذلك يجب على الرجل في أهل بيته العدل والنصاف‪،‬‬
‫واجتناب‬
‫‪279‬‬
‫) ‪(1/279‬‬
‫الظلم والهمال‪ ،‬فإنهم رعيته‪ ،‬وله الولبة الشرعية‬
‫عليهم‪ .‬وقد ورد‪ :‬أن الرجل يكتب من الجبارين وما يملك‬
‫إل أهل بيته‪ ،‬أي فيظلمهم ويجور عليهم‪.‬‬
‫نسأل الله تعالى اللطف والعافية‪ ،‬والتحقق بالتقوى‬
‫والستقامة‪ ،‬ول حول ول قوة إل بالله العلي العظيم‪.‬‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬جعلنا الله وإياكم من البارين‬
‫المحسنين‪ ،‬القائمين بحقوقه تعالى ‪ ،‬وبحقوق عباده ابتغاء‬
‫وجهه ومرضاته ‪ :-‬أن بر الوالدين‪ ،‬وصلة الرحام‬
‫والقربين‪ ،‬وحسن القيام بالهل والعيال والمملوكين‪،‬‬
‫والحسان إلى الجيران والصحاب سائر المسلمين‪ ،‬كل‬
‫ذلك مما أمر الله به وحث عليه‪ ،‬ورغب فيه وندب إليه‪،‬‬
‫ونهى عن تركه وإغفاله‪ ،‬وتوعد على إضاعته وإهمتله‪.‬‬
‫وأما الوالدان فقد أمر الله ببرهما والحسان إليهما‪ ،‬ونهى‬
‫عن عقوقهما‪ ،‬وشدد في ذلك أبلغ التشديد‪ ،‬وحذر عنه أبلغ‬
‫التحذير‪ ،‬وذلك في كتاب العظيم‪ ،‬وعلى لسان رسوله‬
‫الكريم‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬وقَضى رب َ َ‬
‫دوا ْ إ ِل ّ إ ِّياهُ‬ ‫ك أل ّ ت َعْب ُ ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ما أوْ ك ِل َهُ َ‬
‫ما‬ ‫حد ُهُ َ‬ ‫ك الك ِب ََر أ َ‬ ‫عند َ َ‬‫ن ِ‬ ‫ما ي َب ْل ُغَ ّ‬
‫ساًنا إ ِ ّ‬‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫وَِبال ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ‬
‫ما(‬ ‫ري ً‬ ‫ما قَوْل ً ك َ ِ‬ ‫ما وَُقل ل ّهُ َ‬ ‫ف وَل َ ت َن ْهَْرهُ َ‬ ‫مآ أ ُ ّ‬ ‫فَل َ ت َُقل ل ّهُ َ‬
‫ما‬‫مه ُ َ‬‫ح ْ‬ ‫ب اْر َ‬ ‫مةِ وَُقل ّر ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ن الّر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ح الذ ّ ّ‬ ‫جَنا َ‬‫ما َ‬ ‫ض ل َهُ َ‬‫خِف ْ‬ ‫)َوا ْ‬
‫صِغيًرا(]السراء‪.[24-23:‬‬ ‫ما َرب َّياِني َ‬ ‫كَ َ‬
‫‪280‬‬
‫) ‪(1/280‬‬

‫ه وَهًْنا عََلى‬ ‫وقال تعالى‪) :‬ووصينا اْلنسان بوال ِديه حمل َت ُ‬


‫م ُ‬ ‫هأ ّ‬ ‫ِ َ َ ِ َ َْ ِ َ َ ْ ُ‬ ‫َ َ ّ َْ‬
‫َ‬
‫ك إ ِل َ ّ‬
‫ي‬ ‫شك ُْر ِلي وَل ِ َ‬
‫وال ِد َي ْ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫نأ ِ‬ ‫مي ْ ِ‬
‫عا َ‬‫ه ِفي َ‬ ‫صال ُ ُ‬
‫ن وَفِ َ‬‫وَهْ ٍ‬
‫صيُر(]لقمان‪.[14:‬‬ ‫م ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫فانظروا رحمكم الله كيف قرن تعالى المر بالحسان إلى‬
‫الوالين مع توحيده وعبادته‪ ،‬وكيف قرن شكر هما بشكره‪،‬‬
‫ن‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬‫شي ًْئا وَِبال ْ َ‬ ‫كوا ْ ب ِهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه وَل َ ت ُ ْ‬‫دوا ْ الل ّ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ) :‬واعْب ُ ُ‬
‫ساًنا (]النساء‪.[36:‬‬ ‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ُ‬
‫ه‬
‫م ُ‬ ‫هأ ّ‬ ‫مل َت ْ ُ‬
‫ح َ‬ ‫ساًنا َ‬ ‫ح َ‬ ‫وال ِد َي ْهِ إ ِ ْ‬
‫ن بِ َ‬ ‫سا َ‬‫لن َ‬ ‫صي َْنا ا ْ ِ‬‫وقال تعالى‪) :‬وَوَ ّ‬
‫حّتى إ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫شهًْرا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ه ث ََلُثو َ‬ ‫صال ُ ُ‬
‫ه وَفِ َ‬ ‫مل ُ ُ‬ ‫ح ْ‬‫ها وَ َ‬ ‫ه ك ُْر ً‬ ‫ضعَت ْ ُ‬‫ها وَوَ َ‬ ‫ك ُْر ً‬
‫شك َُر‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫َ‬
‫ب أوْزِعِْني أ ْ‬
‫َ‬
‫ل َر ّ‬ ‫ة َقا َ‬ ‫سن َ ً‬ ‫ن َ‬
‫َ‬
‫شد ّهُ وَب َل َغَ أْرب َِعي َ‬ ‫ب َل َغَ أ َ ُ‬
‫حا‬ ‫م َ‬ ‫ك ال ِّتي أ َنعمت عَل َي وعََلى وال ِدي وأ َ َ‬ ‫مت َ َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫ن أعْ َ‬ ‫َ َ ّ َ ْ‬ ‫ّ َ‬ ‫َْ ْ َ‬ ‫ن ِعْ َ‬
‫ت إ ِل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ك وَإ ِّني ِ‬ ‫ح ِلي ِفي ذ ُّري ِّتي إ ِّني ت ُب ْ ُ‬ ‫صل ِ ْ‬ ‫ضاهُ وَأ ْ‬ ‫ت َْر َ‬
‫ن(‬‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مُلوا وَن ََتجاوَُز َ‬ ‫ل عَنه َ‬ ‫أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫عن‬ ‫ما عَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫س َ‬‫ح َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن ن َت ََقب ّ ُ ْ ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫كاُنوا‬‫ذي َ‬ ‫ق ال ّ ِ‬ ‫صد ْ ِ‬ ‫جن ّةِ وَعْد َ ال ّ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫م ِفي أ ْ‬ ‫سي َّئات ِهِ ْ‬ ‫َ‬
‫ن(]الحقاف‪[16-15:‬‬ ‫دو َ‬ ‫ُيوعَ ُ‬
‫وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‪ :‬سألت رسول‬
‫ب إلى‬ ‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ : -‬أيّ العمال أح ّ‬
‫ي؟ قال‪ )):‬بّر‬ ‫الله ؟ فقال‪)) :‬الصلة لوقتها(( ‪ .‬قلت‪ :‬ثم أ ّ‬
‫ي؟ قال‪ )) :‬الجهاد في سبيل الله((‬ ‫الولدين((‪ .‬قلت‪ :‬ثم أ ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬رضا الله في رضا‬
‫الوالدين‪ ،‬وسخطه في سخط الوالدين((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬ثلث ل ينفع معهن عمل‪:‬‬
‫‪281‬‬
‫) ‪(1/281‬‬

‫الشراك بالله‪ ،‬وعقوق الوالدين‪ ،‬والفرار يوم الزحف((‪.‬‬


‫وقال عليه‪)) :‬أكبرالكبائر ثلث‪ :‬الشراك بالله‪ ،‬وعقوق‬
‫الوالدين‪ ،‬وشهادة الزور‪ ((....‬الحديث‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬رغم أنف من أدراك‬
‫أبويه عند الكبر أحدهما أو كلهما فلم يدخل الجنة((‪ ،‬أي‪:‬‬
‫فلم يبرهما بّرا ً يكون سببا ً في دخوله الجنة‪ .‬وخص به البر‬
‫غند الكبر ل شتداد حاجة‬
‫النسان عند كبره إلى من يبره ويقوم به‪ ،‬ويتعاهده أكثر‬
‫من حاجته إلى ذلك قبل الكبر‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وروي عن الله تعالى أنه قال‪)) :‬من أصبح مرضيا ً لوالديه‪،‬‬
‫مسخطا ً لي فأنا عنه راض‪ ،‬ومن أصبح مرضيا ً لي‪،‬‬
‫مسخطا ً لوالديه فأنا عنه ساخط((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬بروا آباءكم تبركم أبناؤكم ‪،‬‬
‫وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم((‪ .‬وقال ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪ -‬لرجل استأذنه في الجهاد‪)) :‬أحي‬
‫والداك((؟ قال‪ :‬نعم ‪.‬قال‪)) :‬ففيهما فجاهد((‪ .‬وسأله عليه‬
‫ل فقال‪ :‬ما حقّ الوالدين على ولدهما؟‬‫الصلة والسلم رج ٌ‬
‫فقال‪)) :‬هما جنتك ونارك((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من سره أن يمد له في‬
‫عمره‪ ،‬ويزاد له في رزقه‪ ،‬فليبر والديه‪ ،‬وليصل رحمه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ثلثة حرم الله تبارك وتعالى‬
‫‪282‬‬
‫) ‪(1/282‬‬

‫عليهم الجنة‪ :‬مدمن الخمر‪ ،‬والعاق لوالديه‪ ،‬والديوث الذي‬


‫يقر الخبث في أهله((‪.‬وورد ‪)) :‬أن بر الوالدين أفضل من‬
‫الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله‪.‬وأن العاق لوالديه ل‬
‫ينظر الله إليه يوم القيامة‪ ،‬وأنه ل يرح رائحة الجنة((‪.‬‬
‫وبالجملة فحق الوالدين أعظم الحقوق بعد حق الله وحق‬
‫رسوله‪ ،‬فعليك ببرهما وبالحسام إليهما‪ ،‬وبطاعتهما‬
‫وخفض الجناح لهما‪ ،‬وبتقديمهما في البر والصلة‬
‫والمعروف‪ ،‬على نفسك وعلى أهلك وأولدك‪ ،‬ومن غير‬
‫منه عليهما ول استقبال لهما‪ ،‬وعد حاجتهما إليك ورغبتهما‬
‫في برك وخدمتك إياهما من أعظم ما من الله به عليك‪،‬‬
‫ووفقك له‪.‬‬
‫***‬
‫واعلم أن بّر الوالدة أضعاف بّر الوالد‪ ،‬كما ورد في‬
‫الحديث‪ .‬ولعل السبب في ذلك ما تقاسيه الوالدة من‬
‫تعب الحمل ومشاقه‪ ،‬ومشقة الوضع ومؤونة الرضاع‬
‫والتربية‪ ،‬ومزيد الحنانة والشفقة‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وقد قال رجل للنبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬من‬
‫أحق الناس بحسن صحبتي؟ أي ببري وصلتي‪ .‬فقال له‬
‫من ؟ قال‪:‬‬ ‫مك(( ثم َ‬ ‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬أ ّ‬
‫من ؟‬‫مك((‪ .‬قال ثم َ‬ ‫من ؟ قال‪ )) :‬أ ّ‬ ‫مك((‪ .‬قال‪ :‬ثم َ‬ ‫)) أ ّ‬
‫قال‪ )) :‬أبوك((‪.‬‬
‫***‬
‫‪283‬‬
‫) ‪(1/283‬‬

‫وكما يجب على النسان أن يبر والديه في حياتهما‪ ،‬كذلك‬


‫ينبغي له أن يبرهما بعد وفاتهما‪ ،‬وذلك بالدعاء والستغفار‬
‫لهما‪ ،‬وبالتصدق‪ ،‬عنهما‪ ،‬وبقضاء ديونهما وتنفيذ وصاياهما‪،‬‬
‫وبصلة أرحامهما وبر أصدقائهما وأهل مودتهما‪ ،‬فذلك كله‬
‫من تمام البر كما وردت به الحاديث‪ .‬وفي الدعاء للميت‬
‫وفي الستغفار له‪ ،‬والتصدق عنه نفع له كثير‪ ،‬فينبغي‬
‫للنسان أن ل يغفل عن ذلك في حق والديه خصوصا ً‬
‫‪،‬وفي حق غيرهم من القارب وذوي الحقوق عليه‪،‬‬
‫والمسلمين عمومًا‪.‬‬
‫ثم إنه ينبغي ويستحب للوالدين أن يعينوا أولدهم على‬
‫بّرهم بالمسامحة‪ ،‬وترك المضايقة في طلب القيام‬
‫بالحقوق‪ ،‬ومجانبة الستقصاء في ذلك‪ ،‬سيما في هذه‬
‫الزمنة التي قل فيها البر والبارون‪ ،‬وفشا فيها العقوق‬
‫وكثر العاقون‪ ،‬فإذا فعل ذلك وسامك أولده سلمهم‬
‫وخلصهم من إثم العقوق ومما يترتب عليه من عقوبات‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وحصل له من ثواب الله وكريم جزائه ما‬
‫هو أفضل وأكمل‪ ،‬وخير وأبقى من بر الولد‪ .‬وقد قال‬
‫عليه الصلة والسلم‪)) :‬رحم الله والدا ً أعان ولده على‬
‫بّره((‪.‬‬
‫وليحذر الوالدان كل الحذر من الدعاء على ولدهما العاق‪،‬‬
‫فإن ذلك يزيده ضررا ً وفسادا ً وعقوقًا‪ ،‬ويعود بعض ما‬
‫يتولد من ذلك من الضرر على الوالدين في الدنيا‪ ،‬ودعاء‬
‫الوالد‬
‫‪284‬‬
‫) ‪(1/284‬‬
‫مستحاب‪ ،‬فينبغي له أن يدعو له ول يدعو عليه‪ ،‬فقد‬
‫يصلحه الله ببركة دعائه‪ ،‬فيعود بارا فينتفع الوالد ببره‬
‫وتقر عينه به‪ ،‬ويفوز الولد بثواب البر‪ ،‬ويسلم من إثم‬
‫العقوق‪ .‬والله الموفق والمعين‪.‬‬
‫***‬
‫ثم إن للولد على الوالد حقوقا ً وذلك في القيام بكفايتهم‬
‫ما داموا محتاجين إلى ذلك‪ ،‬وفي تأديبهم وحسن تربيتهم‬
‫وهدايتهم إلى الخلق المحمودة والصفات الحسنة‬
‫والخصال الجميلة‪ ،‬وحفظهم وصيانتهم من أضداد ذلك‪،‬‬
‫وتحسين أسمائهم‪ ،‬وأن يختار لهم المهات المباركات من‬
‫المنابت الحسنة الصالحة‪ ،‬كما قال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫))تخيروا لنطفكم الكفاء فإن العرق دساس((‪.‬‬
‫وعليه أيضا ً أن يسوي بينهم في العطية‪ ،‬وأن ل يقدم أحدا ً‬
‫منهم على أحد بمجرد ميل الطبع واتباع هوى النفس‪.‬‬
‫وأهم ما يتوجه على الوالد في حق أولده تحسين الداب‬
‫والتربية‪ ،‬ليقع نشوءهم على محبة الخير ومعرفة الحق‪،‬‬
‫وتعظيم أمور الدين‪ ،‬والستهانة بأمور الدنيا وإيثار أمور‬
‫الخرة‪ .‬فمن فرط في تأديب أولده وحسن‬
‫تربيتهم‪ ،‬وزرع في قلوبهم محبة الدنيا وشهواتها‪ ،‬وقلة‬
‫المبالة بأمور الدنيا‪ ،‬ثم عقوه بعد ذلك فل يلومن إل‬
‫نفسه‪ ،‬والمفرط أولى‬
‫‪285‬‬
‫) ‪(1/285‬‬

‫بالخسارة! وأكثر العقوق الفاشي في هذه الزمنة سببه‬


‫التفريط فيما ذكرناه‪ ،‬كما يعرف ذلك من تأمله وأحسن‬
‫النظر فيه‪ .‬فل حول ول قوة إل بالله العلي العظيم!‬
‫وأما صلة الرحام وهم القارب‪.‬‬
‫ه(‬ ‫حّق ُ‬‫ذا ال ُْقْرَبى َ‬‫ت َ‬‫فقال تعالى في المر بصلتهم‪َ) :‬وآ ِ‬
‫]السراء‪.[26:‬‬
‫وقال تعالى في معرض الثناء على قوم اختارهم ورضيهم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫خ َ‬
‫شو ْ َ‬ ‫ص َ‬
‫ل وَي َ ْ‬ ‫مَر الل ّ ُ‬
‫ه ب ِهِ أن ُيو َ‬ ‫ما أ َ‬ ‫صُلو َ‬
‫ن َ‬ ‫ن يَ ِ‬ ‫)َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ب(]الرعد‪.[21:‬‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫سوَء ال ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫وَي َ َ‬
‫ومما أمر الله به أن يوصل‪:‬الرحام‪.‬‬
‫وقال الله تعالى في الزجر عن قطيعة الرحم والتحذير‬
‫ميَثاقِهِ وَي َْقط َُعو َ‬
‫ن‬ ‫من ب َعْدِ ِ‬ ‫ن عَهْد َ الل ّهِ ِ‬ ‫ضو َ‬ ‫ن َينُق ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫منها‪َ):‬وال ّ ِ‬
‫م‬ ‫ض أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك ل َهُ ُ‬
‫َ‬
‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ل وَي ُْف ِ‬ ‫ص َ‬‫ه ب ِهِ أن ُيو َ‬
‫َ‬
‫مَر الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫مآ أ َ‬ ‫َ‬
‫داِر(]الرعد‪.[25:‬‬ ‫سوُء ال ّ‬ ‫م ُ‬ ‫ة وَل َهُ ْ‬ ‫الل ّعْن َ ُ‬
‫دوا ِفي‬ ‫ل عَسيتم إن تول ّيت َ‬ ‫وقال تعالى‪):‬فَهَ ْ‬
‫س ُ‬‫م أن ت ُْف ِ‬ ‫َ ُْ ْ ِ َ َ ُْ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اْل َْر‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن ل َعَن َهُ ُ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م * أوْل َئ ِ َ‬ ‫مك ُ ْ‬
‫حا َ‬ ‫ض وَت َُقط ُّعوا أْر َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م(]محمد‪.[23-22:‬‬ ‫صاَرهُ ْ‬ ‫مى أب ْ َ‬ ‫م وَأعْ َ‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫ص ّ‬‫فَأ َ‬
‫فقاطع الرحم معلون في نص الكتاب‪.‬‬
‫وقد قال علي بن الحسين رضي الله عنهما يوصي بعض‬
‫بنيه‪ :‬إياك وصحبة قاطع الرحم! فإني وجدته ملعونا ً في‬
‫ثلثة‬
‫‪286‬‬
‫) ‪(1/286‬‬

‫مواضع من كتاب الله تعالى‪.‬انتهى‪.‬‬


‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من كان‬
‫يؤمن بالله واليوم الخر فليكرم ضيفه‪ ،‬ومن كان يؤمن‬
‫بالله واليوم الخرا ً أو ليصمت((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من سره أن يمد له في‬
‫عمره‪ ،‬ويوسع له في رزقهن ويدفع عنه ميتة السوء فليتق‬
‫الله وليصل رحمه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬قال الله عز وجل أنا الله‪،‬‬
‫وأنا الرحمن‪ ،‬خلقت الرحم وشققت لها اسما ً من اسمي‪،‬‬
‫فمن وصلها وصلته ومن قطعته((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬ل يدخل الجنة‬
‫قاطع((‪ ،‬أي‪ :‬قاطع رحم‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إن الرحمة ل تنزل على‬
‫قوم فيهم قاطع رحم((‪ .‬فإذا كانت الرحمة ل تنزا على‬
‫القوم بسبب كون قاطع الرحم فيهم‪ ،‬فكيف يكون حال‬
‫القاطع نفسه؟ وكيف يكون مقت الله له وقطعه إياه من‬
‫كل خير!!‪.‬‬
‫فعليكم رحمكم الله بصلة الرحام‪ ،‬وإياكم وقطيعتهم فإنها‬
‫من أعظم الثام‪ ،‬وعقوبتها معجلة في الدنيا‪ ،‬مع ما يدخر‬
‫الله تعالى للقطع في الخرة من شديد العقاب وأليم‬
‫العذاب‪.‬‬
‫وكذلك يعجل ثواب البر والصلة في الدنيا‪ ،‬مع ما يدخر‬
‫الله للواصل من عظيم الثواب وكريم المآب‪.‬‬
‫‪287‬‬
‫) ‪(1/287‬‬

‫وقد قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬أسرع الخير ثوابا ً‬
‫وصلة الرحم‪ ،‬وأسرع الشر عقابا ً البغي وقطعية الرحم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ما من ذنب أجدر أن يعجل‬
‫الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الخرة‬
‫من البغي وقطيعة الرحم((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فثواب البر والصلة معجل ومؤجل‪ ،‬وعقاب العقوق‬
‫والقطيعة كذلك‪ .‬نسأل الله العافية‪.‬‬
‫وينبغي للنسان أن يصل أرحامه وإن لم يصلوه‪ ،‬ويحسن‬
‫إليهم وأن لم يحسنوا إليه‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ليس الواصل بالمكافئ‪،‬‬
‫ولكن الواصل هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها((‪.‬‬
‫وينبغي له أيضا ً أن يصبر على أذاهم إن آذوه‪ ،‬ول يكافئهم‬
‫بإساء تهم إن أساؤوا إليه‪ ،‬بل يعفو ويصفحو‪ ،‬ويصل‬
‫ويحسن‪ ،‬وكلما آذوه وأساؤوا في حقه كانت الصلة لهم‬
‫آكد‪ ،‬وكانت الصدقة عليهم أفضل‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أفضل الصدقة على ذي‬
‫الرحم الكاشح((‪ .‬وهو الذي يضمر العداوة لقربيه‬
‫المحسن إليه‪ .‬وفي حديث الرجل الذي قال للنبي ‪-‬صّلى‬
‫الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني!‬
‫فذكر الحديث قال في آخره‪)) :‬ول يزال معك من الله‬
‫ظهير ما دمت على ذلك (( يعني‪ :‬على برهم وصلتهم وإن‬
‫قطعوا وأساؤوا‪.‬‬
‫***‬
‫‪288‬‬
‫) ‪(1/288‬‬

‫وكذلك ينبغي للنسام أن ل يتعدى بصدقته أقاربه وأرحامه‬


‫المحتاجين‪ ،‬فيتركهم ويتصدقة على غيرهم‪ ،‬قال عليه‬
‫الصلة والسلم‪)) :‬المتعدي في الصدقة كمانعها((‪.‬‬
‫وورد ‪)) :‬أن من يتصدق على الجانب مع علمه بحاجة‬
‫أقاربه إلى صدقته ل يقبل الله تعالى صدقته((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬الصدقة على الجانب‬
‫صدقة‪ ،‬والصدقة على القارب اثنتان ‪:‬صدقة وصلة((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومحل ذلك ما لم تشتد حاجة القارب‪ ،‬وإل فهم‬
‫أحق بالصدقة من غيرهم‪ .‬وإذا وسعت الصدقة فقط‪،‬‬
‫وعلى القريب صدقة وصلة‪ .‬وأما إذا تعدى بصدقته‪ ،‬وترك‬
‫أقاربه مع العلم بحاجتهم‪ ،‬فقد أساء وظلم ‪ ،‬وصدقته غير‬
‫مقبولة كما ورد‪.‬‬
‫وكلما كان الرحم أكثر قرابة كلن حقه آكد ‪ ،‬وكانت صلة‬
‫أوجب‪ .‬ويكون القريب الضعيف المسكين المحتاج أولى‬
‫بالبر والصلة من القريب الغني‪ ،‬وذلك لنه يصير للقريب‬
‫المسكين حقان‪ :‬حق القرابة‪ ،‬وحق المسكنة‪ .‬وقد قرن‬
‫الله بين المر بالحسان إلى القرابة والمساكين في آيات‬
‫ه‬
‫حّق ُ‬ ‫ذا ال ُْقْرَبى َ‬ ‫من كتابه‪ ،‬مثل قوله تعالى‪َ):‬فآ ِ‬
‫ت َ‬
‫ل(]الروم‪.[38:‬‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ن َواب ْ َ‬ ‫كي َ‬
‫س ِ‬‫م ْ‬‫َوال ْ ِ‬
‫حب ّهِ ذ َِوي ال ُْقْرَبى‬
‫ل عََلى ُ‬
‫ما َ‬‫ومثل قوله تعالى‪َ):‬وآَتى ال ْ َ‬
‫ن(]البقرة‪ . [177:‬إلى غير ذلك‪.‬‬ ‫كي َ‬
‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫مى َوال ْ َ‬ ‫َوال ْي ََتا َ‬
‫‪289‬‬
‫) ‪(1/289‬‬

‫فل شك أن صلة من له حقان معا ً أولى من صلة من له‬


‫حق واحد‪.‬‬
‫فليجتهد العبد الموفق في صلة أرحامه وأقاربه‪ ،‬بكل ما‬
‫يمكنه ويستطيعه من بر المعروف‪ ،‬وهدية وصدقة‪ ،‬وزيارة‬
‫ومؤانسة‪ ،‬ويفعل مع كل منهم ما يناسبه من ذلك‪ ،‬ويكون‬
‫فيه بره وصلته وإيناسه‪ ،‬ول يقصر في صلة أرحامه كسل ً‬
‫وبخل ً واستخفافا ً بحق الرحم التي عظم الله تعالى أمرها‪،‬‬
‫وأكثر الوعيد في قطيعتها‪ ،‬وعلى العبد بذل الستطاعة‬
‫والمقدور‪.‬‬
‫وعلى الله العانة والمسامحة‪ .‬وقد قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ )) :‬ب ُّلوا أرحامكم ولو بالسلم((‪ .‬أي‪ :‬صلوهم بما‬
‫تقدرون عليه‪.‬‬
‫وقد عمت في هذا الزمان قطيعة الرحام‪ ،‬وقلة المباىة‬
‫بصلتهم وتعهدهم ‪ .‬ولعل السبب فيما حدث‪ ،‬وعم العباد‬
‫والبلد من ضنك المعاش‪ ،‬وضعف الرزاق‪ ،‬وقلة ذات اليد‬
‫هم القطيعة للرحام التي قد فشت وانتشرت في هذه‬
‫اليام وقد وردت الحاديث بأن صلة الرحام منسأة في‬
‫الجال‪،‬مثراة في الموال‪.‬‬
‫وأن الله تعالى قد بسط الرزق لقوام‪ ،‬وأكثر لهم الموال‪،‬‬
‫وما نظر إليهم منذ خلقهم‪ ،‬لصلتهم أرحامهم‪ ،‬فتكون‬
‫القطيعة وترك الصلة على الضد من ذلك‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫‪290‬‬
‫) ‪(1/290‬‬

‫وأما الهل والعيال ونعني بالهل ههنا‪ :‬الزوجة والزوجات‪.‬‬


‫وبالعيال‪ :‬كل من يكون نفقة النسان‪ ،‬وتحت النظره‬
‫وكفالته عليه القيام بنفقتهم وكسوتهم‪ ،‬ورعاية حقوقهم‬
‫وإرشادهم إلى وظائف دينهم‪ ،‬وما فيه سلمتهم ونجاتهم‬
‫في الدار الخرة‪.‬‬
‫وعليه أيضا ً أن يلزمهم القيام بما يجب عليهم من أوامر‬
‫الله‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ ،‬وقد قال الله تعالى في حق النساء‪:‬‬
‫ف(]البقرة‪.[228:‬‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫ذي عَل َي ْهِ ّ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫مث ْ ُ‬ ‫)وَل َهُ ّ‬
‫ن ِ‬
‫ف(]النساء‪.[19:‬‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫شُروهُ ّ‬ ‫عا ِ‬
‫وقا تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫وقال تعالى‪) :‬فَإ َ‬
‫سِبي ً‬
‫ل(]النساء‪:‬‬ ‫م فَل َ ت َب ُْغوا ْ عَل َي ْهِ ّ‬
‫ن َ‬ ‫ن أط َعْن َك ُ ْ‬ ‫ِ ْ‬
‫‪.[34‬‬
‫قال النبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬استوصوا‬
‫بالنساء خيرًا((‪.‬وقد أكثر عليه من الوصية بالنساء‪ ،‬وحث‬
‫على الرفق بهن‪ ،‬وحسن المعاشرة لهن‪ .‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪)) :‬خياركم خياركم لنسائهم((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬خيركم خيركم لهله‪،‬‬
‫وأنا خيركم لهلي((‪.‬‬
‫فينبغي للنسان أن يكون حسن المعاشرة مع نسائه‪،‬‬
‫لطيف الخلق‪ ،‬شفيقا ً رفيقًا‪ ،‬صبورا ً على جفائهن وسوء‬
‫أخلقهن‪ ،‬ويكون كثير المسامحة لمن بما يجب له من‬
‫الحقوق عليهن‪.‬‬
‫‪291‬‬
‫) ‪(1/291‬‬

‫وأما ما يجب عليهن من حقوق الله فيكلفهن بالقيام به‪،‬‬


‫ول تجوز المسامحة والمساهلة في ذلك‪.‬‬
‫وكذلك ل ينبغي له أن يملك المرأة أمره‪ ،‬ويوليها نفسه‬
‫وماله‪ ،‬كما يفعله بعض الغبياء المغفلين‪ .‬وذلك من المور‬
‫ل‪،‬فإن المرأة حكمها حكم المملوك‬ ‫المستقبحة شرعا ً وعق ً‬
‫والتابع‪ ،‬فمن حعل المملوك مالكا ً والتابع متبوعا ً فهو‬
‫معكوس‬
‫منكوس‪ .‬وقد قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ل يفلح قوم‬
‫ولوا أمرهم امرأة‪ ((...‬الحديث‪ .‬قال الحسن البصري‬
‫رحمه الله‪ :‬ما ‪-‬صبح رجل يطيع امرأته فيما تهواه إل أكبه‬
‫الله في النار‪.‬‬
‫***‬
‫وإذا كان الرجل زوجتان أو زوجات لزمه العدل بينهن‪.‬‬
‫فإن لم يعدل وقع في الثم والحرج‪ ،‬قال النبي ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪)) : -‬من كانت عنده امرأتان فلم يعدل‬
‫بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط ((‪.‬‬
‫***‬
‫وأما حق الزوج على زوجته فهو من أعظم الحقوق‪ ،‬ولها‬
‫في القيام به ثواب كثير‪ ،‬وعليها في إضاعته وإهماله إثم‬
‫كبير‪.‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬لو أمرت أحدا ً أن يسجد لحد‬
‫‪292‬‬
‫) ‪(1/292‬‬

‫لمرت المرأة أن تسجد لزوجها(( لعظم حقه عليها‪ .‬قال‬


‫عليه الصلة والسلم‪)) :‬أيما امرأة باتت وزوجها عنها‬
‫راض دخلت الجنة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إذا صلت المراة خمسها‪،‬‬
‫وصامت شهرها‪ ،‬وحفظت فرجها‪ ،‬وأطاعت زوجها‪ ،‬قيل‬
‫لها‪ :‬ادخلى من أي أبواب الجنة شئت((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ل ينظر الله تبارك وتعالى‬
‫إلى امرأة ل تشكر زوجها وهي ل تستغني عنه((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬إذا دعا الرجل‬
‫زوجته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها‬
‫الملئكة حتى تصبح((‪ .‬فيجب على المرأة‬
‫طاعة زوجها وترك المخالفة له‪ ،‬وأن ل تأذن في بيته ول‬
‫تتصدق من ماله‪ ،‬ول تخرج من البيت إل بإذنه ورضاه‪ ،‬فإن‬
‫فعلت شيئا ً من ذلك بدون إذنه أثمت‪ .‬وإذا دعاها إلى‬
‫فراشه لم يجز لها المتناع إل لعذر شرعي‪.‬‬
‫وبالجملة فحق الزوج على الزوجته عظيم‪ ،‬حتى إنه ورد‬
‫عن النبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬لو كان بالرجل‬
‫جراحة من رأسه إلى قدمه فلحستها المرأة بلسانها لم‬
‫تقم بحقه عليها((‪.‬‬
‫فينبغي للمرأة أن تجتهد في القيام بحق زوجها وأن ل‬
‫تقصر في القيام به‪ ،‬لتفوز بثواب الله ورضاه‪ ،‬وتنجو من‬
‫عذابه وسخطه‪.‬‬
‫وينبغي للزوج أن يسامح زوجته بعض المسامحة‪ ،‬ول‬
‫يستقصي عليها في طلب القيام بالحقوق فيوقعها في‬
‫الحرج ‪،‬‬
‫‪293‬‬
‫) ‪(1/293‬‬

‫فإن النساء ناقصات عقل ودين‪ ،‬والغالب عليهن التساهل‬


‫والتغافل عن حقوق الزواج‪ .‬ومن سامح سامحه الله‪،‬‬
‫ومن تجاوز تجاوز الله عنه‪.‬‬
‫واعلموا رحمكم الله‪ :‬أن للنكاح فضل ً وفوائد ومنافع‬
‫دنيوية وأخروية‪ ،‬وقد ورد الترغيب فيه كتابا ً وسنة‪ ،‬قال‬
‫مث َْنى وَث ُل َ َ‬
‫ث‬ ‫ساء َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ب لَ ُ‬
‫كم ّ‬ ‫طا َ‬‫ما َ‬ ‫حوا ْ َ‬ ‫تعالى‪َ) :‬فانك ِ ُ‬
‫وَُرَباعَ (]النساء‪.[3:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬‫م َوال ّ‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫مى ِ‬ ‫حوا اْلَيا َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَأنك ِ ُ‬
‫ه‬ ‫من فَ ْ‬
‫ضل ِ ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫كوُنوا فَُقَراء ي ُغْن ِهِ ُ‬ ‫م ِإن ي َ ُ‬ ‫مائ ِك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ َ‬‫عَبادِك ُ ْ‬‫ِ‬
‫م(]النور‪.[32:‬‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬يامعشر‬
‫الشباب‪ ،‬ومن استطاع منكم الباءة فليتزوج‪ ،‬فإن أغض‬
‫للبصر‪ ،‬وأحصن للفرج‪.‬‬
‫ومن لم يستطع فعليه بالصوم‪ ،‬فإنه له وجاء((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من أراد أن يلقى الله‬
‫طاهرا ً مطهرا ً فليتزوج الحرائر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أربع من سنن‬
‫المرسلين‪:‬الحياء‪ ،‬والتعطر‪ ،‬والسواك‪ ،‬والنكاح((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬تناكحوا تكاثروا فإني مكاثر‬
‫بكم المم يوم القيامة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إذا تزوج العبد فقد استكمل‬
‫‪294‬‬
‫) ‪(1/294‬‬

‫نصف الدين‪ ،‬فليتق الله في النصف الباقي((‪.‬‬


‫وقال ابن عباس رضي الله عنهما‪ :‬ل يمنع من النكاح إل‬
‫عجز أو فجور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وفي النكاح فراغ للقلب من وساوس الشيطين‬
‫فيما يتعلق بالنساء‪ ،‬وربما يعرض ذلك للنسان وهو في‬
‫صلته وأقفا ً بين يدي الله‪ ،‬أو وهو يتلو القرآن أو هو في‬
‫ذكر الله فيقع في سوء الدب مع الله‪ .‬وفي النكاح غض‬
‫للبصر‪ ،‬وتحصين للفرج‪ .‬وقد ورد في فضل ذلك وفي‬
‫التحذير من تركه من شواهد الكتاب والسنة ما ل يخفى‬
‫على ذي علم وبصيرة‪.‬‬
‫َ‬
‫م‬
‫صارِهِ ْ‬ ‫ن أب ْ َ‬‫م ْ‬‫ضوا ِ‬ ‫ن ي َغُ ّ‬‫مِني َ‬ ‫وقال الله تعالى‪ُ) :‬قل ل ّل ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫ما‬
‫خِبيٌر ب ِ َ‬‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫كى ل َهُ ْ‬
‫م إِ ّ‬ ‫ك أ َْز َ‬ ‫م ذ َل ِ َ‬
‫جه ُ ْ‬ ‫حَف ُ‬
‫ظوا فُُرو َ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫ن(]النور‪.[30:‬‬ ‫صن َُعو َ‬
‫يَ ْ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬النظرة سهم مسموم من‬
‫سهام إبليس‪((....‬الحديث‪.‬‬
‫وفي النكاح من الصبر على معاشرة النساء بالمعروف ‪،‬‬
‫والقيام بحقوقهن‪ ،‬والنفاق عليهن وعلى العيال فضل‬
‫كبير‪ ،‬وفيه فضل التسبب في تحصيل أولد صالحين‬
‫يعبدون الله تعالى‪ ،‬ويدعون ل بائهم‪ ،‬ويستغفرون لهم في‬
‫حياتهم وبعد وفاتهم‪ ،‬وربما مات بعضهم قبل البلوغ‬
‫فيحصل لوالديهم من ثواب ذلك الحظ العظيم‪.‬‬
‫وفي تربيتهم‪ ،‬أعني الولد‪ ،‬وحسن القيام بهم ل سيما‬
‫البنات منهم‪ ،‬ثواب كثير‪ ،‬وفضل كبير ‪.‬‬
‫‪295‬‬
‫) ‪(1/295‬‬

‫وقد قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬دينار أنفقته في سبيل‬


‫الله‪ ،‬ودينار أنفقته في رقبة‪ ،‬ودينار تصدقت به على‬
‫مسكين‪ ،‬ودينار أنفقته على أهللك‪ ،‬أعظمها أجرا ً الذي‬
‫أنفقته على أهلك((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬ما أطعمت نفسك‬
‫فهو لك صدقة‪ ،‬وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة‪ ،‬وما‬
‫أطعمت زوجتك فهو لك صدقة‪ ،‬وما أطعمت خادمك فهو‬
‫لك صدقة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إذا مات ابن آدم انقطع‬
‫عمله إل من ثلث‪ :‬صدقة جارية‪ ،‬أو علم ينتفع به‪ ،‬أو ولد‬
‫صالح يدعو له((‪.‬‬
‫***‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬ما من مسلم يموت‬
‫له ثلثة من الولد لم يبلغوا الحنث)‪(1‬إل أدخله الله الجنة‬
‫بفضل رحمته أياهم((وفي رواية ))فقالت امرأة‪ :‬واثنان!‬
‫فقال أو اثنان((‪.‬وروي عنه عليه أنه قال))لن لقدم‬
‫سقطا ً أحب إلي من أن أخلف خمسين فارسا ً يجاهدون‬
‫في سبيل الله((‪.‬‬
‫وورد‪)):‬أن الطفال يعطون آنية فيهما من شراب الجنة‬
‫فيسقون آباءهم في موقف القيامة وبالناس من الكرب‬
‫والعطش ما ل يعلمه‬
‫‪---------------------------‬‬
‫)‪ (1‬أي لم يبلغوا مبلغ الرجال ويجري عليهم القلم‪،‬‬
‫فيكتب عليهم الحنث والطاعة‪.‬‬
‫‪296‬‬
‫) ‪(1/296‬‬

‫إل الله‪ ،‬وأنهم يقفون على أبواب الجنة ويأبون أن يدخلوها‬


‫حتى يدخلها آباؤهم‪ ،‬فيأمر الله آبائهم معهم الجنة‬
‫برحمته((؟‬
‫***‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من ابتلي من هذه البنات‬
‫بشيء فأحسن إليهن كن له سترا ً من النار((‪ .‬وقال عليه‪:‬‬
‫))من كان له ثلث بنات يؤدبهن ويرحمهن ويكفلهن وجبت‬
‫له الجنة ألبته‪ .‬قيل يا رسول الله‪ ،‬وإن كانتا اثنتين؟ قال ‪:‬‬
‫وإن كانتا اثنتين(( قال ‪ :‬فرأى بعض القوم لو قال‪:‬‬
‫واحدة‪ .‬لقال ‪ :‬واحدة‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من كانت له أنثى‬
‫فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده ‪ -‬يعني الذكور ‪ -‬عليها‬
‫أدخله الله الجنة(( ومعنى))يئدها(( يدفنها حية‪ ،‬كما كان‬
‫أهل الجاهلية يفعلون ذلك‪ .‬وقد يصدر من بعض الناس‬
‫الغبياء إذا أخبر بحدوث بنت له أو لغيره من الكلمات‬
‫الشنيعة الدالة على كراهية والنثى عدم الرضا بها بما ل‬
‫ينبغي‪ .‬وذلك من المكروهات والمستقبحات‪ ،‬وهو قريب‬
‫مما وصف الله به أهل الجاهلية في قوله تعالى‪) :‬وَإ ِ َ‬
‫ذا‬
‫لنَثى ظ َ ّ‬ ‫حد ُهُم با ُ‬ ‫ب ّ َ‬
‫م‬‫ظي ٌ‬ ‫دا وَهُوَ ك َ ِ‬ ‫سو َ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬‫جه ُ ُ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫ْ ِ‬ ‫شَر أ َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ه عَلى‬ ‫سك ُ ُ‬
‫م ِ‬ ‫شَر ب ِهِ أي ُ ْ‬ ‫ما ب ُ ّ‬‫سوِء َ‬ ‫من ُ‬ ‫ن الَقوْم ِ ِ‬‫م َ‬‫واَرى ِ‬ ‫* ي َت َ َ‬
‫َ‬ ‫هو َ‬
‫ن(]النحل‪-58:‬‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬‫ما ي َ ْ‬ ‫ساء َ‬ ‫ب أل َ َ‬ ‫ه ِفي الت َّرا ِ‬ ‫س ُ‬‫م ي َد ُ ّ‬
‫نأ ْ‬ ‫ُ ٍ‬
‫‪.[59‬‬
‫فليحذر المؤمن التقي من ذلك ‪ -‬أعني كراهية النثى ‪-‬‬
‫ومن‬
‫‪297‬‬
‫) ‪(1/297‬‬

‫إهانتها‪ ،‬ومن إيثار ولده الذكر عليها‪ ،‬فإنه ل يدري فيمن‬


‫تكون البركة والعاقبة الحسنة‪.‬‬
‫***‬
‫وينبغي لمن أراد التزوج أن يتحرى ذات الدين والخير‬
‫والصلح وإن كانت فقيرة وغير فائقة في الجمال‪ ،‬فقد‬
‫حث عليه على ذات الدين‪ ،‬ورغب فيها وقال‪)):‬فاظفر‬
‫يذات الدين تربت يداك((فل ينبغي للنسان أن يتزوج‬
‫المرأة لمالها وجمالها فقط‪ ،‬فإن ذلك مكروه‪ .‬قال عليه‬
‫))ل تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن‪،‬‬
‫ول تزوجوهن لموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ‪،‬‬
‫ولكن تزوجوهن على الدين‪((...‬الحديث‬
‫***‬
‫ثن إن من قصد ترك النكاح تفرغا ً للعلم والعبادة‪ ،‬وتباعدا ً‬
‫عن شواغل الدنيا وعلئقها‪ ،‬وكان مع ذلك فارغ القلب عن‬
‫الميل إلى النساء والركون إليهن‪ ،‬فإنه ل بأس عليه في‬
‫تركه ول جناح‪ ،‬فقد رأى ذلك وأخذ به‬
‫جماعة من صالحي السلف والخلف‪ ،‬رحمهم الله‪.‬‬
‫وقد قيل لبعضهم‪ :‬أل تتزوج؟ فقال ‪ :‬قد عجزت عن تقويم‬
‫نفسي‪ ،‬أفأضم إليها نفسا ً ثانية؟! وقيل مثل ذلك لخر‬
‫منهم فقال ‪ :‬لو قدرت على تطليق نفسي لطلقتها‪.‬‬
‫‪298‬‬
‫) ‪(1/298‬‬

‫وقيل لبشر بن الحارث رحمه الله‪ :‬إن الناس يتكلمون‬


‫فيك‪ ،‬يقولون‪ :‬إنك تارك للسنة!! يريدون التزوج‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫قولوا لهم ‪ :‬هو مشغول بالفريضة‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فينبغي لمن أراد التزوج أن يتزوج بنية الستعانة‬
‫على الدين والخرة‪ .‬ومن ترك فينبغي أن يترك بنية‬
‫التحفظ على الدين وإيثار جانب السلمة والحتياط‪،‬‬
‫فيكون في تزوجه وتركه على نية صالحة يصلح التقرب‬
‫ول في نكاحه وفي ترك‬ ‫بها إلى الله تعالى‪ .‬فإما من يع ّ‬
‫النكاح على حظوظ الدنيا وأغراضها‪ ،‬و بواعث الطبع‬
‫والشهوة فهو بعيد من الصواب والتأسي بصالحي السلف‪.‬‬
‫ب غيره‪.‬‬ ‫والله الموفق والمعين ل ر ّ‬
‫وأما الحسان إلى المماليك والرقاء فقد ورد المر به‬
‫كوا ْ ب ِ ِ‬
‫ه‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه وَل َ ت ُ ْ‬‫دوا ْ الل ّ َ‬ ‫والحث عليه‪ ،‬قال الله تعالى‪َ) :‬واعْب ُ ُ‬
‫ن‬‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫مى َوال ْ َ‬ ‫ذي ال ُْقْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫ساًنا وَب ِ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫شي ًْئا وَِبال ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ب َواب ْ ِ‬ ‫جن ِ‬ ‫ب ِبال َ‬ ‫ح ِ‬ ‫صا ِ‬‫ب َوال ّ‬ ‫جارِ ال ْ ُ‬
‫جن ُ ِ‬ ‫جارِ ِذي ال ُْقْرَبى َوال ْ َ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫َ‬
‫م(]النساء ‪.[36‬‬ ‫مان ُك ُ ْ‬
‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬‫ما َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫سِبي ِ‬‫ال ّ‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬للمملوك طعامه‬
‫وكسوته بالمعروف‪ ،‬وأن ل يكون من العمل ما ل‬
‫يطيق((‪.‬وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬اتقوا الله فيما‬
‫ملكت أيمانكم ‪ ،‬أطعموهم مما تأكلون ‪ ،‬واكسوهم مما‬
‫تلبسون‪ ،‬ول تكلفوهم من العمل ما ل يطيقون‪ ،‬فما‬
‫أحببتم فامسكوا‪ ،‬وما كرهتم فبيعوا‪ ،‬ول تعذبوا‬
‫‪299‬‬
‫) ‪(1/299‬‬

‫خلق الله تعالى ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم((‪.‬‬


‫وقال رجل‪ :‬يارسول الله‪،‬كم نعفو عن الخادم؟ فقال عليه‬
‫الصلة والسلم‪)) :‬اعف عنه في كل يوم سبعين مرة((‪.‬‬
‫وورد أيضا ً عنه عليه الصلة والسلم‪)) :‬ل يدخل الجنة‬
‫سيئ الملكة (( وهو الذي يسئ إلى ما ملكت يمينه من‬
‫الطعام واللباس‪ ،‬وأن يكلفه من الخدمة فوق ما يطيق ‪،‬‬
‫وأن يشتمه ويضربه بغير حق‪ ،‬فإن فعل به شيئا ً من ذلك‬
‫اقتص له منه في الدار الخرة كما وردت به الحاديث‪.‬‬
‫ومهما ضربه أو شتمه على أمر يستوجب به ذلك فعليه أن‬
‫ل يجوز‪ ،‬ول يتجاوز الحد‪ ،‬وإن عفا وصفح كان ذلك أحسن‬
‫ل‪.‬‬ ‫وأجمل ‪،‬وكان له فيه الثواب العظيم من الله عّز وج ّ‬
‫وعلى من ملك شيئا ً من الحيوانات والبهائم أن يتعهدها‬
‫ويتفقدها ‪ ،‬ويحسن النظر عليها‪ ،‬يتولى ذلك بنفسه‪ ،‬أو‬
‫يوليه من يثق به من أولده وخدمه‪ ،‬فإن إن لم يفعل ذلك‬
‫وقع في الثم والحرج‪ .‬وفي الحديث‪ )) :‬إن امرأة دخلت‬
‫النار في هرة ربطتها ل هي أطعمتها ول هي تركتها تأكل‬
‫من خشاش الرض((‪.‬‬
‫***‬
‫‪300‬‬
‫) ‪(1/300‬‬

‫وأما الحسان إلى الجيران‪ :‬فقد أمر الله به في قوله‬


‫ساًنا‬
‫ح َ‬‫ن إِ ْ‬ ‫شي ًْئا وَِبال ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫كوا ْ ب ِهِ َ‬
‫شرِ ُ‬ ‫ه وَل َ ت ُ ْ‬‫دوا ْ الل ّ َ‬‫تعالى‪َ):‬واعْب ُ ُ‬
‫جارِ ِذي ال ُْقْرَبى‬ ‫ن َوال ْ َ‬
‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬‫مى َوال ْ َ‬ ‫ذي ال ُْقْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫وَب ِ ِ‬
‫ب (]النساء‪.[36:‬‬ ‫جارِ ال ْ ُ‬
‫جن ُ ِ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫وقد عظم رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬حق‬
‫الجار‪ ،‬وحث على الحسان إليه‪ ،‬وبالغ في النهي عن‬
‫إيذائه‪ ،‬حتى قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ما زال جبريل‬
‫يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه(( أي يجعل له‬
‫نصيبا ً من الرث في مال جاره‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من كان يومن بالله واليوم‬
‫الخر فليكرم جاره((‪ .‬وقال عليه‪)):‬من آذى جاره فقد‬
‫آذاني‪ ،‬ومن آذاني فقد آذى الله((‪.‬وقال عليه ))والله ل‬
‫يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه(( يعني بذلك شّره وأذاه‬
‫وفتنته‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وحق الجار عظيم‪ ،‬والحسان إليه من أهم المهمات في‬
‫الدين‪ ،‬ول يتم الحسان إل بكف الذى عنه‪ ،‬واحتمال الذى‬
‫منه إن آذاك ‪،‬مع اصطناع المعروف وبذل الحسان إليه‬
‫حسب الستطاعة‪ ،‬وذلك وصف كل مؤمن كامل اليمان‬
‫كما قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أحسن مجاورة من‬
‫جاورك تكن مؤمنًا((‪.‬‬
‫وأحق الجيران بالحسان القرب منهم بابا ً إليك فال قرب‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪)) :‬إن من الجيران من له ثلثة حقوق وهو‬
‫الجار المسلم ذو القرابة‪ .‬ومنهم من له حقان وهو الجار‬
‫‪301‬‬
‫) ‪(1/301‬‬

‫المسلم‪ .‬ومنهم من له حق واحد وهو الجار الذمي((‪.‬‬


‫فانظر كيف أثبت للجار الذمي حق الجوار مع كفره تعرف‬
‫به عظم تأكيد حق الجار ومحله من الدين‪ .‬فعليك رحمك‬
‫الله بالحسان إلى جيرنك حسب المكان بعد كف الذى‬
‫عنهم مطلقًا‪ ،‬واحتمال الذى منهم إن كان‪ .‬واستعن بالله‬
‫ح ّ‬
‫ظ‬ ‫ذو َ‬‫ها إ ِّل ُ‬
‫ما ي ُل َّقا َ‬
‫صب َُروا وَ َ‬
‫ن َ‬ ‫ها إ ِّل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما ي ُل َّقا َ‬
‫واصبر )وَ َ‬
‫م(]فصلت‪.[35:‬‬ ‫ظي ٍ‬
‫عَ ِ‬
‫وقد ذكر المام حجة السلم في )الحياء(وغيره‪ ،‬حديثا ً‬
‫جامعا ً فيما ينبغي للجار أن يفعله مع جاره‪ ،‬فقال رحمه‬
‫الله‪:‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬وإن استقرضك أقرضته‪ ،‬وإن‬
‫افتقر جدت عليه‪ ،‬وإن مرض عدته‪ ،‬وإن مات تبعت‬
‫جنازته‪ ،‬وإن أصابه خير هنأته‪ ،‬وإن أصابته مصيبة عزيته‪،‬‬
‫ول تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إل بإذنه‪ ،‬ول‬
‫تؤذه‪ ،‬وإن اشتريت فاكهة فأهد له‪ ،‬فإن لم تفعل فأدخلها‬
‫سرا ً ول يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده‪ ،‬ول تؤذه بقتار)‬
‫‪(1‬قدرك إل أن تغرف له منها أتدرون ما رحق الججار؟‬
‫والذي نفسي بيده! ل يبلغ حق الجار إل من رحمه‬
‫الله((انتهى‪.‬‬
‫وقد كان السلف الصالح يبالغون في الحسان إلى‬
‫الجيران‬
‫‪--------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬الُقتار ‪ -‬بضم القاف ‪ -‬ريح القدر والشواء ونحوهما‪.‬‬
‫‪302‬‬
‫) ‪(1/302‬‬

‫وكف الذى عنهم إلى الغاية والنهاية‪ ،‬حتى بلغنا أنه كثر‬
‫الفأر في دار بعضهم فقيل له‪ :‬لو اقتنيت هرًا؟ فقال‬
‫أخاف أن يهرب الفأر منه إلى الجيران‪ ،‬فيكون ذلك من‬
‫الذى لهم‪.‬‬
‫وأما الحسان إلى الصحاب‪ :‬فهو مأمور به‪ ،‬ومرغب فيه‪،‬‬
‫ومندوب إليه‪ .‬وللصحاب حقوق تجب مراعاتها وتتأكد‬
‫كوا ْ‬
‫شرِ ُ‬ ‫ه وَل َ ت ُ ْ‬‫دوا ْ الل ّ َ‬ ‫المحافظة عليها‪ ،‬قال الله تعالى‪َ):‬واعْب ُ ُ‬
‫مى‬ ‫ذي ال ُْقْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫ساًنا وَب ِ ِ‬
‫ح َ‬‫ن إِ ْ‬ ‫شي ًْئا وَِبال ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫ب ِهِ َ‬
‫ب‬ ‫ح ِ‬‫صا ِ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫جن ُ ِ‬ ‫جارِ ال ْ ُ‬‫جارِ ِذي ال ُْقْرَبى َوال ْ َ‬ ‫ن َوال ْ َ‬ ‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫ب (]النساء‪.[36:‬‬ ‫جن ِ‬ ‫ِبال َ‬
‫وروي عنه عليه أفضل الصلة والسلم أنه قال‪)) :‬مامن‬
‫صاحب يصحب صاحبا ً ولو ساعة من نهار إل سئل عن‬
‫صحبته يوم القيامة هل أقام فيها حق الله أو أضاعه؟((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬خير الصحاب خيرهم‬
‫لصاحبه‪ ،‬وخير الجيران خيرهم لجاره((‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫دهما‬ ‫والسلم‪)) :‬ما تحاب اثنان إل كان أحبهما إلى الله أش ّ‬
‫حب ّا ً لصاحبه(( وفي رواية ))أرفقهما بصاحبه((‬
‫***‬
‫وأصل الصحبة صدق المحبة وصفاء المودة‪ ،‬ومهما كان‬
‫ذلك في الله ولله فثوابه عظيم‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫ي‪،‬‬‫والسلم‪)) :‬قال الله تعالى‪ :‬وجبت محبتي للمتاحبين ف ّ‬
‫ي((‪.‬‬ ‫ي‪ ،‬والمتباذلين ف ّ‬ ‫ي‪ ،‬والمتزاورين ف ّ‬ ‫والمتجالسين ف ّ‬
‫‪303‬‬
‫) ‪(1/303‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬يقول الله تعالى يوم‬
‫القيامة‪ :‬أين المتحابون بجللي‪ ،‬اليوم أظّلهم في ظّلي‬
‫ل إل ظ ِّلي((‪.‬‬ ‫يوم ل ظ ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من سّره أن يجد حلوة‬
‫حّبه إل الله((‪ .‬وقال عليه الصلة‬ ‫ب المرَء ل ي ُ ِ‬‫ح ّ‬
‫اليمان فلي ُ ِ‬
‫والسلم‪)) :‬سبعة يظلهم الله في ظله يوم ل ظل إل ظله‪،‬‬
‫فذكرهم حتى قال‪:‬ورجلن تحابا في الله‪ ،‬اجتمعا عليه‬
‫وتفرقا عليه‪((...‬الحديث‪.‬‬
‫ب الله‬‫ه لنه يح ّ‬
‫حب َ ُ‬
‫صا َ‬
‫هو َ‬‫ن وأل َِف ُ‬‫ن النسا َ‬ ‫ب النسا ُ‬ ‫فإذا أح ّ‬
‫ويعمل بطاعته كان ذلك من المحبة في الله تعالى‪.‬‬
‫وإذا أحّبه وصحبه لنه يعينه على دينه ويساعده على‬
‫طاعة رّبه فقد أحّبه في الله‪.‬‬
‫وإذا أحّبه وصحبه لنه وجد طبعه يميل إليه ونفسه تأنس‬
‫به‪ ،‬أو لنه يعينه على دنياه وأسباب معاشه التي يتمتع بها‬
‫فتلك محّبة طبعية ليست من المحّبة لله في شيء‪ ،‬وتلك‬
‫صحبة نفسانية اقتضاها ميل الطبع ولكنها مباحة‪ ،‬ولعّلها ل‬
‫تخلو من خير إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫وأما إذا أحّبه وصاحبه لنه يعينه على المعصية والظلم‪،‬‬
‫ويساعده على أسباب الفسق والمنكر فتلك محبة وصحبة‬
‫‪304‬‬
‫) ‪(1/304‬‬

‫مذمومة قبيحة‪ ،‬وهي في سبيل الشيطان وليست من الله‬


‫في شيء‪ ،‬وهي التي تنقلب في الخرة عداوة وربما‬
‫انقلبت في الدنيا قبل الخرة‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬ال َ ِ‬
‫خّلء‬
‫ن(]الزخرف‪.[67:‬‬ ‫ض عَد ُوّ إ ِّل ال ْ ُ‬
‫مت ِّقي َ‬ ‫م ل ِب َعْ ٍ‬
‫ضه ُ ْ‬
‫مئ ِذٍ ب َعْ ُ‬
‫ي َوْ َ‬
‫***‬
‫فينبغي لك أيها الخ أن ل تحب ول تصحب إل أهل التقوى‬
‫وأهل العلم‪ ،‬وأهل الزهد في الدنيا من عباد الله‬
‫الصالحين‪ ،‬وأوليائه المؤمنين‪ ،‬فإن المرء مع من أحب في‬
‫الدنيا والخرة كما في الحديث الصحيح‪ ،‬وكما قال عليه‪:‬‬
‫))المرء من جليسه‪ ،‬والمرء على دين خليله‪ ،‬فلينظر‬
‫أحدكم من يخالل(( وقال عليه‪)):‬الجليس الصالح خير من‬
‫الوحدة‪ ،‬والوحدة خير من الجليس السوء((‪.‬‬
‫فصحبة المتقين والصالحين قربة إلى الله‪ ،‬وهي الصحبة‬
‫المحمودة المشكورة‪ ،‬وفي فضلها وردت الخبار والثار‬
‫الكثيرة وهي المحبة لله وفي الله التي عظم فضلها‬
‫وثوابها‪ ،‬وارتفع قدرها ومحّلها من الدين‪.‬‬
‫وأما صحبة الشرار‪ ،‬ومن ل خير في صحبته من الغافلين‬
‫المعرضين عن الله وعن الدار الخرة فهي الصحبة‬
‫المذمومة الممقوتة‪ ،‬لن أهل الشّر والفساد يتعّين بغضهم‬
‫في الله‪،‬‬
‫‪305‬‬
‫) ‪(1/305‬‬

‫وتجب مباعدتهم ومجانبتهم‪ ،‬وذلك من المهمات في‬


‫الدين‪ .‬ومن أحب في الله ولله من بر من عباد الله‬
‫واتقى‪ ،‬أبغض ل محالة من عصى الله وأعرض عن‬
‫طاعته‪ ،‬فإن الحب في الله والبغض في الله متلزمان ل‬
‫يصح أحدهما بدون الخر‪ ،‬وهما من الدين بمنزلة عالية‬
‫رفيقة‪ ،‬وقد قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫))من أوثق عرى اليمان الحب في الله والبغض في‬
‫الله((‪.‬‬
‫ب في‬‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أفضل العمال الح ّ‬
‫الله والبغض في الله‪.((..‬‬
‫ب في‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬وهل الدين إل الح ّ‬
‫الله والبغض في الله(( الحديث‪.‬‬
‫وأوحى الله إلى عيسى عليه السلم‪)) :‬لو عبدتني بعبادة‬
‫ي‬
‫ضف ّ‬ ‫س‪ ،‬وبغ ٌ‬‫ي لي َ‬
‫بف ّ‬‫أهل السماء وأهل الرض وح ّ‬
‫س‪ ،‬ما نفعك ذلك عندي((‪.‬‬‫لي َ‬
‫وقال عيسى عليه السلم‪)) :‬تحّببوا إلى الله ببغض أهل‬
‫المعاصي‪ ،‬وتقّربوا إلى الله بالبعد عنهم‪ ،‬واطلبوا رضا الله‬
‫تعالى بسخطهم((‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ :-‬مقاطعة‬
‫الفاسق قربان إلى الله ‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فتبين بما ذكرنا‪ :‬أنه ينبغي للمؤمن ويتعين عليه أن يحب‬
‫أهل الخير والدين ولبعلم والصلح أحياء وأمواتًا‪ ،‬ويبغض‬
‫أهل الباطل والفساد والظلم والفسوق أحياء وأمواتًا‪.‬‬
‫‪306‬‬
‫) ‪(1/306‬‬

‫وينبغي له أيضًا‪ :‬أن يختار صحبة الخيار والبرار‪ ،‬ويجتنب‬


‫جار‪ .‬وفي الحديث‪)) :‬ل تصحب إل‬ ‫صحبة الشرار والف ّ‬
‫مؤمنًا‪ ،‬ول يأكل طعامك إل تقي(( وأن من لم يجد مؤمنا ً‬
‫تقيًا‪ ،‬برا ً صالحا ً يصحبه ويعاشره فالعزلة والنفراد خير له‬
‫وأصلح من مخالطة أهل الشر والفساد‪ ،‬فإن خلطة‬
‫المفسدين عظيم ضررها‪ ،‬وكثير شّرها‪ ،‬وفيها آفات كثيرة‪،‬‬
‫وبليات هائلة عاجلة وآجلة‪ ،‬فمنها‪:‬‬
‫استراق الطبع من حيث ل يشعر النسان‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫س بهم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫مشاهدة أهل الغفلة والعراض تقتضي الن َ‬
‫ون على‬ ‫ل إلى ما هم عليه من سوء الحال‪ ،‬وته ّ‬ ‫والمي َ‬
‫القلب وقع المعاصي‪ ،‬وتجّر إلى التشبه بهم‪ ،‬والستحسان‬
‫لقوالهم وأفعالهم‪ ،‬وفي ذلك يقول الشاعر‪:‬‬
‫ن‬
‫ل قري ٍ‬ ‫ل عن قرين ِهِ ‪ ...‬فك ّ‬‫س ْ‬ ‫لو َ‬ ‫عن المرء ل تسأ ْ‬
‫بالمقاَرن يقتدي‬
‫وقال الخر‪:‬‬
‫ة‬
‫ن السليم َ‬ ‫ب سليمةٍ ‪ ...‬منها؛ ولك ّ‬ ‫ما يبرئ الجرباَء ُقر ُ‬
‫ب‬‫تجُر ُ‬
‫وبهذا السبيل تعرف ما في خلطة الخيار وأهل الصلح‬
‫من المصالح والمنافع‪ ،‬والفوائد العاجلة والجلة‪ ،‬وقد قال‬
‫عليه الصلة والسلم‪)) :‬مثل الجليس الصالح كمثل‬
‫صاحب المسك‪ :‬إما أن يحذيك ‪ -‬أي يعطيك ‪ ،-‬وإما أن‬
‫تبتاع منه ‪ ،‬وإما أن تجد َ منه رائحة طيبة ‪ .‬ومثل الجليس‬
‫ما أن تجد منه‬ ‫ما أن يحرق ثيابك‪ ،‬وإ ّ‬ ‫السوء كنافح الكير‪ :‬وإ ّ‬
‫رائحة منتنة((‪.‬‬
‫‪307‬‬
‫) ‪(1/307‬‬

‫فإن قلت‪ :‬قد يصحب النسان صاحبا ً من أهل الخير‬


‫والطاعة‪ ،‬ثم يطرأ عليه ما يغير ذلك من الغفلة‬
‫والمعصية‪ ،‬فما الذي ينبغي لصاحبه أن يعامله به؟‬
‫فأقول ينصحه باللطف والرفق حتى يرده إلى الله‪ ،‬فإن‬
‫رجع وإل وعظه وأغلظ عليه وخوفه بالله‪ .‬فإن لم ينفع‬
‫ذلك وأيس معه جانبه وأعرض عنه‪ ،‬وانتظر فيه أمر الله‪.‬‬
‫فإن عاد إلى ما كان عليه من الخير عادله‪ ،‬وإل فل خير‬
‫في صحبه من ل خير فيه‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬الذي ينبغي للنسان ويتعين عليه‪ :‬بغض أهل‬
‫المعاصي ومجانبتهم ‪ ،‬وترك المعاشرة والمخالطة لهم‪،‬‬
‫ومع ذلك فال نسان مأمور بالنصيحة المسلمين عمومًا‪،‬‬
‫وبدعوة أهل الشر والمعصية إلى الخير والطاعة؟‬
‫فأقول ‪ :‬المر كذلك‪ ،‬ولكن النصيحة والدعوة إلى الخير ل‬
‫تقتضي معاشرة ومخالطة‪ ،‬بل إذا لقيهم ورأى للنصيحة‬
‫والدعوة إلى الخير موضعا ً فيهم فعل ذلك معهمأ وإن‬
‫قصدهم بذلك وكان من أهله ألى أماكنهم من غير‬
‫معاشرة ول مخالطة فهو أيضا ً مأمور به ومندوب إليه من‬
‫أهله ‪ ،‬وفي محله فاعلم ذلك‪ ،‬ول ُيلّبس عليك الشيطان‪.‬‬
‫فإن السبيل واضح‪ ،‬والحق غير ملتبس بالباطل‪.‬‬
‫***‬
‫‪308‬‬
‫) ‪(1/308‬‬

‫ثم اعلم ‪ :‬أنه ينبغي لك إذا قصدت صحبة أحد ومصادقته ‪،‬‬
‫ليكون لك جليسا ً ومعاونا ً على أمور آخرتك ودنياك أن‬
‫ن النظر والختبار‪،‬‬‫دم قبل عقد الصحبة واختيار ها حس َ‬ ‫تق ّ‬
‫والتفتيش عن أحوال من تريد أن تصحبه وتتخذه صديقًا‪،‬‬
‫فإن كان يصلح لذلك صحبته وإل تركت‪ ،‬فليس كل أحد‬
‫يصلح للصحبة والمعاشرة‪ ،‬ورب صحبة لم تتقدمهاالخبرة‬
‫وحسن النظر تعود وحشة وعداوة في أسرع وقت‪.‬‬
‫***‬
‫وقد قال حجة السلم رحمه الله تعالى ‪ :‬إذا أردت صحبة‬
‫سن‪،‬‬ ‫خُلق ال َ‬
‫ح َ‬ ‫أحد فراِع فيه خمس خصال‪ :‬العقل‪ ،‬وال ُ‬
‫صلح‪ ،‬وأن ل يكون حريصا ً على الدنيا‪ ،‬وأن ل يكون‬ ‫وال ّ‬
‫كذابا ً ‪ .‬انتهى كلمه مختصرًا‪ ،‬وهو الغاية في ذلك والكفاية‪.‬‬
‫مت المودة بينك وبين صاحب‬ ‫ثم إذا انعقدت الصحبة‪ ،‬وت َ ّ‬
‫فقد توجهت عليك له حقوق ل بد ّ لك من القيام بها‪ ،‬وإل‬
‫كانت الصحبة صورة بل حقيقة ل نفع فيها ول طائل لها‪.‬‬
‫***‬
‫ب‬
‫ب له ما تح ّ‬ ‫وحقوق الصحبة كثيرة‪ ،‬وجملتها ‪ :‬أن تح ّ‬
‫لنفسك من الخير‪ ،‬وأن تكرهَ له ما تكرهه لنفسك من‬
‫الشّر‪ ،‬وأن تنزله منزلة نفسك في الهتمام بأموره‪،‬‬
‫سعي في مصالحه‪ ،‬وقضاء حوائجه‪ ،‬والسرور بمساّره‬ ‫وال ّ‬
‫والغتمام بمكارهه‪.‬‬
‫‪309‬‬
‫) ‪(1/309‬‬

‫وأن تجتهد في إدخال السرور عليه بكل وجه أمكنك‪ ،‬وأن‬


‫تحفظه حاضرا ً وغائبا ً وحيا ً وميتا ً ‪ .‬وأن تحسن الوفاء مع‬
‫أهله وأولده وأقاربه بعد مماته وفي حياته كذلك‪ ،‬وأن‬
‫تواسيه من مالك عند حاجته‪ ،‬وإن آثرته على نفسك كان‬
‫أحسن وأفضل‪ ،‬على مثل ما كان عليه السلف الصالح‬
‫رحمة الله عليهم‪ ،‬فقد كانت لهم سير وأفعال مع من‬
‫صحبهم وعاشرهم محمودة حتى كان أحدهم يأتي إلى‬
‫بيت صديقه في غيبته فيأكل من طعامه‪ ،‬ويأخذ من متاعه‬
‫ما أراد‪ ،‬وكان الخر يفعل مع أخيه كذلك‪.‬‬
‫ب إليك أم صديقك ؟ فقال ‪:‬‬ ‫و قيل لبعضهم ‪ :‬أخوك أح ّ‬
‫ب أخي ‪ -‬أي من النسب ‪ -‬إذا كان صديقي ‪.‬‬ ‫إنما أح ّ‬
‫وقال بعضهم لبعض من قدم عليه‪ :‬هل يدخل أحدكم يده‬
‫في جيب أخيه فيأخذ منه ما أراد؟ فقال ‪ :‬ل ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫لستم إذا ً بإخوان ‪.‬‬
‫وكان الرجل منهم يقوم بأولد صديقه وأهله بعد وفاته‪،‬‬
‫حتى أنهم ل يفقدون من أبيهم إل وجهه‪ ،‬وحكاياتهم في‬
‫ذلك كثيرة معروفة‪.‬‬
‫دع منه من زمان سابق‪ ،‬ولم يبقَ من‬ ‫وهذا أمر قد ت ُوُ ّ‬
‫الخوة في الله والصداقة إل صور ورسوم ل حاصل تحتها!‬
‫وقد أشبع الكلم في شرائط الصحبة وحقوقها وآدابها ‪:‬‬
‫المام حجة السلم في كتاب الصحبة من ))الحياء((‪،‬‬
‫وذكر من ذلك في ))بداية الهداية(( نبذة صالحة‪.‬‬
‫وعلى الجملة‪ :‬فكل ما يجب عليك لعامة المسلمين من‬
‫‪310‬‬
‫) ‪(1/310‬‬

‫ل ذلك مع الصديق والصاحب‬ ‫الحقوق ‪،‬أو يستحب ‪ ،‬فَِفعْ ُ‬


‫آكد ُ وجوبًا‪ ،‬وأكثُر استحبابًا‪.‬‬
‫ثم إن للمسلم على المسلم حقوقا ً كثيرة‪ ،‬وقد ذكرنا منها‬
‫طرفا ً في رسالة)المعاونة( فانظره إن شئت‪.‬‬
‫وقد قال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬حق‬
‫المسلم على المسلم ستة‪ ،‬فقيل ‪ :‬وما هي يارسول الله؟‬
‫َ‬
‫ه‪ ،‬وإذا‬ ‫سّلم عليه‪ ،‬وإذا دعاك فأ ِ‬
‫جب ْ ُ‬ ‫قال‪ :‬إذا لقيته ف َ‬
‫ه‪ ،‬وإذا‬ ‫مت ْ ُ‬
‫ح له‪ ،‬وإذا عطس فحمد الله فش ّ‬ ‫ص ْ‬
‫استنصحك فان َ‬
‫ه‪ ،‬وإذا مات فاتبعه((‪.‬‬ ‫مرض فَعِد ْ ُ‬
‫ومن آكد حقوق المسلم على المسلم‪ :‬النصحية في‬
‫الدين‪ ،‬والمعاونة على البر والتقوى‪ ،‬والحث على طاعة‬
‫الله رب العالمين‪.‬‬
‫ومن أهم الحقوق‪ :‬ستر العورات‪ ،‬وتفريج الكربات‪،‬‬
‫والمعاونة في المهمات‪ ،‬وقضاء الحاجات‪ ،‬وإغاثة‬
‫الملهوف‪ ،‬ونصرة المظلوم ‪ ،‬وإعانة الضعيف‪ ،‬والتيسير‬
‫على المعسر‪ ،‬والتوفير الكبير‪ ،‬والرحمة للصغير‪ ،‬وأن ل‬
‫يؤذي أحدا ً من المسلمين‪ ،‬ول يستخف به‪ ،‬ول يحتقره ول‬
‫يخذله‪ ،‬ول يسخر منه ول يستهزئ به‪ ،‬وأن ل يغش أحدا ً‬
‫من المسلمين ول يحسده ول يحقد عليه‪ ،‬ول يظن به‬
‫السوء‪ ،‬وأن يهتم بأمور المسلمين‪ ،‬ويفرح بمسارهم‪،‬‬
‫ويغتم بما يسوؤهم‪ ،‬وأن يحب لسائرهم ما يحب لنفسه‪،‬‬
‫ويكره لهم ما يكره لنفسه‪ ،‬وقد قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ )) :‬ل يؤمن‬
‫‪311‬‬
‫) ‪(1/311‬‬

‫أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه((‪.‬‬


‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬المسلم للمسلم كالبنيان‬
‫يشد بعضه بعضًا((‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من لم‬
‫يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ليس منا من لم يرحم‬
‫صغيرنا ويوقر كبيرنا((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من غشنا فليس منا((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬انصر أخاك ظالما ً أو‬
‫مظلوما ً فقال رجل ‪ :‬ننصره إذا كان مظلوما ً فكيف‬
‫ننصره ظالمًا؟(( قال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫))تمنعه من الظلم فذلك نصرة له((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ل تحاسدوا ول تناجشوا ول‬
‫تباغضوا ول تدابروا ول يبع بعضكم على بيع بعض‪ ،‬وكونوا‬
‫عباد الله إخوانًا‪ ،‬المسلم أخو المسلم‪ ،‬ل يظلمه ول يخذله‬
‫ول يحقره ول يكذبه‪ ،‬التقوى ههنا ‪ ،‬ويشير بيده إلى صدره‬
‫ثلث مرات‪ ،‬بحسب امرئ من الشّر أن يحقَر أخاه‬
‫المسلم‪ .‬كل مسلم على المسلم حرام دمه وماله‬
‫وعرضه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من نفس عن مؤمن كربة‬
‫من كرب الدنيا نفس الله عنه كربه من كرب يوم القيامة‪،‬‬
‫ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والخرة‪،‬‬
‫ومن ستر مسلما ً ستره الله في الدنيا والخرة‪ ،‬والله في‬
‫عون العبد ما كان العبد في عون أخيه‪ ((..‬الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من كان في حاجة أخيه كان‬
‫الله في حاجته((والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‪.‬‬
‫***‬
‫‪312‬‬
‫) ‪(1/312‬‬

‫****************‬
‫****************‬
‫مبحث المهلكات‬
‫****************‬
‫****************‬
‫) ‪(1/313‬‬

‫****************‬
‫****************‬
‫***‬
‫****************‬
‫****************‬
‫) ‪(1/314‬‬

‫مبحث المهلكات‬
‫**************‬
‫واعلموا معاشر الخوان أغنانا الله وإياكم بحلله عن‬
‫حرامه‪ ،‬وبطاعته عن معصيته‪ ،‬وبفضله عمن سواه‪:‬‬
‫أن الورع عن المحرمات والشبهات‪ ،‬وطلب الحلل والكل‬
‫منه مع اجتناب الحرام رأسا ً اكتسابا ً وأكل ً وغير ذلك‪ ،‬وكل‬
‫ذلك من أهم المهمات في الدين‪ ،‬ومن أفضل ما يتقرب‬
‫به العباد إلى الله رب العالمين‪،‬قال الله تعالى‪َ) :‬يا أ َي َّها‬
‫َ‬
‫ت‬‫وا ِ‬ ‫خط ُ َ‬ ‫حل َل ً ط َّيبا ً وَل َ ت َت ّب ُِعوا ْ ُ‬‫ض َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫م ّ‬‫س ك ُُلوا ْ ِ‬ ‫الّنا ُ‬
‫ن(]البقرة‪.[168:‬‬ ‫مِبي ٌ‬‫م عَد ُوّ ّ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫حل َل ً ط َي ًّبا َوات ُّقوا ْ الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ما َرَزقَك ُ ُ‬‫م ّ‬‫وقال تعالى‪) :‬وَك ُُلوا ْ ِ‬
‫َ‬
‫ن(]المائدة‪.[88:‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬‫ال ّذِيَ أنُتم ب ِهِ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫وال َك ُ ْ‬
‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫م َ‬‫مُنوا ْ ل َ ت َأك ُُلوا ْ أ ْ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫م وَل َ ت َْقت ُُلوا ْ‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫ل إ ِل ّ َأن ت َ ُ‬ ‫ِبال َْباط ِ ِ‬
‫عن ت ََرا ٍ‬ ‫جاَرةً َ‬ ‫ن تِ َ‬‫كو َ‬
‫َ‬
‫ما*‬ ‫حي ً‬ ‫م َر ِ‬ ‫ن ب ِك ُ ْ‬‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬‫سك ُ ْ‬‫أنُف َ‬
‫ن‬‫كا َ‬‫صِليهِ َناًرا وَ َ‬ ‫ف نُ ْ‬ ‫سو ْ َ‬ ‫ما فَ َ‬ ‫ك عُد َْواًنا وَظ ُل ْ ً‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬‫من ي َْفعَ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫سيًرا(]النساء ‪.[30-29‬‬ ‫ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬خير‬
‫دينكم الورع((وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬يا أبا‬
‫هريرة‪،‬كن ورعا ً تكن أعبد الناس ‪ ((...‬الحديث‪.‬‬
‫‪315‬‬
‫) ‪(1/315‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬طلب الحلل واجب على‬


‫كل مسلم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬طلب الحلل فريضة بعد‬
‫الفريضة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬إن الله طيب ل يقبل إل‬
‫طيبًا‪،‬وإن الله أمر المؤمن بما أمر به المرسلين فقال‬
‫َ‬
‫حا‬ ‫مُلوا َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫ت َواعْ َ‬ ‫ن الط ّي َّبا ِ‬ ‫ل ك ُُلوا ِ‬
‫م َ‬ ‫س ُ‬‫تعالى‪َ ) :‬يا أي َّها الّر ُ‬
‫م(]المؤمنون‪.[51:‬‬ ‫ن عَِلي ٌ‬ ‫مُلو َ‬‫ما ت َعْ َ‬ ‫إ ِّني ب ِ َ‬
‫َ‬
‫ما‬
‫ت َ‬‫من ط َي َّبا ِ‬ ‫مُنوا ْ ك ُُلوا ْ ِ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ ):‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫م (]البقرة‪ .[172:‬ثم ذكر الرجل أشعث أغبر يطيل‬ ‫َرَزقَْناك ُ ْ‬
‫ب! ومطعمه حرام‬ ‫ب يار ّ‬ ‫السفر‪ ،‬يمد يديه إلى السماء يار ّ‬
‫ذي بالحرام فأّنى‬ ‫ومشربه حرام وملبسه حرام وغُ ّ‬
‫جاب لذلك؟!(( ‪.‬‬ ‫ست َ َ‬
‫يُ ْ‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬ل يدخل الجنة لحم‬
‫نبت من سحت((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬كل لحم نبت من سحت‬
‫فالنار أولى به((‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬لن تجعل في فيك ترابا ً خير‬
‫لك من أن تجعل فيه طعاما ً حرامًا((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬من اكتسب مال ً‬
‫حّله فإن تصدق به لم يقبل منه‪ ،‬وإن أنفق منه لم‬ ‫من غير ِ‬
‫يبارك له فيه‪ ،‬وإن تركه ظهره كان زاده إلى النار((‬
‫الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من اشترى ثوبا ً بعشرة‬
‫دراهم‬
‫‪316‬‬
‫) ‪(1/316‬‬

‫وفيه درهم من حرام لم يتقبل الله له صلة ما دام‬


‫عليه (( فإذا كان هذا في الثوب الذي يكون عشر ثمنه‬
‫حرامًا‪ ،‬فكيف يكون الحال لو كان الثمن كله من الحرام!؟‬
‫وإذا كان هذا الثوب الذي يكون على ظاهر الجسد‪ ،‬فكيف‬
‫يكون الحال في الطعام الذي يكون في باطن الجسد‬
‫ويجري في اللحم والدم والعروق والعظام وسائر أجزاء‬
‫البدن!؟ فتأملوا ذلك جدًا‪ ،‬وأمعنوا فيه النظر‪ ،‬وأتقوا الله‬
‫واحذروا‪.‬‬
‫وقال ابن عباس رضي الله عنهما‪ :‬ل يقبل الله تعالى‬
‫صلة امرئ وفي جوفه لقمة حرام‪.‬‬
‫وقال ابن عمر رضي الله عنهما‪ :‬لو صليتم حتى تكونوا‬
‫كالحنايا‪ ،‬وصمتم حتى تكونوا كالوتار)‪ (1‬لم ي ُت ََقّبل ذلك‬
‫منكم إل بورع حاحز‪.‬‬
‫ل من أين مطعمه لم‬ ‫ن في التوراة‪ :‬من لم ي َُبا ِ‬ ‫ويقال‪ :‬إ ّ‬
‫ل الله من أيّ أبواب النار أدخله‪.‬‬ ‫ي َُبا ِ‬
‫وقال سفيان الثوري رحمه الله‪ :‬مثل الذي ينفق في‬
‫طاعة الله من الحرام مثل الذي يغسل الثوب المتنجس‬
‫بالبول‪ .‬انتهى‪ .‬وذلك ل يطهر الثوب‪ ،‬ولكنه يزيد في‬
‫نجاسته‪.‬‬
‫‪-------------------------------‬‬
‫)‪ (1‬الحنايا جمع حنية‪ .‬وهي القوس‪ ،‬والمراد حتى صرتم‬
‫كالقواس في النحناء من طول الركوع والسجود ‪،‬‬
‫وكالوتار في النحافة والهزال من شدة الجوع‪.‬‬
‫‪317‬‬
‫) ‪(1/317‬‬

‫وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى‪ :‬رد ّ درهم ٍ من شبهة‬


‫أحب إلى الله من التصدق بمائة ألف درهم ومائة ألف‬
‫ومائة ألف‪ ،‬حتى عد ّ ستمائة ألف‪.‬‬
‫وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله ‪ :‬من أكل‬
‫الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى‪ ،‬علم أم لم يعلم‪ .‬ومن‬
‫أكل الحلل أطاعت جوارحه شاء أم أبى‪ ،‬علم أم لم يعلم‪،‬‬
‫ووفق للخيرات‪ .‬وكان السلف رحعهم الله يقولون‪ :‬كل ما‬
‫شئت فمثله تعمل ‪.‬انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والذي يأكل الحرام والشبهات وإن عمل بالطاعات‬
‫ما‬
‫في الظاهر‪ ،‬فطاعاته غير مقبولة‪ ،‬لقوله تعالى‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫ن(]المائدة‪.[27:‬‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مت ِّقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ي َت ََقب ّ ُ‬
‫ولقوله عليه الصلة والسلم‪)) :‬إن الله طيب ل يقبل إل‬
‫طيبًا((‪ .‬ول بد ّ أن يعرض لكل الحرام في طاعته من‬
‫العوارض الظاهرة والباطنة ما يفسدها عليه‪ ،‬ويحبطها‬
‫ويخرجها عن كونها طاعة‪ ،‬ومن تأمل ذلك وجربه من‬
‫نفسه أو من غيره عرفه إن لم يكن مغرورا ً مستدرجًا‪.‬‬
‫فقد تبين لكم واتضح‪ :‬أن الحرام يجب اجتنابه بكل حال‪،‬‬
‫ويتعين الحتراز منه‪ ،‬والعبد عنه بكل وجه‪.‬‬
‫***‬
‫وأما الشبهات‪ :‬فيتأكد اجتنابها وربما وجب‪ .‬وفي الحديث‬
‫الصحيح ‪)) :‬من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه‪،‬‬
‫ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام((‪.‬‬
‫‪318‬‬
‫) ‪(1/318‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬دع ما يريبك إلى ما ل‬


‫يريبك((انتهى‪.‬‬
‫والشبهات كل شيء تتشكك فيه‪ ،‬وتتردد في كونه حلل ً أو‬
‫حرامًا‪ ،‬شكا ً وترددا ً ينشأ عن أسباب متعارضة‪ ،‬فما كان‬
‫من الشبهات أصله الحل‪ ،‬ثم طرأ الشك في تحريم فيجوز‬
‫الخذ فيه بالصل‪ ،‬والورع عن هذه الشبهة فضيلة مهمة‪،‬‬
‫وما كان من الشبهات أصله التحريم‪ ،‬ثم طرأ الشك في‬
‫حله فبهذه شبهة يجب اجتنابها اعتمادا ً على الصل‪.‬‬
‫وأقسام الشبهات كثيرة متفاوتة‪ ،‬والورع عن سائرها مهم‬
‫متأكد‪ ،‬إل ما كان من ذلك يرجع إلى الوسوسة والوهام‬
‫التي ل مستند لها ول سبب يدل عليها‪ ،‬مثل أن يقول‬
‫النسان‪:‬أموال الدنيا كلها شبهات‪ ،‬وليس تخلو أصولها عن‬
‫شيء من المعاملت الفاسدة‪ ،‬واليدي المتعدية‪ ،‬فأنا‬
‫أتركها جملة‪ ،‬أو آخذ ما أحتاج إليه منها من غير تفرقة‪.‬‬
‫فمثل هذا وسواس وتنطع‪ ،‬وقد قال عليه‪)):‬هلك‬
‫المتنطعون((قالها ثلثًا‪ .‬وأمثلة الوسوسة كثيرة‪ ،‬وترجع‬
‫إلى كل توهم وتشكك ل يستند إلى سبب معروف‪.‬‬
‫ول ينبغي للنسان أن يقول ‪ :‬ما بقي في الدنيا من الحلل‬
‫شيء يعذر بذلك نفسه في ترك الورع والحتياط‪ ،‬فإن‬
‫ذلك قول فاسد‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫) ‪(1/319‬‬

‫قال المام الغزالي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ :-‬الحلل بّين‬


‫والحرام ب َّين ‪ -‬كما قال عليه الصلة والسلم وذلك في‬
‫زمانه عليه الصلة والسلم ‪ ،‬وكذلك يكون في كل زمان‪،‬‬
‫وإنما تختلف الزمنة في قِّلة الحلل وكثرته باختلف صلح‬
‫الزمنة وفسادها‪ .‬قال ‪ :‬فالحلل كثير والحرام كثير‪ ،‬وليس‬
‫الحرام بالكثر ‪ .‬ول بد ّ في كل زمان من وجود القسام‬
‫الثلثة‪ :‬الحلل‪ ،‬والحرام‪ ،‬والشبهات على وفق ما أخبر به‬
‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬في قوله))الحلل‬
‫بين‪ ((...‬الحديث‪ .‬انتهى كلمه رحمه الله بمعناه‪.‬‬
‫ثم اعلموا رحمكم الله‪ :‬أنا قد نّبهنا على الشبهات بما‬
‫قدمناه فيها من الكلم المجمل الوجيز‪ .‬وقد أطال الكلم‬
‫فيها‪ ،‬وفي تفاصيل أقسامها حجة السلم في كتاب الحلل‬
‫والحرام من ))الحياء((‪ ،‬فمن أراد شفاء الغليل في ذلك‬
‫فعليه بالكتاب المذكور‪ ،‬فقد ذكر بعض العلماء رحمهم‬
‫الله‪ :‬أنه لم يؤلف في السلم مثل ذلك الكتاب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وجميع الحياء لم يؤّلف في السلم مثله في فنه‬
‫كما يعرف ذلك ويتحققه من نظر فيه وتأمله من أهل‬
‫العلم والنصاف‪.‬‬
‫ثم وعلموا رحمكم الله أن المحرمات على قسمين‪:‬‬
‫القسم الول ‪ :‬شيء محرم في عينه‪ ،‬وذلك كالميتة والدم‬
‫والخمر‪ ،‬وما ل يحل أكله من الطير والسباع والحيوانات‬
‫‪320‬‬
‫) ‪(1/320‬‬

‫والحشرات‪ .‬وهذا القسم ل يحل منه قليل ول كثير بوجه‬


‫من الوجوه إل عند الضطرار‪ .‬وهو‪ :‬أن يشرف النسان‬
‫على الهلك ثم ل يجد غيره‪ ،‬فعند ذلك يحل له التناول‬
‫ر‬
‫زي ِ‬ ‫خن ْ ِ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَل َ ْ‬ ‫ة َوال ْد ّ ُ‬ ‫مي ْت َ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫منه‪ ،‬قال تعالى‪ُ ):‬‬
‫ة‬
‫مت ََرد ّي َ ُ‬ ‫موُْقوذ َةُ َوال ْ ُ‬ ‫ة َوال ْ َ‬ ‫خن َِق ُ‬ ‫من ْ َ‬ ‫ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ َوال ْ ُ‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬
‫ب‬‫ص ِ‬ ‫ح عََلى الن ّ ُ‬ ‫ما ذ ُب ِ َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ما ذ َك ّي ْت ُ ْ‬ ‫سب ُعُ إ ِل ّ َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫ما أك َ َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫طي َ‬ ‫َوالن ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫س ال ّ ِ‬ ‫م ي َئ ِ َ‬ ‫سقٌ ال ْي َوْ َ‬ ‫م فِ ْ‬ ‫موا ْ ِبالْزل َم ِ ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫س ُ‬‫س ت َْق ِ‬ ‫وَأن ت َ ْ‬
‫شون ال ْيو َ‬
‫م‬‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫م أك ْ َ‬ ‫خ َ ْ ِ َ ْ َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م فَل َ ت َ ْ‬ ‫من ِدين ِك ُ ْ‬ ‫ك ََفُروا ْ ِ‬
‫َ‬
‫م ِديًنا‬ ‫سل َ َ‬ ‫م ال ِ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬ ‫ضي ُ‬ ‫مِتي وََر ِ‬ ‫م ن ِعْ َ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَأت ْ َ‬ ‫ِدين َك ُ ْ‬
‫ه غَُفوٌر‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ف ّل ِث ْم ٍ فَإ ِ ّ‬ ‫جان ِ ٍ‬ ‫مت َ َ‬ ‫صةٍ غَي َْر ُ‬ ‫م َ‬ ‫مخ َ‬ ‫ضط ُّر ِفي َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫فَ َ‬
‫م(]المائدة‪.[3:‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ّر ِ‬
‫ر‬
‫زي ِ‬ ‫خن ِ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م وَل َ ْ‬ ‫ة َوالد ّ َ‬ ‫مي ْت َ َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬إ ِن ّ َ‬
‫عادٍ َفل إ ِث ْ َ‬
‫م‬ ‫ضط ُّر غَي َْر َباٍغ وَل َ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ب ِهِ ل ِغَي ْرِ الل ّهِ فَ َ‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬ ‫وَ َ‬
‫م(]البقرة‪.[173:‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ه غَُفوٌر ّر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫عَل َي ْهِ إ ِ ّ‬
‫والقسم الثاني من المحرمات‪ :‬شيء منها مملوكا ً لغيرك‬
‫لم يحل لك أخذه‪ ،‬ول تناوله إل بوجه صحيح سائغ في‬
‫الشرع‪ ،‬كالشراء والنذر‪ ،‬والهدية والهبة‪ ،‬والصدقة والرث‪،‬‬
‫إلى غير ذلك من الوجوه السائغة في الشرع‪ .‬فإن أخذت‬
‫شيئا ً من ذلك بغير وجه شري صار محرما ً عليك‪ ،‬وصرت‬
‫بأكله أو شربه أو لبسه آكل ً وشاربا ً ولبسا ً للحرام‪.‬‬
‫والوجوه المحّرمة كثيرة‪ ،‬مثل الغضب‪ ،‬والسرقة‪ ،‬والخيانة‬
‫والّربا‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬
‫‪321‬‬
‫) ‪(1/321‬‬

‫وكذلك إذا كان مال النسان الذي تعامله أو تأخذه من يده‬


‫حراما ً لم يفدك الخذ من ماله‪ ،‬وإن كان بوجه سائغ في‬
‫الشرع‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬أن يهدي إليك أو يبيع لك على وجه‬
‫صحيح من تعلم أن أكثر ماله حرام أو شيئا ً من ماله ذلك‪،‬‬
‫فل تصيره المعاملة الصحيحة فيما بينك وبينه حلل ً مهما‬
‫كان حرامًا؟؟ وهذا موضع إشكال وقد يغلط فيه من ل‬
‫بصيرة له‪.‬‬
‫فعلم أن المعاملة وإن كانت صحيحة ى تصير الحرام‬
‫ل‪ ،‬وأن المعاملة الفاسدة يصير بها الحلل حرامًا‪،‬‬ ‫حل ً‬
‫كالذي تعامله معاملة غير صحيحة من ربا ً ونحوه على مال‬
‫حلل‪ ،‬فيصير بها ذلك المال الحلل حرامًا‪.‬‬
‫***‬
‫ثم اعلموا رحمكم الله‪ :‬أن الناس بالنسبة إلى المعاملة‬
‫في أمور الدنيا على ثلثة أقسام‪:‬‬
‫القسم الول‪ :‬المعروفون بالصلح والخير والورع‪ ،‬تجوز‬
‫معاملتهم مطلقا ً من غير سؤال ول تفتيش‪.‬‬
‫والقسم الثاني‪ :‬هم المجهولون الذين ل تعرفهم بصلح ول‬
‫تخليط وأحوالهم مستورة عنك‪ ،‬فهؤلء أيضا ً تجوز‬
‫معاملتهم مطلقًا‪ ،‬ولكن يستحب السؤال والتفتيش إن‬
‫أمكن برفق ودون إيذاء‪ ،‬وهو من الورع المستحب‪ ،‬أعني‬
‫السؤال‪.‬‬
‫‪322‬‬
‫) ‪(1/322‬‬

‫والقسم الثالث‪ :‬هم المعروفون بالتخليط وقلة الورع‪،‬‬


‫وكثرة المجازفة في بيعهم وشرائهم ومعاملتهم‪،‬‬
‫وهؤلءينبغي للنسان المتقي أن ل يعاملهم رأسًا‪ ،‬فإن‬
‫احتاج إلى معاملتهم تأكد عليه أن يقدم التفتيش والسؤال‬
‫عما يأخذه من أيديهم‪ ،‬وذلك من الورع المهم‪.‬‬
‫فأما إذا علم أو غلب على ظنه في شخص معين أن جميع‬
‫ماله حرام‪ ،‬فتحرم عليه معاملته‪ .‬وكذلك إذا علم أن أكثر‬
‫ماله حرام‪ ،‬وأن الحلل في يده عزيز نادر‪.‬‬
‫وقد سأل ابن المبارك رحمه الله بعض وكلئه عن شخص‬
‫يعامل السلطان‪ ،‬هل يعامله أم ل؟ ‪ .‬فقال له‪:‬إن كان ل‬
‫يعامل إل السلطان فقط فل تعامله‪ ،‬وإن كان يعامل‬
‫السلطان ويعاما غيره فعامله ‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫***‬
‫قلت‪ :‬ومن أراد التورع والتحري وإيثار الحلل‪ ،‬فينبغي له‬
‫أن يتصف بالقناعة من الدنيا‪ ،‬وأن يرغب في لبتقلل منها‪،‬‬
‫وأن يجانب السراف والتوسع والميل إلى شهواتها‪ ،‬فقد‬
‫قال السلف الصالح‪ :‬الحلل ل يحتمل السرف‪ .‬ومن توسع‬
‫وتبسط في لذات الدنيا احتاج ل محالة إلى مباشرة‬
‫أسباب ل تتم بل ل تتأتى إل باقتحام شبهات ‪ ،‬بل باقتحام‬
‫محرمات كما يعرف ذلك من جربه من أهل النصاف‬
‫والنصيحة‬
‫‪323‬‬
‫) ‪(1/323‬‬

‫لنفسهم‪ ،‬دون الحمقى المغرورين‪ ،‬والغبياء الجاهلين‪،‬‬


‫من الذين ترى أحدهم يتناول الشبهات والمحرمات‬
‫ويدعي لنفسه أنه يتناول الحلل ويتحراه‪ ،‬ويقيم في ذلك‬
‫الحجج الساقطة‪ ،‬ويطلب لها التأويلت البعيدة! والتقوى‬
‫الورع هو الواجب والمتعين‪ ،‬فإن لم يكن فل أقل من‬
‫النصاف والعتراف‪ ،‬وملزمة النكسار والستغفار‪ ،‬وقد‬
‫قيل لبض السلف الصالح رحمهم الله‪ :‬من أين تأكل ؟‬
‫فقال ‪ :‬ممن حيث تأكلون‪ ،‬ولكن ليس من يأكل وهو يبكي‬
‫مثل من يأكل وهو يضحك‪ .‬والله سبحانه أعلم‪.‬‬
‫***‬
‫فقد تبين لكم أن الورع ملك الدين وسبيل أهل الحزم‬
‫واليقين من المؤمنين وقد كان للسلف الصالح رحمهم‬
‫الله العناية التامة البالغة بالورع‪ ،‬ولهم فيه النظر الدقيق‪،‬‬
‫وحكاياتهم في ذلك مشهورة‪ ،‬وسيرهم فيه معروفة و‬
‫مذكورة‪.‬‬
‫وقد بلغنا أن ابن سيرين رحمه الله‪ :‬اشترى من دهن‬
‫حَبابًا)‪(1‬كثيرة بمال كثير‪ ،‬فوجد في واحد منها فأرة‬ ‫الزيت ِ‬
‫ميتة فصّبها كّلها‪ ،‬وقال‪ :‬أخاف أن تكون القأرة قد ماتت‬
‫في المفصرة وجرى عليها الزيت كّله‪.‬‬
‫‪-----------------------------‬‬
‫ب ‪ -‬بالضم ‪ -‬الجّرة‬‫ح ّ‬
‫حَباب ‪ -‬بالكسر‪ :‬جمع ُ‬ ‫)‪ (1‬ال ِ‬
‫الضخمة‪.‬‬
‫‪324‬‬
‫) ‪(1/324‬‬

‫وكان سفيان الثوري رحمه الله‪ ،‬إذا لم يجد الحلل‬


‫الصافي يأكل الرمل ويمكث عليه اليام‪.‬‬
‫ورجع ابن المبارك من مرو بخراسان إلى الشام في قلم‬
‫استعاره ونسي أن يرده على صاحبه‪.‬‬
‫ورجع إبراهيم بن أدهم رحمه الله من القدس البصرة في‬
‫رد تمرة سقطت في تمر اشتراه حال الوزن‪ ،‬وغفل عن‬
‫ردها حينئذ‪.‬‬
‫زكان ذو النون المصري رحمه الله محبوسًا‪ ،‬فحملت إليه‬
‫امرأة صالحة طعاما ً حلل ً من ثمن غزلها فرده وقال‪:‬‬
‫جاءني على طبق ظالم يعني به يد السجان‪ ،‬وكانت‬
‫أرسلته له على يده‪ .‬وكان بعضهم عند إنسان محتضر‬
‫بالليل ‪ ،‬فلما مات المحتضر قال لهم‪ :‬اطفئوا السراج‪،‬‬
‫فإنه من الن صار في ملك الورثة‪.‬‬
‫ت في الطريق واشتد ّ‬ ‫وقال بعضهم ‪ :‬كنت مسافرا ً فُته ُ‬
‫ي العطش‪ ،‬فاستقبلني جندي وسقاني شربة من ماء‪،‬‬ ‫عل ّ‬
‫فعادت قساوتها على قلبي ثلثين سنة‪.‬‬
‫وحكاياتهم في ذلك أكثر من أن تحصى قصدنا بهذا اليسير‬
‫منها التبرك بذكرهم‪ ،‬لن الرحمة تنزا عند ذكر‬
‫الصالحين ‪.‬وليعلم العاقل البصير تفاوت ما بين السلف‬
‫والخلف ‪ ،‬ويعقل في أي زمان هو ‪ ،‬وأي ناس الذين هو‬
‫منهم وبين أظهرهم‪.‬‬
‫***‬
‫‪325‬‬
‫) ‪(1/325‬‬

‫ثم اعلموا رحمكم الله ‪ :‬أن أكل الحلل ينور القلب‬


‫ويرققه‪ ،‬ويجلب له الخشية من الله والخشوع لعظمته‪،‬‬
‫وينشط الجوارح للعبادة والطاعة‪ ،‬ويزهد في الدنيا‬
‫ويرغب في الخرة‪ ،‬وهو سبب في قبول العمال الصالحة‬
‫واستجابة الدعاء‪ ،‬كما قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله‬
‫ب طعمتك تستجب دعوتك((‪.‬‬ ‫َ‬
‫عنه‪ )) :‬أط ِ ْ‬
‫وأما أكل الحرام والشبهات فصاحبه على الضد من جميع‬
‫هذه الخيرات‪:‬‬
‫يقسي القلب ويظلمه‪ ،‬ويقيد الجوارح عن الطاعات‪،‬‬
‫ويرغب في الدنيا‪.‬وهو سبب في عدم قبول العمال‬
‫الصالحة ورد الدعاء‪ ،‬كما في الحديث‪ :‬أنه عليه ذكر‬
‫الرجل أشعث أغبر‪ ،‬يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب !‬
‫ومطعمه حرام‪((...‬الحديث‪ ،‬وقد تقدم فاحرصوا على أكل‬
‫الحلل وعلى اجتناب الحرام كل الحرص‪ .‬وليس الورع‬
‫خاصا ً بالكل فقط‪ ،‬بل هو عام في جميع المور‪.‬‬
‫***‬
‫وعليكم بالكتساب من الحلل ‪ ،‬فإن الكتساب مأمور به‪،‬‬
‫وفيه فضل وثواب كثير مهما صلحت فيه النية‪ ،‬قال النبي‬
‫عليه الصلة والسلم‪)) :‬أطيب ما أكل الرجل من كسب‬
‫يمينه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من أمسى كال ً من عمل‬
‫الحلل أمسى مغفورا ً له(( ‪.‬‬
‫ن باكتسابه صيانة دينه‪ ،‬وصيانة وجهه عن‬ ‫فلينوِ النسا ُ‬
‫الحاجة‬
‫‪326‬‬
‫) ‪(1/326‬‬

‫إلى الناس‪ ،‬وكفاية نفسه وعياله‪ ،‬والتصدق بما فضل من‬


‫كسبه عن حاجته على المحتاجين من عباد الله تعالى‪،‬‬
‫فيكون بذلك عامل ً للخرة‪.‬‬
‫وليحذر كل الحذر‪ :‬من أن يشتغل بسبب الكسب عن‬
‫فرائض الله ‪ ،‬أو يقع بسببه في محارم الله‪ ،‬فيخسر بذلك‬
‫في ديناه وأخراه‪ ،‬وذلك هو الخسران المبين‪.‬‬
‫وقد قال بعض السلف رحمهم الله تعالى‪ :‬الرجال‬
‫ثلثة‪:‬رجل شغله معاده عن معاشه فهذا من الفائزين ‪،‬‬
‫ورجل شغله معاشه لمعاده فهذا من المقتصدين ‪ ،‬ورجل‬
‫شغله معاشه عن معاده فهذا من الظالمين‪ .‬أو قال من‬
‫الهالكين‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫***‬
‫فإن كنت ممن يكتسب بصنعة أو حرفة فعليك بالنصح‬
‫فيها للمسلمين‪ ،‬وبالحسان والتقان لصنعتك وحرفتك‬
‫حسب المكان‪ ،‬وفي الحديث‪)):‬إن الله يحس المؤمن‬
‫المحترف((‪.‬‬
‫وإياك والكذب والغش‪ ،‬وكثرة الخلف بالوعد‪ ،‬ومن غد‪،‬‬
‫بعد غد‪ .‬واحذر كل الحذر من التساهل في ترك إتقان‬
‫الحرفة في معاملة من ل يعرفها كما ينبغي‪ ،‬فتتساهل في‬
‫حقه وتغره لقلة معرفته‪ .‬وقد ورد‪)) :‬ويل للتاجر من ل‬
‫د((‪.‬‬
‫والله‪ ،‬وبل والله‪ ،‬وويل للمحترف من غدٍ بعد غ ٍ‬
‫‪327‬‬
‫) ‪(1/327‬‬

‫وإن كنت ممن يكتسب بالتجارة والبيع والشراء فعليك في‬


‫جميع معاملتك باجتناب المعاملت الفاسدة‪ ،‬والبيوع‬
‫المحرمة والمكروهة‪ .‬وتعلم ذلك وتفقه فيه‪ .‬ل بد لك من‬
‫ذلك‪ ،‬ول رخصة لك في تركه‪ .‬قال عمر بن الخطاب رضي‬
‫الله عنه‪ :‬ل يبعْ في سوقنا ول يشترِ من لم يتفّقه‪ ،‬فإن‬
‫من لم يتفّقه أكل الربا وهو ل يعلم‪ .‬إنتهى بمعناه‪ .‬والحال‬
‫كما ذكر رضي الله عنه‪.‬‬
‫وعليك في تجارتك بملزمة الحسان والعدل‪ ،‬وسلوك‬
‫سبيل المسامحة و الفضل‪ ،‬وترك المشاحة والستقضاء‪،‬‬
‫فإن ذلك أكثر للبركة وأنمى للتجارة‪ .‬وقد قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)) :‬رحم الله عبدا ً ‪ :‬سمحا ً إذا باع‪ ،‬سمحا ً‬
‫إذا اشترى‪ ،‬سمحا ً إذا اقتضى‪ ،‬سمحا ً إذا قضى((‪.‬‬
‫ول تبعْ ول تشترِ شيئا ً إل بإيجاب وقبول صحيحين‪ ،‬فإن‬
‫المعاطاة بدون لفظ ل تكفي في انعقاد البيع‪ ،‬وقد أجازها‬
‫بعضهم في المحقرات‪ ،‬ومال إليه حجة السلم في‬
‫))الحياء(( وأطال الكلم في المعاطاة هنالك ‪ .‬وعلى كل‬
‫ل شيء‬ ‫حال فالبيع والشراء باليجاب والقبول في ك ّ‬
‫أحسن وأحوط‪.‬‬
‫***‬
‫‪328‬‬
‫) ‪(1/328‬‬

‫وعليك باجتناب الكذب رأسًا‪ ،‬وقول‪ :‬أخذُته بكذا وُأعطيت‬


‫عليه كذا ‪ ،‬وأنت في قولك غير صادق فتخسر من حيث‬
‫ترجو الفائدة‪ ،‬ول تحلف بالله على البيع والشراء‪ ،‬ول‬
‫ود ذلك‪ ،‬فإن الدنيا بأسرها أصغر وأحقر من أن تحلف‬ ‫تتع ّ‬
‫بالله عليها مع الصدق‪ ،‬فكيف مع الكذب!‬
‫ول حاجة إلى اليمان‪ .‬وفي الحديث‪)) :‬إن الله يبغض‬
‫البّياع الحلف((‪.‬‬
‫وقال أيضا ً عليه الصلة والسلم ‪)) :‬اليمين منفقة للسلعة‪،‬‬
‫ممحقة للبركة والكسب((‪.‬‬
‫جار يحشرون يوم‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬الت ّ ّ‬
‫جارا ً إل من اّتقى وبّر وصدق((‪.‬‬
‫القيامة فُ ّ‬
‫***‬
‫واحذر كل الحذر من الغش والخداع والتلبيس‪ ،‬وكتمان‬
‫عيون المبيع‪ ،‬فإن ذلك محرم شديد التحريم‪ ،‬وقد يفسد‬
‫به البيع من أصله‪ ،‬وقد مر ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫على رجل يبيع طعام فأدخل يده فيه فمست أصابعه بلل ً‬
‫فقال‪ )) :‬يا صاحب الطعام ما هذا؟ فقال ‪ :‬أصابته‬
‫السماء‪ ،‬يعني المطر((‪ ،‬فقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬هل ّ‬
‫شنا فليس مّنا((‬ ‫جعلته ظاهرا ً حتى يراه الناس‪ ،‬من غ ّ‬
‫وفي رواية‪ :‬أنه رأى داخل الطعام طعاما ً رديئا ً فقال‬
‫‪329‬‬
‫) ‪(1/329‬‬

‫دته! من‬‫ح َ‬
‫دته وهذا على ِ‬ ‫ح َ‬
‫ت هذا على ِ‬ ‫لصاحبه‪ )) :‬هل بع َ‬
‫ش المسلمين فليس منهم((‪.‬‬ ‫غ ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬البيعان بالخيار مالم‬
‫يتفرقا‪،‬فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما‪ ،‬وإن كذب‬
‫وكتما محقت بركة بيعهما((‪ .‬فل يحل لحد أن يبيع المعيب‬
‫إل ويبين ما فيه من العيب‪ ،‬فإن لم يبين وكان من‬
‫الحاضرين من يعلم ذلك وجب عليه أن يبين‪ ،‬وقد ورد‬
‫الحديث بذلك‪ ،‬وهو من النصح تاواجب‪ .‬ومن الغش‬
‫المحرم‪ :‬خلط جيد المتاع يرديئه وبيعهمت على حدة‬
‫واحدة تلبيسا ً وخداعًا‪.‬‬
‫ومنه‪ :‬إدخال الدرهم الزائف في الدراهم الجيدة‪ ،‬وذلك‬
‫مما ل يجوز‪.‬‬
‫فإن أعطاه الزائف بنقصان وجده بين الدراهم مسامحة‪،‬‬
‫وكان يعرف من حاله أنه سيروجه على المسلم آخر في‬
‫بيع ثان ام يحل ذلك‪.‬‬
‫فل خلص من النقد الرديء الذي يخالف نقد البلد إل بأن‬
‫يرميه في بئر ونحوها‪ ،‬كما كان يفعل ذلك بعض السلف‬
‫الصالح‪.‬‬
‫أو يذهب به إلى الصائغ ليخرج ما فيه من الفضة الخالصة‪،‬‬
‫فيكون نقدا ً صالحًا‪ ،‬ويكون الغش الذي فيه نحاس ونحوه‬
‫نافعا ً على قدره‪ ،‬ومن لم تمسح نفسه بذلك فليحترز من‬
‫أخذ الدراهم الزائف التي ل تجوز النمعاملة عليها‪ ،‬وإذا‬
‫وقع في يده الدرهم الزئف وكان يعرف صاحب الذى‬
‫عامله عليه فليرده على صاحب إن لم تسمح نفسه‬
‫بإتلفة‪ ،‬ول ي َُرّوجه على مسلم آخر فيأثم بذلك‪.‬‬
‫***‬
‫‪330‬‬
‫) ‪(1/330‬‬

‫ق التاجُر رّبه في كل شيء ول سيما في المكيال‬ ‫وليت ّ ِ‬


‫والميزان‪ ،‬فإن الخطر فيهما عظيم‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬وَي ْ ٌ‬
‫ل‬
‫ُ ْ َ‬ ‫ن*ال ّ ِ‬
‫مط َّفِفي َ‬ ‫ل ّل ْ ُ‬
‫ن*وَإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ست َوُْفو َ‬ ‫س يَ ْ‬‫ذا اك َْتالوا عَلى الّنا ِ‬‫ن إِ َ‬‫ذي َ‬
‫كاُلوهُ َ‬
‫ن(]المطففين‪.[3-1:‬‬ ‫سُرو َ‬ ‫خ ِ‬‫م يُ ْ‬‫م أو وَّزُنوهُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم للّتجار‪)) :‬إنكم وليتم أمرا ً‬
‫هلكت فيه المم السابقة‪ :‬المكيال والميزان‪ ((..‬الحديث‪،‬‬
‫فل بد ّ له من العدل‪ ،‬وهو أن يأخذ ويعطي على حد ّ سواء‪،‬‬
‫ويحترز ويحتاط‪ ،‬و إن أرجح قليل ً إذا أعطى‪ ،‬ونقص قليل ً‬
‫إذا أخذ كان ذلك أفضل وأحوط‪ ،‬وكان بعض السلف‬
‫الصالح يفعل ذلك ويقول ‪ :‬ل أشتري الويل من الله بحّبة‪.‬‬
‫ن(‬ ‫مط َّفِفي َ‬‫ل ل ّل ْ ُ‬
‫يريد الويل المذكور في قوله تعالى‪) :‬وَي ْ ٌ‬
‫]المطففين‪.[1:‬‬
‫وأراد بالحبة هنا القدر اليسير من المال‪.‬‬
‫***‬
‫جر‪ :‬إقالة النادم‪ ،‬والتيسير على‬ ‫مت ّ ِ‬
‫ومن الفضائل في حقّ ال ُ‬
‫المعسر‪ ،‬والتجاوز عن الموسر ‪ ،‬وإقراض المستقرض‪،‬‬
‫وقضاء حاجة المحتاج‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من أقال نادما ً بيعته أقال‬
‫الله عثرته يوم القيامة((‪.‬‬
‫وفي الحديث الصحيح‪)) :‬إن الله أتي بعبد لم يعمل خيرا ً‬
‫قط‪ ،‬غير أنه كان يداين الناس‪ ،‬وكان يأمر غلمانه بالتيسير‬
‫على المعسر‪ ،‬والتجاوز عن الموسر ويقول‪:‬‬
‫‪331‬‬
‫) ‪(1/331‬‬
‫ل الله يتجاوز عّنا‪ ،‬فقال الله له‪ :‬نحن أولى بذلك منك‪،‬‬ ‫لع ّ‬
‫فتجاوَز عنه((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬كل قرض صدقة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬رأيت ليلة أسري بي على‬
‫باب الجنة ‪:‬الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية‬
‫عشر‪((...‬الحديث‪.‬‬
‫***‬
‫وليحذر كل الحذر‪ :‬من البيع على بيع أخيه‪ ،‬والشراء على‬
‫شراء أخيه‪ ،‬ومثال ذلك‪:‬أن يقول للبائع أو للمشتري في‬
‫زمن الخيار‪ :‬أنا أبيعك غير هذا بأرخص منه‪ ،‬أو أشتري‬
‫منك هذا بأكثر مما اشتراه‪ ،‬وذلك محرم منهي عنه‪.‬‬
‫وكذلك النجش‪ ،‬وهو أن يزيد في ثمن السلعة من غير‬
‫رغبة فيها ليغر غيره من المسلمين‪.‬‬
‫وليحذر أيضًا‪ :‬من احتكار الطعام‪ ،‬فإنه محرم شديد‬
‫التحريم‪ .‬وقد وردت فيه أخبار فيها تشديدات هائلة‪ ،‬مثل‬
‫قوله عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬من احتكر طعاما ً أربعين‬
‫ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه((‪ .‬وقوله عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ )) :‬الجالب مرزوق‪ ،‬والمحتكر معلون((‪.‬‬
‫وقوله عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ل يحتكر إل خاطئ((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬من احتكر طعاما ً‬
‫أربعين يوما ً ثم تصدق به لم يكن له كفارة((‪ .‬وفي‬
‫الحديث‪ )) :‬إن الحاكرين وقتلة النفوس يحشرون يوم‬
‫القيامة معًا((‪.‬‬
‫‪332‬‬
‫) ‪(1/332‬‬

‫ومعنى الحتكار‪ :‬أن يشتري النسان الطعام في أوقات‬


‫الغلء وشدة حاجة الناس إلى الطعمة‪ ،‬ثم يخبؤه ويحبسه‬
‫ليبيعه بأغلى‪.‬‬
‫فإن أخذه في وقت الرخص على نية أن يدخره للغلء‪ ،‬أو‬
‫دخره على تلك النية لم‬‫كان من غلته زائدة على حاجته فا ّ‬
‫يخل في ذلك من كراهة شديدة‪ ،‬وصار في خطر عظيم‬
‫من محبته ورغبته في غلء السعار‪ -‬ولو سلم من ادخار‬
‫الطعام لما سلم من محبة الغلء الذي فيه أعظم المشقة‬
‫على المسلمين‪.‬‬
‫وقد كان السلف الصالح يكرهون البيع والشراء في‬
‫الطعمة لما في ذلك من التعرض لضرورة النسان‪ ،‬بحيث‬
‫يكره السعة والرخاء‪ ،‬ويحب القحط والغلء‪.‬‬
‫وأما المعاملة بالربا‪ :‬فإثم عظيم‪ ،‬وحوب كبير‪ ،‬قال الله‬
‫َ‬
‫ن الّرَبا‬‫م َ‬ ‫ي ِ‬‫ما ب َِق َ‬‫ه وَذ َُروا ْ َ‬ ‫مُنوا ْ ات ُّقوا ْ الل ّ َ‬ ‫نآ َ‬
‫َ‬ ‫تعالى‪َ):‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي‬
‫ْ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬
‫ب ّ‬ ‫حْر ٍ‬ ‫م ت َْفعَُلوا ْ فَأذ َُنوا ْ ب ِ َ‬ ‫ن*فَِإن ل ّ ْ‬ ‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬ ‫ِإن ُ‬
‫كنُتم ّ‬
‫سول ِهِ (]البقرة‪.[279-278:‬‬ ‫وََر ُ‬
‫فمن ذا الذي يقوى على محاربة الله ورسوله!نعوذ بالله‬
‫تعالى من المقت والبلء‪ ،‬ودرك الشقاء!وقد لعن رسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬آكل الربا ومؤكله‬
‫وشاهده وكاتبه((‪.‬‬
‫وعد عليه الصلة والسلم أكل الربا في السبع الموبقات‪،‬‬
‫التي منها )) الشراك بالله ‪ ،‬وقتل النفس التي حرم‬
‫الله((‪.‬‬
‫‪333‬‬
‫) ‪(1/333‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬الربا ثلثة وسبعون بابًا‪،‬‬


‫أيسر ها مثل أن ينكح الرجل أمه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬أربعة حق على الله أن ل‬
‫يدخلهم الجنة ول يذيقهم نعيمها‪ :‬مدمن الخمر‪ ،‬ولكل‬
‫الربا‪ ،‬وآكل مال اليتيم بغير حق‪ ،‬العاق لولديه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬الذهب بالذهب‪ ،‬والفضة‬
‫بالفضة‪،‬البر بالبر‪ ،‬والشعير بالشعير‪ ،‬والتمر بالتمر‪ ،‬والملح‬
‫بالملح مثل ً بمثل‪ ،‬سواء بسواء‪ ،‬يدا ً بيد‪ .‬وإذا اختلفت هذه‬
‫الصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا ً بيد((فقد بين عليه‬
‫الصلة والسلم في هذا الحديث حكم الربا‪ ،‬فليس لحد‬
‫بعد ذلك سبيل إلى الخلف وترك المتثال‪ ،‬وقد قال‬
‫ه َفانت َُهوا (‬ ‫م عَن ْ ُ‬‫ما ن ََهاك ُ ْ‬
‫ذوهُ وَ َ‬ ‫خ ُ‬‫ل فَ ُ‬ ‫سو ُ‬ ‫م الّر ُ‬ ‫ما آَتاك ُ ُ‬ ‫تعالى‪):‬وَ َ‬
‫]الحشر‪.[7:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫صيب َهُ ْ‬
‫مرِهِ أن ت ُ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫خال ُِفو َ‬‫ن يُ َ‬
‫ذي َ‬ ‫حذ َرِ ال ّ ِ‬‫وقال تعالى‪) :‬فَل ْي َ ْ‬
‫م(]النور‪.[63:‬‬ ‫َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫فتن ٌ َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫صيب َهُ ْ‬
‫ة أو ْ ي ُ ِ‬ ‫ِ َْ‬
‫فمن باع ذهبا ً بذهب‪ ،‬أو فضة بفضة‪ ،‬أو برا ً ببر‪ ،‬أو ذرة‬
‫بذرة‪ ،‬أو تمرا ً بتمر‪ ،‬لزم أن يكون ذلك مثل ً بمثل‪ ،‬يدا ً بيد‪.‬‬
‫فإن اختلف النوع كالبر بالذرة أو الذرة بالتمر‪ ،‬جازت‬
‫المفاضلة ووجب التقابض في حال ‪.‬وفي الباب فروع‬
‫ومسائل كثيرة محلها كتب الفقه‪ ،‬وهذا جملة القول في‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪334‬‬
‫) ‪(1/334‬‬

‫فاحذرو معاشر الخوان ‪ -‬رحمكم الله ‪ -‬من الربا غاية‬


‫الحذر‪ ،‬واحترزوا منه غاية الحترز‪ ،‬فإنه الله تعالى حرمه‬
‫وحظره على عباده‪ ،‬وجعله خبيثا ً ممحوقا ً ل خير فيه ول‬
‫ه ال ّْرَبا وَي ُْرِبي‬
‫حقُ الل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫بركة‪ ،‬كما قال الله تعالى‪) :‬ي َ ْ‬
‫َ‬
‫م(]البقرة‪.[276:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ل ك َّفارٍ أِثي‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل َ يُ ِ‬ ‫ت َوالل ّ ُ‬ ‫صد ََقا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضَعاًفا‬‫مُنوا ْ ل َ ت َأك ُُلوا ْ الّرَبا أ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن*َوات ُّقوا ْ الّناَر ال ِّتي‬ ‫حو َ‬ ‫م ت ُْفل ِ ُ‬‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬‫ة َوات ُّقوا ْ الل ّ َ‬ ‫ضاعََف ً‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫ن(‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫سو َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫أُ ِ‬
‫مو َ‬‫ح ُ‬‫م ت ُْر َ‬‫ل لعَلك ْ‬ ‫ه َوالّر ُ‬ ‫طيُعوا الل َ‬ ‫ن*وَأ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫ت ل ِلكافِ ِ‬ ‫عد ّ ْ‬
‫]آل عمران‪.[132-130:‬‬
‫فتأملوا وانظروا‪ ،‬واتقوا الله واحذروا‪.‬‬
‫***‬
‫واعلموا أن في بيع النسيئة بسعر ينقص عن السعر‬
‫الحاضر سعة عن الربا‪ ،‬وهو جائز مباح‪ ،‬فليأخذ به الراغب‬
‫في أرباح الدنيا‪.‬‬
‫***‬
‫وأياكم وما يتعاطاه بعض الجهال الغبياء المغرورين‬
‫الحمقى من استحللهم الربا في زعمهم بحيل أو‬
‫مخادعات‪ ،‬ومناذرات يتعاطونها بينهم‪ ،‬ويتوهمون أنهم‬
‫يسلمون بها من إثم الربا‪ ،‬ويتخلصون بسببها من عاره في‬
‫الدنيا وناره في العقبى‪ ،‬وهيهات هيهات! إن الحيلة في‬
‫الربا من الربا‪ ،‬وإن‬

‫‪335‬‬
‫) ‪(1/335‬‬

‫النذر شيء يتبرر به العبد ويتبرع ويتقرب به إلى ربه‪ ،‬ل‬


‫يصح النذر إل كذلك‪ .‬وقرائن أحوال هؤلء تدل على خلف‬
‫ذلك‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬لنذر إل فيما‬
‫ابتغي به وجه الله((‪ .‬وبتقدير أن هذه المناذرات على قول‬
‫بعض العلماء الظاهر تؤثر شيئا ً فهو بالنيبة إلى أحكم الدنيا‬
‫وظواهرها ل غير‪ ،‬فأما بالنسبة إلى أحكم الباطن وأمور‬
‫الخرة فل‪.‬‬
‫ومن تأمل كلم علماء الدين أرباب البصائر وجدهم‬
‫مجمعون على ذلك‪ ،‬وقد قال حجة السلم فيمن يحتال‬
‫في إسقاط الزكاة بأن ينذر ماله لغيره في آخر الحول‪،‬‬
‫وذكر صورا ً تشبه هذا‪ ،‬ثم قال‪ :‬وهذا كله من الفقه الضار‪،‬‬
‫ومن قال بجوازه فيعني بذلك قطع المطالبة بالنسبة إلى‬
‫أحكام الدنيا‪ ،‬أما إذا رجع المر إلى أحكم الحاكمين وجبار‬
‫الجبابرة فليس يغني ذلك شيئًا‪ .‬انتهى كلمه بمعناه‪.‬‬
‫وقد حّلت ببني إسرائيل أنواع العقوبات من الله‪ ،‬لما‬
‫أخذوا بأمثال هذه الحيل والمخادعات‪ ،‬كما يعرف ذلك من‬
‫عبده علم بسير الولين‪ .‬ولول خشية الطالة ل وردنا من‬
‫ه‬ ‫من ي ُرِدِ الل ّ ُ‬
‫ه فِت ْن َت َ ُ‬ ‫ل )و َ َ‬ ‫ذلك طرفًا‪ ،‬وخير الكلم ما ق ّ‬
‫ل ود ّ‬
‫شي ًْئا (]المائدة‪.[41:‬‬‫ن الل ّهِ َ‬
‫م َ‬ ‫ك لَ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫فََلن ت َ ْ‬
‫مل ِ َ‬
‫‪336‬‬
‫) ‪(1/336‬‬

‫ومن الربا أكل أموال الناس بالباطل‪ ،‬وجهات أكل أموال‬


‫الناس بالباطل كثيرة‪ ،‬وقد نهى الله عن جميع ذلك بقوله‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫وال َك ُ ْ‬
‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫مُنوا ْ ل َ ت َأك ُُلوا ْ أ ْ‬
‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫تعالى‪َ ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ل(]النساء‪.[29:‬‬‫ِبال َْباط ِ ِ‬
‫فمن جهات أكل أموال الناس بالباطل‪ :‬جميع ما يأخذه‬
‫السلطين الظلمة وأعوانهم من أموال المسلمين من‬
‫الجبايات والمكوس والعشور وغير ذلك‪ ،‬وذلك محرم‬
‫شديد التحريم‪.‬‬
‫والمأخوذ من الحرام السحت الذي ل شبهة فيه‪.‬‬
‫والمكاس والعشار من المتعرضين لسخط الله ومقته‪،‬‬
‫وقد ورد في ذمهم وشدة عقاب الله لهم الخبار الكثيرة‪،‬‬
‫قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ل يدخل الجنة صاحب‬
‫مكس((‪.‬‬
‫شار‪.‬‬‫قال يزيد بن هارون ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬يعني الع ّ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إن صاحب المكس في‬
‫النار((‪.‬‬
‫ومن أكل أموال الناس بالباطل‪ :‬ما يؤخذ ظلما ً بالغضب‬
‫والنهب‪ ،‬والسرقة والخيانة في المانات‪ ،‬وما يقتطعه‬
‫النسان من أموالهم باليمان الفاجرة وشهادات الزور‪،‬‬
‫وقد قال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬من ظلم قيد شبر من‬
‫الرض طوقه من سبع أرضين((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬اتقوا الظلم فإن الظلم‬
‫ظلمات يوم القيامة((‪.‬‬
‫‪337‬‬
‫) ‪(1/337‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل يحل لمسلم أن يأخذ‬


‫عصا أخيه بغير طيب نفس منه(( قال ذلك لشدة ما حرم‬
‫الله من مال المسلم على المسلم‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬في السرقة‪)) :‬لعن الله‬
‫السارق يسرق البيضة فتقطع يده‪ ،‬ويسرق الحبل فتقطع‬
‫يده((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ :‬في الخيانة‪)) :‬آية المنافق‬
‫ثلث‪:‬إذا حدث كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا اؤتمن خان((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل إيمان لمن ل أمانة له((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬ل دين لمن ل أمانة‬
‫له ول صلة ول زكاة له‪ ((...‬الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ثلث متعلقات بالعرش‬
‫الرحم تقول‪ :‬اللهم إني بك فل أقطع‪ ،‬والمانة تقول‪:‬‬
‫اللهم إني بك فل أخان‪ ،‬والنعمة تقول ‪ :‬اللهم إني بك فل‬
‫أكفر((‪.‬‬
‫***‬
‫وأما اقتطاع أموال المسلمين باليمان الفاجرة وشهادة‬
‫الزور فذلك من الكبائر‪ ،‬وفيه من الوعيد الشديد الهائل ما‬
‫ل يخفى‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من اقتطع مال‬
‫أخيه المسلم بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار((‪.‬‬
‫‪338‬‬
‫) ‪(1/338‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من حلف على مال امرئ‬
‫مسلم بغير حقه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان((‪.‬‬
‫قال عبد الله بن مسعود رصي الله عنه‪ :‬ثم قرأ رسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬مصداقة من كتاب‬
‫َ‬
‫مًنا قَِليل ً‬‫م ثَ َ‬
‫مان ِهِ ْ‬‫ن ب ِعَهْدِ الل ّهِ وَأي ْ َ‬ ‫شت َُرو َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫تعالى‪ ) :‬إ ِ ّ‬
‫ه وَل َ َينظ ُُر‬ ‫م الل ّ ُ‬‫مه ُ ُ‬‫خَرةِ وَل َ ي ُك َل ّ ُ‬ ‫م ِفي ال ِ‬ ‫خل َقَ ل َهُ ْ‬ ‫ك لَ َ‬ ‫أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫َ‬
‫م(]آل‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫م وَل َهُ ْ‬
‫كيهِ ْ‬‫مةِ وَل َ ي َُز ّ‬ ‫م ال ِْقَيا َ‬ ‫م ي َوْ َ‬‫إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫عمران‪.[77:‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬الكبائر‪ :‬الشراك بالله‪،‬‬
‫وعقوق الوالدين‪ ،‬واليمين الغموس((‪.‬‬
‫ن الغموس‬ ‫ميت اليمي ُ‬ ‫س ّ‬ ‫قال الحافظ المنذري رحمه الله ‪ُ :‬‬
‫غموسا ً لنها تغمس صاحبها في الثم في الدنيا‪ ،‬وتغمسه‬
‫في النار في الخرة‪.‬انتهى‪ .‬واليمين الغموس‪ :‬هي التي‬
‫يقتطع بها النسان شيئا ً من مال أخيه المسلم وإن كان‬
‫ذلك شيئا ً يسيرًا‪ ،‬حتى قال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬ولو‬
‫قضيبا ً من أراك((‪.‬‬
‫***‬
‫وأما القتطاع من أموال الناس بشهادة الزور فأن يشهد‬
‫به له غيره بشهادة باطلة وهو يعلم ذلك ويريده فيأثم‬
‫المشهود له والشاهد‪ ،‬فيكون الشاهد على مثل ذلك ممن‬
‫باع آخرته بدنيا‬
‫‪339‬‬
‫) ‪(1/339‬‬

‫غيره‪ .‬وشهادة الزور من أكبر الكبائر‪ ،‬كما في الحديث‬


‫الصحيح‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬عدلت شهادة‬
‫الزور الشراك بالله((قالها ثلث مرات‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل تزول قدما شاهد الزور‬
‫حتى يوجب الله له النار((‪.‬‬
‫***‬
‫ومن أكل أموال الناس بالباطل‪ :‬ما يأخذه الحكام والعمال‬
‫من الرشا والهدايا‪ .‬ورشوات الحكام وهدايا العمال من‬
‫السحت الحرام‪ ،‬وقدد لعن عليه الصلة والسلم‬
‫))الراشي والمرتشي والرائش وهو الساعي بينهما((وقال‬
‫عليه الصلة والسلم ))هدايا العمال غلول((والعمال هم‬
‫الذين يستعملهم السلطان على المور‪.‬‬
‫***‬
‫ومما يتأكد الحترز عنه‪ ،‬ويتعين على كل مؤمن أن يون‬
‫نفسه منه‪ :‬مسألة الناس‪ ،‬إل عند الضروة أو الحاجة‬
‫الشديدة التي ل بد منها‪ ،‬ول غنى عنها‪ ،‬قال رسول الله‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )): -‬ل تحل المسألة لغني ول‬
‫مّرة سوي(( والمرة ‪ :‬هي القوة‪.‬‬ ‫لذي ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬ل تزال المسألة بأحدكم‬
‫حتى يلقى الله وليس على وجهه مزعة لحم((‬
‫‪340‬‬
‫) ‪(1/340‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬مسألة الغني نار‪ ،‬إن أعطي‬


‫قليل ً فقليل‪ ،‬وأن أعطى كثيرا ً فكثير((‪.‬‬
‫وسئل عليه الصلة والسلم عن الغَِنى الذي ل تحل معه‬
‫المسألة فقال‪)):‬قدر غدائه وعشائه(( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬لن يأخذ أحدكم حبله‬
‫فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬استعينوا عن الناس ولو‬
‫بشوص السواك(()‪.(1‬‬
‫وقد رأينا أن نذكر ها هنا شيئا ً مما رود في تحريم الخمر‬
‫وذمها‪ .‬وهذا الموضع من الكتاب من أنسب المواضع لذكر‬
‫ذلك‪ ،‬لنه في تتمة الكلم على الورع عن المحرمات من‬
‫المأكولت والمشروبات وغيرها‪.‬‬
‫والخمر من الشربة التي حرمها اله وحظرها‪ ،‬ونهى عنها‬
‫في كتابه المبين وعلى لسان رسوله المين‪،‬قال الله‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫صا ُ‬
‫سُر َوالن َ‬ ‫مُر َوال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫خ ْ‬‫ما ال ْ َ‬
‫مُنوا ْ إ ِن ّ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫تعالى‪َ):‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫جت َن ُِبوهُ ل َعَل ّك ُ ْ‬‫ن َفا ْ‬ ‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬‫ل ال ّ‬ ‫م ِ‬‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫س ّ‬ ‫ج ٌ‬ ‫م رِ ْ‬ ‫َوالْزل َ ُ‬
‫طا َ‬
‫داوَةَ‬ ‫م ال ْعَ َ‬‫ن أن ُيوقِعَ ب َي ْن َك ُ ُ‬ ‫شي ْ َ ُ‬ ‫ريد ُ ال ّ‬ ‫ما ي ُ ِ‬
‫ن*إ ِن ّ َ‬
‫حو َ‬ ‫ت ُْفل ِ ُ‬
‫ّ‬ ‫مرِ َوال ْ َ‬ ‫ضاء ِفي ال ْ َ‬ ‫َوال ْب َغْ َ‬
‫ن‬‫عن ذِك ْرِ اللهِ وَعَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫صد ّك ُ ْ‬‫سرِ وَي َ ُ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫خ ْ‬
‫الصل َة فَه ْ َ‬
‫ن(]المتئدة‪.[91-90:‬‬ ‫منت َُهو َ‬ ‫ل أنُتم ّ‬ ‫ّ ِ َ‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬ل يزني‬
‫الزاني حين يزني وهو مؤمن‪ ،‬ول يسرق السارق حين‬
‫يسرق وهو مؤمن ‪ ،‬ول يشرب الخمر حين يشربها وهو‬
‫مة‬ ‫مؤمن(( فناهيك بهذا حرمة ومذ ّ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫)‪ (1‬أي بغسالته وقيل‪ :‬بما يتفتت منه عند التسواك‪.‬‬
‫‪341‬‬
‫) ‪(1/341‬‬

‫لشيء إذا تعاطاه النسان فارقه اليمان؟!‪.‬‬


‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬لعن الله الخمر وشاربها‬
‫وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومتعصرها وحاملها‬
‫والمحمولة إليه((زاد في رواية))وآكل ثمنها((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬من كان يؤمن بالله واليوم‬
‫الخر فل يشرب الخمر‪((...‬الحديث‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)) :‬مدمن الخمر إن مات لقي الله تعالى كعابد‬
‫وثن((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ثلثة ل يدخلون الجنة‪:‬‬
‫مدمن الخمر‪ ،‬وقاطع الرحم‪ ،‬ومصدق بالسحر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬اجتنبو الخمر فإنها مفتاح‬
‫كل شر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬الخمر جماع الثم‪ ،‬والنساء‬
‫حبائل الشيطان‪ -‬وحب الدنيا رأس كل خطيئة((‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬لما حرمت الخمر‬
‫مشى أصحاب رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫بعضهم إلى بعض وقالوا‪ :‬حرمت الخمر وجعلت عدل ً‬
‫للشرك‪ ،‬أي في الثم‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من‬
‫شرب الخمر خرج نور اليمان من جوفه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من شرب الخمر سقاه‬
‫الله من حميم جهنم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬كل مسكر حرام‪ ،‬وإن على‬
‫الله عهدا ً لمن شرب الخمر أن يسقيه من طينة الخبال((‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬وما طينة الخبال؟ قال‪ )) :‬عرق أهل‬
‫النار أو عصارة أهل النار((‪.‬‬
‫‪342‬‬
‫) ‪(1/342‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إذا شربوا الخمر‬


‫فاجلدوهم‪ ،‬ثم إن شربوا فاجلدوهم‪ ،‬ثم إن شربوا‬
‫فاجلدوهم‪ ،‬ثم إن شربوا فاقتلوهم((‪.‬‬
‫قال الحافظ المنذري رحمه الله تعالى‪ :‬قتل شارب الخمر‬
‫قد جاء في غير ما وجه صحيح وهو منسوخ‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫انتهى‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬الخمر أم الخبائث(( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من شرب الخمر في الدنيا‬
‫لم يشربها في الخرة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من شرب الخمر لم يقبل‬
‫الله له صلة أربعين صباحًا((‪.‬‬
‫الوارد في تحريم الخمر وذمها والتحذير منها كثير شهير‪،‬‬
‫وفيما ذكرناه كفاية لمن وفقه الله فاحذروا عباد الله ‪-‬‬
‫رحمكم الله ‪ -‬من هذا الشراب الخبيث‪ ،‬الذي حرمه الله‪،‬‬
‫وجعل السخط والمقت والخزي حظ شاربه في الدنيا‬
‫والخرة‪ .‬ومن ايتلي بشربها فليتب منها من قبل أن تحل‬
‫به العقوبة‪ ،‬أو يموت فيصير إلى النار وسخط الجبار‪.‬‬
‫نسأل الله لنا ولكم العافية والسلمة من جميع البليات‪.‬‬
‫***‬
‫واعلموا معاشر الخوان ‪ -‬جعلنا الله وإياكم ممن صلحت‬
‫سريرته وعلنيته‪ ،‬واستقام باطنه وظاهره على اعتقاد‬
‫الحق والعمل به‪:-‬‬
‫أن من أهم المهمات على كل مؤمن مراقبة قلبه‬
‫وجوارحه ومراعاتهما‪ ،‬وبذل الجهد في حفظهما وكفهما‬
‫عن‬
‫‪343‬‬
‫) ‪(1/343‬‬

‫مساخط الله ومكارهه‪ ،‬واستعمالهما بمحاب الله‬


‫ؤاد َ ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫صَر َوال ُْف َ‬ ‫معَ َوال ْب َ َ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ومراضيه‪ ،‬وقد قال تعالى‪):‬إ ِ ّ‬
‫ل(]السراء‪.[36:‬‬ ‫ؤو ً‬ ‫س ُ‬
‫م ْ‬
‫ه َ‬ ‫ن عَن ْ ُ‬
‫كا َ‬ ‫ك َ‬ ‫ُأولئ ِ َ‬
‫والقلب والجوارح من أعظم نعم الله على عباده‪ ،‬فمن‬
‫استعملها بطاعته وزينها بمحابهن وصرف كل ً منها فيما‬
‫خلق له فقد شكر النعمة‪ ،‬وحفظ الحرمة‪ ،‬وأحسن‬
‫الخدمة‪ ،‬وله عندالله جزاء الشاكرين وثواب المحسنين‪،‬إن‬
‫ل‪.‬ومن أرسل قلبه‬ ‫الله ل يضيع أجر من أحسن عم ً‬
‫وجوارحه في مخالفة المر‪،‬‬
‫وأهملها وأضاعها‪ ،‬ولم يحفظها‪ ،‬فقد كفر نعمة الله فيها ‪،‬‬
‫واستوجب الذم والعقوبة من الله بسببها‪ ،‬وستشد عليه‬
‫بين يدي الله بما عمل بها من معاصي الله‪ ،‬وكما قال‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫شهد عَل َيه َ‬
‫ما‬ ‫جل ُُهم ب ِ َ‬ ‫م وَأْر ُ‬ ‫ديهِ ْ‬‫م وَأي ْ ِ‬ ‫م أل ْ ِ‬
‫سن َت ُهُ ْ‬ ‫ِْ ْ‬ ‫م تَ ْ َ ُ‬ ‫تعالى)ي َوْ َ‬
‫ن(]النور‪.[24:‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ديهِ ْ‬ ‫م وَت ُك َل ّ ُ‬
‫مَنا أي ْ ِ‬ ‫م عََلى أفْ َ‬
‫واهِهِ ْ‬ ‫خت ِ ُ‬‫م نَ ْ‬‫وقال تعالى‪:‬ال ْي َوْ َ‬
‫َ‬
‫ن(]يس‪.[65:‬‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫جل ُهُ ْ‬ ‫وَت َ ْ‬
‫شهَد ُ أْر ُ‬
‫وأما القلب ‪ :‬فهو رئيس الجوارح وأميرها‪ ،‬وعليه يدور‬
‫صلحها وفسادها‪ ،‬كما قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬أل وإن‬
‫في الجسد كله‪ ،‬إل وهي القلب((‪.‬‬
‫وأما الجوارح‪ :‬فنعني بها العضاء السبعة ‪ :‬العين‪ ،‬والذن ‪،‬‬
‫والسان‪ ،‬والبطن‪ ،‬والفرج‪ ،‬واليد‪ ،‬والرجل‪.‬‬
‫***‬
‫‪344‬‬
‫) ‪(1/344‬‬

‫فأما العين‪ :‬فهي نعمة عظيمة من الله على عبده‪ ،‬وقد‬


‫خلقها له لينظر بها في عجائب مصنوعاته في أرضه‬
‫وسمواته‪ ،‬فيزداد بذلك معروف ويقينا بربه‪ ،‬وطاعة‬
‫وخدمة له‪ .‬وليهتدي بها في الظلمات‪ ،‬ويستعين بها على‬
‫الحاجات‪ ،‬فإن استعملها فيما خلقت له كان من المطيعين‬
‫الشاكرين‪ .‬وإن أطلقها وأرسلها فيما حرم الله عليه من‬
‫النظر إلى النساء الجانب والصور الجميلة بباعث‬
‫الشهواة‪ ،‬فقد عصى وتعرض للعقاب والبلء‪ .‬فليحذر‬
‫المؤمن من ذلك كل الحذر‪ ،‬ومن النظر إلى أحد من‬
‫المسلمين بعين الستصغار والحتقار والستخفاف‪ ،‬ومن‬
‫التطلع إلى عورات المسلمين وعيوبهم‪.‬‬
‫وكذلك ينبغي له أن ل يكثر النظر إلى الشهوات الدنيا‬
‫ومباحاتها التي تدعو النفس إلى الرغبة فيها‪ ،‬فإن ذلك‬
‫ربما فرق القلب‪ ،‬وأقبل به على عمارة الدنيا وجميع‬
‫حطامها‪ ،‬والعراض عن الخرة وترك الستعداد لها‪،‬‬
‫فحفظ النظر عن ذلك مهم ومتأكد‪ ،‬ل سيما على‬
‫المتوجهين المقبلين على الله والدار الخرة‪.‬‬
‫وأما النظر إلى المحرمات‪ :‬من النساء الجنبيات‪ ،‬والصور‬
‫المشتهيات التي ل تحل‪ ،‬فذلك محرم شديد التحريم‪ .‬قال‬
‫حَف ُ‬
‫ظوا‬ ‫الله تعالى‪ُ ) :‬قل ل ّل ْمؤْمِنين يغُضوا م َ‬
‫م وَي َ ْ‬
‫صارِهِ ْ‬
‫ن أب ْ َ‬
‫ِ ْ‬ ‫ُ ِ َ َ ّ‬
‫م (]النور‪.[30:‬‬ ‫فُُرو َ‬
‫جه ُ ْ‬
‫‪345‬‬
‫) ‪(1/345‬‬

‫وروي عن النبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬أنه قال‪:‬‬


‫))النظرة سهم مسموم من سهام أبليس‪ ،‬من تركها‬
‫مخافة من الله أعطاه الله عبادة يجد حلوتها في‬
‫قلبه((وقال عيسى عليه السلم‪)) :‬النظرة تزوةع في‬
‫القلب شهواة‪ ،‬وكفى بها لصاحبها فتنة((‪.‬‬
‫***‬
‫وأما الذن فهي من أعظم النعم أيضًا‪ ,‬وقد خلقت للعبد‬
‫ليسمع بها الكلم ربه وسنة نبيه‪ ،‬وكلم العلماء والحكماء‬
‫من صالحي عباد الله‪ ،‬فيستفيد بذلك سلوك سبيل مرضاة‬
‫الله‪ ،‬وينتفع بها في معاشه الذي يستعين به على معاده ‪-‬‬
‫أعني الذن ‪ -‬فإن أصغى بها إلى استماع ما حرم الله‬
‫عليه‪ /‬من كذب‪ ،‬وغيبة‪ ،‬وكلم قبيح فقد كفر النعمة ولم‬
‫يشكرها‪ ،‬لنه قد استعملها في غير ما خلقت له‪.‬‬
‫قال المام الغزالي رحمه الله تعالى‪ :‬ول تظنن أن الثم‬
‫يختص به القائل دون المستمع‪ ،‬فإن المستمع شريك‬
‫القائل وهو أحد المغتابين‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فالمستمع إلى الخير شريك في الثوابه‪ ،‬والمستمع إلى‬
‫الشّر شريك في إثمه‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫***‬
‫‪346‬‬
‫) ‪(1/346‬‬

‫وأما اللسان‪ :‬فهو من أعظم نعم الله على عبده‪ ،‬وفيه‬


‫خير كبير‪ ،‬ونفع كثير لمن حفظه واستعمله فيما خلق له‪.‬‬
‫وفيه شر كثير وضرر عظيم لمن أضاعه واستعمله في‬
‫غير ما خلق له‪.‬‬
‫وقد خلقه الله تعالى للعبد ايكثر به من ذكره وتلوة كتابه‪،‬‬
‫ولينصح به عباده ويدعوهم به إلى طاعته‪ ،‬ويعرفهم ما‬
‫يجب عليهم من عظيم حقه‪ ،‬وليظهر به ما في ضميره‬
‫من حاجات دينه ودنياه‪ .‬فإن استعمله بذلك كان من‬
‫الشاكرين‪ ،‬وإن شغله واستعمله بخلف ما خلق له كان‬
‫من الظالمين المعتدين‪.‬‬
‫ثم إن أمر اللسان مهم جدًا‪ ،‬وهو أغلب أعضاء العبد عليه‪،‬‬
‫ما‬
‫وأقواها في سياقته إلى الهلك إن لم يضبطه ويكّفه ع ّ‬
‫حّرم الله عليه‪.‬‬
‫وفي الحديث‪)) :‬وهل يكتب الناس في النار على وجوههم‬
‫أو على مناخرهم إل حصائد ألسنتهم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من كان يؤمن بالله واليوم‬
‫الخر فليقل خيرا ً أو ليصمت((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬رحم الله امرأ قال خيرا ً‬
‫فغنم‪ ،‬أو سكت عن شر فسلم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من صمن نجا(( ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬كل كلم اين آدم عليه ل له‬
‫إل ذكر الله أو أمرا ً بمعروف أو نهيا ً عن منكر ((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬إن الرجل ليتكلم بالكلمة‬
‫من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت‪ ،‬يكتب الله له‬
‫بها رضوانه إلى يوم يلقاه‪ ،‬وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من‬
‫‪347‬‬
‫) ‪(1/347‬‬

‫سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت‪ ،‬يكتب الله له بها في‬


‫النار سخطه إلى يوم يلقاه((‪.‬‬
‫وفي الحديث الخر‪ )) :‬إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يلقي‬
‫لها بال ً فيهوي بها في النار أبعد من الثريا((‪.‬‬
‫فخطر اللسان عظيم‪ ،‬وأمره مخوف‪ ،‬ول ينجي منه إل‬
‫الصمت وترك النطق إل عند الحاجة بقدرها‪ ،‬ويكون له‬
‫في تلوة كتاب الله وفي الكثار من ذكر الله شغل شاغل‬
‫عن الخوض في الباطل‪ ،‬وفيما ل يعنيه من الكلم‪.‬‬
‫ومن أعظم آفات اللسان‪ :‬الكذب‪ ،‬وهو الخبار بغير‬
‫الواقع‪ ،‬سواء أثبت به منفيا ً كأن يقول‪ :‬وقع كذا لما ل‬
‫يقع‪ :‬أو نفى بع ثابتا ً كأن يقول‪ :‬لم يقع كذا لما قد وقع‪.‬‬
‫وإثم الكذب عظيم‪ ،‬وهو مناقض لليمان‪ ،‬وصاحبه متعرض‬
‫ة الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫جَعل ل ّعْن َ ُ‬
‫بسببه للعنة الرحمن‪ ،‬قال الله تعالى‪ ) :‬فَن َ ْ‬
‫ن( ]آل عمران‪[61 :‬‬ ‫عََلى ال ْ َ‬
‫كاذِِبي َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬من أراد أن يلعن نفسه‬
‫فليكذب((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪ )) :‬إن الكذب يهدي إلى‬
‫الفجور‪ ،‬وإن الفجور يهدي إلى النار ول يزال العبد يكذب‬
‫‪348‬‬
‫) ‪(1/348‬‬

‫ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا((‪.‬‬


‫وسئل عليه الصلة والسلم ‪ :‬أيكذب المؤمن؟ فقال‪)) :‬ل‪،‬‬
‫إنما يفتري الكذب الذي ل يؤمنون بآيات الله ‪((...‬‬
‫الحديث‪.‬‬
‫***‬
‫ومن أعظم آفات اللسان‪ :‬الغيبة‪ ،‬وهي ذكرك أخاك‬
‫المسلم في غيبته بما يكرهه لو سمعه‪ ،‬وسواء ذكرته‬
‫بنقص في دينه أو بدنه أو أهله أو واده‪ ،‬حتى في مشيته‬
‫وثوب وسائر ما يتعلق به‪،‬وسواء في ذلك النطق باللسان‬
‫والكتابة والشارة باليد‪ .‬كذلك قال العلماء رحمهم الله ‪،‬‬
‫ومثل المام الغزالي والمام النووي وغيرهما‪.‬‬
‫والغيبة محرمة شديدة لبتحريم‪ ،‬قال الله تعالى‪):‬وََل ي َغَْتب‬
‫مي ًْتا‬ ‫م أَ ِ‬
‫خيهِ َ‬ ‫ح َ‬ ‫م َأن ي َأ ْك ُ َ‬
‫ل لَ ْ‬ ‫حد ُك ُ ْ‬
‫َ‬
‫بأ َ‬ ‫ضا أ َي ُ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫كم ب َعْ ً‬ ‫ض ُ‬‫ب ّعْ ُ‬
‫م(]الحجرات‪.[12:‬‬ ‫حي ٌ‬‫ب ّر ِ‬ ‫وا ٌ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه تَ ّ‬ ‫ه إِ ّ‬‫موهُ َوات ُّقوا الل ّ َ‬ ‫فَك َرِهْت ُ ُ‬
‫فشبه الله تعالى المغتاب الظالم بآكل لحم أخيه المسلم‬
‫ميتًا‪ :‬وناهيك بذلك ذما ً وزجرا ً عن الغيبة! وقد قال رسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) -‬كل المسلم على‬
‫المسلم حرام دمه وماله وعرضه((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬الربا اثنان وسبعون بابًا‪،‬‬
‫مه‪ .‬وإن أربى الربا استطالة‬ ‫أدناها مثل أن ينكح الرجل أ ّ‬
‫الرجل‬

‫‪349‬‬
‫) ‪(1/349‬‬

‫وفي عرض أخيه المسلم ((‪.‬‬


‫وقالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله ‪-‬صّلى الله‬
‫عليه وآله وسّلم‪ : -‬حسبك من صفية كذا وكذا! قال بعض‬
‫الرواة‪ :‬تعني أنها قصيرة ؛ فقال‬
‫عليه الصلة والسلم ‪)) :‬لقد قلت كلمة لو مزجت بماء‬
‫البحر لمزجته ((أي لو خلطت بما البحر لغيرته وأنتنته من‬
‫فحشها وقبحها‪.‬‬
‫وقالت امرأة‪ :‬ما أطول ذيل فلنة! فقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ )):‬الفظي الفظي(( فأخرجت من فمها قطعة‬
‫لحم ‪ ،‬فصارت بهذه الكلمة الواحدة القريبة آكلة من‬
‫لحمها‪ .‬فانظروا عباد الله ما أفحش الغيبة وأقبحها! وما‬
‫أهون الوقع فيها على الناس إل من رحم الله‪ ،‬وقيل ما‬
‫هم!‪.‬‬
‫واعلم ‪ :‬أن من الواجب عليك إذا رأيت من أخيك المسلم‬
‫عيبا ً أو نقصا ً يمكنك إزالته‪ :‬أن تذكر له ذلك في الخلوة‬
‫على سبيل النصحة‪ ،‬فإمن عجزت عن ذلك‪ ،‬أو لم توفق‬
‫له فذلك نقص فيك‪ ،‬فل تجمع إليه نقصا ً آخر أقبح منه‪،‬‬
‫وهو أن تهتك ستره وتذكر عيوبه للناس في غيبته‪ ،‬فتجمع‬
‫على نفسك مصيبتين‪ ،‬وتجّر إليها بليتين‪.‬‬
‫***‬
‫ومن آفات اللسان‪ :‬النميمة‪ ،‬وهي نقل كلم الناس بعضهم‬
‫إلى بعض‪ ،‬يقصد بذلك الفساد والفتنة بينهم‪.‬‬
‫‪350‬‬
‫) ‪(1/350‬‬
‫م ّ‬
‫شاءٍ‬ ‫مازٍ ّ‬ ‫ن * هَ ّ‬‫مِهي ٍ‬ ‫ف ّ‬ ‫حّل ٍ‬ ‫ل َ‬ ‫قال الله تعالى‪) :‬وََل ت ُط ِعْ ك ُ ّ‬
‫ميم ٍ (]القلم‪.[11-10:‬‬ ‫ب ِن َ ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ل يدخل الجنة قتات(( وهو‬
‫النمام‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬شرار ععباد‬
‫اللهالمشاءون بالنميمة‪ ،‬المفرقون بين الحبة((‪.‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)):‬إن النميمة والحقد في النار‪ ،‬ول‬
‫يجمعان في قلب مسلم ((‪.‬وقال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫))ليس مني ذو حقد ول نميمة ول كهانة ول أنا منه((ثم تل‪:‬‬
‫سُبوا فََقدِ‬‫ما اك ْت َ َ‬
‫ت ب ِغَي ْرِ َ‬‫مَنا ِ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫ذو َ‬‫ن ي ُؤْ ُ‬ ‫) َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫مِبيًنا(]الجزاب‪.[58:‬‬ ‫ما ّ‬ ‫مُلوا ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً‬ ‫حت َ َ‬‫ا ْ‬
‫وقال بعض السلف الصالح رحمهم الله ‪ :‬ل يكون النمام‬
‫إل ولد زنا‪.‬‬
‫ومن أقبح أنواع النميمة وأفحشها‪ :‬ما كان منها إلى‬
‫السلطين والولة ونحوهم ‪ ،‬وتسمى السعاية ‪ ،‬يقصد بها‬
‫صاحبها إغراء الوالي يإيذاء من سعى به إليه‪ ،‬وأخذ ماله‪،‬‬
‫وجلب الشرله‪.‬وإثمها عظيم‪ ،‬مضاعف على إثم النميمة‬
‫التي تكون بين عامة الناس ‪.‬‬
‫ومن آفات اللسان‪ :‬شتم المسلم وسبه في الوجه‪ ،‬قال‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬سباب المؤمن فسوق‬
‫وقتاله كفر((‪.‬‬
‫ن‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬المتساّبان شيطانا ِ‬
‫ن(( ‪.‬‬ ‫ن ويتكاذبا ِ‬ ‫يتهاترا ِ‬
‫‪351‬‬
‫) ‪(1/351‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من الكبائر السّبتان‬


‫بالسّبة((‪.‬‬
‫ومن آفات اللسان‪ :‬السخرية بالمسلم‪ ،‬والستهزاء به‪،‬‬
‫والضحك عليه استخفافا ً واحتقارا ً له‪ ،‬قال الله تعالى‪َ):‬يا‬
‫كوُنوا‬ ‫سى َأن ي َ ُ‬ ‫من قَوْم ٍ عَ َ‬ ‫م ّ‬ ‫خْر َقو ٌ‬ ‫س َ‬‫مُنوا َل ي َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫من ْهُ ّ‬
‫خي ًْرا ّ‬ ‫ن َ‬‫سى أن ي َك ُ ّ‬ ‫ساء عَ َ‬ ‫من ن ّ َ‬ ‫ساء ّ‬ ‫م وََل ن ِ َ‬‫من ْهُ ْ‬
‫خي ًْرا ّ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫س ُ‬ ‫س ال ِ ْ‬‫ب ب ِئ ْ َ‬ ‫م وََل ت ََناب َُزوا ِباْلل َْقا ِ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫مُزوا أنُف َ‬ ‫وََل ت َل ْ ِ‬
‫ن(‬
‫مو َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫ب فَأ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫من ل ّ ْ‬
‫م ي َت ُ ْ‬ ‫ن وَ َ‬‫ما ِ‬ ‫سوقُ ب َعْد َ ا ْ ِ‬
‫لي َ‬ ‫ال ُْف ُ‬
‫]الحجرات‪.[11:‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬بحسب امرئ من الشر أن‬
‫يحقر أخاه المسلم((‪.‬‬
‫ومن آفات اللسان‪ :‬اليمين الفاجرة‪ ،‬وشهادة الزور‪،‬‬
‫واللعن‪ ،‬وقةلك للمسلم يا كافر‪ ،‬والقطع بالشهادة على‬
‫أحد من أهل القبلة بكفر أو بدعة لو فسق من دون أن‬
‫يتحقق ذلك يقينًا‪ ،‬والدعاء على المسلمين بالشر‪ ،‬والوعد‬
‫الكاذب‪ ،‬وكلم ذي الوجهين‪ ،‬وسائر الكلم القبيح‪ ،‬والقول‬
‫الفاحش الذي يسحيا منه‪ ،‬والمراء والجدال‪ ،‬ومنازعة‬
‫الناس في الكلم وكثرة الخصومة‪ ،‬والخوض فيما ل يعني‪.‬‬
‫وقد وردت في ذم جميع ذلك اليات والخبار الكثيرة‬
‫الشهيرة‪ .‬فعلى المؤمن الناظر لنفسه‪ ،‬والشفيق على‬
‫دينه‪ ،‬أن يكون كما قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من كان‬
‫يؤمن بالله واليوم الخر‪ ،‬فليقل خيرا ً أو ليصمت((‪.‬‬
‫‪352‬‬
‫) ‪(1/352‬‬

‫وآفات اللسان كثيرة‪ ،‬وقد عد المام حجة السلم منها‬


‫عشرين آفة في كتاب آفات اللسان من ))الحياء((‪،‬‬
‫وأشبع الكلم في ذلك على ما يليق بجللة قدره‪ ،‬وسعة‬
‫علمه‪.‬‬
‫فرضي الله عنه وجزاه عن السلم والمسلمين خيرًا‪.‬‬
‫***‬
‫وأما البطن‪ :‬فحفظه وضبطه من أهم المهمات‪ ،‬وذلك‬
‫بكفه عن الحرام والشبهات‪ ،‬ثم عن فضول الشهوات‪،‬‬
‫وعن الشبع من الحلل‪.‬‬
‫فأما الحرام والشبهات فقد تقدم الكلم عليهما في باب‬
‫الورع‪.‬‬
‫وأما التوسع في الشهوات والكثار من الشبع فذلك‬
‫مكروه‪ ،‬وفيه آفات كثيرة ومضرات عديدة‪ ،‬ومنها‪ :‬قسوة‬
‫القلب‪ ،‬وكسل العضاء عن الطاعة‪ ،‬وقلة نشاطها للعبادة‪،‬‬
‫وقلة الفهم للعلم والحكمة‪ ،‬وقلة الرحمة والشفقة على‬
‫ضعفة المسلمين وأهل الحاجة منهم‪.‬‬
‫ويخشى من ذلك ‪ -‬أعني‪ :‬التساع في أكل الشهوات‬
‫وكثرة الشبع ‪ -‬الوقع في اقتحام الشبهات بل والمحرمات‪.‬‬
‫قال حجة السلم رحمه الله تعالى‪ :‬الشبع من الحلل‬
‫أصل كل شّر ‪ ،‬فكيف من الحرام؟!‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫‪353‬‬
‫) ‪(1/353‬‬

‫وقد قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ما مل ابن آدم وعاء‬
‫شرا ً من بطنه‪ ،‬حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه‪ ،‬فإن‬
‫كان ل محالة‪ ،‬فثلث بطعامه‪ ،‬وثلث لشرابه‪ ،‬وثلث‬
‫لنفسه((‪.‬‬
‫وروي عنه عليه الصلة والسلم أنه قال‪)):‬شرار أمتي‬
‫الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم‪ ،‬ولنما همة‬
‫أحدهم ألوان الطعام وألوان الثياب‪ ،‬ويتشدقون في‬
‫كلم((‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬أطول الناس شبعا ً‬
‫في الدنيا أطولهم جوعا ً في الخرة((‪ .‬وقال علي كرم الله‬
‫وجهه‪ :‬من كان همته ما يدخل بطنه كان قيمته ما يخرج‬
‫منها‪.‬‬
‫فعلى المؤمن أن يكف نفسه عن الشهوات عفه وقناعة‪،‬‬
‫وزهادة في الدنيا‪ ،‬وإذا أكل فليقتصر على ما دون الشبع‪،‬‬
‫وليأكل ما وجد من الحلل من غير قصد لما كان ألذ‬
‫وأوفق للطبع‪ ،‬وإن تحرى الخشن الدنى كان أقرب‬
‫للتقوى‪ ،‬وأقل للكلفة‪ ،‬وأبعد عن الشهوات‪ ،‬وأشبه بهدي‬
‫السلف الصالح‪.‬‬
‫وقد كان أكثر طعمام رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬من الشعير‪ ،‬وكان يمكث هو وأهله عليه الصلة‬
‫والسلم الشهر على التمر والماء‪،‬ل توقد لهم نار لطعام‬
‫ول غيره‪.‬‬
‫وعلى المؤمن إذا أكل أن يأكل بالدب‪ ،‬واتباع السنة في‬
‫ذلك‪ ،‬ومن التسمية عند البتداء‪ ،‬والحمد لله في الخر‪،‬‬
‫‪354‬‬
‫) ‪(1/354‬‬

‫ويأكل بينه الستعانة على طاعة الله‪ ،‬والتقوي على‬


‫عبادته‪ ،‬إلى غير ذلك من الداب التي وردت بها الخبار‪.‬‬
‫وأما الفرج‪ :‬فحفظه مهم‪ ،‬وأمره مخطر‪ ،‬وقد أثنى الله‬
‫في كتابه علبى المؤمنين من عباده فقال في أثناء‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ن*إ ِّل عََلى أْزَوا ِ‬
‫جه ِ ْ‬ ‫ظو َ‬ ‫حافِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫جه ِ ْ‬
‫م ل ُِفُرو ِ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وصفهم‪َ ):‬وال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن اب ْت ََغى وََراء‬ ‫ن*فَ َ‬
‫م ِ‬ ‫مي َ‬ ‫مُلو ِ‬‫م غَي ُْر َ‬ ‫م فَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫مان ُهُ ْ‬‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬ ‫ما َ‬‫أو ْ َ‬
‫ن(]المؤمنون‪.[7-5:‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ال َْعا ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ك فَأ ُوْل َئ ِ َ‬‫ذ َل ِ َ‬
‫وقد سئل عليه الصلة والسلم عن أكثر ما يدخل الناس‬
‫النار فقال‪)):‬الجوفان‪ ،‬الفهم والفرج((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من وقاه الله شّر ما بين‬
‫لحييه ورجليه دخل الجنة((‪.‬‬
‫فعليك أيها المؤمن بحفظ فرجك ‪ ،‬واستعن على ذلك‬
‫بحفظ قلبك عن التفكر فيما ل يحل لك‪ ،‬وبحفظ بصرك‬
‫عن النظر إلى ما ل يجوز لك النظر إليه‪ ،‬وفي الحديث‪)) :‬‬
‫دق ذلك أو‬ ‫العين تزني‪ ،‬والنفس تتمنى‪ ،‬والفرج يص ّ‬
‫ذبه((‪.‬‬ ‫ُيك ّ‬
‫***‬
‫وتباعد كل البعد‪ ،‬واحذر من الزنا ومن اللواط‪ ،‬تحريما ً‬
‫شديدًا‪ ،‬ونهى عنهما نهيا ً أكيدا ً فقال تعالى‪):‬وَل َ ت َْقَرُبوا ْ‬
‫ل(]السراء‪.[32:‬‬ ‫سِبي ً‬ ‫ساء َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫ش ً‬ ‫ح َ‬ ‫ن َفا ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫الّزَنى إ ِن ّ ُ‬
‫خَر وََل ي َْقت ُُلو َ‬
‫ن‬ ‫معَ الل ّهِ إ ِل ًَها آ َ‬‫ن َ‬ ‫عو َ‬ ‫ن َل ي َد ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ):‬وال ّ ِ‬
‫‪355‬‬
‫) ‪(1/355‬‬

‫ل ذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫من ي َْفعَ ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫حقّ وََل ي َْزُنو َ‬ ‫ه إ ِّل ِبال ْ َ‬‫م الل ّ ُ‬ ‫س ال ِّتي َ‬
‫حّر َ‬ ‫الن ّْف َ‬
‫َ‬
‫خل ُد ْ ِفي ِ‬
‫ه‬ ‫مةِ وَي َ ْ‬ ‫م ال ِْقَيا َ‬‫ب ي َوْ َ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ه ال ْعَ َ‬ ‫ف لَ ُ‬
‫ضاعَ ْ‬ ‫ما* ي ُ َ‬‫ي َل ْقَ أَثا ً‬
‫ل‬ ‫حا فَأ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك ي ُب َد ّ ُ‬ ‫مًل َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫ل عَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن وَعَ ِ‬ ‫م َ‬‫ب َوآ َ‬ ‫من َتا َ‬ ‫مَهاًنا* إ ِّل َ‬
‫ُ‬
‫ما(]الفرقان‪:‬‬ ‫حي ً‬‫ه غَُفوًرا ّر ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ت وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫سَنا ٍ‬
‫ح َ‬ ‫م َ‬‫سي َّئات ِهِ ْ‬
‫ه َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫‪.[70-68‬‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )): -‬ل يزني‬
‫الزاني حين يزني وهو مؤمن((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬المقيم على الزنا كعابد‬
‫وثن((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إن الزناة يأتون تشتعل‬
‫فروجهم نارًا((‪ .‬أي ‪ :‬يأتون يوم القيامة‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ثلثة ل يكلمهم الله يوم‬
‫القيامة‪ ،‬ول يزكيهم‪ ،‬ول ينظر إليهم‪ ،‬ولهم عذاب أليم‬
‫‪،‬شيخ زان‪ ،‬وملك كذاب‪ ،‬وعائل مستكبر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إن الزنا يجلب الفقر((‪.‬‬
‫وورد‪ )) :‬أنه يأتي على أهل الموقف ريح منتنة تؤذي كل‬
‫ب َّر وفاجر غاية الذى؛ فيقال لهم‪ :‬هذه رائحة فروج‬
‫الزناة((‪.‬‬
‫وفي الحديث الصحيح ‪:‬أنه ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫رأى الزناة والزواني في مثل التنور‪ ،‬يأتيهم لهب النار من‬
‫أسفله فيصيحون ويرتفعون‪ ،‬وذلك من أنواع تعذيب الله‬
‫أياهم في البرزخ‪ ،‬وقال الله تعالى في ذكر إهلك قوم‬
‫جاء‬ ‫ما َ‬ ‫لوط‪ ،‬وحين عملوا بالفاحشة وأصروا عليه‪ ) :‬فَل َ ّ‬
‫مط َْرَنا عَل َي َْها ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من‬ ‫جاَرةً ّ‬ ‫ح َ‬ ‫سافِل ََها وَأ ْ‬ ‫جعَل َْنا َ‬
‫عال ِي ََها َ‬ ‫مُرَنا َ‬ ‫أ ْ‬
‫ن‬
‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ي ِ‬ ‫ما هِ َ‬ ‫ك وَ َ‬‫عند َ َرب ّ َ‬‫ة ِ‬ ‫م ً‬‫سو ّ َ‬
‫م َ‬‫ضوٍد* ّ‬ ‫من ُ‬ ‫ل ّ‬ ‫جي ٍ‬‫س ّ‬ ‫ِ‬
‫د(]هود‪.[83-82:‬‬ ‫ب ِب َِعي ٍ‬

‫‪256‬‬
‫) ‪(1/356‬‬

‫قيل في بعض التفاسير‪ :‬وما هي ببعيد من الظالمين‬


‫الذين يعملون بعملهم‪.‬‬
‫وبلغنا أن رجلين كانا يعملن هذه الفاحشة الخبيثة في‬
‫بيت‪ ،‬ومن فوق سقفه حجر من الحجارة التي أرسلت‬
‫على قوم لوط‪ ،‬فخرق الحجر السقف ووقع عليهما‬
‫ما‬
‫فأهلكهما‪ ،‬فبلغ ذلك بعض السلف فقال صدق الله)وَ َ‬
‫د(]هود‪.[83:‬‬‫ن ب ِب َِعي ٍ‬
‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬
‫ي ِ‬
‫هِ َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬أخوف ما أخاف على‬
‫أمتي ‪ :‬عمل قوم لوط((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )): -‬لعن الله سبعة من‬
‫خلقه من فوق سبع سموات(( ‪ .‬وردد اللعنة على واحد‬
‫منهم ثلثا ً ‪ ،‬ولعن كل واحد لعنة تكفيه قال ‪)) :‬ملعون من‬
‫عمل عمل قوم لوط‪ ،‬ملعون من عمل عمل قوم لوط‪،‬‬
‫ملعون من عمل عمل قوم لوط‪ ،‬ملعون من ذبح لغير‬
‫الله‪ ،‬ملعون من أتى شيا ً من البهائم‪ ،‬ملعون من عق‬
‫والديه‪ ،‬ملعون من جمع بين المرأة وأختها‪ ،‬ملعون من‬
‫غّير حدود الرض‪ ،‬ملعون من ادعى إلى غير مواليه((‪.‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‪:‬قال رسول الله‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬أربعة يصبحون في غضب‬
‫الله‪ ،‬ويمسون في سخط الله(( قلت‪ :‬من هم يارسول‬
‫الله؟ قال‪)) :‬المتشبهون من الرجال بالنساء‪ ،‬والمتشبهات‬
‫من النساء بالرجال‪ ،‬والذين يأتي البهيمة‪ ،‬والذي يأتي‬
‫الرجال((‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫) ‪(1/357‬‬

‫وما ورد في تحريم الزنا واللواط‪ ،‬وفي عقوبة مرتكبهما‬


‫كثير شهير‪ ،‬وحسبك بهما قبحا ً وتحريما ً ونكال ً ‪ ،‬ما رّتب‬
‫الله عليهما في الدنيا قبل الخرة من الحد ّ والعقوبة‪.‬‬
‫وبيان ذلك‪ :‬أن الزاني والزانية مهما قامت عليهما البينة‬
‫دا مائة جلدة‪ ،‬وغُّربا عن أوطانهما‬ ‫جل ِ َ‬
‫بالزنا فان كان بكرين ُ‬
‫ما بالحجارة حتى يموتا‪ .‬وإن‬ ‫عامًا‪ .‬وإن كانا محصنين ُر ِ‬
‫ج َ‬
‫كان أحدهما محصنا ً والخر بكرا ً ‪ ،‬كان لكل واحد حكمه‪.‬‬
‫ده كحد ّ الزنا على القول الصحيح ‪ ،‬وفي‬ ‫وأما اللواط‪ :‬فح ّ‬
‫ل به‪ ،‬وقد ورد به الحديث‪.‬‬ ‫ل والمفعو ُ‬ ‫ل الفاع ُ‬
‫قول‪ :‬ي ُْقت َ ُ‬
‫وفي بعض القوال‪ :‬أنهما يحرقان بالنار‪ .‬نسأل الله العافية‬
‫من كل بلية‪.‬‬
‫وأما إتيان البهيمة‪ :‬فهو من العظائم‪ ،‬وفاعله ملعون كما‬
‫في الحديث المتقدم‪ .‬وفي الحديث الخر‪)) :‬من وقع على‬
‫بهيمة فاقتلوه واقتلوها((‪.‬‬
‫وأما الستمناء باليد‪ :‬فهو قبيح مذموم‪ ،‬وفيه آفات وبليات‬
‫كثيرة‪ ،‬وقد يبتلى به بعض الناس‪ ،‬فليتق ويحذر! وفي‬
‫بعض الحاديث‪)) :‬لعن الله من نكح يده((‪ .‬وقال ‪-‬صّلى‬
‫الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬أهلك الله أمة كانوا يعبثون‬
‫بفروجهم((‪.‬‬
‫اللهم يا عليم يا خبير‪ ،‬طهر قلوبنال من النفاق‪ ،‬وحصن‬
‫فروجنا من الفواحش‪ ،‬والطف بنا والمسلمين‪.‬‬
‫***‬
‫‪358‬‬
‫) ‪(1/358‬‬

‫وأما اليدان‪ :‬فعليك ببسطهما في الصدقات‪ ،‬وإعانة‬


‫المسلمين في الحاجات وفي كتاب العلم والحكمة‪ ،‬وفي‬
‫اكتساب الحلل بنية الستعانة على الدين‪ ،‬واحفظهما عن‬
‫أن تضرب بهما مسلما ً لو تؤذيه بغير حق ‪ ،‬أو تأخذ بهما‬
‫ما ل يجوز لك أخذه من أموال المسلمين‪ ،‬كال خذ بالظلم‬
‫والخيانة‪ ،‬والمعاملت الفاسدة‪.‬‬
‫وأما الرجلن‪ :‬فإياك أن تمشي بهما إلى حرام أو معصية‪،‬‬
‫أو إعانة على باطل‪ ،‬أو إالى باب سلطان الظالم ‪ ،‬إو إلى‬
‫لهو ولعب‪ ،‬وما ل خي فيه ول نفع‪ ،‬ول تمش بهما إل إلى‬
‫الخيرات والصالحات‪ ،‬مثل طلب العلم النافع‪ ،‬والسعي‬
‫إلى المساجد لقامة الصلوات في الجماعات‪ ،‬والعمل بو‬
‫ظائف العبادات‪ .‬ومثل زيارة الخوان في الله‪ ،‬وقضاء‬
‫حوائج المسلمين‪ ،‬وإقامة حقوقهم من عيادة المرض‬
‫وتشييع الجنائز‪ ،‬ونحو ذلك من أعمال البر وأفعال الخير‪.‬‬
‫وبالجملة‪ :‬فجوارحك من أعظم نعم الله عليك‪ ،‬وقد خلقها‬
‫لك لتستعين بها إلى طاعته‪ ،‬فإن استعملتها فيما خلقت له‬
‫من الطاعات والموافقات فقد شكرت وصرت من‬
‫المحسنين‪ ،‬وإن استعملتها في غير ما خلقت له من‬
‫المعاصي والمخالفات فقد كفرت نعمة ربك‪ ،‬وخنته في‬
‫أمانته التي ائتمنك عليها‪ ،‬فإن الجوارح من المانات التي‬
‫ائتمنك عليها رّبك‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫) ‪(1/359‬‬

‫وقد انتهى الكلم في الجوارح السبع على وجه مختصر‬


‫جامع‪.‬‬
‫وقصدنا الن‪ :‬أن نذكر شيئا ً فيما يتعلق بالقلب الذي هو‬
‫سيد الجوارح وملك العضاء‪ ،‬وهو معدن العقائد والخلق‬
‫والنيات المذموم منها والمحمود‪ ،‬ول سعادة في الدنيا‬
‫والخرة إل لمن طهره وزكاه عن القبائح والرذائل‪ ،‬وزينه‬
‫ما‬‫س وَ َ‬
‫الله تعالى‪):‬وَن َْف ٍ‬ ‫وحله بالمحاسن والفضائل ‪.‬قال‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ها*وَقَد ْ‬ ‫من َز ّ‬
‫كا َ‬ ‫ها*قَد ْ أفْل َ َ‬
‫ح َ‬ ‫وا َ‬
‫ها وَت َْق َ‬
‫جوَر َ‬ ‫ها*فَأل ْهَ َ‬
‫مَها فُ ُ‬ ‫وا َ‬
‫س ّ‬
‫َ‬
‫ها(]الشمس‪.[10-7:‬‬ ‫سا َ‬‫من د َ ّ‬ ‫ب َ‬ ‫خا َ‬ ‫َ‬
‫ثم إن الخلق المذمومة والخصال الممقونة في القلب‬
‫كثيرة‪ ،‬وكذلك الخلق المحمودة والخصال المحبوبة التي‬
‫ينبغي للمؤمن أن يحلي بها قلبه كثيرة أيضًا‪.‬‬
‫وقد استوفى الكلم في ذلك كّله المام حجة السلم في‬
‫النصف الثاني من))الحياء(( في ذكر المهلكات‬
‫ول عليه‬ ‫والمنجيات‪ ،‬وكلمه في هذه الفنون هو المع ّ‬
‫والمرجع إليه‪ ،‬لكماله في العلم والعبادة‪ ،‬والزهد‬
‫دمه من السلف‬ ‫والمعرفة‪ ،‬ولنه جمع في ذلك كلم من تق ّ‬
‫الصالح ومشايخ الطريق‪.‬‬
‫وقد اقتفى آثاره‪ ،‬واقتبس من أنواره من جاء بعده من‬
‫أهل هذا الشأن من علماء المسلمين وصالحيهم‪ ،‬ومن‬
‫أهل سائر الفاق والبلدان‪ ,‬كما يعرف ذلك ويعلمه تحقيقا ً‬
‫من له رسوخ في هذه العلوم‪ ،‬وغوص واطلع على أسرار‬
‫طريق الله‪.‬‬
‫‪360‬‬
‫) ‪(1/360‬‬

‫فإذا علمت ذلك وعرفته فاعلم أن الصفات المذمومة في‬


‫القلب أمراض له‪ ،‬وقد تؤديه إلى الهلك في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬فل غنى للمؤمن عن علجقلبه‪ ،‬ول بد له من‬
‫السعي في تحصيل الصحة والسلمة له‪ ،‬فإنه ل يجوز إل‬
‫من أتى الله بقلب سليم ‪.‬‬
‫وإذا عرفت أن صفات القلب المذمومة والمحمودة كثيرة‪،‬‬
‫والنظر فيها يطول‪ ،‬وقصدنا الختصار واليجاز‪ ،‬وقد أحلنا‬
‫في طلب الستقصاء في ذلك على ما شرحه حجة‬
‫السلم في ))الحياء((‪ ،‬ولكنا ننبه بكلم قريب على شيء‬
‫من المهلكات التي يجب تزكية القلب بها‪ ،‬ونقتصر من‬
‫جملة ذلك على ما يعم وجوده‪ ،‬ويغلب وقوعه‪ ،‬وتشتد‬
‫الحاجة إليه‪.‬‬
‫فأول ذلك‪ :‬أنه يجب على النسان أن يزكي قلبه‪ ،‬ويطهره‬
‫من رذيلة الشك في الله ورسوله والدار الخرة‪ ،‬فإن ذلك‬
‫من لعظم أمراض القلوب المهلكة في الخرة‪ ،‬والتي‬
‫تضر ضررا ً عظيم ‪،‬خصوصا ً عند الموت‪ ،‬وقد تؤدي والعياذ‬
‫بالله إلى سوء الخاتمة‪ ،‬وهذا الشك قد يبتلى به بعض‬
‫الناس‪ .‬فل يجوز لمن وجد شيئا ً من ذلك أن يضمره في‬
‫نفسه‪ ،‬ويطويه في قلبه‪ ،‬فليقى الله شاكًا‪ ،‬بل يجب عليه‬
‫أن يجتهد في إزالة ذلك‪ ،‬ويسعى في نفيه عنه بكل ما‬
‫يمكنه‪.‬‬
‫وأنفع الشياء في إزلته سؤال العلماء بالله تعالى وبدينه‬
‫أهل‬
‫‪361‬‬
‫) ‪(1/361‬‬

‫االيقين والخشية‪ ،‬والزهد في الدنيا‪ .‬فإن لم يصادف أحدا ً‬


‫منهم فلينظر في كتبهم التي ألفوهل في علوم التوحيد‬
‫واليقين‪ .‬ولست أعني بالشك ما يجده النسان من‬
‫الخواطر والوساوس في أمور اليمان بما يعلم يطلنه‪،‬‬
‫ويجد قلبه مصمما ً على خلفه ونفسه كارهة له ونافرة‬
‫عنه‪ ،‬فإن ذلك هو الوسوسة‪ ،‬ويكفي النسان فيها أن‬
‫يكرهها ويعرض عنها يستعيذ بالله منها‪.‬‬
‫ومن أعظم أمراض القلوب وصفاتها المهلكة‪ :‬الكبر‪ ،‬وهو‬
‫من صفات الشياطين‪ ،‬كما قال تعالى في إبليس اللعين‪:‬‬
‫ن(]البقرة‪.[34:‬‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ست َك ْب ََر وَ َ‬ ‫َ‬
‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫)أَبى َوا ْ‬
‫ه لَ‬ ‫والمتكبر بغيض إلى الله تعالى‪ ،‬كما قال تعالى‪):‬إ ِن ّ ُ‬
‫ب كُ ّ‬
‫ل‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن(]النحل‪)،[23:‬إ ِ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫ست َك ْب ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫خوٍر(]لقمان‪.[18:‬‬ ‫ل فَ ُ‬ ‫خَتا ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫والخيلء والفخر من أوصاف المتكبرين‪ ،‬والمتكبر متعرض‬
‫ك ي َط ْب َعُ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫لن يطبع الله على قلبه‪ ،‬كما قال تعالى‪):‬ك َذ َل ِ َ‬
‫جّباٍر(]غافر‪.[35:‬‬ ‫مت َك َب ّرٍ َ‬ ‫ب ُ‬ ‫ل قَل ْ ِ‬ ‫عََلى ك ُ ّ‬
‫والمتكبر مصروف عن آيات الله‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ر‬ ‫ن ِفي ال َ‬ ‫ن ي َت َك َ‬ ‫ي ال ّ‬ ‫)سأ َ‬
‫ض ب ِغَي ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ص‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق(]العراف‪.[146:‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬يقول‬
‫الله تعالى‪ :‬الكيرياء ردائي‪ ،‬والعظمة إزاري‪ ،‬فمن نازعني‬
‫واحا ً منهما ألقيته في النار((‪.‬‬
‫‪362‬‬
‫) ‪(1/362‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬يحشر المتكبرون يوم‬


‫القيامة مثل الذر في صورة الرجال‪ ،‬يغشاهم الذل من‬
‫كل مكان((الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من تعاظم في نفسه‪،‬‬
‫واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬بينما رجل ممن كان قبلكم‬
‫يجر إزاره خيلء خسف الله به في الرض‪ ،‬فهو يتجلجل‬
‫فيها إلى يوم القيامة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل يدخل الجنة من في قلبه‬
‫مثقال ذرة من كبر((‪ ،‬فقال رجل‪ :‬يارسول الله‪ ،‬إن‬
‫الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ً ونعله حسنة؟ فقال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)) :‬إن الله جميل يحب الجمال‪ ،‬الكبر‬
‫بطر الحق ‪ -‬يعني ‪:‬رده ‪ -‬وغمط الناس ((‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫احتقارهم وازدراءهم‪.‬‬
‫فمن تعاظم في نفسه وأعجب بها‪ ،‬واحتقر الناس‬
‫واستصغرهم فهو المتكبر الممقوت‪.‬‬
‫والكبر إنما يكون في القلب‪ ،‬ولكن تكون له علمات في‬
‫الظاهر تدل عليه‪ ،‬فمنها‪ :‬حب التقدم على الناس‪ ،‬وإظهار‬
‫الترفع عليهم‪ ،‬وحب التصدر في المجالس‪ ،‬والتبختر‬
‫والختيال في المشية‪ ،‬والكتنكاف من أن يرد عليه كلمه‬
‫ل‪ ،‬والمتناع من قبول الحق‪ ،‬والستخفاف‬ ‫وإن كان باط ً‬
‫بضعفة المسلمين ومساكينهم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬تزكية النفس والثناء عليها‪ ،‬والفخر بالباء من أهل‬
‫الدين والفضل‪ ،‬والتبجح بالنسب‪ ،‬وذلك مذموم ومستقبح‬
‫‪363‬‬
‫) ‪(1/363‬‬

‫جدًا‪ ،‬وقد يبتلى به بعض أولد الخيار ممن ل بصيرة له ول‬


‫معرفة بحقائق الدين‪.‬‬
‫ومن افتخر على الناس بنفسه وبآبائه ذهبت بركتهم عنه‪،‬‬
‫لنهم ما كانوا يفترون ول يتكبرون على الناس‪ ،‬ولو فعلوا‬
‫ذلك لبطل فضلهم‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من‬
‫بطؤ به عمله لم يسرع به نسبه((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬يا فاطمة بنت‬
‫محمد‪ ،‬ويا صفية عمة رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫وسّلم‪ -‬ل أغني عنكم من الله شيئًا‪ ،‬اشتروا أنفسكم من‬
‫النار‪((...‬الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ل فضل لحمر على أسود‪،‬‬
‫ول لعربي على عجمي إل بتقوى الله‪ ،‬أنتم من آدم وآدم‬
‫من تراب((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬لينتهين أقوام عن الفخر‬
‫بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلن((‪.‬‬
‫فالفضل والكرم بالتقوى ل بالنسب‪ ،‬كما قال الله تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫)إ َ‬
‫م (]الحجرات‪.[13:‬‬‫عند َ الل ّهِ أت َْقاك ُ ْ‬ ‫مك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن أك َْر َ‬
‫ِ ّ‬
‫ولو أن النسان كان من أتقى الناس وأعلمهم وأعبدهم‪،‬‬
‫ثم تكبر على الناس وافتخر عليهم ل حبط الله تقواه‬
‫وأبطل عبادته‪ ،‬فكيف بالجاهل المخلط الذي يتكبر على‬
‫الناس بتقوى غير وصلح غيره من آبائه وأجداده؟! فهل‬
‫هذا إل جهل عظيم وحمق فظيع؟! وإن الخير كله في‬
‫التواضع والخشوع والخضوع لله تعالى‪ .‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)):‬من تواضع رفعه الله‪ ،‬ومن تكبر وضعه الله((‪.‬‬
‫‪364‬‬
‫) ‪(1/364‬‬

‫وإن حب الخمول والختفاء‪ ،‬وكراهية الشهرة والظهور‬


‫لمن أخلق صالحي المؤمنين‪ ،‬والرضا بالون من المجلس‪،‬‬
‫ومن اللباس والطعام وسائر أمتعة الدنيا كذلك أيضًا‪.‬‬
‫فاحرص أيها المؤمن على ذلك‪.‬‬
‫ماه رسول الله‬ ‫س ّ‬‫ومن أعظم المهلكات‪ ،‬الرياء‪ :‬وقد َ‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬بالشرك الصغر‪ ،‬والشرك‬
‫الخفي‪.‬‬
‫ومعنى الرياء‪ :‬طلب المنزلة والتعظيم عند الناس بعمل‬
‫الخرة‪ ،‬كالذي يصلي ويصوم‪ ،‬ويتصدق ويحج‪ ،‬ويجاهد‬
‫ويقرأ القرآن ‪ ،‬ليعظمه الناس لذلك ويكرموه أو يعطوه‬
‫من أموالهم‪ ،‬فذلك هوالمرائي‪ ،‬وعمله مردود‪ ،‬وسعيه‬
‫خائب‪ ،‬سواء فعل له الناس ما أمله منهم أو لم يفعلوه‬
‫مًل‬ ‫ل عَ َ‬‫م ْ‬ ‫جو ل َِقاء َرب ّهِ فَل ْي َعْ َ‬ ‫ن ي َْر ُ‬ ‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫له‪ .‬وقد قال تعالى‪):‬فَ َ‬
‫دا(]الكهف‪.[110:‬‬ ‫َ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫حا وََل ي ُ ْ‬
‫ح ً‬‫ك ب ِعَِباد َةِ َرب ّهِ أ َ‬ ‫صال ِ ً‬‫َ‬
‫ه‬
‫حْرث ِ ِ‬
‫ه ِفي َ‬ ‫خَرةِ ن َزِد ْ ل َ ُ‬ ‫ث اْل ِ‬ ‫حْر َ‬ ‫ريد ُ َ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫وقال تعالى‪َ ) :‬‬
‫من‬ ‫خَرةِ ِ‬ ‫ه ِفي اْل ِ‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫من َْها وَ َ‬‫ث الد ّن َْيا ُنؤت ِهِ ِ‬ ‫حْر َ‬ ‫ريد ُ َ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫من َ‬
‫كا َ‬ ‫وَ َ‬
‫ب(]الشورى‪.[20:‬‬ ‫صي ٍ‬ ‫نّ ِ‬
‫م‬‫صَلت ِهِ ْ‬ ‫عن َ‬ ‫م َ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن*ال ّ ِ‬ ‫صّلي َ‬‫م َ‬ ‫ل ل ّل ْ ُ‬‫وقال تعالى‪) :‬فَوَي ْ ٌ‬
‫ن(]الماعون‪:‬‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫من َُعو َ‬ ‫ن*وَي َ ْ‬ ‫ؤو َ‬ ‫م ي َُرا ُ‬‫ن هُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن*ال ّ ِ‬‫هو َ‬ ‫سا ُ‬ ‫َ‬
‫‪.[7-4‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪ )) :‬يقول الله تعالى‪ :‬أنا أغنى‬
‫‪365‬‬
‫) ‪(1/365‬‬

‫الغنياء عن الشرك فمن عمل عمل ً أشرك فيه غيري فأنا‬


‫منه بريء‪ ،‬ونصيبي لشريكي((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من صام يرائي فقد‬
‫أشرك‪ ،‬ومن صلى يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي‬
‫فقد أشرك((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من طلب الدنيا بعمل‬
‫الخرة طمس الله وجهه‪ ،‬ومحق ذكره‪ ،‬وأثبت اسمه في‬
‫النار((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من أحسن الصلة حيث‬
‫يراه الناس‪ ،‬وأساء الصلة حيث يخلو‪ ،‬فتلك استهان بها‬
‫ربه تبارك وتعالى((‪.‬‬
‫فالرياء مهلك وخطره عظيم‪ ،‬والحتراز منه واجب مهم‪،‬‬
‫وأشد أنواعه‪:‬أن يتجرد باعث الرياء في العبادة‪ ،‬بحيث‬
‫يصير أول ما يقتصده الناس‪،‬ويصير حريصا ً على اطلعهم‬
‫ونظرهم إليه‪ ،‬ولم يجد باعثا ً على العمل غير ذلك أص ً‬
‫ل‪،‬‬
‫ودون ذلك‪ :‬أن يقصد بعمله التقرب إلى الله تعالى وطلب‬
‫ثواب الخرة‪ ،‬ومع مراءاة الناس وطلب المحمدة عندهم‬
‫والمنزلة‪ ،‬وهذا قبيح محبط للثواب‪ ،‬والذي قبله أقبح‬
‫وأحبط وأخطر‪ ،‬ول يخلو صاحبه من الثم والعقاب‪.‬‬
‫فعلى المؤمن أن يجتهد في دفع الرياء عن نفسه‪ ،‬وأن ل‬
‫يكون له نية ول قصد في جميع طاعاته وعباداته إل‬
‫التقرب إلى الله وطلب ثواب الخرة‪ ،‬فبذلك يخلص من‬
‫الرياء‪ ،‬ويسلم من شره وبليته إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫ومهما خاف على نفسه الرياء فليخف أعماله ويفعلها في‬

‫‪366‬‬
‫) ‪(1/366‬‬
‫السّر‪ ،‬حيث ل يطلع عليه الناس‪ ،‬فبذلك أحوط وأسلم‪،‬‬
‫وهو أفضل مطلقا ً أعني العمل في السر حتى لمن لم‬
‫يخف على نفسه الرياء إل للمخلص الكامل‪ ،‬والذي يرجو‬
‫إذا ظهر العمل أن يقتدي به الناس فيه‪ .‬نعم ‪ ،‬ومن‬
‫العمال ما ل يتمكن النسان من فعله إل ظاهرًا‪ ،‬كتعلم‬
‫العلم وتعليمه‪ ،‬وكالصلة في الجماعة والحج والجهاد‪،‬‬
‫ونحو ذلك‪ .‬فمن خاف من الرياء حال فعله شيئا ً من هذه‬
‫العمال الظاهرة‪ ،‬فليس ينبغي له أن يتركه‪ ،‬بل عليه أن‬
‫يفعله‪ ،‬ويجتهد في دفع الرياء عن نفسه‪ ،‬ويستعين بالله‬
‫تعالى‪ ،‬وهو نعم المولى ونعم المعين‪.‬‬
‫ومن المهلكات‪ :‬الحسد للمسلمين‪ ،‬ومحبة الشر لحد‬
‫منهم‪ ،‬وإضمار العداوة والغش والحقد لهم‪ .‬وقلة الرحمة‬
‫بهم والشفقة عليهم‪ ،‬وسوء الظن بهم‪ ،‬فكل ذلك من‬
‫الصفات المهلكة‪.‬‬
‫أما الحسد‪ :‬فحسبك به ذما ً وقبحا ً أن الله تعالى أمر‬
‫رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬بالستعاذة من‬
‫شر الحاسد‪ ،‬كما أمره بالستعاذة من شر الشيطين فقال‬
‫د(]الفلق‪.[5:‬‬ ‫س َ‬
‫ح َ‬
‫ذا َ‬‫سدٍ إ ِ َ‬
‫حا ِ‬ ‫من َ‬
‫شّر َ‬ ‫تعالى‪):‬وَ ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬إياكم والحسد‪ ،‬فإن الحسد‬
‫يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب((‪ .‬وقال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)):‬ل يجتمع في جوف عبد اليمان‬
‫والحسد(( وهذا شديد فتأمله‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)):‬ل تحاسدوا ول‬
‫‪367‬‬
‫) ‪(1/367‬‬

‫تباغضوا ول تدابروا‪ ((...‬الحديث‪.‬‬


‫ومعنى الحسد‪ :‬أن يجد النسان في صدره وقلبه ضيقا‬
‫وحرجًا‪ ،‬وكراهية لنعمة أنعم الله بها على عبد من عباده‬
‫في دينه أو دنياه‪ ،‬حتى إنه ليحب زوالها عنه‪ ،‬وربما تمنى‬
‫ذلك وإن لم تصر إليه‪ .‬وذلك منتهى الخبث‪.‬‬
‫فمن وجد شيئا ً في نفسه من هذا الحسد لحد من‬
‫المسلمين فعليه أن يكرهه ويخفيه في نفسه‪ ،‬ول يظهره‬
‫بقول ول فعل‪ ،‬فلعله أن ينجو بذلك من شره‪.‬‬
‫وفي الحديث‪)):‬ثلث ل يخلو منهن أحد‪ :‬الحسد‪ ،‬والظن‪،‬‬
‫والطيرة‪.‬أفل أنبئكم بالمخرج من ذلك‪ :‬إذا حسدت فل تبغ‪،‬‬
‫وإذا ظننت فل تحقق‪ ،‬وإذا تطيرت فامض((‪ .‬أي‪ :‬ل ترجع‬
‫بسبب الطيرة عن المر الذي تريده‪.‬‬
‫وإن عمل الحاسد على ضد ما يتقاضاه الحسد من الثناء‬
‫على المحسود والسعي في أكرامه ومعاونته‪ ،‬كان له في‬
‫ذلك فضل‪ ،‬وهذا من أنفع الدوية في إزالة الحسد أو‬
‫تضعيفه‪.‬‬
‫ول بأس بالغبطة وهي أن تتمنى لنفسك مثل النعمة التي‬
‫تراها على أخيك من فضل الله‪ .‬ثم إن كان ذلك من النعم‬
‫الدينية كالعلم والعبادة كان محمودًا‪ ،‬وإن كان من النعم‬
‫الدنيوية كالمال والجاه المباح كان ذلك جائزا ً مباحًا‪.‬‬
‫ب الشّر لحد من المسلمين‪ ،‬وإضمار الغش‬ ‫وأما ح ّ‬
‫والعداوة والحقد‪ :‬فحسبك زاجرا ً عنه قوله عليه الصلة‬
‫والسلم‬

‫‪368‬‬
‫) ‪(1/368‬‬

‫‪)) :‬ل يومن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه((‪.‬‬


‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من غش المسلمين فليس‬
‫منهم((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬إن قدرت أن تصبح وتمسي‬
‫وليس في قلبك غش لحد فافعل‪ ،‬وذلك من سنتي((‪.‬‬
‫***‬
‫وأما قلة الرحمة بالمسلمين والشفقة عليهم‪ :‬فذلك يدل‬
‫على قساوة القلب‪ ،‬وعلى الفظاظة والغلظة‪ ،‬وكل ذلك‬
‫مذموم وقبيح‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬ارحم من‬
‫في الرض يرحمك من في السماء‪ ،‬ارحم ترحم‪ ،‬إنما‬
‫يرحم الله من عباده الرحماء((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ل تنزع الرحمة إل من‬
‫شقي((‪ .‬ومن لم يجد في قلبه رحمة وشفقة على جمع‬
‫المسلمين‪ ،‬ل سيما على أهل المصائب والبليا‪ ،‬وأهل‬
‫الضعف والمسكنة‪ ،‬فذلك لقساوة قلبه‪ ،‬وضعف إيمانه‪،‬‬
‫وبعده عن ربه‪.‬‬
‫وأما سوء الطن بالمسلمين‪ :‬فمذموم قبيح‪ ،‬قد قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)):‬خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير‪:‬‬
‫حسن الظن بالله‪ ،‬وحسن الظن بعباد الله‪ .‬وخصلتان‬
‫ليس فوقهما شيء من الشر‪ :‬سوء الظن بالله‪.‬وسوء‬
‫الظن بعباد الله((‪ .‬ومعنى سوء الظن بالمسلمين‪ :‬أن‬
‫تظن بهم السوء‬
‫‪369‬‬
‫) ‪(1/369‬‬

‫في أقوالهم وأفعالهم التي ظاهرها الخير‪ ،‬وتظنبهم خلف‬


‫ما يظهرون من ذلك هذا غايته‪.‬‬
‫وأيضًا‪ :‬أن تنزل أفعالهم وأقوالهم التي تحمل الخير والشر‬
‫على جانب الشر‪ ،‬ومع إمكان تنزيلها على جانب الخير‪،‬‬
‫فذلك من سوء الظن أيضًا‪ ،‬ولكنه دون الول‪ .‬وحسن‬
‫الظن بالمسلمين خلف ذلك كله‪ ،‬فما كان من أفعالهم‬
‫وأقوالهم ظاهره الخير حملته على الخير أو ظننت فيهم‬
‫الخير‪ .‬وما كان من القوال والفعال يحتمل الخير وغيره‪،‬‬
‫نزلته على الخير‪ ،‬فاعمل على ذلك جهدك‪ ،‬واستعن بالله‬
‫تعالى‪ .‬والله ولي التوفيق‪.‬‬
‫ومن المهلكات العظيمة‪ :‬حب الدنيا وإرادتها‪ ،‬وشدة‬
‫الحرص عليها والرغبة فيها‪ ،‬وحب الجاه والمال‪ ،‬وكثرة‬
‫الحرص عليهما‪ ،‬والشح والبخل‪ ،‬فيجمع هذه المذكورات‬
‫من الصفات المهلكات‪ ،‬والخلق المذمومات‪.‬‬
‫ومن أحب الدنيا وأرادها‪ ،‬واشتد حرصه عليها‪ ،‬وعظمت‬
‫رغبته فيها‪ :‬فقد تعرض بذلك لخطر عظيم‪ ،‬ووعيد من الله‬
‫ريد ُ ال ْ َ‬
‫حَياةَ الد ّن َْيا وَِزين َت ََها‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫من َ‬
‫كا َ‬ ‫شديد‪ .‬وقال الله تعالى‪َ ):‬‬
‫ن*أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫ك‬ ‫سو َ‬‫خ ُ‬‫م ِفيَها ل َ ي ُب ْ َ‬
‫م ِفيَها وَهُ ْ‬‫مال َهُ ْ‬
‫ف إل َيه َ‬
‫م أعْ َ‬ ‫ن ُوَ ّ ِ ْ ِ ْ‬
‫صن َُعوا ْ ِفيَها‬ ‫ما َ‬‫ط َ‬‫حب ِ َ‬‫خَرةِ إ ِل ّ الّناُر وَ َ‬
‫م ِفي ال ِ‬ ‫س ل َهُ ْ‬
‫ن ل َي ْ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن(]هود‪.[16-15:‬‬ ‫مُلو َ‬‫كاُنوا ْ ي َعْ َ‬‫ما َ‬ ‫ل ّ‬ ‫وََباط ِ ٌ‬
‫‪370‬‬
‫) ‪(1/370‬‬

‫شاء‬ ‫ما ن َ َ‬ ‫ه ِفيَها َ‬ ‫جل َْنا ل َ ُ‬ ‫ة عَ ّ‬ ‫جل َ َ‬ ‫ريد ُ ال َْعا ِ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫وقال تعالى‪ّ ) :‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫حوًرا*وَ َ‬ ‫مد ْ ُ‬ ‫ما ّ‬ ‫مو ً‬ ‫مذ ْ ُ‬ ‫ها َ‬ ‫صل َ‬ ‫ْ‬ ‫م يَ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ه َ‬ ‫جعَل َْنا ل َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ريد ُ ث ُ ّ‬ ‫من ن ّ ِ‬ ‫لِ َ‬
‫ُ‬
‫ن‬‫كا َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن فَأول َئ ِ َ‬ ‫م ٌ‬ ‫مؤ ْ ِ‬ ‫سعْي ََها وَهُوَ ُ‬ ‫سَعى ل ََها َ‬ ‫خَرةَ وَ َ‬ ‫أ ََراد َ ال ِ‬
‫كوًرا(]السراء‪.[19-18:‬‬ ‫ش ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سعْي ُُهم ّ‬ ‫َ‬
‫وقال تعالى مزهدا ً لعباده في الدنيا ومذكرا ً لهم بذهابها‬
‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ماء أنَزل َْناهُ ِ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا ك َ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫مث َ َ‬ ‫ب ل َُهم ّ‬ ‫ضرِ ْ‬ ‫وفنائها‪َ) :‬وا ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ط ب ِهِ ن ََبا ُ ْ‬ ‫خت َل َ َ‬
‫ما ت َذ ُْروهُ‬ ‫شي ً‬ ‫ح هَ ِ‬ ‫صب َ َ‬ ‫ض فَأ ْ‬ ‫ت الْر ِ‬ ‫ماء َفا ْ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫مْقت َدًِرا(]الكهف‪.[45:‬‬ ‫يٍء ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ح وَ َ‬ ‫الّرَيا ُ‬
‫ب وَل َهْوٌ وَِزين َ ٌ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫حَياةُ الد ّن َْيا ل َعِ ٌ‬ ‫ما ال ْ َ‬ ‫موا أن ّ َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬اعْل َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل غَي ْ ٍ‬
‫ث‬ ‫ل َواْلوَْلدِ ك َ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫كاث ٌُر ِفي اْل ْ‬ ‫م وَت َ َ‬ ‫خٌر ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫وَت ََفا ُ‬
‫ح َ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫طا ً‬ ‫ن ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫صَفّرا ث ُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ج فَت ََراهُ ُ‬ ‫م ي َِهي ُ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫ب ال ْك ُّفاَر ن ََبات ُ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫أعْ َ‬
‫ما‬‫ن وَ َ‬ ‫وا ٌ‬ ‫ض َ‬ ‫ن الل ّهِ وَرِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مغِْفَرةٌ ّ‬ ‫ديد ٌ وَ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫خَرةِ عَ َ‬ ‫وَِفي اْل ِ‬
‫مَتاعُ ال ْغُُروِر(]الحديد‪.[20:‬‬ ‫حَياةُ الد ّن َْيا إ ِّل َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫حَياةَ الد ّن َْيا*فَإ ِ ّ‬ ‫من ط ََغى*َوآث ََر ال ْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫وقال تعالى‪ ):‬فَأ ّ‬
‫مأ َْوى(]النازعات‪.[39-37:‬‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫م هِ َ‬ ‫حي َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ب الدنيا رأس‬ ‫وقال نبي الله عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ح ّ‬
‫كل خطيئة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬لو كانت الدنيا تزن عند الله‬
‫جناح بعوضة ما سقى كافرا ً منها شربة ماء((‪ .‬وقالص‪:‬‬
‫))الدنيا دار من ل دار له‪ ،‬ومال من ل مال له‪ ،‬ولها يجمع‬
‫من ل عقل له((‪.‬‬
‫‪371‬‬
‫) ‪(1/371‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬الدنيا ملعونة‪ ،‬ملعون ما‬
‫فيها إل ذكر الله‪ ،‬وعالمًاأو متعلمًا((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من أخذ من الدنيا فوق ما‬
‫يكفيه أخذ حتفه وهو ل يشعر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ليكن بلغ أحدكم من الدنيا‬
‫كزاد الراكب((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من أصبح وهمه الدنيا شتت‬
‫الله عليه أمره‪ ،‬وفرق عليه ضيعته‪ ،‬وجعل فقره بين‬
‫عينيه‪ ،‬ولم يأته من الدنيا إل ما كتب له((الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬الزهادة في الدنيا تريخ‬
‫القلب والبدن‪ ،‬والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن‪،‬‬
‫والبطالة تقسي القلب((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬نجا أول هذه المة بالزهد‬
‫واليقين‪ ،‬وسيهلك آخرها بالحرص وطول المل((‪.‬‬
‫وما ورد من اليات والخبار والثار‪ ،‬في ذم الدنيا وذم‬
‫المحبين لها‪ ،‬والراغبين فيها‪ ،‬وذم الحرص عليها خارج عن‬
‫الحصر‪.‬‬
‫وتصانيف العلماء ‪ -‬رحمة الله عليهم ‪ -‬من السلف‬
‫والخلف مشحونة بذلك‪.‬‬
‫ثم إن الدنيا عبارة عن كل ما على وجه الرض من‬
‫‪372‬‬
‫) ‪(1/372‬‬

‫المشتهيات واللذات‪ ،‬وأصناف االمتعة التي تشتهيها‬


‫النفوس وتميل إليها‪ ،‬وتحرص عليها‪ .‬وقد جمع الله أصول‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫شه َ َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬‫س ُ‬ ‫ن ِللّنا ِ‬ ‫ذلك كله في قوله تعالى‪ُ ):‬زي ّ َ‬
‫ة‬
‫ض ِ‬ ‫ب َوال ِْف ّ‬ ‫ن الذ ّهَ ِ‬‫م َ‬ ‫مَقنط ََرةِ ِ‬ ‫طيرِ ال ْ ُ‬
‫ن َوال َْقَنا ِ‬ ‫ساء َوال ْب َِني َ‬ ‫الن ّ َ‬
‫مَتاعُ ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫مةِ َوالن َْعام ِ َوال ْ َ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا(‬ ‫ك َ‬ ‫ث ذ َل ِ َ‬
‫حْر ِ‬ ‫سو ّ َ‬‫م َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫خي ْ ِ‬‫َوال ْ َ‬
‫]آل عمران‪.[14:‬‬
‫فمن أحب ذلك ورغب فيه‪ ،‬واشتد حرصه عليه‪ ،‬وليس له‬
‫غرض في ذلك إل مجرد التمتع والتلذذ والتنعم‪ ،‬صار بذلك‬
‫من جملة المحبين للدنيا والرغبين فيها‪ ،‬فإن أفرط به ذلك‬
‫وغلب عليه‪ ،‬حتى لم يبال من أين أخذ الدنيا من حلل أم‬
‫من حرام‪ ،‬وحتى اشتغل بسبب حرصه على الدنيا وسعيه‬
‫لها عما فرض الله عليه من طاعته‪ ،‬ووقع بسببه فيما‬
‫حرم الله عليه من معصيته‪ ،‬فقد تحقق في حقه الوعيد‬
‫الوارد في المحبين للدنيا‪ ،‬والمريدين لها‪ ،‬والرغبين فيها‬
‫من غير شك‪ .‬وصار أمره في نهاية الخطر إل أن يتداركه‬
‫الله بتوبة قبل مماته‪ ،‬وقبل خروجه من هذه الدار‪.‬‬
‫***‬
‫ب الجاه والمال‪ ،‬وكثرة الحرص عليهما‪ :‬فمذموم‬ ‫وأما ح ّ‬
‫ن َل‬
‫ذي َ‬‫جعَل َُها ل ِل ّ ِ‬ ‫خَرةُ ن َ ْ‬ ‫داُر اْل ِ‬ ‫جدًا‪ ،‬وقال الله تعالى‪):‬ت ِل ْ َ‬
‫ك ال ّ‬
‫ن عُل ُوا ِفي اْل َ‬
‫ن(‬
‫مت ِّقي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫دا َوال َْعاقِب َ ُ‬ ‫ض وََل فَ َ‬
‫سا ً‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫دو َ‬
‫ري ُ‬
‫يُ ِ‬
‫]القصص‪.[83:‬‬
‫‪373‬‬
‫) ‪(1/373‬‬

‫م وََل‬ ‫وقال تعالى‪) :‬يا أ َيها ال ّذين آمنوا َل تل ْهك ُ َ‬


‫وال ُك ُ ْ‬
‫م َ‬‫مأ ْ‬ ‫ُ ِ ْ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫َ َّ‬
‫ُ‬
‫ك فَأوْل َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ك هُ ُ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬
‫من ي َْفعَ ْ‬‫عن ذِك ْرِ الل ّهِ وَ َ‬‫م َ‬‫أوَْلد ُك ُ ْ‬
‫ن(]المنافقون‪.[9:‬‬ ‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وقال تعالى‪) :‬إنمآ أمولكم وأولدكم فتنة(]التغابن‪.[15:‬‬
‫سل في‬ ‫ُ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ما ذئبان جائعان أر ِ‬
‫زريبة غنم بأفسد لها من حب المال والشرف في دين‬
‫ب المال والجاه‬ ‫الرجل المسلم((‪ .‬ومعنى ذلك‪ :‬أن ح ّ‬
‫يفسدان دين صاحبهما أكثر مما يفسد الذئبان الجائعان إذا‬
‫أرسل في الغنم ‪.‬‬
‫فمن اشتد ّ حرصه على الجاه و المال ‪ ،‬و طلب المنزلة ‪،‬‬
‫و التعظيم في قلوب الناس فقد تعّرض بذلك لفات كثيرة‬
‫؛ كالك ِب ْرِ والرياء ‪ ،‬والتزّين و التصّنع‪ ،‬و ترك التواضع للحق‬
‫و أهله ‪ ،‬وكراهية الخمول ‪ ،‬إلى غير ذلك من البلّيات ‪.‬‬
‫ب من عباده التقياء الخفياء‬ ‫و في الحديث ‪ )) :‬إن الله يح ّ‬
‫ن ل يؤبه له‬ ‫طمري ِ‬ ‫ث أغبَر ذي ِ‬ ‫ب أشع َ‬ ‫البرياء (( و فيه )) ُر ّ‬
‫لو أقسم على الله لبّره (( ‪.‬‬
‫ومن اشتذ ّ حرصه على المال فقد تعّرض بذلك لخطار‬
‫عظيمة ‪ ،‬و بلّيات جسيمة ‪ ،‬إن لم يحفظه الله و يتداركه‬
‫برجمته ‪.‬‬
‫ب الجاهِ و المال و من الحرص عليهما ‪:‬‬
‫ح ّ‬
‫والمذموم من ُ‬
‫‪374‬‬
‫) ‪(1/374‬‬

‫شدة ذلك وإفراطه‪ ،‬حتى يطلبهما النسان ويتسبب في‬


‫حصولهما بكل وجه يمكته من جائز وغير جائز‪ ،‬ويصير‬
‫بهما في شغل شاغل عن لبتفرغ لعبادة الله وذكره‪ ،‬كما‬
‫يقع كثيرا ً لبعض المفتونين الغافلين عن الله تعالى‪.‬‬
‫فأما من طلب ذلك بنية صالحة للستعانة به على الخرة‪،‬‬
‫وصيانة الدين والنفس عن تعدي الظالمين‪ ،‬وعن الحاج‬
‫إلى الناس‪ ،‬ولم يشتغل بسبب ذلك عن عبادة الله تعالى‬
‫وذكره‪ ،‬ولم تفارقه التقوى والخوف من الله‪ ،‬فذلك مما ل‬
‫بأس به ول حرج فيه إن شاء الله تعالى‪ .‬وعلى كل حال‪،‬‬
‫فقلة الحرص على الجاه والمال وترك الرغبة فيهما أسلم‬
‫وأحوط‪ ،‬وأقرب إلى التقوى‪ ،‬وأشبه بهدي السلف الصالح‪.‬‬
‫***‬
‫وأما الشح والبخل‪ :‬فقبيحان مهلكان‪ ،‬قال الله تعالى‪:‬‬
‫ن(]الحشر‪[9:‬‬ ‫حو َ‬ ‫مْفل ِ ُ‬‫م ال ْ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫سهِ فَأ ُوْل َئ ِ َ‬ ‫ح ن َْف ِ‬ ‫ش ّ‬‫من ُيوقَ ُ‬ ‫)و َ َ‬
‫من‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬
‫ن بِ َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫سب َ ّ‬‫ح َ‬‫وقال تعالى‪):‬وَل َ ي َ ْ‬
‫خُلوا ْ ب ِ ِ‬
‫ه‬ ‫ما ب َ ِ‬
‫ن َ‬ ‫سي ُط َوُّقو َ‬ ‫م َ‬ ‫شّر ل ّهُ ْ‬ ‫ل هُوَ َ‬ ‫م بَ ْ‬‫خي ًْرا ل ّهُ ْ‬‫ضل ِهِ هُوَ َ‬ ‫فَ ْ‬
‫ة(]آل عمران‪.[180:‬‬ ‫م ِ‬‫م ال ِْقَيا َ‬‫ي َوْ َ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬اتقوا الشح‪ ،‬فإن الشح‬
‫أهلك من كان قبلكم‪ ،‬حملهم على أن سفكوا دماءهم‬
‫واستحلوا محارمهم((‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫))البخيل‬
‫‪375‬‬
‫) ‪(1/375‬‬
‫بعيد من الله‪ ،‬بعيد من الناس‪ ،‬بعيد من الجنة‪ ،‬قريب من‬
‫النار((‪ .‬الحديث‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬السخاء‬
‫شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا‪ ،‬فمن تعلق بغصن‬
‫منها قاده إلى الجنة‪ ،‬فل يلج الجنة إل سخي‪ .‬والبخل‬
‫شجرة في النار وأغصانها في الدنيا‪ ،‬فمن تعلق بغصن‬
‫منها قاده إلى النار‪ ،‬فل يلج النار إل بخيل((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إل وإن كل جواد في الجنة‪،‬‬
‫حتم على الله وأنا به كفيل‪ .‬إل وإن كل بخيل في النار‪،‬‬
‫حتم على الله وأنا به كفيل((‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)) :‬الجاهل السخي أحب إلى الله من العالم‬
‫البخيل((‪.‬‬
‫فقد علمت شدة ذم الشح والبخل وقبحهما‪.‬‬
‫والشح‪ :‬هو البخل المفرط الشديد‪ ،‬وهو كما قال بعض‬
‫العلماء رحمهم الله‪ :‬حرص النسان على أخذ ما في أيدي‬
‫الناس‪.‬‬
‫وأما البخل‪ :‬فهو بخل النسان بما في يده‪ .‬وغايته‪ :‬أن‬
‫يبخل النسان بإخراج الحقوق الواجبة عليه في ماله كالز‬
‫كاة وما في معناها‪ .‬ومن كان كذلك فهو البخيل حقًا‪،‬‬
‫المتعرض للذم والوعيد الواردين في البخل‪.‬‬
‫وأما من بخل بالنفاق في وجوه الخيرات‪ ،‬وطرائق‬
‫القربات مع التمكن من ذلك فحاله أهون من حال الذي‬
‫قبله‪،‬‬
‫‪276‬‬
‫) ‪(1/376‬‬

‫ويسمى بخيل ً أيضًا‪ ،‬لنه قد آثر المال ورغب في أمساكه‪،‬‬


‫وبخل ببذله فيما هو أرفع له وأنفع عند ربه من الدرجات‬
‫العلى‪ ،‬والخيرات الباقية في الدار الخرة‪.‬‬
‫ب‬
‫وما دام النسان يرجح أمساك المال على بذله في محا ّ‬
‫الله ومراضيه فهو غير خال عن شيء من البخل‪ .‬ول‬
‫ل المال في‬‫يكون النسان جوادا ً سخيا ً حتى يكون بذ ُ‬
‫ب إليه من أمساكه‪ .‬فاعلم‬ ‫ح عنده وأح ّ‬ ‫محاب الله أرج َ‬
‫ذلك واعمل عليه‪ ،‬والله يتولى هداك‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المهلكات‪ :‬الغرور‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن يلبس النسان على‬
‫نفسه‪ ،‬ويريها المور على خلف ما هي عليه‪ ،‬وذلك‬
‫لضعف بصيرته في الدين‪ ،‬وقلة معرفته بحقائقه‪ ،‬ولجهله‬
‫بآفات العمال ومكائد الشيطان‪ ،‬ولغلبة هوى النفس‬
‫عليه‪ ،‬وركونه إلى أمانيها وخدعها‪ ،‬وقد قال الله تعالى‬
‫َ‬
‫ق‬ ‫ن وَعْد َ الل ّهِ َ‬
‫ح ّ‬ ‫س إِ ّ‬ ‫محذرا ً لعباده من الغرور‪َ ) :‬يا أي َّها الّنا ُ‬
‫كم ِبالل ّهِ ال ْغَُروُر(]فاطر‪:‬‬ ‫حَياةُ الد ّن َْيا وََل ي َغُّرن ّ ُ‬
‫م ال ْ َ‬
‫فََل ت َغُّرن ّك ُ ُ‬
‫‪.[5‬‬
‫ض ّ‬
‫ل‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫وقال تعالى في وصف بعض المغترين‪) :‬ال ّ ِ‬
‫ن‬ ‫سعيهم في ال ْحياة الدنيا وهُم يحسبو َ‬
‫سُنو َ‬ ‫ح ِ‬‫م يُ ْ‬‫ن أن ّهُ ْ‬
‫َ َ ِ َّْ َ ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ ُُْ ْ ِ‬
‫صن ًْعا(]الكهف‪.[104:‬‬ ‫ُ‬

‫‪377‬‬
‫) ‪(1/377‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫مُر الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫جاء أ ْ‬
‫حّتى َ‬
‫ي َ‬ ‫م اْل َ‬
‫مان ِ ّ‬ ‫م وَغَّرت ْك ُ ُ‬‫وقال تعالى‪َ) :‬واْرت َب ْت ُ ْ‬
‫كم ِبالل ّهِ ال ْغَُروُر(]الحديد‪.[14:‬‬ ‫وَغَّر ُ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬الكيس من دان نفسه‬
‫وعمل لما بعد الموت‪ ،‬والعاجز من أتبع نفسه هواها‬
‫وتمنى على الله الماني ((‪.‬‬
‫وأنواع الغرور كثيرة‪ ،‬وأصناف المغترين من المطيعين‬
‫ومن العاصين كثيرة‪ .‬ومن أمثال الغرور في أهل‬
‫الطاعات‪ :‬أن يطلب النسان العلم ويسوف العمل‪ ،‬ثم‬
‫يحتج لنفسه بما ورد في فضل العلم وفضل طلبه‪ ،‬ويغفل‬
‫عما ورد من الذم والوعيد الشديد في حق من ل يعمل‬
‫بعلمه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يتعلم ويعلم للرياسة والطمع في الناس‪ ،‬ويظن‬
‫بنفسه أنه يتعلم ويعلم لله‪ ،‬ول يناقش نفسه ول يختبرها‬
‫بأحوال أهل الخلص‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يكثر الصلة والضصيام وأفعال الخير‪ ،‬ثم يعجب‬
‫بنفسه‪ ،‬وينظر إلى حوله وقوته‪ ،‬وينسى منة الله عليه في‬
‫توفيقه وهدايته‪ ،‬والعجب محبط للعمال‪ ،‬أو يرائي بعبادته‬
‫ويطلب بها المنزلة عند الناس‪ ،‬ويظن بنفسه الخلص‬
‫وإرادة التقرب إلى الله‪.‬‬
‫وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه‪ :‬حّبذا نوم الكياس‬
‫وفطرهم! كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم‪ ،‬ولذرة من‬
‫صاحب يقين وتقوى أفضل من أمثال الجبال من أعمال‬
‫المغترين‪.‬‬
‫‪378‬‬
‫) ‪(1/378‬‬

‫ومن أمثال غرور العصاة‪ :‬أن يعصي النسان ثم يتوب‪،‬‬


‫ويستغفر بلسانه من غير معرفة بشرائط التوبة وتحقيقها‪،‬‬
‫ثم يظن بنفسه أنه قد تاب وقد غفر الله له‪.‬‬
‫صر في‬ ‫ومنها‪ :‬أن يكثر المعاصي ويصّر عليها‪ ،‬ويق ّ‬
‫الواجبات‪ ،‬ثم يحتج لنفسه بالقدر‪ ،‬وأنه ل ختيار له ول‬
‫قدرة على ترك ما قد كتب عليه‪ ،‬وهذا غرور عظيم‪،‬‬
‫والقائل به مبتدع وليس من أهل السنة‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أماني المغفرة مع التقصير عن امتثال الوامر‬
‫واجتناب المحارم‪ .‬وقول بعض العصاة والمقصرين‪ :‬إن‬
‫الله غني عّنا وأعمالنا‪ ،‬وليس تضّره الذنوب ول تنفعه‬
‫الطاعات‪ .‬وهذا الكلم حقّ ُأريد به باطل‪ ،‬وقد ألقاه‬
‫الشيطان في قلب هذا المتمني‪ ،‬وأجراه على لسانه‬
‫ليقطعه به عن المغفرة‪ ،‬وعن السعي لها الذي أمره الله‬
‫به‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اّتكال بعض العصاة والمخلطين على صلح آبائهم‬
‫وأجدادهم من أهل العلم والصلح‪ ،‬مع ترك الفدقتداء بهم‬
‫في أخلقهم وأفعلهم وأقوالهم الصالحة‪ .‬وذلك من الغرور‬
‫المذموم‪ ،‬والحمق الفاحش‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اغترار بعض العصاة برؤية الصالحين وخدمتهم‪،‬‬
‫وحسن الظن بهم مع المجانبة والمباعدة لما هم عليه من‬
‫الخير والصلح‪ ،‬والملزمة لطاعة الله‪.‬‬
‫جي منها إل الرجوعُ‬
‫دم‪ ،‬ول ين ّ‬
‫وأنواع الغرور كثيرة كما تق ّ‬
‫‪379‬‬
‫) ‪(1/379‬‬

‫ض فضله وكرمه‪ ،‬مع الحزم‬ ‫إلى الله‪ ،‬والّتكال على مح ِ‬


‫والحتياط والتشمير في طاعته‪ ،‬والجد ّ والجتهاد في‬
‫عبادته‪ ،‬ومع اجتناب معصيته‪ ،‬والشكر له على ذلك مع‬
‫ل شيء من واجب‬ ‫العتراف بغاية التقصير عن القيام بأق ّ‬
‫حّقه‪ ،‬ومع ملزمة النكسار‪ ،‬ونهاية الفتقار إليه‪ ،‬ومع دوام‬
‫التضرع والدعاء‪ ،‬ولزوم الستغفار آناء الليل والنهار‪.‬‬
‫وما توفيقي إل بالله ‪ ،‬عليه توكلت وإليه أنيب‪.‬‬
‫***‬

‫‪380‬‬
‫) ‪(1/380‬‬

‫*************‬
‫*************‬
‫مبحث المنجيات‬
‫*************‬
‫*************‬
‫) ‪(1/381‬‬

‫*************‬
‫*************‬
‫***‬
‫*************‬
‫*************‬
‫) ‪(1/382‬‬
‫مبحث المنجيات‬
‫*************‬
‫وأما المنجيات التي يجب تحلية القلب واتصافه بها‬
‫فكثيرة‪ ،‬فنذكر شيئا ً من أمهاتها‪ ،‬وننبه عليها بكلم مجمل‬
‫وجيز‪ ،‬إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫فمن أعظم المنجيات التوبة إلى الله تعالى‪ :‬من جميع‬
‫الذنوب‪ .‬وقد أمر الله عز وجل عباده بالتوبة‪ ،‬ورغبهم‬
‫ميًعا‬‫ج ِ‬ ‫فيها‪ ،‬ووعدهم بقبولها فقال تعالى‪) :‬وَُتوُبوا إ َِلى الل ّهِ َ‬
‫َ‬
‫ن(]النور‪.[31:‬‬ ‫حو َ‬ ‫م ت ُْفل ِ ُ‬ ‫ن ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫أي َّها ال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬
‫مُنوا ُتوُبوا إ َِلى الل ّهِ ت َوْب َ ً‬ ‫َ‬
‫حا‬‫صو ً‬ ‫ة نّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ) :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫(]التحريم‪.[8:‬‬
‫ن(‬ ‫ري َ‬‫مت َط َهّ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن وَي ُ ِ‬ ‫واِبي َ‬ ‫ب الت ّ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫]لبقرة‪.[222:‬‬
‫َ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ح فَإ ِ ّ‬ ‫صل َ َ‬
‫مهِ وَأ ْ‬ ‫من ب َعْدِ ظ ُل ْ ِ‬ ‫ب ِ‬ ‫من َتا َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬فَ َ‬
‫م(]المائدة‪.[39:‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ه غَُفوٌر ّر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ب عَل َي ْهِ إ ِ ّ‬ ‫ي َُتو ُ‬
‫ن‬‫عَبادِهِ وَي َعُْفو عَ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫ة عَ ْ‬ ‫ل الت ّوْب َ َ‬ ‫ذي ي َْقب َ ُ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫ن( ]الشورى‪.[25:‬‬ ‫ما ت َْفعَُلو َ‬ ‫م َ‬ ‫ت وَي َعْل َ ُ‬ ‫سي َّئا ِ‬
‫ال ّ‬
‫‪383‬‬
‫) ‪(1/383‬‬

‫وقال النبي عليه الصلة والسلم ‪)) :‬التائب من الذنب‬


‫كمن ل ذنب له((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬إن الله يبسط يده‬
‫بالنهار ليتوب مسي الليل‪ ،‬ويبسط يده بالليل ليتوب‬
‫مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها((‪.‬‬
‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ )) : -‬يا أيها الناس‪ ،‬توبوا‬
‫إلى ربكم قبل أن تموتوا‪ ،‬وبادروت بالعمال الصالحة قبل‬
‫أن تشغلوا‪ ،‬وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم‬
‫له((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إن الله تعالى يقبل توبة‬
‫العبد ما لم يغرغر((أي‪ :‬تبلغ روحه إلى الحلقوم حين‬
‫الموت‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من تاب تاب الله عليه((‪.‬‬
‫***‬
‫ثم أعلم ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬أن التوبة ليست هي قول العبد‬
‫بلسانه‪ :‬أستغفر الله وأتوب إليه ‪ ،‬ومن غير ندم بالقلب‪،‬‬
‫ومن غير إقلع عن الذنب‪.‬‬
‫وقد ذكر العلماء ‪ -‬رحمهم الله ‪ -‬للتوبة شرائط ل بد منها‪،‬‬
‫ول تتم التوبة إل بها‪ ،‬وهي ثلثة‪:‬‬
‫الول‪ :‬الندم بالقلب على الذنوب السالفة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬القلع عن الذنب‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن ل يتوب من ذنب‬
‫وهو مقيم عليه وملزم له‪.‬‬
‫‪384‬‬
‫) ‪(1/384‬‬

‫الثالث‪ :‬العزم على أن ل يعود إلى الذنوب ما عاش‪.‬‬


‫وهذه الثلث ل بد منها في التوبة من الذنوب التي تكون‬
‫بين العبد وبين ربه‪ .‬ويزيد عليها شرط رابع في الذنوب‬
‫التي تكون بين العبد وبين غيره من العباد‪.‬‬
‫وبيان ذلك‪:‬أنه إن ضلم أحدا ً من الميين في نفس أو‬
‫عرض أو مال‪ ،‬وجب عليه أن يرد حقه إليه بتمكينه من‬
‫القصاص في المظالم النفسية‪ ،‬ورد المظالم المالية‪،‬‬
‫وطلب الحلل في المظالم العرضية‪ .‬وعليه بذل جهده‬
‫في ذلك وإمكانه‪ .‬وكذلك يجب عليه إذا تاب من ترك‬
‫شيء من الفرائض اللزمة كالصلة والزكاة‪:‬أن يتدارك ما‬
‫فاته من ذلك بالقضاء حسب الستطاعة والمكان‪.‬‬
‫فإذا تاب ذنوبه على الوجه الذي وصفناه فينبغي له أن‬
‫يكون بين الخوف والرجاء‪ ،‬ويرجو من ربه قبول توبته‬
‫بفضله وكرمه‪ ،‬ويخاف من عدم قبول التوبه مخافة أنه لم‬
‫يأت بالتوبة على وجهها الذي أمره الله به‪ ،‬فيكون غير‬
‫تائب عند الله‪.‬‬
‫وينبغي كل مؤمن ويجب عليه وجوبا ً متأكدًا‪ :‬أن يحترز من‬
‫جميع الذنوب احترازا ً كليا ً لن فيها سخط الله ومقته‪،‬‬
‫وهي السبب في جميع البليات والهلكات التي تحل بالعباد‬
‫في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ثم إن وقع في شيء من الذنوب وجب عليه أن يبادر‬
‫بالتوبة‬
‫‪385‬‬
‫) ‪(1/385‬‬

‫إلى الله من ذنبه من غير إصرار‪ ،‬ول أقامة على الذنب‪،‬‬


‫ول رضًابه‪.‬‬
‫وينبغي لكل مؤمن أن ل يزال تائبا ً إلى الله‪ ،‬ومجددا ً‬
‫للتوبة في كل حال وحين‪ ،‬وذلك لن الذنوب كثيرة‪ ،‬ومنها‬
‫الصغائر والكبائر‪ ،‬والذنوب الباطنة‪ ،‬والذنوب الظاهرة‪،‬‬
‫وذنوب يعلمها العبد‪ ،‬وذنوب ل يعلمها‪ ،‬وقد يؤاخذ بها من‬
‫حيث إنه قصر في طلب العلم بكونها ذنوبًا‪ ،‬أو من حيث‬
‫إن لها مقدمات وسوابق داخلة في العلم والختيار‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المتأكد المهم‪ :‬الكثار من الستغفار‪ ،‬قفد أمر الله‬
‫ه غَُفوٌر‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ست َغِْفُروا ْ الل ّ َ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫به‪ ،‬ورغب فيه فقال تعالى‪َ ):‬وا ْ‬
‫م(]البقرة‪.[199:‬‬ ‫حي ٌ‬‫ّر ِ‬
‫وقال تعالى لرسوله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪: -‬‬
‫ت(]الذاريات‪.[18:‬‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬
‫مؤ ْ ِ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ك وَل ِل ْ ُ‬
‫ذنب ِ َ‬
‫ست َغِْفْر ل ِ َ‬
‫) َوا ْ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬من لزم الستغفار جعل‬
‫الله له من كل هم فرجًا‪ ،‬ومن كل ضيق مخرجًا‪ ،‬ورزقه‬
‫من حيث ل يحتسب((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬طوبى لمن وجد في‬
‫صحيفته استغفارا ً كثيرًا((‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫) ‪(1/386‬‬
‫وحسبك في فضل الستغفار ومنافعه وفوائده قوله‬
‫َ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ت ِفيهِ ْ‬ ‫م وَأن َ‬ ‫ه ل ِي ُعَذ ّب َهُ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫ن(]النفال‪.[33:‬‬ ‫ست َغِْفُرو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫م وَهُ ْ‬ ‫معَذ ّب َهُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ت‬ ‫ْ‬
‫وقوله تعالى مخبرا عن نبيه نوح عليه السلم‪ ) :‬فَُقل ُ‬ ‫ً‬
‫كم‬ ‫ماء عَل َي ْ ُ‬‫س َ‬‫ل ال ّ‬ ‫س ِ‬ ‫ن غَّفاًرا * ي ُْر ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ست َغِْفُروا َرب ّك ُ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫َ‬
‫ت‬‫جّنا ٍ‬ ‫جَعل ل ّك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ن وَي َ ْ‬‫ل وَب َِني َ‬ ‫وا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫مدِد ْك ُ ْ‬ ‫مد َْراًرا * وَ ي ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫م أن َْهاًرا(]نوح‪.[12-10:‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫جَعل لك ْ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫فالتوبة والستغفار من كنوز الخيرات‪ ،‬ومن أعظم أبواب‬
‫القربات والبركات‪ ،‬ومن أوصل الوسائل إلى جميع خيرات‬
‫الدنيا والخرة‪.‬‬
‫فعليكم ‪ -‬رحمكم الله ‪ -‬بلزوم التوبة والستغفار آناء الليل‬
‫والنهار‪ .‬ثم إن الشيطان لعنه الله قد يخدع بعض الغبياء‬
‫من المسلمين فيقول له‪ :‬كيف تتوب وأنت ل تعرف من‬
‫نفسك الثبات على التوبة؟! وكم تتوب ثم تعود إلى‬
‫الذنب؟! ويلقي عليه وساوس من هذا الجنس؛ فليحذره‬
‫المسلم ول يغتّر‪ ،‬ول يأخذ بتزويره وتلبيسه‪ ،‬وقد قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ )) :‬ما أصّر من استغفر ولو عاد في‬
‫اليوم سبعين مرة((‪.‬‬
‫وعلى العبد أن يتوب‪ ،‬ويسأل من ربه العانة والتثبيت‪ .‬ثم‬
‫إن غلبته نفسه على العود إلى الذنب فليغلبها على العود‬
‫إلى التوبة‪ .‬والله الموفق والمعين‪.‬‬
‫ومن المنجيات الرجاء في الله والخوف من الله‪ :‬والرجاء‬
‫والخوف من المقامات الشريفة‪ ،‬وقد وصف الله بهما‬
‫أنبياءه‬

‫‪387‬‬
‫) ‪(1/387‬‬

‫والمرسلين وأتباعهم بإحسان من صالحي المؤمنين قال‬


‫سيل َ َ‬
‫ة‬ ‫م ال ْوَ ِ‬
‫ن إ َِلى َرب ّهِ ُ‬ ‫ن ي َب ْت َُغو َ‬
‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬‫ذي َ‬ ‫الله تعالى‪ُ):‬أول َئ ِ َ‬
‫ك ال ّ ِ‬
‫ب َرب ّ َ‬ ‫أ َيه َ‬
‫ك‬ ‫ذا َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫ن عَ َ‬
‫ذاب َ ُ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫ه وَي َ َ‬‫مت َ ُ‬‫ح َ‬‫ن َر ْ‬ ‫جو َ‬ ‫ب وَي َْر ُ‬‫م أقَْر ُ‬‫ُّ ْ‬
‫ذوًرا(]السراء‪.[57:‬‬ ‫ح ُ‬
‫م ْ‬‫ن َ‬‫كا َ‬‫َ‬
‫عون ََنا‬
‫ت وَي َد ْ ُ‬ ‫خي َْرا ِ‬‫ن ِفي ال ْ َ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫كاُنوا ي ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫وقال تعالى‪ ) :‬إ ِن ّهُ ْ‬
‫ن(]النبياء‪[90:‬‬ ‫شِعي َ‬ ‫خا ِ‬ ‫كاُنوا ل ََنا َ‬ ‫َرغًَبا وََرهًَبا وَ َ‬
‫دوا ْ ِفي‬ ‫جاهَ ُ‬ ‫جُروا ْ وَ َ‬ ‫ها َ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫مُنوا ْ َوال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫وقال تعالى‪ ) :‬إ ِ ّ‬
‫م(‬‫حي ٌ‬ ‫ه غَُفوٌر ّر ِ‬ ‫ت الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫م َ‬‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫جو َ‬ ‫ك ي َْر ُ‬ ‫ل الل ّهِ أ ُوْل َئ ِ َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫َ‬
‫]البقرة‪.[218:‬‬
‫ب‬‫ن َرب ُّهم ِبال ْغَي ْ ِ‬ ‫شو ْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ن*ال ّ ِ‬ ‫مت ِّقي َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَذِك ًْرا ل ّل ْ ُ‬
‫ن(]النبياء‪.[49-48:‬‬ ‫فُقو َ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ساعَةِ ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫هم ّ‬ ‫وَ ُ‬
‫م إ َِلى‬ ‫َ‬ ‫جل َ ٌ‬
‫ة أن ّهُ ْ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫ما آَتوا وّقُُلوب ُهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ي ُؤُْتو َ‬ ‫ذي َ‬‫وقال تعالى‪َ):‬وال ّ ِ‬
‫ن(]المؤمنون‪.[60:‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫م َرا ِ‬‫َرب ّهِ ْ‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬يقول‬
‫الله تعالى‪ :‬أنا عند ظن عبدي بي‪ ،‬وأنا معه حين‬
‫يذكرني‪((...‬الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬يقول الله تعالى‪ :‬يا ابن‬
‫آدم‪ ،‬إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك‬
‫ول أبالي‪ ،‬ابن آدم‪ ،‬لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم‬
‫استغفرتني غفرت لك‪ ،‬ابن آدم‪ ،‬إنك لو أتيتني بقراب‬
‫الرض خطايا ثم لقيتني ل تشرك بي شيئا ً للقيتك بقرابها‬
‫مغفرة((‪.‬‬
‫‪388‬‬
‫) ‪(1/388‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬قال الله تعالى‪ :‬وعزتي‪ ،‬ل‬


‫أجمع لعبدي خوفين ول أمنين‪ ،‬فإن هو خافني في الدنيا‬
‫أمنته يوم القيامة‪ ،‬وإن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم‬
‫القيامة((‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬رأس الحكمة‬
‫مخافة الله((‪ .‬ودخل ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬على‬
‫شاب يعوده وهو في الموت فقال له‪ )):‬كيف تجدك؟‬
‫فقال أخاف ذنوبي أرجو رحمة ربي‪ .‬فقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪:‬ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إل‬
‫أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف((‪.‬‬
‫واعلم‪ :‬أن الخوف زاجر‪ ،‬يزجر النسان عن المعاصي‬
‫والمخالفات‪ .‬والرجاء قائد‪ ،‬يقود العبد إلى الطاعات‬
‫والموافقات‪ ،‬فمن لم يزجره خوفه عن معصية الله عز‬
‫وجل‪ ،‬ولم يقده رجاؤه إلى طاعة الله تعالى‪ ،‬كان خوفه‬
‫ورجاؤه حديث نفس ل يعتد بهما‪ ،‬ول يعول عليهما‪،‬‬
‫لخلوهما عن ثمرتهما المقصودة‪ ،‬وفائدتهما المطلوبة‪.‬‬
‫ثم الفضل للمؤمن المستقم على طاعة الله أن يكون‬
‫بين الخوف واللرجاء‪ ،‬حتى يكونا كجناحي الطائر‪ ،‬وكفتي‬
‫الميزان‪ ،‬وقال النبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬لو‬
‫وزن خوف المؤمن ورجاؤه لعتدل((‪.‬‬
‫وأما المؤمن المخلط الذي يخشى على نفسه من الوقوع‬
‫في ترك الطاعات‪ ،‬وركوب النهيات فال صلح له والولى‬
‫به‪ ،‬غلبة الخوف عليه‪ ،‬فإن الخوف يقبض النفس ويزجرها‬
‫عن طغيانها وتعديها‪،‬‬

‫‪389‬‬
‫) ‪(1/389‬‬

‫ومن كان بهذا الوصف من غلبة النفس واستيلء الشهوة‪،‬‬


‫وكان الرجاء مع ذلك غالبا ً عليه‪ ،‬ربما كان سببا ً في هلكه‪،‬‬
‫لنه كلما ذكر نفسه المارة بسعة رحمة الله‪ ،‬وكثرة‬
‫تجاوزه عن الذنوب‪ ،‬ازداد على الله تجرؤا‪ ،‬ومن طاعته‬
‫تباعدًا‪ ،‬وفي معصيته وقوعًا‪ ،‬فيهلك من حيث ل يشعر‪.‬‬
‫وقد وقع في ذلك طوائف من عامة المسلمين المغترين‬
‫بالله‪ ،‬والرجاء على هذا الوصغ هو الرجاء الكاذب‪ ،‬وهو‬
‫الغترار بالله‪ ،‬وليس من الرجاء المحمود في شيء‪ ،‬لن‬
‫الرجاء المحمود هو الذي يقود العبد إلى العمل بطاعة‬
‫الله‪ ،‬ويحمله على سلوك سبيل مرضاته‪ .‬فليحذر المؤمن‬
‫من الرجاء الذي يكون بهذه المثابة‪ ،‬فإنه غرور من‬
‫الشيطان‪ ،‬وشر ساقه إليه في معرض الخير‪ .‬وأما إذا نزل‬
‫الموت بالنسان‪ ،‬فالليق به غلبة الرجاء‪ ،‬وحسن الظن‬
‫بالله كيفما كان حاله‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم ‪)):‬ل‬
‫يموت أحدكم لل وهو يحسن الظن بالله‪.‬‬
‫وليحذر المؤمن كل الحذر من المن من مكر الله‪ ،‬ومن‬
‫ْ‬
‫مك َْر الل ّهِ إ ِل ّ ال َْقوْ ُ‬
‫م‬ ‫ن َ‬ ‫م ُ‬ ‫القنوط من رحمته‪ ،‬قال تعالى‪ ) :‬ي َأ َ‬
‫ن(]العراف‪.[99:‬‬ ‫سُرو َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫خا ِ‬
‫ن(‬ ‫ضآّلو َ‬ ‫مةِ َرب ّهِ إ ِل ّ ال ّ‬ ‫ح َ‬
‫من ّر ْ‬ ‫من ي َْقن َ ُ‬
‫ط ِ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫]الحجر‪.[56:‬‬
‫والمن من مكر الله‪ :‬عبارة عن تمحض الرجاء وذهاب‬
‫‪390‬‬
‫) ‪(1/390‬‬

‫الخوف من الله بالكلية‪ ،‬حتى ل يجوز أن الله يعذبه ول‬


‫يعاقبه‪.‬‬
‫وأما القنوط‪ :‬فهو عبارة عن تمحض الخوف وذهاب‬
‫الرجاء بالكلية‪ ،‬حتى ل يجوز أن الله يرحمه ويتجاوز‬
‫وذهاب الرجاء بالكلية‪ ،‬حتى ل يجوز أن الله يرحمه‬
‫ويتجاوز عنه‪ ،‬والمن من مكر الله‪ .‬والقنوط من رحمة‬
‫الله‪ :‬من كبائر الذنوب‪ ،‬فاحذر منهما أيها المؤمن‪ ،‬وكن‬
‫بين الخوف والرجاء‪ ,‬ول تغتر بربك‪ ،‬ول تجترىء عليه‪ ،‬فإن‬
‫ربك سريع العقاب‪ ،‬وإنه لغفور رحيم‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المنجيات العظيمة ‪ :‬الصبر على بلء الله‪ ،‬والشكر‬
‫لنعماء الله‪ ،‬والزهد في الدنيا المشغلة عن الله‪.‬‬
‫‪ ...‬وأما الصبر‪ :‬ففضائله عظيمة‪ ،‬وحاجة المؤمن إليه في‬
‫الحوال كلها داعية وعامة‪ ،‬وما ورد في الصبر عن الله‬
‫تعالى‪ ،‬وعن رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬من‬
‫المر والترغيب‪ :‬كثير منتشر‪ ،‬قال الله تعالى‪َ) :‬يا أ َي َّها‬
‫ع‬
‫م َ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫صل َةِ إ ِ ّ‬‫صب ْرِ َوال ّ‬ ‫ست َِعيُنوا ْ ِبال ّ‬ ‫مُنوا ْ ا ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ال ّ ِ‬
‫ن(]البقرة‪.[153:‬‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫ال ّ‬
‫ن(]البقرة‪.[155:‬‬ ‫ري َ‬
‫صاب ِ ِ‬‫شرِ ال ّ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَب َ ّ‬
‫ن(]آل عمران‪.[146:‬‬ ‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬
‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬‫وقال تعالى‪َ) :‬والل ّ ُ‬
‫صب ُْر َ‬
‫ك‬ ‫ما َ‬ ‫صب ِْر وَ َ‬
‫وقال تعالى لنبيه عليه الصلة والسلم‪َ) :‬وا ْ‬
‫ه(]النحل‪.[127:‬‬ ‫إ ِل ّ ِبالل ّ ِ‬
‫ك ب ِأ َعْي ُن َِنا(]الطور‪.[48:‬‬ ‫ك فَإ ِن ّ َ‬‫حك ْم ِ َرب ّ َ‬‫صب ِْر ل ِ ُ‬ ‫)َوا ْ‬
‫‪391‬‬
‫) ‪(1/391‬‬

‫َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وجعل ْنا منه َ‬


‫صب َُروا(‬
‫ما َ‬‫مرَِنا ل َ ّ‬
‫ن ب ِأ ْ‬
‫دو َ‬
‫ة ي َهْ ُ‬
‫م ً‬
‫م أئ ِ ّ‬
‫َ َ َ َ ِ ُْ ْ‬
‫]السجدة‪.[24:‬‬
‫وقال تعالى‪) :‬أنما يوفي الصبرون أجرهم بغير حساب(‬
‫]الزمر‪[10:‬‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬من‬
‫يصبر يصبره الله‪ ،‬وما أعطي أحد عطاء خيرا ً ول أوسع‬
‫من الصبر((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬الصبر معول مؤمن‪،‬‬
‫والصبر أمير جنود المؤمن((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬في الصبر على ما تكره‬
‫خير كثير((‪.‬‬
‫وفي الخبر أو الثر‪ :‬أن اليمان شطران‪ :‬أحدهم الصبر‪،‬‬
‫والثاني الشكر‪ ،‬فيحتاج المؤمن حاجة شديدة إلى الصبر‬
‫عند ورود البليا من الشدائد والمصائب‪ ،‬والفاقات‬
‫والذيات‪ ،‬بأن ل يجزع إذا نزل به شيء منها‪ ،‬بل ويطمئن‬
‫ويتوقر‪ ،‬ول يضيق ول يتضجر‪ ،‬ول يشكو إلى الخلق‪ ،‬بل‬
‫يرجع إلى الله بخشوعه وخضوعه‪ ،‬ودعائه وتضرعه‪،‬‬
‫ويحسن الظن بربه‪ ،‬ويعلم يقينا ً أن الله تعالى لم ينزل به‬
‫ذلك البلء إل وله فيه خير كثير من رفع الدرجات‪ ،‬وزيادة‬
‫الحسنات‪ ،‬وتكفير السيئات‪ ،‬كما وردت بذلك الخبار‬
‫الشهيرة الكثيرة‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ما يصيب المؤمن من‬
‫نصب‪ ،‬ول وصب ‪ ،‬ول هم حتى الشوكة يشاكها إل كفر‬
‫الله به من سيئاته((‪.‬‬

‫‪392‬‬
‫) ‪(1/392‬‬
‫ويحتاج المؤمن إلى الصبر حاجة شديدة عند فعل‬
‫الطاعات‪ ،‬بأن ل يكسل عنها‪ ،‬وبأن يؤديها كما أمره الله‬
‫من كمال الحضور مع الله فيها‪ ،‬والخلص لله‪ ،‬وأن ل‬
‫يكون بها مرائيًا‪ ،‬ول متصنعا ً للخلق‪ .‬ومن شأن النفس‬
‫التثاقل عن الطاعة‪ ،‬والتكاسل عنها‪ ،‬فيحتاج العبد إلى‬
‫إكراهها على ذلك بحسن الصبر‪.‬‬
‫ويحتاج المؤمن إلى الصبر حاجة شديدة في كف نفسه‬
‫عن المعاصي والمحرمات‪ ،‬لن النفس قد تدعو إليها‪،‬‬
‫وتتحدث بالوقوع فيها ‪ ،‬فيمنعها بحسن صبره عن فعل‬
‫المعاصي ظاهرًا‪ ،‬وعن التحدث بها والميل إليها باطنًا‪.‬‬
‫ويحتاج المؤمن حاجة شديدة إلى الصبر عن الشهوات‬
‫المباحات‪ ،‬التي يكون رغبة النفس فيها مقصورة على‬
‫التلذذ والتمتع بالدنيا المجرد‪ ،‬فإن النهماك في ذلك‪،‬‬
‫والستر سال معه يجر إلى الشبهات والمحرمات‪ ،‬ويكثر‬
‫الرغبة في الدنيا ويهيج الحرص عليها‪ ،‬ويحمل على اليثار‬
‫للدنيا والنس بها‪ ،‬وعلى نسيان الخرة والغفلة عنها‪ ،‬فقد‬
‫عرفت ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬بما ذكرناه حاجة المؤمن بكل خير‪،‬‬
‫وتظفر بكل سعادة‪.‬‬
‫‪ ...‬وأما الشكر‪ :‬فهو من المقامات الشريفة‪ ،‬والمنازل‬
‫م‬ ‫ت الل ّهِ ِإن ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫شك ُُروا ْ ن ِعْ َ‬
‫م َ‬ ‫الرفيعة‪ ،‬قال الله تعالى‪َ) :‬وا ْ‬
‫ن(]النحل‪.[114:‬‬ ‫دو َ‬
‫إ ِّياهُ ت َعْب ُ ُ‬

‫‪293‬‬
‫) ‪(1/393‬‬

‫ه(]سبأ‪.[15:‬‬ ‫شك ُُروا ل َ ُ‬ ‫م َوا ْ‬‫ق َرب ّك ُ ْ‬ ‫من ّرْز ِ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬ك ُُلوا ِ‬
‫ي‬
‫عَبادِ َ‬
‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ل ّ‬ ‫شك ًْرا وَقَِلي ٌ‬‫داُوود َ ُ‬ ‫ل َ‬‫مُلوا آ َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬اعْ َ‬
‫كوُر(]سبأ‪.[13:‬‬ ‫ش ُ‬
‫ال ّ‬
‫ن(]آل عمران‪.[145:‬‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬‫زال ّ‬
‫ج ِ‬‫سن َ ْ‬‫وقال تعالى‪) :‬و َ‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬من‬
‫أعطي فشكر‪ ،‬وابتلي فصبر‪ ،‬وظلم فغفر‪ ،‬وظلم‬
‫فاستغفر‪ ،‬ثم سكت عليه الصلة والسلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما له‬
‫يارسول الله؟ قال ‪ :‬أولئك لهم المن وهم‬
‫مهتدون((‪.‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ليتخذ أحدكم‬
‫لسانا ً ذاكرا ً وقلبا ً شاكرًا(( الحديث‪ .‬وقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪)):‬أول من يدعى إلى الجنة الحمادون‪ ،‬الذين‬
‫يحمدون الله على كل حال((‪ .‬وما ورد في فضل الشكر‬
‫وفي المر به كثير‪.‬‬
‫وأصل الشكر‪ :‬معرفة العبد بأن جميع ما به من النعم‪ ،‬وما‬
‫عليه منها في ظاهره وباطنه من الله تعالى‪ ،‬تفضل ً منه‬
‫سبحانه وامتنانًا‪.‬‬
‫ومن الشكر‪ :‬الفرح بوجود النعم من حيث إنها وسيلة إلى‬
‫العمل بطاعة الله‪ ،‬ونيل القرب منه‪.‬‬
‫ومن الشكر‪ :‬الكثار من الحمد لله‪ ،‬والثناء عليه تعالى‬
‫باللسان‪ ،‬وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬لو ُأعطي‬
‫رجل من أمتي الدنيا بأسرها‪،‬‬

‫‪394‬‬
‫) ‪(1/394‬‬

‫ثم قال الحمد لله‪ ،‬كان قوله الحمد لله‪ ،‬أفضل من ذلك‬
‫كله(( الحديث‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬الحمد لله‬
‫تمل الميزان((‪.‬‬
‫وقال ‪)) :‬إن الله ليرضى عن العبد يأكل الكلة فيحمده‬
‫عليها‪ ،‬ويشرب الشربة فيحمده عليها((‪.‬‬
‫ومن الشكر‪ :‬العمل بطاعة الله‪ ،‬وأن يستعين بنعم الله‬
‫على طاعته‪ ،‬وأن يضع نعم الله في مواضعها التي يحبها‬
‫الله ‪ ،‬وذلك هو غاية الشكر ونهايته‪ ،‬وأن ل يتكبر بالنعم‪،‬‬
‫ول يفتخر بها على عباد الله‪ ،‬ول يبغى ول يطغى‪ ،‬ول‬
‫يتعدى على العباد‪ ،‬ومن فعل شيئا ً من ذلك فقد كفر‬
‫النعمة ولم يشكرها‪ ،‬والكفران سبب لسلب النعم وتبدلها‬
‫ك مغَيرا نعم ً َ‬ ‫بالنقم‪ ،‬قال تعالى‪):‬ذ َل َ َ‬
‫مَها‬
‫ة أن ْعَ َ‬ ‫م يَ ُ ُ ّ ً ّ ْ َ‬ ‫ه لَ ْ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ك ب ِأ ّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م(‬‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫م وَأ ّ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫حّتى ي ُغَي ُّروا ْ َ‬
‫ما ب ِأنُف ِ‬ ‫عََلى قَوْم ٍ َ‬
‫]النفال‪[53:‬أي‪ :‬بتركهم الشكر عليها‪.‬‬
‫فالتارك للشكر متعرض للسلب والهلك‪ ،‬والشاكر‬
‫َ‬
‫م‬‫ن َرب ّك ُ ْ‬‫متعرض للخير والمزيد‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬وَإ ِذ ْ ت َأذ ّ َ‬
‫َ‬ ‫ل َِئن َ‬
‫م (]إبراهيم‪.[7:‬‬ ‫م لِزيد َن ّك ُ ْ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬
‫ومن الشكر‪ :‬تعظيم النعمة وإن كانت صغيرة‪ ،‬نظرا ً إلى‬
‫عظمة المنعم بها تبارك وتعالى‪ .‬ثم إن لله على عبده نعما ً‬
‫كثيرة ل تعد ّ ول ُتحصى‪ ،‬والعبد عاجز عن إحصائها فضل ً‬
‫ة الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬‫دوا ْ ن ِعْ َ‬‫عن القيام بشكرها‪ ،‬قال الله تعالى‪) :‬وَِإن ت َعُ ّ‬
‫م(]النحل‪.[18:‬‬ ‫ه ل َغَُفوٌر ّر ِ‬
‫حي ٌ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ها إ ِ ّ‬ ‫صو َ‬ ‫ح ُ‬‫ل َ تُ ْ‬

‫‪395‬‬
‫) ‪(1/395‬‬

‫وينبغي للنسان أن ل ينظر إلى من فضل عليه في النعم‬


‫على سبيل الغبطة والستكثار‪ ،‬فإنه ربما يزدري نعمة الله‬
‫تعالى عليه ويستحقرها‪ ،‬فل يشتغل بشكرها‪ ،‬فيكون ذلك‬
‫سببا ً لسلبها عنه وتحويلها منه‪ ،‬فل يعطى الكثير الذي‬
‫غبط عليه أخاه‪ ،‬ويسلب مع ذلك القليل الذي قد أعطاه‬
‫موله لتركه الشكر‪ ،‬وعدم حفظه للدب مع ربه‪ .‬وفي‬
‫الحديث‪)):‬أنظروا إلى من هو دونكم‪ ،‬فهو أجدر أن ل‬
‫ضل الله بعض العباد‬ ‫ة الله عليكم ((‪ .‬وقد ف ّ‬ ‫تزد َُروا نعم َ‬
‫طلع عليها‬ ‫على بعض لسرار له في ذلك ‪ ،‬و حكم ل ي ّ‬
‫سواه ‪ ،‬و لمنافع و مصالح لهم ل يحيط بعلمها غيره ‪.‬‬
‫ض العبد بقسمة رّبه‪ ،‬و ْليشكره على ما أعطاه من‬ ‫َ‬ ‫فْلير‬
‫َ‬
‫ن خزائن السموات و‬ ‫نعمه‪ ،‬و ل َْيسأل المزيد من فضله ؛ فإ ّ‬
‫الرض في قبضته‪ ،‬و جميع الخير بيده‪ ،‬يفعل ما بشاء‪ ،‬و‬
‫ل شيٍء قدير ‪.‬‬ ‫هو على ك ّ‬
‫‪ ...‬و أما الزهد في الدنيا ‪ :‬فإنه من أفضل المنجيات ‪ ،‬و‬
‫ل القربات ‪.‬‬ ‫أج ّ‬
‫جعَل َْنا َ‬
‫ما‬ ‫هدا ً لعباده في الدنيا ‪):‬إ ِّنا َ‬ ‫وقد قال الله تعالى مَز ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫عََلى اْل َ‬
‫مل ً * وَإ ِّنا‬ ‫ن عَ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ة ل َّها ل ِن َب ْل ُوَهُ ْ‬
‫م أي ّهُ ْ‬ ‫ض ِزين َ ً‬ ‫ِ‬ ‫ر‬‫ْ‬
‫جُرًزا( ]الكهف‪.[8-7:‬‬ ‫ن َ َ َْ َ ِ ً ُ‬
‫دا‬ ‫عي‬ ‫ص‬ ‫ها‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ما‬ ‫عُلو َ‬ ‫لَ َ‬
‫جا ِ‬
‫ُ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا‬ ‫مَتاعُ ال ْ َ‬‫يٍء فَ َ‬‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫ما أوِتيُتم ّ‬ ‫وقال تعالى ‪):‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من‬ ‫ن * أفَ َ‬ ‫خي ٌْر وَأب َْقى أفََل ت َعِْقُلو َ‬ ‫عند َ الل ّهِ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫وَِزين َت َُها وَ َ‬
‫ة‬
‫حَيا ِ‬‫مَتاعَ ال ْ َ‬
‫مت ّعَْناهُ َ‬‫من ّ‬ ‫سًنا فَهُوَ لِقيهِ ك َ َ‬ ‫ح َ‬‫دا َ‬ ‫وَعَد َْناهُ وَعْ ً‬
‫ن(]‪.[61-60‬‬ ‫ري َ‬ ‫ض ِ‬‫ح َ‬‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫م ال ِْقَيا َ‬
‫مة ِ ِ‬ ‫م هُوَ ي َوْ َ‬‫الد ّن َْيا ث ُ ّ‬
‫‪396‬‬
‫) ‪(1/396‬‬

‫خي ٌْر‬‫خَرةُ َ‬‫حَياةَ الد ّن َْيا*َواْل ِ‬


‫ن ال ْ َ‬ ‫وقال الله تعالى‪) :‬ب َ ْ‬
‫ل ت ُؤْث ُِرو َ‬
‫وَأ َب َْقى(]العلى‪.[17-16:‬‬
‫وقال رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) :-‬ازهد في‬
‫الدنيا يحبك الله‪ ،‬وازهد فيما في أيدي الناس يحبك‬
‫الناس((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬كن في الدنيا كأنك غريب أو‬
‫عابر سبيل‪ ،‬وعد نفسك من أهل القبور((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من أحب آخرته أضر بدنياه‪،‬‬
‫ومن أحب دنياه أضر بآخرته‪ ،‬فآثروا ما يبقى على ما‬
‫يفنى((‪.‬‬
‫مه الخرة؛‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من أصبح وه ّ‬
‫جمع الله أمره‪ ،‬وحفظ عليه ضيعته‪ ،‬وأتته الدنيا وهي‬
‫راغمة‪ ((...‬الحديث‪.‬‬
‫وحقيقة الزهد‪ :‬خروج حب الدنيا‪ ،‬والرغبة فيها من القلب‪،‬‬
‫وهوان الدنيا على العبد‪ ،‬حتى يكون إدبار الدنيا وقلة‬
‫الشيء منها أحب إليه وآثر عنده من إقبال الدنيا وكثرتها‪.‬‬
‫هذا من حيث الباطن‪ ،‬وأما من حيث الظاهر فيكون‬
‫الزاهد منزويا ً عن الدنيا‪،‬ومتجافيا ً عنها اختيارا ً مع القدرة‬
‫عليها‪ ،‬ويكون مقتصرا ً من سائر أمتعتها مأكل ً وملبسا ً‬
‫ومسكنًا‪ ،‬وغير ذلك على ما ل بد منه‪ ،‬كما قال عليه‬
‫الصلة والسلم ‪)):‬ليكن بلغ أحدكم من الدنيا كزاد‬
‫الراكب((‪.‬‬
‫ب الدنيا بقلبه‪ ،‬ورغب فيها‪ ،‬وسعى لجمعها‬ ‫فأما من أح ّ‬
‫‪397‬‬
‫) ‪(1/397‬‬
‫يقصد بذلك التنعم والتمتع بشهواتها‪ ،‬فهو من الراغبين في‬
‫الدنيا‪ ،‬وليس من الزهد في شيء‪ .‬فإن مال إلى الدنيا‬
‫ورغب فيها‪ ،‬ل للتنعم ولكن لينفقها في وجوه الخيرات‬
‫والقربات‪ ،‬فهو على خيرإن وافق عمله نيته‪ ،‬ول يخلو في‬
‫ذلك من خطر‪.‬‬
‫وأما من طلب الدنيا ورغب فيها فلم يتيسر له‪ ،‬ولم‬
‫يحصل على مطلوب منها فبقي فقيرا ً ل شيء له‪ ،‬فهذا‬
‫هو الفقير وليس بالزاهد‪ ،‬وله في فقره فضل وثواب‬
‫عظيم إن صبر عليه رضي به‪.‬‬
‫وأما من تبسط في الدنيا وتوسع في شهواتها‪ ،‬وادعى مع‬
‫ذلك أنه غير راغب فيها‪ ،‬ول محب لها بقلبه‪ ،‬فهو مدع‬
‫مغرور‪ ،‬ل تقوم له حجة بدعواه‪ ،‬وليس له في حالته تلك‬
‫قدوة يقتدي به من الئمة المهتدين والعلماء الصالحين‪ ،‬ل‬
‫من السلف ول من الخلف‪ .‬فاعلم ذلك والله يتولى هداك‪.‬‬
‫***‬
‫ومن المنجيات الشريفة‪ :‬التوكل على الله‪ ،‬والحب لله‪،‬‬
‫والرضا عن الله‪ ،‬وحسن النية مع الله‪ ،‬والخلص في‬
‫الظاهر والباطن لله‪.‬‬
‫‪ ...‬وأما التوكل على الله‪ :‬فهو من أشرف مقامات‬
‫الموقنين‪ ،‬وأعز ثمرات اليقين‪.‬‬
‫ل عََلى الّله(]النمل‪.[79:‬‬ ‫قال الله تعالى‪) :‬فَت َوَك ّ ْ‬
‫ب ال ْ ُ‬
‫مت َوَك ِّلين(]آل عمران‪:‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫وقال الله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫‪.[159‬‬

‫‪398‬‬
‫) ‪(1/398‬‬

‫ن(]المائدة‪:‬‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫وقال الله تعالى‪) :‬وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ‬
‫‪.[11‬‬
‫ن(‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫كنُتم ّ‬ ‫وقال الله تعالى‪) :‬وَعََلى الل ّهِ فَت َوَك ُّلوا ْ ِإن ُ‬
‫]المائدة‪.[23:‬‬
‫كيًل(]النساء‪:‬‬ ‫ل عََلى الل ّهِ وَك ََفى ِبالل ّهِ وَ ِ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬وَت َوَك ّ ْ‬
‫‪.[81‬‬
‫ق‬
‫كلتم على الله ح ّ‬ ‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬لو تو ّ‬
‫كله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا ً وتروح‬ ‫تو ّ‬
‫بطانًا((‪.‬‬
‫وفي المأثور‪)) :‬حسبنا الله ونعم الوكيل(( قالها إبراهيم‬
‫عليه الصلة والسلم حين قذف به في النار‪ ،‬وقالها محمد‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬والمؤمنون حين قيل لهم ‪:‬‬
‫مانا ً وََقاُلوا ْ‬
‫م ِإي َ‬ ‫م فََزاد َهُ ْ‬ ‫م َفا ْ‬
‫خ َ‬
‫شوْهُ ْ‬ ‫مُعوا ْ ل َك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫س قَد ْ َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫)إ ِ ّ‬
‫ل(]آل عمران‪.[173:‬‬ ‫كي ُ‬ ‫م ال ْوَ ِ‬ ‫سب َُنا الل ّ ُ‬
‫ه وَن ِعْ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫وقال بعض السلف الصالح رحمه الله‪ :‬من رضي بالله‬
‫ل‪.‬‬‫وكيل ً وجد إلى كل خير سبي ً‬
‫وأصل التوكل‪ :‬يقين القلب بأن المور كلها بيد الله وفي‬
‫قبضته‪ ،‬وأنه ل ضار ول معطي ول مانع غير الله‪ ،‬ثم‬
‫طمأنينة القلب وسكونه إلى وعد الله وضمانه‪ ،‬حتى ل‬
‫يضطرب ول يتزلزل عند ورود الشدائد والفاقات‪ ،‬وحتى ل‬
‫يفزع ول يرجع في المهمات والملمات إل إلى الله تعالى‪،‬‬

‫‪399‬‬
‫) ‪(1/399‬‬

‫وإن رجع في شيء من ذلك إلى الخلق كان ذلك في‬


‫الظاهر دون الباطن‪ ،‬ويكون على موافقة المر اللهي‬
‫المشروع‪.‬‬
‫***‬
‫وليس من شرط المتوكل أن يكون متجردا ً عن أسباب‬
‫الدنيا‪ ،‬بل قد يكون ملبسا ً للسباب‪ .‬وعلمة صدقه في‬
‫ذلك‪:‬أن ل يسكن إليها‪ ،‬ول يطمئن بها في حالة وجودها‪،‬‬
‫ول يتزلزل ول يضطرب عند فقدها وتشوشها‪.‬‬
‫وقد يكون العبد متجردا ً عن أسباب الدنيا‪ ،‬وهو غير‬
‫متوكل‪ ،‬مهما كان متعلقا ً بالسباب‪ ،‬وملتفتا ً إلى الخلق‬
‫وطامعا ً فيهم‪.‬‬
‫ثم إن السباب على قسمين‪ :‬دينية ودنيوية‪.‬‬
‫فالسباب الدينية‪ :‬مثل العلوم النافعة‪ ،‬والعمال الصالحة‬
‫التي ل بد منها‪ ،‬فل بد لكل مسلم من إقامة تلك السباب‬
‫والعمل بها‪ ،‬مع العتماد على الله دونها‪.‬‬
‫وأما السباب الدنيوية‪ :‬فكالحرف والصناعات‪ ،‬وسائر ما‬
‫يتسبب به الناس لتحصيل معاشهم‪.‬‬
‫وهذه السباب ل يجوز للنسان ترك ما يحتاج إليه منها‪،‬‬
‫ول يستغني عنه‪ ،‬إل إن كان عاجزا ً ل يستطيع السعي‬
‫والحركة‪ ،‬أو كان ممن أقيم في ذلك من عباد الله أهل‬
‫المعرفة واليقين‪.‬‬

‫‪400‬‬
‫) ‪(1/400‬‬

‫وعلى كل حال فليس يجوز للنسان أن يترك التسبب‬


‫لمعاشه الذي ل ب منه‪ ،‬إل إن كان عاجزًا‪ ،‬أو ممن أقيم‬
‫في التحريد من أهله‪ .‬ويحرم على النسان أن يقعد عن‬
‫الكتساب الذي يقدر عليه ويحتاج إليه‪ ،‬ويترك نفسه‬
‫وعياله ضياعا ً يسألون الناس ‪ ،‬ويتشوفون إلى ما في‬
‫أيديهم‪ ،‬وقد قال عليه الصلة والسلم ‪)):‬كفى بالمرء إثما ً‬
‫أن يضيع من يعول((‪.‬‬
‫والله سبحانه أعلم‪.‬‬
‫‪ ...‬وأما الحب في الله‪ :‬فهو من أشرف المقامات‬
‫وأرفعها‪.‬‬
‫حّبا ل ّل ّهِ (]البقرة‪:‬‬ ‫َ‬
‫مُنوا ْ أ َ‬
‫شد ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫قال الله تعالى‪َ) :‬وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫‪.[165‬‬
‫ْ‬
‫ه(‬
‫حّبون َ ُ‬
‫م وَي ُ ِ‬
‫حب ّهُ ْ‬
‫ه ب َِقوْم ٍ ي ُ ِ‬ ‫ف ي َأِتي الل ّ ُ‬‫سو ْ َ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬فَ َ‬
‫]المائدة‪.[54:‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬ثلث من كن فيه وجد بهن‬
‫حلوة اليمان‪ :‬أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما‬
‫سواها‪((...‬الحديث‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬أحبوا الله لما يغذوكم به‬
‫ب الله((‪.‬‬
‫من نعمه‪ ،‬و أحبوني بح ّ‬
‫ومعنى الحب لله تعالى‪ :‬ميل وتعلق وتأّله‪ ،‬يجده العبد في‬
‫قلبه إلى ذلك الجناب القدس الرفيع‪ ،‬مصحوبا ً بنهاية‬
‫التقديس والتنزيه‪ ،‬وغاية التعظيم والهيبة لله تعالى‪ ،‬ل‬
‫يخالطه شيء من خواطر التشبيه‪ ،‬ول يمازجه شيء من‬
‫أوهام التكييف‪ ،‬تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرًا‪.‬‬

‫‪401‬‬
‫) ‪(1/401‬‬

‫نّبهنا على هذا‪ ،‬لن بعض العامة الذين ل محبة الله‪ ،‬قد‬
‫تسبق إلى قلوبهم وأفهامهم وساوس وأوهام عظيمة‬
‫الخطر‪ ،‬شديدة الضرر‪.‬‬
‫ثم إن من صدق في محبة الله تعالى دعاه ذلك إلى إيثار‬
‫الله على ما سواه‪ ،‬وإلى التشمير لسلوك سبيل قربه‬
‫ورضاه‪ ،‬وإلى الجد في طاعنه‪ ،‬وبذل الستطاعة في‬
‫خدمته‪ ،‬وترك ما يشغل عن ذكره‪ ،‬وحسن معاملته من‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫ومن أعظم ما يدل على محبة الله ‪ :‬حسن التباع لرسول‬
‫الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪. -‬‬
‫حب ِب ْك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫حّبو َ‬
‫م تُ ِ‬ ‫ل ِإن ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫قال الله تعالى‪):‬قُ ْ‬
‫م(]آل عمران‪:‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ه غَُفوٌر ّر ِ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬‫م ذ ُُنوب َك ُ ْ‬‫ه وَي َغِْفْر ل َك ُ ْ‬‫الل ّ ُ‬
‫‪.[31‬‬
‫‪ ...‬وأما الرضا عن الله تعالى‪ :‬فهو حال شريف عزيز‪ ،‬قال‬
‫ه(]البينة‪.[8:‬‬ ‫ضوا ْ عَن ْ ُ‬ ‫م وََر ُ‬‫ه عَن ْهُ ْ‬‫ي الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫الله تعالى‪ّ) :‬ر ِ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إن الله إذا أحب قوما ً‬
‫ابتلهم‪ ،‬فمن رضي فله الرضا‪ ،‬ومن سخط فله‬
‫السخط((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إن الله بحكمته جعل الروح‬
‫والفرح في اليقين والرضا‪ ،‬وجعل الضيق والحرج في‬
‫الشك والسخط‪ ((...‬الحديث‪.‬‬
‫والراضي عن الله‪ :‬هو الراضي بقضائه‪ ،‬فمهما قضى عليه‬
‫‪402‬‬
‫) ‪(1/402‬‬

‫سبحانه بما يخالف هواه‪ ،‬وبما ل تشتهيه نفسه من مصيبة‬


‫في نفس لو مال‪ ،‬أو بلية أو شدة أو فاقة‪ ،‬فعليه أن‬
‫يرضي بذلك ويطيب نفسًا‪ ،‬ول يسخط قضاء الله ول‬
‫يتبرم‪ ،‬فإن الله تعالى له أن يفعل في ملكه ما يشاء‪،‬‬
‫وليس له في سلطانه منازع ول معارض‪.‬‬
‫وليحذر العبد عند ذلك من‪ :‬لو‪ ،‬ولم ‪ ،‬وكيف‪ .‬وليعلم أن‬
‫الله تعالى حكيم عادل في جميع أفعاله وأقضيته‪ ،‬وأنه ل‬
‫يقضي لعبده المؤمن بشيء وإن كرهته نفسه إل ويكون‬
‫له فيه خير وخيرة‪ ،‬وعاقبة حسنة‪ ،‬فليحسن ظنه بربه‪،‬‬
‫وليرض بقضائه‪ ،‬وليرجع إليه بذله وافتقاره‪ ،‬وليقف بين‬
‫يديه بخضوعه وانكساره‪ ،‬وليكثر من حمده والثناء عليه‬
‫في يسره وعسره‪ ،‬وشدته ورخائه‪ .‬والحمد لله رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫‪ ...‬وأما حسن النية والخلص لله‪ :‬فذلك من أعظم‬
‫المنجيات وأهمها‪.‬‬
‫ريد ُ‬‫من ي ُ ِ‬‫كم ّ‬ ‫من ُ‬
‫ريد ُ الد ّن َْيا وَ ِ‬
‫من ي ُ ِ‬ ‫كم ّ‬ ‫من ُ‬‫قال الله تعالى‪ِ ) :‬‬
‫خَرةَ (]آل عمران‪.[152:‬‬ ‫ال ِ‬
‫َ‬
‫و‬ ‫سَعى ل ََها َ‬
‫سعْي ََها وَهُ َ‬ ‫خَرةَ وَ َ‬ ‫ن أَراد َ ال ِ‬ ‫م ْ‬‫وقال تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫كوًرا(]السراء‪.[19:‬‬ ‫ش ُ‬‫م ْ‬ ‫سعْي ُُهم ّ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬‫ك َ‬‫ن فَُأول َئ ِ َ‬ ‫مؤ ْ ِ‬
‫م ٌ‬ ‫ُ‬
‫وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إنما العمال بالنيات‪ ،‬وإنما‬
‫لكل امرىء ما نوى((‪.‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)) :‬إنما‬
‫يبعث الناس على نياتهم((‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫) ‪(1/403‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬من غزا ولم ينو إل عقال ً‬
‫فله ما نوى((‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬نية المؤمن‬
‫خير من عمله((‪ ،‬وذلك لن النية عمل القلب‪ ،‬والقلب‬
‫أشرف من الجوارح‪ ،‬فكان عمله خيرا ً من عملها‪ ،‬ولن‬
‫النية تنفع بمجردها‪ ،‬وأعمال الجوارح بدون النية ل نفع لها‪.‬‬
‫وفي الحديث‪)) :‬من هم بحسنة ولم يملها كتبها الله عنده‬
‫حسنة كاملة((‪.‬‬
‫فعليك ‪ -‬رحمك الله ‪ -‬بحسن النية وبإخلصها لله‪ ،‬ول‬
‫تعمل شيئا ً من الطاعات إل أن تكون نتويا ً بها التقرب إلى‬
‫الله وابتغاء وجهه وطلب رضاه‪ ،‬وإرادة الثواب الخروي‬
‫الذي وعد به سبحانه على تلك الطاعة من باب الفضل‬
‫والمنة‪.‬‬
‫ول تدخل في شيء من المباحات حتى الكل والشرب‬
‫والنوم ‪ ،‬إل وتقصد بذلك الستعانة على طاعة الله‪،‬‬
‫وحصول التقوي به على عبادته تعالى‪ ،‬فبذلك تلحق‬
‫المباحات بالطاعات‪ ،‬فإن للوسائل أحكام المقاصد‪.‬‬
‫والمغبون من غبن في حسن النية‪.‬‬
‫واجعل لك في طاعاتك ومباحاتك نيات كثيرة صالحة‪،‬‬
‫يحصل لك بكل واحدة منها ثواب تام من فضل الله‪ ،‬وما‬
‫عجزت عنه من الطاعات والخيرات‪ ،‬ولم تتمكن من فعله‬
‫فانوه واعزم على عند الستطاعة‪ ،‬وقل بصدق وعزم‬
‫وصلح نية‪ :‬لو استطعته لفعلته‪ ،‬فقد يحصل لك بذلك‬
‫ثواب الفاعل‪ ،‬كما بلغنا أن رجل ً من بني إسرائيل مر في‬
‫وقت مجاعة على‬
‫‪404‬‬
‫) ‪(1/404‬‬

‫كثبان من رمل‪ ،‬فقال في نفسه‪ :‬لو كانت هذه طعامًا‪،‬‬


‫وكان لي‪ ،‬لقسمته على الناس‪ ،‬فأوحى الله إلى‬
‫نبيهم))قل لفلن‪:‬قد قبل الله صدقتك‪ ،‬وشكر الله حسن‬
‫نيتك((‪.‬‬
‫وفي المأثور‪)):‬أن الملئكة إذا صعدوا بصحيفة العبد إلى‬
‫الله تعالى‪ ،‬يقول الله تعالى لهم سبحانه ‪ :‬اكتبوا له كذا‬
‫وكذا‪ .‬فيقولون‪ :‬إنه لم يعمله‪ .‬فيقول تعالى‪ :‬إنه نواه((‪.‬‬
‫ُ‬
‫دوا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫مُروا إ ِّل ل ِي َعْب ُ ُ‬
‫ما أ ِ‬ ‫وقال تعالى في الخلص‪):‬وَ َ‬
‫صَلةَ وَي ُؤُْتوا الّز َ‬
‫كاةَ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫حن ََفاء وَي ُِقي ُ‬
‫ن ُ‬ ‫دي َ‬‫ه ال ّ‬ ‫ن لَ ُ‬‫صي َ‬‫خل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ة(]البينة‪.[5:‬‬ ‫ن ال َْقي ّ َ‬
‫م ِ‬ ‫ك ِدي ُ‬‫وَذ َل ِ َ‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ص(]الزمر‪.[3:‬‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫وقال تعالى ‪):‬أل ل ِل ّهِ ال ّ‬
‫دي ُ‬
‫وقال النبي عليه الصلة والسلم‪)) :‬أخلص دينك يجزك‬
‫العمل القليل((‪ .‬وسئل عليه الصلة والسلم عن اليمان‬
‫فقال‪)):‬هو الخلص لله((‪،‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬ل‬
‫يقبل الله من العمال إل ما كان منها خالصا ً له وابتغي به‬
‫وجهه((‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪)):‬من أخلص لله‬
‫أربعين يوما ً أظهر الله ينابيع الحكمة من قلبه على‬
‫لسانه((‪.‬‬
‫ومعنى الخلص‪ :‬أن يكون قصد النسان في جميع طاعاته‬
‫وأعماله مجرد التقرب إلى الله‪ ،‬وإردة قربه ورضاه‪ ،‬دون‬
‫غرض آخر من مراءاة الناس ‪ ،‬أو طلب محمدة منهم‪ ،‬أو‬
‫طمع فيهم‪.‬‬
‫‪405‬‬
‫) ‪(1/405‬‬

‫قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى‪ :‬نظر‬


‫الكياس في تفسير الخلص فلم يجدوا غير هذا‪ :‬أن تكون‬
‫حركته وسكونه في سره وعلنيته لله تعالى ل يمازجه‬
‫شيء‪ ،‬ل نفس ول هوى ول دنيا‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫قالذي يعمل لقصد التقرب إلى الله‪ ،‬وطلب مرضاته‬
‫وثوابه هو المخلص‪ ،‬والذي يعمل لله ولمراءاة الناس‬
‫فقط‪ ،‬ولول الناس لم يعمل أصل ً أمره خطر هائل‪ ،‬ورياؤه‬
‫رياء المنافقين ‪.‬‬
‫نعوذ بالله من ذلك ونسأله العافية من جميع البليات‪.‬‬
‫ومن المنجيات الفاضلة‪ :‬الصدق مع الله‪ ،‬والمراقبة لله‪،‬‬
‫وحسن التفكر وقصر المل‪ ،‬وكثرة ذكر الموت والستعداد‬
‫له‪.‬‬
‫مُنوا ْ ات ُّقوا ْ‬ ‫َ‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬‫‪ ...‬أما الصدق‪ :‬فقال الله تعالى‪َ):‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن(]التوبة‪.[119:‬‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫معَ ال ّ‬ ‫كوُنوا ْ َ‬
‫ه وَ ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫م(]المائدة‪:‬‬ ‫صد ْقُهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َينَفعُ ال ّ‬ ‫ذا ي َوْ ُ‬‫وقال تعالى‪) :‬هَ َ‬
‫‪.[119‬‬
‫دوا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫عاهَ ُ‬
‫ما َ‬ ‫صد َُقوا َ‬ ‫ل َ‬‫جا ٌ‬ ‫ن رِ َ‬
‫مِني َ‬‫مؤ ْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫وقال تعالى‪ِ ) :‬‬
‫ه(]الحزاب‪.[23:‬‬ ‫عَل َي ْ ِ‬
‫م(]الحزاب‪:‬‬ ‫صد ْقِهِ ْ‬ ‫ن بِ ِ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫جزِيَ الل ّ ُ‬
‫ه ال ّ‬ ‫وقال تعالى‪) :‬ل ِي َ ْ‬
‫‪.[24‬‬

‫‪406‬‬
‫) ‪(1/406‬‬

‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬الصدق يهدي إلى البر‪ ،‬والبر‬


‫يهدي إلى الجنة‪ ،‬وما يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق‬
‫حتى يكتب عند الله صديقًا‪ .‬والكذب يهدي إلى الفجور‪،‬‬
‫والفجور يهدي إلى النار‪ ،‬وما يزال العبد يكذب ويتحرى‬
‫الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا((‪.‬‬
‫وأول الصدق مجانبة الكذب في جميع القوال‪ ،‬ثم إن‬
‫للصدق مدخل ً في جميع العمال والنيات‪ ،‬والحوال‬
‫والمقامات‪.‬‬
‫ومعنى الصدق فيها‪ :‬الثبات عليها‪ ،‬والتيان بها على الوجه‬
‫الحسن الكمل الحوط‪ ،‬مع بذل الستطاعة‪ ،‬ونهاية الجد‬
‫والتشمير لله في الظاهر والباطن‪.‬‬
‫‪ ...‬وأما المراقبة لله‪ :‬فمعناها‪ :‬استشعار قرب الله من‬
‫العبد على الدوام‪ ،‬وإحاطته به‪ ،‬ومعيته له‪ ،‬واطلعه عليه‪،‬‬
‫ونظره إليه‪.‬‬
‫يٍء ّرِقيًبا(‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫قال الله تعالى‪) :‬وَ َ‬
‫]الحزاب‪.[52:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫معُ وَأَرى(]طه‪.[46:‬‬ ‫س َ‬‫ما أ ْ‬ ‫معَك ُ َ‬ ‫و قال تعالى‪) :‬إ ِن ِّني َ‬
‫ه‬
‫س بِ ِ‬
‫سو ِ ُ‬ ‫ما ت ُوَ ْ‬ ‫م َ‬‫ن وَن َعْل َ ُ‬ ‫سا َ‬ ‫لن َ‬ ‫خل َْقَنا ا ْ ِ‬ ‫و قال تعالى‪) :‬وَل ََقد ْ َ‬
‫نْفسه ونح َ‬
‫د(]ق‪.[16:‬‬ ‫ل ال ْوَِري ِ‬ ‫حب ْ ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب إ ِل َي ْهِ ِ‬‫ن أقَْر ُ‬
‫َ ُ ُ ََ ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن‬‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ه بِ َ‬‫م َوالل ّ ُ‬ ‫كنت ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م أي ْ َ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫و قال تعالى‪ ) :‬وَهُوَ َ‬
‫صيٌر(]الحديد‪.[4:‬‬
‫بَ ِ‬
‫‪407‬‬
‫) ‪(1/407‬‬

‫وقال ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)) : -‬الحسان أن تعبد‬


‫الله كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك((‪.‬‬
‫فالمراقبة من مقام الحسان‪ ،‬ومن تحقق بها أثمرت‬
‫له‪:‬الخشية لله تعالى‪ ،‬والحياء من الله تعالى إن يره حيث‬
‫نهاه‪ ،‬أو يفقده حيث أمره‪ ،‬أو يراه متثاقل ً عن طاعته‪،‬‬
‫متكاسل ً عن عبادته‪ ،‬مشتغل ً عن خدمته‪ ،‬غافل ً عن ذكره‬
‫وحسن معاملته‪.‬‬
‫***‬
‫‪ ...‬وأما حسن التفكر واستقامته ففيه منافع كثيرة‪ ،‬وفوائد‬
‫عظيمة‪.‬‬
‫ت ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م الَيا ِ‬ ‫ه ل َك ُ ُ‬
‫ن الل ّ ُ‬‫ك ُيبي ّ ُ‬‫وقد قال الله تعالى‪) :‬ك َذ َل ِ َ‬
‫خَرةِ (]البقرة‪.[220-219:‬‬ ‫ت َت ََفك ُّرو َ‬
‫ن * ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬
‫ن(‬ ‫ت ل َّقوْم ٍ ي َت ََفك ُّرو َ‬ ‫ك َلَيا ٍ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫قال الله تعالى‪) :‬إ ِ ّ‬
‫]الروم‪.[21:‬‬
‫َ‬
‫ض(‬‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ذا ِفي ال ّ‬ ‫ما َ‬ ‫ل انظ ُُروا ْ َ‬ ‫قال الله تعالى‪) :‬قُ ِ‬
‫]يونس‪.[101:‬‬
‫روي عن النبي ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪)): -‬تفكر‬
‫ساعة خير من عبادة ستين سنة((‪ .‬وقال علي كرم الله‬
‫وجهه‪:‬ل عبادة كالتفكر‪.‬‬
‫والفكر على أتواع كثيرة‪ ،‬وأشرف أنواعه وافضلها‪:‬‬
‫التفكر في أفعال الله وآياته‪ ،‬وعجائب مصنوعاته في‬
‫أرضه‬

‫‪408‬‬
‫) ‪(1/408‬‬
‫وسماواته‪ .‬ومن أحسن التفكر في ذلك أثمر له زيادة‬
‫المعرفة بالله‪ ،‬وهي الكسير الكبر‪.‬‬
‫ومن أنواعه‪ :‬التفكر فيما لله عليك من النعم واللء‬
‫الدينية والدنيوية‪ .‬وحسن التفكر في ذلك يثمر زيادة الحب‬
‫لله‪ ،‬ويحث على الشكر لله‪.‬‬
‫ومن أنواعه‪:‬أن تتفكر في عظيم حق الله عليك‪ ،‬وكثرة‬
‫تقصيرك عن القيام بحقوق ربوبيته‪ .‬وحسن التفكر في‬
‫ذلك يثمر الخوف والخشية والحياء من الله تعالى‪ ،‬ويبعث‬
‫على التشمير والجد في طاعته وإقامة حقه تعالى‪.‬‬
‫ومن أنواعه‪ :‬التفكر في الدنيا وسرعة زوالها‪ ،‬وكثرة‬
‫أكدارها وأشغالها‪ .‬وحسن التفكر في ذلك يثمر الزهد في‬
‫الدنيا‪ ،‬والتجافي عنها وقلة الرغبة فيها‪.‬‬
‫ومن أنواعه‪ :‬التفكر في الخرة وبقائها‪ ،‬وصفاء نعيمها‬
‫ودوام لذاتها وسرورها‪ .‬وحسن التفكر في ذلك يثمر إيثار‬
‫الخرة وكثرة الرغبة فيها‪ ،‬والتشمر في العمل لها‪.‬‬
‫ومجاري الفكر كثيرة‪ ،‬وكلما كانت بصيرة العبد أنفذ‪،‬وكان‬
‫علمه أغزر وأوسع‪ ،‬كان تفكره أعظم وأكثر‪.‬‬
‫‪ ...‬وأما قصر المل‪ ،‬وكثرة ذكر الموت والستعداد له ‪:‬‬
‫ن من قصر أمله‪ ،‬وكثر‬ ‫فنفع ذلك عظيم‪ ،‬وفضله كثير‪ .‬فإ ّ‬
‫للموت ذكره‪ ،‬جد ّ في صالح العمل‪ ،‬وترك التسويف‬
‫والكسل‪،‬‬
‫‪409‬‬
‫) ‪(1/409‬‬

‫وزهد في الدنيا ورغب في العقبى‪ ،‬وبادر بالتوبة والرجوع‬


‫إلى الله تعالى‪ ،‬وتباعد عما يشغله عن طاعة الله تعالى‬
‫ل للموت‬‫وعن سلوك سبيل مرضاته‪ .‬ومن طال أمله‪ ،‬وق ّ‬
‫ذكره‪ ،‬كان على الضد ّ من ذلك‪.‬‬
‫وقد ذكرنا في أوائل هذا التصنيف‪ ،‬قبيل الكلم على‬
‫العلم‪ ،‬طرفا ً صالحا ً في فضل قصر المل‪ ،‬واستشعار‬
‫قرب الجل‪ ،‬وما يتعلق بذلك‪ ،‬فأغنانا ذلك عن إطالة‬
‫الكلم فيه ههنا‪.‬‬
‫وعن الحسن البصري ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬قال ‪:‬قال‬
‫رسول الله‪ .‬قال‪ :‬قصروا في المل وثبتوا آجالكم بين‬
‫أبصاركم‪ ،‬واستحيوا من الله حق الحياء((‪.‬‬
‫وكان رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ -‬يقول في‬
‫دعائه‪ )) :‬اللهم إني أعوذ بك من دنيا تمنع خير الخرة‪،‬‬
‫وأعوذ بك من حياة تمنع خير الممات‪ ،‬وأعوذ بك من أمل‬
‫يمنع خير العمل((‪.‬‬
‫وقالت عائشة رضي الله عنها‪ :‬يارسول الله‪ ،‬هل يحشر‬
‫مع الشهداء غيرهم؟ فقال‪)) :‬نعم‪ ،‬ومن يذكر الموت في‬
‫يوم والليلة عشرين مرة((‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم‪)) :‬أكثروا من ذكر الموت‪ ،‬فإنه‬
‫يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا((‪.‬‬
‫ولما سئل عليه الصلة والسلم عن معنى الشرح المذكور‬
‫في قوله تعالى‪) :‬أفمن شرح الله صدره للسلم فهو على‬
‫نور من ربه(الزمر‪.[22:‬‬
‫‪410‬‬
‫) ‪(1/410‬‬

‫قال عليه الصلة والسلم‪)) :‬إن النور إذا دخل القلب‬


‫انشرح له الصدر وانفسح‪ .‬قيل‪ :‬لذلك من علمة؟ قال‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬التجافي عن دار الغرور‪ ،‬والنابة إلى دار الخلود‪،‬‬
‫والستعداد للموت قبل نزوله((‪.‬‬
‫قال المام الغزالي ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪ -‬في ))البداية((‪:‬‬
‫ت مثل ً مائة سنة بالضافة‬ ‫عش َ‬ ‫وتفكر في قصر عمرك وإن ِ‬
‫إلى مقامك في الدار الخرة وهي أبد الباد‪ .‬وتأمل أنك‬
‫كيف تتحمل المشقة والذل في طلب الدنيا شهرا ً أو سنة‬
‫مل ذلك‬ ‫رجاَء أن تستريح بها عشرين سنة‪ ،‬فكيف ل تتح ّ‬
‫ول أمَلك‪،‬‬ ‫أياما ً قلئل رجاء الستراحة أبد َ الباِد‪ ،‬ول تط ّ‬
‫ل في نفسك‬ ‫ب الموت‪ ،‬وقُ ْ‬ ‫فيثقل عليك عمُلك‪ ،‬وقد ّْر قر َ‬
‫ة‪ ،‬وأصبر‬ ‫مل المشقة اليوم فلعّلي أمو ُ‬
‫ت الليل َ‬ ‫إني أتح ّ‬
‫ت غدًا‪ ،‬فإن الموت ل يهجم في وق ٍ‬
‫ت‬ ‫ة فلعّلي أمو ُ‬
‫الليل َ‬
‫ن مخصوصة‪ ،‬ول ب ُد ّ من‬ ‫س ّ‬
‫ل مخصوص‪ ،‬و ِ‬ ‫مخصوص وحا ٍ‬
‫ت‬‫هجومه‪ ،‬فالستعداد له أولى من الستعداد للدنيا‪ ،‬وأن َ‬
‫م أنك قد ل تبقى فيها إل مدة يسيرة‪ ،‬ولعّله لم يب َ‬
‫ق‬ ‫تعل َ ُ‬
‫م واحد‪ .‬فكّرر هذا على‬ ‫س واحد‪ ،‬أو يو ٌ‬ ‫من أجلك إل ن ََف ٌ‬
‫ل يوم‪ ،‬وكّلف نفسك الصبر على طاعة الله يوما ً‬ ‫قلبك ك ّ‬
‫ت البقاء خمسين سنة وألزمتها الصبر‬ ‫يومًا‪ ،‬فإنك لو ق ّ‬
‫در َ‬
‫ت‬
‫ت واستعصت عليك‪ ،‬فإن فعل َ‬ ‫على طاعة الله تعالى ن ََفَر ْ‬
‫تو‬‫وف َ‬‫ت عند الموت فرحا ً ل آخر له‪ ،‬وإن س ّ‬ ‫ذلك فرح َ‬
‫ت في وقت‬ ‫ت جاءك المو ُ‬ ‫تساهل َ‬
‫‪411‬‬
‫) ‪(1/411‬‬

‫سَرا ً ل آخَر له‪ ،‬وعند الصباح َيح َ‬


‫مد ُ‬ ‫ح ّ‬
‫تت َ‬
‫سْر َ‬
‫ل تحتسبه‪ ،‬وتح ّ‬
‫ن‬ ‫سَرى‪ ،‬وعند الموت يأتيك الخبُر اليقين‪ ،‬ولت َعْل َ ُ‬
‫م ّ‬ ‫م ال ّ‬ ‫القو ُ‬
‫حين‪.‬‬ ‫َ‬
‫ن َب َأهُ ب َعْد َ ِ‬
‫***‬
‫) ‪(1/412‬‬

‫************‬
‫************‬
‫خاتمة الكتاب‬
‫************‬
‫************‬
‫) ‪(1/413‬‬

‫************‬
‫************‬
‫***‬
‫************‬
‫************‬
‫) ‪(1/414‬‬

‫خاتمة الكتاب‬
‫**********‬
‫سّنة و الجماعة‬ ‫في عقيدة أهل ال ّ‬
‫في عقيدة وجيزة جامعة نافعة إن شاء الله تعالى على‬
‫سبيل الفرقة الناجية ‪ ،‬و هم أهل السنة و الجماعة و‬
‫السواد العظم من المسلمين ‪.‬‬
‫الحمد لله وحده ‪ ،‬و صّلى الله على سيدنا محمد و آله و‬
‫صحبه و سّلم‪.‬‬
‫د‪ :‬أن‬‫ن‪ ،‬ونشه ُ‬
‫ن ونوق ُ‬
‫د‪ ،‬ونؤم ُ‬
‫م ونقّر ونعتق ُ‬‫وبعد ‪ :‬فإّنا نعل ُ‬
‫ل إله إل الله وحده ل شريك له ‪ .‬إله عظيم ‪ ،‬ملك كبير ‪،‬‬
‫ب سواه ‪ ،‬و ل معبود إل إّياه ‪ .‬قديم أزلي ‪ ،‬دائم أبدي ‪،‬‬ ‫لر ّ‬
‫لابتداء لوليته ‪ ،‬ول انتهاء لخريته ‪ .‬أحد صمد ‪ ،‬لم يلد ولم‬
‫يولد ‪ ،‬ولم يكن له كفوا ً أحد ‪ .‬لشبيه له ول نظير وليس‬
‫كمثله شئ وهو السميع البصير‪.‬‬
‫دس عن الزمان والمكان ‪ ،‬وعن مشابهة‬ ‫وأنه تعالى مق ّ‬
‫الكوان ‪ ،‬و ل تحيط به الجهات‪ ،‬ول تعتريه الحادثات ‪.‬‬
‫‪415‬‬
‫) ‪(1/415‬‬

‫مستوٍ على عرشه على الوجه الذي قاله‪ ،‬وبالمعنى الذي‬


‫ه‪.‬‬‫ده وكبريائ ِ ِ‬ ‫أراده ‪ ،‬إستواًء يليق بعّز جلله ‪ ،‬وعلوّ مج ِ‬
‫ل موجود‪ ،‬وهو أقرب للنسان من‬ ‫وأنه تعالى قريب من ك ّ‬
‫حبل الوريد‪ ،‬وعلى كل شيٍء رقيب وشهيد‪.‬‬
‫ي قّيوم‪ ،‬ل تأخذه سنة ول َنوم‪ .‬بديع السماوات والرض‪،‬‬ ‫ح ّ‬
‫خال ِقُ ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ه َ‬‫ن فيكون‪ .‬الل ُ‬ ‫وإذا قضى أمرا ً فإّنما يقول له ك ُ ْ‬
‫ل‪.‬‬‫كي ٌ‬‫شيٍء وَ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫يٍء ‪ ،‬وَهُوَ عََلى ك ُ ّ‬‫ش ْ‬‫َ‬
‫ل شيٍء عليم ‪ ،‬وقد‬ ‫ل شيٍء قدير ‪ ،‬وبك ّ‬ ‫وأنه تعالى على ك ّ‬
‫ل شيٍء عددا ً ‪) .‬وَ َ‬
‫ما‬ ‫أحاط بكل شيٍء علما ً ‪ ،‬و أحصى ك ّ‬
‫ض وَل َ ِفي‬ ‫َ‬ ‫عن ّرب ّ َ‬
‫ل ذ َّرةٍ ِفي الْر ِ‬ ‫مث َْقا ِ‬
‫من ّ‬ ‫ك ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ي َعُْز ُ‬
‫ما‬‫من َْها وَ َ‬ ‫ج ِ‬‫خُر ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬‫ض وَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ج ِفي اْل َْر‬ ‫ما ي َل ِ ُ‬‫م َ‬ ‫ماء (‪ ) .‬ي َعْل َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ما ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م أي ْ َ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ج ِفيَها وَهُوَ َ‬ ‫ما ي َعُْر ُ‬ ‫ماء وَ َ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫َينزِ ُ‬
‫ما‬
‫م َ‬ ‫صيٌر( ‪ .‬و يعلم السّر وأخفى‪) ،‬وَي َعْل َ ُ‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ة‬
‫حب ّ ٍ‬ ‫مَها وَل َ َ‬ ‫من وََرقَةٍ إ ِل ّ ي َعْل َ ُ‬ ‫ط ِ‬ ‫سُق ُ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫حرِ وَ َ‬ ‫ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬
‫َ‬
‫س إ ِل ّ ِفي ك َِتا ٍ‬
‫ب‬ ‫ب وَل َ َياب ِ ٍ‬ ‫ض وَل َ َرط ْ ٍ‬ ‫ت الْر ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫ِفي ظ ُل ُ َ‬
‫ن(‪.‬‬ ‫مِبي ٍ‬
‫ّ‬
‫وأنه تعالى مريد للكائنات ‪ ،‬مدّبر للحادثات ‪ .‬وأنه ل يكون‬
‫ضّر ‪ ،‬إل بقضائه‬ ‫كائن من خير أو شّر ‪ ،‬أو نفع أو ُ‬
‫ْ‬
‫ومشيئته ‪ ،‬فما شاَء كان ‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن ‪ .‬ولو اجتمع‬
‫سك ُّنوها‬ ‫حّركوا في الوجود ذرةً ‪ ،‬أو ي ُ َ‬ ‫الخلق كّلهم على أن ي ُ َ‬
‫دون إرادته لعجزوا عنه‪.‬‬
‫وأنه تعالى سميع بصير ‪ ،‬متكّلم بكلم قديم أزلي ‪ ،‬ل يشبه‬
‫كلم الخلق ‪.‬‬

‫‪416‬‬
‫) ‪(1/416‬‬

‫وأن القرآن العظيم كلمه القديم ‪ ،‬وكتابه المنّزل على‬


‫نبيه و رسوله محمد صّلى الله عليه و سّلم ‪.‬‬
‫مد َّبر‬
‫ل شيء ‪ ،‬والرازق له وال ُ‬ ‫وأنه سبحانه الخالق لك ّ‬
‫والمتصّرف فيه كيف يشاء ‪ ،‬ليس له في ملكه منازع ول‬
‫مدافع ‪ ،‬يعطي من يشاء ‪ ،‬ويمنع من يشاء ‪ ،‬ويغفر لمن‬
‫ل ‪ ،‬وهم‬ ‫ما َيفعَ ُ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫سأ ُ‬‫ذب من يشاء ‪ ،‬ل ي ُ َ‬ ‫يشاء ‪ ،‬وُيع ّ‬
‫ي َ‬
‫ن‪.‬‬‫سأُلو َ‬
‫ُ ْ‬
‫وأنه تعالى حكيم في فعله ‪ ،‬عادل في قضائه ‪ ،‬ل يتصور‬
‫منه ظلم ولجور ‪ ،‬ول يجب عليه لحدٍ حقّ ‪ .‬ولو أنه‬
‫سبحانه أهلك جميع خلقه في طرفة عين لم يكن بذلك‬
‫عبيد ُهُ ‪ ،‬وله أن‬‫هو َ‬ ‫ملك ُ ُ‬ ‫جائرا ً عليهم ول ظالما ً لهم ‪ ،‬فإّنهم ِ‬
‫ظلم ٍ للعبيد ‪ .‬يثيب‬ ‫ك بِ َ‬
‫يفعل في ملكه ما يشاء وما َرب ّ َ‬
‫عباده على الطاعات فضل ً وكرمًا‪ ،‬و يعاقبهم على‬
‫ن طاعته واجبة على عباده‬ ‫ة وعدل ً ‪ ،‬وأ ّ‬
‫المعاصي حكم ً‬
‫بإيجابه على ألسنة أنبيائه عليهم الصلة والسلم‪.‬‬
‫ل أرسله الله ‪،‬‬ ‫ل رسو ٍ‬‫ب أنزله الله ‪ ،‬وبك ّ‬ ‫ل كتا ٍ‬ ‫ونؤمن بك ّ‬
‫وبملئكة الله ‪ ،‬وبالقدر خيره وشّره‪.‬‬
‫ن محمدا ً عبد الله ورسوله ‪ ،‬أرسله إلى الج ّ‬
‫ن‬ ‫ونشهد أ ّ‬
‫والنس ‪ ،‬والعرب والعجم ‪ ،‬بالهدى ودين الحقّ ليظهره‬
‫على الدين كّله ولو ك َرِهَ المشركون ‪ .‬وأنه بّلغ الرسالة ‪،‬‬
‫ح المة ‪ ،‬وكشف الغمة ‪ ،‬وجاهد في‬ ‫ص َ‬
‫دى المانة ‪ ،‬ون َ َ‬ ‫وأ ّ‬
‫جَهاِده ‪،‬‬
‫الله حقّ ِ‬

‫‪417‬‬
‫) ‪(1/417‬‬

‫وأنه صادق أمين ‪ ،‬مؤّيد بالبراهين الصادقة والمعجزات‬


‫الخارقة ‪ .‬وأن الله فرض على العباد تصديقه و طاعته و‬
‫عه‪ ،‬و أنه ل يقبل إيمان عبد و إن آمن به سبحانه حّتى‬
‫ات َّبا َ‬
‫يؤمن بمحمد صّلى الله عليه وسّلم ‪ ،‬و بجميع ما جاء به و‬
‫أخبر عنه من أمور الدنيا والخرة والبرزخ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ :‬أن يؤمن بسؤال منكر ونكير للموتى ‪ ،‬عن‬
‫التوحيد والدين و النبوة‪ .‬وأن يؤمن بنعيم القبر لهل‬
‫الطاعة ‪ ،‬وبعذابه لهل المعصية ‪.‬‬
‫وأن يؤمن بالبعث بعد الموت ‪ ،‬وبحشر الجساد و الرواح‬
‫إلى الله‪،‬و بالوقوف بين يدي الله‪ ،‬و بالحساب‪ ،‬و أن‬
‫العباد يتفاوتون فيه إلى مسامح ومناقش ‪ ،‬وإلى من‬
‫يدخل الجنة بغير حساب ‪.‬‬
‫وأن يؤمن بالميزان الذي توزن فيه الحسنات والسيئات ‪،‬‬
‫وبالصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم وبحوض نبينا‬
‫محمد صلى الله عليه وسلم الذي يشرب منه المؤمنون‬
‫قبل دخول الجنة ‪ ،‬وماؤه من الجنة‪.‬‬
‫وأن يؤمن بشفاعة النبياء ثم الصديقين والشهداء ‪،‬‬
‫والعلماء والصالحين و المؤمنين ‪ .‬وأن الشفاعة العظمى‬
‫مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫وأن يؤمن بإخراج من دخل النار من أهل التوحيد حتى ل‬
‫يخلد فيها‬
‫‪418‬‬
‫) ‪(1/418‬‬

‫من في قلبه مثقال ذرة من ايمان ‪ .‬وأن أهل الكفر‬


‫والشرك مخلدون في النار أبد البدين ‪ ،‬ليخفف عنهم‬
‫العذاب ول هم ينظرون ‪ .‬وأن المؤمنين مخلدون في‬
‫الجنة أبدا ً سرمدا ً ‪ ،‬ليمسهم فيها نصب وما هم منها‬
‫بمخرجين ‪.‬‬
‫وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة بأبصارهم على ما‬
‫يليق بجلله وقدس كماله ‪.‬‬
‫وأن يعتقد فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم وترتيبهم ‪ ،‬وأنهم عدول أخيار أمناء ‪ ،‬ل يجوز سبهم‬
‫ول القدح في أحد منهم ‪ .‬وأن الخليفة الحق بعد رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم ‪ :‬أبوبكر الصديق ‪ ،‬ثم عمر‬
‫الفاروق ‪ ،‬ثم عثمان الشهيد ‪ ،‬ثم علي المرتضى رضي‬
‫الله عنهم وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و‬
‫سلم أجمعين ‪ ،‬وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم‬
‫م يا أرحم الراحمين ‪.‬‬
‫الدين ‪ ،‬وعّنا معهم برحمتك الله ّ‬

‫***‬

‫‪419‬‬
‫) ‪(1/419‬‬

‫خاتمة الخاتمة‬
‫حكم جامعة‪ ،‬و‬‫و تشتمل على سبعة أحاديث‪ ،‬تحتوي على ِ‬
‫مواعظ نافعة من حديث رسول الله صّلى الله عليه‬
‫وسّلم‬
‫* الحديث الول ‪ :‬عن جاب ر بن عبدالله رضي الله عنهما‬
‫ت رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫‪ :‬قال ‪ :‬سمع ُ‬
‫ما خلق له‪ ،‬إن الله عّز‬ ‫يقول ‪ )):‬إن ابن آدم لفي غفلة ع ّ‬
‫مَلك‪ " :‬اكتب رزقه‪ ،‬اكتب أثره‪،‬‬ ‫ه قال لل َ‬‫خل َْق ُ‬
‫ل إذا أراد َ‬ ‫وج ّ‬
‫اكتب أجله‪ ،‬اكتب شقيا ً أم سعيدًا‪] ،‬ثم يرتفع ذلك الملك‬
‫ويبعث الله ملكا ً فيحفظه حتى يدرك[ ‪ ،‬ثم يرتفع ذلك‬
‫ن حسناته وسيئاته‪،‬‬ ‫ن يكتبا ِ‬ ‫مل َ َ‬
‫كي ِ‬ ‫كل الله به َ‬ ‫م يو ّ‬
‫الملك‪ ،‬ث ُ ّ‬
‫مل َ ُ‬
‫ك‬ ‫ن‪ ،‬وجاءه َ‬‫فإذا حضره الموت ارتفع ذاِنك الملكا ِ‬
‫الموت ليقبض روحه‪ ،‬فإذا دخل قبره ُرد ّ الروح في‬
‫جسده‪ ،‬وجاءه ملكا القبر‪ ،‬فامتحناه ثم يرتفعان‪ ،‬فإذا‬
‫مَلك الحسنات‪ ،‬وملك السيئات‪،‬‬ ‫ط عليه َ‬ ‫قامت الساعة انح ّ‬
‫فانتشطا كتابا ً معقودا ً في عنقه‪ ،‬ثم حضرا معه واحد‬
‫سائق‪ ،‬وآخر شهيد((‪ ،‬ثم قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫دامكم لمرا ً عظيمًا‪ ،‬ما تقدرونه فاستعينوا‬ ‫وسلم‪)) :‬إن ق ّ‬
‫بالله العظيم((‪.‬‬
‫ذكره الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى في "شرح‬
‫الصدور"‪.‬‬

‫‪420‬‬
‫) ‪(1/420‬‬

‫و قال ‪ :‬أخرجه ابن أبي الدنيا و أبو نعيم ‪.‬‬


‫مرة رضي الله‬ ‫س ُ‬‫* الحديث الثاني ‪ :‬عن عبدالرحمن بن َ‬
‫عنه قال‪ :‬خرج علينا رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله‬
‫ت رجل ً من‬ ‫وسّلم‪ -‬فقال ‪ )) :‬إني رأيت البارحة عجبا ً ‪ ،‬رأي ُ‬
‫ك الموت ليقبض روحه؛ فجاءه ب ِّره بوالديه‬ ‫أمتي جاءه مل َ ُ‬
‫س َ‬ ‫ُ‬
‫ب‬
‫ط عليه عذا ُ‬ ‫متي قد ب ُ ِ‬ ‫فرّده عنه‪ ،‬و رأيت رجل ً من أ ّ‬
‫ت رجل ً‬ ‫ؤه فاستنقذه من ذلك ‪ ،‬و رأي ُ‬ ‫القبر؛ فجاءه وضو ُ‬
‫ن ؛ فجاءه ذكر الله فخّلصه‬ ‫ُ‬
‫متي قد احتوشته الشياطي ُ‬ ‫من أ ّ‬
‫ت رجل ً من أمتي قد احتوشته ملئكة العذاب‪،‬‬ ‫منهم ‪ ،‬و رأي ُ‬
‫ت رجل ً من‬ ‫ه فاستنقذته من بين أيديهم‪،‬ورأي ُ‬ ‫فجاءته صلت ُ ُ‬
‫ُ‬
‫من ِعَ منه ؛ فجاءه‬ ‫ث عطشا ً كلما ورد حوضا ً ُ‬ ‫متي يله ُ‬ ‫أ ّ‬
‫ت رجل ً من أمتي و النبّيون‬ ‫صيامه فسقاه و أرواه ‪ ،‬ورأي ُ‬
‫حلقًا‪ ،‬كلما دنا لحلقة طردوه؛ فجاءه اغتساله‬ ‫حَلقا ً ِ‬
‫قعود ِ‬
‫ت رجل ً من‬ ‫من الجنابة فأخذ بيده و أقعده إلى جنبي‪ .‬ورأي ُ‬
‫جه‬‫أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة فجاَءهُ ح ّ‬
‫وعمرته فاستخرجاه من الظلمة ‪ ،‬و أدخله النوَر ‪ ،‬ورأيت‬
‫رجل من أمتي يكّلم المؤمنين ول يكّلمونه؛ فجاءته صلة‬
‫الرحم فقالت‪ :‬يا معشَر المؤمنين ك َّلموه فك َّلموه ‪.‬‬
‫ج النار بيديه عن وجهه؛‬ ‫ت رجل ً من أمتي يّتقي وَهَ َ‬
‫ورأي ُ‬
‫سترا ً على وجهه‪ ،‬و ظل ً على‬ ‫فجاءته صدقته فصارت ِ‬
‫ل مكان؛‬ ‫ت رجل ً من أمتي أخذته الزبانية من ك ّ‬ ‫رأسه‪ .‬ورأي ُ‬
‫‪421‬‬
‫) ‪(1/421‬‬

‫فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ فاستنقذاه من‬


‫أيديهم و أدخله مع ملئكة الرحمة ‪.‬‬
‫متي جاثيا ً على ركبتيه بينه و بين الله‬ ‫ُ‬
‫ت رجل ً من أ ّ‬ ‫ورأي ُ‬
‫خُلقه فأخذه بيده فأدخله على الله‬ ‫ن ُ‬ ‫ب ؛ فجاءه حس ُ‬ ‫حجا ٌ‬
‫تعالى ‪ .‬ورأيت رجل ً من أمتي قد هوت به صحيفته من‬
‫ل شماله؛ فجاءه خوفه من الله ؛ فأخذ صحيفته فجعلها‬ ‫قِب َ ِ‬
‫ت رجل ً من أمتي قد خّفت موازينه؛ فجاءته‬ ‫في يمينه‪ .‬ورأي ُ‬
‫أفراطه فثّقلوا ميزانه‪ .‬ورأيت رجل ً من أمتي قائما ً على‬
‫جُله من الله فاستنقذه من ذلك و‬ ‫شفير جهنم؛ فجاءه وَ َ‬
‫مضى ‪.‬‬
‫ُ‬
‫متي هوى فى النار؛ فجاءته دموعه التي‬ ‫ت رجل ً من أ ّ‬ ‫ورأي ُ‬
‫بكى بها من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار ‪.‬‬
‫متي قائما ً على الصراط يرعد كما ترعد‬ ‫ُ‬
‫ت رجل ً من أ ّ‬ ‫ورأي ُ‬
‫عده و‬‫ن ظّنه بالله تعالى فسكن ر ْ‬ ‫حس ُ‬ ‫السعََفة؛ فجاءه ُ‬
‫ت رجل ً من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ً‬ ‫مضى‪ .‬ورأي ُ‬
‫ي فأخذت بيده فأقامته و‬ ‫ويحبو أحيانا ً ؛ فجاءته صلته عل ّ‬
‫ت رجل ً من أمتي انتهى إلى‬ ‫مضى على الصراط ‪ .‬ورأي ُ‬
‫ب دونه؛ فجاءته شهادة أن ل إله‬ ‫أبواب الجنة فغُّلقت البوا ُ‬
‫ت ناسا ً‬ ‫إل الله ففتحت له البواب فأدخلته الجنة ‪ .‬و رأي ُ‬
‫ل من هؤلء ؟‬ ‫ت‪ :‬يا جبري ُ‬‫من أمتي ُتقَرض شفاهُُهم‪ ،‬فقل ُ‬
‫ت رجال ً من‬ ‫شاءون بالنميمة بين الناس‪ .‬ورأي ُ‬ ‫فقال‪ :‬الم ّ‬
‫ت‪ :‬من هؤلء يا جبري ُ‬
‫ل ؟ قال‪:‬‬ ‫أمتي معّلقين بألسنتهم‪ ،‬فقل ُ‬
‫هؤلء الذين يرمون المؤمنين و المؤمنات بغير ما‬
‫اكتسبوا((‪.‬‬
‫‪422‬‬
‫) ‪(1/422‬‬

‫ذكره السيوطي أيضا ً في كتاب "شرح الصدور" و قال‪:‬‬


‫أخرجه الطبراني في "الكبير"‪ ،‬والحكيم الترمذي في‬
‫"نوادر الصول" ‪ ،‬و الصبهاني في "الترغيب" ‪.‬‬
‫* الحديث الثالث ‪ :‬عن ركب المصري رضي الله عنه‬
‫قال ‪ :‬قال رسول الله صّلى الله عليه و سّلم ‪)) :‬طوبى‬
‫ل في نفسه من غير‬ ‫لمن تواضع من غير منقصة‪ ،‬وذ ّ‬
‫م أه َ‬
‫ل‬ ‫مسألة‪ ،‬وأنفق مال ً جمعه في غير معصية ‪ ،‬وَر ِ‬
‫ح َ‬
‫طوبى لمن‬ ‫حكمة ‪ُ .‬‬ ‫ل الفقه وال ِ‬ ‫ط أه َ‬ ‫ل والمسكنة‪ ،‬وخال َ َ‬ ‫الذ ّ ّ‬
‫ه‪ ،‬وعزل‬ ‫ت علنيت ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ت سريرُته‪ ،‬وك َُر َ‬ ‫ح ْ‬‫صل ُ َ‬
‫ه‪ ،‬و َ‬ ‫طاب كسب ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ل بعلمه‪ ،‬وأنفقَ الفض َ‬
‫ل‬ ‫م َ‬ ‫عن الناس شّره‪ .‬طوبى لمن عَ ِ‬
‫ل من قوله ((‪.‬‬ ‫ك الفض َ‬ ‫من ماله‪ ،‬وأمس َ‬
‫ذكره الحافظ المنذري رحمه الله تعالى في كتاب "‬
‫الترغيب و الترهيب " و قال ‪ :‬رواه الطبراني ‪.‬‬
‫* الحديث الرابع ‪ :‬عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها‬
‫ل الله صّلى الله عليه وسّلم يقول‪:‬‬ ‫ت رسو َ‬ ‫قالت ‪ :‬سمع ُ‬
‫ي الكبير‬ ‫س َ‬
‫س العبد ُ عبد ٌ تخّيل )‪(1‬واختال‪ ،‬ون َ ِ‬ ‫)) ِبئ َ‬
‫س العبد ُ عبد ٌ تجّبر واعتدى‪ ،‬ونسي الجّبار‬ ‫المتعال! ِبئ َ‬
‫ي المقابَر والب َِلى!‬ ‫س َ‬ ‫سَها وَلها ون َ ِ‬ ‫س العبد ُ عبد ٌ َ‬ ‫العلى! ِبئ َ‬
‫س‬
‫ي المبتدا والمنتهى! ِبئ َ‬ ‫س َ‬ ‫س العبد ُ عبد ٌ عََتا وط ََغى ون َ ِ‬ ‫ِبئ َ‬
‫س العبد ُ عبد ٌ يختل‬ ‫دين)‪ِ !(2‬بئ َ‬ ‫دنيا بال ّ‬ ‫ل ال ّ‬‫العبد ُ عبد ٌ َيخت ِ ُ‬
‫س العبد ُ عبد ُ طمٍع يقوده !‬ ‫دين بالشبهات ! ِبئ َ‬ ‫ال ّ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫)‪ (1‬في نسخة الكتاب بخل و لكن الثابت في الحديث "‬
‫تخّيل" من الخيلء‪.‬‬
‫)‪ (2‬أي يطلب الدنيا بعمل الخرة ‪.‬‬
‫‪423‬‬
‫) ‪(1/423‬‬

‫ب ي ُذِّله(( ‪.‬‬ ‫ضّله ! بئس العبد ُ عبد ُ َرغَ ٍ‬ ‫بئس العبد عبد ُ هوىً ي ُ ِ‬
‫رواه الترمذي و قال ‪ :‬حديث غريب ل نعرفه إل من هذا‬
‫الوجه ‪.‬‬
‫* الحديث الخامس ‪ :‬عن علي بن أبي طالب ‪ -‬رضي الله‬
‫ل الله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪» :-‬‬ ‫عنه ‪ -‬قال ‪ :‬قال رسو ُ‬
‫صَلة ح ّ‬ ‫ُ‬
‫ل بها البلُء ((‪ .‬قيل‬ ‫خ ْ‬ ‫س عشَرةَ َ‬ ‫متي خم َ‬ ‫تأ ّ‬ ‫إذا فعل َ ْ‬
‫م د ُوَل ً ‪،‬‬ ‫ل الله ؟ قال ‪ :‬إذا كان المغن ُ‬ ‫‪ :‬وما هي يا رسو َ‬
‫ه‪،‬‬ ‫ل زوجت َ ُ‬ ‫مغَْرما ً ‪ ،‬وأطاع الرج ُ‬ ‫ما ً ‪ ،‬والّزكاةُ َ‬ ‫مْغن َ‬‫ة َ‬ ‫والمان ُ‬
‫ت‬ ‫ُ‬
‫ت الصوا ُ‬ ‫ه ‪ ،‬وجفا أباه ‪ ،‬وارتفع ِ‬ ‫مه ‪ ،‬وبّر صديَق ُ‬ ‫وعقّ أ ّ‬
‫ُ‬
‫م الّرج ُ‬
‫ل‬ ‫م القوم ِ أرذ ََلهم ‪ ،‬وأكرِ َ‬ ‫في المساجد ‪ ،‬وكان َزعي ُ‬
‫ت‬‫خذ َ ِ‬ ‫س الحريُر ‪ ،‬وات ّ ِ‬ ‫ت الخمُر ‪ ،‬ول ُب ِ َ‬ ‫شرِب َ ْ‬‫ة شّره ‪ ،‬و ُ‬ ‫مخاف َ‬
‫خُر هذه المة أوَّلها ‪،‬‬ ‫نآ ِ‬‫ف ‪ ،‬ول َعَ َ‬ ‫ت ‪ ،‬والمعاز ُ‬ ‫الَقّينا ُ‬
‫فل ْي َْرت َِقُبوا عند ذلك ريحا ً حمراَء ‪ ،‬أوخسفا ً أو مسخا ً «‪.‬‬
‫رواه الترمذي و قال ‪ :‬حديث غريب ل نعرفه إل من هذا‬
‫ي‪.‬‬
‫الوجه عن عل ّ‬
‫* الحديث السادس‪ :‬عن أبي ذر رضي الله عنه قال‪ :‬قلت‬
‫‪ :‬يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم عليه السلم ؟‬
‫ك المسّلط المبتلى‬ ‫مل ِ ُ‬‫قال‪ )) :‬كانت أمثال ً كّلها ‪ :‬أيها ال َ‬
‫المغرور ‪ ،‬إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض‪،‬‬
‫دها ولو‬ ‫ولكني بعثتك لترد ّ عّني دعوة المظلوم فإني ل أر ّ‬
‫كانت من كافر ‪ .‬وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا ً على‬
‫عقله أن تكون له ساعات ‪:‬‬
‫‪424‬‬
‫) ‪(1/424‬‬

‫سه‪ ،‬وساعة‬‫ب فيها نف َ‬


‫س ُ‬
‫حا ِ‬
‫ساعة يناجي فيها رّبه‪ ،‬وساعة ي ُ َ‬
‫ل‪ ،‬وساعة يخلو فيها‬ ‫كر فيها في صنع الله عّز و ج ّ‬ ‫يتف ّ‬
‫لحاجته من المطعم والمشرب ‪ .‬وعلى العاقل أن ل يكون‬
‫مة لمعاش‪ ،‬أو لذةٍ في‬ ‫مَر ّ‬‫ظاعنا ً إل لثلث ‪ :‬تزوّدٍ لمعاد‪ ،‬أو َ‬
‫غير محّرم ‪ .‬وعلى العاقل أن يكون بصيرا ً بزمانه‪ ،‬مقبل ً‬
‫مه من عمله؛‬ ‫ب كل َ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬‫على شأنه‪ ،‬حافظا ً للسانه‪ ،‬ومن َ‬
‫ه إل فيما يعنيه ‪.‬‬ ‫م ُ‬ ‫ق ّ‬
‫ل كل ُ‬
‫قلت ‪ :‬يا رسول الله فما كانت صحف موسى عليه‬
‫ت لمن أيقن‬ ‫جب ُ‬ ‫عَبرا ً كّلها ‪ :‬عَ ِ‬ ‫السلم؟ قال‪ )) :‬كانت ِ‬
‫م هو‬‫ت لمن أيقن بالنار ث ُ ّ‬ ‫بالموت ثم هو يفرح! عجب ُ‬
‫ت‬‫جب ُ‬
‫ت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب! عَ ِ‬ ‫يضحك! عجب ُ‬
‫ن إليها ! عجبت‬ ‫لمن رأى الدنيا وتقل َّبها بأهلها ثم اطمأ ّ‬
‫م ل يعمل ((‪.‬‬ ‫لمن أيقن بالحساب غدا ً ث ُ ّ‬
‫قلت‪ :‬يا رسول الله أوصني‪ .‬قال‪ )):‬أوصيك بتقوى الله‬
‫فإنها رأس المر كّله (( ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول الله زدني ‪ .‬قال‪ )) :‬عليك بتلوة القرآن‬
‫ل؛ فإنه نور لك في الرض وذخر لك في‬ ‫وذكر الله عّز و ج ّ‬
‫السماء ((‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول الله زدني ‪ .‬قال‪ )) :‬إياك وكثرة الضحك‬
‫فإنه يميت القلب‪ ،‬ويذهب بنور الوجه (( ‪.‬‬
‫ك بالصمت إل من‬ ‫قلت‪ :‬يا رسول الله زدني ‪ .‬قال ‪ )) :‬علي َ‬
‫ن لك على أمر دينك‬ ‫خير؛ فإنه مطردة لشيطان عنك و عو ٌ‬
‫(( ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول الله زدني ‪ .‬قال ‪ )) :‬عليك بالجهاد فإنه‬
‫رهبانية أمتي ((‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫ب المساكي َ‬ ‫ح ّ‬ ‫قلت‪ :‬يا رسول الله زدني ‪.‬قال ‪ )) :‬أ ِ‬
‫وجالسهم(( ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا رسول الله زدني ‪ .‬قال ‪ )) :‬انظ ُْر إلى من هو‬
‫دونك‪،‬‬
‫‪425‬‬
‫) ‪(1/425‬‬

‫ول تنظر إلى ما هو فوقك ؛ فإنه أجدر أن ل تزدري نعمة‬


‫الله عليك ((‪.‬‬
‫ل الحقّ وإن كان‬ ‫ل الله زدني ‪ .‬قال‪ )) :‬قُ ِ‬ ‫ت‪ :‬يا رسو َ‬ ‫قل ُ‬
‫مّرا ً (( ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫دك عن الناس ما‬ ‫قلت‪ :‬يا رسول الله زدني ‪ .‬قال ‪ )) :‬لير ّ‬
‫جد ْ عليهم فيما تأتي ‪ ،‬وكفى بك‬ ‫تعلمه من نفسك‪ ،‬ول ت َ ِ‬
‫عيبا ً أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك‪ ،‬وتجد‬
‫عليهم فيما تأتي (( ‪ ،‬ثم ضرب بيده على صدري فقال‪)) :‬‬
‫ب‬
‫س َ‬
‫ح َ‬ ‫ف‪ ،‬ول َ‬ ‫ل كالتدبير‪ ،‬ول َورعَ كالك ّ‬ ‫عق َ‬ ‫يا أبا ذر ل َ‬
‫خُلق (( ‪.‬‬ ‫ن ال ُ‬‫س ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫ك ُ‬
‫ذكره المنذري في كتاب " الترغيب و الترهيب" و قال ‪:‬‬
‫رواه ابن حبان في صحيحه و اللفظ له ‪ ،‬والحاكم ‪ ،‬وذكر‬
‫المنذري الحديث الذي قبله في الكتاب المذكور أيضا ً ‪.‬‬
‫رحمه الله تعالى ‪ ،‬و جزاه عن المسلمين خيرا ً ‪.‬‬
‫* الحديث السابع ‪ :‬عن أبي ذ َّر رضي الله عنه أيضا ً عن‬
‫ل‬‫ي ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬فيما يرويه عن رّبه عّز وج ّ‬ ‫النب ّ‬
‫م على نفسي ‪،‬‬ ‫ظل َ‬‫ت ال ّ‬ ‫حّرم ُ‬ ‫أنه قال ‪ » :‬يا عبادي إني َ‬
‫ظالموا ‪ .‬يا عبادي ‪ :‬ك ُّلكم ضا ّ‬
‫ل‬ ‫وجعلُته بينكم محّرما ‪ ،‬فل ت َ َ‬
‫دكم ‪ .‬يا عبادي ‪ :‬ك ُّلكم جائع‬ ‫دوني أهْ ِ‬ ‫سَته ُ‬‫ديُته ‪ ،‬فا ْ‬ ‫ن هَ َ‬
‫م ْ‬ ‫إل َ‬
‫ُ‬
‫مكم ‪ .‬يا عبادي ‪:‬‬ ‫ه ‪ ،‬فاستطِعموني أط ْعِ ْ‬ ‫ن أطعمت ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫إل َ‬
‫م ‪ .‬يا عبادي‬ ‫سك ُ ْ‬‫سوني أك ْ ُ‬ ‫كسوُْته ‪ ،‬فاستك ْ ُ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ك ُّلكم عارٍ إل َ‬
‫ب جميعا ً ‪،‬‬ ‫ذنو َ‬ ‫‪ :‬إنكم ُتخطئون بالليل والنهار ‪ ،‬وأنا أ َغِْفُر ال ّ‬
‫فاستغفروني أغِفْر لكم ‪ .‬يا عبادي ‪ :‬إّنكم لن تبلُغوا ضّري‬
‫ن‬
‫ضّروني ‪ ،‬ولن تبلغوا ن َْفعي فتنفعوني ‪ .‬يا عبادي ‪ :‬لو أ ّ‬ ‫فت َ ُ‬
‫جّنكم ‪،‬‬ ‫سكم و ِ‬ ‫أوَّلكم وآخَركم وإن ْ َ‬
‫‪426‬‬
‫) ‪(1/426‬‬

‫كانوا على أت َْقى قلب رجل واحدِ منكم ‪ ،‬ما زاد ذلك في‬
‫سكم‬ ‫ن أوَّلكم وآخَركم ‪ ،‬وإن َ‬ ‫مْلكي شيئا ً ‪ .‬يا عبادي ‪ :‬لو أ ّ‬‫ُ‬
‫جّنكم ‪ ،‬كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد منكم ‪ ،‬ما نقص‬ ‫و ِ‬
‫ن أّولكم وآخَركم ‪،‬‬‫ذلك من ملكي شيئا ً ‪ .‬يا عبادي ‪ :‬لو أ ّ‬
‫جّنكم ‪ ،‬قاموا في صعيد واحد ؛ فسألوني ‪،‬‬ ‫سكم و ِ‬ ‫وإن َ‬
‫ه ‪ ،‬مانقص ذلك مما‬ ‫ل إنسان منهم مسألت َ ُ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫فأعطي ُ‬
‫ل البحَر ‪ .‬ياعبادي‪:‬‬ ‫ط إذا أ ُِدخ َ‬ ‫خي َ ُ‬‫م ْ‬ ‫عندي إل كما ي َن ُْقص ال ِ‬
‫إنما هي أعماُلكم ُأحصيها لكم ‪ ،‬ثم أوّفيكم إّياها ‪ ،‬فمن‬
‫ُ‬
‫ن إل‬ ‫م ّ‬ ‫مدِ الله ‪ ،‬ومن وجد غير ذلك فل ي َُلو َ‬ ‫ح َ‬ ‫جد َ خيرا ً فلي َ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ه «‪.‬‬ ‫س ُ‬ ‫ن َْف َ‬
‫رواه مسلم و الترمذي و ابن ماجه‪.‬‬
‫وقد ختمنا الكتاب بهذه الحاديث من حديث رسول الله‬
‫‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪ ، -‬كما افتتحناه بشيء منها‪،‬‬
‫تبركا ً وتيمنا ً بكلم رسول الله ‪-‬صّلى الله عليه وآله وسّلم‪-‬‬
‫‪ .‬ونرجو بذلك أن يجعل الله الكلم المؤلف بين ذلك‬
‫مقبول ً لديه‪ ،‬ومقربا ً إلى رضاه‪ ،‬وفي سبيل طاعته وقربه‪.‬‬
‫وأن يغفر لنا ويتجاوز عّنا ما وقع فيه من خطأ أو تخليط‪،‬‬
‫وما داخلنا فيه من رياء أو تصّنع للناس‪ ،‬أو مباهاة أو‬
‫إعجاب‪ .‬ونستغفر الله من جميع ذلك‪ ،‬ومن سائر الذنوب‬
‫ه ( )َرب َّنا ت ََقب ّ ْ‬
‫ل‬ ‫ب إ ِل ّ الل ّ ُ‬ ‫من ي َغِْفُر الذ ُّنو َ‬ ‫ونتوب إليه منها )وَ َ‬
‫َ‬ ‫ب عَل َي َْنآ إ ِن ّ َ‬ ‫منا إن َ َ‬
‫ب‬‫وا ُ‬ ‫ت الت ّ ّ‬ ‫ك أن َ‬ ‫ميعُ ال ْعَِليم( )وَت ُ ْ‬ ‫س ِ‬
‫ت ال ّ‬ ‫ك أن َ‬ ‫ِ ّ ِّ‬
‫ل عَل َي َْنا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫خط َأَنا َرب َّنا وَل َ ت َ ْ‬ ‫سيَنا أوْ أ ْ‬ ‫خذ َْنا ِإن ن ّ ِ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫م( )ل َ ت ُ َ‬ ‫حي ُ‬ ‫الّر ِ‬
‫ما ل َ‬ ‫مل َْنا َ‬ ‫ح ّ‬‫من قَب ْل َِنا َرب َّنا وَل َ ت ُ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬‫ه عََلى ال ّ ِ‬ ‫مل ْت َ ُ‬
‫ح َ‬ ‫صًرا ك َ َ‬
‫ما َ‬ ‫إِ ْ‬
‫َ‬
‫موْل ََنا‬ ‫ت َ‬ ‫مَنآ أن َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ف عَّنا َواغِْفْر ل ََنا َواْر َ‬ ‫ة ل ََنا ب ِهِ َواعْ ُ‬ ‫طاقَ َ‬ ‫َ‬
‫ن(‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫صْرَنا عََلى ال َْقوْم ِ ال ْ َ‬ ‫َفان ُ‬
‫‪427‬‬
‫) ‪(1/427‬‬

‫م إّني أستغفرك لذنبي ‪ ،‬و‬ ‫ه إل أنت سبحانك( الّله ّ‬ ‫)ل إل َ‬


‫م زدني علما ً ‪ ،‬ول تزغ قلبي بعد إذ‬ ‫أسألك رحمتك ‪ .‬الّله ّ‬
‫هاب ‪.‬‬ ‫ت الو ّ‬ ‫هديتني ‪ ،‬و هب لي من لدنك رحمة إّنك أن َ‬
‫***‬
‫مد ُ ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ح ْ‬ ‫م الكتاب بحمد الله وعونه و حسن توفيقه )ال ْ َ‬ ‫ت ّ‬
‫َ‬
‫ه ل ََقد ْ‬‫داَنا الل ّ ُ‬
‫ن هَ َ‬ ‫ول أ ْ‬ ‫ما ك ُّنا ل ِن َهْت َدِيَ ل َ ْ‬ ‫ذا وَ َ‬ ‫داَنا ل ِهَ َ‬
‫ذي هَ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ما‬ ‫ب ال ْعِّزةِ عَ ّ‬ ‫ك َر ّ‬ ‫ن َرب ّ َ‬‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬‫ق( ) ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل َرب َّنا ِبال ْ َ‬ ‫س ُ‬‫ت ُر ُ‬ ‫جاء ْ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬
‫ح ْ‬‫ن *َوال ْ َ‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫م عََلى ال ْ ُ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ن *و َ َ‬ ‫صُفو َ‬ ‫يَ ِ‬
‫ن ( ‪ ،‬و ل حول و ل قوة إل بالله العلي العظيم‪ ،‬و‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫مد و على آله و صحبه و سّلم ‪.‬‬ ‫صّلى الله على سيدنا مح ّ‬
‫***‬
‫و كان الفراغ من إملئه يوم الحد الثاني والعشرين من‬
‫شهر شعبان المبارك سنة تسع و ثمانين بعد اللف من‬
‫هجرته عليه الصلة و السلم ‪ ،‬و صّلى الله على سّيدنا‬
‫مد و على آله و صحبه و سّلم ‪.‬‬ ‫مح ّ‬
‫م الكتاب بعونه تعالى[‬‫]ت ّ‬

‫‪428‬‬
‫) ‪(1/428‬‬

‫الفهرس‬
‫‪ ...‬خطبة الكتاب‬
‫‪ ...‬مبحث التقوى‬
‫أقوال العلماء في التقوى‬
‫إصلح القلب‬
‫القسوة والغفلة‬
‫الرقة على المؤمنين‬
‫طول المل‬
‫أصناف الناس في المل‬
‫ذكر الموت‬
‫طول العمر‬
‫أماني المغفرة‬
‫اليمان بالقضاء والقدر‬
‫‪ ...‬مبحث العلم‬
‫العلم الواجب‬
‫فضل طلب العلم‬
‫آداب العالم و وظائفه‬
‫‪ ...‬مبحث الصلة‬
‫فضائل الصلة‬
‫المحافظة على الصلة والقامة لها‬
‫فضيلة الجماعة‬
‫صلة الجمعة‬
‫صلة النفل‬
‫قيام الليل‬
‫خطر ترك الصلة‬
‫‪ ...‬مبحث الزكاة‬
‫منع الزكاة‬
‫من آداب المزكي‬
‫زكاة الفطر‬
‫صدقة التطوع‬
‫آداب التصدق‬
‫آداب الفقير‬
‫‪ ...‬مبحث الصوم‬
‫فضل شهر رمضان‬
‫آداب الصائم‬
‫صلة التراويح‬
‫فضل العشر الواخر من رمضان‬
‫صيام النفل‬
‫‪ ...‬مبحث الحج‬
‫الستطاعة في الحج‬
‫آداب الحج‬
‫‪ ...‬مبحث تلوة القرآن العظيم و الذكر‬
‫آداب التلوة‬
‫الكثار من قراءة القرآن الكريم‬
‫فضائل سور و آيات معينة‬
‫فضل ذكر الله‬
‫آداب الذكر‬
‫أنواع الذكر‬
‫فضل الستغفار‬
‫فضل الصلة على النبي‬
‫فضل الدعاء و آدابه‬
‫‪ ...‬مبحث المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫‪ ...‬مبحث الجهاد‬
‫آداب المجاهد في سبيل الله‬
‫) ‪(1/429‬‬

‫‪ ...‬مبحث الوليات والحقوق‬


‫واجبات الوالي‬
‫واجبات القاضي‬
‫واجبات والي اليتام‬
‫حقوق الوالدين‬
‫حقوق الولد‬
‫صلة الرحام‬
‫حقوق الهل والعيال‬
‫فضل النكاح‬
‫الحسان إلى المماليك والرقاء‬
‫الحسان إلى الجيران‬
‫الحسان إلى الصحاب‬
‫حقوق المسلم على المسلم‬
‫‪ ...‬مبحث المهلكات‬
‫طلب الحلل والكل منه‬
‫المحرمات على قسمين‬
‫الناس بالنسبة إلى المعاملة في أمور الدنيا على ثلثة‬
‫أقسام‬
‫التورع والتحري وإيثار الحلل‬
‫احتكار الطعام‬
‫المعاملة بالربا‬
‫ما يأخذه الحكام والعمال من الرشا والهدايا‬
‫مسألة الناس‬
‫تحريم الخمر وذمها‬
‫حفظ القلب والجوارح‬
‫حفظ الفرج‬
‫حفظ القلب‬
‫صفات القلب المذمومة‬
‫الكبر‬
‫الرياء‪:‬‬
‫الحسد‬
‫قلة الرحمة بالمسلمين‬
‫سوء الطن بالمسلمين‬
‫حب الدنيا‬
‫حب الجاه والمال‬
‫الغرور‬
‫‪ ...‬مبحث المنجيات‬
‫التوبة إلى الله تعالى‬
‫الكثار من الستغفار‬
‫الرجاء في الله والخوف من الله‬
‫الصبر‬
‫الشكر‬
‫الزهد في الدنيا‬
‫التوكل على الله‬
‫الحب في الله‬
‫الرضا عن الله تعالى‬
‫حسن النية والخلص لله‬
‫الصدق‬
‫المراقبة لله‬
‫حسن التفكر واستقامته‬
‫قصر المل‪ ،‬وكثرة ذكر الموت والستعداد له‬
‫‪ ...‬خاتمة الكتاب‬
‫عقيدة أهل السنة و الجماعة‬
‫خاتمة الخاتمة‬
‫‪...‬الفهرس‬
‫) ‪(1/429‬‬

You might also like