Professional Documents
Culture Documents
أ
ت�ليف
إشكالية االختزالية يف فلسفة العقل وتبعاهتا عىل اإليامن باهلل ومبدأ النفس :تأطري املسألة من أجل بحوث
إسالمية إضافية
978-9948-20-273-8 :ISBN
جميع الحقوق محفوظة .يمنع إعادة إنتاج أو توزيع أي جزء من هذا الكتاب بأي وسيلة دون موافقة خطية
صريحة من المؤلف ،إال في حاالت االقتباس المختصر مع االستشهاد الدقيق والكامل في المقاالت
النقدية أو المراجعات.
لنص كُ تِب يف األصل باللغة اإلنكليزية ،وإذا ما ُأثري أي تساؤل حول قصد املؤ ّلف من عبارة
هذه الوثيقة ترمجة ّ
ما ،فربام يرغب القارئ يف االطّ الع عىل النسخة األصلية اإلنكليزية.
نبذة عن الكاتب
جهاد هاشم براون ،زميل أبحاث أول يف مؤسسة طابة .بعد حصوله عىل الشهادة
اجلامعية يف علم النفس ،ويف الدراسات الرشق أوسطية من جامعة َرتغَ رز يف
انكب عىل أخذ العلوم اإلسالمية
ّ نيوجريس ،واصل طلب العلم وحتصيله حيث
ثم إنّه
الرشعية من كبار العلامء املعتربين يف سورية واملغرب مدة عرش سننيّ .
حصل عىل شهادة جامعية يف الالهوت الفلسفي من جامعة كمربدج .وقد ظهر
مرارا يف منافذ إعالمية عديدة يف الرشق األوسط وأمريكا؛
جهاد هاشم براون ً
مستشارا حلكومات ومؤسسات خمتلفة بشأن قضايا تتع ّلق باإلسالم ً وعمل
والعالقات الدولية .وهو يعيش اآلن مع زوجته وأوالده يف مدينة برنستون بوالية
نيوجريس.
احملتوى
ال ،مل تتمكن الوضعية املنطقية التي ظهرت يف مطلع القرن العرشين من االنتعاش بعد فمث ً .1
انتقادات كل من كارل بوبر و و .ف .كواين يف مخسينيات القرن نفسه .ومع هذا ،فإن
الكثري من افرتاضاهتا األساسية ،ال سيام مبدأ التحقق والوثوب من معطيات جتريبية إىل
مزاعم كلية غري جتريبية وشجب امليتافيزيقا ،ال تزال تؤثر عىل اخلطاب العام ،وبشكل غري
معقول ،عىل اخلطاب «النخبوي» اإلسالمي ً
أيضا.
عىل سبيل املثال :دانييل دينِّت( Consciousness Explained ،تفسري الوعي) (بوسطن: .2
ليتِل وبراون ورشكاؤمها)1991 ،؛ بول ترششالندMatter and Consciousness: A ،
( Contemporary Introduction to the Philosophy of Mindاملادة والوعي :مدخل
معارص لفلسفة العقل) (كمربدج ،ماساتشوستس :مطبعة معهد ماساتشوستس للتقنية،
)1984؛ ديفيد بابينو( Philosophical Naturalism ،املذهب الطبيعي الفلسفي)
(أكسفورد :باسيل بالكويل.)1993 ،
1
ورقات طابة
العقل قد يكون فيزيائ ًيا كمد يد شخص إىل مظلته بعد سامع تقرير إخباري عن
الطقس ،وقد يكون ذهن ًيا مثل شعور بالتململ إزاء انتظار طويل يف طابور يف
«دائرة تسجيل املركبات»((( .والعلل الفيزيائية املقدَّ مة يف هذه النظرية ترتاوح من
ردود أفعال جتاه حم ّفزات بيئية إىل إطالق اخلاليا العصبية يف املادة السنجابية يف
يوضع يف اعتبار جمال الوعي الكالمي
الدماغ البرشي .وينبغي هلذا املفهوم أن َ
اإلسالمي ،ألن له تداعيات خطرية عىل مبدأ النفس .وتبعات هذه املقاربة ليست
يف عدم إمكانية مبدأ نفس الما ّدية فحسب((( ،بل وأهم من ذلك أن هذا املبدأ
ِ
مشكلة عىل ثم َّ
إن النزعة االختزالية هلا تداعيات من حيث التفسري ال حاجة إليهّ .
صحيحا أنه ال وجود إال لألشياء املادية فإنه ال جمال
ً فكرة اإليامن باهلل .وإذا كان
منز ٍه يف مثل هذه الرؤية للعامل.
إلله َّ
إن مبدأ النفس رضوري ال غنى عنه يف علم الكالم اإلسالمي .قبل القرن
الثاين عرش امليالدي (السادس اهلجري) كان يميل مفهوما النفس والروح إىل
انطواء أحدمها يف اآلخر دون عالمات كثرية للتمييز املنهجي بينهام .ولكن بعد
القرن الثاين عرش خضع املفهومان إىل يشء من املنهجية ،إذ كان ُيفهم من النفس
واحلياة ّأنام يشكالن الدعم امليتافيزيقي للروح التي هي حمل التجربة الدينية.
وكانت عني هذه «التجربة الدينية» هي التنمية الروحية واملسؤولية األخالقية
والوصول إىل اهلل واحلياة بعد املوت.
ويف مفرتق طرق هذا التحول التارخيي ،قدم الفقيه واملتكلم الكبري عبد امللك
لطيف ضمن
ٌ جسم
ٌ اجلويني (ت874 .هـ5801/م) تعري ًفا انتقال ًّيا للنفس بأهنا
اجلسم املــادي((( .ثم جاء أبو حامد الغزايل (ت505 .هـــ1111/م) ،تلميذ
أو «اعتقاد» ّ
بأن املطر سيهطل اليوم. . 3
عدم إمكانيتها ينشأ عن الزعم بأنه ال وجود إال لألشياء املادية. .4
اإلمام اجلويني ،كتاب اإلرشاد إىل قواطع األدلة يف أصول االعتقاد (القاهرة :مطبعة .5
السعادة )1950 ،ص.377 .
2
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
اجلويني ،فأضاف إىل تعريف أستاذه أن هذا اجلسم اللطيف أمر رباين عجيب.
وقد ُشبهت النفس ببخار شفاف ،وبالضوء املنبعث من املصباح الذي يمأل
تضمن معنى
أرجاء البيت ،وبانتشار ماء الورد يف بتالت الوردة .وعىل الرغم من ّ
يتضمن حركة مقصودة،
ّ «الوجود الفيزيائي» هلذه «اجلسمية» ،إال ّ
أن هذا املفهوم
بعيدً ا عن املحسوس املادي.
أما يف الفرتة الكالمية املتأخرة ،فقد وضع عضد الدين اإلجيي (ت.
756هـ1355/م) وآخرون((( تعري ًفا جديدً ا للنفس بأهنا جوهر جمرد من املادة:
«وهي كامل ّأول جلسم طبيعي آيل من جهة ما يتغذى وينمو ،أو حيس ويتحرك
يفس
ّ باإلرادة ،أو يعقل الكليات ويستنبط بالرأي»((( .وهذا الرأي األخري
بوضوح ارتياح كثري من املتكلمني املسلمني بعد الغزايل لفكر ابن سينا ،وإن كان
عم يدعو إىل النقد(((.
هذا االرتياح ال يغفل عاد ًة ّ
مكونًا إضاف ًّيا يف الفكر الكالمي اإلسالمي فيام خيص النفس أال ّ
وإن هناك ّ
وهو «الثنائية» .إذ ينشأ تفضيل واضح هلذه الثنائية يف علم الكالم بغض النظر
تصور املتكلمني للنفس بأهنا جوهر جمرد أو جسم لطيف أو جوهر
عام إذا كان ّ
ِ
فرد ،فهي يف كل األحوال جوهر له استعدادات وقوى .ولكن ما ينبغي أخذه
بعني االعتبار هو أن املفاقمة يف الثنائية الديكارتية املتعلقة ببعض املشكالت
املوجهة إىل
األفالطونية ،يف القرن السابع عرش ،هي التي دفعت إىل التهم احلديثة ّ
معقولية الثنائية .والثنائية اإلسالمية ،عىل أي حال ،ال يمكن أن تُفهم عىل نفس
كفخر الدين الرازي (ت606 .هـ1210/م) ،املطالب العالية؛ وسيف الدين اآلمدي .6
(ت631 .هـ1223/م) ،أبكار األفكار؛ والقايض البيضاوي (ت685 .هـ1286/م)،
طوالع األنوار؛ وسعد الدين التفتازاين (ت793 .هـ1390/م) ،رشح املقاصد.
عضد الدين اإلجيي ،كتاب املواقف (بريوت :عامل الكتب ،)1970 ،ص.229 . . 7
لعل أحد التفسريات اجلديرة باالعتبار أن أعامل الغزايل النقدية هي التي جعلت حدوث .8
أمرا ممكنًا لعلم الكالم الذي نشأ بعدها.
تعامل واثق وثابت وبارع مع الفلسفة ً
3
ورقات طابة
املنوال ،إذ إهنا تقرتح مقاربة تركيبية للجسم والنفس عىل نحو يتخطى «مشكلة
االقرتان» التي تقف أمام الثنائية الديكارتية يف فلسفة العقل املعارصة.
وال تزال العادة املتبعة يف علم الالهوت املعارص يف التقليد الغريب ،دون
استثناء تقري ًبا ،هي اختزال كل كالم عىل النفس يف مناقشات حول مسائل إشكالية
يف فلسفة العقل .ويعود هذا يف الغالب إىل مشكلة حديثة تتع ّلق بـ «اإلسهاب
ينسجم املفهوم الكالمي للنفس
َ التفسريي» املشار إليه آن ًفا .ومع هذا فقد اتُّفق ْ
أن
مجيل ،إذ إن العقل والتع ّقل مرتبطان ،عىل املعتمد،
مع فلسفة العقل انسجا ًما ً
عرف الرشيف اجلرجاين (ت. ارتبا ًطا وثي ًقا باعتبارمها قو ًة معلوم ًة للنفس .و ُي ِّ
َ
العقل بأنه: 816هـ1413/م) ،يف رشحه عىل املواقف يف علم الكالم لإلجيي،
جسم وال ً
حال فيه ،وال جز ًءا منه ،بل هو جوهر جمرد يف ذاته «موجود ممكن ليس ً
مستغن يف فاعليته عن اآلالت اجلسامنية»((( .وهلذا السبب تتم ّيز النفس اإلنسانية
عن النفس احليوانية بكوهنا متطابقة مع النفس الناطقة.
وأزعم هنا أنه إذا ُو ِجدَ ت حلول للمشكالت التحليلية األساسية بام يؤ ّيد
مبدأ النفس فإنه يمكن معاجلة بناء ميتافيزيقي إضايف عىل مستوى أرفع وأكثر
أمهية ،وهذا املستوى األرفع هو جمال علم الكالم امليتافيزيقي ،وهو من جانبه
غري ُمق ّيد باخلاص ّية التحليلية ( )analyticityما دام يمتثل لقاعدة «عدم التناقض»
املنطقية؛ وأعني بقاعدة عدم التناقض الدالل َة التي يثبتها العقل املحض فيام كان
ُيتداول قبل عهد الفلسفة الوضعية.
إطارا من أجل إجراء مزيد من البحث
ً وأبتغي يف هذه الورقة أن أقدّ م
اإلسالمي حول املشكالت التي تقف أمام مبدأ النفس يف فلسفة العقل .وتُفهم
النفس هنا وفق العرف احلايل من حيث ارتباطها بالعقل والوعي ،اللذين مها
الرشيف عيل اجلرجاين ،رشح املواقف (القاهرة :مطبعة السعادة1324 ،؛ أعيدت طباعته، .9
طهران :انتشارات الرشيف الرضا ،1415 ،الطبعة الثانية) ،ج ،7ص.254 .
4
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
ُ
العقل بأنّه كيان مستقل ،بأنه النفس تصور
قوتان معلومتان للنفس ،أو حني ُي َّّ
الناطقة ذاهتا.
رتح يف هذه الورقة َّ
أن البدء من «عدم اختزالية الوعي (أو العقل) يف واملق َ
الفيزيائي» هو نقطة انطالق أفضل من حماولة إجياد براهني عىل الثنائية اجلوهرية،
حددت من
ُ أي ثنائية جوهر أقرب إىل الديكارتية منها إىل نموذج تركيبي .وقد
(mind-brain بني شتى مظاهر االختزالية نظرية «التطابق بني العقل والدماغ»
)identityباعتبار ّأنا األقوى حجة .وأسعى هنا إلثبات أن اجلهو َد املبذولة من
افرتاض ال يقوم عىل
ٌ أجل اعتبار الظواهر الذهنية ليست إال حوادث دماغية هو
تأثريا ،ال
أساس متني .ومع عدم استمرارية االختزالية ،حتى يف صورهتا األكثر ً
يبقى لدينا إال ثالثة اجتاهات بديلة لتفسري عدم قابلية الظواهر الذهنية لالختزال:
وإن أن « ّ
احلل» هو السبيل الوحيدّ . إما اإلعراض أو التك ّيف أو احلل؛ وأقرتح َّ
اهلوة بني الفلسفة التحليلية
الالهوت الفلسفي ،بقابليته الطبيعية الجتياز ّ
ً
حلول أكثر تأ ّن ًقا هلذه املعضالت .وأعني بالتأنق هنا وامليتافيزيقا( ،((1قد يقدم
كثريا يف املنهج العلمي احلديث.
مراعاة مبدأ «االختصار» ( )parsimonyاملح ّبذ ً
التفكري املتأ ّثر بالفلسفة الوضعية ،متن ّك ًبا عن اجلادة،
ُ وكثريا ما يذهب بعيدً ا
ً
لتفادي النتائج املوصلة إىل اإليامن باهلل.
وقد جيد املرء أن معظم الكتابات املعارصة حول الالهوت هتدف إىل تكثيف
نرش املعاجلات التي تناولتها عن النفس والعقل باعتبار ّأنا تدافع عن اإليامن باهلل
أيضا إىل بعض الوجهات التي يمكن أن يأخذها
أومأت ً
ُ (أي عن وجود اهلل) .وقد
هذا التفكري .ويف هذا اخلصوص ،أزعم أنه عند العمل ضمن مشهد احلدود التي
ولكن هناك فرق يف مفهوم ْ .10من املس َّلم به أن الفلسفة التحليلية تعالج املسائل امليتافيزيقية،
العقالنية التي تصبغ تلك امليتافيزيقا يف مقابل العقالنية التي تصبغ الفلسفة امليتافيزيقية
وإن فهم العقالنية الذي تنتهجه الفلسفة التحليلية يميل إىل أخذ صبغته من التقليديةّ .
أن عقالنية امليتافيزيقا التقليدية هي عقالنية العقل املحض. فلسفة وضعية كامنة ،يف حني ّ
5
ورقات طابة
رسمتها الفلسفة التحليلية فإنه قد يكون من األجدى إثبات «معقولية» اإليامن باهلل
بدل من البحث عن براهني «ساحقة ماحقة» .وما ُأملِ ُح إليه هبذا هو أن فرو ًعا من
ً
العلم (أو نامذج معرفية) خمتلفة هي أجدر بتحليل (ومعاجلة) مسائل متخصصة
أو خمتلفة.
وقد يرغب القارئ استحضار أربع أفكار يتخذها مؤونة له وهو يبحر يف
عظيم ٍّ
لكل من مبدأ ً املادة العلمية املبسوطة أمامهً .
أول ،تشكل االختزالية حتد ًّيا
تتعرض االختزالية
النفس واإليامن باهلل ،ولكنه ليس حتد ًيا مستعص ًيا .ثان ًيا ،حني ّ
يف مسألة الوعي بأكثر صورها شمولية (أي نظرية التطابق) لنقد فلسفي (كنقد
ِ
وكريبكه) فإهنا تبدأ بفقد قوهتا .ثال ًثا ،سيكون لزا ًما عىل املؤ ّلفني املسلمني ُبتنام
بأنم عاملون هبذه املنعرجات املعارصين يف جمال علم الالهوت أن ُيثبتوا ّ
واملنعطفات يف أثناء املداولة واحلوار ،وسيكون هذا رش ًطا لفعالية خطاهبم مع
القراء غري املسلمني أو حتى مع املفكرين املسلمني الناشطني يف سوق األفكار ّ
العاملي .راب ًعا ،يليق باملفكِّرين املسلمني واملفكِّرات اإلقرار بالصالحية واملال َءمة
املتأصلت َْي بني املفاهيم الناشئة من تراثهم الالهويت اخلاص واملواضيع ا ُملثارة
ُ
إحداث تقدي ِم مثل هذه يف املناقشات الفلسفية والالهوتية املعارصة .ويتط ّلب
ً
شامل وأمينًا لفروع خاصة من العلوم الرشعية تقويم
ً ٍ
بنجاح املفاهيم اجلديدة
(مثل علم اجلدل والبالغة واملنطق ودالالت النصوص وعلم الكالم ،إلخ).
املتخوفون ما ُي َط ْم ِئن قلوهبم يف مالحظة ّ
أن استخراج نامذج نافعة ّ ويمكن أن جيد
بطريقة استكشافية من فلسفة العصور الوسطى يمتد اآلن إىل أبعد بكثري من
سعي الفالسفة التوماويني املعارصين .
(Richard وتبدأ الورقة بتقدير جــدوى مــروع ريتشارد سوينربن
)Swinburneيف الوفاء بتحقيق هذه األهداف ذاهتا .ويسعى سوينربن للربهنة
)radicalعن طريق (substance dualism عىل الثنائية اجلوهرية الراديكالية
6
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
7
ظاهرة الوعي من حيث عالقتها
بالعقل والنفس واإليامن باهلل
إن القدرة عىل الفكر التأ ّميل الذايت ربام تكون أقىص مظهر اضطراري للوعي
اإلنساين .فاإلنسان يف حلظات التأ ّمل الذايت غال ًبا ما جيد استثارة حيوية تدفع
به نحو الوصول إىل ما وراء الفيزيائي املا ّدي .ومن املس َّلم به عمو ًما ّ
أن جتربتنا
احلدسية يف األصل حيال أنفسنا والعامل هي بطبيعتها جتربة ثنائية .وإننا ندرك
بالبداهة أن عقولنا هلا حياة قائمة بصورة مستقلة عن أجسامنا املادية ،وال ينشأ
التوتّر ّإل عند السؤال :هل إثبات هذه «النفسية اجلامعية» ()folk psychology
من الناحية العلمية أو الفلسفية ممكن أم غري ممكن(((1؟ وال تزال آفة البحث
األكاديمي يف موضوع النفس تكمن يف إضفاء صيغة أدق عىل هذه النزعات
الذاتية.
ذاع
وإن الوعي ،الذي تتَّضح أمهيته املركزية يف موضوعنا ،أثبت عىل نحو َ ّ
وانترش أنّه مفهوم يستعيص عىل التعريف .فكثري من ال ُكتّاب يذكرونه ولك ْن فعل ًّيا
« .11علم النفس اجلامعي» مصطلح يشري إىل نظرة احلس املشرتك للوعي القريبة من
The Future of Folk نظرة فلسفة احلس املشرتك .انظر :جون د .غرينوود (حمرر)،
( Psychology: Intentionality and Cognitive Scienceمستقبل علم النفس اجلامعي:
القصدية والعلوم االستعرافية) (كمربدج :مطبعة جامعة كمربدج.)1991 ،
9
ورقات طابة
ثلة منهم فقط يبذلون جهدً ا لتحديد املقصود منه ،ويف غالب األحيان يميلون
عنه ويتكلمون عىل العقل والصفات العقلية واحلوادث الذهنية .وقد تطرق
ديفيد تشاملرز ( )David Chalmersإىل هذه املالحظة بصورة مبارشة ،وذكر أن
إن معظم املؤ ّلفني اكتفوا
وتوهه هو السبب يف ذلك ،وقال ّ
ّ متاهة هذا املفهوم
فقط باحلديث عن «ظواهر» الوعي (كاالعتقادات واملشاعر واملقاصد والرغبات،
إلخ)؛ ويف الوقت ذاته سعى جاهدً ا إىل تقديم تعريف عميل لنا« :حني أتك ّلم عىل
الوعي فأنا ال أتك ّلم إال عىل الصفة الذاتية للتجربة :ما الذي يعنيه أن أكون ذاتًا
مدركة»( .((1ومع ّ
أن هذا ال يميض بنا إىل حدّ أبعد يف هذا السبيل ،إال أنّه بداية
مرحب هبا .ومن أجل األهداف املحددة هلذا البحث ،فإننا عندما نتحدّ ث عن
َّ
الوعي ،فإننا نتحدّ ث عن العقل اإلنساين بغية معاجلة املشكالت املتع ِّلقة به.
ربهن وسأحاول ،يف هذا البحث ،أن أبني َّ
أن معقولية اإليامن باهلل يمكن أن ُي َ
عليها انطال ًقا من مسألة الوعي .وقد بارش ريتشارد سوينربن يف كتابه الرائد الذي
( Theتطور النفس) هدفه يف إثبات Evolution of the Soul أ ّلفه عام :1986
هذه املسألة بالذات .واحلق أن هذه املسألة ما زالت شغله الشاغل إىل يومه هذا؛
ومن اجلَور القول إنّه قد أخفق يف سعيه .فقد قدم سوينربن إسهامات مهمة ضمن
حماوالت إعادة تقويم الثنائية عمو ًما واملسألة الفلسفية املتع ّلقة بالعقل وبالنفس
خصوصا .ومع هذا يمكن القول إن مرشوعه الفلسفي يسعى إىل تضمني أشياء
ً
كثرية يف مقدماته قبل الوقوف عىل الكثري من االعتبارات التأسيسية الرضورية.
ّ
وإن صورة الثنائية اجلوهرية التي يقدمها ليست ديكارتية وال توماوية ،ولكن قد
تكون أكرب من أن يستوعبها مرشوعهّ .
وإن مسألة عدم قابلية الوعي اإلنساين
10
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
لالختزال ،من جهة أخرى ،قد تكون حصنًا فعاالً ضد الفيزيائية االختزالية ،وإن
كانت أكثر تواض ًعا.
واليوم باتت النزعة الالاختزالية تتمتع بمستويات متنامية أكثر من ذي
قبل من املوافقني واملؤيدين هلا وإن كان يبدو أهنم غري مستعدين كلهم لتجاوز
الشعور باألمان الذي تقدمه نتائجها األوضح واألجىل .وتصبو هذه الورقة إىل
طرح قضية للنظر ،وهي َّ
أن عدم قابلية الوعي لالختزال ُيتيح الفرصة ملعقولية
نتائج ميتافيزيقية أخرى .و ُيمكن اجلزم بأن هذه املعقولية املتأصلة يف «إشكالية»
الوعي هي التي بوسعها ْ
أن تقدم بنجاح بعض الدعم الفلسفي األو ّيل لإليامن
باهلل.
11
ورقات طابة
12
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
تعريفات:
« = pأنا شخص واع وموجود يف عام »1984
ِ
ـي جسمي يف آخر حلظة من عام »1984 َ « = qفن َ
« = rلدي ن ْفس يف عام »1984
« = sأنا موجود يف عام »1985
نطاقها كل القضايا املتسقة واملتالئمة مع ( )p&qوالواصفة x
مقدمات:
p .1
)p&q&x&s( ◊ )x( .2
)p&q&~r&s( ◊ ~ .3
النتيجة:
أن لدي ن ْف ًسا يف ])»1984
[~ «( rاحلالة ليست َّ
13
ورقات طابة
ويمكن رشح هذه املقدمات كام ييل :تستلزم املقدمة 2أنه بناء عىل مجيع حاالت
،)x( 1984ومنها حالة كوين واع ًيا يف )p( 1984وحالة فناء جسمي يف آخر
حلظة من )q( 1984فإنه من املمكن (◊) أن أستمر يف الوجود يف .)s( 1985
وتستلزم املقدمة 3أنه من غري املمكن أن أكون واع ًيا يف )p( 1984وأن يفنى
جسمي يف آخر حلظة من ،)q( 1984وأن أستمر ،مع هاتني احلالتني ،يف الوجود
يف ،)s( 1985بينام يف الوقت ذاته ليس عندي نفس يف .)r~( 1984
املوجه يف
َّ وخصوصا دليله
ً لقد ركز معظم منتقدي سوينربن عىل ثنائيته،
إثبات الثنائية اجلوهرية( .((2فعىل سبيل املثال لفت ألستون ( )Altsonوغريه
املوجه الذي استعمله سوينربن.
َّ النظر إىل مشكلة يف املقدمة الثانية للدليل
فباستبدال العبارات األصلية يمكن إثبات أن حجة سوينربن من املحتمل أن
تستلزم تناقضات تُسبب إشكاالت للنموذج الذي يقدمه(.((2
وعىل هذا النحو عمدت إلينور ستَمب ( )Stumpوغريها إىل اختبار صحة
حجة سوينربن عن طريق تقديم أمثلة مضادة إلطاره املنطقي ،وقد ب ّينت هذه
األمثلة أن بعض جمموعاته غري مقصورة بام فيه الكفاية مما يسمح بأمثلة مضادة
حيث تتناسب مع الرشوط التي وضعها ولكنها يف هناية املطاف تُفنّد النتائج
«Swinburne’s Argument . 23كان يف طليعة هؤالء املنتقدين وليام ألستون وتوماس سميث،
( »for Dualismحجة سوينربن يف الثنائية)( Faith and Philosophy ،الدين والفلسفة)،
133-127 :)1994( 1/11؛ وإلينور ستَمب ونورمان ك ِرتسامن«An Objection ،
»( to Swinburne’s Argument for Dualismاعرتاض عىل حجة سوينربن يف الثنائية)،
( Faith and Philosophyالدين والفلسفة)412-405 :)1996( 13 ،؛ وغراهام
أويب( «Swinburne on ‹Mental› and ‹Physical›» ،سوينربن حول «العقيل» و«املادي»)،
( Religious Studiesدراسات دينية)495-483 :)1998( 34 ،؛ ووليام َهسكر،
املوجه يف الثنائية)،
َّ »( «Swinburne’s Modal Argument for Dualismدليل سوينربن
( Faith and Philosophyالدين والفلسفة)370-366 :)1998( 3/15 ،؛ وكنت
ريمز«A Response to Swinburne’s Latest Defense of the Argument for Dualism» ،
(ر ّد عىل دفاع سوينربن األخري عن حجته يف الثنائية)( Faith and Philosophy ،الدين
والفلسفة).97-90 :)1999( 1/16 ،
.24ألستون وسميث« ،حجة سوينربن يف الثنائية» ،ص.133-132 .
14
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
. 25عىل سبيل املثال« = x1 :اهلل س ُيفني نفيس يف آخر حلظة من عام »1984ال تناقض تقييد
سوينربن األصيل ( )aأي وجوب أن تكون بدائل xمتوافقة مع ( )p&qأو ( )bأهنا تصف
فقط حاالت .1984
أيضا متواف ًقا مع .s
« .26الرتقيع» اجلديد ،القيد ،cيقول إن أي إبدال لـ xال بد أن يكون ً
.27ستَمب وكرتسامن ٍ،»«An Objection to Swinburne’s Argument for Dualism
(اعرتاض عىل حجة سوينربن يف الثنائية) ،ص.406 .
15
ورقات طابة
(تطور النفس) ،ص.154-153. ّ سوينربنThe Evolution of the Soul ، .28
دين زمرمان( «Two Cartesian Arguments for the Simplicity of the Soul» ،حجتان . 29
ديكارتيتان يف بساطة النفس(( American Philosophical Quarterly ،املجلة الفلسفية
األمريكية).222 :)1991( 3/28 ،
املصدر السابق. . 30
املصدر السابق. .31
16
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
17
ورقات طابة
ٍ
عيوب واضحة يف صحته البنيوية ،وأهم يعاين نموذج سوينربن للوعي من
املوجه الذي يستعمله ليس ثم ّ
إن تفاصيل الدليل َّ من ذلك ،يف مقدماته اجلوهريةّ .
هلا أي صلة بنموذجه اخلاص به إلثبات اإليامن باهلل من الوعي .وهذه العيوب
أساسا لتقديم دعم فلسفي التي أملحنا إليها جتعل نموذجه هذا غري ٍ
كاف الختاذه
ً
ٍ
مقدمات كثري ًة يف نموذجه حتى لإليامن باهلل .فقد حاول سوينربن أن ُيدخل
ح ً
ال تصعب إدارته دون تقديم تعليالت لفرضياته غري املربهنة يف البداية. جعله ِ ْ
وأجدين يف هذا املفرتق أميل ،من أجل أغراضنا املعلنة ،نحو اقرتاح ّ
أن برناجمًا
نجاحا .وهذا الربنامج عليه أن يأخذ
ً أكثر تواض ًعا قد يؤدي بنا إىل نتائج أكثر
بعني االعتبار اإلشكاالت األساسية نفسها التي تعرتض مفهوم الوعي باإلضافة
إىل أي حماولة لتربير اإليامن باهلل من هذا الوعي.
.34إي.ج .لو( An Introduction to the Philosophy of Mind ،مدخل إىل فلسفة العقل)
(كمربدج :مطبعة جامعة كمربدج ،)2008 ،ص.27 .
18
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
)identity theoryتشكل أولوية أكثر أمهية بالنسبة إىل قضية إثبات اإليامن باهلل.
وتذهب نظرية تطابق العقل والدماغ إىل أن احلوادث الذهنية ال ترتبط
بحوادث الدماغ فحسب بل ّ
إن األحوال الذهنية نفسها متطابقة مع أحوال
خمتزل فعل ًيا يف الفيزيائي .وهذا يشبه الدعوى
الدماغ املقرتنة هبا .وعليه فالعقيل َ
وإن املاء مطابق لـ .((3(H 2O
إن الربق مطابق للتفريغ الكهربائي ّ
التي تقول ّ
تقرر أن احلادث
إن نظرية التطابق ال تنكر وجود اخلصائص العقلية ،فعندما ّ
مطابق للحالة الفيزيائية ،pأو هو نفسها ،فهي مل تنكر وجود .((3( m m الذهني
»?«Is Consciousness a Brain Process . 35أول من قدّ م نظرية التطابق هو يو.ت .ب َليس،
(هل الوعي عملية دماغية؟)( British Journal of Psychology ،املجلة الربيطانية لعلم
وأيضا ج.ج.ك .سامرت«Sensations and ، ً النفس) ،)1956( 47 ،ص50-44 .؛
»( Brain Processesاملشاعر والعمليات الدماغية) ،)1959( 68 ،ص.156-141 .
كرينElements of Mind: An Introduction to the Philosophy of Mind ، .36تيم َ
(مكونات العقل :مدخل إىل فلسفة العقل) (أكسفورد :مطبعة جامعة أكسفورد،)2001 ، ّ
ص.53 .
19
ورقات طابة
20
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
مل تعد االختزالية بكل أنواعها منذ سنوات عديدة حمبذة .وقليل منا اآلن
من يقبل بجدية احتامل أن تكون العبارات األخالقية قابلة للتعريف أو
من املمكن اختزاهلا بمعنى أوسع يف عبارات وصفية أو طبيعية(.((3
21
ورقات طابة
يصح يف كل
ّ تظل نظرية التطابق قابلة لإلثبات جيب أن تثبت ّ
أن اختزاهلا التطابقي
حالة مع ّينة ،وسنشري إىل هذا بالتشخيص الرمزي .ثان ًيا ،جيب أن تثبت النظرية
يصح يف كل العوامل املمكنة ،وسنشري إىل هذا
ّ ّ
أن اختزاهلا التطابقي رضوري ،أي
بالتشخيص النمطي.
ففي االختبار األول ،حيث جيب أن يكون اختزال الذهني يف الفيزيائي
صحيحا يف كل حالة مع ّينة ،نجد ّ
أن النظرية تنهار حني نطبق عليها مبدأ التحقق ً
املتغي ( .)variable realizabilityوعىل نظرية التطابق أن تربهن أنه إذا اشرتك
ّ
كيانان يف حالة ذهنية ما فعندئذ جيب عليهام أن يكونا يف احلالة الفيزيائية نفسها.
فلو أمكن إظهار حالة واحدة ،عىل األقل ،حيث يشري فيها التصنيف البدهي إىل
اشرتاك حقيقي ملحمول ذهني بني كيانني ،لكن الرتكيبة الفيزيائية هلام خمتلفة يف
احلالتني ،فإن نظرية التطابق ستنهار.
ويقدم هيالري ُبتنام يف حجته ،الشهرية اآلن ،ضد نظرية حالة الدماغ حالتي
أخطبوط وحيوان ثديي ،فكل من هذين الكيانني ال ريب أنّه يمر بتجربة «أمل»
و«جوع» ،واألمل واجلوع من احلاالت الفيزيائية-الكيميائية ،أو املحموالت النفسية.
ً
حممول نفس ًّيا واحدً ا عىل األقل يمكن أن ُيط ّبق فلو استطعنا أن نجد
بوضوح عىل حيوان ثديي وأخطبوط (ولنقل «جائع» مثالً) إال أن
«الرتابط» الفيزيائي-الكيميائي له خمتلف يف احلالتني فعندئذ ستنهار
نظرية حالة الدماغ(.((4
متغيا يف وص َفني
ًّ هنا لدينا مثال تكون فيه احلالة الفيزيائية قد حتققت حتق ًقا
.42هيالري ُبتنام( «The Nature of Mental States» ،طبيعة األحــوال العقلية) ،يف
( Philosophy of Mind: Classical and Contemporary Readingsفلسفة العقل:
قراءات تقليدية ومعارصة) ،حترير ديفيد تشاملرز (أكسفورد ،مطبعة جامعة أكسفورد،
،)2002ص.77 .
22
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
خمتل َفني ملحمول نفيس واحد .وما يطرحه ُبتنام هنا ليس َّ
أن الرتابط املنطقي
لنظرية حالة الدماغ غري ممكن ،بل ّ
إن هذا الرتابط بعيد االحتامل.
ٍ
مواز ،يف الكون كله، وعليه فمن املمكن عىل األقل أن يؤدي تطور
«دائم» إىل الرتابط الفيزيائي ذاته لألمل (أو اجلوع) .لكن هذا الكالم بال
ً
شك فرضية طموح(.((4
وأما يف االختبار الثاين ،فيجب أن تُظهر نظرية التطابق أنّه إذا أرادت أن يكون
حلا للبقاء فال بد أن تُثبت أهنا رضورية منطق ًّيا .وإذا كانت
تطابقها النمطي صا ً
ً
(مثل ،األمل = إرسال منبهات تقريرات التطابق النفيس-الفيزيائي صحيحة
عصبية نحو ألياف )cفيجب أن تترصف بنفس املنوال الذي تترصف به أسامء
ثم الع َلم ،إذ تشري ً
دائم إىل األشياء املشار إليها ذاهتا يف كل العوامل املمكنة ،ومن ّ
جيب أن تُعترب هذه التقريرات رضورية منطق ًّيا .ولك َّن عباريت احلمل النفيس-
الفيزيائي ،واحد ًة ذهنية واألخرى فيزيائية ،ال اتصال بينهام بالرضورةّ .
وإن
عرضية ،كام هو متعارف عليه عمو ًما ،لكوهنام تستندان
العالقة بني االثنتني عالقة َ
إىل حوادث مالحظة جتريب ًيا .وهذا يعني أنه من املمكن بوضوح تصور حصول
إحدى العبارتني عىل نحو مستقل عن العبارة األخرى املقرتنة هبا .وعليه ينتج ّ
أن
تقريرات التطابق تلك ليست رضورية منطق ًيا ،والنزعة الفيزيائية ال تثبت يف كل
العوامل املمكنة ،وهي بذلك غري صحيحة.
(التسمية Naming and Necessity يف املحارضة الثالثة من كتاب
(rigid والــرورة) ُيطبق مؤلفه سول كريبكه مفهومه للدالالت اجلامدة
)designatorsعىل الذهني والفيزيائي .ويف هذا الربنامج تُقدَّ م أطروحة التطابق
عرضية بطبيعتها .ولكن بعض العالقات ،اخلاصة باإلشارة
تقديم معياريًّا عىل أهنا َ
ً
.43املصدر السابق.
23
ورقات طابة
24
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
25
ورقات طابة
م ِ
كغن ليس متيقنًا من وجود هذا التفاعل [آلية عقل وجسم] فحسب ،بل هو َ
أيضا من أن للعامل خاصية عميقة بذاهتا جتعل الوعي يعتمد اعتام ًدا رضور ًّيا
متيق ّن ً
عىل الدماغ( .((4وإىل أن يأيت الوقت الذي تطرح نفسها فيه هذه املناهج األكثر
تأثريا وفعالية ،فإن املؤلفني الذين يتَّبعون هذا املنحى قد اكتفوا بـ «اإلعراض»
ً
عن البحث عن تفسريات أخرى.
ٍ
مشهد جديد وهناك مفكرون آخرون يف فلسفة العقل أرادوا «التك ّيف» مع
كثريا جتاه االختزالية-الفيزيائية فبحثوا عن حلول يف نظريات
متحمسا ً
ً مل يعد
ٍ
نظريات تطرف املادية اإلقصائية والثنائية الراديكالية .ومع هذا ّ
فإن وسط بني ّ
مثل اجلانب املزدوج وثنائية اخلاص ّية (الواحدية الالاختزالية) ونظرية االنبثاق
كلها يف النهاية نظريات فيزيائية.
أما املقاربة الثالثة فيمثلها املفكرون الذين يبحثون عن ٍّ
«حل» ميتافيزيقي
إلشكالية الوعي .ومعظم املؤلفني الذين يكتبون يف هذا االجتاه ينترصون لثنائية
تفس اإلشكاليات املرتبطة بالثنائية الديكارتية
تركيبية (ّ )integrative dualism
تفسريا منهج ًّيا.
ً والثنائية األفالطونية
يفضله شخص ما هلذه اإلشكالية متأ ّثر
حل ّأي ٍّ
أن َّطر ُح ّ
ومن هنا ،قد ُي َ
الزعم ّ
بأن اإلنسان الذي لديه استعدا ٌد ُ بميوله الشخصية .وعىل هذا املنطق يمكن
يت لإليامن باهلل بالتأكيد سيبحث عن ٍّ
حل إلشكالية «استعصاء التفسري»، ذا ٌّ
فيام يتع ّلق بالوعي ،يف جهة اإليامن باهلل ،وقد يكون األمر كذلك ح ًّقا ،فنحن
مصطبغون مجي ًعا بميول ذواتنا .وللسبب ذاته يمكن أن ُيتو َّقع من الشخص الذي
صمم عىل أن ال يقبل اإليامن باهلل إطال ًقا مهام ك ّلف األمر أن يعارض أي
قد ّ
استنتاج قد ينحاز إىل اإليامن باهلل .ولكن عندما يتعلق األمر بمسائل تتصل بعلم
يصح أن يكون بوسعه أن يقدم حلوالً
ّ امليتافيزيقا ّ
فإن علم الالهوت الفلسفي قد
26
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
ً
حلول من هذا النوع يمكن أن جتتاز مبدأ َش ْفرة أكثر عقالنية واتسا ًقا .حتى ّ
إن
أوكام ( )Ockham’s razorبمهارة أفضل من عبء احلمل الثقيل الذي نحتاج
حتمله كي ندعم مفاهيم مثل الفيزيائية الالاختزالية ونظرية االنبثاق ونظرية
إىل ّ
اجلانب املزدوجً ،
فضل عن نظرية التطابق واملادية اإلقصائية.
وبالتوجه نحو اإليامن باهلل من ظاهرة الوعي يسعى تشارلز تاليافريو
( )Charles Taliaferroإىل تطبيق نموذجه للثنائية الرتكيبية عىل فه ٍم لوجود اهلل،
،)integrativeويقرتح (theism ويسمى هذا التطبيق« :اإليامن باهلل الرتكيبي»
تقديم صيغة لإليامن باهلل حيث «تنظر إىل تنزيه اهلل بجدية ولكن يف الوقت نفسه
أيضا عىل حلوله التقريبي يف العامل»( .((5وهنا يذكر بعض اإلمكانات املتوفرة
ترص ً
ّ
َ
«العال يشبه إىل حدّ كبري جسد اإلله ،مع ليحتج بأن
ّ يف «اإليامن باهلل التقليدي»
أنّه جيب تقييد هذا التشبيه بحذر شديد»( .((5وهو ُيربر هذا «التجسيم اإلهلي
اجلزئي» من ّ
أن التجسيم اإلنساين ينطوي عىل إرادة ومعرفة يمكن ربطهام بقدرة
عب عن قوة اهلل اخلالقة
اهلل املطلقة وعلمه املطلق من طريق القياس« .فالكون ُي ّ
واحلافظة وهي قائمة يف عقل اهلل بقدر ما يعلم اهلل من مظاهرها وجوانبها.
ٍ
ووعي إهليني يشكّالن نو ًعا ٍ
قادرية ولذلك ال أعتقد أنه من غري الالئق بتاتًا رؤية
دائم
من التجسيم اجلزئي» .وحتى يساند هذا النموذج من اإليامن باهلل يقوم ً
(((5
بإحاطته ورفده بصيانة طارئة لوقايته بانتباه وحذر من «تسلل احللول» ،فليس
سه ً
ال أبدً ا اجلمع بني انبثاق احللول ( )immanenceواألزلية ( .)infiniteوالفائدة
املذكورة هلذا النموذج هي عناية تاليافريو باإلحساس اإلهلي بالعامل ،فهو يويل
عناية خاصة «باحلضور اإلهلي املندمج والعاطفي يف الكون»( .((5واملقصود من
تشارلز تاليافريو( Consciousness and the Mind of God ،وعي اإلله وعقله) (كمربدج: .50
مطبعة جامعة كمربدج.248-247 ،)1996 ،
املصدر السابق ،ص.248 . . 51
املصدر السابق ،ص.249 . .52
املصدر السابق. .53
27
ورقات طابة
28
إشكالية االختزالية في فلسفة العقل
درك ّ
وإن إرساء عدم قابلية الوعي لالختزال له من القوة والتأثري أكثر مما ُي َ
بالعادة ،فهو يزعزع األرض من حتت أقدام الفيزيائية واالختزالية واملذهب
الطبيعي ( )naturalismواإلغالق السببيّ .
وإن حجة معقولية اإلهلية من عدم
قابلية الوعي لالختزال تشري إىل ثالث نتائج مهمة:
ٍ
لظاهرة غري اختزالية معينة تفسري فيزيائي فال بد أن األوىل« :إذا مل يكن
تفسري ميتافيزيقي» .إذ ال يوجد واسطة بني الفيزيائي وامليتافيزيقي.
ٌ يكون هلا
وكثري من مطالبات الدين التي يقابلها العقل احلديث بخالف صعب تستند إىل
مبادئ ميتافيزيقية ما وراء طبيعية.
الثانية« :إذا ثبتت المادية الوعي أو اجلوهر الواعي بالربهان فالتصديق
أيضا»ّ .
وإن إمكانية التنزيه اإلهلي تأيت نتيجة ّ
بأن اهلل كائن غري مادي أمر معقول ً
إلثبات وجود ظاهرة أو كيان غري قابل لالختزال يف الفيزيائي.
ّ
فستتجل الثالثة« :إذا أمكن برهان السببية العقلية عىل الفيزيائي املادي بنجاح
العال الطبيعي» .ومع ما ُأحرز من تقدم يف نظرية الكم
أرجحية السببية اإلهلية عىل َ
(ّ )quantum theory
فإن الفكرة القديمة التي كانت تشرتط القرب والتجاور يف
ُبذت ُ ِ
وصف النظر عنها .وإذا انتقلت حدود القياس من التصور إىل السببية قد ن َ
يصح.
ّ اإلمكان ّ
فإن القياس
قياسا ،عىل عدم قابلية الوعي لالختزال يف
ً تُبنى هذه املبادئ الثالثة،
الفيزيائي ،وكل غايتها حماولة إرساء معقولية اإلهلية عىل أسس صلبة .ويف هذا
الصدد مضيت يف هذا البحث عىل افرتاض أن املعقولية الكافية تفي بتكوين تأييد
(من أي نوع كان) لإلهلية .وال أقصد بالتأييد هنا ذلك التأييد الذي تعززه براهني
نظامية ،يف حد ذاهتا ،بل أقصد تأييدً ا باجتاه معاكس متباين حيول دون غلق الباب
طموحا،
ً املهم واملعترب ،وإن كان أقل
يف وجه املعقولية .فهو يسعى هبذا األسلوب ّ
مفتوحا أمام اإلهلية.
ً إىل ضامن أن ّ
يظل هذا الباب
29
مالحظات ختامية
لقد ابتغيت من هذه الورقة البحثية أن أثبت أنه ال يوجد سبب اضطراري
لالستسالم للتفسريات الفيزيائية للكون؛ ّ
وإن احلجج املقدمة يف فلسفة العلوم
وفلسفة العقل ضد معقولية النفس اإلنسانية يمكن دحضها؛ ّ
وإن حدود احلوار
واملناقشة يف هذا املجال ال تزال حمل خالف شديد .وتكثر مواقف علامنيةُ ،يدافع
احلس النقدي .وعندما
ّ ُكون «منارصين» لإلهلية من ذوي رتف هبا ،ت ّ
عنها و ُيع َ
تُساوى النفس بإحدى م َلكاهتا الرئيسة وهي التعقل (أي الوعي ،العقل) ،تفيض
احلجج املوجهة ضد قابلية اختزال العقل يف الدماغ املا ّدي إىل دعم مفهوم النفس
إن مقوالت عدم قابلية االختزال ثم ّ
من حيث ّإنا كيان مستقل عن اجلسمّ .
وإمكانية الالفيزيائي ال تزال تؤيد معقولية وجود إله ُم َّنزه.
وسيكون لزا ًما عىل املعاجلات الكالمية اإلضافية يف املسائل املتعلقة هبذا
الشأن أن تُظهر بوضوحٍ وعيها بإشكالية االختزالية .ويبقى رضور ًّيا أن ُيثبت
اخلطاب اإلسالمي قدرته عىل حتديد الفرضيات الكونية التي تأيت منها احلجج
املضادة .فهل كان املوقف َيفرتض واحدية فيزيائية ،أي ال وجود إال لألشياء
الفيزيائية (املادية)ّ ،
وأن الفيزياء تكفي لتفسري كل الظواهر؛ أم أنّه كان يقول إن
كل األشياء فيزيائية ولكن بعض األشياء الفيزيائية ذهنية (ثنائية اخلاص ّية)؛ أم إن
31
ورقات طابة
32
سلسلة ةباط ت اقرو ر قم 2013 | 7
جهاد هاشم براون زميل أبحاث أول يف مؤسسة طابة .بعد حصوله
عىل الشهادة اجلامعية يف علم النفس ،ويف الدراسات الرشق أوسطية
من جامعة َرتغَ رز يف نيوجريس ،واصل طلب العلم وحتصيله حيث
انكب عىل أخذ العلوم اإلسالمية الرشعية من كبار العلامء املعتربين يف
ّ
ثم إنّه حصل عىل شهادة جامعية يف ّ سنني. عرش مدة واملغرب سورية
الالهوت الفلسفي من جامعة كمربدج .وقد ظهر جهاد هاشم براون
مرارا يف منافذ إعالمية عديدة يف الرشق األوسط وأمريكا؛ وعمل ً
مستشارا حلكومات ومؤسسات خمتلفة بشأن قضايا تتع ّلق باإلسالم ً
والعالقات الدولية .وهو يعيش اآلن مع زوجته وأوالده يف مدينة
برنستون بوالية نيوجريس.