Professional Documents
Culture Documents
نفحات الولية
في شرح نهج
البلغة
جزء 5
معروف
1432
المجلد الخامس
][4
][5
الخطبة)111 (1
تحدثت هذه الخطبة بصورة عاّمة ـ كما ورد في عنوانهاـ عن ذّم الدنيا ،الدنيا التي تغرق النسان في لذاتها
وزخارفها الزائلة اللمشروعة ،ومتعها الرخيصة ،بحيث يتناسى ال والخلق ومصيره وعاقبته ،الدنيا التي تغيب
فيها معاني القيم والمثل ول يعد فيها من مفهوم للحلل والحرام والظلم والعدل.
القسم الول :فيها يتعرض إلى خداع الدنيا وغرورها وزبرجها وظاهرها الجوف الذي ل باطن له.
القسم الثاني :فيتناول تقلب أحوال الدنيا وعدم ثباتها ،إلى جانب الحديث عن النعم التي قد تتبدل نقمًا والنجاحات
ل.
التي تتحول فش ً
القسم الثالث :خاض )عليه السلم( في بيان فناء الدنيا وزوالها ،حيث تضّمن عبارات رائعة مؤثرة
.1سند الخطبة:
نقل هذه الخطبة طائفة من العلم ممن عاشوا قبل وبعد المرحوم السيد الرضي ومنهم :ابن شعبة الحّراني في »تحف العقول« ،وابن
سر ابن أثير ما صعب من مفرداتها في
طلحة الشافعي في »مطالب السؤول« ،ومحمد بن عمران المرزباني في »الموفق« ،كما ف ّ
ن هناك اختلفًا في نقله مع بعض عبارات هذه الخطبة )مصادر نهج البلغة (2/144وقال ابن أبي الحديد حين كتابه »النهاية« ،إّل أ ّ
شرحه لهذه الخطبة :نقل هذه الخطبة أيضًا أبو عثمان الجاحظ في كتاب »البيان والتبيين« )شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد
.(7/236
][6
القسم الرابع :فكأّنه يأخذ بيد الناس ويغوص بهم في أعماق تاريخ الماضيين ،والعاقبة المريرة التي طالت القوام
من ذات القّوة والسطوة لتهز عروشهم وتحيلهم أجسادًا خاوية قبرت تحت التراب.
وأخيرًا القسم الخامس :الذي تطرق إلى الموت والموات الذين عاشوا دهرًا بيننا بذلك النشاط والحيوية وقد ذاع
صيتهم ليعّم الرجاء ،والحال قد ذهبت تلك الحيوية أدراج الرياح وتبدل ذلك النشاط إلى خمول وضمور بعد أن
أتاهم الموت وأحال أجسادهم ترابًا.
طون
هذا وقد أورد المام)عليه السلم( هذه الخطبة بعبارات لطيفة بالغة التأثر شأنها إيقاظ أسوأ الفراد الذين يغ ّ
في سبات الغفلة ونفث النور والمل في أوراحهم المظلمة البائسة.
—–
][7
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
الدنيا الغرارة!
إستهل المام)عليه السلم( الخطبة بتحذير الجميع من هذه الدنيا الفانية والغرارة ،ثم أماط اللثام عن ماهية واقعها
وحقيقتها من خلل وصفها والتعرض لغرورها وخداعها بثمان عشرة عبارة ،فقال)عليه السلم( أحذركم من هذه
الدنيا ذات الظاهر اللطيف الذي إنطوى على اللّذات والشهوات ،المر الذي يجعلها تشد إليها النظار بفعل عينيتها
ل أّنها تحّلت بالمال وتزّينت بالغرور لتسوق إليها هذا النسان: ومثولها للنسان رغم ضحالة نعمها وتفاهتها ،إ ّ
حّبَب ْ
ت تَ ،وَت َ
شَهَوا ِ
ت ِبال ّ
حّف ْ
ضَرٌةُ ،
خ ِ
حْلَوٌة َ
حّذُرُكُم الّدْنَيا; َفِإّنَها ُ
»َأّما َبْعُدَ ،فِإّني ُأ َ
][8
ت ِباْلُغُروِر«.
لَ ،وَتَزّيَن ْ
لَما ِ
ت ِبا ْ
حّل ْ
لَ ،وَت َ
ت)ِ (1باْلَقِلي ِ
جَلِةَ ،وَراَق ْ
ِباْلَعا ِ
فالمام)عليه السلم( يرى خداع الدنيا في حلّو ظاهرها المحفوف بالشهوات ،فهى محببة إلى النفوس كونها ماثلة
جَلِة«.
ت ِباْلَعا ِ
حّبَب ْ
للعيان ملموسة ،وهذا هو المعنى المراد من العبارة »َت َ
ل« إلى زيف هذه الزينة التي تحّلت بها الدنيا ،حيث تفتقر إلى الواقع ،بل لَما ِ
ت ِبا ْ
حّل ْ
بينما أشارت العبارت »َت َ
ت ِباْلُغُروِر«،
زينت مظهرها بالمال والخيالت الفارغة الزائفة ،وهذا هو المعنى الذي أكدته العبارة »َتَزّيَن ْ
فرصيدها الرئيسي الذي يشكل عنصر التزيين إّنما هو الغرور الخداع ،ولعل الوقوف على عمق هذا المعنى
يتجسد من خلل النظر من بعيد إلى قصور الملوك وسلتطهم الظاهرية المرعبة ،وسعة حجم أموالهم وثرواتهم،
وأبهة وجلل مراكبهم وملبسهم النفيسة الفاخرة وسائر الوسائل والدوات التي يعتمدونها في حياتهم ومعيشتهم
التي تخطف البصار وتسحر القلوب ،بينما القتراب منهم والغوص في واقع حياتهم ل يرى سوى البؤس والشقاء
وسبل المصاعب والمشاكل التي تلف حياتهم ومدى القلق والضطراب الذي يسودهم من جراء المؤامرات
والدسائس التي يخطط لها أعداؤهم إلى جانب الحسد والطمع الذي تكّنه لهم بطانتهم وقرابتهم.
ن هذه العبارات إقتباس مّما صرحت به بعض اليات القرآنية ،فقد جاء في القرآن الكريم بشأن الحياة
والواقع هو أ ّ
الدنيا:
ع اْلُغُروِر.(2)(...
ل َمَتا ُ
حَياُة الّدْنَيا ِإ ّ
)َوَما اْل َ
جَلَة.(3)(...
ن اْلَعا ِ
حّبو َ
لِء ُي ِ
ن َهُؤ َ
وجاء في موضع آخرِ) :إ ّ
طَرِة.(4)(...
طيِر اْلُمَقْن َ
ن َواْلَقَنا ِ
ساِء َواْلَبِني َ
ن الّن َ
ت ِم ْ
شَهَوا ِ
ب ال ّ
ح ّ
س ُ
ن ِللّنا ِ
كما جاء أيضًاُ) :زّي َ
» .1راقت« :من مادة »ورق« على وزن ذوق بمعنى المسرة والعجاب.
][9
ن().(1
ف َيْعَلُمو َ
سْو َ
ل َف َ
لَم ُ
وقال تعالى أيضًاَ) :ذْرُهْم َيْأُكُلوا َوَيَتَمّتُعوا َوُيْلِهِهْم ا َْ
ن ِنعم الدنيا وسرورها إلى إنقطاع ول دوام لها ،وليس هناك من شخص
ثم واصل المام)عليه السلم( كلمه بأ ّ
بمنأى عن مشاكلها وفجائعها ،ورصيدها الخداع والغرور والضرر والخسران ،معروفة بالفناء والزوال وعاقبة
أمر سكانها وعمارها الهلك والعدم:
غّواَلٌة).«(6
حاِئَلٌة)َ (3زاِئَلٌةَ ،ناِفَدٌة)َ (4باِئَدٌة)َ ،(5أّكاَلٌة َ
ضّراَرٌةَ ،
غّراَرٌة َ
جَعُتَهاَ .
ن َف ْ
ل ُتْؤَم ُ
حْبَرُتَها)َ ،(2و َ
ل َتُدوُم َ
»َ
نقد تناول المام)عليه السلم( الدنيا ليتحدث بهذه العبارات الرائعة البيان عن تقلب أحوالها وعدم ثباتها ،فليس
هنالك من دوام واستمرار لي من مفرداتها من قبيل حلوتها وطلوتها ونعمها وثرواتها وإمكاناتها وآمالها
لمور محكومة بالفناء والزوال ،وبناءًا على هذا فل يركن ورغباتها ونشاطها وعنفوان الشباب فيها ،فكل هذه ا ُ
ل الجاهل الغافل.
إليها إ ّ
فقد عزز المام )عليه السلم( إثبات مراده من خلل التمسك والستشهاد بالتشبيه الرائع الذي أورده القرآن في
سورة الكهف بشأن الدنيا ،وكأّني به قد اصطحب المخاطب إلى حيث الصحراء ليريهم صورة الربيع والخريف
واهتزاز الرض وحيوتها من نزول المظر وخروج النباتات وتفتح البراعم والزهور وحمل الشجار للفاكهة
لمور ل يكتب لها
ن هذه ا ُ
والثمار ،غير أ ّ
جر .3 /
حْ
.1سورة ال ِ
» .6غوالة« :من مادة »غول« على وزن قول الهلكة المباغتة.
سر.
» .7هشيمًا« :من مادة »هشم« بمعنى كسر الشياء ومن هنا تطلق على النبت اليابس المك ّ
] [ 10
الستمرار والدوام ،فلم تشهد هذه الحالة سوى بضعة شهور لتذبل تلك الوراق وتنتهي تلك الثمار وتنقطع زقزقة
العصافير والطيور وتتبدل الخضرة يبوسة وجفافًا ،وهذه بالضبط حقيقة الحياة الدنيا التي تعيشها البشرية حيث
يّتجه كل شيء فيها نحو الزوال فيا له من تشبيه رائع وعجيب!
—–
] [ 11
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
» .1منحت« :من مادة »منح« على وزن مدح بمعنى العطاء.
] [ 12
ثم أّكد )عليه السلم( هذا المعنى بأّنه لم يستشعر هبوب الرياح اللطيفة والمطار الملئمة حتى يغرق في سبيل من
لء«.
عَلْيِه ُمْزَنُة)َ (4ب َ
ت)َ (3
ل َهَتَن ْ
خاءِ ،إ ّ
طّلُه)ِ (1فيَها ِدْيَمُة)َ (2ر َ
البلءَ» :وَلْم َت ُ
ومن هنا فل وجه للغرابة والتعجب إذا انتصرت لحد صباحًا تنكرت له مساءًا ،وإن حملت بيد ظرفًا حلوًا حملت
حَلْوَلى)
ب)َ (5وا ْ
عَذْوَذ َ
ب ِمْنَها ا ْ
جاِن ٌ
ن َ
ي َلَه ُمَتَنّكَرًةَ ،وِإ ْ
سَ
ن ُتْم ِ
صَرًة َأ ْ
ت َلُه ُمْنَت ِ
ح ْ
صَب َ
ي ِإَذا َأ ْ
حِر ّ
بأخرى ظرفًا مّراَ» :و َ
ب َفَأْوَبى!).«(7 جاِن ٌ
َ ،(6أَمّر ِمْنَها َ
نعم ،هذه هى طبيعة الدنيا وستكون كذلك ،حيث تستحيل حلوتها مرارة ،ونصرها هزمة ،وحياتها موتًا ،وليست
هناك أية قدرة يسعها الحيلولة دون هذه الستحالة والتغيير.
صة ورهقة، ل أتبعته غ ّ ن النسان ل يصيب منها لّذة ونعمة إ ّ ثم واصل )عليه السلم( تأكيد هذه الحقيقة في أ ّ
لَيَنا ُ
ل ودفعت به إلى ما يتعبه من الشدائد والنوائب ،فل يكاد يتمتع بلّذة المن حتى يزعجه ألم الخوف والخطرَ » :
عَلى
ح َ
صَب َ
ل َأ ْ
ح َأْمنِ ،إ ّ
جَنا ِ
سي ِمْنَها ِفي َ
ل ُيْم ِ
ن َنَواِئِبَها َتَعبًاَ ،و َ
ل َأْرَهَقْتُه)ِ (9م ْ
غبًاِ ،إ ّ
ضاَرِتَها)َ (8ر َ
غ َن َ
اْمُرٌؤ ِم ْ
خْوف«. َقَواِدِم)َ (10
أجل ،ليست هناك من فاصلة يؤبه بها في هذه الدنيا ل مكانية ول زمانية بين السعادة والشقاء ،فقد تراه أحيانًا جن
عليه الليل وقد غرق في لذاته وشهواته وهنيىء عيشه ودعته في هالة من فرحه وسروره ،ولم يكد يطلع الصبح
عليه حتى تتعالى الصوت بالنحيب والبكاء تنعى فقده ومفارقته لهذه الدنيا ،بل لعله يتجرع كأس المنون من يد
أقرب مقربيه:
» .1تطّله« :من مادة »طل« على وزن تل المطر الخفيف ويقابله الوابل المطر الشديد.
» .2ديمة« :من مادة »دوام« مطر دوم في سكون ل رعد ول برق معه.
» .3هتنت« :من مادة »هتن« على وزن حتم بمعنى إنصبت.
» .8غضارة« :من مادة »غضر« على وزن نذر كثرة النعم ،وسعة العيش.
» .9أرهقت« :من مادة »رهق« على وزن شفق ألبسته بالقّوة والقهر.
» .10قوادم« :جمع »قادمة« الواحدة من الريشات في مقدم جناح الطائر ،وهى زلقة عادة.
] [ 13
عْنُه«.
عّما َقِليل َ
ل َ
سَتْكَثَر ِمّما ُيوِبُقُه)َ ،(1وَزا َ
سَتْكَثَر ِمْنَها ا ْ
اْ
وهكذا أورد المام )عليه السلم( هذه الصفات التي تصور تغير أحوال الدنيا وعدم ثباتها وأفول قدرتها وزوال
موفقياتها ليخلص إلى نتيجة مفادها ضرورة قناعة العاقل بالقليل منها )على قدر الكفاف( ليمهد السبل أمام أمنه
ن من طلب المزيد فيها غامر بنفسه وقذف بها في لهوات المخاطر ،فيكون بذلك واستقراره وراحة باله ،وذلك ل ّ
قد مهد السبيل أمام شقاء نفسه وبؤسها.
—–
» .1يوبق« :في الصل من مادة »وبوق« على وزن نبوغ ،بمعنى الهلكة ،وعليه فيوبقه يعني يهلكه.
] [ 14
] [ 15
القسم الثالث
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ إلى أمرين مهمين آخرين بشأن الحياة الدنيا ووضاعة
متاعها المادية:
ن ل شيء فيها يمكن العتماد عليه والوثوق به ،فقد قال )عليه السلم( بهذا الشأن كم من وثق بهذه المر الول :أ ّ
الدنيا وسكن إليها فجرعته اللم والمعاناة ،وما أكثر الفراد الذين اطمئنوا إليها فصرعتهم ،وما أكثر الفراد الذين
طَمْأِنيَنة ِإَلْيَها َقْد
جَعْتُهَ ،وِذي ُ
ن َواِثق ِبَها َقْد َف َ
كانوا من أهل السطوة والشوكة ،فأذاقتهم لباس الذّلة والمسكنةَ» :كْم مِ ْ
ل«. خَوة َقْد َرّدْتُه َذِلي ً
حِقيرًاَ ،وِذي َن ْ
جَعَلْتُه َ
عْتُهَ .وِذي ُأّبَهة)َ (1قْد َ
صَر َ
َ
نعم ،ليس هنالك من فرد مهما كان مقامه ،وموقعه بمأمن من الحوادث الخطيرة والمكاره
» .1أبهة« :بمعنى العظمة وقد اشتقت من مادة »أبه« بمعنين الفطنة حيث توصل ممن يتصف بها من الفراد إلى المجد والعظمة.
] [ 16
التي تصيب النسان بغتة ،فعظام الملوك والسلطين والبطال الشداء أصحاب رؤوس المال من أهل الجاه
والسطوة والشباب الذين يعيشون عنفوان النشاط والحيوية والجمال ،كل هؤلء ومن شاكلهم إّنما يخضعون لهذه
الحوادث التي تجري عليهم وهم صاغرون ،الحوادث التي تأتي على جميع النعم واللذات فتخطفها في لحظة وتذل
ن سليمان بنالعّزة والجبابرة وما التاريخ عنك ببعيد ،فقد شحن بمثل هذه الحوادث ،وقد ورد في تاريخ الطبري أ ّ
عبدالملك لبس ذات يوم لباسًا فاخرًا واعتم بعمة خضراء وأخذ ينظر في المرآة )وهو يتلذذ بما يشاهد من نفسه
فدفعه الفخر لن( يقول :أنا ملك شاب سعيد الحظ ،فلم يعمر بعد ذلك أكثر من سبعة أّيام).(1
ق)،(3
شَها َرِن ٌ
عْي ُ
ل)َ(2و َ
طاُنَها ُدّو ٌ
سْل َ
ن حلوتها قد عجنت بالمرارة وانتصاراتها بالهزائمُ » : المر الثاني :هو أ ّ
سَباُبَها ِرَماٌم).«(7
سَماٌم)َ ،(6وَأ ْ
غَذاُؤَها ِ
صِبٌر)َ ،(5و ِ
حْلُوَها َ
ج)َ ،(4و ُ جا ٌ
عْذُبَها ُأ َ
َو َ
ن حياته معّرض للموت والسقم والمرض يتربص بعافيته ثم تطرق المام )عليه السلم( إلى حال ساكن الدنيا من أ ّ
وصحته ،ملك هذه الدنيا يستبطن الزوال والفناء ،وعزيزها آيل إلى النكسار ،ووفرة نعمها تحمل معها مفردات
بَ ،وَمْوُفوُرَها)(8
عِزيُزَها َمْغُلو ٌ
بَ ،و َ
سُلو ٌ
سْقمُ .مْلُكَها َم ْ
ض ُ
حَها ِبَعَر ِ
حي ُ
صِض َمْوتَ ،و َ
حّيَها ِبَعَر ِ
النفاد والنقضاءَ » :
ب!).«(10 حُرو ٌ جاُرَها َم ْ
ب)َ ،(9و َ
َمْنُكو ٌ
نعم ،فمتع الدنيا ولذاتها إن وجدت ،فهى مشوبة بأنواع المعاناة واللم ،والحكام في ذوي القدرة والسطوة الذين
نغبطهم على مدى قدرتهم وشّدة شوكتهم وتربعهم على العرش نراهم
.1الطبري .5/305
» .2دول« :بضم الدال وفتح الواو المشددة المتحول ،الشيء الذي يتحول من يد إلى أخرى ،ولما كانت حال الحكومات كذلك ،فقد
اصطلح عليها بالدول أيضًا.
» .5صبر« :جمع »صبرة« على وزن كلمة أو جمع صبر على وزن فقر عصارة شجرة مّرة ،كما يطلق أحيانًا على نفس الشجرة.
» .6سمام« :جمع »سم« المواد التي إذا خالطت بدن النسان أفسدته وأهلكته.
] [ 17
حين القتراب منهم أخوف ما يخافون حتى من مقربيهم ،وأكثر الناس طاعة لوامرهم ،بل هم في غاية القلق
والضطراب مّما يخبىء لهم الغد والمستقبل القريب.
صة التي تحدثت عن ذلك الفرد الذي كان يتمنى التربع على العرش السلطة ولو ولعل هذا المر أشبه شيئًا بتلك الق ّ
ليوم واحد ،فحققوا له ما يريد ،غير أّنهم عقّلوا على رأسه خنجرًا حادًا ربطوه بشعرة ،فكان يتوقع في كل آن قطع
تلك الشعرة ونزول ذلك الخنجر على هامته ،فكان يرجو بفارغ الصبر انقضاء ذلك اليوم والخلص من مسند
العرش الذي انطوى على ذلك الخطر ،فما أورع الصورة التي رسمها المام )عليه السلم( لهذه الدنيا الغرور
عْتُه«.
صَر َ
طَمْأِنيَنة ِإَلْيَها َقْد َ
جَعْتُهَ ،وِذي ُ
ن َواِثق ِبَها َقْد َف َ
حين قالَ» :كْم ِم ْ
—–
] [ 18
] [ 19
القسم الرابع
جُنودًا! َتَعّبُدوا ِللّدْنَيا ف ُ عِديدًاَ ،وَأْكَث َ عّد َ لَ ،وَأ َعَمارًاَ ،وَأْبَقى آَثارًاَ ،وَأْبَعَد آَما ً ل َأ ْ طَو َن َقْبَلُكْم َأ ْ
ن َكا َ نم ْ ساِك ِ سُتْم ِفي َم َ »َأَل ْ
ت َلُهْم َنْفسًاخ ْ سَن الّدْنَيا َ ل َبَلَغُكْم َأ ّطعَ .فَه ْ ظْهر َقا ِ ل َ عْنَها ِبَغْيِر َزاد ُمَبّلغ َو َ ظَعُنوا َ ي ِإيَثارُ .ثّم َ ي َتَعّبدَ ،وآَثُروَها َأ ّ َأ ّ
ضَعْتُهْم
ضْع َ عَ ،و َ حَ ،وَأْوَهَقْتُهْم ِباْلَقَواِر ِ ل َأْرَهَقْتُهْم ِباْلَقَواِد ِحَبًة! َب ْ صْ ت َلُهْم ُ سَن ْ حَعاَنْتُهْم ِبَمُعوَنةَ ،أْو َأ ْ ِبِفْدَيةَ ،أْو َأ َ
ن َلَها، ن َدا َنَ .فَقْد َرَأْيُتْم َتَنّكَرَها ِلَم ْ عَلْيِهْم َرْيبَ اْلَمُنو ِ ت َ عاَن ْسِمَ ،وَأ َ طَئْتُهْم ِباْلَمَنا ِ
خِرَ ،وَو ِ عّفَرْتُهْم ِلْلَمَنا ِبَ ،و َ ِبالّنَواِئ ِ
ت َلُهْم ِإ ّ
ل كَ ،أْو َنّوَر ْ ضْن َل ال ّ حّلْتُهْم ِإ ّبَ ،أْو َأ َل السَّغ َ ل َزّوَدْتُهْم ِإ ّ لَبِدَ .وَه ْ ق ا َْ
عْنَها ِلِفَرا ِ ظَعُنوا َ ن َ حي َ خَلَد َلَهاِ ، َوآَثَرَها َوَأ ْ
ن َلْم َيّتِهْمَها، ت الّداُر ِلَم ْس ِن؟ َفِبْئ َ صو َ حِر ُ عَلْيَها َت ْ
ن؟ َأْم َ طَمِئّنو َ نَ ،أْم ِإَلْيَها َت ْ ل الّنَداَمَة! َأَفهِذِه ُتْؤِثُرو َ عَقَبْتُهْم ِإ ّظْلَمَةَ ،أْو َأ ْال ّ
جل ِمْنَها!« عَلى َو َ ن ِفيَها َ َوَلْم َيُك ْ
—–
الشرح والتفسير
واصل المام )عليه السلم( الخطبة التي أوردها في ذم الدنيا وسرعة زوالها وخداعها وغرورها مصطحبًا
لمم السالفة ،ليصور من خللها حياة أصحاب السلطة والقدرة ممن مخاطبيه هذه المرة ليغوص في أعماق تاريخ ا ُ
مل صيتهم الرجاء وكانت تقوم الدنيا وتقعد بين أيديهم ،وكذلك أصحاب الثروة والمال ليتساءل )عليه السلم(
ل من كان قبلكم وتسكنون مساكنهم ،ممن عمروا كثيرًا وتركوا آثارًا وكانت لهم أمنياتهم وآمالهمألستم تحلون مح ّ
ورغباتهم ،وكانت لهم
] [ 20
عِديدًا)،(1
عّد َ
لَ ،وَأ َ
عَمارًاَ ،وَأْبَقى آَثارًاَ ،وَأْبَعَد آَما ً
ل َأ ْ
طَو َ
ن َقْبَلُكْم َأ ْ
ن َكا َ
نم ْ
ساِك ِ
سُتْم ِفي َم َ
جنودهم وحماتهمَ» :أَل ْ
جُنودًا!«.
ف)ُ (2
َوَأْكَث َ
فقد أشار المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى خمس خصائص إمتازت بها القوام السابقة وهى:
طول العمر ،وبقاء الثار والمخلفات ،وطول المال ،وكثرة السكان ،وكثرة الجنود ،فهى خصائص منحتهم
ن أي من هذه المتيازات لم يحل دون زحف العدم والفناء لقصورهم وأديتهم،
لأّ
التفوق على سائر من سواهم ،وإ ّ
فكان مصيرهم أن تلشوا وتساقطوا ركوعًا للموت تساقط أوراق الشجر في فصل الخريف.
عْنَها
ظَعُنوا َ
ي ِإيَثارُ .ثّم َ
ل كلمه بهذا الشأنَ» :تَعّبُدوا ِللّدْنَيا َأيّ َتَعّبدَ ،وآَثُروَها َأ ّ
ثم أضاف )عليه السلم( مواص ً
طع«.
ظْهر َقا ِ
ل َ
ِبَغْيِر َزاد ُمَبّلغ َو َ
ل سعيهم وجهدهم في سبيل عبادة الدنيا والذوبان فيها وتجنيد كافة قواهم وطاقاتهم في هذا التجاه ،إلّ
نعم ،فرغم ك ّ
أّنهم لم يصيبوا أي شيء منها ،ثم مشوا إلى حتوفهم وقد خلت جعبهم من الزاد والمتاع ودون حمل الورع والتقوى
ل أهل الورع والتقى.
التي ل يجدي غيرها نفعًا هناك ،فطريق الخرة شاق طويل ل يجتازه إ ّ
ن الدنيا قدمت لحدهم فدية لتنجيه من الموت أو سكراته؟ أم هل ثم خاطب )عليه السلم( صحبه :هل بلغكم أ ّ
ت)َ (3لُهْم َنْفسًا
خ ْ
سَ
ن الّدْنَيا َ
ل َبَلَغُكْم َأ ّ
أعانتهم بشيء في هذا السبيل؟ أم هل كانت على القل صاحبًا حسنًا لهمَ» :فَه ْ
حَبًة!«.
صْت َلُهْم ُ
سَن ْ
حَعاَنْتُهْم ِبَمُعوَنةَ ،أْو َأ ْ
ِبِفْدَيةَ ،أْو َأ َ
نعم ،لم تقدم لهم أي عون ولم تنجيهم عن المكاره والهاويل ،أفل يكون ذلك عبرة لم اعتبر من أبناء الدنياأ!
ح)َ ،(5وَأْوَهَقْتُهْم)(6
ل َأْرهََقْتُهم)ِ (4باْلَقَواِد ِ
لَ» :ب ْ
ثّم واصل المام )عليه السلم( كلمه بهذا الخصوص قائ ً
» .1عديد« :بمعنى »العدد« ،كما ورد بمعنى الشبيه والمثيل وأريد بها المعنى الول في عبارة الخطبة.
» .4أرهقت« :من مادة »إرهاق« ستر الشيء بالقّوة ،أرهقتهم بمعنى غشيتهم.
» .6أوهقت« :من مادة »وهق« حلقة توضع على رقبة الحيوان.
] [ 21
عَلْيِهْم َرْي َ
ب ت َ
عاَن ْ
سِم)َ ،(4وَأ َ
خِرَ ،وَوطَِئْتُهْم ِباْلَمَنا ِ
عّفَرْتُهْم)ِ (3لْلَمَنا ِ
بَ ،و َ
ضَعْتُهْم)ِ (2بالّنَواِئ ِ
ضْع َ
ع)َ ،(1و َ
ِباْلَقَواِر ِ
ن).«(5اْلَمُنو ِ
ن الدنيا ليس فقط لم تقدم العون والمساعدة لعبادها وأصحابها ،بل سارعت بكل ما
فهذه العبارة المؤثرة تشير إلى أ ّ
أوتيت من وقّوة لتوجيه ضرباتها الماحقة إليهم بغية إبادتهم ،وإستئصال شوكتهم ،حتى جندت جميع قواها
وطاقاتها ضدهم.
ل إلى الصغرى في إطار تصويره والطريف في بيان المام )عليه السلم( هو أّنه بدأ من المراحل الكبرى نزو ً
لعانة الدنيا وما يمكنها أن تقدمه من نصرة ومساعدة ،بينما تدرج في أضرارها التي تصيب من تعلق بها من
المراحل السفلى إلى المراحل العليا المتمثلة بالنقضاض عليهم وإزالتهم من صحفة الوجود ،ولعمري هذه قمة
الفصاحة والبلغة في بيان الحقائق المريرة والليمة ويكشف النقاب عن مدى وضاعة الدنيا وانحطاطها وتنكرها
لمن أخلد إليها واطمأن بها.
ل شيء وهو المرثم خلص)عليه السلم( إلى نتيجة مّما سبق مفادها تنكر الدنيا لصحابها ممن آثرها على ك ّ
لمم التي سبقتهم( فقد سلمتهم للقدار وساقتهم نحو الموت دون أن
الذي رأوه بأم أعينهم )أو لعلهم طالعوه بشأن ا ُ
عْنَها ِلِفَرا ِ
ق ظَعُنوا َ
ن َ
حي َ
خَلَد)َ (6لَهاِ ،
ن َلَهاَ ،وآَثَرَها َوَأ ْ
ن َدا َ
يعّدوا الزاد والمتاع لتلك الدار الخرةَ» :رَأْيُتْم َتَنّكَرَها ِلَم ْ
لَبِد«.
ا َْ
فهل أمدتهم هذه الدنيا بشيء سوى الجوع والفقر؟ وهل عرضتهم سوى للتعب والرهاق والضنك؟ وهل وهبتهم
ل الظلمة التي ليس معها نور؟ )أبدًا ،بل أودعتهم حفرًا مظلمة
إّ
» .2ضعضعت« :من مادة »ضعضعة« بمعنى الذلة والهوان ،كما تأتي بمعنى البادة.
» .5ريب المنون« :الريب الشك الذي يكشف عنه الغطاء آخر لمر ويبلغ اليقين ،والمنون يعني الموت ،وريب
المنون الموت المحتمل ويراد بها أحيانًا مكاره الدهر التي تكون في البداية مشكوكة ثم يحصل بها اليقين.
] [ 22
بَ ،أْو
سَغ َ
ل ال ّ
ل َزّوَدْتُهْم ِإ ّ
موحشة تفيض رعبًا وخشية( ،وهل بقي لديهم من شيء سوى الحسرة والندمَ» :وَه ْ
ل الّنَداَمَة!«.
عَقَبْتُهْم ِإ ّ
ظْلَمَةَ ،أْو َأ ْ
ل ال ّ
ت َلُهْم ِإ ّ
ك)َ ،(1أْو َنّوَر ْ
ضْن َ
ل ال ّ
حّلْتُهْم ِإ ّ
َأ َ
فكيف الوثوق بهذه الدنيا التي ل تضمر لمن تعلق بها سوى البؤس والشقاء والهزيمة والفشل والظلمة ،ول تعقبه
سوى الندم؟! أم كيف له التضحية بالغالي والنفيس في سبيل الحصول على بعض حطام الدنيا وجعلها هدفًا في
حياته؟!
س ِ
ت ن؟ َفِبْئ َ
صو َ
حِر ُ
عَلْيَها َت ْ
ن؟ َأْم َ
طَمِئّنو َ
نَ ،أْم ِإَلْيَها َت ْ
ومن هنا تساءل المام )عليه السلم( مستنكرًاَ» :أَفهِذِه ُتْؤِثُرو َ
جل ِمْنَها!«.عَلى َو َ
ن ِفيَها َ
ن َلْم َيّتِهْمَهاَ ،وَلْم َيُك ْ
الّداُر ِلَم ْ
حقًا ،ليست هناك من عبارات أوضح وأفصح من هذه العبارات التي وردت بشأن تفاهة الدنيا والمصير والعاقبة
المريرة التي تنتظر من تعلق بها وسكن إليها ،وهدف المام )عليه السلم( من هذه التأكيدات المتواصلة
والعبارات المنبهة الشديدة إلى الوقوف بوجه الريح الدنيوية العاتية ،وما إنطوت عليه من نعم جّمة أفرزتها قضية
الفتوحات السلمية والتي إستهوت قطاعات واسعة من المسلمين لتقذف بهم في أتون الرفاهية والراحة والدعة
طون في سبات الغفلة ،عّلهم يفيقون إلى أنفسهمبما ينسيهم القيم والمثل والمبادىء السماوية الخالدة ،ويجعلهم يغ ّ
لّمة ـ ل
ويعودون إلى رشدهم فيهبوا لحياء القيم السلمية المغيبة ،إلى جانب محاولة المام )عليه السلم(إعادة ا ُ
سيما أولئك الفراد الذين تكالبوا على الدنيا وثرواتها إبان عهد عثمان ـ إلى المسار السلمي الصحيح.
وما أورع هذه المواعظ والنصائح البليغة الواضحة للمتكالبين على الدنيا من أبناء عصرنا الراهن حيث يشهدون
ذات الظروف ،بل أسوأ منها والتي عصفت بالمجتمع وجعلته يتعلق بالدنيا ،والحق لو لم يلتفتوا إلى هذا المر
ويفكروا في علج وضعهم فل من دين ول دنيا معقولة يمكنهم أن يظفروا بها ويحصلوا عليها.
والعبارات تنسجم تمامًا وما صرحت به الحاديث النبوية الشريفة وروايات وكلمات
» .1ضنك« :بمعنى »الضيق« والشّدة وهى مفردة تستعمل بصيغة المفرد دائمًا.
] [ 23
المعصومين)عليهم السلم(وبالتالي اليات القرآنية ،فققد صّرحت الية ،9من سورة الروم:
عَمُروَها
ض َو َ
لْر َ
شّد ِمْنُهْم ُقّوةً َوَأَثاُروا ا َْ
ن َقْبِلِهْم َكاُنوا َأ َ
ن ِم ْعاِقَبُة اّلِذي َ
ن َف َكا َ
ظُروا َكْي َ ض َفَين ُ
لْر ِ سيُروا ِفي ا َْ
)َأَوَلْم َي ِ
ن(.
ظِلُمو َسُهْم َي ْن َكاُنوا َأنُف َظِلَمُهْم َوَلِك ْ
ل ِلَي ْ
نا ُ ت َفَما َكا َسُلُهْم ِباْلَبّيَنا ِ
جاَءْتُهْم ُر ُ
عَمُروَها َو ََأْكَثَر ِمّما َ
ك َمْأَواُهْم الّناُر
ن * ُأْوَلِئ َ
غاِفُلو َ
ن آَياِتَنا َ
عْ
طَمَأّنوا ِبَها َواّلِذينَ ُهْم َ
حَياِة الّدْنَيا َوا ْ
ضوا ِباْل َ
ن ِلَقاَءَنا َوَر ُ
جو َ
ل َيْر ُ
ن َ ن اّلِذي َ
)ِإ ّ
ن(
سُبو َ
ِبَما َكاُنوا َيْك ِ
طَ
قحكَمَة ِفي َقْلِبهِ َوَأْن َ
ل ال ِ
تا ُن َزِهَد ِفي الّدنيـا َأثَب َ
وورد في الحديث عن المام الصادق)عليه السلم( أّنه قالَ» :م ْ
سلِم«).(1 ن الّدنيـا سـاَِلمًا إلى داِر ال ّجُه ِم َ
ب الّدنيـا َداَءهـا َوَدواَءها َوَأخَر َ
عُيو َ
صَرُه ُ
ساَنُه َوَب ّ
ِبهـا ِل َ
شّتتَعيَنيِه َو َ
ن َ ل َتعالى الَفقَر َبي َ
لا ُجَع َ
سى َوالّدنيـا َأْكَبُر َهّمِه َ ح َوَأم َ
كما ورد عنه )عليه السلم( أّنه قالَ» :من َأصَب َ
جَمَع َلُه
ل الِغنى ِفي َقْلِبِه َو َ لا ُ
جَع َ
خَرُة َأْكَبُر َهّمِه َ
سى َوال ِ ح َوَأم َ
ل َلُهَ ،من َأصَب َ
سَم ا ُ
ل مـا َق ّ
ن الّدنيـا إ ّ
ل ِم َ
َأَمَرُهَ ،وَلم َيَن ْ
َأمَرُه«(2).
—–
] [ 24
] [ 25
القسم الخامس
حِمُلوا شّد ِمّنا ُقّوًة«ُ . ن َأ َن َقاُلواَ» :م ْ ظوا ِفيَها ِباّلِذْي َ عْنَهاَ .واّتِع ُ ن َ عُنو َ
ظا ِن ـ ِبَأّنُكْم َتاِرُكوَها َو َ عَلُموا ـ َوَأْنُتْم َتْعَلُمو َ »َفا ْ
ن الّتَرابِ نَ ،وِم ْ جَنا ٌ
ح َأ ْ صِفي ِ
ن ال ّ ل َلُهْم ِم َجِع َ ضيَفانًاَ .و ُ ن ِ عْو َل ُيْد َث َف َ
جَدا َلْ ن ُرْكَبانًاَ ،وُأْنِزُلوا ا َْ عْو َِإَلى ُقُبوِرِهْم َفل ُيْد َ
جيُدوا َلْم ن ِ ن َمْنَدَبًةِ .إ ْل ُيَباُلو َ
ضْيمًاَ ،و َ ن َ ل َيْمَنُعو َ عيًاَ ،و َ ن َدا ِ
جيُبو َل ُي ِجيَرٌة َ نَ ،فُهْم ِ جيرا ٌ ت ِ ن الّرَفا ِ نَ ،وِم ْ َأْكَفا ٌ
ن.ل َيَتَقاَرُبو َ ن َ نَ ،وَقِريُبو َ ل َيَتَزاَوُرو َ ن َ جيَرٌة َوُهْم َأْبَعاٌد .مَُتَدُنو َ حاٌدَ ،و ِ
جِميٌع َوُهْم آ َ طواَ . طوا َلْم َيْقَن ُحُ ن ُق ِ حواَ ،وِإ ْ َيْفَر ُ
لْر ِ
ض ظْهِر ا َْ سَتْبَدُلوا ِب َجى َدْفُعُهْمِ ،ا ْ ل ُيْر َجُعُهْمَ ،و َ شى َف ْ خَ ل ُي ْحَقاُدُهْمَ ،لُء َقْد َماَتت َأ ْ جَه َضَغاُنُهْمَ .و ُ ت َأ ْ حَلَماُء َقْد َذَهَب ْ ُ
عَماِلِهْمعْنَها بَأ ْظَعُنوا َ عَراًةَ ،قْد َ حَفاًة ُجاُءوَها َكَما َفاَرُقوَهاُ ، ظْلَمًةَ .ف َ
غْرَبًةَ ،وِبالّنوِر ُ ل ُلْه ِضيقًاَ ،وِبا َْ سَعِة ِ طَنًاَ ،وِبال ّ
َب ْ
ن««. عِلي َ عَلْيَنا ِإّنا ُكّنا َفا ِ
عدًا َ خْلق ُنِعيُدُه َو ْ ل َ حاَنُه َوَتَعاَلىَ» :كَما َبَدْأَنا أَّو َ سْب َل ُ حَياِة الّداِئَمِة َوالّداِر اْلَباقَيِةَ ،كَما َقا َ ِإَلى اْل َ
—–
الشرح والتفسير
العتبار بالموتى
إختتم المام )عليه السلم( خطبته بالحديث مّرة أخرى عن تقلب أحوال الدنيا وغدرها وتنكرها لمن تعّلق بها ،إلى
جانب الكلم عن المصير الحتمي الذي ينتظر كل إنسان والذي يتمثل بمفارقة الدنيا والرحيل إلى عالم الخرة،
عْنَها«.
ن)َ (1
عُنو َ
ظا ِ
ن ـ ِبَأّنُكْم َتاِرُكوَها َو َ
عَلُموا ـ َوَأْنُتْم َتْعَلُمو َ
فقال )عليه السلم(َ» :فا ْ
» .1ظاعنون« :من مادة »ظعن« على وزن دفن بمعنى السفر والرحيل.
] [ 26
ت.(1)(...
ل َنْفس َذاِئَقُة اْلَمْو ِ
نعم ،فلبّد لكل إنسان أن يذوق طعم الموتُ) :ك ّ
لْكَراِم().(2
ل َوا ِْ
لِجَ
ك ُذو اْل َ
جُه َرّب َ
عَلْيَها َفان *ََيْبَقى َو ْ
ن َ
ل َم ْ
وقال تعالىُ) :ك ّ
ن().(3
ك الَيِقي ُ
حّتى َيْأِتَي َ
ك َ
عُبْد َرّب َ
ولعل النسان يشك في كل شيء ،غير أّنه ل يشك في حقيقة الموت) :وا ْ
لمم ممن غّرتهم قواهم ،فلم تنفعهم ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه بضرورة التعاظ بمن كان قبلهم من ا ُ
تلك القّوة شيئًا حتى حملوا راغمين إلى قبورهم ،فلم يحلوا ضيوفًا على تلك القبور بعد أن ورد وهاقرًا وإكراهاً
حِمُلوا ِإَلى ُقُبوِرِهْم َفل
شّد ِمّنا ُقّوًة()ُ .(4
ن َأ َ
ن َقاُلوا) :مَ ْ
ظوا ِفيَها ِباّلِذْي َ
دون أن يكون لهم أدنى إرادة واختيارَ» :واّتِع ُ
ضيَفانًا«. ن ِ عْو َ
ل ُيْد َ
ث)َ (6ف َ
جَدا َ
لْن ُرْكَبانًا)َ ،(5وُأْنِزُلوا ا َْ
عْو َ
ُيْد َ
حّ
ق ض ِبَغْيِر اْل َ
لْر ِ
سَتْكَبُروا ِفي ا َْ
عاٌد َفا ْ
ولعل العبارة إشارة لما ورد في الية 15من سورة فصلت القائلةَ) :فَأّما َ
شّد ِمّنا ُقّوًة.(...
ن َأ َ
َوَقاُلوا َم ْ
ن قوم عاد كانوا ذوي جثث ضخمة وقصور وبيوت فارهة عملقة ينحتونها وسط الجبال ،المر الذي فالمعروف أ ّ
جعلهم يصابون بالكبر والغرور ،فلّما عتوا عن أمر ال وعصوه أرسل ال عليهم ريحًا عاتية فأحالت جثثهم
ل:
الضخمة إلى ما يشبه أوراق الشجار التي تتناثر على الرض ،حيث حّدث عنهم القرآن الكريم بهذا الشأن قائ ً
خل ُمْنَقِعر((7).
جاُز َن ْ
عَ
س َكَأّنُهْم َأ ْ
ع الّنا َ
سَتِمّر * َتنِز ُ
حس ُم ْ
صرًا ِفي َيْوِم َن ْ
صْر َ
عَلْيِهْم ِريحًا َ
سْلَنا َ
)ِإّنا َأْر َ
ن الراكب من يكون
ن ُرْكَبانًا« والركبان جمع راكب وذلك ل ّ
عْو َ
أّما قوله )عليه السلم( »َفل ُيْد َ
ن العرب إعتادت الصطلح بالركبان على من يركب مختارًا وله التصرف في مركوبه، » .5ركبانا« :صّرح بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
فان نزلوا سموا ضيفان ،أّما الموتى الذين يحملون إلى قبورهم فل يدعون ركباناً ول ضيفان.
نَ ،وِم ْ
ن ب َأْكَفا ٌ
ن الّتَرا ِ
ن)َ ،(2وِم ْ
جَنا ٌ
ح)َ (1أ ْ
صِفي ِ
ن ال ّ
ل َلُهْم ِم َ
جِع َ
ثم قال المام )عليه السلم( مواصلة لوصفهمَ» :و ُ
ن«.جيرا ٌ
ت)ِ (3
الّرَفا ِ
ن قبورهم خالية من البناء والسقوف والعمدة والبواب والنوافذ ،فهى ليست أكثر من قبضةفالعبارة إشارة إلى أ ّ
من الحجر والتراب على وجه الرض ،والتعبير عن التراب بالكفن فذلك لّنه يحيط ببدن الميت ويواريه كالكفن،
وأّما ذلك الكفن الذي يلف به الميت فهو مؤقت سرعان ما يبلى ويزول ،ول يبقى سوى الكفن الصلي وهو
التراب.
ن المام )عليه السلم( واصل كلمه بالحديث عن هؤلء الجيران وهم ليسوا أكثر من عظام والجدير بالذكر هو أ ّ
نخرة ،فيكشف النقاب عن حقيقة وضعهم بعبارات غاية في الجمال والروعة ،وبما يدعو للتأمل والعتبارَ» :فُهْم
ن َمْنَدَبًة).«(5
ل ُيَباُلو َ
ضْيمًا)َ ،(4و َ
ن َ
ل َيْمَنُعو َ
عيًاَ ،و َ
ن َدا ِ
جيُبو َ
ل ُي ِ
جيَرٌة َ
ِ
طوا َلْم
حُ
ن ُق ِ
حواَ ،وِإ ْ
جيُدوا)َ (6لْم َيْفَر ُ
ن ِ أضف إلى ذلك فهم على درجة من عدم الكتراث بأي شيء بحيثِ» :إ ْ
ن«.ل َيَتَقاَرُبو َ
ن َ
نَ ،وَقِريُبو َل َيَتَزاَوُرو َ
ن َ
جيَرٌة)َ (7وُهْم َأْبَعاٌدُ .مَتَدُنو َ
حاٌدَ ،و ِ
جِميٌع َوُهْم آ َ
طواَ .
َيْقَن ُ
حقًا ،أّنهم عبرة لمن اعتبر وأوضاعهم مدعاة إلى التأمل والنظر ،فكل شأن من شؤونهم يختلف تمامًا وما عليه
الحال بالنسبة لهل الدنيا ،فقد كانوا معًا حتى أمس القريب ،ينجد
» .1صفيح« :وردت هنا بمعنى وجه الرض ،من مادة »صفح« على وزن مدح.
» .2أجنان« :جمع »جنن« على وزن كفن بمعنى القبر ،وأصلها بمعنى التغطية والستر ،ولما كان القبر يستر بدن الميت فقد اطلق
عليه الجنن.
» .3رفات« :بمعنى كل شيء بالي ومتعفن ،كما يراد بها العظام المندقة المحطومة والمتنافرة.
» .6جيدوا« :من مادة »جود« على وزن قوم مبني للمجهول بمعنى ُمطروا.
] [ 28
بعضهم البعض الخر ،يهرعون لستقبال السنين التي تدر عليهم النعم والمنافع ،بينما كانوا ينزعجون من القحط
والجدب ،كما كانوا يطوون المسافات القريبة والبعيدة لرؤية بعضهم البعض الخر ،لكن دون خبر عن أوضاعهم
ن المسافة بينهما كأّنها ما بين المشرق والمغرب،لأّوما عليه أحوالهم ،قبورهم متصلة متلصقة مع بعضها ،إ ّ
ومن كان منهم يأن ليل نهار من عذاب البرزخ فل يسمع أنينه أقرب مقربيه من صحبه من أهل القبور ،بل حتى
لو سمع صراخه وألمه لما وسعه نجدته وتقديم العون له.
وما أروع ما كان يردده المام السجاد )عليه السلم( حين مناجاته باكيًا وهو يجسد ما أورده المام علي )عليه
السلم( بهذا الشأن ،إذ كان يقول:
صُر
ت َوَمقـا ِ
طَل ْ
عّس ِمنُهم ُ
ت *** َمجاِل ُ
ب َواقَفَر ْ
حوا ِرِميمًا ِفي الّترا ِ
وأض َ
ن الُقُبوِر َتزاُوُر
سكا ِ
حّلوا ِبدار ل َتزاوُر َبيَنُهم *** َوأّنى ِل ُ
َو َ
صيُر)(1ثم واصل المام )عليه السلم( حديثه عن عَليِه العا ِ سّنَمًة َتسِفى َ
ى َقْد َتَووا ِبها *** ُم َ جث ًل َُفما أن َترى إ ّ
أصحاب القبور بأّنهم عقلء قد ذهبت عداوتهم وخصومتهم ،وفي نفس الوقت هم جّهال قد طرحت أحقادهم
وأضغانهم ،فلييس هناك ما يدعو للخشية من ضررهم وشرهم ،كما ل يؤمل أن يدافعوا عن أنفسهم ،فقد انسلخوا
حَلَماُء َقْد
من ظاهر الرض ليوطنوا باطنها ،فاستبدلوا بتلك السعة ضيقًا وبالهل والوطن والنور غربة وظلمةُ » :
طَنًا،
ض َب ْ
لْر ِ
ظْهِر ا َْ
سَتْبَدُلوا ِب َ
جى َدْفُعُهْمِ ،ا ْ
ل ُيْر َ
جُعُهْمَ ،و َ
شى َف ْ
خَل ُي ْ
حَقاُدُهْمَ ،
لُء َقْد َماَتت َأ ْجَه َ ضَغاُنُهْمَ .و ُ
ت َأ ْ
َذَهَب ْ
ظْلَمًة«.
غْرَبًةَ ،وِبالّنوِر ُل ُ لْه ِضيقًاَ ،وِبا َْسَعِة ِ َوِبال ّ
والعجيب في المر أّنه يصفهم في عبارة بالعقلء ،ثم يردفها بالعبارة التالية بوصفهم بالجهلء ،والواقع هو أّنهم
جثث خاوية قد خلت من الرواح ،فهم ليسوا بعقلء ول جهلء ،بل وضعهم في موضع جعلهم أشبه بالعقلء حيث
زالت العداوة بينهم ،وفي موضع آخر تشبهوا بالجهلء حيث ماتت بينهم روح الحسد ودوافعه ،فقد تغييرت جميع
مفرداتهم في لحظة حيث استبدلوا بظاهر الرض باطنها وبالدور الواسعة المنيرة المليئة بالهل والعيال ،القبور
الضيقة
ل عن البداية
.1منها البراعة ،25 /8وردت هذه الشعار في حاشية بحار النوار بعنوان مناجاة للمام السجاد)عليه السلم(نق ً
والنهاية ،لبن كثير )بحار النوار .(46/48
] [ 29
حَفاًة عَُراًة«).(1
جاُءوَها َكَما َفاَرُقوَهاُ ،
ثم إختتم حديثه )عليه السلم( بالقولَ» :ف َ
خَرى().(2
جُكْم َتاَرًة ُأ ْ
خِر ُ
خَلْقَناُكْم َوِفيَها ُنِعيدُُكْم َوِمْنَها ُن ْ
والعبارة مستوحاة من الية القرآنية الشريفةِ) :مْنَها َ
نعم كما خلق آدم )عليه السلم( من التراب ،كذلك أولده سيعودن حفاة عراة إلى هذه الرض على غرار ولدتهم
وقدومهم إليها ،وإن حملوا معهم كفنًا ،فهو ليس كذلك في الواقع ،إذا سرعان ما يبلى ويزول ول يعّد له من وجود،
بالتالي سيودع هذا النسان شاء أم أبى يومًا كل ما جمعه من أموال وأعّد لنفسه من قصور ودور فارهة وحدائق
ومراكب وإمكانات ووسائل ،لينزل تلك الحفرة حافيًا عريانًا وعليه أن يستعد لتلك الظلمة والوحشة.
ل عليه وأعظم بلء يصيبه ،وهو المر نعم ،الشيء الوحيد الذي يحمله معه هو عمله والذي قد يكون أحيانًا وبا ً
حاَنُه
سْب َ
ل ُ
حَياةِ الّداِئَمِة َوالّداِر اْلَباقَيِةَ ،كَما َقا َ
عَماِلِهْم ِإَلى الْ َ
عْنَها بَأ ْ
ظَعُنوا َ الذي أّكده المام )عليه السلم( فقالَ» :قْد َ
ن().«(3 عِلي َ
عَلْيَنا ِإّنا ُكّنا َفا ِ
عدًا َ
خْلق ُنِعيُدُه َو ْ
ل َ
َوَتَعاَلىَ) :كَما َبَدْأَنا َأّو َ
ن( ،لكي ل
عِلي َ
عَلْيَنا ِإّنا ُكّنا َفا ِ
عدًا َ
خْلق ُنِعيُدُه َو ْ
ل َ
ثم استشهد )عليه السلم( بالية القرآنية الكريمةَ) :كَما َبَدْأَنا َأّو َ
يبقى أدنى مجال للشك في حقيقة عودة النسان إلى التراب الذي خلق منه فيرى هناك جزاء أعماله من ثواب أو
عقاب.
—–
.1اختلفت أقوال شّراح نهج البلغة لهذه العبارة ،ويبدو النسب هو ما أوردناه سابقًا.
] [ 30
تأّملن
ن التعّلق بها
ب الدنيا كما ورد في الرواية هو رأس كل خطيئة وأساس جميع الذنوب والمعاصي ،كما أ ّ نح ّ إّ
والغترار بزخارفها وحطامها يصد النسان عن رّبه وينسيه الخرة والحساب يوم القيامة ،ومن شأن هذه الغفلة
والصدود أن تشكل أحد العوامل المهّمة التي تقذف بالنسان في وحل الخطايا والذنوب ،وقد شهد عصر المام
أمير المؤمنين )عليه السلم( تنامي الموال والثروات إثر التقدم السريع الذي أحرزه السلم والغنائم المتحصلة
من الغزوات ،وهو المر الذي لفت إنتباه طائفة عظيمة من المسلمين ليشّده إلى الدنيا ويدفع بها إلى التكالب عليها،
وأفضل شاهد على ذلك الفساد المالي العظيم الذي حصل على عهد عثمان ،ومن هنا لم ينفك المام )عليه السلم(
في أغلب خطب نهج البلغة من ذّم الدنيا والتحذير من النخداع بها والركون إليها والوثوق بها ،وقد أورد
عباراته بمنتهى الفصاحة والبلغة وبالشكل الذي يجعلها تثير حساسية أهل الغفلة ممن نسوا أنفسهم وتعّلقوا
بالدنيا ،ول سّيما في هذه الخطبة التي مّر علينا شرحها ،فقد سارت مواكبة للقرآن الكريم في ذّمه للدنيا ،وقد سلك
المام )عليه السلم( مختلف الطرق من أجل بيان هذه الحقيقة منها:
1ـ تحّدث )عليه السلم( بادىء ذي بدء عن »غدر الدنيا وعدم ثباتها« وكيف استقطبت كل من تطّلع إليها بينما
وّلت ظهرها وتنكرت له وقذفت به في وحل البؤس والشقاء.
2ـ تحّدث أحيانًا عن »تقلب الدنيا السريع« حيث سرعان ما تتبدل القّوة ضعفًا ،والنتصار هزيمة ،والغنى فقرًا،
والعافية مرضًا.
3ـ كما تحّدث أحيانًا أخرى عن إختلط النعم باللم ،والمعافاة والعذوبة بالمرارة ،فهنالك الشواك حيث
الزهار ،والفاعي حيث الكنوز ،بهدف عدم اغترار الناس بالدنيا والتعّلق بها والنخداع بزخارفها.
4ـ كما يصحب )عليه السلم( مخاطبيه تارة أخرى ليوقفهم على نماذج عينية ملموسة للغدر وعدم الثبات الذي
تنطوي عليه طبيعة الدنيا ،فيقول لهم :إنظروا إلى الدنيا ماذا فعلت بمن كان أشّد منكم قّوة وأكثر جمعًا للموال
وأعظم جندًا.
] [ 31
سام الماهر الذي أمسك بريشته وجعل يرسم على لوحته الحالت المرعبة 5ـ وأحيانًا أخرى يكون على غرار الر ّ
للنسان على أعتاب الموت ،وإنفصاله عن الهل والولد والمال والثروة والجاه والمنصب ،فيضع تلك اللوحة أمام
أعينهم ليروها عن قرب فيعتبروا ويفكروا في مصيرهم.
6ـ كما يعمد أحيانًا أخرى لرسم لوحة صادقة معّبرة عن ضيق القبر وظلمته والذي يمثل آخر منازل الدنيا ،فهو
يحكي عن وحدة النسان وغربته وسط ما يجاوره من قبور صامتة ،فليس هناك من تزاور بينهم قط ،كما ليس
لحد منهم علم عن آخر ،إلى جانب تصويره لنقطاع النسان عن زوجته وولده ومدى عجزه وحاجته.
ل آيات القرآن الكريم ،فأحيانًا تشير
ن جميع هذه المباحث والمضامين إّنما تتحرك في ظ ّ
والملفت للنظرها هو أ ّ
صراحة إلى تلك اليات ،وأخرى تكون العبارات مستقاة من اليات القرآنية ،وهذا ما يسيغ نورًا ولمسات روحية،
وجذبات معنوية على كلمات المام علي )عليه السلم(وبالتالي مضاعفة مدى تأثيرها.
ياليت أهل الدنيا ممن اغتروا بها وخدعوا بحطامها وزيفها وتزينها أن يلتفتوا لنفسهم ولو لحظة واحدة طيلة
عمرهم فيطالعوا هذه الخطبة الموقظة ويتدّبروا عباراتها ومفاهيمها ،بل ما أحرانا نحن أيضًا أن نتأمل هذه
الخطبة وما شابهها من الخطب التي وردت في نهج البلغة لتتعمق معرفتنا بخصوص الدنيا والوقوف على مدى
ضحالتها وتفاهتها فتتجدد فينا روح الطاعة والبتعاد عن الخطيئة والمعصية.
] [ 32
ومن كلم الحكيم في الدنيا» :إنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر ،ونائلها قاصر ،وعزيزها ذليل ،وصحيحها
عليل ،والداخل إليها مخرج ،والمطمئن فيها مزعج ،والذائق من شرابها سكران ،والواثق بسرابها ظمآن ،ظاهرها
غرور ،وباطنها شرور ،وطالبها مكدود ،وتاركها محمود«.
—–
حين نطالع ما أورده المام )عليه السلم( في هذه الخطبة حول »أهل القبور« في أّنهم جيرة ل يتزاورون
وقريبون ل يتقاربون وما إلى ذلك ،يتبادر إلى الذهان هذا السؤال وهو أّنه وردت عّدة روايات صّرحت بعضها
ن لهم مجالسهم وحلقاتهم ،ومن ن أهل القبور يجتمعون أحيانًا مع بعضهم ويطلع كل منهم على أوضاع الخر وأ ّ بأ ّ
ن«).(1حّدُثو َ
ق ُقُعوٌد َيَت َ
حَل ٌ
ق ِ
حلَ ٌ
ذلك ما ورد عن المام الصادق )عليه السلم( أّنه قالَ» :كَأّني ِبِهم ِ
فكيف الجمع بين هذه الروايات وما ورد في عبارات الخطبة المذكورة؟
] [ 33
الخطبة)(1
112
ذكر فيها ملك الموت وتوفيه النفس وعجز الخلق عن وصف ال
ن هذه الخطبة جزء من خطبة مفصلة طويلة ،وهى تهدف في الواقع إلى بيان هذه الحقيقة التي تفيد بعض القرائن أ ّ
ن النسان إن عجز عن معرفة تكمن في عجز البشرية عن إدراك كنه الذات وصفات ال سبحانه وتعالى ،وذلك ل ّ
ملك الموت وصفاته وطبيعة أعماله ،فكيف يتوقع أن يقف على كنه الذات والصفات للخالق سبحانه كما هى عليه.
ن هذه الخطبة هى جرء من الخطبة المعروفة بالشباح والتي أوردها والذي يفهم من كتاب »تمام نهج البلغة« أ ّ
ن عبارة هذهالمام علي )عليه السلم( بشأن عجز النسان عن إدراك كنه الذات والصفات اللهّية ،والحق إ ّ
ن الخطبة التي
الخطبة تنسجم تمامًا وعبارات خطبة الشباح ،فاذا ما وضعت الخطبتان مع بعضهما لتوصلنا إلى أ ّ
بين أيدينا هى جزء من تلك الخطبة).(2
—–
.1سند الخطبة:
ورد في مصادر نهج البلغة أّنه نقلها »علي بن محمد الليثي« صاحب كتاب »عيون الحكم والمواعظ« مع فارق قليل ،وقال ابن ميثم
البحراني حين شرحه لهذه الخطبة أّنها جزء من خطبة طويلة أوردها المام علي)عليه السلم( بشأن توحيد ال سبحانه وتعالى
وتنزيهه.
ويفيد هذا الكلم أّنه نقل هذه الخطبة من مصدر آخر غير نهج البلغة )مصادر نهج البلغة .(2/244
] [ 34
] [ 35
عَلْيِه ِمنْ
ج َ ن ُأّمِهَ .أَيِل ُ
طِن ِفي َب ْ
جِنْي َ
ف َيَتَوّفى اْل َ
ل َكْي َ
حدًا؟ َب ْ
ل َتَراُه ِإَذا َتَوّفى َأ َ
ل؟َ ،أْم َه ْ ل َمْنِز ً
خَس ِبِه ِإَذا َد َ
ح ّل ُت ِ
»َه ْ
صَفِة
ن ِعْ جُز َ ن َيْع َ
ف ِإلَهُه َم ْ ص ُ ف َي ِ
شاِئَها؟ َكْي َن َمَعُه في َأحْ َ ساِك ٌ
ن َرّبَهاَ ،أْم ُهَو َ ح َأجاَبْتُه ِبِإْذ ِ
حَها؟ َأِم الّرو ُ جَواِر ِض َ َبْع ِ
خُلوق ِمْثِلِه!«. َم ْ
—–
الشرح والتفسير
ن هذه الخطبة في الواقع جزء من خطبة التي تصدت لبيان صفات ال تعالى وعجز البشرية عن كما ورد سابقًا فا ّ
إدراك كنهه وصفاته سبحانه ،وقد استدل المام )عليه السلم( بمثال في هذه الخطبة يشخص الحقيقة المذكورة
ويبّين عجز النسان عن الوقوف على كنه ذات أغلب المخلوقات ،وبناءًا على ما سبق فكيف يمكن توقع وقوف
هذا النسان على كنه ذات وصفات الخالق المطلق بينما ل يسعه إدراك كنه مخلوق مثله؟
حدًا؟«.
ل َتَراُه ِإَذا َتَوّفى َأ َ
ل؟َ ،أْم َه ْ
ل َمْنِز ً
خَس ِبِه ِإَذا َد َ
ح ّ
ل ُت ِ
فقد قال )عليه السلم(َ» :ه ْ
ن روح النسان تفصل عن جسده من قبل ملك الموت ،كما صرحت بذلك العديد من اليات القرآنية، قطعًا أ ّ
والحال ليس لدينا أي علم بولوجه من أجل قبض الروح ول خروجه ،كما ل نراه حين يقبض الروح ،رغم أّنه
مخلوق من مخلوقات ال سبحانه ،وما أكثر من مثله من الملئكة الذين يتعذر علينا رؤيتهم.
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه بالتطرق إلى مورد خاص بشأن قبض الروح والذي يتصف بالتعقيد
ن ُأّمِهَ .أَيِل ُ
ج طِن ِفي َب ْ
جِنْي َ
ف َيَتَوّفى اْل َ
ل َكْي َ
والغموض ،وهو قبض روح الجنين في بطن ُاّمه ،فقال )عليه السلم(َ» :ب ْ
شاِئَها؟«. حَ
ن َمَعُه في َأ ْ
ساِك ٌ
ن َرّبَهاَ ،أْم ُهَو َ
ح َأجاَبْتُه ِبِإْذ ِ
حَها؟ َأِم الّرو ُ
جَواِر ِ
ض َ
ن َبْع ِ
عَلْيِه ِم ْ
َ
] [ 36
فمن البديهي أّنه يشق على كل عالم بانتقاء أي من الجوبة الثلث على سؤال المذكور ،فليس هنالك دليل يثبت أي
منها ،وعليه فقضية قبض الروح بواسطة ملك الموت بحّد ذاتها قضية شائكة غاية في التعقيد يعجز عن إدراكها
ل عن قبض روح الجنين في بطن ُاّمه.
النسان فض ً
ن صَِفِة
عْ
جُز َ
ن َيْع َ
ف ِإلَهُه َم ْ
ص ُ
ف َي ِ
ثم يخلص المام )عليه السلم( من العبارات السابقة إلى هذه النتيجةَ» :كْي َ
خُلوق ِمْثِلِه!«.
َم ْ
نعم ،فهناك اللوف المؤلفة من المخلوقات والكائنات التي عجز النسان عن إدراكها حتى بعد تطور العلوم
وتقدمها ،فما حقيقة الروح؟ وما كيفية إرتباطها بالجسد؟ كيف تنسلخ عن الجسد؟ وأين تتجه هذه الروح بعد
انفصالها من البدن؟ ما حقيقة الحياة؟ لم استطاع العلماء جمع كافة العناصر الموجودة في الخلية الحية في
ل أّنهم عجزوا عن نفخ الروح فيها؟!مختبراتهم بصورة صناعية إ ّ
ما حقيقة الزمان والمكان؟ ما كيفية أمواج الجاذبية التي تربط شرق العالم بغربه؟ ومئات السئلة من هذا القبيل.
فاذا عجزنا عن وصف هذه المخلوقات التي نشترك معها في كثير من المور ،فكيف نتوقع إمكانية وصفنا ل
الذي ل يشترك معنا في أي أمر؟! بلى ،لدينا علم إجمالي بوجوده وصفاته سبحانه ،حيث نعلم أّنه موجود وله
ن الكل يعرب عن عجزه وفشله من اقتحام ميدان العلم التفصيلي ،بما فيهم
لأّ الصفة الفلنية على سبيل الجمال ،إ ّ
أنبياء ال سبحانه وتعالى.
—–
تأّملت
هل ملك واحد أم جماعة؟ سؤال يتبادر إلى أذهان الكثيرين ،فقد وردت بعض اليات القرآنية التي نسبت إلى ال
ن َمْوِتَها.(1)(...
حي َ
س ِ
لْنُف َ
ل َيَتَوّفى ا َْ
تعالى قبض الرواح) :ا ُ
] [ 37
بينما نسبت البعض الخر منها قبض الروح إلى الملئكة ،كما نسبته إلى ملك الموت الذي عّبرت عنه أيضًا
ل ِبُكْم .(...وقالت الية
ت اّلِذي ُوّك َ
ك اْلَمْو ِ
ل َيَتَوّفاُكمْ َمَل ُ
بالملئكة ،فقد صرحت الية 11من سورة السجدة قائلةُ) :ق ْ
لِئَكُة(.
ن َتَتَوّفاُهْم اْلَم َ
،8من سورة النحل) :اّلِذي َ
ويعلم أرباب التفسير وأهل التحقيق قي القرآن أن ليس هنالك أي تعارض بين اليات الثلثة المذكورة ،وذلك ل ّ
ن
السنة اللهّية جرت في تفويض الملئكة تدبير شؤون الخلق وأمور العالم ،وعليه فالفعل المذكور هو فعل ال
سبحانه من جانب حيث منه يصدر المر ،وهو فعل الملئكة من جانب آخر كونها تباشر ذلك العمل ،على سبيل
المثال يقال الحاكم الفلني جدد بناء المسجد الحرام في التاريخ الفلني ،يعني أّنه أصدر أوامره للمهندسين
والمقاولين والبنائين بمباشرة ذلك البناء ،هذا من جهة.
ومن جهة أخرى :لملك الموت معنى الجنس ،ونعلم أن الجنس يستعمل في مفهوم العموم ومعنى الجمع أيضًا.
ن الملكين المأمورين بكتابة أعمال النسان هما اللذان يتوليان قبض روح النسان إذا انتهى أجله،
ويعتقد البعض بأ ّ
ولعل العبارة الواردة في الية الشريفة» :وّكل بكم« أشارت إلى هذا المعنى.
ولما كان الصلحاء والتقياء يتميزون بجميع خصائصهم عن الطلحاء والمتهتكين ،فمن الممكن أن تختلف الملئكة
التي تتولى قبض أرواحهم ،ولقبض الروح الطاهرة لعظماء الناس كالنبي الكرم )صلى ال عليه وآله( ،فا ّ
ن
شخص ملك عزرائيل )عليه السلم( هو الذي يتولى هذه المهّمة).(1
—–
تبدو قضية قبض الروح مبهمة وغامضة لدينا على غرار البهام الذي يكتنف ولوج
.1وردت إشارة لهذا المعنى في رواية عن علي )عليه السلم( )بحار النوار ،6/142ح .(6
] [ 38
الروح في البدن ،وكل الذي نعرفه بهذا الخصوص هو قطع الرابطة القائمة بين الروح والجسد حين قبض الروح،
ولكن كيف يحصل ذلك وبأية صيغة؟ فهذا ما يكتنفه الغموض والبهام.
فهل ملك الموت كائن في موضع ـ كما ورد في بعض الروايات ـ والدنيا لديه كالدرهم في كف اليد يقلبه كيف
ن ملئكة الموت انتشروا في كل مكان من يشاء بحيث يتوفى كل أحد إذا ما صدر أمر وفاته ،فيقبض روحه ،أم أ ّ
العالم ويتجهون لقبض الرواح إذا حان أجلها؟
لقد ذكرت ثلثة احتمالت في الخطبة بشأن الطفال الذين تقبض أرواحهم وهم أجنة في بطون أمهاتهم:
لم منذ البداية ،ولذا عدم ترجيح المام)عليه السلم( أحد هذه الحتمالت
الثالث :كونه مع الجنين في أحشاء ا ُ
ن صعوبة إدراكنا لجزئيات هذه المور بفعل وجودنا في عالم المادة. الثلثة إشارة الى حقيقة أ ّ
وقد ركز بعض شّراح نهج البلغة على الحتمال الثاني من بين الحتمالت الثلثة المذكورة ،ولعل دليلهم في
ذلك ما روي عن المام الصادق)عليه السلم( قال» :قيل لملك الموت)عليه السلم( :كيف تقبض الرواح
وبعضها في المغرب وبعضها في المشرق في ساعة واحدة؟
ن الدنيا بين يدي كالقصعة بين يدي أحدكم يتناول منها ما شاء«)
فقال :أدعوها فتجيبني ،قال :ثم قال ملك الموت :إ ّ
.(1
—–
] [ 39
الخطبة)113 (1
تحّدث المام )عليه السلم( في هذه الخطبة عن عّدة مسائل مهّمة مرتبطة مع بعضها البعض الخر.
فقد حذر )عليه السلم( في القسم الول من الخطبة من الدنيا ،ثم ذكر عيوبها ومصائبها ،حيث شّبهها بالدار اليلة
للسقوط فل ينبغي الغترار بها ،ثم واصل في القسم الثاني كلمه بهذا الخصوص موصيًا بعدم نسيان الموت
والزهد في الدنيا من خلل عدم التعّلق بها.
ن صلح
وأخيرًا إختتم الخطبة بالشارة إلى تشتت المسلمين واختلفهم وإسناد ذلك إلى التهافت على الدنيا ،وإ ّ
المجتمع في الحذر منها.
—–
.1سند الخطبة:
ذكر البعض هذه الخطبة كل من الزمخشري في أوائل كتاب »ربيع البرار« والمدي في كتاب »غرر الحكم« باختلف طفيف يفيد أّنه
نقلها من مصدر آخر غير نهج البلغة )مصادر نهج البلغة .(2/247
] [ 40
] [ 41
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
التحذير من الدنيا
إّتجه المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة نحو ذّم الدنيا وأصحابها المتكالبين عليها ،ثم حّقرها وعّدد
ن الدنيا ل يمكنها أن تكون سبيل للنجاة وأداة للسعادة.
عيوبها بما يوقظ كل عاقل وينبهه إلى أ ّ
فقد استهل )عليه السلم( الخطبة بتحذير مخاطبيه بما فيهم الناس آنذاك واليوم وسائر الفراد في كل العصور من
جَعة«.
ت ِبَداِر ُن ْ
س ْ
ل ُقْلَعةَ .وَلْي َ
حّذُرُكُم الّدْنَيا َفِإّنَها َمْنِز ُ
لَ» :وُأ َ
الدنيا قائ ً
»القلعة« بضم القاف وسكون اللم المشتقة من مادة »قلع« الموضع غير المستوطن الذي يجب أن يرحل عنه
النسان في أي زمان.
و»النجعة« بضم النون عكس سابقتها فهى تعني الموضع الذي عثر فيه النسان على الخير
] [ 42
ن الدنيا منزل مؤقت عابر ول والبركة ،وقد عزم قطعًا على الستقرار فيه ،وعليه فمفهوم كلمه )عليه السلم( أ ّ
قيمة لها لكي يتخذها النسان موضعًا للقامة والستقرار ،ثم واصل )عليه السلم( الكلم بالشارة إلى أدّلة
حَراِمَها،لَلَها ِب َ
حَط َ
خَل َ
عَلى َرّبَهاَ ،ف َ
ت َ
ت ِبِزْيَنِتَهاَ .داٌر)َ (1هاَن ْ
غّر ْ
ت ِبُغُروِرَهاَ ،و َ المطلب السابق ليقولَ» :قْد َتَزّيَن ْ
حْلَوَها ِبُمّرَها«.
حَياَتَها ِبَمْوِتَهاَ ،و ُ
شّرَهاَ ،و َ
خْيَرَها ِب َ
َو َ
ن عليك أن تتحمل آلف المصاعب والمعاناة وأن تتجاوز الطرق إذا أردت الحصول على الرزق الحلل فا ّ
الوعرة والمطبات الشائكة ،كما عليك أن تعد بدنك لوخز الشواك كلما حاولت غرس الزهور ،وإن إبتغيت العسل
ل أن تتوقع لدغ الزنابير ،فالواقع هناك أفعى كامنة في كل كنز ومرارة في كل حلوة ،وعلى سبيل فما عليك إ ّ
المثال فمن لم يرزقه ال الولد عاش الهم والغم الذي يثقل كاهله ويكّدر روحه ،ولكن ما إن يرزق الولد حتى يواجه
سيل المشاكل التي تعقب ذلك ،وهكذا سائر النعم التي يثير فقدانها الغم ووجودها التعب والرهاق.
ثم أّكد )عليه السلم( ذلك الكلم على أّنه هو السبب الذي لم يجعل ال سبحانه يرضها ثوابًا لوليائه ولم يمنعها عن
عَداِئِه«.
عَلى َأ ْ
ن)ِ (3بَها َ
ضّ
لْوِلَياِئِهَ ،وَلْم َي ِ
ل َتَعاَلى َِ
صِفَها) (2ا ّ
أعدائهَ» :لْم ُي ْ
ص بها الحق سبحانه أولياءه وزواها عن أعدائه ،لكّنها لما كانت زهيدة ل قيمة
نعم ،لو كان متاع الدنيا ثمين لخ ّ
لها ،فهو يهبها لكل شخص.
ب«.
خَر ُ
عاِمُرَها َي ْ
بَ ،و َ
سَل ُ
جْمُعَها َيْنَفُدَ ،وُمْلُكَها ُي ْ
عِتيٌد)َ .(4و َ
شّرَها َ
خْيُرَها َزِهيٌد َو َ
ثم أضاف )عليه السلم(َ » :
والعجيب ليس هناك من تدريج في هذه التغييرات وزوال النعم وانهيار الحكومات وخراب المعمور ،بل أحياناً
يتغير كل شيء خلل ساعة ،بل في برهة من الزمان والتاريخ مليىء بمثل هذه الحوادث المرعبة والتي تنطوي
على العبر والدروس.
فكيف والحال هذه يتعلق بالدنيا عاقل؟ ويثق بنعمها؟ ويفرح باقبالها ويحزن لدبارها؟
.1وردت هذه العبارة في سائر النسخ بهذه الصيغة »دار هانت على رّبها« ،بينما يبدو أّنها وردت خطأ في نسخة صبحي الصالح
والتي أقتبست منها هذه النسخة بهذه الصيغة »دارها هانت«.
» .2لم يصفها« :من مادة »الصفاء« بمعنى الختصاص إشارة إلى تفاهة نعم الدنيا بحيث منحها ال الجميع.
» .4عتيد« :من مادة »عتاد« على وزن جواب بمعنى حاضر وتأتي بمعنى الدخار.
] [ 43
ثم واصل المام )عليه السلم( الكلم بهذا الخصوص من خلل طرحه على شكل سؤال ،لينطلق الجواب عليه من
عُمر َيْفَنى ِفيَها َفَناَء الّزاِد،
ض اْلِبَناِءَ ،و ُ
ض َنْق َ
خْيُر َدار ُتْنَق ُ
باطن قلب المخاطب فيكون له أثره البالغ والعميقَ» :فَما َ
سْيِر!«.
ع ال ّ
طا َ
طُع اْنِق َ
َوُمّدة َتْنَق ِ
لقد استعمل المام )عليه السلم( قّمة الفصاحة والبلغة في هذه التشبيهات الثلث ،فقد شّبه بادىء المر الدنيا
بدار خاوية بالية قد انفطرت جدرانها وأشرفت سقوطها على النهيار ،ثم شّبه عمر النسان بالطعمة التي توضع
على المائدة وتأخذ بالتناقص مع مرور الزمان إثر تناولها ،وأخيرًا شّبه فترة بقاء النسان في هذا العالم بالسفار
القصيرة التي ل يكاد المسافر يحث خطاه فيها حتى ينقطع أمدها.
عَلْيُكْم
ل َ
ضا ّ
جَعُلوا َما اْفَتَر َ
ثم إختتم )عليه السلم( هذا القسم من الخطبة بثلث وصايا خاطب بها الجميع فقالِ» :ا ْ
عى ِبُكْم«.ن ُيْد َ
ل َأ ْ
ت آَذاَنُكْم َقْب َ
عَوَة اْلَمْو ِ
سِمُعوا َد ْ
سَأَلُكْمَ ،وَأ ْ
حّقِه َما َ
ن َأَداِء َ
سأُلوُه ِم ْ
طَلِبُكْمَ ،وا ْ
ن َ
ِم ْ
لولى أن يهتم الناس على القل بالفرائض الشرعية بقدر طلباتهم الشخصية فيجدوا فقد أوصى الناس في العبارة ا ُ
ويجتهدوا في هذا المر ،ل أن يجعلوا الصدارة لحاجاتهم الدنيوية ويهّمشوا الفرائض اللهّية والواجبات الشرعية.
كما يحتمل أن يكون المراد اجعلوا التوفيق للتيان بالفرائض والواجبات الشرعية من حاجاتكم وطلباتكم بين يدي
ن المعنى الول يبدو هو النسب وذلك للشارة إلى هذا المعنى والتي وردت في العبارة ال تبارك وتعالى ،غير أ ّ
حّقِه« ،وعليه سيكون تفسير الجملتين تكرار لمفهوم واحد.
ن َأَداِء َ
سأُلوُه ِم ْ
الثانية إذ قالَ» :وا ْ
وأخيرًا أشارت العبارة الثالثة إلى التأهب والستعداد لمواجهة الموت من خلل أداء حقوق الناس والتوبة من
ن الموت سيباغت النسان ويقذف به في عالم لم يعد العّدة لدخوله.
الذنوب وتدارك ما فرط ،وبخلفه فا ّ
—–
] [ 44
] [ 45
القسم الثاني
طواغُتِب ُ
نا ْ
سُهْم َوِإ ِحواَ ،وَيْكُثُر َمْقُتُهْم َأْنُف َ ن َفِر ُ حْزُنُهْم َوِإ ْ
شَتّد ُ
حُكواَ ،وَي ْ ضِ
ن َ ن ِفي الّدْنَيا َتْبِكي ُقُلوُبُهْم َوِإ ْن الّزاِهِدي َ »ِإ ّ
خَرِة،ن ال ِ ك ِبُكْم ِم َ ت الّدْنَيا َأْمَل َ
صاَر ِ لَ ،ف َ ب الَما ِ ضَرْتُكْم َكَواِذ ُح َلَ ،و َ جا ِ
لَ ن ُقُلوِبُكْم ِذْكُر ا ْ
عْ ب َ غا َ ِبَما ُرِزُقواَ .قْد َ
سوُء الضَّماِئِر. سَراِئِرَ ،و ُ ث ال ّ خْب ُل ُ ل َما َفّرقَ َبْيَنُكْم ِإ ّ نا ّعَلى ِدي ِ ن َخَوا ٌ
جَلِةَ ،وِإّنَما َأْنُتْم ِإ ْ
ن ال ِ
ب ِبُكْم ِم َ
جَلُة َأْذَه َ
َوالَعا ِ
ن«. ل َتَواّدو َ
ن َو َل َتَباَذُلو َ نَ ،و َحو َ
صُل َتَنا َن َو َل َتَواَزُرو َ َف َ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى ثلث نقاط تكمل المقطع المذكور من الخطبة وتؤّكده،
وهى مقدمة للقسم القادم من الخطبة.
ل إلى وصف الزّهاد في الدنيا ليتضح وضع كل فرد من خلل مقارنة أحوال المخاطبين مع أحوال فقد إّتجه أو ً
حُكوا«.
ضِن َ
ن ِفي الّدْنَيا َتْبِكي ُقُلوُبُهْم َوِإ ْ
ن الّزاِهِدي َ
لِ» :إ ّ
ُاولئك ،فذكر ثلث خصائص يتحلى بها الزّهاد قائ ً
حوا«.
ن َفِر ُ
حْزُنُهْم َوِإ ْ
شَتّد ُ
صفتهم الثانية تكمن في شّدة حزنهم رغم فرحهم وسرورهمَ» :وَي ْ
وأّما صفتهم الثالثة فهم ناقمون على أنفسهم ساخطون عليها )وهم ليسوا راضين عن أعمالهم وطاعاتهم( رغم
طوا)ِ (1بَما ُرِزُقوا«.
غُتِب ُ
نا ْ
سُهْم َوِإ ِ
شكرهم ال سبحانه وتعالى على موفور الرزق والنعمةَ» :وَيْكُثُر َمْقُتهُْم َأْنُف َ
.1قرأها أغلب شّراح نهج البلغة مبنية للمجهول بينما قرأها البعض الخر مبنّية للمعلوم ففهموا من العبارة شبيه ما ذكر ،والحال
يتبّين من الرجوع إلى المتون اللغوية أن للغتباط معنى آخر هو السرور وحمد ال وشكره على نعمة )انظر لسان العرب والقاموس
وسائر المصادر اللغوية(.
] [ 46
وخاصة القول فهم في مقام النقد لنفسهم وإصلح نقائصهم ومعايبهم المعنوية وهذا هوالسبب في حركتهم
التكاملية نحو ال سبحانه ،فهم ل يقنعون بوضعهم السائد قط ليكون ذلك مدعاة لتخلفهم وإنحطاطهم.
ثم شرح في النقطة الثانية وضع مخاطبيه ليقارنوا أنفسهم بالزّهاد فيقفوا على عيوبهم ،وقد بّين لهم ثلث صفات:
جَلُة َأْذَه َ
ب خَرِةَ ،والَعا ِ
ن ال ِ
ك ِبُكْم ِم َ
ت الّدْنَيا َأْمَل َ
صاَر ِ
لَ ،ف َ
ب الَما ِ
ضَرْتُكْم َكَواِذ ُ
ح َ
لَ ،و َ
جا ِ
لَ
ن ُقُلوِبُكْم ِذْكُر ا ْ
عْب َ
غا َ
»َقْد َ
جَلِة«.
ن ال ِ
ِبُكْم ِم َ
نعم ،فالدنيا تستولي على عقل النسان وفكره وينسى الخرة إذا ما غاب عن قلبه ذكر الموت وإنهمك في هذه
الدنيا العابرة واحاطة القلب بالماني الخيالية الكاذبة.
ق َبْيَنُكْم ِإ ّ
ل ل َما َفّر َ
نا ّ
عَلى ِدي ِ
ن َ خَوا ٌثم إختتم )عليه السلم( هذا المقطع من الخطبة ببيان هذه النتيجةَ» :وِإّنَما َأْنُتْم ِإ ْ
ن«. ل َتَواّدو َ
ن َو َل َتَباَذُلو َ نَ ،و َ
حو َ
صُل َتَنا َ
ن)َ (1و َ
ل َتَواَزُرو َ
ضَماِئِرَ .ف َ
سوُء ال ّ
سَراِئِرَ ،و ُ
ث ال ّ
خْب ُ
ُ
فالعبارة تشير إلى توفر سبل الوحدة بينكم من خلل الخاء السلمي وقد تصدعت هذه السبل بفعل الختلفات
لفق ،فأّدى ذلك بالتبع إلى ضعف المن الداخلي
ب الدنيا وضيق ا ُ
التي تستند إلى التعصب والحقد والحسد وح ّ
والعجز أمام العدو الخارجي وبالنتيجة قطعت عنكم البركات الجتماعية كالتعاون والموازرة وإسداء الخدمات
المتبادلة أواصر المحّبة والصداقة.
] [ 47
—–
] [ 48
] [ 49
القسم الثالث
ن الّدْنَيا
سيُر ِم َحَرُموَنُه! َوُيْقِلُقُكُم اْلَي ِ خَرةِ ُت ْن ال ِ حُزُنُكُم اْلَكِثيُر ِم َ
ل َي ْن الّدْنَيا ُتْدِرُكوَنُهَ ،و َ سيِر ِم َ ن ِباْلَي ِ
حو َ »َما َباُلُكْم َتْفَر ُ
عَها َباق ن َمَتا َ
عْنُكْم! َكَأّنَها َداُر ُمَقاِمُكْمَ .وَكَأ ّ ي ِمْنَها َ عّما ُزِو َ صْبِرُكْم َ
جوِهُكْمَ،وِقّلِة َ ك ِفي ُو ُ ن ذِل َ حّتى َيَتَبّي ََيُفوُتُكْمَ ،
عَلى َرْف ِ
ض صاَفْيُتْم َسَتْقِبَلُه ِبِمْثِلِهَ .قْد َت َ
ن َي ْ
خاَفةُ َأ ْ
ل َم َعْيِبِهِ ،إ ّ
ن َف ِم ْخا ُخاُه ِبَما َي َل َأ َ
سَتْقِب َ
ن َي ْ
حَدُكْم َأ ْ عَلْيُكْمَ .وَما َيْمَنُع َأ ََ
سّيِدِه«.
ضا َ حَرَز ِر َ عَمِلِه َوَأ ْ
ن َغ ِم ْ ن َقْد َفَر َصِنيَع َم ْساِنِهَ . عَلى ِل َحِدُكْم ُلْعَقًة َ
ن َأ َصاَر ِدي ُ لَ ،و َ جِ ب اْلَعا ِ ح ّ ل َو ُ جِ ال ِ
—–
الشرح والتفسير
خاطب المام )عليه السلم( ـ في القسم من الخطبة والذي يمثل آخرها ـ أصحاب الدنيا وهو يسعى ليقاظهم من
ن الّدْنَيا
سيِر ِم َ
ن ِباْلَي ِ
حو َ سباتهم وغفلتهم من خلل الذم واللوم القائم على أساس الدليل والبرهان فقالَ» :ما َباُلُكْم َتْفَر ُ
ك ِفين ذِل َ حّتى َيَتَبّي َ
ن الّدْنَيا َيُفوُتُكْمَ ، سيُر ِم َحَرُموَنُه! َوُيْقِلُقُكُم اْلَي ِ
خَرِة ُت ْ
ن ال ِ
حُزُنُكُم اْلَكِثيُر ِم َل َي ْ
ُتْدِرُكوَنُهَ ،و َ
عَلْيُكْم«.عَها َباق َ ن َمَتا َعْنُكْم! َكَأّنَها َداُر ُمَقاِمُكْمَ .وَكَأ ّ ي)ِ (1مْنَها َعّما ُزِو َ صْبِرُكْم َ جوِهُكْمَ،وِقّلِة َ ُو ُ
نعم ،هذا حال أغلب أهل الدنيا الذين ل يحزنهم فوات المور المعنوية بينما تنقلب أحوالهم لدنى ضرر مادي
يحيق بهم ،على سبيل المثال ليس هناك ما يقلقهم إذا فاتتهم صلة الفجر
ي بمعنى الجمع والخذ والبعاد والمراد بها في العبارة الفقدان والبعاد حيث وردت بصيغة
ي« على وزن ح ّ
» .1زوي« :من مادة »ز ّ
الفعل المجهول مقرونة بالفعل عن.
] [ 50
لعّدة أّيام متتاليات ،أو ل يغتمون إن حرموا لسنوات من فيوضات التهجد وقيام الليل ،بينما يضجرهم خسران
بضعة دارهم ،فل يتمالكون أنفسهم عن الزعيق بمن حولهم ،ولعل هذا التفاوت الواضح والمخجل يستند إلى أحد
أمرين :إّما ضعف إيمانهم بالخرة والوعد والوعيد اللهي ،أو أّنهم مؤمنون بالخرة والوعد والوعيد غير أ ّ
ن
الهوى قد أحاط بقلوبهم واستولى على أنفسهم وسيطرت عليهم الغفلة بحيث لم يعودوا يروا سوى الدنيا وحطامها
ومتاعها الزائل.
لب الدنيا والتي تتمثل بعدم قدرة أي ثم واصل )عليه السلم( كلمه بالحديث عن نقطة ضعف أخرى يمتاز بها ط ّ
ن يجابهه بنفس ذلكل خشية أ ّ أحد منهم على التعرض لعيوب أخيه )بهدف الصلح والنهي عن المنكر( ما ذلك إ ّ
سَتْقِبَلُه ِبِمْثِلِه«.
ن َي ْ
خاَفُة َأ ْ
ل َم َ
عْيِبِهِ ،إ ّ
ن َ
ف ِم ْ
خا ُ
خاُه ِبَما َي َ
ل َأ َ
سَتْقِب َ
ن َي ْ
حَدُكْم َأ ْ
العيبَ» :وَما َيْمَنُع َأ َ
فالعبارة تشير إلى حرمانهم من إصلح بعضهم البعض الخر رغم إتصافهم بكل تلك العيوب الناشئة من حبّ
الدنيا ،وذلك لّنه ل يجرأ أحد منهم أن يتصدى للصلح فهو يخشى الرّد من الخرين الذين ينبرون له ويقولون:
ل عالجت نفسك قبل أن تهم بعلج الخرين )طبيب يداوي ن هذا العمل أو ذاك شيئًا فلم نفعله؟ وإن كنت طبيبًا فه ّ
إّ
الناس وهو عليل(؟ وهل يصح اطلق الحجر ممن كان بيته من الزجاج؟!
ثم إختتم المام )عليه السلم( خطبته بالقول كأّنكم قد اتفقتم على نبذ الخرة والذوبان في الدنيا وقد أصبح الدين
ب
ح ّل َو ُ
جِض ال ِ عَلى َرْف ِ
صاَفْيُتْم َ
لقلقة لسان ،وأّنكم لشبه بمن قام بعمله وأحرز رضى سيده ومولهَ» :قْد َت َ
سّيِدِه«.
ضا َ
حَرَز ِر َ
عَمِلِه َوَأ ْ
ن َ غ ِم ْ
ن َقْد َفَر َ
صِنيَع َم ْ
ساِنِهَ .
عَلى ِل َ
حِدُكْم ُلْعَقًة)َ (1
ن َأ َ
صاَر ِدي ُ
لَ ،و َ
جِاْلَعا ِ
» .1لعقة« :من مادة »لعق« على وزن فرق بمعنى لحس الشيء وتطلق اللعقة على القليل من الطعام الذي يجعله النسان بأصبعه أو
ملعقة صغيرة على لسانه ويبتلعه بسرعة ،وهى كناية عن الشيء المختصر.
] [ 51
وأحد مصاديقها الواضحة يتمثل بعدم المبالة بالقضايا المرتبطة بالخرة والخلود إلى الدنيا المادية.
لب للدنيا من المتدينيين ظاهريًا ،غير أن تدينهم ل يتجاوز سلسلة من يمكن أن يكون مثل هؤلء الفراد الط ّ
الشعارات والمزاعم واللفاظ وأحيانًا القليل من العبادات ،والمفردة »لعقة« تشير إلى هذا المعنى ،وقد يعيشون
أحيانًا حالة من الرضى عن أنفسهم وكأّنهم عملوا بكل تكاليفهم الشرعية ووظائفهم النسانية وقد فازوا بمقام
القرب اللهي وبلوغ رضاه ،والواقع هذا انحراف خطير أشار المام )عليه السلم( إليه في آخر هذه الخطبة.
—–
] [ 52
] [ 53
الخطبة)114 (1
مزج المام )عليه السلم( القسم الول من هذه الخطبة حمد ال والثناء عليه بعبارات تكشف معالم طريق معرفة
ال تعالى وتعّلم النسان اسلوب الشهادة بالخلص ،كما تبّين أهمّية الشهادة بالوحدانية والنبوة وذلك بعبارات
عميقة المعنى ،وفي القسم الثاني من الخطبة دعى الجميع إلى التحلي بالورع والتقوى وتطرق إلى آثارها
وبركاتها التي تنعكس على حياة النسان.
أّما القسم الثالث فقد جرى فيه الحديث عن تقلب أحوال الدنيا وسرعة زوال النعم وعدم بلوغ الماني وقصر الحياة
الدنيا ،وأخيرًا القسم الرابع الذي تضمن مختلف النصائح والمواعظ البالغة حيث دعى الجميع إلى طاعة ال
سبحانه وحّذرهم من نسيان الخرة والنغماس في مخالب الغفلة والغرور بالحياة الدنيا ،ول يخفى على أحد
الترابط الوثيق بين القسام الربعة
.1سند الخطبة:
ورد قسم مهم من هذه الخطبة في كتاب »تحف العقول« الذي يحتمل تأليفه قبل نهج البلغة ،وقد نقل الزمخشري مقطعها الول في
أوائل كتابه »ربيع البرار« والقسم الخر في أوائل المجلد الثاني من ذلك الكتاب ،ويتضح من الفرق بين نقله ونقل السيد
الرضي)قدس سره( أّنه إقتبسها من مصدر آخر غير نهج البلغة ،كما نقلها مع اختلف طفيف القاضي القضاعي )وهو من علماء
القرن الخامس ومن مقربي أحد خلفاء الدولة الفاطمية في مصر( في كتابه »دستور معالم الحكم« والمرحوم الشيخ الطوسي في
المالي )مصادر نهج البلغة .(2/252
] [ 54
—–
] [ 55
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
الثقة القّيمة
أشار المام )عليه السلم( في القسم الول من هذه الخطبة إلى مسائل مهّمة في جانب حمد ال والثناء عليه
حْمَد ِبالّنَعِم
ل اْل َ
صِ
ل الَوا ِ
حْمُد ِّ
والستعانة بذاته المقّدسة والستغفار من الذنوب والمعاصي ،فقال بادىء ذي بدءَ» :اْل َ
شْكِر«.
َوالّنَعَم ِبال ّ
ن حمد ال تعالى بنعمه وشكره يجعل النسان جديرًا بالنعم ،فهذا الحمد يجعل العباد قرن الحمد بالنعمة يستند إلى أ ّ
ن العباد مكّلفون ن النعمة سبب الشكر ،وذلك ل ّ يتمتعون بنعمه وأفضاله ،كما تعود علقة النعمة بالشكر إلى أ ّ
ن الحمد يشكل السبب التكويني للنعم والنعم السبب بشكر كل نعمة ،فالشكر واجب على كل نعمة )الواقع هو أ ّ
حْمَد ِمْفَتاحًا ِلِذْكِرِه،
ل اْل َ
جَع َ
ل اّلِذي َ
حْمُد ِّ
التشريعي للشكر( ،والشاهد على ذلك ما ورد في الخطبة 157إذ قال» :اْل َ
ضِلِه«.
ن َف ْ
سَببًا ِلْلَمِزيِد ِم ْ
َو َ
] [ 56
ن ما
طبعًا يمكن أن تكون هناك عّدة تفاسير أخرى للعبارتين المذكورتين من حيث تفاوت العّلة والمعلول ،غير أ ّ
ورد هو أنسبها جميعًا.
ن البلء
عَلى َبلِئِه« .في إشارة إلى أ ّ
حَمدُُه َ
لِئِهَ ،كَما َن ْ
عَلى آ َ
حَمُدُه َ
ثم قال )عليه السلم( في المسألة الثانيةَ» :ن ْ
اللهي هو في الواقع نوع من النعم ،كما بّينا ذلك في بحثنا لفلسفة الفات والبلء ضمن مباحث التوحيد والعدل،
فقد يكون البلء سببًا لليقظة والعودة إلى ال تعالى وترك المعاصي أحيانًا ،وقد يكون أحيانًا أخرى بلءًا ظاهرًا،
لكّنه نعمة باطنيًا ،غير أننا ل نميز ذلك ،فرّبما يكون البلء كّفارة للذنوب كما قد يكون وسيلة لمعرفة قدر النعم
ل فالحكيم تبارك وتعالى ل ل أن يفقدها ويتعرض إلى بعض الشدائد ،وإ ّ ن النسان قد ل يعرف قيمة النعم إ ّ وذلك ل ّ
يعّرض شخصًا للبلء عبثًا ،وعليه فبلؤه رحمة وداؤه دواء.
عْنُه«.
ت َ
ع ِإَلى َما ُنِهَي ْ
سَرا ِ
ت ِبِه ،ال ّ
عّما ُأِمَر ْ
طاِء)َ (1
س اْلِب َ
عَلى هِذِه الّنفو ِ
سَتِعيُنُه َ
ثم قال في المسألة الثالثةَ» :وَن ْ
إشارة إلى النفوس البشرية ما لم تبلغ المرحلة المتكاملة للنفس المطمئنة فهى ضعيفة في التيان بالوظائف
الشرعية وإمتثال الوامر اللهّية ومسارعة في مقارفة الذنوب التي تنسجم والغرائز الحيوانية ،ويتعذر تجاوز
مرحلة النفس المارة وبلوغ مرحلة النفس اللوامة والوصول إلى النفس المطمئنة ما لم تكن هناك نصرة ال
ومدده.
غْيُر ُمَغاِدر«.
ب َ
صرَ ،وِكَتا ٌ
غْيُر َقا ِ
عْلٌم َ
صاُه ِكَتاُبُهِ :
ح َ
عْلُمُهَ ،وَأ ْ
ط ِبِه ِ
حا َ
سَتْغِفُرُه ِمّما َأ َ
ثم قال )عليه السلم(َ» :وَن ْ
فالعبارة تشير إلى أننا إن لم نستغفر من الذنوب ولم نجل صدأ القلوب فسوف لن يسعنا التخلص من وساوس
النفس والفوز بمقام القرب وبلوغ تلك المرحلة من اليمان التي سيأتي الحديث عنها لحقًا ،والواقع هو أ ّ
ن
الستغفار تكميل للبحث السابق ومقدمة للبحث القادم.
عَلى
ف َ
ب َوَوَق َ
ن اْلُغُيو َ
عاَي َ
ن َ
ن َم ْ
ن ِبِه ِإيما َ
أّما القضية الخيرة فقد تناولت النتائج النهائية لهذا البحث فقالَ» :وُنْؤِم ُ
ك«. شّكَ ،وَيِقيُنُه ال ّ
شْر َ
صُه ال ّ
خل ُ
عوِدِ ،إيَمانًا َنَفى ِإ ْ
اْلَمْو ُ
] [ 57
إشارة إلى خلص النسان من وساوس النفس إذا ما مزج حمد ال تعالى والثناء عليه بشكر النعم ،وخرج سالماً
معافى من ميدان المتحان وتغّلب على هواه ونزع عن ذنوبه وتاب من معاصيه آنذاك له أن يبلغ كمال اليمان،
اليمان الذي يبلغ به درجة الشهود ،وكأّنه يرى ال ببصيرته ويشاهد بُام عينيه الجّنه والنار وثواب المحسنين
وعقاب المسيئين ،اليمان المنّزه عن كافة أشكال الشرك واليقين الذي ل يتطرق إليه الشك.
لولى وهى مرحلة التي يّتجه إليها النسان بواسطة البرهان والستدلل والتي نعم ،فاليقين على مراتب :المرتبة ا ُ
يصطلح عليها باسم »علم اليقين« ،والمرتبة الثانية وهى المرحلة التي يصلها النسان عن طريق الشهود وكأّنه
يرى من بعيد النوار اللهّية وعرصة الحشر يوم الحساب ،وهى المرحلة المسّماة »عين اليقين« يلمس جميع
الشياء ،فالنوار اللهّية تحيطه من كل جانب ونسيم الجّنة المنعش يداعب ظلل روحه ويتكدر لنيران جهّنم
المحرقة ،وهى المرحلة التي تدعى »حق اليقين« ،وعلى هذا فالمراد بالعبارة عاين ووقف هو تلك المرحلة
النهائية لليمان واليقين والتي تبلغ فيها النسان مقام الشهود عن قرب وبالمعاينة.
وأخيرًا يّتجه المام )عليه السلم( صوب الشهادة بالتوحيد والنبوة ليختتم به هذا المقطع من الخطبة ،فقال:
ل.
ن اْلَعَم َ
ل َوَتْرَفَعا ِ
ن اْلَقْو َ
صِعَدا ِ
ن ُت ْ
شَهاَدَتْي ِ
سوُلُهَ ،
عْبُدُه َوَر ُ
حّمدًا َ
ن ُم َ ك َلُهَ ،وَأ ّشِري َ ل َ حَدُه َ
ل َو ْ
لا ّ ل ِإلَه ِإ ّ
ن َ شَهُد َأ ْ
»َوَن ْ
عْنُه«.
ن َ ن ُتْرَفَعا ِ ل ِميَزا ٌل َيْثُق ُ
ن ِفيِهَ ،و َ
ضَعا ِ
ن ُتو َ ف ِميَزا ٌ خ ّ ل َي ِ
َ
ن الشهادة بالوحدانية والنبوة إن انطلقت من أعماق النفس البشرية وظهرت أثارها على القول
في إشارة إلى أ ّ
والعمل ،فاّنها على درجة من الطهر الخلص بحيث تشكل أثقل الوزان في ميزان العمال يوم القيامة حتى ل
يخف ذلك الميزان بوجودها ،والعكس صحيح ل ثقل لذلك الميزان مهما وضع فيه دونها.
عمرا َ
ن ن ِ ك َوَتعالى ِإلى ُموسى ب ِ ل َتباَر َ
ورد في الحديث عن النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :أوحى ا ُ
ل ُفي َكّفة،
لا ُ
سبَع ِفي َكّفِة َول ِإَلـَه إ ّ ن ال ّ
ضي َ
لر ِ
عنِدي ،وا َ
ن ِ
عاِمريِه ّ
ت َو َ
سـموا ِ
ن ال ّ
)عليه السلم( :يـا موسى َلو أ ّ
ل«).(1 لا ُ
ن ل ِإَلـَه إ ّ
ت ِبِه ّ
مـاَل ْ
لمة الخوئي (8/57وهذا هو الحديث الول الذي ورد في كتاب ثواب العمال.
.1ثواب العمال) ،حيث نقل شرح نهج البلغة ،للع ّ
] [ 58
وبالطبع ليس المراد بالزنة هنا الوزان وما يرتبط بها عن ميزان ،بل المراد زنة القيم على ضوء المعايير العقلية
والمعنوية.
—–
تأّمل
بّين المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة والذي يشكل في الواقع مقدمة للقسم الثاني الذي يتحدث عن
أهمّية التقوى وآثارها ،حقيقة جذور الورع والتقوى والتي يكمن أهّمها في اليمان واليقين والمعرفة ،واليمان
القوي والراسخ الذي يبلغ بصاحبه درجة تجعله كأّنه يرى ال ويشاهد نعم الجّنة ونيران جهّنم ،ومّما ل شك أ ّ
ن
مثل هذا اليمان هو مادة التقوى.
ن الستعانة باللطف أضف إلى ذلك فقد أشار إلى الموانع الصلية لهذا المر والتي تتمثل بالنفس الطائشة على أ ّ
سوِء
لّماَرٌة ِبال ّ
س َ
ن الّنْف َ
اللهي ،هو سبيل النجاة منها وقد تطرق إلى ما ورد في سورة يوسف وشأنه مع زليخاِ) :إ ّ
حيٌم().(1
غُفوٌر َر ِ
ن َرّبي َ
حَم َرّبي ِإ ّ
ل َما َر ِ
ِإ ّ
—–
] [ 59
القسم الثاني
عاَها
سَمُع َداعَ ،وَو َ
عا ِإَلْيَها َأ ْ
حَ .د َ
جٌ
ي الّزاُد َوِبَها اْلَمَعاُذَ :زاٌد ُمْبِلٌغَ ،وَمَعاٌذ ُمْن ِ
ل اّلتي ِه َل ِبَتْقَوى ا ّعَباَد ا ّ
صيُكْم ِ
»ُأو ِ
عيَها.
عيَها َوَفاَز َوا ِ
سَمَع َدا ِ
خْيُر َواعَ .فَأ ْ
َ
ظَمَأ ْ
ت ت َلَياِلَيُهْمَ ،وَأ ْ
سَهَر ْحّتى َأ ْخافََتُهَ ،
ت ُقُلوَبُهْم َم َ
حاِرَمُهَ .وَأْلَزَم ْ
ل َم َ
ت َأْوِلَياَء ا ّ
حَم ْ
ل َ ن َتْقَوى ا ّلِ ،إ ّ عَباَد ا ِّ
ظوا
حُل َفل َلَم َلَ ،وَكّذُبوا ا َْ ل َفَباَدُروا اْلَعَم َ
جَ
لَ سَتْقَرُبوا ا َْ
ظَمِإَ .وا ْ
ي ِبال ّ
بَ ،والّر ّص ِ حَة ِبالّن َخُذوا الّرا َ
جَرُهْمَ .فَأ ََهَوا ِ
ل«.جَ لَ ا َْ
—–
الشرح والتفسير
أعظم الفضائل
بعد أن فرغ المام )عليه السلم( عن تلك المقدمة الرصينة والوثيقة في المقطع الول من هذه الخطبة ،إتجه إلى
لخروية ،فقال:أهّم فضيلة من الفضائل التي يكتسبها النسان وهى التقوى ،فقد أشار في البداية إلى آثارها ا ُ
ح«.جٌي الّزاُد َوِبَها اْلَمَعاُذَ :زاٌد ُمْبِلٌغَ ،وَمَعاٌذ ُمْن ِ
ل اّلتي ِه َ
ل ِبَتْقَوى ا ّ
عَباَد ا ّ
صيُكْم ِ
»ُأو ِ
ن يحتاج النسان في أسفاره الطويلة المليئة بالخطار والمخاوف إلى شيئين :الزاد والمتاع اللزم من البديهي أ ّ
خْيَر الّزاِد
ن َ
والمنازل والماكن التي تحفظه من المخاطر ،وهو ما صّرح به القرآن الكريم بقولهَ) :وَتَزّوُدوا َفِإ ّ
الّتْقَوى.(1)(...
] [ 60
وما اقتصه من خبر يوسف )عليه السلم( حين لذ بالتقوى كسبيل للنجاة حين وقف على حافة خطر هاوية الذنب:
ل.(1)(...
ل َمَعاَذ ا ِ
)َقا َ
ن التقوى كهف حصين وأمين وراسخ إزاء السيول الجارفة لهواء النفس ووساوس الشيطان وحصن حقًا إ ّ
حصين للنجاة من نار جهّنم يوم القيامة وأفضل زاد ومتاع في هذا السفر المليء بالخوف والخطر.
ن من دعا إليها أسمع داع نافذ الكلمة )إشارة ال ثم واصل )عليه السلم( كلمه بالحديث عن أهمّية التقوى في أ ّ
تبارك وتعالى ،أو النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( ،أو جميع النبياء والولياء( وقد وعى تلك الدعوة خير واع
عيَها َوَفاَز
سَمَع َدا ِ
خْيُر َواعَ .فَأ ْ
عاَها َ
سَمُع َداعَ ،وَو َ
عا ِإَلْيَها َأ ْ
)إشارة إلى كافة التقاة وأتباع مدارس النبياء(َ» :د َ
عيَها«.
َوا ِ
ن المراد بالداع إلى التقوى قد يكون ال سبحانه وتعالى أو شخص النبي)صلى ال عليه وآله(
ذهب البعض إلى أ ّ
الذي ينطق عن ال تعالى ،والمقصود بواع التقوى هو علي )عليه السلم( ،ول يبعد أن يكون لهما مفهوم عام
ن المنبع الصلي هو الحق تبارك وتعالى والنبي)صلى ال عليه وآله(
يشمل جميع دعاة الحق ووعاته ،على أ ّ
وإمام المتقين علي بن أبي طالب)عليه السلم(.
ت)َ (2أْوِلَياَء
حَم ْ
ل َ
ن َتْقَوى ا ّ
لِ ،إ ّ
عَباَد ا ّ
ثم خاض )عليه السلم( في الثار القّيمة للتقوى في خاصة عباد ال فقالِ » :
جَرُهْم).«(3 ت َهَوا ِ
ظَمَأ ْ
ت َلَياِلَيُهْمَ ،وَأ ْ
سَهَر ْ
حّتى َأ ْ
خاَفَتُهَ ،
ت ُقُلوَبُهْم َم َ
حاِرَمُهَ .وَأْلَزَم ْ
ل َم َ
ا ّ
طبعًا العبارتان المذكورتان بشأن الليل والنهار هما تعبيران كنائيان لطيفان ،حيث المراد أصحاب الليل الذين
يفيقون في جوف الليل ،فيقومون للعبادة والتهجد وقد أحجموا عن النوم وانهمكوا بالدعاء والمناجاة ،إلى جانب
ن تقوى ال هى مادة الحركة نحو جميع الفضائل صومهم نهارهم وذكرهم ال على كل حال ،فالعبارة تشير إلى أ ّ
ن النسان حين يشعر بالمسؤولية ينطلق في الحركة نحو إمتثال الطاعات واجتناب المعاصي والخيرات ،وذلك ل ّ
» .2حمت« :من مادة »حماية« بمعنى المنع ،ولذلك يقال الحامي للذي يمنع عن الخرين الخصوم والعداء.
ثم إختتم هذا المقطع من الخطبة بوصف طريقة عبوديتهم لرّبهم بأّنهم آثروا المشقة والتعب على الراحة والكسل
ي ،وقد شعروا بقصر الدنيا ودنو الجل وهذا ما دعاهم إلى المسارعة في الخيرات ومبادرة والعطش على الر ّ
ب)،(1
ص ِ
حَة ِبالّن َ
خُذوا الّرا َ
العمال الصالحة ،وعدم الخلود إلى المل بعد أن جعلوا الموت نصب أعينهمَ» :فَأ َ
ل«. جَلَ
ظوا ا َْ
حُل َفل َ
لَم َ
لَ ،وَكّذُبوا ا َْ
ل َفَباَدُروا اْلَعَم َ
جَلَ
سَتْقَرُبوا ا َْ
ظَمِإَ .وا ْ
ي)ِ (2بال ّ
َوالّر ّ
نعم ،ففي الوقت الذي ينغمس فيه أهل الدعة والراحة في مختلف الذنوب والرجاس ترى هؤلء يغضون الطرف
عن الراحة بهدف مجانبة الذنوب والتيان بالصالحات ،وهم ليسوا كأهل الدنيا الذين خدعوا بها فوقعوا في حبائلها
وآمالها الكاذبة.
ن العبارة »فبادروا« و»فلحظوا« هى نتيجة ومعلول للعبارة »واستقربوا« و»كذبوا« يعني من يرى والواقع هو أ ّ
ن تحمل
قرب الجل وسرعة العمر يبادر بالعمل ،ومن يكذب المال يفكر بالموت ويراه أمام عينيه ،والطبع فا ّ
مصاعب وشدائد هذا العالم يؤّدي إلى سكينتهم الخالدة واستقرارهم التام ،وهو ما عّبر عنه المام )عليه السلم(
طِويَلًة«).(3
حًة َ
عَقَبْتُهْم َرا َ
صيَرًة َأ ْ
صَبُروا َأّيامًا َق ِ
في موضع آخر بقولهَ » :
—–
] [ 62
] [ 63
القسم الثالث
—–
الشرح والتفسير
العبر والعتبار
لما كان النغماس في الدنيا والتكالب عليها وفقدان النفس لتوازنها إزاء زخارف عالم المادة من أهم العوامل لعدم
التقوى ،فقد ورد الحديث هنا عن تفاهة الدنيا وتقلب أحوالها وما تنطوي عليه من شدائد ونوازل بهدف اجتثاث
عَبر«.
غَير َو ِ
عَناءَ ،و ِ
ن الّدْنَيا َداُر َفَناء َو َ
جذور التحلل وعدم استشعار الورع والتقوى فقال )عليه السلم(ُ» :ثمّ ِإ ّ
حيث تشير العبارة إلى أربع خصائص تمتاز بها الدنيا والتي يقود التفكير بها النسان إلى التعرف على الصورة
الحقيقية للدنيا ،ثم خاضت العبارات التالية في شرحها الواحدة بعد
] [ 64
لخرى مع التطرق إلى بعض التفاصيل الدقيقة لكل واحدة منها ،فأشارت في البداية إلى خاصية فناء الدنيا ،حيث اُ
ن الدهر يشبه الرامي الماهر الذي يطلق سهامه دون أن تطيش وتخطىء صورت بعض علمات هذا الفناء في أ ّ
سَهاُمُه،
طيُء ِ
خِل ُت ْ
سُهَ ،
ن الّدْهَر ُموِتٌر َقْو َ
ن اْلَفَناِء َأ ّ
الهدف ،كما يتعذر علج جروح من أصابته تلك السهامَ» :فِم َ
حُه«.
جَرا ُ
سى)ِ (1
ل ُتْؤ َ
َو َ
فل خلص لحد من الموت والعجز والمشيب والمرض واللم والعناء ،ولذلك قال المام)عليه السلم(في شرحه
ب« .فأقوى أفراد البشر يستسلم يومًا للموت،
ط ِ
ي ِباْلَع َ
جَسْقِمَ ،والّنا ِ
ح ِبال ّ
حي َ
صِت َوال ّ
ي ِباْلَمْو ِ
حّلهذه العبارةَ» :يْرِمي اْل َ
كما يمرض أصح الصحاء ويهزم حتى البطال.
ل َيْنَقُع).«(2
ب َ
شاِر ٌ
شَبُعَ ،و َ
ل َي ْ
ل َ
ل» :آِك ٌ
ثم يختتم )عليه السلم( كلمه بشأن توضيح فناء الدنيا قائ ً
فقد كشف المام )عليه السلم( حقيقة فناء الدنيا من خلل العبارات الثمان التي أوردها في وصف الدنيا ،بحيث ل
يشك من كان له أدنى عقل بفناء الدنيا وعدم دوامها.
ثم خاض )عليه السلم( في شرح وتفسير عناء الدنيا ومن ذلك جمعه الموال التي ل يستفيدها جميعًا والمباني
التي يشّيدها دون أن يسكنها وأخيرًا يودع كل ذلك وينتقل إلى عالم آخر دون أن يحمل معه شيئًا من الموال أو
ل ِبَناًء
لَ ،و َ
حَم َ
ل َ
ل َما ً
ل َتَعاَلى َ
ج ِإَلى ا ّ
خُر ُ
نُ .ثّم َي ْ
سُك ُ
ل َوَيْبِني َمال َي ْ
ل َيْأُك ُ
جَمُع َما َ
ن اْلَمْرَء َي ْ
ن اْلَعَناِء َأ ّ
الدورَ» :وِم َ
ل«.
َنَق َ
» .2ينقع« :من مادة »نقع« على وزن نفع بمعنى إرواء وارتواء.
] [ 65
سوى الكفن ،بل رّبما لم يحملوا حتى ذلك الكفن ،فتكون ثيابهم أكفانهم وبيوتهم قبورهم.
سُه َوِإّنما ُهَو َكَفُنُه
ج َثوبًا ِلَيْلَب َ
سُن غـاِفل َيْن َ
ن علي )عليه السلم( قالَ» :كْم ِم ْ
لمة المجلسي أ ّ ورد في البحار عن الع ّ
ضُع َقبِرِة«).(1
َوَيْبِني َبيَتًا لَيسُكَنُه َوإّنما ُهَو َمو ِ
حوَم َمْغُبوطًا،
ك َتَرى اْلَمْر ُ
غَيِرَها َأّن َ
ن ِ
ثم خاض المام )عليه السلم( في شرح الصفة الثالثة للدنيا فقالَ» :وِم ْ
ل«.ل)َ ،(2وُبْؤسًا َنَز َ
ل َنِعيمًا َز ّ
ك ِإ ّ
س ذِل َ
حومًا; َلْي َ
ط َمْر ُ
َواْلَمْغُبو َ
حيث رأينا كرارًا ليس في صفحات التاريخ فحسب ،بل في حياتنا اليومية عّدة أفراد كانوا من أهل السطوة وقمة
القدرة حتى يتمنى الجميع الحصول على شيء من قدرتهم ،لكّنهم هووا في مستنقع السقوط بما جعل الكل يترحم
عليهم ،وبالعكس فإننا نعرف بعض الفراد ممن يشعر من يراهم بالسى والحزن لصعوبة أوضاعهم ومعاناتهم،
بينما تسلقوا فجأة سّلم القدرة ليحظوا باعجاب الجميع وغبطتهم.
نعم ،لم يكن »قارون« لوحده الذي استعرض يومًا كل تلك القدرة و الثروة التي خطفت أبصار قصار النظر من
بني اسرائيل الذين اعتراهم الحسد والمل ،فتمنوا الحصول على تلك الثروة بدله ،ولم تمض مّدة حتى شقت
ل منه ولم يغدق الرض لتبتلع كل كنوزه وثرواته ،مّما دفع من تمنى تلك الثروة إلى شكر ال أن لم يجعلهم بد ً
عليهم الثروة والسطوة ،أجل لقد تكررت هذه الصورة مرارًا في التاريخ ثم قال )عليه السلم( في الصفة الرابعة
ل ُيْدَر ُ
ك ل َأَم ٌ
جِلِهَ .ف َ
ضوُر َأ َ
ح ُ
طُعُه ُ
عَلى َأَمِلِه َفَيْقَت ِ
ف َ
شِر ُ
ن اْلَمْرَء ُي ْ
عَبِرَها َأ ّ
ن ِ
للدنيا والتي تختص بكونها عبرةَ» :وِم ْ
ك«.
ل ُيْتَر ُ
ل ُمَؤّم ٌ
َو َ
فأحيانًا يعّد النسان عّدة مقدمات بغية الحصول على المال والثروة أو الجاه والمنزلة ول يكاد يقترب من الوصول
إلى أهدافه حتى يتخطفه الموت فيقضي على جميع طموحاته ورغباته ويحول دون تحقيقها ،بل ل يدوم له حتى
المال الذي يجنيه والمنصب الذي يشغله.
ثم يعرب المام )عليه السلم( في آخر كلمه عن وحشته لمن يغتّر بمثل هذه الدنيا المليئة بالفناء والعناء
حىضَظَمَأ ِرّيها)َ (3وَأ ْ
سُروَرَها َوَأ ْ
عّز ُ
ل َما َأ َ
نا ّ
حا َ
سْب َ
والموصوفة بالغير والعبرَ» :ف ُ
» .2زّل« :من مادة »زل« على وزن حل بمعنى النزلق والسقوط.
] [ 66
ل َماض َيْرَتّد«.
جاء ُيَرّدَ ،و َ
ل َ
َفْيَئَهاَ ،
نعم ،عابرة جّدا لحظات الفرح والسرور وهى أشبه بلحظات الرتواء من النعم وزوال الفيىء والظل.
يمكن أن تكون العبارة »ل جاء يرد ول ماض يرتد« إشارة إلى الناس حيث تأتي طائفة ل يقدر أحد على صدها،
كما تنتقل طائفة من هذا العالم وليس لحد من قدرة على إعادتها ،كما يمكن أن تكون إشارة إلى حوادث الدهر
شّرها وخيرها والتي ل يسع أحد الحيلولة دون وقوعها إن أبرمت وأصبحت قطعية حتمية ،كما ل يمكن عودة ما
تولى من أمور ودهور ،فل عودة للطفولة في الشباب ول الشباب في المشيب.
ل،
نا ّ
حا َ
سْب َ
لَ» :ف ُ
ثّم إختتم )عليه السلم( هذا المقطع من الخطبة بهذه العبارة التي تكمل سابقتها من العبارات قائ ً
عْنُه!«.
عِه َ
طا ِ
لْنِق َ
ي ِ
حّ
ن اْل َ
ت ِم َ
حاِقِه ِبِهَ ،وَأْبَعَد اْلَمّي َ
ت ِلَل َ
ن اْلَمّي ِ
ي ِم َ
حّب اْل َ
َما َأْقَر َ
نعم ،فالفاصلة بين الموت والحياة قصيرة جّدا حتى صورتها الروايات بأّنها تكاد تكون كطرفة العين ،ومن ما ورد
ظَنن ُ
ت ل َ عيَناي إ ّ ت َطَرْف ْ
حّمد ِبَيِدهِ َما َ
س ُم ِ
في الحديث عن النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( أّنه قالَ» :واّلذي َنف ُ
ن ُلْقَمًة إ ّ
ل ض َول َتَلّق ُ
حّتى ُاقَب َضُه َ ت َأّني حـاِف ُظَنْن ُ
طرِفي و َ
ت َ
حي َول َرَفْع ُ ل ُرو ِضا ُ حّتى َيْقِب َ
ن َ
سَفِري ل َيْلَتِقيا ِ
ن ََأ ّ
ت«).(1 ن الَمو ِ
ض ِبها ِم َ
ع ّحّتى ُا َسيُغها َت َأّني ل ُا ِ
ظَنْن ُ
َ
ن من له أدنى إلمام ببنية جسم النسان ليعلم بمدى قرب هذه الفاصلة ،فيكفي تخثر مقدار قليل من الدم ليغلق منافذ
إّ
ل من
شرايين الفاصلة أوالدماغ فيؤّدي بحياة النسان ،بل يكفي نفوذ جزء يسير من الطعام إلى لسان المزمار بد ً
إتجاهه إلى المعدة ليختنق النسان ويموت من فوره ،كما تكفي صدمة طبيعية لهذا النسان قد توقف قلبه عن الدق
وإلى البد.
أّما بالنسبة للحوادث الخارجية فبمجّرد اهتزاز الرض للحظة قد تنقلب مدينة رأسًا على عقب ،كما قد تأتي
عاصفة أو سيل على كل شيء فتحيله خرابًا ل حركة فيه ول حياة ،بل لصاعقة من السماء أن تحيل كل شيء إلى
رماد.
] [ 67
إلى جانب ذلك هنالك الحوادث اليومية في حياتنا المعاصرة من قبيل الصطدامات وسقوط الطائرات والحرائق
والنفجارات التي تنهي حياة الفراد خلل لحظات ،نعم ،تكاد تكون معدومة هى الفاصلة بين الحياة والموت،
ن هذه الفاصلة قد تكون في غاية البعد ،فلو اجتمع كافة الطباء وأعّدوا مختلف الوسائل
ولكن من جانب آخر فا ّ
الطبية ،فليس لهم أن يهبوا الحياة للموات ،على غرار الوليد الذي ل يسعه الرجوع إلى بطون ُامه و الثمار التي
ل تعود ثانية إلى الشجار بعد سقوطها.
على
ن َ
ل َأن َينسـاُه ّ
نختتم الكلم بما ورد عن المام الصادق )عليه السلم( أّنه قالَ» :ثلَثُة َأشياء ل َينَبِغي ِلللعـاِق ِ
ن َلها«).(1
ت اّلتي ل أما َ
ل والفا ُ
لحوا ِ
فا َ
صّر ُ
ل حـالَ ،فناُء الّدنيا َوت َ
ُك ّ
—–
] [ 68
] [ 69
القسم الرابع
ظمُعَ عُه َأ ْ
سَما ُ
ن الّدْنيا َ يء ِم َ ش ْل َ ل َثَواُبُهَ .وُك ّ خْيِر ِإ ّن اْل َخْير ِم َ ي ِب َ
شٌ س َ عَقاُبُهَ ،وَلْي َ ل ِ شّر ِإ ّن ال ّ شّر ِم َ يٌء ِب َش ْس َ »ِإّنُه َلْي َ
عَلُموا خَبُرَ .وا ْ
ب اْل َن اْلَغْي ِ
عَ ،وِم َ سَما ُن ال ّ عِهَ .فْلَيْكِفُكْم ِمنَ اْلِعَيا ِ سَما ِن َ ظُم ِم ْ عَ عَياُنُه َأ ْ
خَرِة ِ لِ نا ْ شيء ِم َ ل َ عَياِنِهَ .وُك ّن ِ ِم ْ
ن َمْنُقوص َراِبح َوَمِزيد خَرِة َوَزاَد في الّدْنَياَ .فَكْم ِم ْ ن ال ِ ص ِم َ خْيٌر ِمّما َنَق َ خَرِة َ ى ال ِ ن الّدْنَيا َوَزاَد ِف ِ ص ِم َن َما َنَق َ َأ ّ
ل ِلَما َكُثَرَ ،وَما عَلْيُكْمَ .فَذُروا َما َق ّ حّرَم َ ل َلُكْم َأْكَثُر ِمّما ُ حّ عْنُه َوَما ُأ ِن اّلِذي ُنِهْيُتْم َ سُع ِم َ ن اّلِذي ُأِمْرُتْم ِبِه َأْو َ سر! ِإ ّ خا ِ َ
عَلْيُكْمض َ ن اْلَمْفُرو ِ طَلُبُه َأْوَلى ِبُكْم ِم َن َلُكْم َ ضُمو ُ ن اْلَم ْ ل َفل َيُكوَن ّ ق َوُأِمْرُتْم ِباْلَعَم ِ ل َلُكْم ِبالّرْز ِ سَعَ .قْد َتَكّف َ ق ِلَما اّت َ
ضا ََ
ن اّلِذي َقْد
عَلْيُكْمَ ،وَكَأ ّ
ض َ ن َلُكْم َقْد ُفِر َ ضِم َ ن اّلِذي ُ حّتى َكَأ ّ نَ ، ل اْلَيِقي ُ
خَ ك َوَد ِ شّ ض ال ّعَتَر َ ل َلَقِد ا ْ عَمُلُهَ ،مَع َأّنُه َوا ّ َ
جى ِم ْ
ن جَعِة اْلُعُمِر َما ُيْر َن َر ْ جى ِم ْ ل ُيْر َ لَ ،فِإّنهُ َ جِ لَ خاُفوا َبْغَتَة ا َْ لَ ،و َ عْنُكْمَ .فَباِدُروا اْلَعَم َ ضَع َ عَلْيُكْم َقْد ُو ِ ض َ ُفِر َ
جاُءجَعُتُه .الّر َج الَيْوَم َر ْ ن اْلُعُمِر َلْم ُيْر َ
س ِم َ ت َأمْ ِ غدًا ِزَياَدُتُهَ .وَما َفا َ ي َ جَ ق ُر ِ ن الّرْز ِ ت اْلَيْوَم ِم َقَ .ما َفا َ جَعِة الّرْز ِ َر ْ
ن«. سِلُمو َل َوَأْنُتْم ُم ْن ِإ ّ
ل َتُموُت ّ ق ُتَقاِتِهَ ،و َ حّ ل َ ضيَ .فاّتُقوا ا ّ س َمَع اْلَما ِ جائيَ ،واْلَيْأ ُ َمَع اْل َ
—–
الشرح والتفسير
بّين المام )عليه السلم( سلسلة من النصائح والمواعظ في هذا المقطع من الخطبة والذي يمثل آخرها بهدف
إعداد المخاطبين بحيث لو تأملها النسان وفكر فيها وسعه تحقيق السعادة والنجاة فقال:
] [ 70
ل َثَواُبُه«.
خْيِر إِ ّ
ن اْل َ
خْير ِم َ
ي ِب َ
شٌس َ
عَقاُبُهَ ،وَلْي َ
ل ِ
شّر ِإ ّ
ن ال ّ
شّر ِم َ
يٌء ِب َ
ش ْ
س َ
»ِإّنُه َلْي َ
فالنسان بصورة عاّمة يهرب من السوء والشر ويجنح نحو الخير ،وقد جبل على السعي نحو جني منفعة ودفع
الضرر ،فقد اعتمد المام )عليه السلم( هذا المر الفطري ليدعو الناس إلى طاعة ال تعالى والبتعاد عن
ن السوأ من السوء هو عقاب ال تعالى ومؤاخذته على الذنوب والفضل من الخير هو المعصية والذنب فقال إ ّ
ن المراد من الشر والخير )بقرينة الثواب والعقاب(
جزاء ال تعالى وثوابه على الطاعة والحسان ،من الواضح أ ّ
هو المعصية والطاعة ،بينما يتسع معنى الشر والخير إن توسعنا في معنى العقاب والثواب ليشمل العقاب والثواب
التكويني )أي جزاء وبركات العمال في الدنيا(.
شّر
ل ال ّ
عُخْيٌر ِمْنُهَ ،وَفا ِ
خْيِر َ
ل اْل َ
عُوقد أورد المام )عليه السلم( مثل هذه العبارة في موضع آخر حيث قالَ» :فا ِ
شّر ِمْنُه«).(1
َ
ن الذي يضمره فاعل الخير والشر لولى إلى النتائج ومن ثم إلى السباب والعلل ،حّقا إ ّ
فقد إهتم المام في النظرة ا ُ
ن نتائج العمال خالدة بينما
أعظم مّما يقوم به من عمل ،لّنه ل يرى توفر أرضيته وأسبابه ،من جانب آخر فا ّ
تزول العمال وهذا بحّد ذاته دليل على أفضلية النتائج على نفس العمال.
ظُم ِمنْ
عَ عُه َأ ْ
سَما ُ
ن الّدْنيا َ
يء ِم َ
ش ْ
ل َ
ثم أضاف المام )عليه السلم( نقطة مهّمة أخرى بهذا الخصوص فقالَ» :وُك ّ
ن المتع المادية كالسراب له منظر خاص عِه« ،هذه حقيقة في أ ّ
سَما ِ
ن َظُم ِم ْ
عَعَياُنُه َأ ْ
خَرِة ِن ال ِ شيء ِم َ
ل َعَياِنِهَ .وُك ّ
ِ
من بعيد ،ولكن ل يبدو شيئًا يذكر حين يصله النسان ،فللقصور والثروات والقدرات واللذات والمتع ظاهر أنيق
من بعيد ،ولكن ما أن يقترب منها النسان حتى يرى سيل المشاكل والمصائب ،فيتمنى أحيانًا أّنه لم يبلغها
ت ول ُاذ ٌ
ن ن رَأ ْعي ٌ
ت ِلعبـاِدي مـا ل َ عَد ُ
ويحصل عليها ،في حين ورد بشأن النعم اللهّية الجّمة في الخرةَ» :أ ْ
شر«).(2 ب َب َعل َقل ِطَر َ
خَت َول َ سِمَع ْ َ
بل ليشعر النسان بالعجز عن وصف اللذة التي يعيشها في هذه الدنيا حين مناجاته ل
] [ 71
ن المر إذا كان كذلك لبّد أن يغنيكم سماع الحقائق المرتبطة بالخرة ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه بأ ّ
خَبُر« ،من
ب اْل َ
ن اْلَغْي ِ
عَ ،وِم َ
سَما ُ
ن ال ّ
ن اْلِعَيا ِ
بواسطة النبياء وأولياء ال سبحانه وتعالى عن رؤيتهاَ» :فْلَيْكِفُكْم ِم َ
البديهي أن يعجز النسان عن العالم الخارجي مادامه في زنزانة الجسد وفي دار الدنيا الظلماء الضيقة ،فل سبيل
لدراك أوضاع الخرة وتفاصيلها سوى ما يوصله له هؤلء العظام من أخبار يكتفي بها.
ثم تطرق المام)عليه السلم( إلى أمرين منطقيين بهدف التشجيع على التيان بالصالحات وإجتناب السيئات فقال:
ن َمْنُقوص َراِبح خَرِة َوَزاَد في الّدْنَياَ .فَكْم ِم ْ
ن ال ِ
ص ِم َ
خْيٌر ِمّما َنَق َ
خَرِة َ
ى ال ِ
ن الّدْنَيا َوَزاَد ِف ِ
ص ِم َ
ن َما َنَق َعَلُموا َأ ّ
»َوا ْ
ن َأْمَواَلُهْم ِفي
ن ُينِفُقو َ
ل اّلِذي َسر!« ،وهذا هو المر الذي أشار إليه القرآن الكريم بوضوح إذ قالَ) :مَث ُ خا َِوَمِزيد َ
حّبة.(1)(...ل َ ل َكَمَث ِ
لا ِ سِبي ِ
َ
جّنَة.(2)(...
ن َلُهْم اْل َ
سُهْم َوَأْمَواَلُهْم ِبَأ ّ
ن َأنُف َ
ن اْلُمْؤِمِني َ
شَتَرى ِم ْ
لا ْ
نا َ
وكما قال في موضع آخرِ) :إ ّ
وبناءًا على هذا فالموال والعمار والمكانات التي توظف في مسار الخرة إن قللت في الظاهر شيئًا من الدنيا،
ن النسان يدفع الثمن باهضاً إن أخ ّ
ل ولكن في الواقع قد تضيف أحيانًا مئة ضعف إلى ثواب الخرة ،وبالعكس فا ّ
بشيء من آخرته وتنازل عن دينه وإيمانه وإنهمك بدنياه لينال شيئًا من حطامها ،قال القرآن الكريم بهذا
خَرِة.(3)(...
لِق َلُهْم ِفي ا ْ
لَخَ
ل َ
ك َ
ل َوَأْيَماِنِهْم َثَمنًا َقِليل ُأْوَلِئ َ
ن ِبَعْهِد ا ِ
شَتُرو َ
ن َي ْ
ن اّلِذي َ
الخصوصِ) :إ ّ
المراد من »ما أمرتم به« هنا المر في مقابل الحظر ،يعني ما أجيز لكم بالنسبة إلى الذنوب
] [ 72
هو أوسع وأشمل ،وترك الذنب ل يؤّدي بكم إلى الضيق والعسر ،بل أمامكم مسار واسع وشامل بهدف الحصول
على الدين والدنيا ،قطعًا إننا نصل إلى عدد محدود حين نحصي الذنوب ول سّيما الكبائر ،بينما نواجه دائرة
واسعة جّدا إن أردنا إحصاء ما أجازه الشرع المقدس ،ويصدق هذا المر على الحلل والحرام ،فما أكثر الغذية
ن النساء اللتي يح ّ
ل الحلل بالنسبه للطعام الحرام ،وما أكثر معاملت الحلل قياسًا بمعاملت الحرام ،كما أ ّ
الزواج منهن أكثر بكثير من تلك اللتي يحرم الزواج منهن) ،(1وعليه فطاعة أوامر ال تعالى ورعاية الحلل
والحرام ل تجعل النسان في حرج ،وهذا في والواقع رّد قاطع على ُاولئك الذين يرون دين ال سلسلة من
المحظورات والممنوعات ،وهكذا يحث المام )عليه السلم( الجميع على ترك الذنوب والمعاصي والمحرمات،
وهكذا والمحدودة والحركة باتجاه السبيل الرحب للحلل والمباح ،فليست هنالك من مشكلة في حياتهم المادية ول
المعنوية.
حَرج.(2)(...
ن َ
ن ِم ْ
عَلْيُكْم ِفي الّدي ِ
ل َ
جَع َ
ن هذه العبارة إشارة لما ورد في القرآن الكريمَ) :وَما َ
والواقع هو أ ّ
حِة«).(3
سم َ
حَنِفيِة ال ّ
وجاء في الحديث النبوي الشريفَ» :بَعَثِني ِبال َ
ن * ِإّنَما
ن ُكْنُتْم ِإّياهُ َتْعُبُدو َ
ل ِإ ْ
شُكُروا ِنْعَمَة ا ِ
طّيبًا َوا ْ
لل َ
حَل َلَ) :فُكُلوا ِمّما َرَزَقُكْم ا ُ كما صّرح القرآن الكريم قائ ً
ل ِبِه.(4)(...
ل ِلَغْيِر ا ِ
خْنِزيِر َوَما ُأِه ّ
حَم اْل ِ
عَلْيُكْم اْلَمْيَتَة َوالّدَم َوَل ْ
حّرَم َ
َ
ولما كان السعي من أجل المعاش والحرص لنيل الرزق يشكل أحد العوامل المهّمة للغفلة والكسل عن التيان
ن المام)عليه السلم(أشار إلى مسألة دقيقة ،وهى بالفرائض اللهّية والخوض في تهذيب النفس وتزكيتها ،فا ّ
ن ال قد ضمن أرزاقهم وأمرهم بالقيام
ضرورة علمهم بأ ّ
ن الذي أمرتم به «..إشارة إلى الحكام التكليفية الخمسة ،والعبارة »ما أحل لكم «...ناظرة إلى الحكام
ن العبارة »إ ّ
.1الواقع أ ّ
ن نعتبر العبارتين مترادفتين للتأكيد كما ذهب إلى ذلك بعض شّراح نهج البلغة. الوضعية ،وعليه فل داعي ل ّ
] [ 73
ل َلُكْم
بالواجبات ،وعليه فل ينبغي لهم منح الولوية لما ضمن والغفلة عّما يجب عليهم التيان به فقالَ» :قْد َتَكّف َ
عَمُلُه«).(1
عَلْيُكْم َ
ض َ
ن الَْمْفُرو ِ
طَلُبُه َأْوَلى ِبُكْم ِم َ
ن َلُكْم َ
ضُمو ُ
ن اْلَم ْ
ل َفل َيُكوَن ّ
ق َوُأِمْرُتْم ِباْلَعَم ِ
ِبالّرْز ِ
ن لدينا شيئين :الول تحصيل الرزق والثاني القيام بالفرائض اللهّية ،وقد تكّفل ال تعالى
وبعبارة أخرى فا ّ
بضمان الول وقلدنا مسؤولية المر الثاني ،ومن هنا لبّد أن نبذل ما في وسعنا بالمر الثاني ،والحال القضية
ن أغلب الناس يركزون جهودهم ويبذلون قصارى سعيهم ويشغلون فكرهم من أجل تحصيل على العكس في أ ّ
الرزق والمعاش ويولون ظهورهم ليتناسوا الواجبات والفرائض الملقاة على عاتقهم.
ن اّلِذي
حّتى َكَأ ّ
نَ ،
ل) (2اْلَيِقي ُ
خَ
ك َوَد ِ
شّ
ض ال ّ
عَتَر َ ل َلَقِد ا ْ
لَ» :مَع َأّنُه َوا ّ
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه قائ ً
عْنُكْم«.
ضَع َ
عَلْيُكْم َقْد ُو ِ
ض َ ن اّلِذي َقْد ُفِر َ
عَلْيُكْمَ ،وَكَأ ّ
ض َ
ن َلُكْم َقْد ُفِر َ
ضِم َ
ُ
ن هذه العبارة تشبه ما ورد عن أمير المؤمنين علي )عليه السلم( في مقارنته لطلب العلم بطلب المال ويبدو أ ّ
طَلبَ
ن َ عَليُكم ِم ْب َ ج ُ
ب الِعلِم َأو َ
طَل َ
ن َل ِبِه ،أل َوإ ّ ب الِعلِم َوالَعَم ُ
طَل ُ
ن َ
ل الّدي ِ
ن َكمـا َ حيث قالَ» :أّيها الّناس اعَلُموا َأ ّ
عنَد َأهِلِه َوَقْد ُأرُتم
ن ِخُزو ٌسَيِفي َلُكم َوالِعلُم م ْ
ضِمَنُه َو َ
ل َبيَنُكم َو َ
سَمُه عاِد ٌ
ن َلُكم َقْد َق ّسوٌم َمضُمو ٌل َمق ُن الما َ ل ِإ ّ
الما ِ
طُلُبوُه«).(3
ن َأهِلِه َفا ْ
طَلِبِه ِم ْ
ِب َ
ن المقصود بالعبارات المذكورة ليس إيقاف الناس لنشطتهم القتصادية اليجابية ويتخلون عن مساعيهم
ل شك أ ّ
من أجل ضمان الحياة المشرفة ،بل الهدف هو الحّد من الحرص
ن »طلبه« في العبارة المذكورة ليست نائب فاعل للمضمون ونائب الفاعل هو »الرزق« التي
.1يعتقد بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
ن هذا المطلب ينقض نسق العبارتين المذكورتين )المضمون لكم ...المفروض
وردت في العبارات السابقة ،وإّل أدنى تأمل يكشف أ ّ
عليكم( والحال يقتضي النسجام بين هاتين العبارتين أن يكون كل من »طلب« و»عمل« نائب فاعل أحدهما للمضمون والخرى
للمفروض ،وعليه يصبح معنى الجملة »ل ينبغي أن تولون الهمّية للشيء الذي ضمنه لكم ال وتغفلون عّما وجب عليكم من عمل«
ن الطلب هنا بمعنى تحصيل وإعداد الرزق من جانب ال تعالى.بعبارة أخرى فا ّ
» .2دخل« :يعني الفساد في مثل هذه المور ودخل على وزن دعل بمعنى المور الفاسدة التي تتسلل داخل النسان فتؤثر على عقله.
] [ 74
والتكالب على الدنيا والجنوح نحو الشره الذي يصد النسان عن العلم والمعرفة والمور المعنوية.
جَعِة
ن َر ْ
جى ِم ْ ل ُيْر َلَ ،فِإّنُه َ
جِلَ
خاُفوا َبْغَتَة) (1ا َْ لَ ،و َ
ثم خلص المام )عليه السلم( إلى هذه النتيجةَ» :فَباِدُروا اْلَعَم َ
ن اْلُعُمِر َلْم ُيْر َ
ج س ِم َ
ت َأْم ِغدًا ِزَياَدُتُهَ .وَما َفا َ
ي َ جَق ُر ِن الّرْز ِت اْلَيْوَم ِم َ
قَ .ما َفا َ
جَعِة الّرْز ِ
ن َر ْ
جى ِم ْ
اْلُعُمِر َما ُيْر َ
ضي«. س َمَع الَما ِ جاِئي َواليأ ُ جَعُتُه« ،نعم» ،الّرجاُء َمَع ال َ الَيْوَم َر ْ
حقًا إّنه منطق بليغ واضح في عدم إمكانية عودة ساعات العمر بأي شكل من الشكال ،في حين يمكن استعادة متع
الدنيا وفي كل الظروف وتداركها ،بناءًا على هذا فالذي يقوله العقل لبّد من الحزم والحساسية تجاه المور التي
ن أغلب الناس يتصرفون على يمكن عودتها ،ل المور التي إن فقدت اليوم أمكن الحصول عليها بالغد ،والحال أ ّ
العكس من هذا المر ،فأصواتهم ترتفع بالصراخ إلى عنان السماء لمجّرد فقدانهم لشيء من حطام الدنيا ،بينما ل
يأبهون لتصرم اليام والسابيع والشهر والسنوات ،وهذا يدعو إلى الدهشة والعجب ،وهذا ما دفع بالمام )عليه
السلم( للتأكيد على هذا المطلب وشبهه في هذه الخطبة وسائر الخطب.
ن شخصًا أتى إلى المام السجاد )عليه السلم( وقد شكى إليه وضعه وكأّنه كان يعاني من قّلة ورد في الخبر أ ّ
ن بني آدم )عليه السلم( مساكين يشهدون ثلث مصائب كل يوم ول الرزق فرد عليه المام )عليه السلم( أ ّ
يعتبرون بها ولو اعتبروا بها لهانت عليهم المصائب ،المصيبة الولى :كل يوم يمر عليهم يذهب من عمرهم
ل مالهم ،والحال هناك خلف للدنيار والدرهم بينما ليس للعمر من )لكنهم ل يأسفون على ذلك( لكنهم يحزنون إن ق ّ
ل كان فيه حساب وإن كان من ن النسان يرتزق كل يوم فان كان رزقه حل ً عودة قط ،المصيبة الثانية :هو أ ّ
حَلًة ل َيدِري
ن الخَرِة َمر َ
ل َوَقْد َدنا ِم َ
سي إ ّ
ن َيوم ُيم ِ
الحرام فيه عقاب ،المصيبة الثالثة وهى أعظمها جميعًاَ» :ما ِم ْ
على الّناِر«).(2
جّنة أم َ
عَلى ال َ
َ
ل َوَأْنُتْم
ن ِإ ّ
ل َتُموُت ّ
ق ُتَقاِتِه َو َ
حّ
ل َ
وفي ختام الخطبة نصح الناس من خلل الوعظ باليات القرآنية فقال):فاّتُقوا ا َ
ن(.
سِلُمو َ
ُم ْ
] [ 75
ن()
سِلُمو َ
ل َوَأْنُتْم ُم ْ
ن ِإ ّ
ل َتُموُت ّ
ق ُتَقاِتِه َو َ
حّ
ل َ
ن آَمُنوا فاّتُقوا ا َ
والقول مستوحي من قوله تبارك وتعالىَ) :يا َأّيَها اّلِذي َ
.(1
—–
تأّملت
لبة ساحرة من بعيد ،لكن ما إن يبلغها النسان حتى يراها ن المتع الدنيوية المادية والبهرجة لهذا العالم تبدو خ ّ
إّ
ل يرى النسان من بعيد حياة الملوك فيظن لو غاية في الصغر والضحالة ،بل تكون مقلقة ومرعبة أحيانًا ،مث ً
إعتلى يومًا عرش السلطة ،فقد سيطر على العالم بأسره وقد نال السعادة والموفقية ،ولكّنه ما إن يبلغ ذلك حتى
يشعر أّنه فقد على القل ثلثة أشياء من ركائز الحياة:
الول :المن فهو يشعر في ذلك المنصب بالخوف من أقرب مقربيه ،فهو مطالب بالحذر من بطانته دائمًا حتى في
قصره وغرفة نومه فل أمن ول أمان ،فما أكثر السلطين الذين قتلوا على يد مقربيهم.
الثاني :الحرية ،على سبيل المثال ل يستطيع ممارسة حياته كالفراد العاديين من قبيل الخروج في نزهة مع
زوجته وأولده أو الحضور بحرية في المجالس والحفلت التي يقيمها الصدقاء والقرباء.
الثالث :راحة البال ،فهو مشغول على الدوام ول يهدأ أبدًا ،فما زلنا نذكر بعض رؤوسا الجمهويات الذين صّرحوا
علنا بأّنهم لم يذوقوا طعم النوم الهادىء طيلة ليالي حكومتهم وأن حاشيتهم كانوا يوقظونهم من نومهم ليطلعوهم
ل بعد أن تمت مّدة حكومتهم.
على الحوادث التي تقع هنا هناك من العالم ،نعم لم يذوقوا طعم النوم إ ّ
ومثال آخر لما ذكرنا آفاق حياة الثرياء من بعيد فيظن الناظر أّنها مفعمة بالسعادة والرفاه ،ولكن إن قّدر له أن
ن بحاجة إلى جزء يسير من هذه يعيش ذلك الثراء فسيشعر أ ّ
] [ 76
الثروة في حياته بينما تثقل باقي الثروة كاهله ،فالحرص على حفظ هذه الثروة وصيانتها من العمال الشاقة،
والعداوة والبغض الحسد الذي يعانيه من الخرين والذي يمثل كابوسًا مرعبًا يقض مضجعه ،ومن هنا عّبر المام
ن كل شيء في الدنيا سماعه أعظم من عيانه، )عليه السلم( بتلك العبارة الرائعة التي أوردها في هذه الخطبة في أ ّ
ن كل شيء فيها عيانه أعظم من سماعه ،فهل لعاقل بعد كل هذا أن يؤثر الدنيا على وبالعكس بالنسبة للخرة فا ّ
الخرة.
نعم ،إن نشد النسان المقامات المادية وثروات هذا العالم من أجل خدمة خلق ال تعالى ،على حّد تعبير القرآن
خَرَة.(1)(...
لِل الّداَر ا ْ
كا ُ
الكريم في إطار خطابه لقارونَ) :واْبَتِغ ِفيَما آَتا َ
ن أحد أصحاب وتحمل كل ما يترتب على ذلك من مشاكل وصعاب فذلك له حساب آخر ،فقد ورد في الخبر إ ّ
المام الصادق )عليه السلم( شكى إليه طلب الدنيا والتعلق بها ،فقال له )عليه السلم( لم تطلب الدنيا؟ قال :لصل
ب الخرة«(2). طَل ُ
ب الّدنيا ،هذا َ
س هذا طَل ُ
بها رحمي وأنفق على عيالي وأعطي وأحج وأعتمر ،فقالَ» :لي َ
—–
ن هذه الدنيا والحياة في هذا العالم ل تدوم لحد ،فهم يرون بأم أعينهم مراحل انتقال الطفولة إلى
الكل يعلم أ ّ
الشباب ومنه إلى الكهولة ثم العالم الخر تطالعنا صفحات النعي في الصحف المسائية كل يوم بالعلن عن موت
بعض العزة الذين يثكل بهم القرباء والهل ،ول سّيما في عصرنا الراهن الذي أصبح فيه الموت والحياة قريب
جّدا من النسان مقارنة الزمنة الماضية ومتوسط عمر النسان ،فقد نسمع بسقوط مفاجيء لطائرة فتتناثر أجساد
لخرى التي تزيد من عدد الوفيات كل يوم وفي مختلف الماكن، ركاّبها في الهواء لتقع هنا هناك ،والحوادث ا ُ
ن ضحايا الوسائل النقلية في المناطق والمدن لتفوق ضحايا الحروب ،وبغض حتى أ ّ
] [ 77
ن هذه الحياة القصيرة مليئة بأنواع المعاناة واللم والمشاق ،ويكفي في ذلك أن نلقي نظرة عابرة
النظر عما سبق فا ّ
على مستشفى لنرى مختلف المراض التي يعاني منها الطفال والشباب والكهول ،أو نتطلع أحد السجون ونشاهد
عن كثب الفراد الذين زجت بهم المظالم والشهوات والخطاء والنزوات في ذلك المكان ،ولكن مع ذلك أغلب
الناس يتناسون كل هذه المسائل ليحصلوا على استقرار كاذب مّزيف ،والستقرار الذي يشبه ذلك الذي يشعر به
الحيوان الذي يخفي جسده في الرمال مخافة الصّياد ،والحال يراه الصياد ويسارع إلى افتراسه.
ن المام )عليه السلم( يورد وصاياه في أغلب مواضع نهج البلغة بهدف التنبيه إلى تلك الغفلة ومن هنا فا ّ
والنسيان المميت وايقاظ الضمير البشري الذي يغط في سبات عميق ،وقد اتبع المام مختلف الساليب من أجل
تحقيق هذا الغرض فتارة يذكر الدنيا على أّنها دار عناء وفناء وغير وعبر وأخرى يذكر إنزوائها على أنواع
الشدائد والمشاكل،كما يتطرق إلى قصر المسافة بين الحياة والموت ،إلى جانب ذلك يلفت النتباه إلى هذه الحقيقة
في عدم إمكانية عودة ما يتصرم من ساعات العمر ،في حين يمكن تدارك كافة سائر النعم المادية ،والحق لو تأمل
كل إنسان مّرة واحدة في السبوع هذه الخطبة لما عانى من الغفلة قط.
—–
رّبما يطلب النسان الدنيا من أجل إشباع أهوائه ورغباته إلى جانب المتياز على الخرين واستغللهم
واستعمارهم ،كما قد يطلبها بهدف الحصول على الرفاه المتوازن ،وأحيانًا ينشدها بغية وفرة المكانات لخدمة
الخرين ،أخيرًا قد يريدها لترسيخ دعائم اقتصاد المجتمع السلمي وتحقيق مجده وعظمته ورفعته وإبعاده عن
ن هذه الهداف تتفاوت فيما بينها تفاوتًا تامًا.
كافة أشكال التبعية للخرين ،ومن البديهي أ ّ
فعلى ضوء الهدف الول يتصف بأبشع الصفات الرذيلة ،والثاني يّتجه نحو الهداف
] [ 78
المباحة والستفادة من النعم اللهّية ،والثالث يمارس أرفع عبادة وأخيرًا الرابع يسدي أعظم الخدمات النسانية
والسلمية ،وكل ما ورد من ذّم في هذه الخطبة وسائر الخبار والروايات عن أئمة العصمة )عليه السلم(
وكذلك القرآن الكريم إّنما يشير في والواقع إلى الطائفة الولى من الناس وهو الموصوف برأس كل خطيئة
ومصدر جميع الذنوب ،ول عاقبة له سوى جهّنم وبئس المصير.
ن السلم يرتضي للمجتمع حالة الفقر والحرمان ويوصي ومن هنا فل ينبغي تفسير ذّم الدنيا والمتكالبين عليها بأ ّ
ن َملُعو ٌ
ن بذلك ،قد ورد هذا المضمون في الروايات السلمية ،فقد قال رسول ال )صلى ال عليه وآله(َ» :ملُعو ٌ
عبَد الّدينار والّدرهم«).(1
َمن َ
وقال المرحوم الشيخ الصدوق في تفسير هذا الحديث» :يعني به من يمنع زكاة ماله ويبخل بمواساة إخوانه،
فيكون قد آثر عبادة الدينار والدرهم على عبادة خالقه«).(2
ن عليًا )عليه السلم( يفخر برفاه أهل الكوفة خلل مّدة حكومته رغم ما هو عليه من الزهد وجاء في الخبر أ ّ
ظّ
ل س ِفي ال ّ
ل الّبَر َوَيجِل ُ
ن َأدنـاُهم َمنِزَلًة َلَيأُك ُ
عمًاِ ،إ ّ
ل نـا ِ
حٌد إ ّ
ح ِبالُكوَفِة َأ َ
والعزوف عن الدنيا فقال» :مـا َأصَب َ
ت«)(3ب ِمن مـاِء الُفرا ِ
َوَيشَر ُ
—–
.2المصدر السابق.
] [ 79
الخطبة)115 (1
في الستسقاء
كما ورد في عنوان الخطبة فاّنها دعاء في الستسقاء ،وقد أوردها المام في عصر حكومته حين أصاب الناس
الجفاف ،حيث أشار )عليه السلم( في البداية إلى السباب التي تدعو إلى حبس المطر وشياع الجفاف في أ ّ
ن
أغلب الحوادث من هذا القبيل معلولة لمعاصي الناس وذنوبهم وسوء أعمالهم ،ثم يبتهل إلى ال تعالى بالدعاء
ن عباراته لتخترق شغافل الحق تبارك وتعالى التلطف بنزول المطر ،حتى أ ّبعبارات رصينة عميقة المعنى سائ ً
القلب وتمله بالمعنويات والشد ل سبحانه.
وما أحرانا بالتوسل بهذه العبارات والمضامين الواردة في هذ الخطبة من أجل الستسقاء.
—–
.1سند الخطبة:
رواها قبل السيد الرضي المرحوم الشيخ الصدوق في كتابه »من ل يحضره الفقيه« في آداب صلة الستسقاء مع اختلف كبير
ن ما نقله السيد الرضي في نهج البلغة هو بعض ما اختاره من تلك الخطبة »من ل يحضره الفقيه «2/235كما وإضافات تدّل على أ ّ
نقلها المرحوم الشيخ الطوسي في »التهذيب ج ،2ص «151وفي »المصباح المتهجد« في آداب صلة الستسقاء مع اختلف وما
ورد في نقل السيد الرضي في نهج البلغة مّما يدّل على وجود مصدر آخر اعتمده الشيخ ،ونقلها من علماء العاّمة الزمخشري في
»ربيع البرار« وابن الثير في »النهاية« )مصادر نهج البلغة .(2/256
] [ 80
] [ 81
القسم الّول
عَلى
ج الّثَكاَلى َ جي َ عِت َ ج ْ عّ ضَهاَ ،و َ حّيَرتْ في َمَراِب ِ ت َدَواّبَناَ .وَت َ ضَناَ ،وَهاَم ْ ت َأْر ُ جَباُلَناَ ،واغَيّر ْ ت ِ ح ْصا َ»الّلُهّم َقِد اْن َ
حْم
حاّنِة! الّلُهّم َفاْر َ ن اْل َحِني َ
لّنِةَ ،و َ
نا ْ حْم َأِني َن ِإَلى َمَواِرِدَها! الّلُهّم َفاْر َ حِني َت الّتَرّدَد ِفي َمَراِتِعَهاَ ،واْل َ َأْولِدَهاَ ،وَمّل ِ
خاِي ُ
ل خَلَفْتَنا َم َ
نَ ،وَأ ْ سِني َ
حَداِبيُر ال ّ عَلْيَنا َ
ت َ عَتكََر ْ حين ا ْ ك ِجَنا ِإَلْي َخَر ْجَها! الّلُهّم َ حْيَرَتَها ِفي َمَذاِهِبَهاَ ،وَاِنيَنَها ِفي َمَواِل ِ َ
ن َ
ل سَواُمَ ،أ ْ ك ال ّلَناُمَ ،وُمِنَع اْلَغَماُمَ ،وَهَل َ ط ا َْ
ن َقَن َ
حي َك ِ عو َ سَ .نْد ُ
غ ِلْلُمْلَتِم ِ
لَ سَ ،واْلَب َجاَء ِلْلُمْبَتِئ ِت الّر َ جْوِدَ .فُكْن َاْل َ
ق.ت اْلُموِن ِقَ ،والّنَبا ِ قَ ،والّرِبيِع اْلُمْغِد ِ ب اْلُمْنَبِع ِسحا ِ ك ِبال ّحَمَت َعَلْيَنا َر ْ
شْر َ خَذَنا ِبُذُنوِبَناَ .واْن ُ
ل َتْأ ُ عَماِلَناَ ،و َ
خَذَنا ِبَأ ْ
ُتَؤا ِ
ت«. تَ ،وَتُرّد ِبِه َما َقْد َفا َ حِيي ِبِه َما َقْد َما َ لُ ،ت ْحا َواِب ً سّ َ
—–
الشرح والتفسير
بّين المام )عليه السلم( في بداية هذه الخطبة الوضع المأساوي الذي أصاب الناس إثر الجفاف ومع السماء
ضَنا،
ت)َ (2أْر ُ
جَباُلَناَ ،واغَيّر ْ
ت)ِ (1
ح ْ
صا َ
ل» :الّلُهّم قَِد اْن َ
بعبارات رائعة بعيدة المعنى ،حيث استهلها بستة جمل قائ ً
جي َ
ج عِ
ت)َ (5 ج ْ
عّضَها)َ ،(4و َ
ت في َمَراِب ِ
حّيَر ْ
ت)َ (3دَواّبَناَ .وَت َ
َوَهاَم ْ
» .1انصاحت« :من مادة »صوح« على وزن صوم بمعنى النشقاق وقيل بمعنى الجفاف والتشقق والزوال الملزمة لبعضها البعض
الخر.
» .2اغبرت« :من مادة »غبار« وهى هنا إشارة إلى الجدب الذي يؤّدي إلى جفاف الرض.
» .3هامت« :من مادة »هيم« على وزن حيف بمعنى الحيرة وتستعمل أحيانًا بشأن النسان أو الحيوان الذي ل يدري أين يذهب من
شّدة العطش.
» .5عجت« :من مادة »عجيج« بمعنى الصراخ والصياح بأعلى الصوت.
] [ 82
ن ِإَلى َمَواِرِدَها!«.
حِني َ
ت الّتَرّدَد ِفي َمَراِتِعَهاَ ،واْل َ
عَلى َأْولِدَهاَ ،وَمّل ِ
الّثَكاَلى)َ (1
فققد رسم المام )عليه السلم( صورة واضحة بعبارات فصيحة عن الجفاف الشديد الذي أصاب الناس في ذلك
ل إلى ال:
الزمان ،وكشف النقاب عن وضع الجبال والراضي والمراتع والدواب ،ثم رفع يديه بالدعاء مبته ً
حاّنِة!).«(3
ن اْل َ
حِني َ
لّنِة)َ ،(2و َ
نا ْ
حْم َأِني َ
»الّلُهّم َفاْر َ
جْوِد).«(9
ل) (8اْل َ
خاِي ُ
خَلَفْتَنا)َ (7م َ
ن)َ ،(6وَأ ْ
سِني َ
حَداِبيُر ال ّ
عَلْيَنا َ
ت)َ (5
عَتَكَر ْ
حين ا ْ
ك ِ
جَنا ِإَلْي َ
خَر ْ
ل» :الّلُهّم َ
وأردف قائ ً
ن دّقة العبارات التي استخدمها المام )عليه السلم( في هذا الدعاء تشير إلى مدى حرقة المام )عليه
إّ
السلم(والناس من جانب ،ومن جانب آخر تستبطن تصويرًا عميقًا لتلك الحادثة ،فحدابير جمع حدبار تستخدم
بشأن الجمل الذي تبين عظام سنامه وقد حز لحمه بصورة تامة إثر شّدة الضعف )بسبب الجوع أو كثرة المشي(.
فقد شّبه المام )عليه السلم( الجفاف المتواصل بهذا الجمل ،ومن الطبيعي أن يدعو منظره إلى السى والحزن،
ن ركوبه يبدو متعذرًا شاقًا.
كما أ ّ
» .2آنة«:من مادة »أنين« وعادة ما تطلق على الشاة التي تتألم.
» .3حانة« :من مادة »حنين« التي تطلق على الجمل حين يتألم.
» .5اعتكرت« :من مادة »عكر« على وزن مكر بمعنى الهجوم.
» .6سنين« :اسم جمع السنوات ،لكّنها ترد عادة في العبارات كالعبارة المذكورة بمعنى القحط والجفاف )ورد معنيان لسنين في
قاموس اللغة أحدهما بمعنى السنة والخر بمعنى الجفاف والقحط(.
» .8مخايل« :جمع »مخيلة« على وزن قبيلة بمعنى الغيوم التي يأمل النسان بنزول المطر منها لكّنها ليست بماطرة.
» .9جود« :لفتح الجيم جمع »جائد« المطر الكثير والجود بالضم بمعنى السخاء والهبة.
] [ 83
ن القسم العظم من أراضي العراق تقع بين النهرين العظيمين الحيوانات في ذلك القى الشديد ،وباللتفات إلى أ ّ
ن القحط تلك السنوات على درجة من الشّدة دجلة والفرات المروفان بوفرة المياههما مقارنة بأنهار المنطقة يتبّين أ ّ
ن المام )عليه
بحيث ضّيق على أهل العراق حتى في تلبية الحاجات الولية للحيوانات )تشير القرائن إلى أ ّ
السلم( ألقى هذه الخطبة بعد صلة الستستقاء حين كان في الكوفة(.
لل مشاكل كل طالب حاجة وقد سيطر ثم ابتهل إلى ال سبحانه وتعالى في أّنك المل والرجاء لكل بائس وح ّ
ل تؤاخذنا اليأس على الناس وقد منعت السماء بركاتها والغيوم مياهها وأشرفت الحيوانات على الهلكة فنسألك أ ّ
ط الََْناُمَ ،وُمِنَع
ن َقَن َ
حي َ
ك ِ
عو َ
سَ .نْد ُ
غ)ِ (2لْلُمْلَتِم ِ
لَس)َ ،(1واْلَب َ جاَء ِلْلُمْبَتِئ ِ
ت الّر َ بسيئات أعمالنا ول بوائق ذنوبناَ» :فُكْن َ
خَذَنا ِبُذُنوِبَنا«.
ل َتْأ ُ
عَماِلَناَ ،و َخَذَنا ِبَأ ْ
ل ُتَؤا ِ
ن َ
سَواُم)َ ،(3أ ْ
ك ال ّ
اْلَغَماُمَ ،وَهَل َ
ن أغلب الفات والبلء والشّدة معلولة لذنوب الناس ،ول تزال مشاكلهم قائمة مستعصية ما لم تفيد هذه العبارة أ ّ
يتوبوا إلى ال ويسألوه العفو والمغفرة ،والعبارة تشبه الشكوى التي بثها نبي ال نوح )عليه السلم( إلى رّبه بشأن
عَلْيُكْم ِمْدَرارًا()(4
سَماَء َ
ل ال ّ
سْغّفارًا * ُيْر ِ
ن َ
سَتْغِفُروا َرّبُكْم ِإّنُه َكا َ
تا ْ
قومهَ) :فُقْل ُ
لْر ِ
ض سَماِء َوا َْ
ن ال ّ
عَلْيِهْم َبَرَكات ِم ْ
حَنا َ
ل اْلُقَرى آَمُنوا َواّتَقْوا َلَفَت ْ
ن َأْه َ
كما ورد في سورة العراف قولهَ) :وَلْو َأ ّ
ن().(5 سُبو َ
خْذَناُهْم ِبَما َكاُنوا َيْك ِ
ن َكّذُبوا َفَأ َ
َوَلِك ْ
حَمَت َ
ك عَلْيَنا َر ْ
لَ» :واْنشُْر َ
ثم طرح المام طلبته الصلية على الحق تبارك وتعالى قائ ً
» .1مبتئس« :من مادة »بؤس« على وزن قرص الفقر وشدة الحاجة.
] [ 84
فما ورد في عبارات المام )عليه السلم( إنعكاس تام لما عاناه الناس من قحط شديد ومصائب عضال من جهة،
ومن جهة أخرى تضمنت طلبًا للغيوم الملبدة بالمطار ،وكذلك ربيعًا مباركًا ونباتات طرية جميلة وأخيرًا تتجه
صوب نتيجة نهائية هى المطار التي تحيي الرض وتستعيد كل ما فقد؟ ول تكون تلك السنة سنة عامرة بالبركة
فحسب ،بل سنة تتلفى سنوات الجفاف السابقة.
—–
» .1منبعق« :من مادة »انبعاق« بمعنى انشقاق ولما كانت الغيوم حين نزول المطر تبدو منشقة وتجري منها المطار فقد استخدمت
هذه المفردة بشأن نزول المطر.
» .2مغدق« :من مادة »غدق« على وزن شفق الماء الوفير وتستعمل كناية بشأن السنوات المفعمة بالخير والبركة.
» .3مونق« :من مادة »أنق« على وزن شفق بمعنى السرور والعجاب بالشيء.
] [ 85
القسم الثاني
ضرًا َوَرُقَها،عَهاَ ،نا ِطّيَبًة ُمَباَرَكًةَ ،هِنيَئًة َمِريعًَةَ .زاكيًا َنْبُتَهاَ ،ثاِمرًا َفْر ُ
عاّمًةَ ، حِيَيًة ُمْرِوَيًةَ ،تاّمًة َ
ك ُم ْ
سْقَيا ِمْن َ
»الّلُهّم ُ
جِري ِبَها ِوَهاُدَناجاُدناَ ،وَت ْب ِبَها ِن َ
ش ُ
ك ُتْع ِ سْقَيا ِمْن َ
ك! الّلُهّم ُ
ن ِبلِد َت ِم ْحِيي ِبَها اْلَمّي َ
كَ ،وُت ْ
عَباِد َن ِف ِم ْ ضِعي َش ِبَها ال ّ ُتْنِع ُ
حيَناِ .منْ
ضَوا ِن ِبَها َ سَتِعي ُصيَناَ ،وَت ْ شيناَ ،وَتْنَدى ِبَها َأَقا ِ ش ِبَها َمَوا ِ ل ِبَها ِثماُرَناَ ،وَتِعي ُ جَناُبَناَ ،وُتْقِب ُ
ب ِبَها َ ص ُ خ ِ َوُي ْ
ضَلًةِ ،مْدَرارًاخ ِ سَماًء ُم ْعَلْيَنا َ
ل َ ك اْلُمْهَمَلِةَ .وَأْنِز ْشَ حِك اْلُمْرِمَلِةَ ،وَو ْ عَلى َبِرّيِت َجِزَيَلِة َ
ك اْل َ
طاَيا َ عَ سَعِةَ ،و َ ك اْلَوا َِبَركاِت َ
ل َقَزع َرَباُبَها، ضَهاَ ،و َ عاِر ُ جَهام َ لَ خّلب َبْرُقَهاَ ،و َ غْيَر ُطَرَ ، طُر ِمْنَها اْلَق ْ حِفُز اْلَق ْ
قَ ،وَي ْ
ق ِمْنَها اْلَوْد َ طَلًةُ ،يَداِفُع اْلَوْد ُ
َها ِ
طوا، ن َبْعِد َما َقَن ُ
ث ِم ْل اْلَغْي َ
ك ُتْنِز ُ
نَ ،فِإّن َ سِنُتو َ
حَيا ِبَبَرَكِتَها الُْم ْ
نَ ،وَي ْ جِدُبو َعَها اُْلم ْ لْمَرا ِ ب ِ
ص َ خ ِ حّتى ُي ْ شّفان ِذَهاُبَهاَ ، ل َ َو َ
حِميُد«.
ي اْل َ
ت اْلَوِل ّ ك َوَأْن َحَمَت َ
شُر َر ْ َوَتْن ُ
—–
الشرح والتفسير
طرح المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة طلبه وصحبه الرئيسي والذي يتمثل بنزول المطر المبارك
فسأل ال سبحانه وتعالى مطرًا ذات عشرين صفة تشير كل واحدة منها إلى قضية رائعة ،وما أورع أن يذكر
المام كل هذه الوصاف للمطر المطلوب ،وهى الوصاف التي تجعل النسان يتواضع ويشعر بالخضوع أمام
سْقَيا ِمْن َ
ك عظمة الخلق ،كما تفهم السامع عمق الثار والبركات التي تختزنها هذه القطرات من المطر» :الّلُهّم ُ
عاّمًة،
حِيَيًة ُمْرِوَيًةَ ،تاّمًة َ
ُم ْ
] [ 86
ف ِم ْ
ن ضِعي َ
ش)ِ (4بَها ال ّ
ضرًا)َ (3وَرُقَهاُ ،تْنِع ُ
عَهاَ ،نا ِ
طّيَبًة ُمَباَرَكًةَ ،هِنيَئًة َمِريَعًة)َ .(1زاكيًا َنْبُتَهاَ ،ثاِمرًا)َ (2فْر ُ
َ
ك!«. ن ِبلِد َ
ت ِم ْ
حِيي ِبَها اْلَمّي َ
كَ ،وُت ْعَباِد َ
ِ
ن المام )عليه السلم( سأل ال تعالى مطرا تتوفر فيه الشرائط وبعيدًا عن كل الموانع ،فقد لوحظ في الواقع هو أ ّ
أغلب الحيان نزول المطار على شكل سيول ،لكّنها تحطم كل شيء تأتي عليه ،أو إّنها تتركز في نقطة معينة
ليست لها منفعة عامة ،أو أّنها مصحوبة ببرد شديد قارس ل تخفى آثاره السلبية ،أو يكون مصحوبًا ببعض
الموانع من قبيل الرياح الحارة والعواصف الشديدة والفات التي تصيب النباتات كالجراد والحشرات المؤذية
وأمثال ذلك التي تقضي على أثار المطار ،فالمام )عليه السلم( يأخذ جميع هذه المور بنظر العتبار فيسأل ال
تعالى اجتماع كافة الشرائط ودفع جميع الموانع.
—–
ثم واصل المام )عليه السلم( الدعاء بذكر سبعة أوصاف أخرى ليكتمل عدد الصفات عشرين صفة فقال» :الّلُهمّ
ش ِبَها
ل ِبَها ِثماُرَناَ ،وَتِعي ُ
جَناُبَنا)َ ،(8وُتْقِب ُ ب)ِ (7بَها َص ُ
خ ِ جِري ِبَها ِوَهاُدَنا)َ (6وُي ْ جاُدنا)َ ،(5وَت ْ ب ِبَها ِن َ
ش ُ
ك ُتْع ِ
سْقَيا ِمْن َ
ُ
عَلىجِزَيَلِة َ
ك اْل َ
طاَيا َ
عَسَعِةَ ،و َ ك اْلَوا ِ
ن َبَركاِت َ
حيَنا)ِ .(11م ْ
ضَوا ِن ِبَها َسَتِعي ُ
صيَنا)َ ،(10وَت ْ شيناَ ،وَتْنَدى)ِ (9بَها َأَقا ِ َمَوا ِ
ك اْلُمْهَمَلِة«.
شَ
حِك اْلُمْرِمَلِة)َ ،(12وَو ْ َبِرّيِت َ
» .1مريع« :من مادة »مرع« على وزن فرح كثيف النبات.
» .4تنعش« :من مادة »نعش« على وزن فرش بمعنى الثارة والقامة.
» .5نجاد« :من مادة »نجود« على وزن سجود ما ارتفع من الرض حيث تصطلح العرب بالنجد على الرض المرتفعة.
» .9تندي« :من مادة »نداوة« الرطوبة وهى هنا كناية عن الجود والسخاء.
] [ 87
فقد كشف المام )عليه السلم( النقاب بهذا الدعاء عن سعة صدره وعمق نظره وعمومية شفقته ورحمته ،ذلك
لّنه أخذ بنطر العتبار المناطق القاصية والدانية ولم يهمل الدواب حتى حيوانات الصحراء الوحشية ،فدعاءه
يشمل الجميع وسؤاله يهدف حاجة الجميع وهذا هو معنى لطف إمام المسلمين ورحمته العاّمة.
—–
ل:وأضاف المام )عليه السلم( في معرض مواصلة لطلب الماء ونزول المطر الذي يفيض بالخير والبركة قائ ً
طَر«.طُر ِمْنَها اْلَق ْ
حِفُز) (4اْلَق ْ
ق)َ ،(3وَي ْ
ق ِمْنَها اْلَوْد َ
طَلًة)ُ ،(2يَداِفُع اْلَوْد ُ
ضَلًة)ِ ،(1مْدَرارًا َها ِ
خ ِ
سَماًء ُم ْ
عَلْيَنا َ
ل َ
»َوَأْنِز ْ
ل َقَزع)َ(7رَباُبَها)
ضَهاَ ،و َ
عاِر ُ
جَهام)َ (6
ل َ
خّلب)َ (5بْرُقَهاَ ،و َ
غْيَر ُ
كما واصل )عليه السلم( وصف المطارَ » :
شّفان)ِ (9ذَهاُبَها).«(10
ل َ
َ ،(8و َ
حَيا
ن)َ ،(12وَي ْ
جِدُبو َ
عَها) (11اُْلم ْ
لْمَرا ِ
ب ِ
ص َ
خ ِ
حّتى ُي ْ
لَ » :
ثم واصل المام )عليه السلم( الدعاء قائ ً
» .1مخضلة« :من مادة »خضل« على وزن عمل اليلل والرطوبة وتستخدم كناية للسنوات المليئة بالمطار ونزول البركة.
» .2هاطلة« :من مادة »هطل« على وزن سطل السيول والقطرات الضخمة.
» .3الودق« :حبات المطر ،كما تطلق على ذرات الماء الصغيرة التي تتعلق كغبار في الجو حين نزول المطر ،والمعنى الول هنا
أنسب.
» .4يحفز« :من مادة »حفز« على وزن نبض الدفع بشّدة.
لبة« وهى هنا إشارة إلى الغيوم ذات البرق والرعد الخالية من المطر.
» .5خّلب« :بمعنى خارع من مادة »الخ ّ
» .9شفان« :الرياح الباردة أو الجو البارد المقرون بالرطوبة )لسان العرب ومعجم دهخدا( وأصلها شفون على وزن فنون النظر
بطرف العين أو النظرة باعتراض ،ولعل اطلقها هنا على الرياح الشديدة لّنها تسبب انزاعاج الطرف المقابل.
» .12مجدب« :من مادة الجفاف بسبب قطع الماء ويقال مجدب لمن ُاصيب بالجفاف والقحط.
] [ 88
حِميُد).«(2
ي اْل َ
ت اْلَوِل ّ
ك َوَأْن َ
حَمَت َ
شُر َر ْ
طواَ ،وَتْن ُ
ن َبْعِد َما َقَن ُ
ث ِم ْ
ل اْلَغْي َ
ك ُتْنِز ُ
ن)َ ،(1فِإّن َ
سِنُتو َ
ِبَبَرَكِتَها اْلُم ْ
فقد بّين المام في هذه العبارة تسع أوصاف أخرى للمطار المفيدة النافعة ذات الخير والبركة ،حيث يبلغ عدد
الصفات مع ذكر سابقًا 29صفة ،حّقا إّنه لمن دواعي العجب والدهشة أن يستسقي المام )عليه السلم( ويوصف
المطر بتسع وعشرين صفة بينما يصف ذلك الطالبون عادة بصفة ،أو صفتين فيبتهلون إلى ال سبحانه وتعالى أن
أسقنا الغيث المبارك ،ومن هنا ل يشعر النسان سوى بالحيرة والذهول حين يتأمل عبارات أمير المؤمنين
علي)عليه السلم( ،لقد استفرغ المام أقصى فصاحته وبلغته في هذه الخطبة وشرح طلبه إلى ال تعالى بما
ن مسار النعمة مليىء بكثير من الموانع بحيث ل يسعهم يعّرف الناس بلطف ال تعالى وفضله ورحمته ويفهمهم أ ّ
بلوغ الكمال المنشود ما لم تشملهم رعاية ال ورحمته ،والحق يتعذر مثل هذا المنطق على من لم يكن مؤيدًا من
عند ال ويؤيد بروح القدس.
—–
شّ
ق ح الّثوب ِإذا اْن َ ل :لنصا َ
ل ُيقـا ُ
ن اَلمحو ِ شّقَقتْ َم َ
جِبالَنا( أي َت َ
ت ِ ح ْصا َ
عْنُه َقوِلِه) :ان َ
ل َيا ُ ف ِرض َ شِري ُ سيُد ال ّل ال ّ»َقا َ
ت َوالُهَياُم:
ش ْطَعِ
ت َدَواّبنا( أي َ س ُكّلُه َوَقوُلُه )ؤزهـاَم ْ
ف َوَيِب َج ّصّوح إذا َ ح َو َ ضا َ
ت َو َ ح اّنب ُ
صا َ ل َأيضًا :ان َ َوُيقـا ُ
شّبُه ِبهـا السّنة اّلتي َفشا ِفيها
سيرَ ،ف َي الّناقَة اّلتي أنضـاَها ال ّ جدبار ،وه َ ن( جمع ِ سني َ
حَداِبيُر ال ّ
شَ ،وَقوُلُه ) َط ُ الَع َ
ل ذو الّرّمة: بَ ،قا َجد ُ ال َ
] [ 89
سحاب.
ن ال ّ
صغار الُمَتَفّرقة ِم َ
ل َفَزعَِرباَبها( الَقَزع :الَقطُع ال ّ
َوَقوُلُهِ) :و َ
لمطاُر الّلّينة،
ب :ا َ
شّفان :الّريح البـارَدُة ،والّذها ُ
شّفان َذهاُبها ،وال َ
ت َ
ل َذا َ
ن َتقديَرِه :و َ
شّفان ِذَهاُبها( فا ّل ََوَقوُلُهَ) :و َ
ت( ِلعلِم الساِمِع ِبِه«.
ف )ذا َخَذ َ َف َ
—–
تأّملن
1ـ صلة الستسقاء
وقد ورد في بعض الروايات التصريح بأن يحملوا معهم إلى الصحراء الشيوخ و النساء والطفال وحتى
الحيوانات الجائعة العطشى وأن يفّرق بين الباء وأولدهم بهدف التأثير على الناس حين يّتجهون إلى ال في
الدعاء).(1
ن تعذر عليهم القيام بكل هذه المور تابوا إلى ال واستغفروه من ذنوبهم ورفعوا أيديهم
فا ّ
.1ذكرت آداب صلة الستسقاء في أغلب المصادر الفقهية وكتب الحديث ومنها جواهر الكلم 12/127وتحرير الوسيلة للمام
الخميني ،ج 1و ج ،5ص 162من وسائل الشيعة.
] [ 90
حّقا إّنها لمراسم ذات آثار عجيبة أدناها حالة التضرع والخشوع التي يعيشها الداعي إلى ال تعالى ،فهى تربط
الفرد بالذات اللهّية المقّدسة ل سبحانه الرحمن الرحيم وتؤّدي إلى نزول الرحمة وشموله بها.
ن لهذه الصلة أثارها الكبيرة في تربية النفوس والتوبة من الذنوب والعودة إلى الطهر والعفاف،
أضف إلى ذلك فا ّ
ن رسول الوالذي يستتبع أحيانًا نزول المطر الذي يعود على الجميع بالخير والبركة ويستفاد من الروايات أ ّ
)صلى ال عليه وآله( كان يدعو بدعاء الستسقاء حين يشكو إليه الناس من القحط والجدب ،فكانت تنزل المطار
بما يجعل الناس يطلبون توقفها).(1
ن أمير المؤمنين )عليه السلم( أورد هذه الخطبة بعد صلة الستسقاء حيث جاء في بعض وتفيد القرائن أ ّ
خرجنا ِإَليك« التي تكشف اتجاهه )عليه السلم(
الروايات التي نقلت هذه الخطبة بصورة تامة العبارة» :الّلهّم إّنا َ
ن عليًا )عليه
مع الناس إلى الصحراء ويختص هذا العمل عادة بصلة الستسقاء ،وورد في بعض الروايات أ ّ
السلم( بكى آخر هذه الخطبة وقد سأل ال سبحانه وتعالى بعبارات تفيض لوعة وحرقة.
وسيأتي تفاصيل ذلك حين شرحنا للخطبة 143من نهج البلغة الواردة بشأن صلة الستسقاء.
—–
وردت عّدة أبحاث في الكتب الفلسفية والكلمية والتفسيرية بشأن فلسفة الفات والبلء ،فالذي يستفاد من القرآن
سْلَنا
لَ) :وَما َأْر َ
لمم حين ظهور النبياء بغية إيقاظهم ،حيث صّرح القرآن الكريم قائ ً الكريم هو تشديد البلء على ا ُ
ن().(2
عو َ
ضّر ُ
ضّراِء َلَعّلُهْم َي ّ
ساِء َوال ّ
خْذَنا َأْهَلَها ِباْلَبْأ َ
ل َأ َ
ى ِإ ّ
ن َنِب ّ
ِفي َقْرَية ِم ْ
] [ 91
ن هذا القانون عام ودائمي يهدف إلى الستعداد لتقبل دعوة النبياء ،فكانت تقع الحوادث الليمةفالية تشير إلى أ ّ
لمم ،ورّبما
لمم وحين بروز الغفلة وذلك بهدف القضاء على تلك الغفلة وايقاظ تلك ا ُ
من جانب ال طيلة تاريخ ا ُ
تكون هذه الحوادث الليمة والمفجعة نتيجة لذنوب الناس ،والهدف أيضًا الفساد والنابة والعودة إلى ال ،فقد جاء
ن()
جُعو َ
عِمُلوا َلَعّلُهْم َيْر ِ
ض اّلِذي َ
ت َأْيِدي الّناسِ ِلُيِذيَقُهْم َبْع َ
سَب ْ
حِر ِبَما َك َ
ساُد ِفي اْلَبّر َواْلَب ْ
ظَهَر اْلَف َ
في الية القرآنيةَ ) :
.(1
ن أحد طرق التربية اللهّية هو هذه الحوادث الليمة الطبيعية أو الجتماعية ،والقحط يمكن أن وهكذا يتضح أ ّ
يكون أحد هذه الحوادث ،كما أشار المام )عليه السلم( إلى ذلك في الخطبة المذكورة ،حيث قال في هذه الخطبة:
خَذَنا ِبُذُنوِبَنا«.
ل َتْأ ُ
عَماِلَناَ ،و َ
خَذَنا ِبَأ ْ
ل ُتَؤا ِ
ن َ
سَواُمَ ،أ ْ
ك ال ّ
لَناُمَ ،وُمِنَع اْلَغَماُمَ ،وَهَل َ
ط ا َْ
ن َقَن َ
حي َ
ك ِ
عو َ
»َنْد ُ
وقد ورد هذا المطلب بصورة أوضح في الخطبة ،143حيث حذر فيه الناس حين القحط بالنزوع عن المعاصي
والحتراز من الذنوب والنابة إلى ال سبحانه وتعالى ،واستشهد )عليه السلم(بآيات من سورة نوح بهذا
الخصوص وهذا ما سيرد ذكره إن شاء ال في محّله.
—–
] [ 92
] [ 93
الخطبة)116 (1
القسم الول :وصف بليغ للنبي الكرم )صلى ال عليه وآله( وجهاده العظيم في إبلغ الرسالة ودعوة الناس إلى
السلم.
القسم الثاني :التوجه إلى الناس بالوعظ والرشاد والنصيحة ،المواعظ المؤثرة والبالغة.
ل في ايقاظ
القسم الرابع والخير :الذي يختص بالخبار عن فتنة طاغ واستعراض جانب من جناياته وجرائمه أم ً
ل سبحانه والعودة إلى وحدة ونبذ الخلفات والفرقة.
الناس والوقوف بوجه هذه الجرائم من خلل التوبة إلى ا ّ
—–
.1سند الخطبة:
تتضمن الخطبة إشارة إلى موضوع خلفة الحجاج للكوفة وما إرتكب فيها من جرائم ،وقد نقل أغلب المؤرخين والمحّدثين هذا الجانب
من الخطبة ومنهم ابن عبد ربه في العقد الفريد ،والمسعودي في مروج الذهب ،والزهري في تهذيب اللغة ،وابن الفقيه في كتاب
البلدان ،وابن أثير في النهاية ،والديلمي في الرشاد )مصادر نهج البلغة .(2/259
] [ 94
] [ 95
القسم الّول
غْيَر
عَداَءُه َ
ل َأ ْ
جاَهَد ِفي ا ّ
صرَ ،و َ
ل ُمَق ّ
غْيَر َوان َو َ
ت َرّبِه َ
ل ِ
سا َ
قَ .فَبّلَغ ِر َ
خْل ِ
عَلى اْل َ
شاِهدًا َ
ق َو َحّ عيًا ِإَلى اْل َ
سَلُه َدا ِ
»َأْر َ
ن اْهَتَدى«. صُر َم ِ ن اّتَقىَ .وَب َ
ل ُمَعّذرِ .إَماُم َم ِ َواِهن َو َ
—–
الشرح والتفسير
ففي القسم الول من هذه الخطبة أشار إلى الجهود الجبارة التي بذلها رسول ال )صلى ال عليه وآله( في إبلغ
الوحي ونشر الرسالة من أجل ترقيق قلوب المخاطبين فيتعرفوا على أهمّية هذا الميراث العظيم ول يتوانوا في
ق«.
خْل ِ
عَلى اْل َ
شاِهدًا َ
ق َو َ
حّعيًا ِإَلى اْل َ
سَلُه َدا ِ
الدفاع عنه والتصدي لهجمات خصوم الدعوة ،فقال )عليه السلم(َ» :أْر َ
فالواقع أخلص المام )عليه السلم( الرسالة السلمية التي نهض بها النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( في
هاتين العبارتين ،قد دعى إلى الحق وإبلغ الحكام الشرعية من جانب ،وأشرف على حسن تطبيقها من جانب
آخر ،أّما شهادة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( فقد قيل المراد بها الشهادة على أعمال الناس أو الشهادة على
لِء
عَلى َهُؤ َ
ك َ
جْئَنا ِب َ
شِهيد َو ِ
ل ُأّمة ِب َ
ن ُك ّ
جْئَنا ِم ْ
ف ِإَذا ِ
النبياء في يوم القيامة حيث ورد في القرآن الكريمَ) :فَكْي َ
شِهيدًا().(1
َ
] [ 96
ن المراد بالشهادة إطلع النبي )صلى ال عليه وآله( على أعمال لكن ظاهر كلم المام )عليه السلم( يشير إلى أ ّ
ن وظيفة النبي )صلى ال عليه وآله( ل الناس من أجل إمتثال الوامر اللهّية في هذه الدنيا ،وبعبارة أخرى فا ّ
تقتصر على إبلغ الدعوة إلى الحق ،بل تتبع إجراء وتطبيق تلك الدعوة وهذا هو معنى إمامته ووليته التشريعية،
ول مانع طبعًا من الجمع بين المعنيين في أّنه شاهد على العمال في هذا العالم وكذلك شاهد عليها في العالم
الخر.
ثم خاض في بيان أوصاف نبي السلم )صلى ال عليه وآله( ليذكر ست صفات آخر فقال) :صلى ال عليه
ن اّتَقى.
ل ُمَعّذر)ِ .(2إَماُم َم ِ
غْيَر َواِهن َو َ
عَداَءهُ َ
ل َأ ْ
جاَهَد ِفي ا ّ
صرَ ،و َ
ل ُمَق ّ
غْيَر َوان)َ (1و َ
ت َرّبِه َ
ل ِ
سا َ
وسلم(َفَبّلَغ ِر َ
ن اْهَتَدى«.
صُر َم ِ َوَب َ
فقد تضمنت هذه العبارة القصيرة جميع الخصائص التي ينبغي توفرها في القائد الشجاع المقتدر ،عدم الضعف
والوهن والتقصير ومجاهدة العدو وعدم العتذار والتذرع ،ومن جانب آخر فاّنه عّد النبي )صلى ال عليه وآله(
إمام المتقين ووسيلة هداية المبصرين ،حيث يذود عنه الفراد من المفسدين ويقصي المضلين المعاندين.
نعم ،الكثيرون هم الفراد الذين يخلقون الذرائع والحجج الواهية بهدف التغطية على تقصيرهم وعدم جّدهم
واجتهادهم ،ويستبعد ذلك من زعيم شجاع ومدير مدّبر فل يّتجه صوب الحجج والذرائع.
فالعبارات المذكورة تشير في الواقع إلى مدى ضعف أهل الكوفة ووهنهم وتركهم للجهاد وتشبثهم بالذرائع من
ن نبّيكم لم يكن كذلك فما بالكم تقيمون على
أجل الفرار من المسؤوليات ،فالمام )صلى ال عليه وآله( يذكرهم بأ ّ
هذا الحال.
—–
» .1وان« :من مادة »ونى« على وزن وحي بمعنى الضعف والتثاقل ،ويقال الواني لمن يتباطىء في العمال.
» .2معذر« :من مادة »عذر« تقال لمن يعتذر ول يثبت له عذر.
] [ 97
القسم الثاني
عَلى
ن َعَماِلُكْمَ ،وَتْلَتِدُمو َ
عَلى َأ ْ ن َ ت َتْبُكو َ صُعَدا ِجُتْم ِإَلى ال ّ خَر ْ
غْيُبُهِ ،إذًا َل َ
عْنُكْم َ
ي َ طِو َعَلُم ِمّما ُن َما َأ ْ و منهاَ» :لْو َتْعَلُمو َ
غْيِرَها. ت ِإَلى َ ل َيْلَتِف ُ
سُهَ ، ل اْمِرىء ِمْنُكْم َنْف ُ ت ُك ّ
عَلْيَهاَ ،وَلَهّم ْف َ خاِل َ
ل َ س َلَها َو َحاِر َل َ سُكْمَ ،وَلَتَرْكُتْم َأْمَواَلُكْم َ َأْنُف ِ
ق َبْيِنيل َفّر َنا ّ ت َأ ّعَلْيُكْم َأْمُرُكْمَ .وَلَوِدْد ُ
ت َ شّت َ
عْنُكْم َرْأُيُكْمَ ،وَت َ
حّذْرُتْمَ ،فَتاَه َ
سْيُتْم َما ُذّكْرُتْمَ ،وَأِمْنُتْم َما َُوَلِكّنُكْم َن ِ
ي.
ك ِلْلَبْغ ِ
قَ ،مَتاِري ُ حّ ل ِباْل َ
حْلِمَ ،مَقاِوي ُ ح اْل ِ
جي ُ
يَ ،مَرا ِن الّرأ ِ ل َمَياِمي ُ ق ِبي ِمْنُكْمَ .قْوٌم َوا ّحّ ن ُهَو َأ َحْقِني ِبَم ْ َوَبْيَنُكْمَ ،وَأْل َ
ظِفُروا ِباْلُعْقَبى الّداِئَمِةَ ،واْلَكَراَمِة اْلَباِرَدِة«. جِةَ ،ف َ حّ
عَلى اَْلم َ جُفوا َطِريَقِة َوَأْو َ عَلى ال ّ ضْوا ُقُدمًا َ َم َ
—–
الشرح والتفسير
يحذر المام )صلى ال عليه وآله( في هذا المقطع من الخطبة كافة الفراد الذين يبدون الضعف في مجاهدة العدو
ن الفاق المعتمة إّنما الغادر والغاشم ،ويتهربون من المسؤولية من خلل اللجوء إلى بعض الحجج والعذار ،في أ ّ
تكمن أمامكم ،والمستقبل المظلم الذي يتسلط فيه العدو عليكم ويهيمن على مقدراتكم وسيصبون عليكم جام غضبهم
ت)(2 جُتْم ِإَلى الصُّعَدا ِ
خَر ْ
غْيُبُهِ ،إذًا َل َ
عْنُكْم َ
ي)َ (1
طِو َ
عَلُم ِمّما ُ
ن َما َأ ْ
بما يجعلكم تفقدون صوابكم وعقلكمَ» :لْو َتْعَلُمو َ
سُكْم«.
عَلى َأْنُف ِ
ن)َ (3عَماِلُكْمَ ،وَتْلَتِدُمو َ
عَلى َأ ْ
ن َ
َتْبُكو َ
» .1طوى« :من مادة »طي« بمعنى الكتمان والخفاء وُاريد بها هنا الكتمان.
» .2صعدات« :جمع »صعيد« بمعنى بقعة الرض والتراب والمواضع المرتفعة من الرض ،وهى هنا إشارة إلى الصحراء والجبل
ن صعدات جمع صعد على وزن دهل وصعدات جمع الجموع. والسهل ،وصّرح البعض بأ ّ
» .3تلتدمون« :من مادة »لدم« على وزن لفظ بمعنى الضرب وإلتدام بمعنى ضرب النساء صدورهن للنياحة.
] [ 98
سُهَ ،
ل ل اْمِرىء ِمْنُكْم َنْف ُ
ت ُك ّ
عَلْيَهاَ ،وَلَهّم ْ
ف)َ (1
خاِل َ
ل َ
س َلَها َو َ
حاِر َ
ل َ
بل قد ل تكتفون بذلكَ» :وَلَتَرْكُتْم َأْمَواَلُكْم َ
غْيِرَها«.
ت ِإَلى َ
َيْلَتِف ُ
فهذه العبارات تجسد حال الشخص الذي يبتلى بمصائب عظمية بحيث ينسى كل شيء سوى إنقاذ نفسه ،فقد إّتجه
صوب الصحراء ويتابع لطم وجهه ورأسه يسكب دموعه ويتعالى صراخه ،كما يسعى إلى التخلي عن أموال رغم
مالها من أهّمية لديه ومدى الجهود التي بذلها من أجل الحفاظ عليها ،إلى جانب ذلك فهو ل يعير أهّمية لمن خلفه
حتى أّنه لينسى أعّزته وبطانته.
ن هذه العبارات ترتبط بأهوال يوم القيامة والتي وردت في مختلف اليات ويرى بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
القرآنية ،لكن بالنظر إلى ذيل الخطبة الذي يتحدث عن جرائم الحجاج وسبب الخطبة الذي يفيد ضعف أهل الكوفة
ن المعنى المذكور يبدو بعيدًا ،والظاهر أّنها ناظرة إلى سلطة بني ُامية والجرائم المروعة التي في جهاد العدو ،فا ّ
إرتكبها الحجاج وأمثاله.
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه بالشارة إلى المصدر الرئيسي الذي انبثقت منه هذه الحوادثَ» :وَلِكّنُكْم
عَلْيُكْم َأْمُرُكْم«.
ت َ
شّت َ
عْنُكْم َرْأُيُكْمَ ،وَت َ
حّذْرُتْمَ ،فَتاَه)َ (2
سْيُتْم َما ُذّكْرُتْمَ ،وَأِمْنُتْم َما ُ
َن ِ
ن الحوادث الليمة التي تنتظركم إّنما تأتيكم بغتة،كل ليس المر كذلك ،فقد
ل ينبغي لكم أن تتصوروا أبدًا بأ ّ
حذرتكم مرارًا ،وأّديت لكم حق الوعظ والنصح ،وكشفت لكم المستور ،ثم أنذرتكم ،لكن للسف لم تعيروا وعظي
ونصحي آدانا صاغية ،فقد نسيتم كل ما ذكرته لكم وتجاهلتم كل الرشاد ،ومن هنا لم تمارسوا ما ينبغي عليكم في
موقعه وأوانه ولم تعدوا الخطط اللزمة للوقوف بوجه العداء فلم تكن نتيجة ذلك الذي ل مثيل له في التاريخ.
ق ِبي ِمْنُكْم«.
حّ
ن ُهَو َأ َ
حْقِني ِبَم ْ
ق َبْيِني َوَبْيَنُكْمَ ،وَأْل َ
ل َفّر َ
نا ّ
ت َأ ّ
ثم قال المام )عليه السلم(َ» :وَلَوِدْد ُ
إشارة إلى أّنه طالما تعذر إصلحكم فيا ليتني فارقتكم ،وليت القدر اللهي أذن بالتحاقي
» .1خالف« :من مادة »خلوف« من يخلف في الهل والمال حين الخروج إلى السفر أو الحرب ،كما وردت بمعنى الفرد الكثير
ن المراد هنا هو المعنى الول.
الخلف ،إّل أ ّ
] [ 99
ن)(1ل َمَياِمي ُ
ثم خاض )عليه السلم( في شرح خصائص القوم الذين يراهم ينسجمون وأفكاره وتوجهاتهَ» :قْوٌم َوا ّ
جِة،
حّعَلى اَْلم َ
جُفوا َ طِريَقِة َوَأْو َ
عَلى ال ّ
ضْوا ُقُدمًا)َ (4
يَ .م َ
ك)ِ (3لْلَبْغ ِ
قَ ،مَتاِري ُحّ ل ِباْل َ
حْلِمَ ،مَقاِوي ُ
ح) (2اْل ِ جي ُ
يَ ،مَرا ِ الّرأ ِ
ظِفُروا ِباْلُعْقَبى الّداِئَمِةَ ،واْلَكَراَمِة اْلَباِرَدِة«.
َف َ
فهذه العبارات إشارة واضحة إلى النبي )صلى ال عليه وآله( وطائفة من صحبه ممن يتصف بالخصائص
المذكورة الست ،صفتان في برامج الحياة )نصرة الحق ومصارعة الظلم( وصفتان في العمل )النطلق باتجاه
الحق والسرعة من أجل بلوغ الهدف( وصفتان في الفكر )التحلي بالفكر الناضج والعقل التام( ،فبّين أيضًا نتيجة
هذه الصفات والتي تتمثل بالسعادة المطلقة والحياة الحّرة الكريمة.
—–
ل تقتصر المظلومية على أن يقتل النسان من قبل فئة ظالمة جبارة ناقضة للعهود وغادرة في معركة ليست
متكافئة فحسب ،بل من أسوأ نماذج المظلومية أن يرى النسان الكفوء والمدير الناجح والمر المقتدر والخبير
الماهر والسياسي اليقظ والواعي نفسه وسط طائفة ل تنسجم وأفكاره وكفاءته ول يسعها الحركة باتجاهه ،فهى
تفعل على العكس من كل ما يقول ول تتحرك خلفه مهما حذرها وأنذرها ،فهى فرقة مشتتة وجاهلة وضعيفة وهنة
مسلوبة الرادة ،فابتلء مثل هذا الزعيم بمثل هؤلء التباع يؤّدي إلى ضياع القيم وتناسي الفكار ،بل أبعد من
ذلك يذهب بعض الجّهال إلى إتهام هذا الزعيم بعدم القدرة على إدارة المور.
هذا هو أحد نماذج المظلومية والذي عاشه أمير المؤمنين )عليه السلم( في عصره ،وقد أشار إلى ذلك
» .4قدم« :من »مادة« قدوم بمعنى السبق ،وهي هنا إّما ظرف بمعنى في مسار السبق وإّما معنى جمعي بمعنى السابقون.
] [ 100
ل َأ ّ
ن ت َوا ّ
المام نفسه )عليه السلم( في أكثر من خطبة من خطب نهج البلغة ،فتارة يقول )عليه السلم(َ» :لَوِدْد ُ
ل ِمْنُهْم«).(1
جًطاِني َر ُ
عَشَرًة ِمْنُكْم َوَأ ْ
عَخَذ ِمّني َ
ف الّديَناِر ِبالّدْرَهِمَ ،فَأ َ
صْر َ
صاَرَفني ِبُكْم َ
ُمَعاِوَيَة َ
ل،
لا ّ تَ :يا َرسو َل)صلى ال عليه وآله وسلم(َ ،فُقْل ُ لا ّ سو ُ ي َر ُ حل َسَن َ
سَ ،ف َجاِل ٌ عْيِني َوَأَنا َ وأخرى يقولَ» :مَلَكْتني َ
شّرا َلُهْم
خْيرًا ِمْنُهْمَ ،وأْبَدَلُهْم ِبي َ
ل ِبِهْم َ
تَ :أْبَدَلني ا ّ
عَلْيِهْم« َفُقْل ُ
ع َ
ل» :اْد ُ لَوِد َوالّلَدِد؟ َفَقا َ
ن ا َْ
ك ِم َ
ن ُأّمِت َ
ت ِم ْ
َماَذا َلِقي ُ
ِمّني«).(2
والحق لعلنا ل نعثر طيلة التاريخ على زعيم وولي من أولياء ال قد واجه في مّدة قصيرة من حكومته بكل هذه
العداوة والبغضاء والقسوة والجلدة والعنف والطغوى ،وهذا أبشع أنواع المظلومية ،ومن هنا قيل» :علي )عليه
السلم( أول مظلوم في العالم«.
—–
] [ 101
القسم الثالث
حَة!«.
حَمَتُكْم ِإيه َأبا َوَذ َ
شْب َ
ضَرَتُكْم َوُيِذي ُ
خ ِ
ل َ
لَ .يْأُك ُ
ل اْلَمّيا ُ
لُم َثِقيف الّذّيا ُ
غَعَلْيُكْم ُ
ن َ
طّ
سّل َ
ل َلُي َ
»َأَما َوا ّ
—–
الشرح والتفسير
النتقام اللهي
إختتم المام)عليه السلم( الخطبة باستعراض صريح ل لبس فيه للخبار عن المصير السود الذي ينتظر أهل
حَمَتُكْم«.
شْ
ب َ
ضَرَتُكْم َوُيِذي ُ
خ ِ
ل َ
ل)َ .(2يْأُك ُ
ل) (1اْلَمّيا ُ
لُم َثِقيف الّذّيا ُ
غَعَلْيُكْم ُ
ن َ
طّ
سّل َ
ل َلُي َ
الكوفة فقالَ» :أَما َوا ّ
حَة!).«(3
ثم أردفها بالقولِ» :إيه َأبا َوَذ َ
ن المراد بغلم ثقيف هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي ينسب إلى قبيلة بني ثقيفأجمع شّراح نهج البلغة على أ ّ
والذي وّلى الكوفة على عهد عبدالملك بن مروان ،كان مشهورًا بقسوته وتعطشه للدماء وقد إختاره عبدالملك بن
مروان للنتقام من أهل الكوفة وإخماد الثورة ضد حكومة بني ُامية ،وكما أخبر المام )عليه السلم( في هذا
لمة وسفك دماءها ،وقد صور المام أوضاع الناس على عهده بقوله: الكلم ،فهو لم يرحم أحد وقد نهب أموال ا ُ
حَمَتُكْم«.
شْ
ب َ
ضَرَتُكْم َوُيِذي ُ
خ ِ
ل َ
»َيْأُك ُ
» .1الذيال« :من ماده »ذيل« آخر كل شيء وتصطلح العرب بالذيال على الشخص الذي تخط ذيال ثوبه على الرض ،ولما كان هذا
العمل يقوم به المتكبرون من الفراد ،فقد أطلقت الذيال على الفراد الذين يتصفون بالكبر والنانيه.
] [ 102
ن »خضرة« وإن كانت بمعنى محصول الحقول والراضي الزارعية ،لكنها هنا تشير إلى لبّد من اللتفات إلى أ ّ
كافة الموال التي نهبها الحجاج والعبارة يذيب شحمتكم كناية عن شدة الضغط الذي يتعرض له الناس فيصبحوا
على درجة من الضعف ،وكأّنه لم يبق لهم سوى الجلد والعظم ،وهذا هو مصير الفراد الذين يتمردون على القائد
لمة العادل معها كعلي )عليه السلم( .والمفردة »أيه« بالكسر والتنوين حسب تصريح الفذ والشفيق الرؤوف با ُ
أغلب أرباب اللغة تستخدم حين يراد تشجيع الشخص على مواصلة الكلم أو العمل وايها بتنوين الفتح تستعمل
حين يراد دعوة شخص للسكوت أوالمتناع عن العمل ،بالنظر إلى أنّ »ايه« وردت في نسخ نهج البلغة بتنوين
مكسور فالمفهوم ضاعف يا حجاج من ضغوطك على الفراد الطلحاء وضعفاء اليمان جاحدي الحق الطغاة
ن ُاولئك الفراد يستحقون ما يحلن هذه المفردة كناية في أ ّ
الذين يتمردون على إمامهم العادل! وبعبارة أخرى فا ّ
بهم من عذاب إلهي ،ل يعني ذلك رضى المام )عليه السلم( بأي مقدار من ظلم الحجاج.
ن هذا الدواء وإن كان مّرا لكنه العلج الذي يشفيك فل يصغي لما يقال له ،فان فالكلم أشبه بما نقوله لشخص إ ّ
ن مفهوم ذلك ليس اشتّد ألمه وتعالى صراخه وارتفع صوته نقول له :تألم أكثر! فهذه نتيجة عملك ،فمن البديهي أ ّ
ن تلك هى النتيجة الطبيعية لعدم إمتثاله لوامر الطباء والحكماء ،وهذا الكلم رضانا بألمه ووجعه ،بل معناه أ ّ
ن َ
ل لَ ،وَم ْ
طُ
ضّرهُ اْلَبا ِق َي ْ
حّل َوِإّنُه َمن ل َيْنَفُعُه اْل َ
شبيه ما أورده المام )عليه السلم( في الخطبة 28حيث قالَ» :أ َ
ل ِإَلى الّرَدى«.
ضل ُجّر ِبِه ال ّ
سَتِقيُم ِبِه اْلُهَدىَ ،ي ُ
َي ْ
وأّما وذحة فقد صرحت أغلب المصادر اللغوية من قبيل )لسان العرب ،مجمع البحرين ،أقرب الموارد( ،أّنها
تعني الخنفساء ،وقال البعض كصاحب القاموس والخليل بن أحمد في كتاب »العين« أّنها تعني بعرة الحيوان بوله
الذي يلتصف بصوفه.
وأّما بشأن انتخاب كنية »أبا وذحة« للحجاج فقد وردت فيها عّدة أراء ذكرتها التواريخ وشروح نهج البلغة،
ن الحجاج رأى يومًا خنفساء قرب موضع صلته فدفعها عنه ،فأتته ثانية فدفعها ،فلما أتته ثالثة أمسكها أنسبها أ ّ
ن ال تعالى أراد أن يرى هذا السّفاح مدى بيده وعصرها فعضته فورمت يده فأدى به الورم إلى الموت ،وكأ ّ
قدرته حيث قضى عليه وبواسطة
] [ 103
أحقر مخلوقاته ،على غرار النمرود ذلك الطاغية المعروف والذي ولجت أنفه بعوضة قضت عليه.
ن الحجاج كان يتنفر من الخنفساء فلم تكد تقع عينيه عليها حتى يأمر غلمانه بدفعها ،ومن هنا
وقال البعض أ ّ
ن الحجاج
إصطلحت عليه الناس أبا وذحة ،ول يبدو مناسبًا أن نذكر هنا سائر ما ورد في هذا الشأن وخلصته أ ّ
كان يشكو من مرض جنسي ،فكان يعالج مرضه بالخنفساء ،وقد صّرح ابن أبي الحديد بعد ذكره لهذه الروايات
ن عادة العرب جرت على ذكر الفرد بكنيته حين الحترام ن المام )عليه السلم( إختار هذه الكنية للحجاج ل ّأّ
وذلك للعظمة ،وإن أرادواتحقيره ذكروه بالكنية أيضًا من قبيل كنية عبدالملك بن مروان بأبي الذّبان ،حيث كان
الذباب يتجمع على فمه لخبث رائحته )أو كان حتى الذباب ينفر منه كما صّرح بذلك البعض( ،وكذلك كنية يزيد
بن معاوية بأبي زنة).(1
—–
قال الشريف الرضي آخر هذه الخطبة» :الوذحة الخنفساء« وهذا القول يؤمى به إلى الحجاج وله مع الوذحة
حديث ليس هذا موضع ذكره.
—–
من هو الحجاج؟
الحجاج من أبشع الطغاة الذين عرفهم التاريخ البشري ،وقد ألفت مختلف القصص التي تعني بجرائمه وجناياته
والتي يصعق لها كل من طيلع عليها ،كان والي عبدالملك بن مروان على الكوفة ،وعبدالملك خامس الخلفاء بني
ُامية ،وقيل في صفة الحجاج أّنه كان دميم الخلقة كريه المنظر قصير القامة ضعيف أعوج الرجلين أبرص ولعل
سفكه للدماء وولعه بها ناشيء من تلك العقدة والشعور بالحقارة ،وقد ذكر المؤرخ المعروف المسعودي في
ن أعظم لذته في سفك الدماء والتيان بالفعال التي ل يقوم بها الخرون«)
»مروج الذهب«» :بأّنه كان يعترف بأ ّ
.(2
] [ 104
تولى إمارة الحجاز »مكة والمدينة« من قبل عبدالملك بن مروان لسنتين فارتكب أبشع الفضائع ومنها قصفه
الكعبة بالمنجنيق ،ثم وضع النار على طائفة من صحابة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(المعروفين مثل جابر
بن عبدال النصاري ،وأنس بن مالك ،وسهل بن الساعدي على أّنهم اشتركوا في قتل عثمان ،ثم وجهه عبدالملك
إلى العراق ووله البصرة والكوفة ،حكم الحجاج مّدة عشرين سنة وبلغ من قتلهم الحجاج مئة الف وعشرين من
غير الذين قتلوا على يديه وأعوانه في الحروب ،كان في سجنه حين مات خمسون ألف رجل ثلثين ألف وإمرأة
ستة عشر ألف منهم عراة ،وكان يضع النساء مع الرجال ولم يكن لسجنه سقف فكانوا يعانون من شّدة الحرارة في
الصيف والبرودة في الشتاء.
ن حرس السجن كانوا يرمون السجين بالحجر إن لذ بالجدار من شّدة حرارة الشمس ،وكان وقال ابن الجوري :أ ّ
ل من الخبز المخلوط بالملح والرماد ،فكان يسود وجه من يدخل السجن بحيث ل تعرفه ُامه حين تأتي
طعامهم قلي ً
لرؤيته.
ولعل أبلغ كلم قيل في الحجاج ما ذكره الشعبي حين قال» :لو أخرجت كل ُامة خبيثها وفاسقها وأخرجنا الحجاج
بمقابلتهم لغلبناهم«.
وكان موته ذا عبرة أيضًا حيث أصيب بمرض شديد فكان يصرخ بشّدة من اللم حيث كانت تسيطر عليه برودة
شديدة فيضعون قربه ظروفًا مملوءة بالنار حتى كان يحترق جلده وهو يرتعش من البرد.
نعم ،لقد احترق بنار الدنيا قبل نار الخرة ،توفي في الرابعة والخمسين من عمره عام 95هـ فإلى جهّنم وبئس
المصير(1).
—–
.1مروج الذهب ;36/166وتاريخ ابن الجوزي حسب نقل سفينة البحار ،وسيرة الئمة ;244/ ،وشرح نهج البلغة للمرحوم
التستري .6/12
] [ 105
الخطبة)117 (1
ن هذه الخطبة القصيرة هى جزء من خطبة طويلة فصلها المرحوم السيد الرضي ،ومن هنا لم يتضح سبب
يبدوا أ ّ
ووردها ول أقسامها الولى :والخرة ،مع ذلك فهى تشتمل على عبارات مؤثرة ومعّبرة رغم قصرها.
ن المام )عليه السلم( أورد هذه العبارات ضمن خطبة في نهاية معركة صفين
ويستفاد من بعض المصادر) (2أ ّ
فهى تناسب تلك الجواء تمامًا.
حون في بذل الموال والنفس في سبيلن المام )عليه السلم( عرض بالذم المخاطبيه الذين يس ّعلى كل حال فا ّ
ال سبحانه وتعالى فقال لهم اعتبروا بتاريخ أسلفكم واتعظوا بحياتهم كيف تركوا كل شيء وارتحلوا عنه.
—–
.1سند الخطبة:
ن أي مصدر غير نهج البلغة لم يتعرض لنقل هذه الخطبة ،ويكتفي بالشارة إلى كلم ابن أبي الحديد ورد في مصادر نهج البلغة أ ّ
ن هناك
في آخر هذه الخطبة وقال :جاء في بعض الروايات »أصل اخوانكم« بدًل من »أوصل إخوانكم« ويستفاد إجماًل من هذا الكلم أ ّ
مصدرًا آخر لبن أبي الحديد في هذه الخطبة.
] [ 106
] [ 107
نا ّ
ل عَباِدِهَ ،ول ُتْكِرُمو َ
عَلى ِ
ل َن ِبا ّخَلَقَهاَ .تْكُرُمو َ
طْرُتْم ِبَها ِلّلِذي َ
خا َس َ ل َأْنُف َ
ل َبَذُْلتُموَها ِلّلِذي َرَزَقَهاَ ،و َ ل َأْمَوا َ
»َف َ
خَواِنُكْم«.
ل ِإ ْ
صِن َأْو َعْ عُكْم َ
طا ِ
ن َقْبَلُكْمَ ،واْنِق َ
ن َكا َل َم ْعَتِبُروا ِبُنُزوِلُكْم َمَناِز َ
عَباِدِه! َفا ْ
ِفي ِ
—–
الشرح والتفسير
الفكر والعتبار
ل َأْمَوا َ
ل إستهل المام )عليه السلم( هذه الخطبة بذّم طائفة من أصحابه وهو يعتب غليهم ويوبخهم فقالَ» :ف َ
خَلَقَها«.
طْرُتْم ِبَها ِلّلِذي َ
خا َ
س َ
ل َأْنُف َ
َبَذُْلتُموَها ِلّلِذي َرَزَقَهاَ ،و َ
ن ال تبارك وتعالى خالق النفس هو المالك الصلي لهذه الموال ،وهذه الموال والنفس أمانة فالواقع هو أ ّ
ل أّنكم أخلدتم إليها وإلتصقتم بها وكأّنكم أنتم المالك الصلي
استودعها ال سبحانه الناس مّدة من الزمان ،وإ ّ
والخالق لها ،وهذا قمة الجهل بالواقع ،فالعبارة تبدو متناسبة تمامًا وإلقاء هذا الكلم بعد معركة صفين ،حيث كانت
هناك فئة في جيش المام )عليه السلم( لم تكن مستعدة للمخاطرة بأرواحها دفاعًا عن الحق ولم تكن حاضرة لبذل
ما في أيديها من أموال لتجهيز جند السلم.
ن هذا الزدواج لشيء عجيب في أن يتوقع النسان أن يعّزه ويكرمه الناس على أّنه عبد من عباد ال ،بينماحقًا إ ّ
ل يكرم أي من عبيد ال سبحانه ،فهو ل ينفق شيئًا من ماله ول يضحي
.1ورد الفعل تكرمون بصيغة الفعل الثلثي المجرد المعلوم الذي يعني الكرام والحترام ،وهى هنا بمعنى انتظار الكرام.
] [ 108
ثم يختتم المام )عليه السلم( كلمه بتحذيرهم وضرورة العتبار بمن سبقهم حيث سيجري عليهم نفس الحكم،
وإن كانوا رحلوا فسترحلون ويأتي قوم آخرين يسكنون مساكنكم كما سكنتم منازل من كان قبلكم كما عليهم
التعاظ بانفصام عرى القرابة حتى مع أقرب إخوانكم ،فقد رأيتم بأعينكم ذهاب بعض أعزتكم وقريبًا ما تلحقون
خَواِنُكْم«.
ل ِإ ْ
صِن َأْو َ
عْعُكْم َ
طا ِ
ن َقْبَلُكْمَ ،واْنِق َ
ن َكا َ
ل َم ْ
عَتِبُروا ِبُنُزوِلُكْم َمَناِز َ
بهمَ» :فا ْ
ن كافة الموال والنفس ودائع وهى مخلوقة جميعًا ل ،وأّنه سبحانه يداول هذه الموال
فهذا دليل آخر على أ ّ
والمساكن والمناصب بين الناس إلى أجل مسمى ،والتاريخ أعظم شاهد على هذا المر.
فلسنا أول من وطأنا هذا العالم ،ولسنا بأخر من يغادره ،إننا حلقة صغيرة ضمن هذه السلسلة الطويلة الممتدة منذ
بداية الخليقة حتى نهاية العالم ،فمن الغفلة أل نرى الحلقات السابقة واللحقة ،فل نعرف موقعنا في هذا العالم
ونرى هذه الدنيا خالدة دائمة لنا.
ن المام )عليه السلم( كشف النقاب عن المكنون بهذه العبارات بما يوقظ النائم الغافل ويقض وزبدة الكلم فا ّ
مضجع من يشهد سكر المال والمقام والجاه.
—–
] [ 109
الخطبة)118 (1
ن المام )عليه السلم( أورد هذا الكلم بعدكما ذكر في سند هذه الخطبة فقد صّرح بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
معركة الجمل ،حيث كان أصحاب المام )عليه السلم( وحدة واحدة وصفوف متراصة مطيعة لوامره
وتوجيهاته فحققوا نصرًا سريعًا باهرًا بعد أن قضوا بكل شجاعة وبسالة على فلول العدو وأخمدوا نار الفتنة.
فققد أثنى المام )عليه السلم( عليهم بهذه العبارات البليغة القصيرة ،ثم أوصاهم بمواصلة السير على هذا النهج،
وأخيرًا إختتم خطبته بإشارة عابرة إلى مقام وليته
—–
.1سند الخطبة:
نقل هذه الخطبة المؤرخ المعروف الطبري في كتابه »تاريخ اُلمم والملوك« ،وابن قتيبة الدينوري في كتاب »المام والسياسية«،
وابن أبي الحديد الذي قال في شرح هذه الخطبة ،قال علي )عليه السلم( هذا الكلم بعد معركة الجمل ،كما نقلها المدائني ،والواقدي
في كتبهما )مصادر نهج البلغة .(2/261
] [ 110
] [ 111
ب اْلُمْدِبَر،
ضِر ُ
سِ .بُكْم َأ ْ
ن الّنا ِ
طاَنُة ُدو َ
سَ ،واْلِب َ ن َيْوَم اْلَبْأ ِ
جَن ُ
نَ ،واْل ُ
ن ِفي الّدي ِ
خَوا ُ
لْ قَ ،وا ِْ
حّ عَلى اْل َ صاُر َ لْن َ
»َأْنُتُم ا َْ
س!«.س ِبالّنا ِ لْوَلى الّنا ِل ِإّني َ
بَ .فوا ّن الّرْي ِ سِليَمة ِم َ شَ ، ن اْلِغ ّ خِلّية ِم َ
حة َ
صَعيُنوِني ِبُمَنا َلَ .فَأ ِ
عَة اْلُمْقِب ِ
طا َ
جو َ َوَأْر ُ
—–
الشرح والتفسير
الصحاب الوفياء
شحنت أغلب خطب نهج البلغة بالذم الشديد بالنسبة لطائفة من أصحاب المام )عليه السلم(خاصة بعد معركة
صفين على ما أبدوه من ضعف وفرقة وغدر في ميدان المعركة ،لكن في هذه الخطبة التي وردت بعد معركة
ن المام )عليه السلم( يعرض بالمدح والثناء البليغ على أصحابه الوفياء ،ويدل هذا بوضوح على أ ّ
ن الجمل ،فا ّ
المام )عليه السلم( كان على الدوام يحث المحسنين من أصحابه ويرغبهم في العمال الصالحة ،كما كان يذم
المسيئين منهم ،ليخلص الفريق الول في عمله ويلتصق به ،ويرعوي الفريق الثاني ويهم بإصلح نفسه ،فقد
ن)(1جَن ُ
نَ ،واْل ُ
ن ِفي الّدي ِ
خَوا ُ
لْقَ ،وا ِْ
حّ
عَلى اْل َ
صاُر َ
لْن َ
خاطب المام الصالحين من صحبه بأربع عباراتَ» :أْنُتُم ا َْ
س«.ن الّنا ِ
طاَنُة)ُ (2دو َ
سَ ،واْلِب ََيْوَم اْلَبْأ ِ
نعم ،أنتم إخواني في الدين وقد أثبتم عدم تقصيركم في نصرة الحق ،تقفون بكل شموخ في ميادين القتل بوجه
العداء ،إلى جانب ذلك فأنتم ثقة في حفظ السرار المتعلقة بالحرب والسلم.
ل«.
عَة اْلُمْقِب ِ
طا َ
جو َ
ب اْلُمْدِبَرَ ،وَأْر ُ
ضِر ُ
ثم قال )عليه السلم(ِ» :بُكْم َأ ْ
] [ 112
ب لمقارعته ول سبيل هناك سوى التصدي له ن الناس على صنفين :صنف أدار ظهره للحق وه ّ إشارة إلى أ ّ
والوقوف بوجهه ،وأنتم النصار في هذا القتال ،وصنف آخر أقبل على الحق ولكن ل يتمتع بالمعرفة اللزمة
والطاعة الكافية ،وسأعمل على تربيتهم بواسطتكم لكي ينقادوا ل ويطيعوه.
والخلصة :فأنتم أنصاري في مقاتلة العدو وكذلك في المجال الفكري تجاه الصديق ،ثم نصح )عليه السلم(
ب«.
ن الّرْي ِ
سِليَمة ِم َ
شَ ،
ن اْلِغ ّ
خِلّية ِم َ
حة َ
صَعيُنوِني ِبُمَنا َ
صحبه الوفياء بعبارتين عميقتين المعنى فقالَ» :فَأ ِ
ن بطانة المراء ومشاوري الحّكام غالبًا ما يقدمون مصالحهم الشخصيةففي العبارة إشارة إلى نقطة مهّمة وهى أ ّ
حكام على أساس إرادة الخير والخدمة ،بل أحيانًا يطرحون
أو منافع قرابتهم ومن لهم علقة بهم ،ثم يعرضونها لل ّ
بعض القتراحات التي ل يقتنعون بها أنفسهم وهذا ما يؤّدي بدوره إلى الحباط والفشل في أغلب الخطط ،فالمام
)عليه السلم( يؤكد على أصحابه الخلص في ما يطرحونه من أراء واقتراحات وابعادها عن كل ما يشوبها
وعدم الخذ بنظر العتبار سوى الخير وصلح دين الحق وعباد ال.
س!«.
س ِبالّنا ِ
لْوَلى الّنا ِ
ل ِإّني َ
وأخيرًا يختتم خطبته بهذه العبارةَ» :فوا ّ
ولعل هذه العبارة دليل على العبارات السابقة ،أي إّني إن توقعت نصرتكم ووقوفكم إلى جانبي فذلك كوني ولي
أمر الناس باذن ال ،بل إّني أولى بهم حتى من أنفسهم ،وهذا ما ينبغي أن يجعلكم تشعرون بالرضى والسرور
على إّنكم تسيرون خلف مثل هذا المام وتطيعون أوامره.
—–
أثنى المام )عليه السلم( ثناءًا بليغًا على أصحابه بعد معركة الجمل ،حيث استطاعوا بمّدة قياسية ومن خلل
إتحادهم وصمودهم وقّوة إيمانهم من القضاء على قدرات العدو وإخماد نار الفتنة في تلك المنطقة السلمية
الحساسة )البصرة(.
] [ 113
بينما توالت الخطب التي تعرض بالذّم لطائفة أخرى من أصحابه ،وذلك بعد معركة صفين التي انتهت بفشلهم
بفعل اختلف كلمتهم وضعفهم في عقيدتهم وإرادتهم وعدم طاعتهم وإمتثالهم للوامر ،ولم يكن ذيك سوى في
اللحظات الخيرة التي أوشك النصر فيها على التحقق والرسوخ ،فذلك الثناء وهذا الذم يفيد أن كل ذلك يتّم على
أساس حساب تخطيط وليس هناك من تناقض في المر ،كما لم تطلق كلمة في هذا المجال تتعارض والحكمة
والمصلحة ،المر الذي رّبما يلتبس على البعض الذين ل يعلمون بشأن وورد هذه الخطبة.
ثم يشير في آخر عبارة من هذه الخطبة إلى نقطة مهّمة وهى مسألة الولية اللهّية ،وهو المر الذي أكّده النبي
سُكم« ،فرّد المسلمون :بلى يا
ن َأنُف ِ
ت َأولى ِبُكم ِم ْ
الكرم )صلى ال عليه وآله( في خطبة الغدير حيث قالَ» :أَلس ُ
ل«. .هكذا قطع رسول ال )صلى ال عليه ي مو ُعِل ّ
ت َمولُه َفهذا َ
ن ُكن ُ
رسول ال ،ثّم قال )صلى ال عليه وآله(َ» :م ْ
وآله( العذار على جميع من يتشبث بالحجج الواهية ويختلق الذرائع ليقول الولي هنا بمعنى الصديق.
—–
سُكم« من
ن َأنُف ِ
ت َأولى ِبُكم ِم ْ
لمة الميني صاحب كتاب الغدير قد نقل العبارةَ» :أَلس ُ ن الع ّ
والطريف في المر أ ّ
أربعة وستين محّدثا ومؤرخًا إسلميًا ،وهذا ما يؤكد إتفاق الجميع على هذه العبارة) ،(1فالمام )عليه السلم( ذكر
س!«.س ِبالّنا ِ
لْوَلى الّنا ِ
ل ِإّني َ
لَ» :فوا ّ
هذه النقطة في الخطبة وأقسم قائ ً
—–
.1الغدير .1/371
] [ 114
] [ 115
الخطبة)119 (1
ن المام )عليه السلم( أورد هذه الخطبة إثر إحدى حملت معاوية وجيش الشام على كما ورد في سند الخطبة فا ّ
أطراف العراق ،فيعرض المام )عليه السلم( بالنقد اللذع في هذه الخطبة لذلك الصمت السلبي وعدم الكتراث
من قبل الناس تجاه تلك الحدث المؤذية التي تضعف معنويات جند السلم وروحياتهم ،وحين رّد البعض على
ن وظيفة المام
المام )عليه السلم( إن سرت سرنا معك ،شدد المام )عليه السلم(من ذّمهم وتوبيخهم على أ ّ
وزعيم الجماعة ليست في أن يدفع بشخصه لخماد أي تمّرد ومطاردة عدو وترك مركز الحكومة السلمية
والتخلي عن مختلف وظائفه ،فالمام لبّد أن يقوم بهذا العمل في الحداث الغاية في الهمّية ويترك لبعض
لصول المسلمة للدارة والمرة وللسف لم يكن المراء الصغار ممن دونه التعامل مع سائر الحداث ،فهذا أحد ا ُ
أهل الكوفة على علم بذلك أو أّنهم لم يريدوا العلم بذلك.
—–
.1سند الخطبة:
سر ابن الثير في »النهاية« بعض المفردات من هذه الخطبة ،كما أشار إلى بعض عباراتها.نقلت مصادر أخرى هذه الخطبة وكذلك ف ّ
ن المام خطبها بعد معركة صفين والنهروان بعد غارات أهل الشام على مناطق البلد
قال ابن أبي الحديد في شرح لهذه الخطبة أ ّ
السلمية ،وهذا يفيد وجود مصدر آخر لبن أبي الحديد غير الذي إعتمده السيد الرضي )مصادر نهج البلغة .(2/263
] [ 116
] [ 117
القسم الول
ن َأْنُتْم؟
سو َ
خَر ُ
ل )عليه السلم( َ :ما َباُلُكْم َأُم ْ
»َفَقا َ
ك.
سْرَنا َمَع َ
ت ِ
سْر َ
ن ِ
نِ ،إ ْ
ل َقْوٌم ِمْنُهْمَ :يا َأِميَراْلُمْؤِمِني َ
َفَقا َ
خُر ُ
ج ج؟ َوِإّنَما َي ْ خُر َن َأ ْ ل هَذا َيْنَبِغي ِلي َأ ْ صد! َأِفي ِمْث ِ ل ُهِديُتْم ِلَق ْشد! َو َ سّدْدُتْم ِلُر ْ
ل ُ ل )عليه السلم( َ :ما َباُلُكْم! َ َفَقا َ
ت اْلَما ِ
ل صَر َوَبْي َ جْنَد َواْلِم ْ ع اْل ُ
ن َأَد َ
ل َيْنَبِغي ِلي َأ ْ سُكْمَ ،و َ جَعاِنُكْم َوَذِوي َبْأ ِ شْ ن ُ ضاُه ِم ْ
ن َأْر َ ل ِمّم ْجُ ل هَذا َر ُ ِفي ِمْث ِ
ل َتَقْلُق َ
ل خَرىَ ،أَتَقْلَق ُ ج ِفي َكِتيَبة َأْتَبُع ُأ ْ خُر َ نُ ،ثّم َأ ْطاِلبي َ
ق اْلُم َ
حُقو ِ ظَر ِفي ُ نَ ،والّن َسِلمْي َ ن اْلُم ْ
ضاَء َبْي َضَ ،واْلَق َ لْر ِ جَباَيَة ا َْ
َو ِ
طَر َ
ب ضَ حاَر َمَداُرَهاَ ،وا ْ سَت َ
ي َوَأَنا ِبَمَكاِنيَ ،فِإَذا َفاَرْقُتُه ا ْعَل ّ
حىَ ،تُدوُر َ ب الّر َ ط ُ غَ ،وِإّنَما َأنا ُق ْ جِفيِر اْلَفاِر ِ
ح ِفي اْل َ اْلِقْد ِ
سوُء!«. ي ال ّ ل الّرْأ ُِثَفاُلَها .هَذا َلَعْمُر ا ّ
—–
الشرح والتفسير
حين بلغ المام )عليه السلم( هجوم أعوان معاوية على بعض المناطق الحدودية ،جمع الناس وأمرهم بالحركة
إلى الجهاد ،لكن وكما ورد في الخطبة المذكورة سكت الناس ولم يجيبوه ،فامتعظ المام )عليه السلم( وتأثر
ن َأْنُتْم؟
سو َ
خَر ُ
ل )عليه السلم( َ» :ما َباُلُكْم َأُم ْ
شديدًا فقالَ :فَقا َ
ك«.
سْرَنا َمَع َ
ت ِ
سْر َ
ن ِ
نِ ،إ ْ
ل َقْوٌم ِمْنُهْمَ :يا َأِميَراْلُمْؤِمِني َ
َفَقا َ
فرّد عليهم المام بعنف بعدم التوفيق وبلوغ الهدف) ،(1فل ينبغي للمام الحركة في مثل تلك
.1هنالك خلف بين شّراح نهج البلغة بشأن هذه الجملة هل هى جملة خبرية تخبر عن وضع جماعة الكوفة الضعيفة والمسلوبة
ل ل يدعهم يتوفقون في حياتهم أبدًا ،أم أّنها جملة إنشائية ونوع من الشمئزاز ،يبدو المعنى الثاني هو
الرادة على أّنهم سلكوا سبي ً
النسب.
] [ 118
فلم يكم متعارفًا في أي مكان من الدنيا ول عصر من العصور أن ينهض زعيم فرقة أو رئيس دولة بشخصه
للتدخل في حادثة صغيرة وبلبلة معينة ،بل عادة ما يوجه لها أحد آمريه برفقة مجموعة من العناصر الشجاعة
ن التخلي عن مركز الحكومة من شأنه أن يقود إلى عّدة والوفية من أجل إخماد الفتنة وحل النزاع ،وذلك ل ّ
جَباَيَة ل َو ِ ت اْلَما ِصَر َوَبْي َجْنَد َواْلِم ْ
ع اْل ُ
ل َيْنَبِغي ِلي َأنْ َأَد َلَ» :و َ مخاطر جانبية ،ومن هنا واصل المام كلمه قائ ً
ل)(3
ل َتَقْلُق َخَرىَ ،أَتَقْلَق ُج ِفي َكِتيَبة)َ (2أْتَبُع ُأ ْ خُر َ نُ ،ثّم َأ ْ
طاِلبي َ
ق اْلُم َ
حُقو ِ
ظَر ِفي ُ
نَ ،والّن َ
سِلمْي َ
ن اْلُم ْ
ضاَء َبْي َ
ضَ ،واْلَق َ
لْر ِ ا َْ
غ).«(6 جِفيِر) (5اْلَفاِر ِ ح)ِ (4في اْل َاْلِقْد ِ
فقد أشار المام )عليه السلم( بهذه العبارة إلى ستة جوانب تتضمن الوظائف المهّمة لرئيس الدولة يمكنها النهيار
جميعًا فيما إذا شغر مركز الحكومة من ذلك الرئيس ،وهى الشراف على الجند وأمور العسكر والجيش والحفاظ
على مركز الدولة وحفظ بين مال المسلمين وجباية الخراج والضرائب والقضاء بينهم والدفاع عن حقوق عنهم.
فمن البديهي يمكن لرئيس الدولة أن يشخص بنفسه للتعامل مع الحوادث الضحمة ويهب لمواجهة العدو ،أّما في
غيرها من الحوادث ذات الطبيعة العادية ،فيمكن لغيره التعامل معها ،وتشير سيرة الرسول الكرم )صلى ال
عليه وآله( أّنه كان يشخص بنفسه الشريفة في الغزوات المهّمة المصيرية ،فيتزعم الجند ،وكان ينصب بعض
الفراد في الغزوات العادية فيسلمه الراية
» .1سددتم« :من مادة »سد« المعروف المعنى ولما كان السد هو البناء المحكم فالتسديد يعني الحكام والترسيخ وسدده وفقه
للسداد.
» .2كتيبة« :طائفة من الجيش قال بعض أرباب اللغة يتراوح عددها من مئة إلى ألف.
» .4قدح« :بكسر القاف السهم أو القطعة من الخشب وقيل أيضًا هو السهم قبل أن يراش وينصل.
» .5جفير« :الكنانة التي توضع جانب الفرس وتوضع فيها السهام.
] [ 119
ويوصيه ببعض التعاليم كما يوصي الجيش بطاعة أوامره ،وهكذا كانت تحصل أغلب الغزوات في تاريخ السلم
ن صحابة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( كانواوالتي يصطلح عليها عادة بالسرية ،غاية ما في المر أ ّ
يأتمرون بأوامره بحيث يطيعونه في كل ما يقول ولم يكن يرد عليه أحد بأن سرت سرنا معك.
نعم ،صحيح لكل قسم مسؤول على أساس تقسيم وتنظيم شؤون البلد ،لكن ل يخفى الدور الحيوي الذي يلعبه
الرئيس المشرف على ُاولئك المسؤولين في تقدم العمال والنهوض بها قدمًا ،هذا المر واضح تمامًا ،بل هو من
البديهيات ،لكن ُاولئك المتقاعسون المسلوبون الرادة والضعاف الذين يتذرعون بمختلف الذرائع من أجل إجتناب
مواجهة العدو فيشترطون شرطًا غاية في البعد عن المنطق لخروجهم ،وبعبارة أخرى شرطهم هو تعليق على
المحال ،ويواصل المام )عليه السلم( كلمه من خلل تشبيه رائع لشخصه بقطب الرحا ومحورها والذي يفيد
ضرورة بقائه في موضعه )بحيث تدور كل المور من خلله( فان إبتعد هذا المحور عن مركزه اختلت حركة
طَر َ
ب ضَ
حاَر)َ (1مَداُرَهاَ ،وا ْ
سَت َ
ي َوَأَنا ِبَمَكاِنيَ ،فِإَذا َفاَرْقُتُه ا ْ
عَل ّ
حىَ ،تُدوُر َ
ب الّر َ
ط ُ
جميع الشياءَ» :وِإّنَما َأنا ُق ْ
ِثَفاُلَها«.
فقد جرت العادة سابقًا على الستفادة من الرحى اليدوية أو المائية والهوائية من أجل طحن الحنطة والشعير،
وكانت بنية هذه الليات بسيطة وواضحة ،فقد كانت هناك حجرة ثابتة في السفل وأخرى تتحرك في المام
بواسطة حركة اليد أو ضغط الماء الذي يعبر من تحتها أو الرياح ،وكان وسط الحجرين قطب يدور حول محوره
الحجر لو كسر القطب لخرج الحجر عن مساره ووقع جانبًا إلى جانب ذلك كان هناك جلد كبير أو قطعة من
القماش تبسط تحت الرحا لجمع الدقيق بسهولة ،حيث إذا خرج الدقيق من وسط الحجرين وقع عليه ،ولو زال ذلك
القطب والمحور الصلي لوقفت الرحا عن الحركة ووقع الحجر على تلك القطعة من القماش أو الجلد
وإضطراب.
» .1استحار« :من مادة »تحير وحيرة« بمعنى التردد والضطراب وتطلق على السحب الثقيلة التي ل تدعها الرياح تتحرك في
مسارها وكأّنها تبقى مضطربة مترددة.
] [ 120
الشيء الذي يحرك الحجر في الرحا هو ذلك الواقع في وسط الحجر والذى يتصل من السفل بمحور أكبر يصب
عليه الماء من جانب ويحركه ،وهكذا يكون القطب عامل حركة وعامل تنظيم ،وهذه هى منزلة المام والقائد.
—–
] [ 121
القسم الثاني
طُلُبُكْم َماعْنُكْم َفل َأ ْت َص ُ خ ْ شَ ت ِركاِبي ُثّم َ حّم ِلي ِلَقاُؤُه ـ َلَقّرْب ُعْنَد ِلَقاِئي اْلَعُدّو ـ َوَلْو َقْد ُ
شَهاَدَة ِ
جاِئي ال ّل َر َ
ل َلْو َ
»َوا ّ
ع ُقُلوِبُكْم َلَقْد
جَِتما ِ
عَدِدُكْم َمَع ِقّلِة ا ْ
غَناَء ِفي َكْثَرِة َ لَنِ .إّنُه َ
غي َ ن َرّوا ِحّياِدي َ
نَ ، عّياِبي َ
ن َطّعاِني َ
ل; َ شَما ٌ
ب َو َ
جُنو ٌف َ خَتَل َ
اْ
ل َفِإَلى الّناِر«. ن َز ّ جّنِةَ،وَم ْسَتَقاَم َفِإَلى اْل َ
نا ْكَ ،م ِل َهاِل ٌعَلْيَها ِإ ّ
ك َل َيْهِل ُ
ح اّلتي َ ضِق اْلوا ِ طِري ِعَلى ال ّ
حَمْلُتُكْم َ
َ
—–
الشرح والتفسير
شدد المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة من ذّمه وتوبيخه لهل الكوفة وعين نقاط ضعفهم وأعرب
حّم)
عْنَد ِلَقاِئي اْلَعُدّو ـ َوَلْو َقْد ُ
شَهاَدةَ ِ
جاِئي ال ّ
ل َر َ
ل َلْو َعن يأسه وعدم أمله في مستقبلهم وعاقبة أمرهم ،فقالَ» :وا ّ
ل«.شَما ٌب َو َ
جُنو ٌ
ف َخَتَل َ
طُلُبُكْم َما ا ْ
عْنُكْم َفل َأ ْ
ت َ
ص ُ
خ ْ
شَ
ت ِركاِبي ُثّم َ
ِ (1لي ِلَقاُؤُه ـ َلَقّرْب ُ
ل« ،إشارة إلى مراده أنني لم آتي إليكم أبدًا ،فالعبارة أشبه بما ورد في إحدى شَما ٌب َو َجُنو ٌ
ف َخَتَل َالعبارة »َما ا ْ
كلماته )عليه السلم( حين أقترح عليه عدم التسوية في العطاء من بيت مال المسلمين ،فقال )عليه السلم(:
سَماِء
جٌم ِفي ال ّ
سِميٌرَ ،وَما َأّم َن ْ
سَمَر َ
طوُر ِبِه َما َ
ل َأ ُ
ل َ
عَلْيِه! َوا ّ
ت َ
ن ُوّلي ُ
جْوِر ِفيَم ْصَر ِباْل َ
ب الّن ْ
طُل َ
ن َأ ْ»َأَتْأُمُروّني َأ ْ
جمًا!«).(2 َن ْ
ن وفقت لهذا
» .1حّم« :من مادة »حم« على وزن غم بمعنى قّدر ،وعليه فمفهوم العبارة قد حم لي لو قدر لي مثل هذا المر ،أو إ ّ
المر.
الول :كيف قال المام )عليه السلم( لول رجائي الشهادة لما مكثت بينكم ولتركتكم ،بينما ذكر سابقًا ل ينبغي لي
أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين ،فكيف
يمكن التوفيق بين هذين المرين؟
ن المام )عليه السلم( قد سمع بشارة رسول ال )صلى ال عليه وآله( له بالشهادة وكان يعلم أّنه سيقتل
الثاني أ ّ
على يدى أشقى الخرين عبدالرحمن بن ملجم ،فكيف قال لول رجائي الشهادة عند لقائي العدو؟
الثالث :كيف يستطيع المام )عليه السلم( التخلي عن إمامته وزعامته ويخرج من الناس؟
وللجابة على السؤال الول لبّد من القول أن نيل فيض الشهادة كان يشكل أحد الهداف المقّدسة للمام )عليه
السلم( في بقائه وسط تلك الفئة ول مانع من أن يكون له أهداف أخرى ،حيث بين ائر تلك الهداف فلم تعد هناك
من حاجة لديه لذكرها هنا).(1
لولى
ن لقاء العدو يشتمل على مفهوم غاية في السعة وإن بدى في الوهلة ا ُ ونقول في الرّد على السؤال الثاني إ ّ
ن شهادة المام )عليه السلم(
يجسد مواجهة الخصم في ساحة المعركة والذي يمثل حزءًا من ذلك اللقاء ،ونعلم أ ّ
كانت أحد مصاديق ذلك.
ن ترك فئة فاسدة ل يمكن إصلحها ل يعني التخلي عن وظائف واّما السؤال الثالث :فيمكن الجابة عليه بالقول بأ ّ
المامة أبدًا ،بل يمكن للمام )عليه السلم( أن يّتجه صوب جماعة أعظم إستعدادًا ،على غرار ما فعله رسول
ال)صلى ال عليه وآله( حين هاجر من مكة إلى المدينة.
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه بذكر الدّلة التي تدعوه إلى عدم الرتياح منهم ويبّين لهم نقاط ضعفهم على
ن).«(3 غي َ
ن)َ(2رّوا ِ
ن ،حَّياِدي َ
عّياِبي َ
ن َ
طّعاِني َ
أمل اللتفات إلى أنفسهم فيهموا باصلحها فقالَ » :
ن شّراح نهج البلغة لم يطرقوا هذا البحث ويردوا على هذه السئلة ،وشذ منهم أحد أعلم القرن السادس .1للسف وحسب علمنا فا ّ
ن مقام
ن المام)عليه السلم( قال :ذلك بغض النظر عن مقام المامة ،وإلّ فا ّ
هو المرحوم البيهقي الذي أجاب عن السؤال الثالث بأ ّ
ن المام )عليه السلم( قال لول مقام المامة
المامة يقتضي من المام أن يكون بين الناس مهما كانت الشرائط ،وبعبارة أخرى فا ّ
وكنت حرًا في هذا المر لتركتكم.
» .2حيادين« :من مادة »حيد« على وزن حرف بمعنى النحراف ويقال الحّياد ،لمن ينحرف كثيرًا عن جادة الحق.
» .3رواغين« :من مادة »روغ« على وزن ذوق بمعنى الذهاب إلى هذا الطرف وذاك وهى كناية عن المكر والحيلة ،ومن هنا
تستخدم هذه المفردة بشأن الثعلب ،فيقال )راغ الثعلب(.
] [ 123
فهذه الصفات الربعة على درجة من القبح والبشاعة بحيث يكفي وجود واحدة منها في فرد لتدعو للنفرة منه
ل هّمه اللتفات إلى المعايب والمثالب ،بل يعطيها حجماً
نجّ
ل عن اجتماعها جميعًا فيه ،أي أ ّ
والبتعاد عنه ،فض ً
أكثر من واقعها فهو ل ينفك عن طرحها وتكرارها حتى شعر المقابل باليأس ،فل يرى الحق حتى يولي له ظهرًا
ل عن المام المعصوم )عليه فتختلط حياته بالمكر والسى ،فكيف لرجل صالح أن يعيش وسط مثل هذه الفئة فض ً
السلم( الزعيم للخلق والذي ليست أمامه من نتيجة لهذا الوضع المأساوي سوى الحزن والمعاناة ،ومن هنا يرجو
المام )عليه السلم( مفارقتهم والنفصال عنهم.
ثم أضاف المام )عليه السلم( بأّنه إلى جانب تلك العيوب الشخصية هناك عيب اجتماعي كبير فيهم والذي يتمثل
ع ُقُلوِبُكْم«.
جَِتما ِ
عَدِدُكْم َمَع ِقّلِة ا ْ
غَناَء ِفي َكْثَرةِ َ
لَ
بعدم جدوى كثرة عددهم مع قّلة اجتماع أفكارهمِ» :إّنُه َ
ن عددكم يبدو كثيرًا في الظاهر ،ولكن حيث تغيب الوحدة التي ينبغي أن تجمع قلوبكم وتوحدها وحيثصحيح أ ّ
ن اجتماعكم الموتى وتجمعكم
ينفرد كل بإرادنه وقراره ،فلم يعد هناك من خير يؤمل فيكم ،أو بعبارة أخرى فا ّ
تجمع الوحشة.
ح اّلتي
ضِق اْلوا ِ
طِري ِ
عَلى ال ّ
حَمْلُتُكْم َ
ثم إختتم المام )عليه السلم( الخطبة بقوله أّني قمت بوظيفتي تجاهكمَ» :لَقْد َ
ل َفِإَلى الّناِر«.
ن َز ّ
جّنِةَ،وَم ْ
سَتَقاَم َفِإَلى اْل َ
نا ْ
كَ ،م ِ
ل َهاِل ٌ
عَلْيَها ِإ ّ
ك َ
لَيْهِل ُ
َ
فالمام )عليه السلم( أوضح بهذه العبارة حقيقة مفادها أّني قلت لكم كل ما ينبغي قوله وأتممت عليكم الحجة وإن
تمنيت الخروج عنكم ومفارقتكم فذلك ل يعني أّني قصرت في مقام بوظيفتي تجاهكم ،ولكن لسف إّنكم لستم
بالفراد للئقين الذين يسعكم الستفادة من البرامج التربوية التي يطرحها مرشد رّباني شفيق عليكم.
—–
القلوب الواعية
أورد مؤرخ القرن الثالث المعروف أبو اسحاق الثقفي في كتاب »الغارات« في ذيل هذه الخطبة حين خطب
المام )عليه السلم( هذه الخطبة قام »جارية بن قدامة السعدي« فقال» :يـا َأِميَر
] [ 124
سّرحِني ِإَليِهم«.
ك َأَنا ِلهؤلء الَقوِم َف َ
ك َول َأراَنا ِفَراَق َ
سَ
ل َنْف َ
ن ل َأعَدَمنا ا ُ
الُمؤِمِني َ
سر المام )عليه السلم( لكلمه وأثنى عليه ،من جانب آخر قام إليه »وهب بن مسعود الخثعمي« فقالَ» :أَنا
فّ
َلُهم«.
فأمر المام )عليه السلم( جارية أن يسير بألفين إلى البصرة والخثعمي بألفين إلى الكوفة ،ثم أمرهما بتتبع بسر
بن أبي ارطاة أينما وجدوه).(1
ن شّدة كلمات المام )عليه السلم( كان لها في خاتمة المطاف الثر البالغ في بعض القلوب الواعية فاستعد
ل :إ ّ
أو ً
أصحابها لمواجهة العداء.
—–
.1الغارات .2/627
] [ 125
الخطبة)120 (1
ن َكلم لُه)عليه السلم(
َوِم ْ
بداية الكلمات إشارة إلى وجود أبواب الحكم وكنوز العلم لدى أهل البيت)عليهم السلم(الذين تعلموا من رسول ال
)صلى ال عليه وآله( تبليغ الرسالة وتفسير كلمات ال سبحانه وتعالى ،ثم خاض المام في إسداء مواعظه
ونصائحه النافعة وحذر الناس في ضرورة العتبار بالخرين والخوف من نار جهّنم وأن يعملوا ما يجعل الناس
يذكرونهم بكل خير بعد إيمانهم ،فالسمعة الحسنة أفضل من الموال تلحق النسان بعد وفاته ،الموال التي قد ل
يعرف الورثة عادة قيمتها ول يشكرون جامعها.
—–
.1سند الخطبة:
ن سليم بن قيس الذي عاش قبل السيد الرضي نقل القسم الول من هذه الخطبة في كتابه ،كماجاء في كتاب مصادر نهج البلغة أ ّ
ن ذلك يعني أّنها أخذت منوردت سائر أجزائها بصورة متفرقة في كتاب »غرر الحكم« ،ولما كان هناك تفاوت بين بعض عبارتها ،فا ّ
كتاب آخر غير نهج البلغة ،كما قال ابن أبي الحديد في شرح بعض عبارات هذه الخطبة نقلها جماعة بشكل آخر وهذا يشير إلى أّنه
كان لديه مصدرًا آخر )مصادر نهج البلغة .(2/264
] [ 126
] [ 127
لْمِر.
ضَياُء ا َْ
حْكِم َو ِ ب اْل ُت ـ َأْبَوا ُل اْلَبْي ِعْنَدَنا ـ َأْه َ
تَ .و ِتَ ،وَتَماَم اْلَكِلَما ِ تَ ،وِإْتَماَم اْلِعَدا ِسال ِ ت َتْبِليَغ الّر َعّلْم ُ ل َلَقْد ُ
»َتا ّ
خُر
عَمُلوا ِلَيْوم ُتْذ َ
ل َوَنِدَمِ .إ ْ
ضّ عْنَها َ ف َ ن َوَق َ غِنَمَ ،ومَ ْق َو َحَ خَذِبها َل ِن َأ َصَدٌةَ .م ْسُبَلُه َقا ِ
حَدٌةَ ،و ُن َوا ِ شَراِئَع الّدي ِ
ن َ ل َوِإ ّ
َأ َ
حّرَها
عَوُزَ .واّتُقوا نارًا َ غاِئُبُه َأ ْ
جُزَ ،و َ عَ عْنُه َأ ْ
ضُر ُلّبِه َفَعاِزُبُه َ حا ِ ل َيْنَفُعُه َ
ن َ سَراِئُرَ .وَم ْ خاِئُرَ ،وُتْبَلى ِفيِه ال ّ َلُه الّذ َ
خْيٌر
س; َ ل َتَعاَلى ِلْلَمْرِء ِفي الّنا ِ جَعُلُه ا ّ ح َي ْصاِل َ
ن ال ّ سا َن الّل َ
ل َوِإ ّ صِديٌدَ .أ َشَراُبَها َ حِديٌدَ ،و َ حْلَيُتَها َ
شِديٌدَ ،وَقْعُرَها َبِعيٌدَ ،و ِ َ
حَمُدُه«.
ل َي ْ
ن َ ل ُيوِرُثُه َم ْن اْلَما َِلُه ِم َ
—–
الشرح والتفسير
المواعظ القيمة
إستهل المام )عليه السلم( خطبته بالحديث عن العلوم التي تعلمها من رسول ال )صلى ال عليه وآله( فقال:
ت«.
تَ ،وَتَماَم اْلَكِلَما ِ
تَ ،وِإْتَماَم اْلِعَدا ِ
سال ِ
ت َتْبِليَغ الّر َ
عّلْم ُ
ل َلَقْد ُ
»َتا ّ
والمراد باتمام العدات »الوفاء بالعهود« تلك وعود ال تبارك وتعالى بصورة عاّمة بالنسبة لجميع المؤمنين
صَدُقوا َما
ل َ
جا ٌ
ن ِر َ
ن اْلُمْؤِمِني َ
والوعود بصورة خاصة بالنسبة له )عليه السلم( ،كما ورد في القرآن الكريمِ) :م ْ
ظُر َوَما َبّدُلوا َتْبِديل().(1
ن َيْنَت ِ
حَبُه َوِمْنُهْم َم ْ
ضى َن ْ
ن َق َ
عَلْيِه َفِمْنُهْم َم ْ
ل َ
عاَهُدوا ا َ
َ
] [ 128
يمكن أن يكون هذا الوعد اللهي هو الوعد بالشهادة في سبيل ال ،أو سائر الوعود من قبيل مقاتلة الناكثين
والقاسطين والمارقين ،أو غير ذلك.
والمراد بتمام الكلمات يمكن أن يكون إشارة إلى تفسير آيات القرآن وتفسير كلمات النبي الكرم )صلى ال عليه
وآله( ،وتبيان وإكمال كافة الكلمات التي وصلت من الكتاب والسّنة.
كما يحتمل أن يكون المراد المام )صلى ال عليه وآله( أّني أولى من جميع الفراد بخلفة النبي الكرم )صلى
ال عليه وآله( ،وذلك لّني تعلمت طريق تبليغ الرسالة وتحقيق وعوده )صلى ال عليه وآله( وتفسير وتكميل
كلماته ،وعليه فإّني أستطيع النهوض لمسؤولية الخلفة ،وقد ورد في الحديث النبوي الشريف أ ّ
ن
ضي َديِني
خرةِ َوَتق ِخي ِفي الّدنيـا َوال ِ
صي َوَأ ِ
ت َو ِ
رسول ال )صلى ال عليه وآله( قال لعلي )عليه السلم(َ» :أْن َ
عداِتي«).(1
جُز ِ
َوُتن ِ
لْمِر«.
ضَياُء ا َْ
حْكِم َو ِ
ب اْل ُ
ت ـ َأْبَوا ُ
ل اْلَبْي ِ
عْنَدَنا ـ َأْه َ
ثم واصل )عليه السلم( كلمه بالقولَ» :و ِ
والحكم بضم الحاء بمعنى الحكومةو القضاء ،بناءًا على هذا فالمراد بالعبارة عندنا أهل البيت طرق تدبير
الحكومة وإقامة العدل وبسط المن ،والحكم بكسر الحاء وفتح الكاف جمع الحكمة بمعنى العلوم والمعارف ،ول
ن لدى أهل البيت)عليهم السلم(أبواب الحكمة وكنوز العلم والمعرفة ،كما قرنهم رسول ال )صلى شك ول ريب أ ّ
عتَرِتي«).(2
ل َو ِ
با ِ
ن ِكتا َ
ك فيُكم الّثقََلي ِ
ال عليه وآله( فقال في حديث الثقلين المعروفِ» :إّني تـاِر ٌ
لولى لهذهثم أورد المام )عليه السلم( خمس نصائح من شأنها نجاة العباد في الدنيا والخرة ،وكأن العبارات ا ُ
الخطبة قد وردت لعداد القلوب من أجل تقبل هذه النصائح ليقول أنّ كلمي يستند إلى علم عميق ودقيق بتعاليم
لولى مسألة التحاد ووحدة الكلمة وذلك ل ّ
ن السلم وتعاليم النبي )صلى ال عليه وآله( ،فكانت النصحية ا ُ
ل َوِإ ّ
ن الختلف آفات سعادة النسان ،فقالَ» :أ َ
.2للوقوف على مصادر هذا الحديث الشريف راجع كتاب نفحات القرآن 9/62ـ .71
] [ 129
ل َوَنِدَم«.
ضّ
عْنَها َ
ف َ
ن َوَق َ
غِنَمَ ،وَم ْ
ق َو َ
حَخَذِبها َل ِ
ن َأ َ
صَدٌةَ .م ْ
سُبَلُه َقا ِ
حَدٌةَ ،و ُ
ن َوا ِ
شَراِئَع الّدي ِ
َ
المقصود بشرائع الدين كافة التعليمات التي صّرح بها الدين الحنيف بما فيها المعارف والعقائد والقوانين والوصايا
والمور الخلقية ،فجذروها واحدة في جميع الديان السماوية وإن إقتضت الظروف الزمانية والتطور البشري
أن يكون هناك بعض الختلف شرحها وتفصيلها وتنوع فروعها.
كما يحتمل أن يكون المراد بشرائع الدين مختلف الطرق إلى ال سبحانه في الدين السلمي والتي تنتهي جميعًا
إلى طريق رئيسي واحد وهو القرب إلى ال والسعادة المطلقة للبشر ،فالصلة الصوم والجهاد والحج والزكاة
وكافة مثل هذه التعليمات إلى جانب التعاليم العقائدية والخلقية تتصل وتنتهي بنقطة واحدة ويؤكد )عليه السلم(
ن الفرقة والختلف إّنها تحصل من مزج الفكار الباطلة ن بلوغ السبيل سهل وواضح وقريب ،وعليه فا ّ على أ ّ
صى ِبِه ن َما َو ّ
ن الّدي ِ
ع َلُكْم ِم ْ
شَر َ
والهواء ووساوس النفس والشيطان بشرائع الدين ،فقال تعالى في كتابه العزيزَ ) :
ل َتَتَفّرُقوا ِفيِه.(1)(...
ن َو َ
ن َأِقيُموا الّدي َ
سى َأ ْ
عي َ
سى َو ِصْيَنا ِبِه ِإْبَراِهيَم َوُمو َ
ك َوَما َو ّ
حْيَنا ِإَلْي َ
ُنوحًا َواّلِذي َأْو َ
سَراِئُر«.
خاِئُرَ ،وُتْبَلى ِفيِه ال ّ
خُر َلُه الّذ َ
عَمُلوا ِلَيْوم ُتْذ َ
وقال )عليه السلم( في الموعظة الثانيةِ» :إ ْ
ل َباق.(2)(...
عْنَد ا ِ
عْنَدُكْم َينَفُد َوَما ِ
لولى إشارة إلى الية الشريفةَ) :ما ِ
العبارة ا ُ
سَراِئُر().(3
والعبارة الثانية إشارة إلى الية القرآنيةَ) :يْوَم ُتْبَلى ال ّ
ن للنسان قدرة محدودة ينبغي توظيفها في أفضل سبيل ،فالعقل يقول :لم تستهلك طاقتك في طريق من البديهي أ ّ
ل يدوم أكثر من أّيام ،لم ل تستهلكها في سبيل يرافقك على الدوام ويخلد فيه معك ،أضف إلى ذلك يوم تبلى فيه
السرائر وكافة أعمال النسان الخفية ،فهو يوم عصيب وفضيحة بالنسبة للطالحين.
عَوُز).«(5
غاِئُبُه َأ ْ
جُزَ ،و َ
عَ
عْنُه َأ ْ
ضُر ُلّبِه َفَعاِزُبُه)َ (4
حا ِ
ل َيْنَفُعُه َ
ن َ
وقال )عليه السلم( :في عظته الثالثةَ» :وَم ْ
» .4عازب« :من مادة »عزوب« بمعنى البتعاد وعازب بمعنى بعيد.
» .5أعوز« :من مادة »عوز« على وزن مرض وعوز الشيء بمعنى لم يوجد ويراد به عدم وجودالشيء عندالحاجة.
] [ 130
ن المام )عليه السلم( أراد بهذه العبارة مزج الدلة العقلية بالنقلية وتعبئة الجميع من أجل متابعة
فالواقع هو أ ّ
سبيل الحق ،وقد قال المام )عليه السلم( هنا ثلثة أنواع لعقل هى :العقل الحاضر والبعيد والغائب ،يمكن أن
يكون الول إشارة إلى المسائل العقلية الواضحة ،والثاني إلى المطالب النظرية التي يبلغها النسان من خلل
الطرق الستدللية الواضحة ،و الخير إشارة إلى المواضع المعقدة التي يتعذر التوصل إليها من خلل الدليل
والبرهان ،فمن البديهي أن يتعذر إدراك المطالب النظرية والمعقدة والبعيدة عن الفكر على من ل يستفيد من
المسائل الفكرية البسيطة.
شِديٌد،
حّرَها َ
ثم خاطب المام )عليه السلم( الناس في المواعظة الرابعة بصفته منذر عالم فقالَ» :واّتُقوا نارًا َ
صِديٌد).«(1
شَراُبَها َ
حِديٌدَ ،و َ
حْلَيُتَها َ
َوَقْعُرَها َبِعيٌدَ ،و ِ
والعبارات البليغة التي أوردها المام )عليه السلم( بشأن نار جهنم والتي تكفي كل واحدة منها لصد النسان عن
حّرا.(2)(...
شّد َ
جَهّنَم َأ َ
ل َناُر َ
الذنب إّنما ُاقتبست من اليات القرآنية والحاديث النبوية ،فقد جاء في اليةُ) :ق ْ
ن َمِزيد.(3)(...
ل ِم ْ
ل َه ْ
ت َوَتُقو ُ
ل ِ
ل اْمَت َْ
جَهّنَم َه ْ
ل ِل َ
وجاء في أخرىَ) :يْوَم َنُقو ُ
حيَم
جِخُذوُه َفُغّلوُه * ُثّم اْل َ
يعني أّنها على قدر من الكبر والسعة بحيث ل تمتلىء بسهولة ،وجاء في أية أخرىُ ) :
سُلُكوُه().(4
ن ِذَراعًا َفا ْ
سْبُعو َ
عَها َ
سَلة َذْر ُ
سْل ِ
صّلوُه * ُثّم ِفي ِ
َ
» .1صديد« :الماء الساخن ،كما ورد بمعنى ماء الجرح الرقيق.
] [ 131
بالخرة ومحكمة العدل اللهي وشيء من العذاب الليم ،فاّنه يتحكم ويسيطر على أهوائه ويجتنب الظلم والجور
ول يقارف الذنب والمعصية ،أّما ُاولئك الذين ليس لهم من إيمان بهذه المور ول يعتقدون بالحساب والكتاب
ف الذى عن الخرين وعدم التعرض والثواب والعقاب ،فليس هناك ما يدعوه إلى السيطرة على أهواءه وك ّ
لحقوقهم.
نعم ،يمكن للضمير أن يجد من هوس الفراد إلى حدود معينة ،لكن من اليقين أن ليس لذلك من بعد عمومي
ن نبتة الضمير تذبل وتجف وتموت ما لم تسق بماء تعاليم
وشامل ،وتأثيره يبقى متواضعًا ،أضف إلى ذلك فا ّ
النبياء)عليهم السلم(.
ل َتعلى ِللمرِء
ح َيجَعُلُه ا ُ
صال ِ
ن الّلسان ال ّ
ل َوِإ ّ
أّما الموعظة الخيرة والخامسة فقد أشار إلى نقطة مهّمة جّدا فقالَ» :أ َ
حَمُدُه«.
ل َي ْ
ن َ
ل ُيِرُثُه َم ْ
ن الَما ِ
خيٌر َلُه ِم َ
ِفي الّناسَ ،
ن أغلب الناس وبدافع حّبهم لولدهم وأزواجهم يبذلون قصارى جهدهم من أجل ضمان مستقبلهم ويفنون جانب إّ
عظميًا من أعمارهم في هذا المجال حتى أّنهم يخلطون أحيانًا الحلل بالحرام ،لكّنهم يغفلون عن قضية مهّمة دّلت
عليها التجربة أّنه قّلما نجد وارثًا يحمد من ورثه على ما خلفه لهم من ميراث ،بل غالبًا ما تكون الموال الموروثة
مصدرًا للشقاق والختلف والنزاع ،ول غرو فكل فرد يسعى لن يحصل لنفسه على السهم الوفى ،حتى قيل
موت الغني بداية قتال الفقير.
—–
] [ 132
] [ 133
الخطبة)121 (1
ل:
خَرى ُثّم َقا َ
لْعَلى ا ُْ
حَدى َيَدْيِه َ
ق)عليه السلم( ِإ ْ
صّف َ
شُد؟ َف َ
ن َأْر َ
لْمَرْي ِ
ل :ا َْ
حاِبِه َفَقا َ
صَ
ن َأ ْ
ل ِم ْ
جٌَوَقْد َقاَم ِإَلْيِه َر ُ
لبّد من اللتفات إلى مناسبة وورد الخطبة من أجل الوقوف على عمق محتواها ومضمونها ،فهذا الكلم يرتبط
بمعركة صفين حين نهى المام )عليه السلم( الناس عن قبول التسليم للتحكيم ،ثم دعاهم إلى قبوله ،والمعروف
ن عمرو بن العاص فكر بخدعة حين شارف جيش الشام على الهزيمة ،فأمر برفع المصاحف بهذا الشأن أ ّ
ووضعها على أسنة الرماح ،ثم دعى أصحاب علي )عليه السلم( إلى تحكيم القرآن ،فانخدع لذلك الكثير من
السذج من أصحاب علي )عليه السلم(فكفوا عن القتال واستجابوا لطلب أهل الشام ،ثم أصروا على تحكيم القرآن
بشأن مصير
.1سند الخطبة:
وردت هذه الخطبة في عّدة كتب ألفت قبل المرحوم السيد الرضي مثل كتاب »العقد الفريد« لبن عبد رّبه و»الختصاص« للشيخ
المفيد ،والكتب التي ُالفت بعده »الكتب التي تفيد عباراتها أّنها نقلت الخطبة من مصادر أخرى غير نهج البلغة« مثل »مطالب
السؤال« لمحمد بن طلحة الشافعي ،و»الحتجاج« للطبرسي ،و»ربيع البرار« للزمخشري مع اختلف.
] [ 134
المعركة في أن ينهض حكم من جيش المام )عليه السلم( وآخر من جيش معاوية ،وبلغ بهم المر أن هددوا
المام قائلين» :إن لم تفعل قتلناك كما قتلنا عثمان«.
ن تلك مصيدة خطيرة كمنت في طريقهم ورغم مخالفته لهذا العمل ،وإصراره على مواصلة المام كان يعلم بأ ّ
القتال ،غير أّنه ُاجبر على التسليم للتحكيم ،وهذا ما دفع بالبعض للعتراض على المام علي )عليه السلم(،
وفحوى اعتراضهم إّنك نهيتنا عن التحكيم ،واليوم تأمرنا به؟
ل :هذه
فالخطبة رّد على هذا العتراض وقد أشار المام )عليه السلم( إلى عّدة أمور في إطار الجواب فقال أو ً
نتيجة طبيعية لفعلكم وعدم تبعيتكم لمامكم ،فلو عملتم بما أمرتكم به وواصلتم القتال لما أصبحتم اليوم تعانون من
هذه المشكلة ،ثم بّين المام نقاط ضعفهم التي أّدت إلى هذه المشكلة الكبيرة وفي المرحلة الثالثة ذكر طائفة من
أوائل المسلمين في صدر السلم كانت تهب مسرعة لتلبية نداء الجهاد ومواجهة العدو بفعل قّوة إيمانها ،فكانت
تنتصر دائمًا )إشارة إلى أن طريق النصر ما سلكوه ،ل ما أنتم عليه(.
وأخيرًا يعرض لهم بالنصح ثانية في مراقبة أنفسهم والحذر من مصائد الشيطان.
—–
] [ 135
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
ن هذه المصيبة التي عصفت بكم إّنما أفرزها رّد المام )عليه السلم( بجواب قاطع على من اعترض عليه في أ ّ
ك اْلُعْقدََة).«!(1
جَزاُء َمن َتَر َ
التحكيم وهذا جزاء من ترك الرأي السليم» :هَذا َ
لقد صرخت بكم أن واصلوا القتال ول تتركوه في هذه المرحلة الحساسة فالنصر قريب ،لكنكم وليتم ظهوركم
ل التحكيم ،كان مكر ابن العاص في رفع المصاحف خدعة ظاهرها واستسلمتم لخدعة عمرو بن العاص ،فأبيتم إ ّ
اليمان وباطنها الكفر والنفاق على ضوء ما أخبر به المام )عليه السلم( في الخطبة القادمة.
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه وقد أقسم بال لو أجبرتكم على الجهاد ـ والذي لم يكن يروق لكم بينما فيه
الخير الكثير ـ حين أمرتكم بقبول التحكيم )بفعل الضطرار واصرار الجّهال( لكان خيرًا لكم ،فان سلكتم سبيل
الحق هديتكم وإن انحرفتم أعدتكم إلى الصواب ،ولو
» .1عقدة« :ما حصل عليه »التعاقد« والمراد بها هنا الرأي الصحيح والعهد على الطاعة.
] [ 136
تخلفت طائفة منكم لستبدلتها بأخرى )على كل حال لو أطعتموني في مواصلة القتال( وهذا هو الحق الذي ليس
حي َ
ن ل َلْو َأّني ِ ل الضلل ،لكن من المؤسف إّنكم لم تجيبوني ،فبمن استظهر على العدو وبمن أثق؟ »َأَما َوا ّ بعده إ ّ
ن َأَبْيُتْم
جُتْم َقّوْمُتُكْمَ ،وِإ ْ
جْعَو َ
نا ْ
سَتَقْمُتْم َهَدْيُتُكْمَ ،وِإ ِ
نا ْ
خْيرًاَ ،فِإ ِ
ل ِفيِه َ
لا ّ جَع ُ
عَلى اْلَمْكُروِه اّلِذي َي ْ
حَمْلُتُكْم َ
َأَمْرُتُكْم ِبِه َ
ن؟«. ن َوِإَلى َم ْ
ن ِبَم ْ
ت اْلُوْثَقى َ ،ولِك ْ
َتَداَرْكُتُكْمَ ،لَكاَن ِ
شْوَكِةَ ،وُهَو
شْوَكِة ِبال ّ
ش ال ّ
ي ِبُكْم َوَأْنُتْم َداِئيَ ،كَناِق ِ
ن ُأَداِو َ
ثم أعرب المام )عليه السلم( عن دهشته فقالُ» :أِريُد َأ ْ
ضْلَعَها)َ (1مَعَها!«.
ن َ
َيْعَلُم َأ ّ
فالتشبيه المأخوذ من المثل المعروف تشبيه غاية في الدقة والبلغة ،فعادة ما يخرجون الشوكة التي تغوص في
الرجل بإبرة أو منقاش ،فان ُاريد سّلها بشوكة أخرى احتمل أن تغوص الثانية في الرجل أيضًا ،فيزيد الطين بّلة
ن ضَْلَعَها
شْوَكِةَ ،وُهَو َيْعَلُم َأ ّ
شْوَكِة ِبال ّ
ش ال ّ
حتى أصبح المر بصيغة مثل تعارف عند العرب حيث يقولَ» :كَناِق ِ
َمَعَها«.
فالمثل يصرب لمن يحكم آخر لرفع الختلف بينه وبين شخص آخر والحال يرغب ذلك الفرد بزيادة العداوة
والنزاع ،فمراد المام )عليه السلم( إّني ُاريد أن أدفع بكم عصاة الشام بينما أنتم العصاة الذين يجب تأديبهم ،على
ن هذه العبارات التي تفيض معاناة تفيد مدى الوضع العصيب الذي شهده المام )عليه السلم( ،فا ّ
ن كل حال ،فا ّ
أمرهم بالهجوم ومواصلة القتال خالفوه وقالوا :عليك بالنزول لحكم القرآن ،وإن طرح عليهم قضية التحكيم
اعترضوا عليه بالقول :لم تسّلم لمنطق العدو؟ فلكل هواه ورأيه ،ولكل فكره ونهجه ،بحيث انتهى بهم المر إلى
إتهام أعظم
» .1ضلع« :من مادة »ضلع« على وزن سبب بمعنى الميل نحو الشيء ،وتعني هنا الشبه والمثل.
] [ 137
ل بسبب وجود فئة سيئة من إمام خلف رسول ال )صلى ال عليه وآله( على أّنه ضعيف في التدبير ،وليس ذلك إ ّ
ن الحق سبحانه أراد امتحان الجميع بهذا الزعيم الفذ.
التباع الضعاف ،لم وكيف أصبح المر كذلك؟ كأ ّ
ت)(2
يَ ،وَكّل ِ
طّباُء هَذا الّداِء) (1الّدِو ّ
ت َأ ِ
وأخيرًا شكى المام وعرض حاجته إلى ال سبحانه فقال» :الّلّهّم َقْد َمّل ْ
ي).«!(5 ن) (4الّرِك ّ
طا ِ
شَعُة)ِ (3بَأ ْ
الّنَز َ
ياله من تعبير بليغ وموجع في نفس الوقت ،فان أصيب شخص بمرض عضال ولم يجد معه نفعًا كل علج يقدمه
لح الذي يجهد نفسه في الطبيب المختص ،فل يشعر مثل هذا الطبيب سوى بالملل والرهاق ،على غرار الف ّ
استخراج الماء من البئر ليسقي به الرض المالحة فل تخرج بالنبات ،وهذا بالضبط حال المام علي )عليه
السلم( حين إبتلى بتلك العصابة من الجّهال المسلوبة اليمان والرادة ل خير يرتجى فيهم.
ت الَمرضى ن عيسى بن مريم )عليه السلم( قالَ» :داَوي ُ ورد في الحديث عن المام الصادق )عليه السلم( أ ّ
ق َفَلم َأقَدْر
لحَم َ
تا َ
عاَلج ُل َو َ
ت الَموتى فأحييُتهم بإذن ا ُ
ل ِوعـاَلج ُنا ِص بإذ ِ
ت الكَمَه والبر َ
ل وأبرأ ُ
شَفيُتُهم ِباذن ا ِ
َف َ
حِه«).(6عَلى ِإصل ِ َ
—–
» .2كلت« :من مادة »كلول« على وزن ملول بمعنى الضعف.
» .3نزعة« :من مادة »تزع« على وزن جمع نازع بمعنى السحب.
» .4أشطان« :جمع »شطن« على وزن وطن الحبل الطويل الذي يسحب به الماء من البئر.
] [ 138
] [ 139
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
إخوتي في الجهاد
ذكر المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة أصحابه الشجعان من أهل اليمان بهدف إثارة قدراتهم
وقواهم وحّثهم على الجهاد ،كما ذّمهم على ضعفهم وتقصيرهم ،أصحابه الذين تألقوا في ساحات الحرب حين
ن اْلَقْوُم اّلِذي َ
ن قتالهم للعداء وكذلك في ميدان الطاعة والعبودية حيث كانوا سّباقين في هذه الميادين فقد قالَ» :أْي َ
لِدَها،
ح)ِ (3إَلى َأْو َ جَهاِد َفَوِلُهوا)َ (2وَلَه الّلَقا ِ
جوا)ِ (1إَلى اْل ِ حَكُموُهَ ،وِهي ُ
ن َفَأ ْلِم َفَقِبُلوُهَ ،وَقَرُءوا اْلُقْرآ َ
سَلْ
عوا ِإَلى ا ِْ ُد ُ
جا«. ض َن َكَ ،وَبْع ٌ ض َهَل َصّفاَ .بْع ٌ
صّفًا َ حفًا)َ ،(5و َ حفًا َز ْ
ض َز ْلْر ِ ف ا َْ
طَرا ِ خُذوا ِبَأ ْغَماَدَها)َ ،(4وَأ َ ف َأ ْ
سُيو َ
سَلُبوا ال ّ
َو َ
» .1هيجوا« :فعل مجهول من مادة »هيجان« وتعني هنا أّنهم كانوا يندفعون إلى الجهاد.
» .2ولهوا« :من مادة »َوَلَه« على وزن فرح شّدة الشوق أوالحزن.
] [ 140
دقيقة هى الوصاف التي أوردها المام )عليه السلم( في هذه العبارة لهم ،فقد إبتدأها باليمان بالسلم والفهم
والدراك الصحيح للقرآن والعمل به والذي الدافع الرئيسي للحركة نحو الجهاد ،ومن ثم عشقهم للجهاد الذي يشبه
لم لولدها وولهها إليه ،ويثني على شجاعتهم حيث لم يفكروا قط في إغماد سيوفهم والتراجع عن الجهاد، بعشق ا ُ
وأخيرًا مدح مدى حركتهم الجماعية ـ والذين كانوا يحضرون في الميدان في أي موضع كانوا ـ والحق من يتحلى
بهذه الصفات ،فهو منتصر على الدوام.
ثم واصل الكلم بالحديث عن سائر صفاتهم حيث يكشف النقاب عن علّو معنوياتهم ومدى زهدهم وخضوعهم
ن اْلَمْوَتى«.
عِل ُيَعّزْونَ َ
حَياِءَ ،و َ
لْ
ن ِبا َْ
شُرو َ
ل ُيَب ّ
وخشوعهم ل تبارك وتعالى فقالَ » :
وهذه علمة علو روحيتهم حيث لم يكونوا بفكر قيود الحياة المادية ،بحيث ينزعجون لفقد الحبة أو يهنى أحدهم
الخر على البقاء على قيد الحياة ،إّنهم يفخرون بالشهادة في سبيل ال سبحانه ويرونها حلمهم في نيل السعادة
شَفاِه ِم َ
ن ل) (3ال ّ
صَياِمُ ،ذُب ُ
ن ال ّ
ن ِم َ
طو ِ
ص) (2اْلُب ُ خْم ُ ن اْلُبَكاِءُ ،ن ِم َلخروية ،ومن صفاتهم أيضًاُ» :مْرُه) (1اْلُعُيو ِ اُ
ن«. شِعي َ
خا ِ
غَبَرُة اْل َ
جوِهِهْم َ عَلى ُو ُ سَهِر)َ .(5 ن ال ّ
ن ِم َ
لْلَوا ِ
صْفُر) (4ا َْ
عاِءُ ،
الّد َ
نعم ،فهم في ساحات المعارك يزأرون كالسد ،وإن جن عليهم الليل ارتفعت أصواتهم بالنحيب والبكاء وجرت
دموعهم على خدهم ،هكذا هم في الحالين.
خَواِني
ك ِإ ْ
ثم خلص المام )عليه السلم( بعد ذلك إلى الدرس والعبرة التي ينبغي الحتذاء بها فقالُ» :أولِئ َ
عَلى ِفَراِقِهْم«.
ي َ
لْيِد َ
ض ا َْ
ظَمَأ ِإَلْيِهْمَ ،وَنَع ّ
ن َن ْ
ق َلَنا َأ ْ
حّنَ .ف َ
الّذاِهُبو َ
لقد جرت عادة أرباب التربية على الستشهاد بالنماذج البارزة القّيمة من أجل تهذيب الفراد المطلوب تربيتهم
ليتمكنوا من مقارنة أنفسهم بتلك النماذج فيحذو حذوهم ،يقفون
] [ 141
لسلوب الذي إعتمده المام )عليه السلم(في إطارعلى أخطائهم فيهمون بتداركها وإصلح أنفسهم ،وهذا هو ا ُ
تربيته للفراد ،ولكن وللسف لم يكن ُاولئك الفراد آنذاك مستعدين لتقبل نصائحه ووصاياه وبرامجه التربوية،
ب ومعلم مهما كان بصيرًا ومشفقًا ونموذجًا ما لم يكن هناك من إستعداد في الطرف
وبالطبع ل فائدة لي مر ّ
المقابل لتقبل أفكاره والستجابة لها ،فالمطار المفعمة بالحياة والخير والبركة تنزل على كل مكان ،ولكن ل
ل الخبث ول يسعها الستفادة من تلك المطار ،والشمس هى الخرى تضيىء لكل ذي تخرج الرض المالحة إ ّ
عينين ،ولكن ماذا يسع العمى أن يرى منها ،والرياح المنعشة تهب في كل مكان ولكن ل تنتفع بها قبور الموتى.
—–
] [ 142
] [ 143
القسم الثالث
—–
الشرح والتفسير
إختتم المام )عليه السلم( خطبته بالحديث عن الشيطان كون وساوسه تمثل مصدر البؤس والشقاء ،حيث حذر
صحبه ومخاطبيه من هذا المكر وضرورة مراقبة الشيطان واللتفات إلى طرق نفوذه ،وقد بّين ذلك على شكل
طُرَقُه«.
سّني)َ(1لُكْم ُ
ن ُي َ
طا َ
شْي َ
ن ال ّ
خلصة بأربع عبارات فقالِ» :إ ّ
ولما كان الشيطان يتبع الساليب السياسية شيئًا فشيئًا فاّنه يسعى لتقويض جموح الدين والقضاء على العقائد
عْقَدًة« ،من ضمن برامجه وخططه أيضًا إيجاد الفرقة عْقَدًة ُ
ل ِديَنُكْم ُ
حّن َي ُ
والعمال الواحدة بعد الخرىَ» :وُيِريُد َأ ْ
عِة اْلُفْرَقَة« ،فيثير الفتن بواسطة هذه الفرقةَ» :وِباْلُفْرَقِة اْلِفْتَنَة«. جَما َ
طَيُكْم ِباْل َ
ل من التحادَ» :وُيْع ِ
بد ً
أجل أول برنامج للشيطان أن يبدي الطرق الوعرة والخطيرة معبدة سهلة في نظر النسان ،فيستقطب إليه الجميع
ن سلك سبيله واّتبعه قاده
من خلل المرونة والتساهل وتصوير طريق الطاعة على أّنه معقد خطير وصعب ،فا ّ
كل يوم إلى ترك قانون من قوانين الشرع وعهد
ي« :من مادة »سناء« بمعنى الضياء وإن استعملت في باب التفعيل وردت بمعنى يسّهل.
» .1يسن ّ
] [ 144
ل َتّتِبُعوا
من عهوده المقّدسة ،وهو المر الذي أكده القرآن الكريم أربع مّرات محذرًا من اّتباع الشيطانَ) :و َ
ن.(1)(...
طا ِ
شْي َ
ت ال ّ
طَوا ِ
خُُ
شاِء َواْلُمْنَكِر.(2)(...
حَن َفِإّنُه َيْأُمُر ِباْلَف ْ
طا ِ
شْي َ
ت ال ّ
طَوا ِ
خُن َيّتِبْع ُ
وقال تعالىَ) :وَم ْ
فان جعل النسان غير مكترث للحكام اللهّية وسادت المجتمع الهواء ،آنذاك يستفيد من تضارب المصالح
ن َأ ْ
ن طا ُ
شْي َ
المادية والتعصبات الجاهلية ليدعو الناس إلى الفرقة ،كما أشار إلى ذلك القرآن الكريمِ) :إّنَما ُيِريُد ال ّ
سِر.(3)(...
خْمِر َواْلَمْي ِ
ضاَء ِفي اْل َ
ُيوِقَع َبْيَنُكْم اْلَعَداَوَة َواْلَبْغ َ
ومن الطبيعي إن اشتعلت نيران الفرقة والختلف والنفاق في المجتمع استتبع ذلك ظهور الفتن ،ومّما ل شك فيه
ن دين الفراد ودنياهم تتحطم بفعل تلك الفتن ،ولعل هذا هو المر الذي أجراه الشيطان في أحدث معركةفا ّ
صفين ،فقد لقنهم الشيطان باديء المر أن قبول التحكيم هو أسهل الطرق لبلوغ الصلح والستقرار ،ثم دعاهم
للتمرد على أوامر المحكم أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( في مجال الجهاد ،آنذاك بث بذور الفرقة والنفاق بين
صفوف الجيش حتى انتهى المر إلى فتنة عمرو بن العاص وأثرها فتنة الخوارج.
غاِتِه)َ(5وَنَفَثاِتِه)
ن َنَز َ
عْ
صِدُقوا)َ (4
ثم قال المام )عليه السلم( بغية عدم سقوط أصحابه في شباك الشيطانَ» :فا ْ
سُكْم«.
عَلى َأْنُف ِ
عِقُلوَها)َ (7
ن َأْهَداَها ِإَلْيُكْمَ ،وا ْ
حَة ِمّم ْ
صي َ
َ ،(6واْقَبُلوا الّن ِ
ويصدق هذا المر في عصرنا وزماننا ،فالشيطان يري طرقه المنحرفة سهلة وبسيطة بادىء المر ،ويسحب
الناس إليه ،ثم يسلبهم القيم السلمية الواحدة بعد الخرى ،ثم يبث بينهم بذور الفرقة والخلف ،وأخيرًا تقود
الفرقة إلى اشتعال نيران الفتن السياسية والجتماعية والقتصادية.
_______________________________________________________________
.2سورة البقرة ;208 /سورة النعام ;142 /سورة نور .21 /
» .4اصدقوا« :من مادة »صدق« على وزن عطف بمعنى العراض.
» .7اعقلوها« :من مادة »عقل« على وزن دغل احبسوها على أنفسكم ل تتركوها فتضيع منكم ،والعقل ربط
رجل الناقة.
] [ 145
الخطبة)122 (1
جةن هذه الخطبة جانب من حديث المام )عليه السلم( قبل معركة النهروان ،ذكره المام ح ّ كما ورد أعله فا ّ
عليهم ،فكان لكلمه بالغ التأثير بحيث تاب أغلب الخوارج وتراجعوا عن القتال ،فقد قسمهم المام )عليه السلم(
بادىء المر إلى فئتين ،وقد فرق بين صفوقهم ،فئة شهدت صفين وأخرى لم تشهدها ،وفي القسم الثاني ذّكر
ي مسألة التحكيم ،والحال كنت شديد المخالفة لذلك المر ،وقد أمرتكم
أصحاب الصفين بأّنكم أنتم من فرضتم عل ّ
بمواصلة الجهاد حتى تحقيق النصر.
وفي القسم الثالث أشار إلى مسألة وهى إننا كّنا في صدر السلم نقاتل قرابتنا حين كانوا في معسكر الكفر من
أجل نصر الدين ،وأّما الن فالذي يقف في المعسكر المقابل إخوتنا من
.1سند الخطبة:
نقل المرحوم الطبرسي في كتاب الحتجاج أقصر مّما ورد في هذه الخطبة مّما يدل على أّنه أخذها من مصدر آخر ،وقال ابن أبي
ل لكّنه يتألف في الواقع من ثلثة أقسام منفصلة ،وقد جرت عادة السيد الرضي على انتخابن هذا الكلم وإن كان متص ً
الحديد إ ّ
الفصح من الكلمات وحذف سائر الكلمات )مصادر نهج البلغة .(2/271
] [ 146
—–
] [ 147
القسم الول
ن ِفْرَقًة،
شِهَد صِّفي َ
ن َ
ن َم ْ
نَ ،فْلَيُك ْ
لَ :فاْمَتاُزوا ِفْرَقَتْي ِ
شَهْدَ .قا َ
ن َلْم َي ْ
شِهَد َوِمّنا َم ْن َ ن؟ َفَقاُلواِ :مّنا َم ْصّفي َ
شِهَد َمَعَنا ِ
»َأُكّلُكْم َ
ل:سَ ،فَقا َ
لِمِهَ .وَناَدى الّنا َ ل ِمْنُكْم ِبَك َ
حّتى ُأَكّلَم ُك ّ
شَهْدَها ِفْرَقًةَ ،
ن َلْم َي ْ
َوَم ْ
ل ِبِعْلِمِه ِفيَها.
شَهاَدًة َفْلَيُق ْ
شْدَناهُ َ
ن َن َ
يَ ،فَم ْ
صُتوا ِلَقْوِليَ ،وَأْقِبُلوا بَأْفِئَدِتُكْم ِإَل ّ
لِمَ ،وَأْن ِ
ن اْلَك َ
عِ
سُكوا َ
َأْم ِ
ل)عليه السلم(:
ن َقا َ
جْمَلِتِه أ ْ
ن ُ
طِويلِ ،م ْ
لم َ
ُثّم َكّلَمُهْم)عليه السلم( ِبَك َ
حوا ِإَلى سَتَرا ُ
سَتَقاُلوَنا َوا ْ عَوِتَنا ،ا ْل َد ْخَواُنَنا َوَأْه ُ خِديَعًةِ :إ ْ غيَلًةَ ،وَمْكرًا َو َ حيَلًة َو ِف ِ ح َ صا ِعْنَد َرْفِعِهُم اْلَم ََأَلْم َتُقوُلوا ِ
نَ ،وَأّوُلُهعْدَوا ٌطُنُه ُ نَ ،وَبا ِ ظاِهُرهُ ِإيَما ٌ ت َلُكْم :هَذاَأْمٌر َ عْنُهْم؟ َفُقْل ُ
س َ ل ِمْنُهْم َوالّتْنِفي ُ
ي اْلَقُبو ُحاَنُهَ ،فالّرْأ ُ
سْب َل ُ با ّ ِكَتا ِ
عقل َتْلَتِفُتوا ِإَلى َنا ِ
جِذُكْمَ ،و َ جَهاِد ِبَنَوا ِ
عَلى اْل ِ ضوا َ ع ّ طِريَقَتُكْمَ ،و َ شْأِنُكْمَ ،واْلَزُموا َ عَلى َ خُرُه َنَداَمٌةَ .فَأِقيُموا َحَمٌةَ ،وآ ِ َر ْ
عَل ّ
ي ت َ جَب ْن َأَبْيُتَها َما َو َ
ل َلِئ ْطْيُتُموَهاَ .وا ّ عَ ت هِذِه الَفْعَلُةَ ،وَقْد َرَأْيُتُكْم َأ ْ لَ .وَقْد َكاَن ْك َذ ّلَ ،وِإن ُتِر َ ضّ ب َأ َجي َ ن ُأ ِ
قِ :إ ْ
َنَع َ
حْبُتُه«: صِ ب َلَمِعيَ ،ما َفاَرْقُتُه ُمْذ َ ن اْلِكَتا َق اّلِذي ُيّتَبُع; َوِإ ّ حّ جْئُتَها ِإّني َلْلُم ِ
ن ِل ِإ ْل َذْنَبَهاَ .وَوا ّيا ّ حّمَلِن َ
ل َضُتَهاَ ،و َ َفِري َ
—–
الشرح والتفسير
ن المخاطب بهذه الخطبة هم خوارج النهروان الذين كلمهم المام )عليه السلم(بهذا الكلمكما ذكرنا سابقًا فا ّ
جة عليهم وهداية وإرشاد الفئة الضالة المنخدعة ،فقال بادىء المر من لتمام الح ّ
] [ 148
شَهْد«.
ن َلْم َي ْ
شِهَد َوِمّنا َم ْ
ن َ
ن؟ َفَقاُلواِ :مّنا َم ْ
صّفي َ
شِهَد َمَعَنا ِ
أجل إعدادهمَ» :أُكّلُكْم َ
ن المّدة بين معركة صفين ومقاتلة خوارج النهروان لم تكن طويلة ،لكن ل يعلم كيف اتصلت الفئة الثانية رغم أ ّ
التي لم تشهد صفين بالفئة الولى الباغية ،ورّبما أثرت عليها وساوس الفئة الولى سمومها التي بّثتها بين أهل
الكوفة فجعلتها تلتحق بها وتقف معها في مواقفها الفاسدة.
ل ِمْنُكْم
حّتى ُأَكّلَم ُك ّ
شَهْدَها ِفْرَقًةَ ،
ن َلْم َي ْ
ن ِفْرَقًةَ ،وَم ْ
صّفي َ
شِهَد ِ
ن َ
ن َم ْ
نَ ،فْلَيُك ْ
ثم قال )عليه السلم(َ» :فاْمَتاُزوا ِفْرَقَتْي ِ
لِمِه«.
ِبَك َ
ن الفصاحة والبلغة تقتضي تمييزهم ن المخاطبين بحديث مهم إن لم يكونوا على مستوى واحد فا ّ فالعبارة تفيد أ ّ
عن بعضهم والتحدث لكل بما يتناسب ووضعه ،ليكون للكلم أثره المرجو والمطلوب ،ومن هنا سلك المام )عليه
شْدَناُه)(1
ن َن َ
يَ ،فَم ْ
صُتوا ِلَقْوِليَ ،وَأْقِبُلوا بَأْفِئَدِتُكْم ِإَل ّ
لِمَ ،وَأْن ِ
ن اْلَك َ
عِ
سُكوا َ
لَ :أْم ِ
سَ ،فَقا َ
السلم( هذا النهجَ» :وَناَدى الّنا َ
ل ِبِعْلِمِه ِفيَها«.
شَهاَدًة َفْلَيُق ْ
َ
ن الخوارج أو جيش المام )عليه السلم( ممن حضر هناك ،أو كلهما ،أّنهم كانوا فالذي يستفاد من هذه العبارة أ ّ
مشغولين بالكلم مع بعضهم البعض الخر ،فقد دعاهم المام )عليه السلم( إلى الصمت والستماع لما يقول
والقبال عليه بقلوبهم ليستعدوا للتفاعل مع الكلم ،كما إختار من جمعهم بعض الشهودُ» :ثّم َكّلَمُهْم)عليه السلم(
ل )عليه السلم(.(2)«:ن َقا َ
جْمَلِتِه أ ْ
ن ُ
طِويلِ ،م ْ
لم َ
ِبَك َ
فقد أخذ المام )عليه السلم( أيديهم إلى الماضي القريب وذّكرهم بكبر أخطائهم وعظم معصيتهم وتمردهم ،ثم
خَواُنَنا
خِديَعًةِ :إ ْ
غيَلًة)َ ،(3وَمْكرًا َو َ حيَلًة َو ِف ِ ح َ صا ِ
عْنَد َرْفِعِهُم اْلَم َ
خاطب الفرقة التي شهدت صفينَ» :أَلْم َتُقوُلوا ِ
عْنُهْم؟«. س)َ (5 ل ِمْنُهْم َوالّتْنِفي ُي اْلَقُبو ُ
حاَنُهَ ،فالّرْأ ُ
سْب َ
ل ُ با ّ حوا ِإَلى ِكَتا ِ سَتَرا ُ
سَتَقاُلوَنا)َ (4وا ْ
عَوِتَنا ،ا ْ
ل َد ْ
َوَأْه ُ
ن،
ظاِهُرهُ ِإيَما ٌ
ت َلُكْم :هَذاَأْمٌر َ
بعد ذلك طرح المام )عليه السلم( رّده على تلك الخدعةَ» :فُقْل ُ
» .1نشد« :من مادة »نشد« بمعنى النداء والسؤال والطلب وهنا بمعنى الستشهاد.
ن كلم المام
.2هل هذه الجملة للسيد الرضي أم كلم رواي الخطبة الذي نقل عنه السيد الرضي ،ل يعلم بالضبط ،لكن من المسلم به أ ّ
)عليه السلم( أكثر مّما ورد في نهج البلغة وقد اعتاد السيد الرضي على اقتطاف أفصح وأبلغه.
» .3غيلة« :بمعنى »غدر«.
] [ 149
خُرُه َنَداَمٌة«.
حَمٌةَ ،وآ ِ
نَ ،وَأّوُلُه َر ْ
عْدَوا ٌ
طُنُه ُ
َوَبا ِ
قِ :إ ْ
ن عق َنَع َ
ل َتْلَتِفُتوا ِإَلى َنا ِ
جِذُكْمَ ،و َ
جَهادِ ِبَنَوا ِ
عَلى اْل ِ
ضوا َ
ع ّ
طِريَقَتُكْمَ ،و َ
شْأِنُكْمَ ،واْلَزُموا َ
عَلى َوعليهَ» :فَأِقيُموا َ
ل«. ك َذ ّلَ ،وِإن ُتِر َ
ضّ ب َأ َ
جي َ
ُأ ِ
لكن مع السف فقد وقعت هذه الفتنة )التحكيم( ورأيتكم استجبتم لها ،والن قد ارتفع صوتكم بعد أن سقطتم في
طْيُتُموَها«.
عَ
ت هِذِه الَفْعَلُةَ ،وَقْد َرَأْيُتُكْم َأ ْ
الفتنةَ» :وَقْد َكاَن ْ
حّقا ،إّنه لمن دواعي العجب! فقد عرضوا المام لشد الضغوط في اللحظات الخيرة لتلك المعركة المصيرية
والتي أشرفت على تحقيق النصر النهائي حتى فرضوا عليه الستجابة لخدعه عمرو بن العاص وقبول التحكيم،
ف عن القتال ،ولما زالت الحجب بل أبعد من ذلك هددوه بالقتل إن لم يصدر أمره لمالك الشتر بالنسحاب وال ّ
ل من العودة إلى
وتكشفت المور وبانت الخدعة توجهوا باللوم إلى المام )عليه السلم( لم قبلت التحكيم ،بد ً
نفوسهم والعتذار والهم بإصلح ما بدر منهم من أخطاء(.
ن المام )عليه السلم( ميز الخوارج في بداية المر إلى فرقتين ،فرقة شهدت صفين الجدير بالذكر في هذا المر أ ّ
وأخرى لم تشهدها ،لتتضح قضية وهى إن تمّرت الفرقة الثانية بفعل جهلها وعدم إحاطتها بأحداث صفين ،فما
لسس التي دفعتكم للقدوم إلى النهروان؟ كيف
بالكم أنتم الذين شهدتم صفين وتابعتم الحداث؟ فما المنطق وا ُ
تتهموني بمسؤولية التحكيم؟
جة عليهم وعلى ُاولئك الفريق الثاني الذي خدع بالفريق الول ورافقه إلى الميدان ،وليس هنالك
وهكذا أتّم الح ّ
أسوأ ممن ل يصغي لكلم الناصح المين المشفق ،فان أصابته مصيبة بما قدمت يداه نسب التقصير فيها إلى ذلك
الناصح وجابهه بالعتراض ،نعم ،هذا هو دين الفراد البعيدين عن النصاف والذين ينسون ما يصدر منهم من
أفعال.
ثم أوضح المام )عليه السلم( حقيقة الموقف بصورة أخرى ليقسم بأّنه لو لم يقبل التحكيم لما كان عليه من
ضُتَها،
ي َفِري َ
عَل ّ
ت َ
جَب ْ
ن َأَبْيُتَها َما َو َ
ل َلِئ ْ
مسؤولية في اللتزام بلوازمها ول يحملها ال سبحانه ذنبها ووزرهاَ» :وا ّ
ل َذْنَبَها«.
يا ّ
حّمَلِن َ
ل َ
َو َ
] [ 150
طواغيت الشام وذهبت بدماء شهداء صفين أدراج الرياح ،فذلت دعاة الحق وأشعرتهم باليأس.
حْبُتُه«.
ب َلَمِعيَ ،ما َفاَرْقُتُه ُمْذ صَ ِ
ن اْلِكَتا َ
ق اّلِذي ُيّتَبُع; َوِإ ّ
حّجْئُتَها ِإّني َلْلُم ِ
ن ِ
ل ِإ ْ
ثم قال )عليه السلم( إثر ذلكَ» :وَوا ّ
إشارة إلى أّنه حين رأيت ما وقع بينكم من شقاق في مسألة التحكيم يتطلب أن أمنعه ،وبخلفه لنازع أحدكم الخر
وشهر السيف في وجه صاحبه ولقاد ذلك المر إلى فضيحة كبرى ،وهنا شعرت بالضطرار لقبول التحكيم.
أضف إلى ذلك فلو فوضتم التحكيم إلى من هو عالم به ول يفارقه ومحيط بمضمونه ولم تتجهوا صوب فرد بسيط
وجاهل كأبي موسى الشعري ،لفشلت تلك المؤامرة وخمدت الفتنة ،وإن كان فيها من ضرر فهو جزئي محدود،
ي التحكيم وكذلك أجبرتموني على تحكيم أبي موسى الشعري ،فسقطتم في هذه الفتنة وتكبدتم كل
لكنكم فرضتم عل ّ
ي أن أتحمل مسؤولية تقصيركم؟ وأدفع ثمن جريمتكم؟ والذيهذه الضرار فما تقولون بهذا الخصوص؟ فهل عل ّ
نخلص إليه ّما مّر معنا من كلم:
ن المام )عليه السلم( أقسم مّرتين في هذا المقطع من كلمه ،سّيما في القسم الثاني الذي أردفه بالتوكيد
1ـأّ
ليبّين بعده كل البعد عن أدنى تقصير.
ل على ترديده في مسألة للتحكيم ،بل إشارة 2ـ ما بّينه المام )عليه السلم( في القسمين المذكورين ليس فيه ما يد ّ
إلى حالتين مختلفتين ،فقد كان مخالفًا بشّدة في البداية ،لّنه كان يعتبرها مكر وحيلة خطيرة ،ولما اختلف جيشه
ل التحكيم ،استجاب للتحكيم دفعًا للفتنة وإبعادًا للفرقة والشقاق ،وعليه فقد
وصحبه ،وأبى العم الغلب منهم إ ّ
كانت مخالفته في بداية المر وموافقته تستند إلى الحكمة ،وبغض النظر عّما سبق لو لم يصّر ذلك الفريق الجاهل
على تحكيم ذلك العنصر الفاسد كأبي موسى الشعري لما كانت المشاكل بذلك الحجم ،فذلك الصرار الفض هو
ن هذه الفئة
الذي أّدى إلى عقم نتائج معركة صفين والمتياز الذي حصل عليه أعداء السلم ،وبناءًا على هذا فا ّ
المتعصبة أخذت تفقد مواضعها الواحد بعد الخر حتى انتهت إلى ذلك المصير السود ،والعجيب أّنهم استجيب
للتحكيم؟!
] [ 151
ن منطق المام )عليه السلم( بهذا الخصوص قد أتى أكله فعادت طائفة عظيمة من لكن وعلى كل حال ،فا ّ
ن الغلبية الساحقة من الخوارج قد
الخوارج إلى نفسها فتابت وكفت عن القتال ،حتى صّرحت كتب التاريخ بأ ّ
تابت ووقفت على عظيم زّلتها.
—–
ن العمال التي مارسها معاوية طيلة تاريخ حياته ول سيما في مّدة حكومته لتكشف حقيقة واضحة لكل فرد إّ
ل هّمه ترسيخ دعائم
منصف في أّنه لم يفكر بارساء العدل بين المسلمين ،ولم يكن يهّم بنشر السلم ،بل كان ج ّ
حكومته المتزلزلة ،ومن هنا فقد اعتمد كافة الساليب التي يلجأ إليها جبابرة الدنيا من أجل ترسيخ حكوماتهم،
وأبسط نموذج يمكن الشارة إليه في هذا المجال إّنما يتمثل برفعه لقميص عثمان في الشام وذرف دموع التماسيح
على الخليفة المقتول ظلمًا بهدف إثارة الناس للتمرد على أميرالمؤمنين علي )عليه السلم(وسفك دماء المسلمين،
إلى جانب إغداق الرشاوي الضخمة على زعماء القبائل ،بل حتى بعض قواد جيش المام علي )عليه السلم(
وإيجاد الفرقة والخلف بينهم وبين سائر الناس.
وكذلك توجيه الراذل إلى مختلف نواحي البلد السلمية لنهب الثروات وإشاعة أجواء التوتر القلق .ولعل قضية
رفع المصاحف وحملها على أسنة الرماح تعّد واحدة من تلك الساليب ،فمعاوية لم يكن مستعدًا لقبول حكم القرآن
ن معاوية قامالكريم ،كما لم يكن مهتمًا بهذا المر ،وكل ما يفكر فيه هو الحكومة ،كما ذكر شّراح نهج البلغة أ ّ
ل أّنه لم يصطدم قط بقتلة
بوجه أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( في البداية تحت شعار الطلب بدم عثمان ،إ ّ
عثمان بعد ظهوره عليهم ،فقد كان يقول أحيانًا ،ألست من قتلة عثمان؟ وأحيانًا أخرى كان يسكت ،ويغدق عليهم
العطاء )هذا ما نقله العقاد في كتاب »معاوية« ونقل عبدالكريم الخطيب عن كتاب »علي بن أبي طالب)عليه
ن عائشة بنت عثمان طالبت معاوية بالقصاص من قتلة أبيها. السلم(« أ ّ
ن قضية
ض الّناس« مراده أ ّ
عر ِ
ن َ
ن َتكوِني امرَأٌة ِم ْ
ن َأ ْ
خيٌر ِم ْ
ن َ
عّم َأِمير الُمؤِمِني َ
ن َتُكوِني ِإبَنُة َ
فأجابها معاوية» :ل ْ
الطلب َبِدِم عثمان قد انتهت ،وكان الهدف منها الستيلء على
] [ 152
ل الكتفاء والقناعة بأّنك ابنة حكومة وقد حصل هذا المر ،ولعل المطالبة بدم عثمان تهدد كياننا ،وما عليك إ ّ
عمي ،ابنة عم حاكم المسلمين طبعًا ،يمكن التعرف على شخصية معاوية من خلل مقربيه ،فقد ذكر العقاد ،أ ّ
ن
عَليها« ،أي
ب َل الّدنيـا َنَتَكاَل ُ
ن ِهي ِإ ّل ِإ ْ
عِليًا ِلَفضِلنـا؟ ل َوا ِ
عمرو بن العاص قال يومًا لمعاوية» :أَترى َأننا خـاَلفنـا َ
ولم يكن الحديث عن السلم والقرآن سوى الذريعة.
ك أَّيها الَمِلك«.
عَلي َ
سلُم َ
وذكر ابن الثير أن سعد بن أبي وقاص قال لمعاوية» :ال ّ
ن«.
ي بأمير المؤِمني َ
عَل ّ
سّلم َ
فقال معاويةِ» :لَم َلم ُت َ
—–
.1في ضلل نهج البلغة ،للمرحوم محمد جواد مغنية ،ذيل الخطبة التي بحثها .2/222
] [ 153
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
يختتم المام )عليه السلم( خطبته بالجابة المنطقية لصحاب الخوارج ،فقد قالواِ :لَم استجاب المام )عليه
السلم( إلى التحكيم؟ َلَم ل نقاتل العداء إلى آخر نفس على غرار ما فعله المسلمون من صحابة النبي )صلى ال
عليه وآله( في صدر السلم؟ هل أذعن النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( لمسألة التحكيم؟ فقد أوضح المام
ن زماننا يختلف تمامًا عن زمان النبي )صلى ال عليه وآله( ،ومن
)عليه السلم( حقيقة في إجابته على ُاولئك بأ ّ
نقاتلهم الن طائفة من المسلمين المخدوعين ،والحال كان أعداؤنا في صدر السلم هم الكّفار والمشركون الذين
وقفوا بوجه السلم.
لْبَناِء
لَباِء َوا َْ
عَلى ا ْ
ل َلَيُدوُر َ
ن اْلَقْت َ
عَلْيِه َوآِلِهَ ،وِإ ّ
ل َ
صّلى ا ّ
ل َ لا ّسو ِ فقد قال )عليه السلم(َ» :فَلَقْد ُكّنا َمَع َر ُ
شّدة ِإ ّ
ل صيَبة َو ِل ُم ِ
ى ُك ّ
عَل ِ
ت [القرباء]َ ،فَما َنْزَداُد َ ن َوالَقَراَبا ِ
خَوا ِ
لَْوا ِْ
] [ 154
ح«.
جَرا ِ
ض) (1ال ِ
ض ِ
عَلى َم َ
صْبرًا َ
لْمِرَ ،و َ
سِليمًا ِل َْ
قَ ،وَت ْ
حّ
عَلى ال َ
ضّيا َ
ِإيَمانًاَ ،وُم ِ
نعم ،لقد كّنا نهجم بشّدة آنذاك على العدو ،وإن كان فيهم إخواننا وقرابتنا ،فالمصاب وإن عظم علينا ،لكن حيث
ل بالصبر والشكرَ» :ولِكّنا ِإّنَما كان ذلك يأمر فقد كّنا نزداد إيمانًا ،ولم نجابه كل مصائب المعارك وجراحاتها إ ّ
صَلة
خ ْطِمْعَنا ِفي َ لَ .فِإَذا َ
شْبَهِة َوالّتْأِوي ِ
جَ ،وال ّجا ِعِو َ
لْ ن الّزْيِغ َوا ِ ل ِفيِه ِم َ خَ عَلى َما َد َ لِم َ
سَ لْ خَواَنَنا ِفي ا ِْ
ل ِإ ْ
حَنا ُنَقاِت ُ
صَب ْ
َأ ْ
سَواَها«. عّما ِ سْكَنا َغْبَنا ِفيَهاَ ،وَأْم َ
شَعَثَنا)َ ،(3وَنَتَداَنى ِبَها ِإَلى اْلَبِقّيِة ِفَيما َبْيَنَناَ ،ر ِ ل ِبَها َ َيُلّم) (2ا ّ
فقد أشار المام )عليه السلم( في هذه العبارة إلى أن قياس زمانه بزمان رسول ال )صلى ال عليه وآله( هو
ن القتال ذلك الزمان كان يدور مع العدو الخارجي ،بينما أصبح زمان المام)عليه قياس مع الفارق ،وذلك ل ّ
السلم(ضد الصدقاء المخدوعين والمنحرفين من الداخل ،فالواقع يستند موقف المام )عليه السلم( في قبول
خَرىلْ
عَلى ا ُْ حَداُهَما َ
ت ِإ ْن َبَغ ْ
حوا َبْيَنُهَما َفِإ ْصِل ُ
ن اْقَتَتُلوا َفَأ ْ
ن اْلُمْؤِمِني َ
ن ِم ْ طاِئَفَتا ِ
ن َ
التحكيم إلى الية الشريفةَ) :وِإ ْ
ن().(4
طي َ
سِ ب اْلُمْق ِ
ح ّ
ل ُي ِ
نا َ طوا ِإ ّسُل َوَأْق ِحوا َبْيَنُهَما ِباْلَعْد ِ
صِل ُت َفَأ ْ
ن َفاَء ْ ل َفِإ ْ
حّتى َتِفىَء ِإَلى َأْمِر ا ِ
َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي َ
ن أصل مسألة التحكيم خدعة ولم يكن أمراء جيش الشام يعتقدون بالقرآن ،ولهذا السبب كان المام شديد
صحيح أ ّ
المخالفة في بادىء المر ،لكّنه استجاب لذلك المر بعد ذلك الضغط الشديد الذي مارسه السواد العظم المخدوع
من جيشه مع ذلك كان بالمكان أن تتمخض مسألة التحكيم عن نتائج مرضية لو خضعت لقيادة سليمة ،ولكن كما
ن ضغوط الجّهال قد دفعوا التحكيم إلى مسار ل يجر عليهم سوى الضرر والخسارة. نعلم فا ّ
—–
» .2يلّم« :من مادة »لّم« على وزن غّم بمعنى جمع ،وتأتي أحيانًا بمعنى الجمع والصلح.
» .3شعث« :وردت في الصل بمعنى ما يقع عليه الغبار ،ثم يطلق على نوع من التشتت والتفرق.
] [ 155
الخطبة)123 (1
هذه الخطبة جزء من خطبه طويلة إقتطف المرحوم السيد الرضي بعضها ،وقد تضمنت إشارة إلى بعض النقاط
المهّمة ،وهى:
1ـ يجب على الفراد الذين يتمتعون بقدرات فائقة في القتال أن يدافعوا ويشدوا من أزر الضعاف.
ن الفراد الذين يهربون من الجهاد خشية الموت هم على خطأ ،لّنه ل يمكن الفرار من الموت الذي يدرك2ـإّ
الجميع أينا كانوا.
.1سند الخطبة:
يمكن التعرف على هذا الكلم بصورة متفرقة في سائر الكتب ،ومنها:
] [ 156
3ـ ل موت أشرف وأكرم من الشهادة ،فألف ضربة بالسيف خير من ميتة على الفراش.
4ـ إخبار عن هوان أهل الكوفة وذّلهم في المستقبل بسبب وهنهم وضعفهم في مواجهة الظلمة.
—–
] [ 157
القسم اول
ضلِخيِه ِبَف ْ
ن َأ ِعْ ب َ لَ ،فْلَيُذ ّشًخَواِنِه َف َن ِإ ْ
حد ِم ْن َأ َ
عْنَد الّلَقاِءَ ،وَرَأى ِم ْ جْأش ِ طَة َ سِه َرَبا َ ن َنْف ِ
س ِم ْ
ح ّى ِمْنُكْم َأ َ
ي اْمِر ً »َوَأ ّ
ل َيُفوُتُه اْلُمِقيُمَ ،و َ
ل ث َحِثي ٌ ب َطاِل ٌت َ ن اْلَمْو َجَعَلُه ِمْثَلُهِ .إ ّ
ل َل َ
شاَء ا ّسِهَ ،فَلْو َ
ن َنْف ِ
عْب َ عَلْيِه َكَما َيُذ ّ
ل ِبَها َضَ جَدِتِه اّلِتي ُف َّن ْ
ن ِميَتة
ي ِم ْ عَل ّ
ن َ ف َأْهَو ُ سْي ِ
ضْرَبة ِبال ّ ف َ لْل ُطاِلب ِبَيِدِهَ ، ن َأِبي َ س اْب ِ
ل! َواّلِذي َنْف ُ ت اْلَقْت ُ
ن َأْكَرَم اْلَمْو ِ
بِ .إ ّجُزُه اْلَهاِر ُ
ُيْع ِ
ل!«. عِة ا ّ طا َ
غْيِر َش ِفي َ عَلى اْلِفَرا ِ َ
—–
الشرح والتفسير
شكر القدرة
يشتمل هذا الكلم ـ سواء أورده المام )عليه السلم( على أعتاب معركة الصفين كما ورد آنفًا أو حسبما صّرح به
بعض المحققين على هامش معركة الجمل بعد ضجة معسكر عائشة ،أو في المعركتين وذلك لّنه يتناسب مع كل
مهما ـ على نقاط مهّمة وردت ثلث منها في هذا القسم من الخطبة:
لولى :لزوم التنسيق بين أفراد الجيش بحيث يتولى القوياء الدفاع عن الضعفاء للحّد من جسامة الخسائر ،فقد اُ
ل،
شًخَواِنِه َف َ
ن ِإ ْ
حد ِم ْ
ن َأ َ
عْنَد الّلَقاِءَ ،وَرَأى ِم ْ
جْأش ِ طَة)َ (1 سِه َرَبا َن َنْف ِ
س ِم ْ
ح ّ
ى ِمْنُكْم َأ َ
ي اْمِر ًقال )عليه السلم(َ» :وَأ ّ
سِه«.ن َنْف ِ
عْب َ
عَلْيِه َكَما َيُذ ّ
ل ِبَها َضَ
جَدِتِه) (2اّلِتي ُف ّ ل َن ْضِ
خيِه ِبَف ْ
ن َأ ِ
عْب َ
َفْلَيُذ ّ
» .1رباطة جأش« :جأش على وزن عرش والرباطة الربط بإحكام ،فالمراد بالعبارة قّوة القلب عند لقاء العدو ،حيث يراد بالجأش
القلب والصدر.
» .2نجدة« :من مادة »نجد« على وزن مجد ،بمعنى الشجاعة.
] [ 158
جَعَلُه ِمْثَلُه«.
ل َل َ
شاَء ا ّ
ثم أضاف )عليه السلم(َ» :فَلْو َ
ن أفعال ال وإن استندت إلى الحكمة جميعًا ،مع ذلك فان وهبه القّوة والصلبة فقد وجب عليه الشكر ،والمراد أ ّ
فمن تمتع بنعم كثيرة وجب عليه الشكر بافاضتها على الخرين ليؤّدي بذلك الشكر العملي للنعمة.
ثم إتجه المام )عليه السلم( صوب نقطة مهّمة أخرى وهى ضرورة أل يتصور أحد أّنه يستطيع الفرار من
جُزُه
ل ُيْع ِ
ل َيُفوُتُه اْلُمِقيُمَ ،و َ
ث َ
حِثي ٌ
ب َ
طاِل ٌ
ت َ
ن اْلَمْو َ
مخالف الموت ،فهو يدرك المقيم والمنتظر والهاربِ» :إ ّ
ب«.اْلَهاِر ُ
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه :الموت على نوعين :موت حتمي ،وموت معّلق أو مشروط ،والذي ل يمكن تغييره
هو الموت الحتمي ،أّما الموت المشروط ،فهو قابل للتغيير على ضوء تغير الظروف والشرائط ،ولعل الموت في
ساحة القتال ليس من الموت الحتمي فكيف إستدل المام )عليه السلم( بهذه المسألة وقال بشأن الموت ل يفوته
المقيم ول يعجزه الهارب.
ن النسان يستطيع الهروب من مخالب الموت المشروط أو المعّلق ،ولكن ما جدوى ذلك؟ والثاني :على فرض أ ّ
فالموت الحتمي بالتالي سيدرك جميع الفراد دون استثناء ،فل ينبغي للنسان أن يستسلم للظلمة في مقابل البقاء
عّدة أّيام).(1
.1مّر علينا بالتفصيل بحث الموت الحتمي والمعّلق في المجلد الثالث من هذا الكتاب.
] [ 159
طاِلب ِبَيِدِه،
ن َأِبي َ
س اْب ِ
ل! َواّلِذي َنْف ُ
ت اْلَقْت ُ
ن َأْكَرَم اْلَمْو ِ
ثم أشار المام )عليه السلم( إلى نقطة مهّمة وقّيمة فقالِ» :إ ّ
ل!«. عِة ا ّ
طا َغْيِر َ ش ِفي َ عَلى اْلِفَرا ِ
ن ِميَتة)َ (1
ي ِم ْ
عَل ّ
ن َ
ف َأْهَو ُ
سْي ِ
ضْرَبة ِبال ّ
ف َ
لْل ُ
َ
ن المام )عليه السلم( يعرب عن إستعداده لتحمل ألف ضربة فالعبارة تفيد عظمة مقام الشهداء إلى درجة أ ّ
بالسيف يؤثرها على ميتة الفراش الطبيعية ،وهذا هو لسان حال أو قال جميع المؤمنين المخلصين والشجعان
الذين يعشقون طريق الحق ،طبعًا ل تعني العبارة أّني ل أشعر بألم ضربات السيف ـ كما ذهب إلى لذلك بعض
ن الولى بالنسان من حيث الجانب المعنوي أن يفتح صدره لتحمل أقسى شّراح نهج البلغة ـ بل المراد أ ّ
ن وسام الشهادة يجعل النسان يتحمل اللم والمعاناة ،ول
ل من الموت الطبيعي على الفراش ،ل ّ الضربات بد ً
ن النسان بحكم الشهيد إن مات على الفراش على سلمة من دينه ،وهو المر ننسى هنا الروايات التي صّرحت بأ ّ
الذي أشار إليه المام )عليه السلم( في آخر العبارة.
—–
الشهادة من القيم السامية التي تضمنتها الثقافة السلمية ،والشهيد يمثل قمة المرتبة النسانية ،وأولياء ال كما
أورد المام )عليه السلم( في هذه الخطبة يفكرون دائمًا بالشهادة ويأبون الموت طبيعيًا على الفراش ،ويرون
الشهادة أفضل ألف مّرة من ميتة على فراش ،وكانوا مستعدين لتلقي آلف الضربات والفوز بالشهادة دون الموت
ن روح النسان أعظم هدية إلهّية ،وما أروع أن تبذل هذه الهدية في سبيل ال سبحانه ،ل على الفراش ،وذلك ل ّ
ن تذهب هدرًا في الموت. أّ
ويكفي في فضل الشهادة ما ورد في حيث النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( حين شاهد فردًا يدعو ال تعالى
طي«.ل مـا ُتع ِ
طِني َأَفض َ
ل َفاع ِ
خيَر مـا ُتسَأ ُ
ك َ
ل» :الّلهّم ِإّني أسأُل َ
قائ ً
» .1ميتة« :بكسر الميم بمعنى كيفية الموت ،والميتة بفتح الميم الشخص الميت )بدًل من اللتفات هنا إلى ميت مذكر ومؤنث ميتة(.
] [ 160
ل«).(1
لا ِ
سِبي ِ
ك ِفي َ
ق َدُم َ
ك ُاهِري َ
ب َل َ
جي َ
ن ُاسُت ِ
فقال )صلى ال عليه وآله( » :إ ْ
ج َمنهـا ِإ ّ
ل خُر َ
ن َي ْ
جّنَة َفَيَتمّنى َأ ْ
ل ال َ
خُحد َيد ُ
ن َأ َ
كما ورد في حديث آخر عنه )صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :مـا ِم ْ
ل«).(2 ن َكراَمَة ا ِ
شَر َمّرلت ِمّما َيرى ِم ْ
عْل َ
جَع َفُيقَت َ
ن َير َ
شِهيُد َفإّنُه َيَتمّنى َأ ْ
ال ّ
نعم ،مقام الشهداء رفيع جّدا في التعاليم السلمية ،وهم الذين حفظوا السلم حين الخطر ،ولول تضحيات
الشهداء كشهداء بدر وُاحد وشهداء كربلء لما بقي من السلم اليوم شيئًا سوى اسمه ،ويعيش أعداء السلم اليوم
ن الشهيد قد يبدد في لحظات مخططات العداء
حالة من الرعب إزاء الشهادة وفلسفتها في السلم ،وذلك ل ّ
وبرامجهم التي تستوعب تكاليفًا باهضة.
ن الدوائر الصيهوينة وإثر أضف إلى ذلك فهم ل يمتلكون أي سلح يمكنهم من مواجهة هذا السلح ،سمع أخيرًا أ ّ
عجزها عن مواجهة انتفاضة الشعب الفلسطيني ،قد أكدت على ضرورة إجتثاث جذور ثقافة التفكير بالشهادة ،لبّد
من اسقاط مفردة الشهادة من كتاب الدراسة المتوسطة والثانوية ،كما لبّد من إزالة اليات القرآنية المتعلقة
ن البلدان السلمية العميلة وما أكثرهم قد ساروا على هذا النهج ،وقد بالشهادة من الكتب الدينية ،ومن المؤكد أ ّ
ن هذهاصطلحوا على الشهادة بالنتحار والشهيد بالرهابي لتشويه هذه المفردة الطيبة ،لكن ولحسن الحظ فا ّ
الثقافة قد إتسعت وترسخت بحيث ل يسع هذه الدعايات الوقوف بوجهها ،حتى سارع إليها العديد من الشباب
والشابات ،وهذا ما يشكل أعطم خطر على أعداء السلم ،نأمل أن يتعرف المسلمون أكثر فأكثر على هذه القيمة
السامية التي تدعو إلى الفخر والعتزاز.
—–
] [ 161
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
عاقبة السوء
ن هذا الكلم مستقل ،ومن هنا ذكره بصورة مستقلة ،بينما يراه البعض يرى البعض من شّراح نهج البلغة أ ّ
ل بعدم وجود إرتباط بين هذا المقطع والمقطع الخر استمرار للكلم السباق ،فمن ذكره بصورة مستقلة استد ّ
السابق ،حيث حث المام )عليه السلم( أصحابه في المقطع السابق على الجهاد والقتال ببسالة ،بينما جرى الكلم
ن هذا
في هذا المقطع عن الهزيمة والفرار ،وليس هنالك من إنسجام بين هذين المقطعين ،ولكن بالنظر إلى أ ّ
المقطع يخبر عن المستقبل ،وهو المستقبل الذي ل يكون فيه المام )عليه السلم( بين ظهرانيهم ويشهدون حالة
من الفرقة والتشتت والضعف والهوان والذّلة ،وعليه يمكن تصور إرتباط بين هذا المقطع وسابقه.
ولكن على حال سواء كان هذا المقطع مستقل أم مرتبطًا ،فهو كلم المام )عليه السلم( ويخبر عن المصير
ب).«(1
ضَبا ِ
ش ال ّ
شي َ
ن َك ِ
شو َ
المرير لفراد يوثرون العافية والدعة على الجهاد ،فقالَ» :وَكَأّني َأْنظُُر ِإَلْيُكْم َتِك ّ
فالعبارة يمكن أن تكون إشارة إلى الحيوانات المعروفة الضباب جمع ضب بالكسر والتي إن تحركت بصورة
جماعية اضطربت وإحتك بعضها بالبعض الخر فيظهر من هذا الحتكاك
» .1كشيش الضباب« :بمعنى الصوت الذي ل يرتفع كثيرًا ويطلق على صوت الضفدع ،والضب وصوت الناقة.
] [ 162
صوتًا ،والمراد أّنكم اضطربتم حين الفرار ،بحيث إندك بعضكم بالبعض الخر وقد انبعث صوت اضطرابكم.
ضْيمًا).«(1
ن َ
ل َتْمَنُعو َ
حّقًاَ ،و َ
ن َ
خُذو َ
ل َتْأ ُ
ثم قال )عليه السلم(َ » :
أي حال أسوأ من أن يصبح النسان على درجة من الضعف والعجز بحيث ل يستطيع الدفاع عن حّقه أو عن
صحبه وقرابته وإخوته في الدين ،كما ل يستطيع الوقوف بوجه الظلم الذي يوجه إليه وإلى الخرين ،حّقا إّنها
لحالة مؤلمة مهينة.
فالعبارة قد خليتم والطريق تشير إلى إتمام الحجة الكاملة ،فقد بّين الطريق إلى الهدف بكل وضوح من قبل زعيم
صر في هذا الطريق ،ولذلك
عالم ،وقد زالت الموانع التي تحول دون سلوكه ،وعليه فلن تعد هناك من حجة لمن يق ّ
بشر سالكين هذا الطريق بالسعادة ،بينما هدد المتباطىء بالهلكة.
—–
] [ 163
الخطبة)124 (1
وردت هذه الخطبة كما يفهم من عنوانها بشأن حث المام )عليه السلم( لصحابه على الجهاد ،وذلك لّنه حسب
تصريح شّراح نهج البلغة أّنها وردت قبل معركة صفين ،ومن هنا تضمنت إشارة إلى بعض المور المهّمة:
1ـ ذكر المام )عليه السلم( في هذه الخطبة مطالب دقيقة بخصوص فنون القتال وانتخاب أفضل السبل في
ل الخسائر.
مجابهة العدو ،بحيث يمكن التوصل إلى النتائج بأق ّ
2ـ حذر أصحابه في المقطع الخر من الخطبة وضمن مدحه لمقاتليه من الفرار الذي يستتبع الفضيحة والعار،
كما يتطرق إلى ذكر مقامات الشهداء.
3ـ يلعن في المقطع الثالث أعدائه ويقوي عن هذا الطريق عزائم أصحابه المجاهدين.
—–
.1سند الخطبة:
نقل هذه الخطبة نصر بن مزاحم المتوفى عام 202ق في كتاب صفين ،كما نقلها المؤرخ المشهور الطبري في تاريخه عن أبي
مخنف في حوادث عام 37هـ ،كما وردت في كتاب الجهاد عن الكافي وكتاب الفتوح لبن أعثم الكوفي )مصادر نهج البلغة .(2/277
] [ 164
] [ 165
القسم الول
طَرا ِ
ف ن اْلَهاِم; َواْلَتُووا ِفي َأ ْ عِف َ سُيو ِ سَ ،فِإّنُه َأْنَبى ِلل ّضَرا ِ ل ْ عَلى ا َْ ضوا َ ع ّ سَرَ ،و َ حا ِ خُروا اْل َ عَ ،وَأ ّ»َفَقّدُموا الّداِر َ
طَردُ تَ ،فِإّنُه َأ ْصَوا َ ل ْ ب; َوَأِميُتوا ا َْن ِلْلُقُلو ِ
شَ ،وَأسَْك ُ جْأ ِ ط ِلْل َصاَرَ ،فِإّنُه َأْرَب ُ لْب َ
ضوا ا َْ غ ّ سّنِة; َو ُ لِ حَ ،فِإّنُه َأْمَوُر ِل َْالّرَما ِ
صاِبِري َ
ن ن ال ّ ن الّذَماَر ِمْنُكْمَ ،فِإ ّ جَعاِنُكْمَ ،واْلَماِنِعي َ شْل ِبَأْيِدي ُ جَعُلوَها ِإ ّ ل َت ْ
خّلوَهاَ ،و َ ل ُت ِ ل ُتِميُلوَها َو َ لَ .وَراَيَتُكْم َف َ شِِلْلَف َ
سِلُموَها، عْنَها َفُي ْن َ خُرو َ ل َيَتَأ ّ
حَفاَفْيَهاَ ،وَوَراَءَها َوَأَماَمَها; َ ن ِبَراَياِتِهْمَ ،وَيْكَتِنُفوَنَهاِ : حّفو َ ن َي ُ ق ُهُم اّلِذي َ حَقاِئ ِ
ل اْل َعَلى ُنُزو ِ َ
عَلْيِه ِقْرُنُه
جَتِمَع َ خيِهَ ،فَي ْ ل ِقْرَنُه ِإَلى َأ ِ
سِهَ ،وَلمْ َيِك ْخاُه ِبَنْف ِسى َأ َ جَزَأ اْمُرٌؤ ِقْرَنُهَ ،وآ َ عَلْيَها َفُيْفِرُدوَهاَ .أ ْ ن َ ل َيَتَقّدُمو َ
َو َ
خيِه«. ن َأ ِ
َوِقْر ُ
—–
الشرح والتفسير
عذاب َأِليم ن َ
جيُكم ِم ْعَلى ِتجاَرة ُتن ِ
ل َدّلُكم َ عّز َوج ّ ل َ نا َ ن هذه الخطبة تبتدأ كالتيِ» :إ ّ يرى بعض كبار المحدثين أ ّ
عْدن
ت َ جّنا ِ
طّيَبة ِفي َ
ن َ ب َوَمساِك َ
ل َثواَبُه َمغِفَرةً ِللَذْن ِ جَع َل َو َ لا ِ
سِبي ِ
جهاُد ِفي َ
ل َوال ِ ن ِبا ِ ليمـا ُ
خيِر ا ِ
عَلى ال ََوُتشِفي ِبُكم َ
ع.(2)«... ص()َ (1فَقّدُموا الّداِر َ
صو ٌ ن َمْر ُ صّفا َكَأّنُهْم ُبنَيا ٌ
سِبيِلِه َ
ن ِفي َ
ن ُيَقاِتُلو َب اّلِذي َ
ح ّل ُي ِ
نا َ
لِ) :إ ّ
عّز َوج ّل ََوَقا َ
ثم أشار في مواصلته لهذا الكلم إلى سبع وصايا هاّمة في فنون تحقيق النصر ،فقال في
.1سورة الصف .4 /
] [ 166
سَر).«(2
حا ِ
خُروا اْل َ
ع)َ ،(1وَأ ّ
لولى بهذا الشأنَ» :فَقّدُموا الّداِر َ
وصّيته ا ُ
ل هو الضرر الذي يتعرض له من يلبس الدرع بفعل السهام والسيوف ،ومن هنا ل يسع فمن الطبيعي أن يكون قلي ً
العدو السيطرة عليهم ،ومن لم يتدرع يمكنه أن يواصل قتاله وهجماته من خلفهم ،والذي يستفاد من هذه العبارة
وجود فئة في ميدان القتال لم ترتدي الدرع ،وذلك إّما يعود إلى الزمات والمشاكل التي يعيشها المجتمع
ن إرتداء الدرع كان يثقل على البعض ويعيق حركته في ميدان القتال ،ولذلك كان الشداء من السلمي ،أو أ ّ
المقاتلين هم الذين يتدرعون.
ن اْلَهاِم).«(5
عِف َ
سُيو ِ
س)َ ،(3فِإّنُه َأْنَبى)ِ (4لل ّ
ضَرا ِ
ل ْ
عَلى ا َْ
ضوا َ
ع ّ
وقال )عليه السلم( في وصّية الثانيةَ» :و َ
سّنِة«.
لِ
حَ ،فِإّنُه َأْمَوُر)ِ (7ل َْ
ف الّرَما ِ
طَرا ِ
وقال في الوصّية الثالثةَ» :واْلَتُووا)ِ (6في َأ ْ
» .1الداع« :بمعنى لبس الدرع من مادة درع على وزن فعل.
» .2الحاسر« :من ل درع له من مادة حسر على وزن عصر بمعنى العري.
» .3أضراس« :جمع »ضرس« على وزن حرس النسان وردت بمعنى سن العقل.
» .4أنبى« :من مادة »نبو« على وزن عفو بمعنى عدم العمل.
» .5الهام« :جمع »هامة« على وزن قامة رأس النسان أو رأس أي موجود حي.
» .6التووا« :من مادة »التواء« بمعنى النعطاف أو الميل لهذا الجانب وذاك.
» .7أمور« :من مادة »مور« على وزن غور بمعنى الحركة السريعة ،كما وردت بمعنين الذهاب الياب والضطراب وهذا هو المعنى
المراد في العبارة.
] [ 167
ن المعنى الول يبدو هو النسب،باللتفات إلى الوصايا السابقة واللحقة لهذه الوصية والتي تبّين فنون الدفاع ،فا ّ
ل سّيما التعبير بالحرف في ل يتناسب والمعنى الثاني ،بينما يتناسب ما إخترناه حتى التعبير المور المأخوذ من
مادة مور والذي يعني الضطراب.
ضوا
غ ّ
وقال في الوصّية الرابعة بعض النظر )وعدم النظر إلى كثرة العدو وآخره( فذلك أسكن للقلبَ» :و ُ
ب«.
ن ِلْلُقُلو ِ
سَك ُ
ش)َ ،(1وَأ ْ
جْأ ِ
ط ِلْل َ
صاَرَ ،فِإّنُه َأْرَب ُ
لْب َ
ا َْ
ن روحية الجنود كلما كانت مرتفعة كانتختلف هذه الوصّية عن سابقاتها لشتمالها على بعد نفسي ونعلم جميعًا أ ّ
المل بالنصر أكثر ،ومن هنا أّكد المام )عليه السلم( هذا المعنى مرارًا وقد مّر علينا نموذج ذلك في الخطبة 11
و .66
ل«.
شِطَرُد ِلْلَف َ
تَ ،فِإّنُه َأ ْ
صَوا َ
ل ْ
وقال في الوصية الخامسةَ» :وَأِميُتوا ا َْ
ن النسان حين ينشغل بالحديث فاّنه يستهلك جانبًا من قواه الفكرية وكذلك جانبًا من طاقته البدنية من الطبيعي أ ّ
ن العدو الصامت البعيد عن
ويحد من تركيزه الفكري واللتفات إلى حملت العدو المبرمجة ،ومن هنا فا ّ
ن قريش تعجبت من قّلة عدد جيش الضوضاء والضجيج يبدو أخطر من غيره .ولذلك ورد بشأن معركة بدر أ ّ
ن عدد المسلمين أكثر مّماترى ولعلهم إختفوا خلف التلة حيث يردون ميدان القتال في الوقت السلم وتصورت أ ّ
المناسب ،فبعثوا بعمير بن وهب لينظر أطراف الميدان ،فركب فرسه وجعل ينظر حول الصحرا ولم ير شيئًا،
ل أّني رأيتهم مستعدين للقتال ول يقوى أحد على مواجهتهم ،أّما فعاد وقال :عدد المسلمين يقارب الثلثمائة ،إ ّ
ل سيوفهم وما أراهم يولون حتى يقتلوا ول يقتلون ترونهم خرسا ل يتكلمون ،يتلمذون تلمذ الفاعي ما لهم ملجأ إ ّ
حتى يقتلوا بعددهم).(2
جَعاِنُكْمَ ،واْلَماِنِعي َ
ن شْ
ل ِبَأْيِدي ُ
جَعُلوَها ِإ ّ
ل َت ْ
خّلوَها)َ (3و َ
ل ُت ِ
ل ُتِميُلوَها َو َ
وقال في الوصّية السادسةَ» :وَراَيَتُكْم َف َ
الّذَماَر)ِ (4مْنُكْم«.
» .3تخّلوا« :من مادة »تخلية« بمعنى الخلء والترك ،وعليه فالصحيح فتح الخاء لّنها من باب التفعيل.
] [ 168
ن ِبَراَياِتِهْمَ ،وَيْكَتِنُفوَنَها:
حّفو َ
ن َي ُ
ق)ُ (1هُم اّلِذي َ حَقاِئ ِ
ل اْل َ
عَلى ُنُزو ِ
ن َ صاِبِري َ ن ال ّ
لَ» :فِإ ّ ثم أتّم كلمه باستدلل منطقي قائ ً
عَلْيَها َفُيْفِرُدوَها«.
ن َ
ل َيَتَقّدُمو َ
سِلُموَهاَ ،و َ
عْنَها َفُي ْ
ن َ
خُرو َ ل َيَتَأ ّ
حَفاَفْيَها)َ ،(2وَوَراَءَها َوَأَماَمَها; َ
ِ
كان للراية أهمّية خاصة في ميدان القتال في الزمنة الماضية ،وذلك لدورها في إرتباط الصفوف والتحامها،
وحين كان ينهمك المقاتلون وسط الميدان وجوانبه بالقتال ،كانوا يلتفون حين الضرورة حول الراية لعادة تنظيم
صفوفهم وشن الحملت من جديد ،وإن سقطت الراية اضطرب العسكر وأحيانًا كان ينهار ،ولذلك ترى العدو
ل ما يسعى جاهدًا للحاطة بالراية ،بينما يحاول الطرف الخر البقاء على الراية مرفوعة وهو يدافع عنها بك ّ
ن انتصاب الراية دليل على القدرة وسبب قّوة ُاوتي من قّوة ،فقد كان سقوطها يعني الهزيمة ،وزبدة الكلم فا ّ
وعزيمة المقاتلين وحلقة اتصالهم مع بعضهم ،ولهذا ما انفك المام )عليه السلم( عن التأكيد وصاياه بحفظ
ن حماتها من أشجع الفراد ،ومن جهة ُاخرى يوصي الراية ،حيث أكد من جهة ضرورة ثبوت موضع الراية وأ ّ
ن يتخلفوا عنها ول يتقدمواعليها ،ويضحوا بالغالي حملة الراية بعدم التخلي عنها ومراقبتها من جميع الجهات ،ل أ ّ
والنفيس من أجل حفظها بفضلها علمة القتدار والشموخ وورد في شأن غزوة خيبر التي.لف الفريقان
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( أعطى الراية في اليوم الول إلى أبي بكر فلم بخصوصها عشرات الروايات أ ّ
يتمكن من فتح قلعها ،وفي اليوم الثاني أعطاها عمر بن الخطاب ،فلم يفلح ،فقال )صلى ال عليه وآله(:
عَليِه«).(3
ل َ
حا ُ
غيُر َفّرار َيفَت ِ
سوُلُه َكّرار َ
ل َوَر ُ
حّبُه ا ُ
سوَلُه وُي ِ
ل َوَر ُ
با َ
ح ّل ُي ِ
جًغدًا َر ُ
ن الرايَة َ
طَي َ
لع ِ
» َُ
فامتدت العناق في اليوم التالي ليروا من هو ذلك الرجل ،وقد تمنى كل فرد )شجاع( أن يكون هو المعني فيعطيه
رسول ال )صلى ال عليه وآله( الراية ،نادى رسول ال )صلى ال عليه وآله( عليًا )عليه السلم( وسّلمه الراية
فلم
» .2حفافي« :مثنى »حفاف« على وزن كتاب بمعنى جانب الشيء وحفافيها هنا إشارة إلى جانبي الراية يمينها وشمالها.
.3الكامل لبن الثير ،2/219وتفسير الثعلبي )طبق نقل غاية المرام (467/ ،وصحيح مسلم ،ج 4كتاب الفضائل الصحبة الحديث
;32صحيح البخاري 5/171باب غزوة خيبر )طبعًا ذكرت الجملة الخيرة فقط بشأن علي )عليه السلم( في صحيح البخاري مسلم(.
] [ 169
ل بعد أن فتح خيبر واستسلم له أهلها ،هذه دللة على الهمّية الفائقة للراية وحاملها في ذلك الزمان ،وقد
يرجع إ ّ
تكرر نفس هذا المعنى في عصر علي )صلى ال عليه وآله( مالك الشتر النخعي وقال له علمت بوقوفك في
القتال وشجاعتك ولول ذلك لدفعت الراية إلى غيرك ،فرّد عليه بالقول» :لسرّنك اليوم يا مالك أو ُاقتل شهيدًا«)
.(1
ثم أشار المام )عليه السلم( في وصّيته السابعة والخيرة إلى قضية أخرى من تكتيكات الحرب أنذاك فقال:
خيِه«.
ن َأ ِ
عَلْيِه ِقْرُنُه َوِقْر ُ
جَتِمَع َ
خيِهَ ،فَي ْ
ل ِقْرَنُه ِإَلى َأ ِ
سِهَ ،وَلْم َيِك ْ
خاُه ِبَنْف ِ
سى)َ (3أ َ
جَزَأ اْمُرٌؤ ِقْرَنُه)َ ،(2وآ َ
»َأ ْ
يتضح المفهوم الدقيق لهذا الكلم فيما لو دققنا بصورة صحيحة على وضع الحروب في ذلك الزمان ،فقد كانت
للمعركة في ذلك الوقت ثالث صور )وأحيانًا كانت تتحقق الصور الثلث في نفس المعركة(:
الولى :أن يتقدم أحد الشجعان وسط الميدان ويدعو شجاعًا آخر من العدو لمبارزته ،فيتبارزان حتى يهلك
أحدهما.
الثانية :أن يتقدم الميدان عّدة أفراد ليقف كل واحد منهم أمام خصمه فيبدأ بينهم القتال.
الثالثة :أن تدور المعركة بين المعسكرين بأكملهما طبعًا هناك صورة رابعة تكون المعركة فيها غادرة كأن تنهال
ن العبارة تشير إلى هذه الصورة الثانية التي يبرز
طائفة على فرد فتنزل عليه ضرباتها من كل جانب ،ويبدو أ ّ
فيها عّدة أفراد إلى أمثالهم ،وفي هذه الحالة ل ينبغي لحد أن يترك خصمه لخر ،بل يبارز كل واحد خصمه
فيراعي المساواة والمواساة وتقف من خلل هذه الوصايا على مدى خبرة المام )عليه السلم( بفنون القتال حيث
يعّرف أصحابه على أدق تفاصيل القتال قبل البدء فيه.
—–
» .2قرن« :الكفؤ وعدل النسان في الشجاعة في ميدان القتال ويطلق أحيانًا القرن على كل كفو ،وقد اشتق في الصل من قرن بفتح
القاف والقتران الذي يعني القتراب بين شيئين أو عدة أشياء ،ومن هنا يقال للزمان الطويل قرن حيث تكون فيه طائفة من الجيال
مع بعضها.
» .3آسى« :من مادة »وسى« على وزن مشى بمعنى عاون والمواساة تعني المعاضدة ومساعدة كل واحد الخر.
] [ 170
] [ 171
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى ثلثة أمور بهدف إعداد الصحاب في ميدان القتال،
فأحيانًا يهددهم إن هم فروا من القتال ،وأخرى يمدحهم ويتعرض لما يتحلون به من نقاط إيجابية يراها فيهم،
لخروي ،وعليه يمكن إيجاز هذا المقطع من الخطبة في ثلثه وأخيرًا يشجعهم ويحثهم على الثواب والجر ا ُ
سْي ِ
ف ن َن َفَرْرُتْم ِم ْ
ل َلِئ ْ
محاور هى :التهديد ،والتشجيع ،والتمجيد ،فقد قال على مستوى المحور الولَ» :واْيُم ا ّ
خَرِة«.
لِفا ْ
سْي ِ
ن َ
سَلُموا ِم ْ
ل َت ْ
جَلِةَ ،
اْلَعا ِ
ن الفرار من الزحف
فالعبارة سيف الخرة إشارة إلى عذاب ال الذي يشمل الفاّرين من ميدان الجهاد ،ول شك أ ّ
ن فرار عّدة أفراد يؤّدي إلى هزيمة عسكر جّرار ويقود حضارة عريقة إلى السقوط من الكبائر ،وذلك ل ّ
والنيهار ،أو يجعل العدو يسدد ضرباته الموجعة إلى
] [ 172
فهو يعدهم من جانب بصفتهم مبرزي شخصيات العرب التي تشد نحوها النظار ،من جانب آخر يذكرهم
بمساوىء عار الفرار وهى الغضب اللهي والذل الدائم والهوان والفضيحة البدية ،على صعيد آخر ذكّرهم بهذه
ن هذا الهدف ل يحصل بالفرار ،ذلك لّنه ل
النقطة وهى إن كان الهدف من الفرار هو التمتع بعمر أطول فا ّ
محيص من الممات واليوم الذي قدّر فيه فل يدفعه دافع.
ن المر كذلك فما قيمة هذا نعم ،قد يتصور النسان أّنه يحصل على عمر أطول عن طريق الفرار ،ولو فرض أ ّ
العمر وهو يتضمن العواقب الثلث متمثلة بغضب ال والذل والهوان البدي ،وقد خاطب القرآن الكريم ُاولئك
ل ِإَلى
عَلْيِهْم اْلَقْت ُ
ب َ
ن ُكِت َ
ل َلْو ُكْنُتْم ِفي ُبُيوِتُكْم َلَبَرَز اّلِذي َ
لُ) :ق ْ
الذين يشعرون بالقلق من تواجدهم في جبهات القتال قائ ً
جِعِهْم(5).(...
ضا ِ
َم َ
ح)
ثم إختتم المام )عليه السلم( كلمه بعبارة قصيرة عميقة المعنى تهدف حثهم على جهاد العدو فقالَ» :من الّراِئ ُ
ف اْلَعَواِلي).«!(7
طَرا ِ
ت َأ ْ
ح َ
جّنُة َت ْ
ن َيِرُد اْلَماَء؟ اْل َ
ظْمآ ِ
ل َكال ّ
ِ (6إَلى ا ّ
ل فرد ويتميز فيها الغث من السمين» :اْلَيْوَم ُتْبلى
ن اليوم تبلى أخبار وأعمال ك ّ
وأخيرًا قال )عليه السلم( بأ ّ
خَباُر!«.
لْا َْ
» .1لهاميم« :جمع »لهموم« على وزن حلقوم الجواد السابق من النسان والخيل.
» .3موجدة« :من مادة »وجد« علث وزن نجد بمعنى الغضب ،كما ورد بمعنى الحزن والمعنى الول هو النسب هنا.
» .7العوالي« :جمع »العالية« تعني أسنة الرماح ،كما تعني الرمح.
] [ 173
ت ِإلّ
وقد أورد المام )عليه السلم( شبيه هذا المعنى في وصّيته قبل الشهادة وبعد ضربته حيث قالَ» :وَما ُكْن ُ
جَد .(1)«...والعبارة اليوم تبلى الخبار هى في الواقع إقتباس من الية 31من سورة طاِلب َو َ
َكَقاِرب َوَرَدَ ،و َ
خَباَرُكْم(.
ن َوَنْبُلَو َأ ْ
صاِبِري َ
ن ِمْنُكْم َوال ّ
جاِهِدي َ
حّتى َنْعَلَم اْلُم َ
محمد)صلى ال عليه وآله(َ) :وَلَنْبُلَوّنُكْم َ
ح َ
ت جّنُة َت ْ
والفردة أخبار إّما تعني العمال أوالكلم والزعم والتي تبلى جميعًا في ميدان الجهاد ،والعبارة» :اْل َ
ف اْلَعَواِلي!« .تشبه العبارة التي أوردها رسول ال )صلى ال عليه وآله( في ميدان معركة أحد ،حيث قال: طَرا ِ َأ ْ
ف«.
سُيو ِ
ل ال ّ
ظل ِ
ت ِ
جّنُة َتح َ
»ال َ
ن أحد النصار سمع هذا القول من رسول ال )صلى ال عليه وآله( وفي يده تميرات يلوكها، الجدير بالذكر أ ّ
ل هذه التميرات ،ثم قذفها من يده وكسر جفن سيفه وحمل على قريش فقاتل
فقال :بخ بخ! ليس بيني وبين الجّنة إ ّ
حتى ُقتل).(2
—–
.2شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 8/6الحديث )الجّنة تحت ظلل السيوف( ،كما ورد الحديث في بحار النوار .97/13
] [ 174
] [ 175
القسم الثالث
ن َمَواِقِفِهْم ُدو َ
ن عْ ن َيُزوُلوا َ طاَياُهْمِ .إّنُهْم َل ْ
سْلُهْم ِبخَ َت َكِلَمَتُهْمَ ،وَأْب ِشّت ْ
عَتُهْمَ ،و َجَما َض َ ض ْ ق َفاْف ُحّ ن َرّدوا اْل َ »الّلُهّم َفِإ ْ
حّتى ُيْرَمْوالْقَداَم; َو َعَد َوا َْسَوا ِ
ظاَمَ ،وُيْنِدُر ال ّ ح الِْع َ
طي ُق اْلَهاَمَ ،وُي ِ ضْرب َيْفِل ُ سيُمَ ،و َ ج ِمْنُهُم [ِمْنُه ]الّن ِ
خُر ُ طْعن ِدَراكَ ،ي ْ َ
حّتىس; َو َخِمي ُ س َيْتُلوهُ اْل َ
خِمي ُلِدِهُم اْل َ جّر ِبِب َحّتى ُي َب; َو َ لِئ ُ
حَ بَ ،تْقُفوَها اْل َجُموا ِباْلَكَتاِئ ِسُر; َوُيْر َ سِر َتْتَبُعَها اْلَمَنا ِِباْلَمَنا ِ
حِهْم«. ساِر ِ ساِرِبِهْم َوَم َ ن َم َ
عَنا ِ
ضِهْمَ ،وِبَأ ْحِر َأْر ِ ل ِفي َنَوا ِ خُيو ُ ق اْل ُعَ َتْد َ
—–
الشرح والتفسير
خاض المام علي )عليه السلم( في هذا المقطع ـ الذي يمثل المقطع الخير من الخطبة ـ في أمرين:
الول :يدعو فيه على العدو ،وهوالدعاء الذي يجر عليهم الهزيمة والعذاب اللهي ويشّد من عزيمة صحبه
طاَياُهْم«.
خَ
سْلُهْم)ِ (2ب َ
ت َكِلَمَتُهْمَ ،وَأْب ِ
شّت ْ
عَتُهْمَ ،و َ
جَما َ
ض)َ (1
ض ْ
ق َفاْف ُ
حّ
ن َرّدوا اْل َ
ويضاعف إرادتهم فقال» :الّلُهّم َفِإ ْ
» .2أبسل« :من مادة »بسل« على وزن نسل بمعنى المنع من الشيء أو القهر والغلبة والبسال بمعنى التسليم للهلكة والعبارة إشارة
إلى هذا المعنى.
] [ 176
ن المام )عليه السلم( ذكر اختلف الكلمة ضمن دعائه كوسيلة لتفريق العدو وهزيمته والمر الخر :هو أ ّ
والذنوب من أسباب البؤس والشقاء ،ومن هنا كان دعاؤه درسًا ،ليس درس واحد بل دورس .وفي القسم الخر من
هذا المقطع من الخطبة أشار إلى وصّية قتالية مهّمة أخرى فقال لهم ،إن أردتم النتصار عليكم بتوجيه الضربات
الموجعة إلى العدو وأن تقوم كل فرقة من العسكر بمهمتها الخاصة ومتابعة العدو حين الهزيمة دون إمهاله
سيُم،
ج ِمْنُهُم الّن ِ
خُر ُ
طْعن ِدَراك)َ ،(1ي ْ
ن َ
ن َمَواِقِفهِْم ُدو َ عْ ن َيُزوُلوا َ
لِ» :إّنُهْم َل ْ
ليتحقق النصر الشامل ،فشرح ذلك قائ ً
لْقَداَم«. عَد َوا َْ
سَوا ِ
ظاَمَ ،وُيْنِدُر) (3ال ّح) (2اْلِع َ
طي ُ
ق اْلَهاَمَ ،وُي ِ
ضْرب َيْفِل ُ
َو َ
ثم واصل )عليه السلم( حديثه مؤكدًا على ضرورة شن الهجمات عليهم تلو الهجمات وأن تتبنى فرقة مطاردتهم
لخرى وتحمل على العدو ،كما يقوم الفرسان بمطاردتهم حتى المدن حتى ورميهم بالسهام ،وأن تعاضد كل فئة ا ُ
نتدوس حوافر خيلكم آخر نقطة في أرضهم والستيلء على مسار الذهاب والياب والطرق المراي من كل
جّرحّتى ُي َب)َ ;(6و َ
لِئ ُ حَ ب)َ ،(5تْقُفوَها اْل َ
جُموا ِباْلَكَتاِئ ِ
سُر; َوُيْر َ
سِر)َ (4تْتَبُعَها اْلَمَنا ِحّتى ُيْرَمْوا ِباْلَمَنا ِ
جانبَ» :و َ
ساِرِبِهْم
ن)َ (10م َ عَنا ِ
ضِهْمَ ،وِبَأ ْ حِر)َ (9أْر ِ ل ِفي َنَوا ِ خُيو ُ
ق) (8اْل ُعَحّتى َتْد َ س; َو َ خِمي ُ
س)َ (7يْتُلوُه اْل َ خِمي ُ
لِدِهُم اْل َ
ِبِب َ
حِهْم).«(11 ساِر ِ َوَم َ
ن طعن الدراك بمعنى السهام التي
» .1دراك« :من مادة »درك« متتابع متوال وكأن كل واحد منهم يدرك الخر ويصله ،وعليه فا ّ
تطلق تبعًا على العدو.
» .3يندر« :من مادة »اندار« بمعنى يسقط ،كما يطلق على طرح شيء من الحساب.
» .4مناسر« :جمع »منسر« على وزن محفل القطعة من الجيش تكون أمام الجيش العظيم ويطلق عليها الطليعة ،ومنسر على وزن
منبر بمعنى منقار الطيور.
» .6الحلئب« :جمع »حليبة أو حلوبة« بمعنى الجماعة التي تجتمع على صوب ،كما تطلق على الخّيالة.
» .7الخميس« :بمعنى الجيش الكامل الذي يتألف من خمسة أقسام ،المقّدمة والميمنة والميسرة والقلب والساقة.
» .10أعنان« :قال صاحب لسان العرب جمع »عنن« على وزن كفن بمعنى نواحي الشيء وأطرافه.
» .11مسارب« :جمع »مسربة« بمعنى المرعى وكذلك مسارح بمعنى المرعي ،إّل أن بعض شّراح نهج البلغة ذهب إلى أ ّ
ن
ن السروح إّنما يكون في أول النهار
المسارب ما يسرب فيه المال والمرعى ،والمسارح ما يسرح فيه والفرق بين مسرح ومسرب أ ّ
وليس ذلك بشرط في السروب) .شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد .(8/9
] [ 177
فقد علم المام )عليه السلم( في هذه الخطبة جنوده الداب الفردية للقتال ،وفي القسم الخير الداب الجماعية في
كيفية عمل الكتائب والفرق والخّيالة والمشاة وتنسيقها فيما بينهما تجاه العدو والعتماد على الساليب العلمية في
القضاء على العدو ،ومن النقاط المهّمة التي تطرق إليها المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة هى عدم
التواني في إتمام النصر على العدو ،ورّبما كانت للنسحابات أبعاد المباغتة ،والهدف تشديد الحملت ،فل يدمي
ن يشن العدو هجماته.تعقيب العدو إلى أقصى نقاط مناطقة والستيلء على كل مكان ليزول بالمرة أي احتمال ل ّ
والحق لو عمل جيش المام )عليه السلم( بهذه الوصّية في صفين والتي أوردها المام)عليه السلم( قبل المعركة
لخمدت فتنة بني أمية إلى البد ولزال شبح ظلمهم وجور حكمهم عن المسلمين ،ولكن واللسف فقد سمعوا كل
هذه الوصايا وضربوها عرض الحائط فتجرعوا مرارة تمردهم.
—–
الدعق :الدق ،أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم ،ونواحر أرضهم :متقابلتها ويقال :منازل بني فلن تتناحر أي
تتقابل ،انتهى كلم السيد الرضي.
—–
سر أغلب أرباب اللغة النواحر بمعنى المناطق البعيدة وهذا ما يناسب الخطبة.
ولكن ف ّ
—–
] [ 178
] [ 179
الخطبة)125 (1
ن هذه الخطبة وردت بصورة عاّمة بشأن التحكيم بعد معركة صفين ،وهى تتألف من عّدة كما ورد في السابق ا ّ
أقسام ،فقد بّين المام )عليه السلم( قبول التحكيم من خلل الستدلل باليات القرآنية.
ف عن الخلف وإعداد أنفسهم من أجل الوقوف بوجهوالقسم الثالث والخير ينصح المام )عليه السلم( بالك ّ
ظلمة الشام كما ذّمهم على ما أبدوه من تقصير واعتراض وعدم انضباط.
.1سند الخطبة:
ف عن »من إمامكم؟ قالوا :ابن الكواء ،قال :لم خالفتموني ،قالوا :لقبولك التحكيم في صفين ،فقال :ناشدتكم ال ألم تطالبوني بالك ّ
القتال حين رفعت المصاحف على أسنة الرماح ،فقلت :لكم إني أعلم بهم منكم ،فل دين لهم ول قرآن ،فلم تسمعوا قولي وأبيتم إّل
التحكيم فقبلت ،لكّني اشترطت عليهم أن يحكموا القرآن وإّل ل نستجيب لحكمهم؟
قالوا :أمن العدل تحكيم الفراد في دماء المسلمين؟ قال )عليه السلم( :إننا لم نحكم الرجال بل حكمنا القرآن.
ثم أورد الطبري جانبًا من الخطبة ،كما نقلها باختلف طفيف السبط بن الجوزي في تذكرة الخواص ،والمرحوم المفيد في الرشاد،
والطبرسي في الحتجاج.
] [ 180
] [ 181
القسم الول
لُبّد َلُه
سانَ ،و َ ق ِبِل َ
طُ ل َيْن ِ
نَ ، ن الّدّفَتْي ِسُتوٌر َبْي َ ط َم ْخّ ن ِإّنَما ُهَو َن .هَذا اْلُقْرآ ُ حّكْمَنا اْلُقْرآ َ لَ ،وِإّنَما َ جا َحّكِم الّر َ
»ِإّنا َلْم ُن َ
ن ِكَتابِ عْ ي َ ق اْلُمَتَوّل َ
ن اْلَفِري َ
ن َلْم َنُك ِحّكَم َبْيَنَنا اْلُقْرآ َ
ن ُن َ
عاَنا اْلَقْوُم ِإَلى َأ ْ
لَ .وَلّما َد َ جا ُعْنُه الّر َ ق َطُ جَمانَ .وِإّنَما َيْن ِ
ن َتْر ُ ِم ْ
حُكَمن َن ْل َأ ْل(َ .فَرّدُه ِإَلى ا ّ سو ِل َوالّر ُ يء َفُرّدوُه ِإَلى ا ّ ش ْ
عُتْم ِفي َ ن َتَناَز ْ حاَنُهَ) :فِإ ْسْب َ
ل ُ لا ّ حاَنُه َوَتَعاَلى َ ،وَقْد َقا َسْب َل ُ ا ّ
سّنِة
حِكَم ِب ُن ُ س ِبِهَ ،وِإ ْ
ق الّنا ِ حّ ن َأ َحُ لَ ،فَن ْ با ّ ق ِفي ِكَتا ِ صْد ِ
حِكَم ِبال ّ سّنِتِه; َفِإَذا ُ
خَذ ِب ُ
ن َنْأ ُ
ل َأ ْ
سو ِ ِبِكَتاِبِهَ ،وَرّدُه ِإَلى الّر ُ
لُهْم ِبَها«.س َوَأْو َ ق الّنا ِ حّ ن َأ َحُعَلْيِه َوآِلِهَ ،فَن ْ
ل َ صّلى ا ّ ل َلا ّ سو ِ َر ُ
—–
الشرح والتفسير
ن الخطبة رّد على اعتراض قبول المام )عليه السلم( للتحكيم ،ومضمون كلم المعترضين :لم كما ورد سابقًا فا ّ
ل ل وليس لعامة الفراد من حق في الحكم في قبلت تحكيم فردين في هذا المر الديني المهم؟ والحال ل حـكم إ ّ
لَ ،وِإّنَما
جا َ
حّكِم الّر َ
الوظائف الدينية ،أّما المام )عليه السلم( فقد أشار في رّده إلى نقطة مهّمة فقالِ» :إّنا َلْم ُن َ
جَمانَ .وِإّنَمان َتْر ُ
لُبّد َلُه ِم ْ
سانَ ،و َق ِبِل َ
طُل َيْن ِ
ن)َ ،(2 ن الّدّفَتْي ِ
سُتوٌر)َ(1بْي َ
ط َم ْ
خّ
ن ِإّنَما ُهَو َ
ن .هَذا اْلُقْرآ ُحّكْمَنا اْلُقْرآ َ
َ
ل«. جا ُ
عْنُه الّر َق َ طُ َيْن ِ
» .1مستور« :الشيء الخفي ،إّل أن هذه المفردة وردت مسطورة في بعض النسخ من مادة سطر وردت صفة للخط في العبارة وهي
أنسب.
» .2دفتين« :مثنى »دفة« بمعنى جانب كل شيء ويقال دفتين لجانبي الكتاب أو القرآن.
] [ 182
ن القرآن الكريم بّين طائفة من الحكام الكلية وعلى العالمين بالقرآن استنباط الحكام الجزئية وإبلغها إشارة إلى أ ّ
إلى عموم الناس ،أو بعبارة أخرى تطبيق تلك الكليات على المصاديق ،على سبيل المثال قال القرآن الكريمَ) :وِإ ْ
ن
حّتى َتِفىءَ ِإَلى َأْمِر
خَرى َفَقاِتُلوا اّلِتي َتْبِغي َ
لْعَلى ا ُْ
حَداُهَما َ ت ِإ ْ
ن َبَغ ْ
حوا َبْيَنُهَما َفِإ ْ
صِل ُن اْقَتَتُلوا َفَأ ْن اْلُمْؤِمِني َ
ن ِم ْ
طاِئَفَتا ِ
َ
ن().(1 طي َ
سِب اْلُمْق ِ
ح ّل ُي ِ
نا َ طوا ِإ ّسُ ل َوَأْق ِحوا َبْيَنُهَما ِباْلَعْد ِ
صِل ُ
ت َفَأ ْ ن َفاَء ْ
ل َفِإ ْا ِ
لمور ـ أنن معركة صفين أحد مصاديق هذه الية ،ووظيفة الحكمين ـ إن كانا على الصواب وعالمين با ُ ل شك أ ّ
لمةن عامة ا ُيقول :لّما بايع الناس عليًا )عليه السلم( إضافة إلى نص النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(عليه فا ّ
لمة ووالصحابة قد قبلت خلفته ،فمن سلك غير هذا السبيل كان مصداقًا للباغي والظالم وعليه العودة إلى ا ُ
التوبة ،فان أبى وجب على المسلمين مقاتلته حتى يرعوي عن غيه.
ومسألة التحكيم ل تشذ عن هذا المر ،فهى ليست سوى ما يقوم به قضاة السلم ،أي أنهم يطبقون أحكام الكتاب
والسّنة على مصاديقها ويصدرون الحكام بهذا الخصوص ،فهل هناك من اعتراض على هذا الكلم؟ للسف لم
يدرك الخوارج الجهال هذا المطلب الواضح ولم يدعهم تعصبهم وجهلهم ليفهموا ذلك فيعوا الهدف الصلي من
الحكومة.
ن َلْم َنُك ِ
ن حّكَم َبْيَنَنا اْلُقْرآ َن ُن َ
عاَنا اْلَقْوُم ِإَلى َأ ْ
لَ» :وَلّما َد َ ثم خاض المام )عليه السلم( في توضيح هذا المعنى قائ ً
يء َفُرّدوُه ِإَلى ا ّ
ل ش ْعُتْم ِفي َ ن َتَناَز ْحاَنُهَ) :فِإ ْسْب َ
ل ُلا ّحاَنُه َوَتَعاَلى َ ،وَقْد َقا َ
سْب َ
ل ُ
با ّ
ن ِكَتا ِ
عْي َق اْلُمَتَوّل َ
اْلَفِري َ
ل().«(2 سو ِ َوالّر ُ
سّنِتِه; َفِإَذا
خَذ ِب ُ
ن َنْأ ُ
ل َأ ْسو ِ حُكَم ِبِكَتاِبِهَ ،وَرّدهُ ِإَلى الّر ُ
ن َن ْ
ل َأ ْ
فوضح المام )عليه السلم( الية بالقولَ» :فَرّدُه ِإَلى ا ّ
ق الّنا ِ
س حّ ن َأ َحُ عَلْيِه َوآِلِهَ ،فَن ْ
ل َ
صّلى ا ّ ل َ لا ّ سو ِ سّنِة َر ُحِكَم ِب ُ
ن ُ
س ِبِهَ ،وِإ ْق الّنا ِ
حّن َأ َ
حُ
لَ ،فَن ْ
با ّ
ق ِفي ِكَتا ِ
صْد ِ
حِكَم ِبال ّ ُ
لُهْم ِبَها«.
َوَأْو َ
ن تحكيم الكتاب والسّنة ل تعني سوى الرجوع إليهما ،ولما كّناومن هنا فقد أثبت المام )عليه السلم( بوضوح أ ّ
مأمورين بهذا المر ،فليس لحد أن يعترض علينا لم قبلنا التحكيم ،فخطأ
] [ 183
المعترض في تصوره أننا قبلنا تحكيم الشخاص ،والحال إننا لم نقبل سوى تحكيم كتاب ل.
وهنا سؤال يطرح نفسه :يفهم من كلم المام )عليه السلم( هذا أّنه قبل التحكيم على ضوء رغبته ورضاه
ن التحكيم فرض على المام )عليه
ووظيفته الشرعية ،والحال يفهم من عّدة خطب وردت في نهج البلغة أ ّ
ل هذا التناقض؟
السلم( وكان ممتعظًا من هذا المر ،فكيف يمكن ح ّ
ن المام )عليه السلم( لم يكن مخالفًا للتحكيم قط ،بل كان المام )عليه
لبّد من القول في الجابة عن هذا السؤال أ ّ
ن رفع المصاحف على أسنة الرماح كان خديعة ومؤامرة تهدف الحيلولة السلم( يؤكد على أمرين :الول :هو أ ّ
دون انتصار جيش المام )عليه السلم( في اللحظات الخيرة من المعركة ،وإيجاد الفرقة والختلف بين صفوف
ل فأهل الشام لم يكونوا مستعدين لقبول تحكيم القرآن الكريم ،فلم يكونوا من أهلعسكر المام )عليه السلم( ،وإ ّ
الدين ول القرآن حسب تعبير المام )عليه السلم().(1
ن المام )عليه السلم( كان معترضًا على أبي موسى الشعري كممثل له في تحكيم القرآن، المر الخر :هو أ ّ
وعليه فليس هنالك من تناقض بين هذه الخطبة وسائر الخطب نهج البلغة ،والشاهد على ذلك ما فعله المام
الحسين )عليه السلم( يوم عاشوراء طبق نقل أرباب المقاتل أّنه وضع المصحف على رأسه وخاطب أهل الكوفة:
ل«).(2
لا ِ
سو ُ
جّدي َر ُ
سّنُة َ
ل َو ُ
با ِ
ن َبيِني َوَبيَنُكم ِكتا ُ
»يـا َقوِم ِإ ّ
—–
قضية التحكيم
ن جيش معاوية حين أشرف على الهزيمة المنكرة في صفين ،فبادر عمرو بن العاص المعروف بمكره إلى نعلم أ ّ
توصية أهل الشام برفع المصاحف على أسنة الرماح والقول بالتسليم لحكم القرآن ،من جانبه قال المام )عليه
ن فئة من
لأّ ن هؤلء ل يسلمون لحكم القرآن وليس ذلك سوى خدعة بهدف منع تلك الهزيمة الحتميه ،إ ّ السلم(بأ ّ
جّهال عسكر المام )عليه السلم( إلى جانب
] [ 184
المنافقين لم يسمعوا كلم المام )عليه السلم( وأصروا على إيقاف المعركة ،حتى هددوا المام )عليه السلم(
بالقتل ،فلم يكن من المام )عليه السلم( وبهدف الحيلولة دون ذلك الختلف والشقاق وبحكم الجبار إلّ أ ّ
ن
أصدر أوامره بايقاف القتال.
ثم قالوا بوجوب انتخاب فردين من العسكرين لتحكيم القرآن ،والعجيب أن طائفة منهم بعد ذلك وقفوا بوجه المام
وهّبوا لمخالفته والعتراض عليه في قبوله للتحكيم ،الخطأ الخر الذي بدر من الجّهال والمنافقين هو اختيارهم
حكم وفرضوه على المام )عليه السلم( وهو المر الذي أّدى إلى تلك النتكاسة لبي موسى الشعري الجاهل ك َ
المريرة والعجيب في المر فئة بعد هذه الحادثة رفعت راية التمرد على المام )عليه السلم( معترضة على قبوله
ل() ،(1فكان من نتائج ذلك وقوع معركة أخرى عرفت ل ِحْكُم ِإ ّ
ن ال ُ
ل) :إ ِ
للتحكيم ،في حين هذا القرآن يصّرح قائ ً
بمعركة النهروان ،وقد رجعت طائفة منهم إلى نفسها بعد أن سمعت كلم المام )عليه السلم( فتابت إلى ال
ل فئة قليلة لم يكتب لها الدوام ،وقد كان عمل المام )عليه السلم( واضحًا في هذا المر سبحانه ،ولم تبق إ ّ
للسباب التالية:
ل الخلفات العالقة بين المسلمين ليس بخفي على أحد ،وقد أمر القرآن المسلمين صراحة 1ـ تحكيم القرآن في ح ّ
بالرجوع إلى كتاب ال وسّنة نبّيه )صلى ال عليه وآله( في حالة حدوث اختلف بينهم )الية 59من سورة النساء
التي استشهد بها المام )عليه السلم( في كلمه( .وبناءًا على ما سبق فتحكيم القرآن واستنادًا لعقيدة كافة المسلمين
الذين للقرآن الكلمة الفصل في حل المنازعات ليست بالمر الذي يدعو إلى العتراض على المام )عليه السلم(،
لكن لم يكن من ُاولئك الجّهال إل أن يصوروا المر على أّنه نقطة ضعف في المام )عليه السلم(.
ن الذين أثاروا فتنة رفع المصاحف على أسنة الرماح لم يكن لهم من اعتقاد بحكم القرآن ول الحق 2ـ ل شك أ ّ
لمة والهيمنة على إمكانهاتها المادية،
والعدل ،بل لم يكن لساسة الكفر عديمي اليمان من هّم سوى التسلط على ا ُ
وقد كشف المام )عليه السلم( اللثام منذ البداية عن كنه هذه المؤامرة ،ولكن ما جدوى ذلك حيال الجّهال الذين
رفضوا منطق المام )عليه السلم(.
] [ 185
3ـ قطعًا ليس للقرآن من دور في التحكيم من خلل نفسه ،وإّنما يتسنى ذلك بواسطة أهل الذكر العاِلمين بالقرآن
فيجتهدون في استنباط أحكامه في كل مسألة وإبلغها إلى الناس ،ولو حصل هذا المر في حادثة صفين لتبّين أنّ
خَرى (...فينبغي لْعَلى ا ُْ
حَداُهَما َ
ت ِإ ْ
ن َبَغ ْ
عسكر معاوية مشمولون بالية التاسعة من سورة الحجرات القائلةَ) :فِإ ْ
إدانتهم بصفتهم بغاة طغاة هّبوا للوقوف بوجه إمام المسلمين والحكومة السلمية.
ن الحكمين هما أبو موسى الشعري وعمرو بن العاص اللذان ليس لهما من علم بالقرآن ،ونهض والمؤسف أ ّ
ل بالقرآن وأحكامه ،لكن حيث لم تحصلن ذلك ليس خلفًا فحسب ،بل يمثل عم ً بالمر من هو عارف بالقرآن ،فا ّ
الشرائط اللزمة في أية مرحلة ،وكانت النتيجة مريرة على تلك الفئة الجاهلة ،فعمدت إلى لوم المام )عليه
ل من ذّمها لنفسها ،فلم تعمد لصلح منظرها ،بل اتجهت إلى كسر المرآة ،طبعًا ل ينبغي تصور قضية السلم( بد ً
التحكيم على أّنها ترتبط بحادثة تاريخي عابرة ،بل هى قضية تكرر في مختلف العصور والزمنة وحتى في
عصرنا الحاضر ،فهناك من يتستر خلف بعض المقدسات من ثم يحملوها بعض القراءات الخاطئة عن علم
وبدونه ويختارون ما يتماشى ومصالحهم اللمشورعة.
فلعمروا بن العاص وأبو موسى الشعري ـ هذان الجاهلن ـ أشباههما في كل زمان ،وأما أكثر ما تتكرر واقعة
صفين وحمل المصاحف على السنان والتحكيم التي تتخذ لنفسها صورًا مختلفة ،فل تتمخض سوى عن النتائج
التي تؤّدي إلى مظلومية من يسير على النهج العلوي.
—–
] [ 186
] [ 187
القسم الثاني
ل َأ ْ
ن ت اْلَعاِلُم; َوَلَعلّ ا ّ لَ ،وَيَتَثّب َجاِه ُ ن اْل َ
ك ِليَتَبّي َت ذِل َ
حِكيِم؟ َفِإّنَما َفَعْل ُ ل ِفي الّت ْ جً ك َوَبْيَنُهْم َأ َ
ت َبْيَن َجَعْل َ»َوَأّما َقْوُلُكْمِ :لَم َ
ضَ
ل ن َأْف َ يِ .إ ّل اْلَغ ّلّو ِ قَ ،وَتْنَقاَد َِ حّ ن اْل َن َتَبّي ِ
عْ ل َ جَ ظاِمَهاَ ،فَتْع َ خُذ ِبَأْك َ
لُتْؤ َ لّمِة; َو َ ح ِفي هِذِه اْلُهْدَنِة َأْمَر هِذِه ا ُْ صِل َ
ُي ْ
ن ُيَتاُه
جّر ِإَلْيِه َفاِئَدةً َوَزاَدُهَ .فَأْي َ
ن َ ل َوِإ ْطِ ن اْلَبا ِصُه َوَكَرَثُه ـ مِ َ ن َنَق َ ب ِإَلْيِه ـ َوِإ ْ
ح ّ ق َأ َحّ ل ِباْل َن اْلَعَم ُ ن َكا َل َم ْ عْنَد ا ّس ِ الّنا ِ
ن ِبِه،ل َيْعِدُلو َجْوِر َ ن ِباْل َعي َصُروَنُهَ ،وُموَز ِ ل ُيْب ِق َ حّ ن اْل َ عِحَياَرى َ سيِر ِإَلى َقْوم َ سَتِعّدوا ِلْلَم ِ ن ُأِتيُتْم! ا ْن َأْي َ
ِبُكْم! َوِم ْ
ش َناِرشا ُ حّ س ُ صُم ِإَلْيَهاَ .لِبْئ َعّز ُيْعَت َ ل َزَواِفَر ِ ق ِبَهاَ ،و َ قَ .ما َأْنُتْم ِبَوِثيَقة ُيْعَل ُ طِري ِ ن ال ّعِ بُ ،نُكب َ ن اْلِكَتا ِعِ جَفاة َ ُ
عْنَد الّنَداِء [الَقاء]َ ،و َ
ل صْدق ِ حَراُر ِ ل َأ ْ
جيُكْمَ ،ف َ ت ِمْنُكْم َبْرحًاَ ،يْومًا ُأَناِديُكْم َوَيْومًا ُأَنا ِ ف َلُكْم! َلَقْد َلِقي ُب َأْنُتْم! ُأ ّحْر ِ اْل َ
جاِء!«. عْنَد الّن َ
ن ِثَقة ِ خَوا ُ ِإ ْ
—–
الشرح والتفسير
يتألف كلم المام )عليه السلم( في الواقع من قسمين :الول يعالج شبهات الخوارج وأمثالهم ،ثم يحثهم على
جهاد ظلمة الشام ،فكلم المام )عليه السلم( في القسم الول إشارة إلى ميثاق التحكيم الذي وقع بين المام )عليه
السلم( ومعاوية )وسيأتي شرح ذلك في موضوع تأملت( وعلى ضوء العهد فقد منح الحكمان مّدة سنة لح ّ
ل
لمة دون التسرع في ذلك ،والمعترضون الجّهال يشكلون أحيانًا على أصل التحكيم والذي أجاب عليه اختلف ا ُ
المام )عليه السلم( في القسم السابق من الخطبة ،وأحيانًا أخرى كانوا يشكلون على تفاصيله ،أي مسألة المّدة،
ومن هنا رّد المام )عليه السلم( على الشكال
] [ 188
ت)(1
لَ ،وَيَتَثّب َ
جاِه ُ
ن اْل َ
ك ِليَتَبّي َ
ت ذِل َ
حِكيِم؟ َفِإّنَما َفَعْل ُ
ل ِفي الّت ْ
جًك َوَبْيَنُهْم َأ َ
ت َبْيَن َ
جَعْل َ
الخير بالقولَ» :وَأّما َقْوُلُكْمِ :لَم َ
اْلَعاِلُم«.
ق،
حّ
ن اْل َ
ن َتَبّي ِ
عْ
ل َ
جَظاِمَها)َ ،(3فَتْع َ
خُذ ِبَأْك َ
لُتْؤ َ
لّمِة; َو َ
ح ِفي هِذِه اْلُهْدَنِة)َ (2أْمَر هِذِه ا ُْ
صِل َ
ن ُي ْ
ل َأ ْ
لا ّ
ثم أضافَ» :وَلَع ّ
ي«.
ل اْلَغ ّ
لّو ِ
َوَتْنَقاَد َِ
فقد بّين المام )عليه السلم( عّدة فوائد للجل الوارد في مسألة التحكيم ،الولى :أن يتريث الجّهال ويكّفوا عن
لّمة من أصحاب علي )عليه ن يقوم القوم علماء ا ُ
شططهم وتعصبهم ويحققوا في المسألة المصيرية ،والخرى :أ ّ
السلم( بدراسة جوانب المسألة ويختاروا ما ينطوي على الحّد الدنى من الخسائر ويهدوا الحكمين لنتخاب
لمة بصورة كلية واجتناب الصحيح ،والثالثة :التفكير خلل هذه المّدة في الطرق التي تتكّفل بإصلح أمر ا ُ
الفعال المتسرعة التي تقود إلى الضلل ،والغريب في المر التسرع والطيش الذي مارسه الخوارج الجّهال بهذا
الشأن ليعرضوا مصير المة للخطر دون أدنى دراسة وتحقيق ،وهذا هو ديدن الجّهال من الفراد في كل عصر
ومصر.
ظاِمَها« فهى كناية عن الحرية من أجل المطالعة واتخاذ القرار والنتخاب ،وهى كناية خُذ ِبَأْك َ
لُتْؤ َ
أّما العبارةَ » :
ن التسرع في القرار ضللة عادة. ي« إشارة إلى أ ّ
ل اْلَغ ّ
لّو ِ
فصيحة وبليغة .،والعبارةَ» :تْنَقاَد َِ
ن المراد بأول الغي رفع المصاحف على أسنة الرماح التي تعّد أول خطوةوذهب بعض شّراح نهج البلغة إلى أ ّ
في الضلل) ،(4ويبدو التفسير الول بقرينة الجملة التي سبقتها أنسب.
ثم خاض المام )عليه السلم( في نصحهم ووعظهم بالنقياد للحق وعدم مجابهته بالتعصب واللجاجة وملحظة
صُه َوَكَرَثُه) (5ـ ِم َ
ن ن َنَق َ
ب ِإَلْيِه ـ َوِإ ْ
ح ّ
ق َأ َ
حّ
ل ِباْل َ
ن اْلَعَم ُ
ن َكا َ
ل َم ْ
عْنَد ا ّ
س ِ
ل الّنا ِ
ضَن َأْف َ
المنافع الشخصية ،فقالِ» :إ ّ
جّر ِإَلْيِه َفاِئَدًة َوَزاَدُه«.
ن َ
ل َوِإ ْ
طِ
اْلَبا ِ
» .2هدنة« :من مادة »هدون« على وزن قرون بمعنى الهدوء والسكون ،وتستعمل عادة بمعنى المصالحة بعد القتال أو وقف اطلق
النار.
» .3أكظام« :جمع »كظم« على وزن عزم وجمع كظم على وزن قلم بمعنى مخرج الَنَفس.
] [ 189
ن علمة المؤمن الحقيقي هى هذه ،يعني ان وقف على مفترق طرق بحيث كان الحق في جانب والمنافع الواقع إ ّ
ل فل فخر في تعصب النسان للحق الشخصية في جانب آخر ،ولى ظهره لمنافعه الشخصية واندفع نحو الحق ،وإ ّ
الذي ينسجم مع حفظ مصالحه الشخصية ،ومن هنا ذّم القرآن الكريم طائفة من اليهود التي عملت على هذا الضوء
ن ِبَبْعض َوَنْكُفُر ِبَبْعض ،(1)(...كانت تلك الطائفة تذعن للقوانين الموافقة لميلها ورغبتها وتحقق
فقالواُ) :نْؤِم ُ
ن مثل هذا التفكيك ل يعني عبادة ال سبحانه ،بل منافعها ،بينما تتمرد على تلك التي تتعارض ورغباتها ،والحق إ ّ
عبادة الهوى ،ويصدق هذا الكلم على الفراد الذين يهّبون لنصرة الباطل بدافع التعصب واللجاجة ودعم
الصدقاء والقرابة ،وقد ورد مثل هذا الكلم عن علي )عليه السلم( في خطابه لعمرو بن العاص حيث أقسم أّنه
ل أّنه يتجاهله ،ولم يدفعه لللتحاق بصفوف أعداء ال سبحانه سوى منافعه).(2 يعرف الحق ،إ ّ
ن ُأِتيُتْم).«!(4
ن َأْي َ
ن ُيَتاُه)ِ (3بُكْم! َوِم ْ
لَ» :فَأْي َ
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه قائ ً
آنذاك دعاهم لجهاد القوم الظالمين ،وقد نعتهم بخمس صفات سلبية تتمثل بحيرتهم عن الحق وعدم رؤيته وقد
شجعوا على الظلم و الجور ،ومن هنا فل يسعهم القلع عنه ،وقد ابتعدوا عن كتاب ال وانحرفوا عن الصراط،
سيِر ِإَلى َقْوم
سَتِعّدوا ِلْلَم ِ
رغم حملهم المصاحف ووضعها على الرماح وكلمهم عن تحكيم القرآن الكريم» :ا ْ
ق«.طِري ِن ال ّعِ بُ ،نُكب)َ (6 ن اْلِكَتا ِ
عِجَفاة َ
ن ِبِهُ ،
ل َيْعِدُلو َ
جْوِر َ
ن)ِ (5باْل َ
عي َ
صُروَنُهَ ،وُموَز ِ
ل ُيْب ِ
ق َ
حّن اْل َ
عِ
حَياَرى َ
َ
وهكذا أشار المام )عليه السلم( إلى إننا نمتلك خمسة أدّلة قاطعة إن أردنا قتال هؤلء وكل واحد من هذه الدلة
يكفي سببًا لقتالهم!
.2شرح نهج البلغة ،للمرحوم التستري ;10/263تاريخ الطبري 4/50طبعة العلمي بيروت.
» .3يتاه« :من مادة »تيه« على وزن قيد بمعنى الحيرة والضطراب ،ويقال التيه للصحراء التي يحتار فيها النسان.
» .4اتيتم« :من مادة »إتيان« لها معاني مختلفة وتعني هنا النخداع والتسليم للباطل.
» .5موزعين« :من مادة »ايزاع« بمعنى التشجيع وإيجاد الرغبة في شيء وترد بمعنى اللهام والتوفيق ،والمعنى الول هو ا لمراد
بها في هذه العبارة.
» .6نكب« :جمع »ناكب« من مادة نكب على وزن نفى النحراف عن الشيء.
] [ 190
فقد حادوا عن الصواب وانحرفوا عن الصراط ،ول يكترثون للقرآن الكريم ،اعتادوا على الظلم والجور ،وقد
عجزت أعينهم عن رؤية الحق فأصبحوا يدورون حول ذواتهم.
ضهم لشّد الذّم واللوم ،لعلهم يفيقون إلى ثم لهج لسان المام )عليه السلم( بالشكوى في عباراته الخيرة وعر ّ
ش)
شا ُ
حّ
صُم ِإَلْيَهاَ .لِبْئسَ ُ
عّز ُيْعَت َ
ل َزَواِفَر)ِ (1
ق ِبَهاَ ،و َ
أنفسهم ويعيدون النظر في أعمالهم فقالَ» :ما َأْنُتْم ِبَوِثيَقة ُيْعَل ُ
ب َأْنُتْم!«.
حْر ِ
َ (2ناِر اْل َ
جيُكْم َ ،ف َ
ل ت ِمْنُكْم َبْرحًا)َ ،(3يْومًا ُأَناِديُكْم َوَيْومًا ُأَنا ِ
ف َلُكْم! َلَقْد َلِقي ُ
ثم شدد )عليه السلم( في تقريعهم فقالُ» :أ ّ
جاِء).«!(4 عْنَد الّن َ ن ِثَقة ِخَوا ُ
ل ِإ ْ
عْنَد الّنَداِء [الَقاء]َ ،و َ
صْدق ِ
حَراُر ِ
َأ ْ
فقد تطرق المام )عليه السلم(إلى حقيقة في هذه العبارات وهى إن كانت هنالك من مشكلة قد ظهرت في أمر
الجهاد وحكومته )عليه السلم( فاّنما مرد ذلك إلى عدم كفاءة جمع من صحبه ،وذلك لّنهم كانوا يبدون الضعف
ن هناك ضرورة للصولة المقتدرة في بداية والوهن في كل ميدان يطرقه المام )عليه السلم( ،ومن الطبيعي أ ّ
المعركة والتي ينبغي أن تحصل من قبل الرجال الشداء والشجعان والمخلصين ،ولم يكن من ينهض بهذا الدور
في معسكر المام )عليه السلم( ،من جانب آخر فان القائد حين ينادي أن أحملوا! فلبّد من حركة الجميع بشكل
ل أّنهم كانوا أضعف وأوهن من ذلك ،وإن كانت هناك من خطط حربية يطلعون عليها بصورة سرية، منسجم ،إ ّ
ل أّنهم لم يكونوا من حفظة السرار ويوثق بهم ،وعليه ل يبدو من الصواب لبّد أن يجدوا ويجتهدوا في حفظها ،إ ّ
ن مثل هؤلء الفراد وبهذا ل وجود مثل هؤلء الفراد ،والعجيب في المر فا ّ توقع حصول نصر خاطف في ظ ّ
المدى من الضعف والوهن حين يصابون بفشل ،فهم يوعطونه إى الخارج ويحملوا المام )عليه السلم( مسؤولية
زلتهم دون أن يهموا ويفتشوا عن أسباب ذلك في أنفسهم ،وهذه مشكلة كبرى.
—–
» .1زوافر« :جمع »زافرة« من مادة على وزن فقر بمعنى اللم والصراخ ،ولما كان أعوان النسان بصفتهم المواسين في اللم
والنين فقد اطلقت مفردة الزافرة على النصير وهذا هو المعنى المراد في العبارة.
» .2حشاش« :حمع »حاش« من مادة حش على وزن شك بمعنى إيقاد النار ،والمراد بها هنا الفراد الذين يسددون أولى الضربات
للعدو.
» .4نجاء« :ونجوى الهمس في الذن والشيء الذي يقال للخرين سرًا.
] [ 191
تأّملن
عَلى َأْه ِ
ل طالب َ ي ِبن َأِبي َ عَل ّ
ضي َ ن ،قـا ِ سفيـا ِن وَأِبي ُ طالب)َ (1وُمعاِويُة ِب ْ ي ِبن َأِبي َ عَل ّعَليِه َ»هـذا َما َتقـاضى َ
شام َومنْ ل ال ّعَلى َأْه ِ
ن َ سفيـا ِن وَأِبي ُ ضي ُمعاِويُة ِب ْ ن َوقـا ِ ن َوالِمسِلِمي َ ن الُمؤِمِني َشيَعِتِه َم َ
ن ِ ن َمَعُه ِم ْ ن َكا َ
ق َوم ْ الِعرا ِ
با ِ
ل ن ِكتـا َ ل ِإّياه وإ ّ
ل َوِكتـاِبِه َول َيجَمُع َبيَننا إ ّ حكِم ا ِعْنَد ُ ل ِ ن َأّنا َنْنِز َ
ن َوالِمسِلِمي َن الُمؤِمِني َ شيَعِتِه َم َن ِ ن َمَعُه ِم َْكا َ
ك ِفي
ن َذِل َ
ن َأ ّ
حَكما ِجَد ال َن َو َ
ن فإ ْت الُقرآ ُت َما َأمـا َ ن وُنِمي ُ حِتِه ِإلى خـاِتَمِتِه ُنحيي َما َأحيـا الُقرآ ُ ن َفاِت َ
سبحـاَنُه َبيَننا ِم ُْ
ص«).(2 ن العـا ِ عمرو ِب ْ س َو َل ِبن َقْي ِ
عْبَدا ِن ِحَكَما ِغيِر الُمَفّرَقِة َوال َسّنِة العـاِدَلِة َ خذا ِب ّ
جداه َأ َل ِإّتَبعَناُه َوإن َلْم َي ِبا ِ ِكَتا َ
ن المسألة
وقد نقل هذا الصلح أو العهد )أو مهما سميته( في مختلف الكتب مع اختلف طفيف ،وكلها تشير إلى أ ّ
ن الشخاص كانوا مكّلفين باستنباط ما في
كانت مسألة تحكيم القرآن الكريم ل تحكيم الشخاص ،وبعبارة أخرى فا ّ
القرآن بهذا الشأن وتطبيقه على مصاديقه ،بينما اعتبرها الخوارج تحكيم للفراد في دين ال فأثاروا مختلف
الويلت والمأسي التي أفرزتها الجهل والحماقة.
ن أمير المؤمنين علي )عليه السلم( أرسل عبدال بن عباس إلى الخوارج وكان بمرآى منهم
روي أ ّ
ن كّتاب المام )عليه السلم( كتبوا أميرالمؤمنين إلى جانب إسمه ،فاعترض عمرو بن العاص وقال :لو .1ورد في أغلب التواريخ أ ّ
علمناك أميرًا للمؤمنين فلبد أن يكون من يعاديك أميرًا للفاسقين ،لبّد من محو هذه الكلمة ،فأطرق علي )عليه السلم( وذكر صلح
الحديبية فقال» :ال أكبر لقد كتبت محمد رسول ال )صلى ال عليه وآله( فاعترض الكّفار وطالبوا بمحو رسول ال ،فلم أفعل ،فأشار
ي النبي أن أمحوها ثم محاها بنفسه دفعًا للفتنة ،فغضب عمرو بن العاص وقال تشبهنا بالكّفار فلن أبق في هذا المجلس ـ فقال
عل ّ
)عليه السلم( :أسأل ال أن يطهر مجلسي من مثلك ،ثم استمر الكلم حول كتابة لقب أمير المؤمنين حيث رأى البعض عدم محوها
وإن شهرت السيوف ،ولكن محيت تلك الكلمة آخر المر )انظر تاريخ الطبري 4/37والتواريخ الخرى(.
.2بحار النوار ;32/542وقد ورد هذا العهد في تاريخ الطبري 4/38مع بعض الختلف.
] [ 192
أّما أولها :فاّنه محى اسمه من إمرة المؤمنين ،ثم كتب بينه وبين معاوية فإذا لم يكن أمير المؤمنين فنحن المؤمنون
فلسنا نرضى أن يكون أميرنا.
والثالثة :أّنه جعل الحكم إلى غيره وقد كان عندنا أحكم الناس.
الخامسة :أّنه قسم بيننا الكراع والسلح يوم البصرة ومنعنا النساء والذرية.
قال ابن عباس :قد سمعت يا أمير المؤمنين مقالة القوم فأنت أحق بجوابهم .فقال )عليه السلم( :نعم ،ثم قال له :قل
لولى فقد كتبت عهد الصلح يوم الحديبية لهم بابن عباس أترضون حكم ال ورسوله؟ فقالوا :بلى ،ثم قال :أّما ا ُ
»بسم ال الرحمن الرحيم هذا ما اصطلح عليه رسول ال وأبوسفيان وسهيل بن عمرو« فقال سهيل :إنا ل نعرف
ل ،وثانيًا ول نقّر أّنك رسول ال ،وثالثًا ولكّنا نحسب ذلك شرفًا لك أن تقّدم اسمك قبلالرحمن الرحيم أو ً
ل من »بسم ال الرحمن الرحيم« أسمائنا. ،إن كّنا أسن منك ،فأمرني رسول ال )صلى ال عليه وآله( أن أكتب بد ً
ل من »رسول ال« »محمد بن عبدال« ،ثم قال لي :إّنك تدعي إلى مثلها فتجيب وأنت مكره، »بسمك اللهم« وبد ً
وهكذا كتبت بيني وبين معاوية وعمرو بن العاص ،فقال الخوارج :هذه لك خرجت منها.
وأّما الثانية إّني شككت في نفسي حيث قلت للحكمين :انظروا فان كان معاوية أحق بها مني فأثبتاه ،فان ذلك لم
لل ُمِبين().(1
ضَ
ى َأْو ِفي َ
يكن شكا مّني فقد قال القرآنَ) :وِإّنا َأْو ِإّياُكْم َلَعَلى ُهد ً
ن نبّيه على الحق ،فقالوا :وهذا لك ،وأّما قولكم أّني جعلت الحكم إلى غيري وقد
ولم يكن ذلك شكًا وقد علم ال أ ّ
كنت عندكم أحكم الناس ،فهذا رسول ال )صلى ال عليه وآله( قد جعل الحكم إلى سعد
] [ 193
—–
.3الحتجاج للطبري ) ،1/442يتصرف ونقل بالمعنى( ووردت في مناقب ابن المغازلي 406/مع اضافة ،وبحار النوار 33/377مع
اختلف.
] [ 194
] [ 195
الخطبة)126 (1
يبدو الهدف من هذه الخطبة كما يفهم من عنوانها هو جواب المام )عليه السلم( لمن أشار عليه باغداق أموال
بيت المال على الشراف وزعماء القبائل الذين يمكنهم التأثير على الحكومة ،فيعطيهم سهمًا أكثر من غيرهم
ويميزهم بالعطاء ،وذلك من أجل ترسيخ حكومته ،وقد تضمنت إجابة المام )عليه السلم( الشارة إلى أمرين:
الول :ليس لي قط ترسيخ دعائم حكومتي من خلل الظلم والجور والتمييز بين الناس وإعطاء حق أحد لخر ،فل
يسعني بلوغ الحق والعدل بواسطة المعصية.
—–
.1سند الخطبة:
هذه الخطبة جزء من خطبة طويلة للمام )عليه السلم( في تقسيم بيت المال لما اعترض عليه ،ويبدو أّنها مرتبطة بالخطبة ،142
والجزءان من خطبة واحدة ،وقد نقلها الكثيرون ممن عاشوا قبل السيد الرضي وبعده ومنهم :ابن قتيبة في المامة السياسة ،وابن
شعبة في تحف العقول ،والكليني في فروع الدين ،والشيخ المفيد في كتاب المجالس ،والمرحوم الشيخ الطوسي في كتاب المالي
)مصادر نهج البلغة .(2/282
] [ 196
] [ 197
سَماِء
جٌم ِفي ال ّ سِميٌرَ ،وَما َأّم َن ْ سَمَر َ طوُر ِبِه َما َ ل َأ ُل َ عَلْيِه! َوا ّت َ ن ُوّلي ُ جْوِر ِفيَم ْ صَر ِباْل َب الّن ْ طُل َ
ن َأ ْ
»َأَتْأُمُروّني َأ ْ
حّقِه َتْبِذيٌر
غْيِر َ ل ِفي َ طاَء اْلَما ِعَ ن ِإ ْ
ل َوِإ ّل! َأ َ
لا ّ ل َما ُف َوِإّنَما اْلَما ُت َبْيَنُهْمَ ،فَكْي َ
سّوْي ُ ل ِلي َل َ ن اْلَما ُ
جمًا! َلْو َكا َ َن ْ
ضِع اْمُرٌؤ َماَلُه لَ .وَلْم َي َ عْنَد ا ّس َوُيِهيُنُه ِخَرِةَ ،وُيْكِرُمُه ِفي الّنا ِ لِضُعُه ِفي ا ْ حَبُه ِفي الّدْنَيا َوَي َ صا ِفَ ،وُهَو َيْرَفُع َ سَرا ٌ َوِإ ْ
ج ِإَلىحَتا َل َيْومًا َفا ْ ت ِبِه الّنْع ُ
ن َزّل ْن ِلَغْيِرِه ُودُّهْمَ .فِإ ْ
شْكَرُهْمَ ،وَكا َ ل ُ حَرَمُه ا ّل َ غْيِر َأْهِلِه ِإ ّ عْنَد َ ل ِحّقِه َو َغْيِر َ ِفي َ
خِدين!«. لُم َ خِليل َوَأ َْ شّر َ َمُعوَنِتِهْم َف َ
—–
الشرح والتفسير
المنصب والعدالة
ن جماعة من شيعة أميرالمؤمنين)عليه السلم(
أورد المرحوم الكليني في بداية نقله لهذه الخطبة عن أبي مخنف أ ّ
اقترحوا علي تقسيم أموال بيت مال المسلمين على الزعماء والشراف )في أن يعطيهم من سهمهم( لتستقر
الحكومة ومن ثّم يعود إلى التسوية في العطاء ،فانزعج المام )عليه السلم(وأورد هذه الخطبة ليوضح لهم عدم
إمكانية الوصول إلى هدف مقّدس من خلل وسيلة ليست مقّدسة ،فهذ المر ل ينسجم مع تعاليم السلم فقال:
عَلْيِه!«.
ت َ
ن ُوّلي ُ
جْوِر ِفيَم ْ
صَر ِباْل َ
ب الّن ْ
طُل َ
ن َأ ْ
»َأَتْأُمُروّني َأ ْ
] [ 198
جمًا!«.
سَماِء َن ْ
جٌم ِفي ال ّ
سِميٌر)َ ،(2وَما َأّم)َ (3ن ْ
سَمَر َ
طوُر)ِ (1بِه َما َ
ل َأ ُ
ل َ
لَ» :وا ّ
ثم أضاف )عليه السلم( قائ ً
فقد بّين المام )عليه السلم( رسوخ عزمه بهذا الشأن بعبارات صريحة وقوية ،فهو يقسم من جانب ،ويستعمل
العبارة ل أطور من جانب آخر ،والمراد ليس فقط ل أفعل هذا ،بل ل أقاربه ول أحوم حوله ،إلى جانب ذلك أشار
إلى الحركة المتواصلة والبدية للنجوم في السماء والليل والنهار في الرض ،كناية عن مراده لو كان عمري
ت َبْيَنُهْمَ ،فَكْي َ
ف سّوْي ُ
ل ِلي َل َ
ن اْلَما ُ
خالدًا فلست مستعدًا للمارسة مثل هذا الظلم والتمييز ،ثم أّكد ذلك بقولهَ» :لْو َكا َ
ل!«. لا ّل َما ُ
َوِإّنَما اْلَما ُ
فالعبارة وإن بدت صعبة على الفراد الذين ليس لهم ُبعد نظر وُاولئك الذين يضحون بالحق والحقيقة من أجل
ن هذه العبارة إّنما تتفق وسّنة رسول ال )صلى ال عليه وآله( وتعاليم القرآن الكريم
ن الحق هو أ ّ
لأّ
المصلحة ،إ ّ
والقيم السلمية العليا ،وهذا ما سنعرض له في البحث القادم.
ل َوِإ ّ
ن ثم أشار المام علي )عليه السلم( إلى مفاسد الظلم والجور والتقسيم غير العادل لموال بيت المال فقالَ» :أ َ
خَرِةَ ،وُيْكِرُمُه ِفي الّنا ِ
س لِضُعُه ِفي ا ْ
حَبُه ِفي الّدْنَيا َوَي َ
صا ِ
فَ ،وُهَو َيْرَفُع َ
سَرا ٌ
حّقِه َتْبِذيٌر َوِإ ْ
غْيِر َ
ل ِفي َ
طاَء اْلَما ِ
عَ ِإ ْ
ل«.
عْنَد ا ّ
َوُيِهيُنُه ِ
ن التبذير
ل منهما الخر تارة ،وتارة أخرى بمعنيين ،ل ّ قد يكون التبذير والسراف بمعنى واحد ويرادف ك ّ
بالمعنى الواقعي يختلف عن السراف ،فالتبذير من مادة بذر بمعنى نثر البذور وتستعمل حين يضيع النسان نعمة
ال ويطرحها جانبًا ،وبعبارة أخرى ينفق الموال في غير موضعها ،أّما السراف فهو المبالغة في إستهلك النعم
بحيث يخرج من حالة العتدال دون أن يضيع شيئًا ظاهريًا ،كأن يعد طعامًا كثيرًا للغاية وفاخرًا لبضعة أفراد،
بينما يمكن
» .1أطور« :من مادة »طور« على وزن غور بمعنى حام حول الشيء ،والمفردة طور وجمعها أطوار وردت بمعنى نوع وحالة
وصيغة.
» .2سمير« :من مادة »سمر« على وزن تمر حديث الليل ،وقال البعض أن المعنى الصلي لهذه المادة هو الختلط بالنور والظلمة،
ولما كانت أحاديث الليل تتم أحيانًا في ظّل النور ،فقد ستخدمت هذه المفردة بشأن أحاديث الليل ،وإن اطلق السمر على بعض الفراد
ن بياض بشرتهم مشوب باللون الغامق. فذلك ل ّ
» .3أّم« :من مادة »أم« على ورن غم بمعنى القصد ،والعبارة )ما أّم نجم في السماء نجمًا( كناية عن طلوع النجوم وغروبها
ن كل نجم يقصد متابعة الخر.
متتابعة ،وكأ ّ
] [ 199
إطعام عشرات الفراد بتلك القيمة ،فقد أشار المام )عليه السلم( في هذا المقطع من خطبته إلى الثار المعنوية
السيئة لصرف الموال في غير مواضعها ،حيث يمكن أن يحظى النسان في ظلهًا بمكانة معينة إلى أجل بين
الناس ،بينما يسقط بالمرة أمام ال ويعرض نفسه لشد العقاب في يوم الجزاء ،وأّما نعته مثل هذا العطاء بالتبذير
والسراف ،فذلك لّنه يؤّدي إلى اشاعة التبذير والسراف في وسط المجتمع ،فُاولئك الذين يأخذون أكثر من الحّد
اللزم ،ل يسعهم غالبًا إفاضة جزء منه على الخرين ،كما ل يستطيعون احتماله بأنفسهم ،فل مناص من بروز
حالة التبذير والسراف.
ضِع اْمُرٌؤ َماَلُه ثم إختتم المام )عليه السلم( خطبته بالشارة إلى الثار الدنيوية السيئة لذلك العمل فقالَ» :وَلْم َي َ
ج ِإَلى
حَتا َ
ل َيْومًا َفا ْ
ت ِبِه الّنْع ُ
ن َزّل ْ
ن ِلَغْيِرِه ُودُّهْمَ .فِإ ْ
شْكَرُهْمَ ،وَكا َ
ل ُ
حَرَمُه ا ّ
ل َغْيِر َأْهِلِه ِإ ّعْنَد َل ِ
حّقِه َو َ
غْيِر َ ِفي َ
خِدين).«!(1 لُم َ خِليل َوَأ َْ
شّر ََمُعوَنِتِهْم َف َ
ن ُاولئك الفراد الذين أحسن إليهم ليس فقط ل يقدمون المساعدة لمن أحسن إليهم
والعبارة ألم خدين إشارة إلى أ ّ
في يوم عوزه فحسب ،بل تبلغ بهم الوضاعة واللؤم أن يتحولوا إلى ذاّمين ،أّما ما فهمه بعض شّراح نهج البلغة
ن العبارة تعني اللوم والتوبيخ ،فلعل ذلك كون الصديق هو المصداق الواضح للوضاعة حين الحاجة ،وقد د ّ
ل من أ ّ
التاريخ والتجارب الشخصية كرارًا ومرارًا على أن أغلب الظلمة والثرياء الذين يغدقون الموال على
أصدقائهم ،لم يمهد أحد لهم يد العون حين ذاقوا وبال أعمالهم ،بل نفر عنهم أقرب أصدقاؤهم القدماء ،ولعل بيت
الشعر المعروف للشاعر المشهور حافظ الشيرازي والذي تتناقله اللسن ومضمونه »أني لم أتأثر قط بما يفعله
الجانب ،بقدر ما أتأثر مما يفعله الصديق( إشارة إلى هذا المعنى.
—–
ن المام )عليه السلم( كان شديد الحرص على تقسيم أموال بيت
يستفاد من هذه الخطبة الشريفة أ ّ
» .1خدين« :من مادة »خدن« بمعنى الصداقة وخدن على وزن اذن بمعنى الصديق وجمع ذلك أخدان.
] [ 200
مال المسلمين بينهم بالسوية دون أن يكون هناك أدنى امتياز لشريف على وضيع وشخصية سياسية واجتماعية
وحتى السابقين في السلم ،بل حتى أهل الحاجة على أحد من الناس ،وهذا ما كانت عليه الحال على عهد رسول
ال )صلى ال عليه وآله( ويبدو أّنه كان النهج الذي اعتمده الخليفة الول أيضًا ،حتى خلفة عمر حيث إّتبع
لمور السياسية والجتماعية في تقسيم بين المال. التمييز والخذ بنظر العتبار ا ُ
ضل السابقين على غيرهم، قال ابن أبي الحديد :أّما عمر فاّنه لما وّلى الخلفة فضل بعض الناس على بعض ،فف ّ
ضل المهاجرين كافة على النصار كافة ،وفض ّ
ل ضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين ،وف ّ وف ّ
ضل الصريح على المولى ،وقد كان أشار على أبي بكر في أّيام خلفته بذلك ،فلم يقبل وقال العرب على العجم ،وف ّ
ضل آنذاك كافة قرابته وبطانته ،فقسم بينهم
هذا خلف كتاب ال ،ولما وّلى عثمان الخلفة بلغ التمييز قمته ،فقد ف ّ
لمة الميني)رحمه ال( في المجلد الثامن من كتابه الغدير الصفحة ) أغلب أموال بيت المال) ،(1وقد ذكر الع ّ
(486عنوانًا أسماه )الفوضى في مال ال( جمع فيه الرقام الدقيقة التي روتها مختلف مصادر العاّمة بشأن هباته
ل إنسان حين يتأملها ،فكان هذا أحد العوامل التي دعت الناس للقيام إلى قبيلته وأعوانه ،وهى الرقام التي تذهل ك ّ
ن رفع هذه المتياز من قبل المام )عليه السلم( كان أحد العوامل التي جعلت زعماء القبائل يتمردون عليه ،كما أ ّ
عليه )كما يفهم من هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلغة().(2
ن أصحاب المتيازات في ذلك الزمان لم يخفوا هذا المر ،كما نقل ذلك الطبري في تاريخه، والطريف في المر أ ّ
حيث قال رجل لبي عبدالرحمن السلمي )الذي كان معروفًا آنذاك() :(3ناشدتك ال متى عاديت عليًا )عليه
السلم( أليس ذلك حين قسم العطاء ولم يعطك وأهلك شيئًا )وقد استغلوا بيت المال قبل ذلك(؟ قال أبو عبدالرحمن:
بلى هو كذلك(4).
.3ابو عبدالرحمن السلمي من مشاهير التابعين ،ولم يكن من الصحابة وقال البعض كان بادىء المر من خواص أميرالمؤمنين
)عليه السلم( )الكني واللقاب(.
] [ 201
ل حال لبّد من بحث جذور مسألة المساواة التي تأكدت على عهد رسول ال )صلى ال عليه وآله(وعلي على ك ّ
ن الموال التي
)عليه السلم( ،قطعًا إن ذلك يعود إلى ماهية الموال التي كانت ترد بيت المال ،وتوضيح ذلك أ ّ
كانت ترد بيت المال تستند إلى نواحي:
ن الفارس
ن ليس هناك أي تفاوت بين المقاتلين بخصوص الغنائم الحربية ،سوى أ ّ الولى :غنائم الحرب وتعلم أ ّ
كان يأخذ ضعف الراجل )بسبب التكاليف المتعلقة بالمركب ،فهم الذين كانون يعدونه ،إضافة إلى دور الفارس
مقارنة بدور الراجل في المعركة(.
الثانية :أموال الخراج وهى الموال المتعلقة بالراضي السلمية والتي كانت تشكل أغلب بين المال على عهد
ن أراضي الخراج ملك الخلفاء ،فهذه الموال تتعلق بجميع المسلمين ولبّد من تقسيمها بالسوية عليهم ،وذلك ل ّ
لعاّمة المسلمين وينبغي توزيعها عليهم بالسوية ،حيث يتقسم دخل الملك المشاع بالتساوي على جميع المالكين،
ن سهم ملكية الجميع متساوي.لّ
الثالثة :الجزية والموال التي تجبى من غير المسلمين إزاء ما يتمتعون به من دعم وحماية من جانب الحكومة
ن مصاريف الجزية هى مصارف السلمية إلى جانب حفظ أموالهم وأعراضهم ،ويرى طائفه من كبار الفقهاء أ ّ
الخراج المتعلقة بجميع المسلمين.
الرابعة :الزكاة التي تفرض على بعض الجناس بمقدار معين وقد تكفل القرآن الكريم ببيان مصاريفها الثمانية،
وقد قسمت بصورة عاّمة إلى الفقراء ،والمساكين ،حسب حاجتهم وفي موارد مصاريف الجهاد حسب الحاجات،
وعليه فالمعيار في تقسيمها الحاجة ل المساواة.
الخامسة :الخمس وهى الموال المفروضة على كافة اليرادات بعد طرح التكاليف ومخارج السنة ،وعلى وضوء
ن الخمس نصفان ،نصف يتعلق بأهل الحاجة من بني هاشم ،والنصف الخرما أورده القرآن الكريم والروايات فا ّ
بإمام المسلمين والذي ينفقه في حاجيات الحكومة السلمية.
السادسة :النفال التي تشمل جميع الموال التي ليس لها ملكية خاصة كالراضي الموات والبساتين وبعض
المعادن وسواحل البحار والرضي البوار التي غادرها أصحابها وانصرفوا عنها ،فهى الخرى جزء من أموال
الدولة وتتعلق بجميع المسلمين ،ولكل مصدر من المصادر
] [ 202
صل ورد في الكتب الفقهية مثل كتاب الخمس وكتاب الزكاة وكتاب الجهاد.
الست الماضية بحث مف ّ
وهنا يطرح هذا السؤال :أي من هذه الموال الست التي ينبغي توزيعها بصورة مساوية بين المسلمين وقد عمل
بذلك رسول ال )صلى ال عليه وآله( واستمر العمل بها حتى في زمان الخليفة الول ،وواصلها المام علي
)عليه السلم( إحياًء للسّنة بعدما إندرست على عهد الخليفة الثاني والثالث؟
ن تلك الموال هى أموال الخراج )ويحتمل إلحاق الجزية بها( والتي كانت تشكل في ذلك الزمان القسم يبدو أ ّ
العظم من بيت المال ،وقد كانت إلى درجة من الكثرة بحيث لم تكن هناك من أهمّية لسائر موارد بيت المال في
ن أحد البرامج الرئيسية للولة الذين يتجهون إلى مختلف المناطق جباية الخراج ،ويستفاد هذا
مقابلها ،ولذلك فا ّ
المعنى من أغلب الرسائل الواردة في نهج البلغة ،ومن ذلك عهد المام )عليه السلم( إلى مالك الشتر)رضي
ال عنه( ورسالته )عليه السلم( إلى مصقلة بن هبيرة )الرسالة 53و .(43
ن وزع قسم آخر من أموال بيت المال بصورة غير متساوية على أساس مصالح المسلمين وبناءًا على ما تقدم فا ّ
والحكومة السلمية على ضوء المدارك الفقهية ،فليس هناك من منافاة مع ما ورد في هذه الخطبة وأمثالها.
ن هناك تقسيمًا لموال بين المال على أساس مصالح المسلمين والخدمات التي يقوم بها بعض أضف إلى ذلك فا ّ
الفراد ،ل على أساس المصالح الشخصية كما كان يفعل ذلك معاوية ،حيث كان يشتري زعماء القبائل بما يغدق
عليهم من أموال ،حتى كان يغرر ببعض الفراد ضعاف اليمان من جيش المام )عليه السلم( فيغريهم بما ينفقه
عليهم من أموال كثيرة) ،(1وهذا بحّد ذاته يمثل جناية عظمى ل يمكن تداركها والغماض عنها ،وقد كان المام
)عليه السلم( كما ورد في هذه الخطبة يتنفر من هذا العمل ،وقد غضب بشّدة على من اقترح عليه استمالة
الشراف وزعماء القبائل بالموال.
ن هذه مدرسة الحرار والتقياء الوفياء التي كانت وما زالت تتضاد ومدرسة سماسرة السياسة وعبدة
وبالطبع فا ّ
المناصب وأسرى الهواء.
] [ 203
الخطبة)127 (1
خاطب المام )عليه السلم( الخوارج بهذه الخطبة ،رغم عمومية نفع الخطبة ،تتألف الخطبة من عّدة أقسام ،فّند
المام )عليه السلم( في القسم الول عقيدة الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة وحكمهم بقتل عاّمة ُاّمة النبي
)صلى ال عليه وآله( ،وذلك من خلل الدلة المحكمة ،وأشار )عليه السلم( في القسم الثاني إلى غفلة الخوارج
وجهلهم وسلوكهم المفرط في عدوانهم ،بينما أفرط البعض الخر منهم في موالتهم ،فكلهما على ظللة ،والقسم
ن شعار الخوارج الثالث تضمن التأكيد على متابعة جميع المسلمين وعدم النفراد عنهم والتحذير من الفرقة ،وأ ّ
هو شعار مضل وخطير ،وأخيرًا القسم الرابع وهو إشارة إلى خطأ الحكمين ،كما يوضح أن وظيفة الحكمين
العمل بأحكام القرآن ،ولكّنهم ضلوا الطريق ،وعليه فليست هنالك أية قيمة لحكمهم.
—–
.1سند الخطبة:
نقل هذه الخطبة المؤرخ المعروف الطبري في حوادث سنة 37هـ عن أبي مخنف باختلف طفيف ،وابن الثير في كتاب النهاية
وأشار إلى المفردة )بجر() .مصادر نهج البلغة .(2/285
] [ 204
] [ 205
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
هذا المقطع من الخطبة ناظر إلى الرّد على شبهات الخوارج التي لحقت بهم بفعل جهلهم وتعصبهم وتقليدهم
العمى ،فهم يعتقدون بكفر من إرتكب الكبيرة ،والكافر يجب قتله ،فقد صنعوا لنفسهم صغرى وكبرى وعلى
أساسهما أجازوا لنفسهم قتل أي فرد من أصحاب علي )عليه السلم( أينما وجدوهم ،ومن هنا حمل هؤلء
الضالون المتعطشون لدماء البرياء سيوفهم على عواتقهم ليسفكوا دماء من شاءوا من البرياء في مختلف مناطق
البلد السلمية ،فأتوا بالفعال الشنيعة التي يندى لها جبين التاريخ ،نعم لقد ابتكروا لنفسهم صغرى وكبرى
وقالوا :إن عليًا )عليه السلم( قبل تحكيم الفراد في مقابل القرآن ،وعليه فقد إرتكب الذنب ،وكل من إرتكب
الذنب فهو كافر ،واتباع علي )عليه السلم( كذلك فهم كفرة ،والكافر يجب قتله وقد رد المام علي )عليه السلم(
] [ 206
بالعبارة المذكورة على خطأهم ليتم الحجة عليهم ،فلو فرض )وفرض المحال ليس بمحال( أّنه ضل فما الذي
طْأ ُ
ت خَعُموا َأّني َأ ْ ن َتْز ُ
ل َأ ْ
ن َأَبْيُتْم ِإ ّ
يدعو إلى الحكم بضللة كافة ُاّمة محمد )صلى ال عليه وآله( بضللهَ» :فِإ ْ
طِئيَ ،وُتَكّفُروَنُهْم نِبُذُنوِبي!«.خَ خُذوَنُهْم ِب َ لِليَ ،وَتْأ ُ
ضَعَلْيِه َوآِلِهِ ،ب َ
ل َ
صّلى ا ّ
حّمد َ
عاّمَة ُأّمِة ُم َ
ن َ
ظّلُلو َ
تَ ،فِلَم ُت َ
ضَلْل ُ
َو َ
ن َلْم
ب ِبَم ْ
ن َأْذَن َ
ن َم ْ
طو َ
خِل ُ
سْقِمَ ،وَت ْ
ضعَ اْلُبْرِء َوال ّ
ضُعوَنَها َمَوا ِ
عَواِتِقُكْم)َ (1ت َ
عَلى َ
سُيوُفُكْم َ
ثم واصل كلمه بالقولُ » :
ب«.
ُيْذِن ْ
ل :أّني
فهذا العبارات تتضمن إشارة إلى عّدة أجوبة :الول بطلن التصور القائم على أني أحطأت وضللت ،فأو ً
ن الحكم هو قبلت التحكيم بفعل ضغوطكم ،وثانيًا :لو تّم التحكيم بصورة صحيحة لكان مطابقًا للقرآن ،فالواقع أ ّ
القرآن ،ومن ينهض بالتحكيم إّنما يرجع إلى القرآن ويستنبط منه حكم ال سبحانه ،فيطبق الكليات على مصاديقها،
كما مّر ذلك في الخطب السابقة ،وعليه فليس هنالك من عمل مخالف حكم ال حتى يؤّدي إلى الخطأ والضللة،
ثالثًا :على فرض أّني إرتكبت خلفًا فما معنى حمل ذلك على سائر المسلمين؟ لم تكفرونهم وتريقون دماء
البرياء؟ أي قانون هذا الذي تتمسكون به؟ وبأي شرع تؤمنون؟
ثم إّتجه المام )عليه السلم( صوب خطأهم الصلي المتمثل بقولهم كل مذنب كافر ،فرّد عليهم رّدا قاطعًا فقال:
ل اْلَقاِتلَ
عَلْيِهُ ،ثّم َوّرَثُه َأْهَلُه; َوَقَت َ
صّلى َ نُ ،ثّم َ صَ ح َ ي اُْلم ْجَم الّزاِن َل )صلى ال عليه وآله( َر َ لا ّ سو َن َر ُ عِلْمُتْم َأ ّ
»َوَقْد َ
ت;
سِلَما ِ حا اْلُم ْ
يِءَ ،وَنَك َ ن اْلَف ْ
عَلْيِهَما ِم َ
سَم َ نُ ،ثّم َق َصِ ح َ غْيَر اُْلم ْ
ي َجَلَد الّزاِن َ
ق َو َ
ساِر َ
طَع ال ّث ِميَراَثُه َأْهَلُهَ .وَق َ َوَوّر َ
خِر ْ
ج لِمَ ،وَلْم ُي ْسَ لْ ن ا ِْسْهَمُهْم ِم َل ِفيِهْمَ ،وَلْم َيْمَنْعُهْم َقا ّ حّ ل)صلى ال عليه وآله(ِ ،بُذُنوِبِهْمَ ،وَأَقاَم َ لا ّ سو ُ خَذُهْم َر َُفَأ َ
ن َأْهِلِه«.ن َبْي ِسَماَءُهْم ِم َْأ ْ
فقد أراد المام )عليه السلم( عّدة شواهد من سّنة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( تؤكد وضوح خطأ الخوارج،
ن النبي )صلى ال عليه وآله( كان يعدم الزاني والقاتل ،ثم يصّلي عليهما ويّورث أهلهما ،لو كفر هؤلء
الول أ ّ
ن المسلم ل يرث الكّفار) ،هذه عقيدة
بارتكابهم الزنا وقتل النفس لما وجب توريث أهلهم لهم حسب عقيدتكم ،ل ّ
أغلب فقهاء العاّمة( ،كما حّد رسول ال )صلى ال عليه وآله( سائر المذنبين كالسارق
» .1عواتق« :جمع »عاتق« قسم من الجسم يقع بين الرقبة والكتف.
] [ 207
والزاني غير المحصن ،فقطع يد الول وجلد الثاني ،لكّنهم بقوا في صفوف المسلمين فأجازهم جميع الحكام
السلمية كالزواج من المسلمات وأخذهم سهمهم من بيت المال ،والحال ل تجرى عليه أي من هذه الحكام إن
كفر بارتكاب الكبيرة.
—–
تأّملت
ن إرتكاب الكبيرة يوجب الخروج من دين السلم ،بناءًا على هذا ن الخوارج يعتقدون بأ ّ يستفاد من هذه الخطبة أ ّ
ل هؤلء الجّهال بظاهر بعض آيات فمن إرتكب الكبيرة وكان قبل ذلك مسلمًا فهو مرتد يجب إعدامه ،وقد استد ّ
القرآن التي لم يدركوا مفهومها ،ومن ذلك الية الشريفة 97من سورة آل عمران بشأن تارك الحج والتي تقول:
ن(،
ك ُهْم اْلَكاِفُرو َ
ل َفُأْوَلِئ َ
لا ُ حُكْم ِبَما َأنَز َ
ن لَْم َي ْ
ن( ،والية 44من المائدةَ) :وَم ْن اْلَعاَلِمي َ
عْى َغِن ّ
ل َ
نا َ
ن َكَفَر َفِإ ّ
)َوَم ْ
خاِلِدي َ
ن جَهّنَم َ
ن َلُه َناَر َ سوَلُه َفِإ ّ
ل َوَر ُ صا َ ن َيعْ ِ واليه 23من سورة الجن التي تحدثت عن المذنبين جمعاءَ) :وَم ْ
ِفيَها َأَبد(.
فقد أطلقت هذه اليات على بعض المذنبين كلمة الكفر أحيانًا ،وأحيانًا أخرى الخلود في جهنم الذي يختص
ن مفردة الكفر في اللغة واصطلح الشرع ل تعني على الدوام الخروج من السلم ،بل بالكّفار ،وقد غفلوا عن أ ّ
الكفر درجات ومراحل :فقد يكون بمعنى إرتكاب الذنب ،ويكون أحيانًا أخرى بمعنى إنكار ال والعقائد الدينية،
وبعبارة أخرى الكفر بمعنى مجانبة الحق أو ستره وهو على مراحل ودرجات ،ولكل أحكامه الخاصة ،كما
لليمان درجات ،لكل منها أحكامه الخاصة ،فقد ذكر المام الصادق )عليه السلم( في الرواية المعروفة في
ن الكفر بمعنى ترك أوامر ال والعصيان ،ثم يورد اصول الكافي خمسة معاني للكفر الوارد في القرآن ،أحدهما :أ ّ
المام شواهد من القرآن الكريم على هذه المعاني الخمسة).(1
] [ 208
وأوضح دليل على بطلن هذه العقيدة ما أورده أمير المؤمنين علي )عليه السلم( في هذه الخطبة من كثرة عدد
المذنبين في عصر النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( والذين كان يقيم عليهم الحد ،مع ذلك كان يجري عليهم كافة
أحكام السلم ،حتى وإن لم يتوبوا من قبيل إقامة صلة الميت والدفن في مقابر المسلمين وأحكام الرث ،ومن
كان حيًا بعد إقامة الحد; أجرى عليه سائر الحكام كأخذه لسهمه من بيت المال والزواج من المسلمات وأمثال
ذلك ،هذه هى سيرة رسول ال )صلى ال عليه وآله( والتي تواصلت في العهود اللحقة حتى عصرنا الحاضر
بين جميع مسلمي العالم والتي تدل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر بمعنى خروجه من السلم قط ،وليس فقط
ل يراق دمه فحسب ،بل هناك دّية على أدنى جرح يعّرض له.
—–
ن أدنى مطالعة لجانب من التاريخ المظلم للخوارج تكفي لن نقف على مدى فضاعة الفئة التي وقفت بوجه أمير إّ
لّمة ،فليست هنالك فئةالمؤمنين علي )عليه السلم( ،والسباب التي عاقت برامجه )عليه السلم( في النهوض با ُ
تشبه الخوارج شهدها التاريخ ،فهى فئة متعصبة عاشت جميع التناقضات ويسفكون الدماء بكل بساطة ول
يرحمون كبيرًا ول صغيرًا حتى الجنين في بطن ُاّمه ،كما وصفهم أمير المؤمنين )عليه السلم( في هذه الخطبة
حيث وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيريقون دم من يريدون ،ولم يأمن أحد في منطق حكومتهم التي لم تدم طو ً
ل
لحسن الحظ ،وكأّنهم يرون أنفسهم المالكين والناس عبيد فلهم أن يفعلوا بهم ما يشاؤون من قتل وتعذيب وتشريد.
قال ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلغة :حين مضى الخوارج إلى النهروان أصابوا في طريقهم مسلماً
ونصرنيًا ،فقتلوا المسلم لّنه عندهم كافر ،إذ كان على خلف معتقدهم ،واستوصوا بالنصراني ،قالوا :احفظوا
ن واصل بن عطاء )وهو من مشاهير علماء عصره( أقبل في رفقة فأحسوا بالخوارج، ذّمة نبّيكم ،ونحو ذلك أ ّ
ن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإّياهم ،فقالوا :شأنك ،فخرج إليهم ،فقالوا :ما
فقال واصل لهل الرفقة :إ ّ
أنت وأصحابك؟ فقال :قوم مشركون مستجيرون بكم ،ليسمعوا كلم ال ،ويفهموا حدوده ،قالوا:
] [ 209
قد أجرناكم ،قال واصل :فعلمونا ،فجعلوا يعلمونهم أحكامهم ،ويقول واصل :قد قبلت أنا ومن معي ،قالوا :فمضوا
مصاحبين فقد صرتم إخواننا.
ل ُثّم َأْبِلْغُه
لَم ا ِ
سَمَع َك َ
حّتى َي ْ
جْرهُ َ
ك َفَأ ِ
جاَر َ
سَت َ
نا ْ
شِرِكي َ
ن اْلُم ْ
حٌد ِم ْ
ن َأ َ
ن ال تعالى يقولَ) :وِإ ْ
فقال :بل تبلغوننا مأمننا ل ّ
ن().(1
ل َيْعَلُمو َ
ك ِبَأّنُهْم َقْوٌم َ
َمْأَمَنُه َذِل َ
فنظر بعضهم إلى بعض ،ثم قالوا :ذاك لكم ،فساورا معهم بجمعهم حتى أبلغهم المأمن).(2
ومعروفة هى قصة قتلهم صحابي النبي )صلى ال عليه وآله( المعروف :عبدال بن خباب وقتلهم لمرأته وهى
حامل ،وقد عرضنا لشرح ذلك سابقًا ،وهذا غيض من فيض جرائم الخوارج ،هذا في الوقت الذي إذا قتل أحدهم
ن الجهل والتعصب خنزيرًا ،واعترضوا عليه على وأن ذلك فساد في الرض وأنكروا قتل الخنزير) ،(3يبدو أ ّ
والعجب هى العوامل الصلية لظهور هذه الفئة السّفاكة التي ل تتورع عن إرتكاب أية جريمة وجناية ،أو ليس
جة وتوبةجزاء هؤلء تلك الحملت المتتالية التي شنها عليهم جيش المام علي )عليه السلم( بعد إتمام الح ّ
المخدوعين منهم ،لكي ل تبقى لهم من باقية ،كما حدث في النهروان؟!
—–
تصدى المام )عليه السلم( في الخطبة المذكورة للرّد على الخوارج الذين يقولون بكفر من إرتكب الكبيرة ،في
ن ذلك خلف سيرة رسول ال )صلى ال عليه وآله( في إقامته للحدود على مرتكبي الكبائر ،وفي الموارد التي أّ
تتطلب إعدام صاحبها من قبيل قصاص القاتل ،فقد كان يحكم بقتلهم ويورثهم أهلهم من المسلمين.
ن المسلم ل يرث الكّفار وعليه فان إيصال إرثهم إلى وارثهمهذا في الوقت الذي نعتقد فيه على ضوء مذهبنا بأ ّ
ل على نفي كفرهم ،وللجابة على هذا السؤال لبّد المسلمين ليس دلي ً
] [ 210
ن المام )عليه السلم( أورد هذا الكلم طبق مذهب أغلب العاّمة والخوارج الذين يعتقدون بعدم إرث من القول بأ ّ
ل على ضوء مسلمات مذهبهم ،أّما مذهب أهل الكافر للمسلم ول المسلم من الكافر ،وبناءًا على هذا فقد استد ّ
البيت)عليهم السلم(الكافر ل يرث المسلم بينما يرث المسلم الكافر ،للرواية الواردة عن أهل البيت)عليهم السلم(:
حّقِه«).(1
عّزًا ِفي َ
ل ِ
سِلَم إ ّ
لسلَم َلم َيزد الم ُنا ِ»ِإ ّ
—–
] [ 211
القسم الثاني
ط َيْذَهبُ
ب ُمْفِر ٌ
ح ّ نُ :م ِ
صْنَفا ِ
ي ِك ِف ّسَيْهِل ُ
ب ِبِه ِتيهَُه! َو َ ضَر َ ن َمَراِمَيُهَ ،و َ طا ُ
شْي َ
ن َرَمى ِبِه ال ّ سَ ،وَم ْشَراُر الّنا ِ »ُثّم َأْنُتْم ِ
سُ
ط ط الَْْو َل اّلنَم ُ
حا ً
ي َس ِف ّخْيُر الّنا ِقَ ،و َحّ غْيِر اْل َض ِإَلى َ ب ِبِه اْلُبْغ ُ
ط َيْذَه ُض ُمْفِر ٌ قَ ،وُمْبِغ ٌ حّغْيِر اْل َ
ب ِإَلى َ
ح ّ ِبِه اْل ُ
عِةَ .وِإّياُكْم َواْلُفْرَقَة!
جَما َ
ل َمَع اْل َن َيَد ا ّ
ظَم َفِإ ّ
عَلْسَواَد ا َْ
َفاْلَزُموُهَ ،واْلَزُموا ال ّ
ح َ
ت ن َت ْ
شَعاِر َفاْقُتُلوُهَ ،وَلْو َكا َ
عا ِإَلى هَذا ال ّ
ن دَ َ
ل َم ْ
بَ .أ َ
ن اْلَغَنِم ِللّذْئ ِ
شاّذ ِم َ
ن ال ّ
نَ ،كَما َأ ّ
طا ِ
شْي َ
س ِلل ّ
ن الّنا ِ
شاّذ ِم َ
ن ال ّ
َفِإ ّ
عَماَمِتي هِذِه«.ِ
—–
الشرح والتفسير
شر الناس
طا ُ
ن شْي َ
عَلْيِهْم ال ّ
حَوَذ َ
سَت ْ
حّقا ليس هناك من فئة في أوساط المسلمين شر من الخوارج ،فهم مصداق الية الشريفة) :ا ْ
ن().(1سُرو َ
خا ِ
ن ُهْم اْل َ
طا ِ
شْي َ
ب ال ّ
حْز َ
ن ِ
ل ِإ ّ
ن َأ َ
طا ِ
شْي َ
ب ال ّ
حْز ُ
ك ِ
ل ُأْوَلِئ َ
ساُهْم ِذْكَر ا ِ
َفَأن َ
] [ 212
سُبو َ
ن حَحَياِة الّدْنَيا َوُهْم َي ْ
سْعُيُهْم ِفي اْل َ
ل َ
ضّعَمال * اّلِذينَ َ
ن َأ ْ
سِري َ
خَلْ
ل ُنَنّبُئُكْم ِبا َْ
ل َه ْ
وهم مصداق واضح لليةُ) :ق ْ
صْنعًا().(1
ن ُ
سُنو َ
حَِأّنُهْم ُي ْ
ن الفراط والتفريط شيمة الفراد الجهال ،فمنهم من أّلهني ثم أشار المام )عليه السلم( إلى نقطة أخرى وهى أ ّ
ق،حّ
غْيِر اْل َ
ب ِإَلى َ
ح ّ
ب ِبِه اْل ُ
ط َيْذَه ُ
ب ُمْفِر ٌ
ح ّ
نُ :م ِ
صْنَفا ِ
ي ِ ك ِف ّ
سَيْهِل ُ
ومنهم من كّفرني ،فقال )عليه السلم(َ» :و َ
ق«.حّ غْيِر اْل َ
ض ِإَلى َ
ب ِبِه اْلُبْغ ُ
ط َيْذَه ُ
ض ُمْفِر ٌ
َوُمْبِغ ٌ
ن هناك من ذهب إلى عكس ذلك ـ وبدافع الجهل أيضًا ـ فإن دفعكم جهلكم وجنايتكم لن تعتبرونني كافرًا ،فا ّ
ن رسول ال)صلى ال عليه وآله(أخبر المام )عليه ليقولوا بالوهيتي ،والفئتان ضالتان ،والطريف في المر إ ّ
ن رسول ال السلم( منذ سنوات بهذا الفراط والتفريط تجاهه ،فقد روى ابن عبدالمالكي في كتاب »الستيعاب« أ ّ
ك ِفي َ
ك ل ُمناِفقَ ...وَيْهَل ُضك إ ّ
ل ُمؤِمن ول ُيبِغ ُحّبك إ ّ
)صلى ال عليه وآله( خاطب عليًا )عليه السلم( بالقول» :ل ُي ِ
عيسى«)) .(2الحديث إشارة ل ِفي ِت َبنو ِإسرائي َ
ك َُأّمِتي َكَما افَتَرَق ْ
ق ِفي َ
ب ُمْفَترَ ..وَتْفَتِر ُ
ط َوَكّذا ٌ
ب ُمفِر ٌ
ح ّ
ن ُم ِ
جل ِ َر ُ
ن طائفة من بني اسرائيل آمنت واعتقدت بالوهيته وطائفة لم تؤمن ورأته ابن ال والعياذ باللله(. إلى أ ّ
وروى المرحوم السيد محسن المين في »أعيان الشيعة« عن »مسند أحمد« و»صحيح الترمذي« و»الستيعاب«
ن المعروف بين الصحابة بغض علي )عليه السلم( علمة النفاق والذي
لبن عبدالبر و»مستدرك الحاكم« أ ّ
يمييزه عن المؤمن الصادق.
ن معاوية كان يسب عليًا )عليه السلم( ويدعو الناس إلى سّبه )وعليه فمعاوية كان من
ثم أضاف والثابت تاريخيًا أ ّ
المنافقين().(3
سُ
ط ط الَْْو َ
ل اّلنَم ُ
حا ً
ي َ
س ِف ّ
خْيُر الّنا ِ
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه وبالتأكيد على حفظ العتدال فقالَ» :و َ
َفاْلَزُموُه«.
.1سورة الكهف 103 /ـ .104
.2الستيعاب .3/36
.3شرح نهج البلغة لمغنية ،2/247كما وردت في كتاب الغدير عّدة روايات من المصادر المعتبرة للعاّمة بخصوص معرفة المؤمن
ب علي )عليه السلم( والمنافق ببغضه )الغدير .(3/183
يح ّ
] [ 213
ق
حُجُع الغـاِلي َوِبِهم َيل َ
ط ِإِليِهم َير َ
ط) (1الوس ُ
شيَعِتي اّلنم ُ
خيَر ِ
ن َ
فقد ورد عنه )عليه السلم( أّنه قالَ» :أل ِإ ّ
الّتالي«).(2
سَواَد)(3ثم أصدر أمرًا مهما كانت مخالفته السبب في سقوط الخوارج في وادي الضلل فقالَ» :واْلَزُموا ال ّ
ن الّنا ِ
س شاّذ)ِ (4م َ ن ال ّ
عِة« .كما بالغ في هذا التأكيد ليقولَ» :وِإّياُكْم َواْلُفْرَقَة! َفِإ ّ جَما َ
ل َمَع اْل َ
ن َيَد ا ّظَم َفِإ ّ
عَلْ ا َْ
ب«.ن اْلَغَنِم ِللّذْئ ِ
شاّذ ِم َ
ن ال ّ
نَ ،كَما َأ ّ طا ِ
شْي َ
ِلل ّ
فالجماعة المؤمنة غالبًا من تنطلق في مسار الحق ،فان ضلت طائفة منهم ذّكرتها طائفة أخرى وانقذتها من وادي
الضلل ،أّما الفراد الشاّذون والفئات الصغيرة والمعزولة عن المجتمع السلمي فهى عرضة لنواع الخطاء
والنحرافات والشيطان غالبًا من ما يشدد من وساوسه بينهم فهم لقمة سائغة للشيطان على غرار الشاذة من الغنم،
ل ل ودعى فتكون لقمة سائغة للذئب ،ثم أورد في وصّيته في الخصوص تقضي بقتل كل من رفع شعار ل حكم إ ّ
شَعاِر َفاْقُتُلوُهَ ،وَلْو َكا َ
ن عا ِإَلى هَذا ال ّ
ن َد َ
ل َم ْ
إليه الناس وإن لذ بالمام )عليه السلم( واختفى تحت عمامتهَ» :أ َ
عَماَمِتي هِذِه«.
ت ِ
ح َ
َت ْ
وهكذا أصدر حكمه النهائي بشأن هذه الفئة الفاسدة والمفسدة والقاسية المتعطشة للدماء والذي ل يشكلون سوى
الخطر الجّدي على السلم والمسلمين ،أّما ما هو مراد المام )عليه السلم( من مفردة »الشعار« التي وردت في
العبارة المذكورة فقد اختلفت فيه أقوال شّراح نهج البلغة فقيل :المراد بالشعار التفرقة ،قيل يعني شعار
الخوارج ،وكان شعارهم أّنهم يحلقون وسط رؤوسهم ويبقى الشعر مستديرًا حوله كالكليل) ،(5وقيل هو الشعار
الذي يعّد شعار الخوارج أينما حّلوا وقد إرتكبوا بواسطته ما ل يحصى من الفتن والمفاسد وأشعلوا بالنيران
المجتمع السلمي ،والواقع قد مهدوا بهذا الشعار أسباب الفرقة ،والقتال وسفك الدماء والفساد في
» .1النمط« :هو الطائفة من الناس التي لها هدف واحد ،كما تستعمل هذه المفردة أحيانًا بمعنى اُلسلوب والطريق.
» .3السواد« :تعني في الصل اللون السود ،ولما كانت الجماعة الكثيرة والشجار المتشابكة والكثيرة تبدو سواء من بعيد فقد
وردت هذه المفردة بهذين المعنيين ،وقد جاءت في هذه الخطبة بمعنى الجماعة.
» .4شاذ« :من مادة »شذوذ« بمعنى القّلة والندرة ويطلق الشاذ على من يتخلف عن الجماعة وينفرد لوحده.
] [ 214
الرض ،ومن هنا فقد حكم بالعدام على حملة هذا الشعار.
—–
تأّملت
من بين المسائل التي أكد عليها المام )عليه السلم( في هذه الخطبة ضللة وهلك الفئة المفرطة والمفرطة ،وقد
ظهرت هاتان الفئتان بصورة جلية بشأن المام )عليه السلم( في أوساط المجتمع السلمي ،الفئة التي تصّورت
المام )عليه السلم( هو ال والتي عاشت على عهده )عليه السلم( وقد تلّقت أشد العقاب من المام )عليه
السلم( ،والفئة الخرى التي تراه ـ نعوذ بال ـ كافرًا ،وقد عوقبت هذه الفئة أشّد العقاب أيضًا ،فالفراط والتفريط
مذموم في كل شيء ومصدر البؤس والشقاء ،ول يقتصر ذلك على القضايا العقائدية ،بل يتجاوزه ليشمل الحياة
المتواضعة ،وعادة ما يستند هذا الفراط والتفريط إلى الجهل والعصبية ،فهناك طائفة انحرفت عن السلم
وشذت عن إتباع منهج أهل البيت)عليهم السلم( ،فهبطت بال إلى منزلة متسافلة لتراه كالجسمانيات فصّورته
كفتى أمرد وشعر مجعد وما إلى ذلك من صفات الجسام ،بينما رفعته فئة أخرى عن فكر البشر ،لتقول باستحالة
معرفة ذاته لدينا ،وأبعد من ذلك بأننا ل نعلم شيئًا من صفاته ،وبعبارة أخرى قال بتعطيل معرفة ال ،فئة سلكت
طريق الفراط فقالت :بالتفويض ،وأخرى سلكت سبيل التفريط فقالت :بالجبر ،أّما أئّمة الهدى)عليهم السلم(فقد
وصفوا أنفسهم بأّنهم »النمرقة الوسطى« أي الفئة المعتدلة البعيدة عن الفراط والتفريط ،والتي ينبغي أن يعود
جُع الغـاِلي«).(1
ق الّتالي َوإَليهـا ِيْر َ
حُن الّنمَرَقُة الُوسطى ِبهـا َيْل َ
إليها المتطرفون ويلحق به المغالونَ» :نح ُ
—–
] [ 215
2ـ يد ال مع الجماعة
ورد التأكيد في الخطبة المذكورة على مرافقة ومسايرة السواد العظم ،أي جماعة المسلمين والبتعاد عن كافة
عِة« ،فالجماعة السلمية كانت قوية جَما َ ل َمَع اْل َ أشكال العزلة والتفرد ،فقال )عليه السلم( صراحةَ» :يَد ا ّ
ومقتدرة ذات شوكة كما كانت متحدة ومتفقة ،بينما عاشت الذل والهوان والضعف كلما سادها النفاق والشقاق،
فمقاطعة الجماعة السلمية وبعبارة أخرى النعزال الجتماعي يشكل أحد النحرافات والفكرية والعقائدية،
والفراد النعزاليون عادة كما يعيشون خيال العجب بالنفس فيظون أّنهم أفضل من غيرهم وعلى الخرين أن
ن ،المر الذي يعظموهم ،وحيث ل يرون ذلك في الناس تشتعل في قلوبهم نيران العداوة والبغضاء وسوء الظ ّ
يجعلهم يهمون أحيانًا بالثأر وقتل البرياء والساءة إلى المثل الجتماعية ،وأحيانًا أخرى يّدعي النبوة أو المام أو
نيابة المام لمهدي )عليه السلم( فيصبح مصدرًا لكل شقاق وفرقة ونفاق ،ومن هنا نقف على عمق عبارة المام
ب« .طبعًا المراد من مسايرة الجماعة بمعنى ن اْلَغَنِم ِللّذْئ ِ
شاّذ ِم َ
ن ال ّنَ ،كَما َأ ّ طا ِشْي َ
س ِلل ّن الّنا ِ شاّذ ِم َ
ن ال ّ
في قولهَ» :فِإ ّ
ل فالسلم ل يوصي بمسايرة الكثرية الكثرية الموصوفة باليمان والقيم الخلقية والمباديء النسانية ،وإ ّ
ى ِلقّلِة َأهِلِه«) .(1واما الذّم الذيق الُهد ْ شوا ِفي طِري ِ حُسَتو ِالفاسدة ،قال )عليه السلم( في موضوع آخر» :ل َت ْ
ل َ
ل ل كان المراد بها الكثرية الفاسدة والمفسدةُ) :ق ْ أورده القرآن الكريم على لسان عّدة آيات بشأن الكثرية إ ّ
ن().(2
حو َب َلَعّلُكْم ُتْفِل ُ
لْلَبا ِ
ل َيا ُأوِلي ا َْ ث َفاّتُقوا ا َ
خِبي ِك َكْثَرُة اْل َ
جَب َ
عَ ب َوَلْو َأ ْ
طّي ُث َوال ّ
خِبي ُسَتِوي اْل َ
َي ْ
—–
] [ 216
بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله( أي علي )عليه السلم( الذي سقى شجرة السلم بدمائه الزكية فاستقام
عودها وكثفت أغصانها ،وليس لحملهم سيوفهم على عواتقهم وسفكهم لدماء البرياء ،بل لّنهم أسسوا لنفسهم
بالتدريج مدرسة منحرفة من حيث العقائد ،كما ابتعدت عن أحكام السلم والقرآن السّنة ،ففي جانب عقائدهم
وردت عّدة أبحاث في كتب الملل والنحل تصّور مدى اختلفها وتضاربها ،ولعل ذلك بسبب اختلف فروعهم ،مع
ذلك فقد ذكر المؤرخ المعروف المسعودي اشتراك الخوارج في ما يلي:
لّمة للخليفة سواء كان من قريش أم من غيرها، وعّد البعض الخر من جملة عقائدهم المشتركة وجوب انتخاب ا ُ
والخرى قبولهم الخلفاء الربعة )وإن عزلوا عثمان وعلي )عليه السلم(( ،وكذلك شّدة مخالفتهم لكافة خلفاء بني
صة أّنهم يسبون بني ُامية).(2
لمية وبني العباس ،خا ّ
اُ
وأّما الباضية الذين ينتشرون اليوم في عمان ومراكش وليبيا والجزائر وتونس ومصر والذين يعّدون أحيانًا من
الخوارج ،فهناك فارق كبير لعقائدهم مع عقائد الخوارج ،وإن اشتركوا معهم في مخالفة التحكيم في صفين وعدم
اشتراط وصف القريشي في إمام المسلمين.
] [ 217
4ـ مرتكب الكبيرة كافر بالنعمة ل كافر ملي )يعني مثل هذا الفرد مسلم وليس خارجًا عن السلم(.
ن الباضية
لأّ
ب الخليفة الول والثاني وبغض عثمان وعلي )عليه السلم( إ ّ
وروى بعض أّنهم يقولون بوجوب ح ّ
في هذا الزمان ينكرون ذلك).(1
—–
] [ 218
] [ 219
القسم الثالث
عْنُه.
ق َ لْفِتَرا ُ
عَلْيِهَ،وِإَماَتُتُه ا ِ
ع َ
جَِتما ُ لْ حَياُؤُه ا ِ
نَ ،وإِ ْ ت اْلُقْرآ ُ
نَ ،وُيِميَتا َما َأَما َ حَيا اْلُقْرآ ُحِيَيا َما َأ ْ
ن ِلُي ْ
حَكَما ِحّكَم اْل َ»َفِإّنَما ُ
ن َأْمِرُكْمَ ،و َ
ل عْ خَتْلُتُكْم َ
ل َجرًاَ ،و َ ل َأَباَلُكْم ـ ُب ْ
تـ َ جّرُهْم ِإَلْيَنا اّتَبُعوَناَ .فَلْم آ ِن َ ن ِإَلْيِهُم اّتَبْعَناُهْمَ ،وِإ ْ
جّرَنا اْلُقْرآ ُ
ن َ َفِإ ْ
حّ
ق عْنُهَ ،وَتَرَكا اْل َنَ ،فَتاَها َ ل َيَتَعّدَيا اْلُقْرآ َ
ن َعَلْيِهَما َأ ْ
خْذَنا َنَ ،أ َ
جَلْي ِ
خِتَياِر َر ُ عَلى ا ْ ي َمَلِئُكْم َ جَتَمَع َرْأ ُ عَلْيُكْمِ ،إّنَما ا ْ
سُتُه َ
َلّب ْ
حّ
ق لَ ،والصّْمِد ِلْل َ حُكوَمِة ِباْلَعْد ِ عَلْيِهَما ـ ِفي اْل ُ سِتْثَناُؤَنا َ
قا ْ سَب َ
عَلْيِهَ .وَقْد َ
ضَيا َ جْوُر َهَواُهَما َفَم َ ن اْل َ صَراِنِهَ ،وَكا َ َوُهَما ُيْب ِ
حْكِمِهَما«. جْوَر ُ سوَء َرْأِيِهَماَ ،و َ ـ ُ
—–
الشرح والتفسير
انحراف الحكمين
عاد المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة والذي يمثل آخرها إلى الدلة المنطقية ليكشف بالبراهين
القاطعة خطأ الخوارج.
ن الخوارج حين رأوا النتيجة المريرة لقضية التحكيم التي خدع فيها الماكر عمرو بن العاص أبي توضيح ذلك أ ّ
موسى الشعري الساذج وقد حسم التحكيم لصالح معاوية ،ارتفعت أصواتهم ليقولوا لم قبلنا التحكيم ،ولماذا قبل
علي )عليه السلم( التحكيم ،رغم أّنهم يعلمون:
آخر على أن تحكيم الحكمين كان مشروطًا بأن يتّم على ضوء القرآن ل على أساس الهواء النفسية والعقد
حَيا
حِيَيا َما َأ ْ
ن ِلُي ْ
حَكَما ِ
حّكَم اْل َ
الشخصية ،فلم يعمل بهذا الشرط وهذا ذنبهم ل ذنب المام )عليه السلم( فقالَ» :فِإّنَما ُ
ن«.
ت اْلُقْرآ ُ
نَ ،وُيِميَتا َما َأَما َ
اْلُقْرآ ُ
جدير بالذكر إّنه ورد نفس هذا المطلب الذي أشار إليه المام )عليه السلم( في متن العهد الذي أشرنا إليه سابقًا:
ت«.
ت َما َأمـا َ
ن وُنِمي ُ
حِتِه ِإلى خـاِتَمِتِه ُنحيي َما َأحيـا الُقرآ ُ
ن َفاِت َ
سبحـاَنُه َبيَننا ِم ْ
ل ُ
با ِ
ن ِكتـا َ
»وإ ّ
فهذا الكلم منطقي يدركه من كان له أدنى فكر وشعور ،لكن كأن الخوارج لم يتمتعوا حتى بهذه النعمة اللهّية ،ثم
بّين المام )عليه السلم( هذا المطلب بتعبير أوضح بحيث يبدو وكأّنه اشتاط غضبًا من جهلهم وكلمهم الذي يفتقر
جَتَمَع َرْأ ُ
ي عَلْيُكْمِ ،إّنَما ا ْ
سُتُه َ ل َلّب ْ
ن أَْمِرُكْمَ ،و َعْ خَتْلُتُكْم)َ (2ل َ جرًا)َ ،(1و َ ل َأَباَلُكْم ـ ُب ْ
تـ َ إلى المنطق فقالَ» :فَلْم آ ِ
ن« ،لكّنهم فقدوا عقلهم »إيمانهم« وتركوا الحق وهم ل َيَتَعّدَيا اْلُقْرآ َ
ن َ
عَلْيِهَما َأ ْ
خْذَنا َنَ ،أ َ
جَلْي ِ
خِتَياِر َر ُ
عَلى ا ْ
َمَلِئُكْم َ
ل وقد كّنا اشترطنا عليهما قبل أن يحكما يرونه بُام أعينهم ،كما كان الظلم والجور ديدنهما وهواهما فاتخذوا سبي ً
جْوُرن اْل َ
صَراِنِهَ ،وَكا َ ق َوُهَما ُيْب ِ حّعْنُهَ ،وَتَرَكا اْل َبذلك الحكم الظالم أن يستندا إلى العدل ول يهمل الحقَ» :فَتاَها َ
جْوَر
سوَء)َ (4رْأِيِهَماَ ،و َ قـ ُ حّصْمِد)ِ (3لْل َ لَ ،وال ّ حُكوَمِة ِباْلَعْد ِعَلْيِهَما ـ ِفي اْل ُسِتْثَناُؤَنا َ
قا ْ سَب َ
عَلْيِهَ .وَقْد َ
ضَيا ََهَواُهَما َفَم َ
حْكِمِهَما«.ُ
» .1بجر« :بضم الباء الشر والمر العظيم ،كما ورد بمعنى اتساع البطن وملها.
» .2ختلت« :من مادة »ختل« على وزن قتل بمعنى المكر والخداع.
» .3الصمد« :بمعنى المكان المرتفع ،كما يرد بمعنى القصد وعدم العتماد وهذا هو المعنى المراد في العبارة.
» .4سوء« :مفتوح مفعول سبق الذي ورد في أول العبارة ومفهوم الجملة قبل أن يبدي هؤلء الرأي الظالم والفاسد قد اشترطنا
عليهم إننا سوف لن نقبل رأيهم إن حاد عن الحق.
] [ 221
ن انتخاب الحكمين كان على أساس ضغطكم وإصراركم على هذا المر ،فان كان خلفًا فهو خلف منكم ل
ل :إ ّ
أو ً
مّني.
وثانيًا :إننا اشترطنا عليهم الحكم على ضوء اليات القرآنية ،لكّنهم آثروا هوى أنفسهم وانحرفوا عن السبيل البّين
الذي هديناهم إليه ،وعليه فان كان هناك من خلف فقد بدر منهما ل مّني).(1
ولكن طبيعة الفراد الجّهال والمتعصبين حين يرتكبون مخالفة ويبتلون بسوء عواقبها شرعان ما يغرونها إلى
الخرين ويحملونها مسؤولية أخطأهم وهذا أخس الساليب ،والحال يقتضي العقل والنصاف واليمان العتراف
بالذنب في مثل هذه الموارد والعتذار منها ومن ثم التفكير في تدراكها.
—–
تأّمل
دروس التحكيم
كثير هو الكلم بشأن قضية التحكيم وهى تنطوي على الدورس والعبر التي نقلتها التواريخ والسير ومنها :أ ّ
ن
عمرو بن العاص اشترط على معاوية إن انتصر في معركته أن يسلمه حكومة مصر ،وقد وفى له معاوية بهذا
الشرط وقد قّدم أكثر رشوة لعمرو بن العاص ،ولم تمض مّدة حتى كتب معاوية لعمرو بن العاص أن إعطني
خراج مصر لهذا العام فبيت المال ل يسّد حاجات أهل الحجاز والعراق ،فرفض عمرو ذلك من خلل شعر بعثه
لمعاوية ،فلم يعد معاوية للحديث عن خراج مصر ـ أّما كتابه الذي ضمنه فهو:
ق ل َتعِد ِ
ل حّن ال َ
سَن َ
ن ُ
عْل *** َو َ
ظي ل َتْغَف ِ
حّ
ُمعاِوى َ
ل!)(2
جنَد ِ
ن ِفي َدوَمَة ال َ
عِتي الشَعِري *** َوَما َكا َ
سى ُمخـاَد َ
َأَتن َ
صِ
لحساِم ِإَلى الَمف ِ
جِع ال ِ
خَر *** َكَر ْ
شَم ِ
َوَأعَليُتُه الِمنَبَر الُم َ
] [ 222
جِ
ل لر ُ
نا َ
ل ِم َ
خْلِع الّنعـا ِ
حِبِه خـاِلعًا *** َك َ
َفَأضحى ِلصـا ِ
لنُم ِ
ل خواِتِم ِفي ا َ
ت ال َ
ك َموُروَثًة *** ُثُبو َ
َوَأثَبُتها ِفي َ
خرَد ِ
ل طيَتِني ِزَنَة ال َ
ل *** َوَأع َ
جبا ِ
ن ال ِ
ت ِلَغيِري َوز َ
َوَهب َ
سِ
ل ج ِبال َوالُمر َ
حَت ّ
سَي ْ
خصُمنا *** َ
غدًا َ
عَلّيًا َ
ن َ
َوِإ ّ
ل)(1
حِن َمْز َ
ق ِم ْ
حّن ال َ
عِ
س َ
ن ُمْنج َلنا *** َفَلي َ
عَثما َ
َوَما َدُم ُ
—–
] [ 223
الخطبة)128 (1
ن َكلم لُه)عليه السلم(
َوِم ْ
1ـ فتنة صاحب الزنج وهم جماعة من العبيد بزعامة فرد أسمى نفسه علي بن محمد العلوي وقد قاموا في زمان
خلفة المهتدي العباسي ،وقد سفكوا الكثير من الدماء.
سرها شّراح نهج البلغة بفتنة المغول والعجيب أّنه أشار إلى أغلب صفاتهم هنا وفي
2ـ إشارة إلى فتنة أخرى ف ّ
القسم السابق.
3ـ بيان المام )عليه السلم( بشأن الغيب بعد أن سأله أحد الحاضرين إّنك تعلم الغيب فتخبر عن المستقبل ،كما
أشار إلى الفرق بين العلم الذاتي والعلم الكتسابي ،وهو في الحقيقة تفسير لليات القرآنية التي تنفي بعضها عن
العباد علم الغيب بينما يثبته البعض الخر.
أّما المرحوم ابن ميثم فقد إختتم الخطبة في شرحه لنهج البلغة بهذه العبارة »وناظرها
.1سند الخطبة:
ن هذا الكلم جزء من خطبة طويلة لمام )عليه السلم( في البصرة بعد موقعة الجمل ،وقد نقل
جاء في كتاب مصادر نهج البلغة أ ّ
المرحوم ابن ميثم البحراني في شرح نهج البلغة أجزاء منها ،والمخاطب هو الحنف بن قيس من أشراف قومه والمعروف بحكمته
وسابقته ،وترتبط هذه الخطبة بالخطبة رقم 110التي شرحت سابقًا )مصادر نهج البلغة .(2/288
] [ 224
بعينها« واعتبر بقية الخطبة ،خطبة أخرى ،وهذا ما نهجه أيضًا المرحوم الخوئي وابن أبي الحديد ،فقد قسموا
الخطبة إلى قسمين واعتبروا كل قسم خطبة منفصلة ،بينما اعتبرهما المرحوم مغنية في شرحه كصبحي الصالح
خطبة واحدة.
—–
] [ 225
القسم الول
خْيلُ .يِثيُرو َ
ن حَمُة َحْم َلَ جمَ ،و َ ل َقْعَقَعُة ُل ُ
بَ ،و َ ج ٌ
ل َل َ
غَباٌر َو َن َلُه ُ ل َيُكو ُ
ش اّلِذي َ جْي ِساَر ِباْل َ
فَ ،كَأّني ِبِه َوَقْد َ حَن ُ»َيا َأ ْ
فُ :يومئ بذلك إلى صاحب الزنج( ثّم َقال)عليه السلم(َ :وْي ٌ
ل شِري ُ ل ال ّ ض ِبَأْقَداِمِهْم َكَأّنَها َأْقَداُم الّنَعاِمَ) .قا َ
لْر َ ا َْ
ن َ
ل ن ُأولِئكَ اّلِذي َ
طيِم اْلِفَيَلِةِ ،م ْ
خَرا ِ طيُم َك َخَرا ِ سوِرَ ،و َ حِة الّن ُ
جِن َ
حٌة َكَأ ْ
جِن َ
خَرَفِة اّلِتي َلَها َأ ْسَكِكُكُم اْلَعاِمَرِةَ ،والّدوِر اْلُمَز ْ ِل ِ
ظُرَها ِبَعْيِنَها«.جِهَهاَ ،وَقاِدُرَها ِبَقْدِرَهاَ ،وَنا ِب الّدْنَيا ِلَو ْ
غاِئُبُهْمَ .أَنا َكا ّل ُيْفَقُد َب َقِتيُلُهْمَ ،و َُيْنَد ُ
—–
الشرح والتفسير
ن رسول ال .1المراد بالحنف بن قيس من أشراف البصرة وأحد صحابة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( وورد في الحديث أ ّ
)صلى ال عليه وآله( سأل ال له المغفرة ،فكان يثق بدعائه رغم أّنه رجل شريف وكريم ،كما وجهه رسول ال )صلى ال عليه وآله(
إلى البصرة لنشر السلم ،شهد صفين في عسكر أمير المؤمنين علي )عليه السلم( ولم يشهد الجمل بوصّية منه )عليه السلم( حيث
قال :إن لم أشهد المعركة فلي أن أمنع عنك ستة آلف سيف فوافقه )عليه السلم(.
سفينة البحار مادة حنف وُاسد الغابة ،1/55وشرح نهج البلغة لبن أبي الحديد .2/249
» .2لجب« :بمعنى الصياح وتطلق أحيانًا على أصوات الخيل والمقاتلين.
» .3قعقعة« :الصوت الذي ينبعث من احتكاك الشياء اليابسة كالجام الذي ورد في الخطبة.
] [ 226
ل صراحة على أنّ جيش صاحب الزنج كان من المشاة ،حيث غَباٌر« والعبارات القادمة تد ّن َلُه ُ
ل َيُكو ُ
والعبارةَ » :
لم يكن لهم من خيول ليركبوها ،طائفة من العراة المستضعفين الذين ساءت أحوالهم فقاموا على السياد فارتكبوا
ل على أّنهم كانوا حفاة وقد اتسعت أرجلهم بسبب المشي
الجرائم الفضيعة ،والعبارة يثيرون الرض بأقدامهم تد ّ
حفاة طيلة أعمارهم لتصبح كرجل الناقة ،مع ذلك كانوا مخفين في السير والحركة ،وحين وصل هنا المرحوم
فُ :يومئ بذلك إلى صاحب الزنج(.شِري ُ
ل ال ّ
السيد الرضي)رضي ال عنه( قالَ) :قا َ
طيُم
خَرا ِ
سوِرَ ،و َ
حِة الّن ُ
جِن َ
حٌة َكَأ ْ
جِن َ
خَرَفِة اّلِتي َلَها َأ ْ
سَكِكُكُم اْلَعاِمَرِةَ ،والّدوِر اْلُمَز ْ
ل ِل ِثم قال )عليه السلم(َ» :وْي ٌ
غاِئُبُهْم«.ل ُيْفَقُد َ
ب َقِتيُلُهْمَ ،و َ
ل ُيْنَد ُ
ن َ
ك اّلِذي َ
ن ُأولِئ َ
طيِم اْلِفَيَلِةِ ،م ْ
خَرا ِ
َك َ
ن البصرة كانت عامرة )وإن عاش العبيد منتهى الشقاء والعسر( فقد كانت بيوتهموالذي يستفاد من هذه العبارة أ ّ
ن كل ذلك
ل ،وكما سيأتي فا ّ
كالقصور مزودة بالشرفات والظلل الجميلة وخراطيم المياه التي تزيدها روعة وجما ً
ل ُيْفَقُد
ب َقِتيُلُهْمَ ،و َ
ل ُيْنَد ُ
قد تحطم إثر قيام صاحب الزنج وقد ضّرج أصحاب القصور بدمائهم ،والعبارة » َ
غاِئُبُهْم«.
َ
ن العبيد لم يكونوا ذوي زوجات وأولد ،بل كانوا عّزابا فل نادية لهم من القرباء ليبحثوا عنهم تشير إلى أ ّ
ويتفقدونهم ويبكون عليهم ،وهذه هى صفات العبيد في ذلك الزمان حيث كانوا يجلبون إلى البلد السلمية وغير
صة أفريقيا ،وخلفًا للتعاليم السلمية فقد كانوا يعاملون السلمية بالقهر والغلبة من البلدان البعيدة خا ّ
كالحيوانات ،فكان قيام صالحب الزنج رّد فعل تجاه المعاملة غير السلمية والنسانية ،ثم قال آخر كلمهَ» :أَنا
ظُرَها ِبَعْيِنَها«.
جِهَهاَ ،وَقاِدُرَها ِبَقْدِرَهاَ ،وَنا ِ
ب)(1الّدْنَيا ِلَو ْ
َكا ّ
ن الدنيا موجود
فهذه العبارات الثلث إشارة إلى تفاهة متاع الدنيا لدى المام )عليه السلم( وكأ ّ
» .1كاب« :من مادة »كب« على وزن خط تعني في الصل طرح الشيء على وجهه في الرض.
] [ 227
حي شرير ل قيمة له وقد كّبه المام )عليه السلم( على وجهه وهو ينظر إليه بحقارة ،وتشبه هذه العبارة ما ورد
ت؟
شّوْق ِ
ي َت َ
ت؟ َأْم ِإَل ّ
عّني َأِبي َتَعّرض ِ
ك َ عن المام )عليه السلم( في قصار كلماته حيث قالَ» :يا ُدْنَيا َيا ُدْنَياِ ،إَلْي ِ
جَعَة ِفيَها!«).(1
ل َر ْلثًا َ ك َث َ طّلْقُت ِ
كَ ،قْد َجَة لي ِفي َ
حا َ
ل َ
غْيِريَ ،
غّري َ
ت! ُ
كَ ،هْيَها َ
حيُن ِ
ن ِ
حا َ
لََ
ولعل شقاء أهل الدنيا المتكالبين عليها إّنما يعود إلى تقييمهم الباطل للدنيا فهم يرونها بعين أخرى فيعظمونها
ويركعون لها ويضحون بالغالي والنفيس من أجلها ،أّما ما هو الرتباط بين هذه العبارة والعبارات السابقة بشأن
ن شّراح نهج البلغة لم يخوضوا في توضيح هذا المر ،ورّبما كان الرتباط من أخطار صاحب الزنج ،فيبدو أ ّ
ب الدنيا ،فقد شّيدوا القصور واهتموا بالدور
خلل ذلك الظرف العصيب الذي أصاب أهل البصرة بسبب ح ّ
وعاشوا السراف والتبذير في حياتهم ،في حين عانى غالبية العبيد في مدنهم ومزارعهم المّرين فسامهم الزنوج
أنواع العذاب.
—–
تأّملت
ظهر في البصرة عام 255هـ ق على عهد الخليفة العباسي المهتدي رجل زعم أّنه علي بن محمد ونسب نفسه
إلى المام زين العابدين وزيد بن علي)عليهما السلم( وقد دعى العبيد للقيام ضد مالكيهم ولّبوا دعوته مسرعين
بسبب صعوبة معيشتهم في الدور والمزارع في خدمة السلطين فاجتمع له مائة نفر وألف نفر ،وقد وعدهم بعتقهم
وتسليمهم أموال مالكيهم ومزارعهم ،وكانت الطبقية شديدة في ذلك الزمان ،فالبعض مرفه في القصور كما أشار
إلى ذلك أمير المؤمنين علي )عليه السلم( في هذه الخطبة ،والبعض الخر يعيش الحياة الصعبة ،لذلك إلتحق به
جماعة من غير العبيد أيضًا ،فاجتمع له جيش عظيم ،لقد أشعل في قلوب العبيد والمحرومين نار
] [ 228
النتقام حتى أمر غلمانه بعد غلبته للثرياء بأن يضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة وسبي نسائهم وكان يبيع
كل واحدة منهن بدرهمين أو ثلث وملكهن العبيد.
ن صاحب الزنج قتل النساء والطفال والشيخ الفاني قال المؤرخ المشهور المسعودي في »مروج الذهب« أ ّ
والمريض وكان يحرق أموالهم وأدواتهم ويخرب بيوتهم ،وقد قتل في البصرة ثلثمائة ألف ،ومن فّر إلى
الصحراء ونجى من القتل كان يأكل الكلب والقطط والفئران ،وأحيانًا يأكلون الموات ،إستولى على قسم عظيم
ن حركته لم تكن عابرة بل كانتل على أ ّ
من العراق وإيران ودام حكمه مّدة تزيد على أربع عشرة سنة )وهذا يد ّ
متجذرة في أعماق ذلك المجتمع(.
لمور:
وهنا لبّد من الشارة إلى بعض ا ُ
1ـ شّبه بعض الكّتاب قيام صاحب الزنج بثورة العبيد التي حدثت في ايطاليا عام 73قبل الميلد بزعامة
اسبارتكوس الذي جمع حول فئة عظيمة من العبيد وقد قاتل الثرياء والمرفهين وأحرز عّدة انتصارات حتى قتل
ن هناك بونًا شاسعًا بين قيامه وقيام صاحب الزنج ،فقيام
عام 71قبل الميلد مع أربعين ألف من العبيد ،لكن يبدو أ ّ
صاحب الزنج كان أوسع وأشمل وقد تمكن من تشكيل الحكومة آخر المر والتي حكمت قسمًا كبيرًا من العراق
وايران لمّدة أربع عشرة سنة ،على كل حال فهو رجل دموي ومجرم رغم إمتلكه للحجج التي تبدو منطقية نسبيًا
من أجل قيامه وثروته.
ن صاحب الزنج أسمى نفسه علي بن محمد ومن نسل المام السجاد )عليه السلم( ،وتلقب 2ـ كما ذكرنا سابقًا فا ّ
ن ذلك ل حقيقة له ،ولم يكن هدفه سوى شرعية حركته لأّبالعلوي ،إ ّ
] [ 229
والستفادة من مكانة آل بيت رسول ال )صلى ال عليه وآله( وأميرالمؤمنين )عليه السلم( ،ولذلك ورد عن
ن قيام صاحب الزنج
ت«) ،(1وكما أوردنا فا ّ
ل الَبي ِ
س ِمّنا َأه َ
ج َلي َ
ب الّزن ِ
ح َ
ن قال» :صـا ِ
المام الحسن العسكري أ ّ
كان أواخر عمر المام الحسن العسكري )عليه السلم( وتزامنًا مع الولدة المباركة لمام العصر والزمان المهدي
)عليه السلم(.
3ـ كان ظاهر قيام صاحب الزنج وفتنته الدفاع عن العبيد والمحرومين ،لكّنه انحرف عن هذا الهدف وتسبب في
دمار عظيم وسفك للدماء ،حتى قال المسعودي في »مروج الذهب«) (2أّنه قتل خمسمائة ألف من النساء
والطفال والشيوخ وهذا أقل عدد لقتله ،وقال بعض المؤرخين أّنه دخل البصرة بعد عامين فأحرق مسجدها
الجامع وكثير من البيوت ،وأحرق حتى المواشي وجرت الدماء في أزقة البصرة).(3
4ـ رغم كل نقاط الضعف في صاحب الزنج فقد كانت فيه بعض الجوانب اليجابية ومنها خطه الجميل وضلوعه
ل على ذوقه الشعري ومن أشعاره:بعلم النحو النجوم وقد نقلت عنه بعض الشعار التي تد ّ
ل عاص
حَوْتُه ُم ّ
صور ِببغدا *** َد َوَما َقْد َ
عَلى ُق ُ
سي َ
ف َنف ِ
َلْه َ
حراص
صي ِ
عَلى الَمعـا ِ
جال َ
جهرًا *** َوِر َ
ب َ
ك ُتشَر ُ
خُمور ُهنا َ
َو ُ
ك الِعرا ِ
ص ل ِتل َ
حْو َ
ل َ
خي َ
ل ال َ
جِن َلم *** َأ ُ
طِم الُغّر إ ْ
ت ِباِبن الَفوا ِ
َلس ُ
سُفو ِ
ك ن ِليوِم ُ
ضي َ
ح أسياَفنا *** إذا َما اْنَت َ
َوِإّنا َلُتصِب ُ
ك)(5
س الُمُلو ِ
ن رؤو ِ
ف *** َوَأغَمادُه ّ
لُك ِ
نا َ
طو ُ
ن ُب ُ
َمَناِبُرُه ّ
.5المصدر السابق.
] [ 230
] [ 231
القسم الثاني
ق.
ل اْلِعَتا َ
خْي َ
ن اْل َ
جَ ،وَيْعَتِقُبو َ
سَرقَ َوالّديَبا َ
ن ال ّ
سو َ
طّرَقُة«َ ،يْلَب ُ
ن اْلُم َ
جا ّ
جوَهُهُم اَْلم َ
ن ُو ُ
»َكَأّني َأَراُهْم َقْومًا »َكَأ ّ
سوِر!«.
ن اْلَمْأ ُ
ل ِم َ
ت َأَق ّ
ن اْلُمْفِل ُ
لَ ،وَيُكو َ
عَلى اْلَمْقُتو ِ
ح َ
جُرو ُ
ي اَْلم ْ
شَحّتى َيْم ِ
حَراُر َقْتل َ
سِت ْ
كا ْ
ن ُهَنا َ
َوَيُكو ُ
—–
الشرح والتفسير
نبوءة أخرى
خاض المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة في نبوءة عجيبة أخرى طبقها المرحوم السيد الرضي
وتقريبًا كافة شّراح نهج البلغة على المغول وحملتهم الوحشية الهّدامة ،ومن هنا قال المرحوم السيد الرضي:
القسم الخر من الخطبة في وصف التراك )المغول(.
طّرَقُة).«(2
ن) (1اْلُم َ
جا ّ
جوَهُهُم اَْلم َ
ن ُو ُ
فقد قال المام )عليه السلم(َ» :كَأّني َأَراُهْم َقْومًا »َكَأ ّ
وردت المفردة »كأّني« في عّدة موارد من نبوءات أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( ،والمفردة أراهم إشارة إلى
الشهود الباطني والبصيرة التي كانت ترى الحوادث المستقبلية عبر القرون فيخبر عنها بصورة دقيقة ،وتشبيه
ن وجوههم كانت عريضة وكبيرة ووصفها وجوههم بالدروع ل ّ
» .1المجان« :جمع »مجن« ومجنة الترس.
» .2المطرقة« :من مادة »طرق« على وزن برق بمعنى دق الشيء بالمطرقة أو مطلق الدق ،وعليه فالمطرقة الشيء الذي د ّ
ق
بالمطرقة.
] [ 232
ن أغلب وجوههم كانت تشبه بالضبط موضع المطرقة على صفيحة الترس ،ثم بالمطرقة يمكن أن يكون إشارة أ ّ
ق).«(4
ل اْلِعَتا َ
خْي َ
ن) (3اْل َ
ج)َ ،(2وَيْعَتِقُبو َ
ق)َ (1والّديَبا َ
سَر َ
ن ال ّ
سو َ
قال )عليه السلم(َ» :يْلَب ُ
ل أّنهم حين يستولون علىن هؤلء وإن كانوا فقراء وجوعى أول أمرهم يرتدون الثياب الخشنة ،إ ّ فالعبارة تفيد أ ّ
البلدان الغنية ويسيطرون على أموالهم وثرواتهم يتجهون صوب الثياب الفاخرة والخيول النفيسة ،ويحتمل أن
ن لهم رغبة شديدة في القتال ،ومن المعروف أن لبس الحرير يمنح النسان قوة القلب ويجعله أكثر يكون المراد أ ّ
مقاومة للسيف ،كما للخيول الخفيفة دور مهم في ميدان القتال ،وهذا ما يجعلهم يتجهون إلى هذه المور.
ثم خاض المام )عليه السلم( في أعمالهم وأشار بعبارات قصيرة إلى أبعاد ما يرتكبونه من فاجعة فقالَ» :وَيُكو ُ
ن
سوِر).«!(7ن اْلَمْأ ُ
ل ِم َ
ت)َ (6أَق ّ
ن الُْمْفِل ُ
لَ ،وَيُكو َ
عَلى اْلَمْقُتو ِ
ح َ
جُرو ُ
ي اَْلم ْ
شَحّتى َيْم ِ
حَراُر)َ (5قْتل َ
سِت ْ
كا ْ
ُهَنا َ
فالعبارتان تشيران إلى مدى سعة أبعاد الفاجعة ،حيث ل يبقى في الرض مكان يسمح لعبور الجرحى ،لبّد من
ن أدنى مطالعة في تاريخ المغول تفيد
وضع أقدامهم على أجساد القتلى ،ومن لم يقتل يؤسر ،وقليل هم الناجون ،وإ ّ
ن هذا الغيب الذي أخبر به علي )عليه السلم( قد
انطباق جميع هذه الوصاف عليهم ،قال ابن أبي الحديد :واعلم إ ّ
رأيناه نحن عيانًا ووقع في زماننا فقد فعل هؤلء القوم ما لم تحتو التواريخ منذ خلق ال تعالى آدم إلى عصرنا هذا
على مثله).(8
وهنا يبرز هذا السؤال :ماذا كان قصد المام )عليه السلم( بالخبار عن فتنة صاحب الزنج التي
» .1السرقة« :بمعنى الحرير الفاخر أو الحرير البيض ،وقال أغلب أرباب اللغة أصلها فارسي أخذ من السّره بمعنى الحسن
والخالص.
» .2الديباج« :بمعنى القماش الحريري الملون ،كما يستعمل أحيانًا بمعنى كل قماش حسن النقش ،وأصله فارسي أيضًا.
» .3يعتقبون« :من مادة »اعتقاب« يحبسون كرائم الخيل ويمنعونها غيرهم.
» .4اعتاق« :جمع »عتيق« بمعنى كل شيء حسن وقّيم وتستعمل في الخيل الصيلة.
» .6المفلت« :من مادة »فلت« على وزن فرد بمعنى الهروب والفرار وتطلق مفردة المفلت على من ينجو من الشّدة.
] [ 233
وقعت بعد مئتي سنة وفتنة المغول التي وقعت بعد ستمائة سنة؟ رّبما أراد المام )عليه السلم( أن يذّكرهم بأنّ
أعمالكم الطالحة هذه والتي تأتون بها في هذا العصر وقد وليتم ظهوركم للحق وأقبلتم على الباطل وضربتم أحكام
ن تواصلت هذه العمال في أجيالكم القادمة ستشهدون عواقب وخيمة السلم ووقعتم أسرى هوى أنفسكم ،فا ّ
وسيطالكم العقاب اللهي ،كما يحتمل أن يكون المام )عليه السلم( أراد تحذيرهم من البلء العظيم الذي
ينتظرهم ،عليكم أن تتحدوا وتركزوا قوتكم لتتمكنوا من التقليل من آثاره المخربة.
—–
فتنة المغول
المغول فرع من الترك الذين عاشوا في آسيا المركزية والشرقية في حدود الصين وهم طوائف مختلفة ،طائفة
منهم التاتار ،وكانوا يأتمرون عادة بأوامر سلطين الصين ،وكان والد جنكيز أول من نهض من هذه الطائفة
وإّدعى الستقلل ،وحين خلف جنكيز أباه 600هـ سعى للسيطرة على القوام المختلفة لتلك المنطقة حيث أراد
الرئاسة العاّمة لنفسه واستولى على قسم واسع من الصين وسيطر على عاصمتها بكين.
أّما السلطان محمود خوارزم شاه الذي كان يحكم أكثر الشرط الوسط وآسيا المركزية ،فقد عقد الهدنة بادىء
المر مع جنكيز ،ولكن لم تمض مّدة حتى نشبت بينهما عداوة فقتل رسل جنكيز ،فما كان من جنكيز وبدافع
ل أن هجم على ايران وسائر المناطق الخاضعة لنفوذ خوارزمشاه.
النتقام إ ّ
أّما ابن أبي الحديد الذي عاش في ذلك الزمان وقد شهد تلك الحداث حسب قوله كما سمع بعضها الخر ،فقد أفرد
25صفحة في شرحه لنهج البلغة وتطرق فيها بالتفصيل إلى حملة المغول على المناطق السلمية وقال :واعلم
ن هذا الغيب الذي أخبر به المام )عليه السلم( قد رأيناه نحن عيانًا ،ووقع في زماننا ،وإليك الن جانب مّماأّ
أورده ابن أبي الحديد بهذا الشأن:
هم التاتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام ،وقد فعلوا بالقوقاز وبلد ما رواء
النهر وبخراسان وما والها من بلد ما لم تحتو التواريخ منذ خلق
ال تعالى آدم )عليه السلم( إلى عصرنا هذا على مثله ،رئيسهم هو جنكيز الذي كان شجاعًا عاق ً
ل
] [ 234
موفقًا منصورًا في الحرب ،كما كان عسكره من الفراد الشجعان وكانوا يعيشون بصورة شبه وحشية وأّنهم من
ن خيلهم ل تحتاج أصبر الناس على القتال ،ل يعرفون الفرار ويعلمون ما يحتاجون إلى من السلح بأيديهم ،وأ ّ
ن عندهم من الخيل والبقر ما ل يحصى ،وأّنهم يأكلون إلى الشعير ،بل تأكل نبات الرض وعروق المراعي ،وأ ّ
سا،
الميتة والكلب والخنازير وهم أصبر خلق ال سبحانه على الجوع والعطش والشقاء ،وثيابهم أخشن الثياب م ّ
ومنهم من يلبس جلود الكلب والدواب والميتة ،وأّنهم أشبه شيء بالوحش والسباع ،كانوا يقتلون كل من يرونه
من الرجال ويغنمون الموال ويحرقون المدن ويسبون النساء الطفال ،لقد دخلوا من شرق ايران وأشاعوا
الخوف والرعب بحيث لم يفكر أحد في مواجهتهم ،ومن قاومهم استسلم أخيرًا لهم ،وأحيانًا كانت تفتح لهم أبواب
المدن بعد أن يعطيهم التاتار المان حين يطلبونه ،ولكّنهم كانوا ينقضون عهدهم ويقتلون أهالي المدن ويسبون
النساء والطفال ويعذبون الناس بأنواع العذاب في طلب المال ..ومن العجيب في هذ الحداث أّنهم وصلوا إلى
إصفهان بعد أن سيطروا على المدن اليرانية ،فحصلت بين الفريقين مقتلة عظيمة ،ولم يبلغوا منها غرضًا حتى
اختلف أهل إصفهان في سنة ثلث وثلثين وستمائة وهم طائفتان :حنفية وشافعية ،وبينهم حروب متصلة
وعصبية ظاهرة ،فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلى ما يجاروهم ويتاخمهم من ممالك التتار ،فقالوا لهم:
ل ذريعًا ،ولم يقفوااقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم ،وفتحت أبواب المدينة فلما دخلوا البلد بدؤا بالشافعية فقتلوهم قت ً
مع العهد الذي عهدوه لهم ،ثم قتلوا الحنفية ،ثم قتلوا سائرالناس وسبوا النساء وشقوا بطون الحبالى ونهبوا الموال
ل من الرماد.
وصادروا الغنياء ،ثم أضرموا النار ،فأحرقوا إصفهان حتى صارت تلو ً
ثم ساروا إلى بلد العرب فهجموا على بغداد فتصدى لهم عسكر بغداد وثبت أحسن ثبوت ورشقوهم بالسهام،
وبعد مّدة توفي جنكيز وخلفه حفيده هولكو الذي تمكن من السيطرة على بغداد بعد أن قتل آخر خلفاء العباسيين
المستعصم بال وقد أنهى حكومتهم بذلك.
وبقي المغول في إيران والبلدان السلمية وقد فقدوا ما طبعوا عليه من وحشية بالتدريج وتأثروا بالثقافة
السلميه ،وأسلم هولكو حتى تشيع السلطان محمد خدابنده أحد سلطين المغول).(1
.1شرح نهج البلغة ابن أبي الحديد 8/218ـ ،252وقاموس دهخدا مفرد المغول.
] [ 235
القسم الثالث
ن َكْلِبّيا:لَ ،وَكا َجِ ل ِللّر ُ ك)عليه السلم(َ ،وَقا َ حَ ضِ ب! َف َ عْلَم اْلَغْي ِ
ن ِ ت َيا َأِميَراْلُمْؤِمِني َطي َ عِ حاِبِهَ :لَقْد ُأ ْصَض َأ ْل َلُه َبْع ُ »َفَقا َ
حاَنُه
سْب َ
ل ُ عّدَدهُ ا ّ
عِةَ ،وَما َ سا َعْلُم ال ّ
ب ِ عْلُم اْلَغْي ِ
عْلمَ .وِإّنَما ِ ن ِذي ِ غْيبَ ،وِإّنَما ُهَو َتَعّلٌم ِم ْ س ُهَو ِبِعْلِم َ خا َكْلبَ ،لْي َ َيا َأ َ
غدًاَ ،وَما َتْدِري ب َ س ُ س َماَذا َتْك ِ
حاِمَ ،وَما َتْدِري َنْف ٌ لْر َ بَ ،وَيْعَلُم َما ِفي ا َْ ل اْلَغْي ُعِةَوُيَنّز ُ
سا َ عْلُم ال ّ عْنَدُه ِ
ل ِ
نا ّ ِبَقْوِلِهِ) :إ ّ
ي َأْوخّ سِ جِميلَ ،و َ حاِم ِمنْ َذَكر َأْو ُأْنَثى َ ،وَقِبيح َأْو َ لْر َ حاَنُه َما ِفي ا َْسْب َ
ل ُ لَيَةَ ،فَيْعَلُم ا ّت (...ا ْ ي َأرض َتُمو ُ س ِبَأ َّنْف ٌ
حٌد
ل َيْعَلُمُه َأ َب اّلِذي َ عْلُم اْلَغْي ِ
ن ُمَراِفقًاَ .فَهَذا ِن ِللّنِبّيي َ
جَنا ِ طبًاَ ،أْو ِفي اْل ِحَ ن ِفي الّناِر َ ن َيُكو ُ سِعيدَ ،وَم ْ ي َأْو َ شِق ّ
خيلَ ،و َ َب ِ
حي«. جَواِن ِعَلْيِه َطّم َ ضَ
صْدِريَ ،وَت ْ ن َيِعَيُه َ عا ِلي ِبَأ ْل َنِبّيُه َفَعّلَمِنيِهَ ،وَد َ
عّلَمُه ا ّ ك َفِعْلٌم َ سَوى ذِل َ لَ ،وَما ِ لا ّ ِإ ّ
—–
الشرح والتفسير
الغيب ل ولكن...
حين خاض المام )عليه السلم( في تلك الحادثتين المهمتين )قيام صاحب الزنج وفتنة المغول( وذكر
ب!«.
عْلَم اْلَغْي ِ
ن ِ
ت َيا َأِميَراْلُمْؤِمِني َ
طي َ
عِحاِبِهَ :لَقْد ُأ ْ
صَض َأ ْ
ل َلُه َبْع ُ
خصوصياتهما »َفَقا َ
فالعبارة وإن كانت على سبيل الخبار ،لكّنها في الواقع استفهامية ،لّنه سمع أن علم الغيب مختص بال سبحانه،
خا َكْلبَ ،لْي َ
س ن َكْلِبّياَ :يا َأ َ
لَ ،وَكا َ
جِل ِللّر ُ
ك )عليه السلم(َ ،وَقا َ
حَ
ضِولذلك طلب توضيح المام )عليه السلم(َ» :ف َ
عْلم«.
ن ِذي ِ
غْيبَ ،وِإّنَما ُهَو َتَعّلٌم ِم ْ
ُهَو ِبِعْلِم َ
ن ضحك المام )عليه السلم( لم يكن بدافع السخرية ولم يفرزه الغرور ،بل كان ضحك الفرح
قطعًا أ ّ
] [ 236
والسرور ،ولعل مرد ذلك إلى حسن المر في طرح ذلك السؤال من الرجل الكلبي ليكشف المام )عليه السلم(
ن ضحكه كان من تعجبه في أّنه ل ينبغي أن يكون مثل هذا المر بخفي عن كنه ذلك الموضوع أمام الجميع ..أو أ ّ
ن ذلك العلم مختص بال وهو علم ن عبارة المام )عليه السلم( تشير إلى حقيقة في أ ّ على أحد ،على كل حال فا ّ
ذاتي ،والعلم الممكن لما سوى ال ،فهو العلم الحاصل من التعلم والذي له ُبعد إكتسابي ،يعني يتعّلمه المام )عليه
السلم( من الّنبي )صلى ال عليه وآله( والّنبي عن طريق الوحي اللهي )سيأتي شرح هذا المطلب(.
عْلُم
عْنَدُه ِ
ل ِ
نا ّ حاَنُه ِبَقْوِلِهِ) :إ ّ
سْب َ
ل ُ
عّددَهُ ا ّ
عِةَ ،وَما َ سا َعْلُم ال ّ
ب ِ
عْلُم اْلَغْي ِ
ثم قال المام )عليه السلم(َ» :وِإّنَما ِ
ي َأرض س ِبَأ ّ
غدًاَ ،وَما َتْدِري َنْف ٌ ب َ
س ُ س َماَذا َتْك ِ
حاِمَ ،وَما َتْدِري َنْف ٌ لْر َبَ ،وَيْعَلُم َما ِفي ا َْ
ل اْلَغْي ُ
عِةَوُيَنّز ُ
سا َ
ال ّ
ت .«(1)(... َتُمو ُ
خيل،
ي َأْو َب ِ
خّسِ
جِميلَ ،و َ
ن َذَكر َأْو ُأْنَثى َ ،وَقِبيح َأْو َ
حاِم ِم ْ لْر َحاَنُه َما ِفي ا َْ
سْب َ
ل ُ
لَ» :فَيْعَلُم ا ّ
ثم أوضح معنى ذلك قائ ً
ن ُمَراِفقًا«.ن ِللّنِبّيي َ
جَنا ِ
طبًاَ ،أْو ِفي اْل ِ
حَن ِفي الّناِر َ ن َيُكو ُ
سِعيدَ ،وَم ْ
ي َأْو َ
شِق ّ
َو َ
ك َفِعْلٌم
سَوى ذِل َ
لَ ،وَما ِ
لا ّ
حٌد ِإ ّ
ل َيْعَلُمُه َأ َ
ب اّلِذي َ
عْلُم اْلَغْي ِ
فخلص )عليه السلم( إلى نتيجة نهائية مؤّداهاَ» :فَهَذا ِ
حي).«(4 جَواِن ِعَلْيِه َ
طّم)َ (3ضَ صْدِريَ ،وَت ْ ن َيِعَيُه)َ (2
عا ِلي ِبَأ ْ
ل َنِبّيُه َفَعّلَمِنيِهَ ،وَد َ
عّلَمُه ا ّ
َ
ن علم الغيب علم ذاتي مختص بال سبحانه وتعالى ،لكن العلم الكتسابي والعطائي ل يسمى بعلم الغيب، ل :أ ّ
أو ً
بل هو ذ لك العلم الذي عّلمه ال سبحانه نبّيه وعّلمه النبي من يراه مستعدًا لذلك العلم.
ثانيًا :لهذه العلوم التعليمية استثناءات وردت خمسة منها في الية الشريفة الخيرة من
» .2يعي« :من مادة »وعي« على وزن سعي بمعنى حفظ الشيء في القلب ،أو بعبارة أخرى التعلم واليداع في الحافظة.
» .4جوانح« :جمع »جانحة« الضلع تحت الترائب مّما يلي الصدر.
] [ 237
سورة لقمان ،وهذه مصاديق علم الغيب التي لم يعّلمها ال سبحانه أحدًا من الخلق.
—–
2ـ كيف تختص هذه العلوم بال والحال أخبر النبي )صلى ال عليه وآله( والئّمة)عليهم السلم(أحيانًا عن نزول
المطار والطفال في الرحام أو الزمان والمكان الذي يتوفون فيه ،بل أحيانًا أخرى كانوا يخبرون عن العلوم
ل متى وأين سينزل المطر ،وذلك الجنين ولد أم بنت؟
المعاصرة فمث ً
3ـ ما الفارق بين هذه العلوم الخمسة وسائر المور الخفية التي ل يعلمها غير ال سبحانه؟
لولى بشأن القيامة قد بّينت بوضوح إختصاص علمها بال سبحانه، ويقال في الجابة على السؤال الول :العبارة ا ُ
وتقديم عنده على علم الساعة دللة على الحصر ،يعني العلم بالقيامة مختص فقط بالذات ال المقدس ،كما تد ّ
ل
س ِبَأ ّ
ي غدًاَ ،وَما َتْدِري َنْف ٌ
ب َ
س ُ
س َماَذا َتْك ِ
العبارة والرابعة والخامسة على الحصر أيضًا حيث قالتَ) :وَما َتْدِري َنْف ٌ
ت .(...
َأرض َتُمو ُ
ن المورد الثاني والثالث بمقتضى وحدة السياق جزء من العلوم المختصة بال سبحانه،
وبناءًا على ما تقدم فا ّ
والروايات المتعددة الواردة عن أئمة العصمة)عليهم السلم(في تفسير الية شاهد أخر على هذا المعنى).(1
] [ 238
حاِم
لْر َحاَنُه َما ِفي ا َْ
سْب َ
ل ُوالشاهد على ذلك ما أورده المام )عليه السلم( بشأن الجنين في رحم ُاّمه فقالَ» :فَيْعَلُم ا ّ
جَنا ِ
ن طبًاَ ،أْو ِفي اْل ِ
حَن ِفي الّناِر َ ن َيُكو ُ
سِعيدَ ،وَم ْ
ي َأْو َ
شِق ّ
خيلَ ،و َي َأْو َب ِ
خّ
سِجِميلَ ،و َ
ن َذَكر َأْو ُأْنَثى َ ،وَقِبيح َأْو َ
ِم ْ
ن ُمَراِفقًا« ،وسائر المور التي يقتصر علمها على ال تبارك وتعالى ،وبناءًا هلى هذا فما يعلمه الناس من ِللّنِبّيي َ
حالت في بعض الدوار الجنينية من خلل تعلم الغيب أو المختبرات المتداولة في الوقت المعاصر ،فهو من قبيل
العلم الجزئي ،والحال يختص العلم الكلي بال سبحانه.
وأّما الجابة على السؤال الثالث :فلبّد من الذعان بأننا ل نرى من فارق بين الموارد الربعة الخرى غير
ن الية المذكورة وروايات المعصومين)عليهم السلم(تفّرق هذه المور مع القيامة وسائر المور الخفية ،سوى أ ّ
ن العلم التفصيلي فيها مختص بالذات اللهّية ،ولكن في الموارد الخرى كالذي وردسائر المور الخفية وتقول بأ ّ
في هذه الخطبة بشأن فتنة صاحب الزنج وحملة المغول ،فممكن أن يزود ال بعض الخواص من عباده بعلمها
الجمالي والتفصيلي ،وعلى كل حال فاننا تبع للنصوص القرآنية وروايات المعصومين المعتبرة.
—–
اختلف العلماء في قضية علم الغيب وهل هناك من يعلم الغيب سوى ال سبحانه أم ل؟ ويبدو اختلفهم يعود إلى
ن علم الغيب اختلف ظواهر آيات القرآن والروايات السلمية ،فبعض اليات القرآنية صّرحت علنية قائلة أ ّ
ب ِإ ّ
ل ض اْلَغْي َ
لْر ِ ت َوا َْ
سَمَوا ِ
ن ِفي ال ّ
ل َيْعَلُم َم ْ
ل َ
مختص بال تبارك وتعالى ،مثل الية 65من سورة النملُ) :ق ْ
ل.(...
ا ُ
] [ 239
ن المام الصادق )عليه السلم( ورد مجلسًا غاضبًا ل جاء في الحديث أ ّونرى نفس هذا التفاوت في الروايات ،فمث ً
ب ِإ ّ
ل ب َما َيْعَلُم الَغي َ
ن َأّنا َنعَلُم الَغي َ
عُمو َ
جبًا لقوام َيْز َ
عَ
وكان فيه أبو بصير وبعض أصحابه ،فلما جلس قالَ» :يا َ
ل«).(1 جّ
ل عّز َو َ
ا ُ
بينما يستفاد من عّدة روايات علم الئّمة المعصومين)عليهم السلم(بأغلب المور الخفية كالذي ورد في هذه
الخطبة بشأن فتنة صاحب الزنج والمغول ،أو سائر خطب نهج البلغة بخصوص المور المستقبلية ،ومّما ل شك
فيه أّنه ليس هناك من تضارب بين اليات المذكورة وأمثالها ول بين الروايات السابقة )والروايات الخرى التي
وردت بهذا المضمون( وقد ذكر المحققون عّدة آراء من أجل الجمع بين هذه اليات والروايات ،منها:
1ـ المراد بعلم الغيب الذي اختصته اليات والروايات بال تبارك وتعالى هو العلم الذاتي ،وما يعلمه النبياء
والولياء هو العلم التعليمي من جانب ال سبحانه )وهو ما ورد في كلم المام )عليه السلم( في هذه الخطبة(.
ل هو كزمان الساعة والمور الخرى التي 2ـ أسرار الغيب على قسمين :قسم يختص بال تعالى ول يعلمه أحد إ ّ
وردت في الية 24من سورة لقمان ،وقد أشارت الخطبة إلى هذا الوجه في الجمع وقد تقدم شرح ذلك.
3ـ علم ال سبحانه بأسرار الغيب بالفعل يعني يعلم كل شيء في كل زمان ،أّما علم أولياء ال سبحانه ،فليس
بفعلي بل حيني ،أي إن أرادوا أن يعلموا شيئًا وتتحقق هذه الرادة باذن ال تعالى ورضاه ،ومن هنا نقرأ في
ن يعقوب لم يكن يعلم مصير ولده في صحراء كنعان ،والحال علم بعد سنوات بمصيره في مصر، سورة يوسف أ ّ
فقد وجد ريح يوسف من مصر بينما لم يجده في بئر كنعانه ،فلم يكن مأذونًا في المورد الول لن يريد فيعلم،
بينما أذن له في المورد الثاني.
] [ 240
ومن أراد المزيد من الشرح لكل من الطرق الربعة المذكورة ،فليراجع المجلد ،19من تفسير المثل في تفسير
سورة الجن.
—–
] [ 241
الخطبة)129 (1
—–
.1سند الخطبة:
ن هذه الخطبة وإن كانت في رعاية العدل في الكيل والميزان ،لكن ل يرى مطلب بهذا الخصوص في ورد في مصادر نهج البلغة أ ّ
هذه الخطبة سوى إشارة قال فيها المام )عليه السلم(» :اين المتورعون في مكاسبهم« ،وهذا يدّل على أّنها جزء من خطبة طويلة
ن المرحوم السيد الرضي كعادته يختار منها ويترك بقيتها ،رواها الزمخشري في »ربيع
أشارت إلى هذه المسألة المهمة ،إّل أ ّ
البرار« ،كما ورد قسم منها في »غرر الحكم« )مصادر نهج البلغة .(2/290
] [ 242
] [ 243
القسم الول
ظ.
حُفو ٌ ل َم ْ عَم ٌ
صَ ،و َل َمْنُقو ٌ جٌنَ :أ َ
ضْو َ ن ُمْقَت َ نَ ،وَمِديُنو َجُلو َ ن هِذِه الّدنَيا ـ َأْثِوَياُء ُمَؤ ّن ِم ْلِ ،إّنُكْم ـ َوَما َتْأُمُلو َعَباَد ا ّ»ِ
ل،
ل ِإْقَبا ً
شّر ِفيِه ِإ ّل ال ّل ِإْدَبارًاَ ،و َ
خْيُر ِفيِه ِإ ّ
ل َيْزَدادُ ال َ حُتْم ِفي َزَمن َ صَب ْ
سٌرَ .وَقْد َأ ْ خا ِ
ب َكاِدح َ ضّيٌعَ ،وُر ّ ب َداِئب ُم َ َفُر ّ
طْرِف َ
ك ب ِب َ ضِر ْ سُتُهِ .ا ْت َفِري َ
عّمتْ َمِكيَدُتُهَ،وَأْمَكَن ْ عّدُتُهَ ،و َت ُ ن َقِوَي ْ طَمعًاَ .فهَذا َأَوا ٌل َ س ِإ ّ
ك الّنا ِ لِن ِفي َه َ طا ُشْي َل ال ّ
َو َ
خَ
ل خَذ اْلُب ْ
ل اّت َ
خي ًل ُكْفرًاَ ،أْو َب ِ
ل ِنْعَمَة ا ّ غِنّيا َبّد َ
ل َفِقيرًا ُيَكاِبُد َفْقرًاَ ،أْو َ
صُر [تنظر ]ِإ ّ ل ُتْب ِ سَ ،فَه ْ
ن الّنا ِ ت ِم َشْئ َ ث ِ حْي ُ
َ
ظ َوْقرًا!«. عِ سْمِع اْلَمَوا ِن َ عْن ِبُأُذِنِه َ
ل َوْفرًاَ ،أْو ُمَتَمّردًا َكَأ ّقا ّ حِّب َ
—–
الشرح والتفسير
كما ورد في سند الخطبة وخلفًا لما جاء في عنوان هذه الخطبة فاننا ل نشاهد في متنها ما يشير إلى رعاية العدل
ن المرحوم السيد الرضي )رضي ال عنه( قد حذف بعض في الكيل والوزن ،ولعل ذلك يعود إلى أحد سببين :إّما أ ّ
جوانب الخطبة المتعلقة بالكيل والوزن حسب طريقته في اختيار الفصح ،أو ليس هنالك من حذف في الخطبة إ ّ
ل
ن المام )عليه السلم( خطب بهذه الخطبة في ظروف حين اتسع الفساد في الكيل والوزن والتطفيف في البيع أّ
وظلم الناس وساد ذلك في المجتمع ،وبالنظر إلى ذلك أورد المام )عليه السلم( هذه الخطبة ليحذر المردة ،بعبارة
ل أّنه ذكر من خلل ن شأن وورد الخطبة قضية الكيل والميزان وإن لم يذكر ذلك صريحًا في متنها ،إ ّ
أخرى فا ّ
الدللة اللتزامية ،على كل حال خاطب المام )عليه السلم( عامة الناس وقد حذرهم من تقلب الدنيا
] [ 244
جٌ
ل نَ :أ َ
ضْو َ
ن ُمْقَت َ
نَ ،وَمِديُنو َ
جُلو َ
ن هِذِه الّدنَيا ـ َأْثِوَياُء)ُ (1مَؤ ّ
ن ِم ْ
لِ ،إّنُكْم ـ َوَما َتْأُمُلو َ
عَباَد ا ّ
وفساد المجتمع فقالِ » :
ظ«. حُفو ٌ
ل َم ْ
عَم ٌ
صَ ،و َ
َمْنُقو ٌ
فقد شّبه المام )عليه السلم( وضع أهل الدنيا بهذه العبارة بالضيوف الذين دعوا لمّدة معينة في ضيافة ،وبالفراد
المدينين الذين ل يتركهم دائنوهم ،فمن الطبيعي أل يرى الضيف دار المضيف محطته البدية ،فهم ل يتعلق بها
أبدًا ول يثق بها ول يحرص عليها ،وليس الشخص المدين الذي يتابع دائمًا من ِقبل الدائن من سبيل سوى منحه
ن العمر الذي منحنا ال تعالى من
ل بأن يأتي اليوم الذي يكون قد سدد فيه كل دينه ،كأ ّ
كل ما يجد بالتدريج ،أم ً
ن إلى جانب ذلك العمر المتقلب والذي ينقضي بسرعة أعمالنا ديوننا التي تؤخذ مّنا كل لحظة ،والمشكلة المهّمة أ ّ
التي نقوم بها والتي تحفظ ويجب علينا تحمل تبعاتها.
طِرها
ن َمن َ
حس ِ
ن الّدنيا! َأمن ُ
ب ِم َ
ج ُ
ف َأع َ
ورى بعض شّراح نهج البلغة عن بعض الصلحاء قولهَ» :ما َأدِري َكي َ
عَليها«).(2
حِرُهم َ
س َلها َوَتنا ُ
ن َذّم الّنا ِ
ح َمخَبِرها َأم ِم ْ
َوُقب ِ
سٌر«.
خا ِ
ب َكاِدح)َ (4
ضّيٌعَ ،وُر ّ
ب َداِئب)ُ (3م َ
لَ» :فُر ّ
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه قائ ً
ن هذا ليس قانونًا كليًا ،فهناك الفراد الذين أفنوا عمرهم في لأّ
ن السعي والجهد رمز الموفقية والنجاح ،إ ّ صحيح أ ّ
السعي والجد وأجهدوا أنفسهم ليل نها ولم يظفروا بشيء ،وهذا أحد إحباطات النسان في الحياة الدنيا ،ولعل
العبارة إشارة إلى السعي المتعلق بالمور المادية أوالمعنوية ،لّنهم كثيرون هو الفراد الذين أجهدوا أنفسهم من
لخروية ،ولكن تسللت إليهم أهواء النفس ووساوس الشيطان في أجل الوصول إلى المقامات المعنوية والنجاة ا ُ
اللحظات الحساسة فاشتعلت النيران في مزارع طاعتهم وأحرقت كل شيء ،ثم أشار إلى الوضاع المزرية
خْيُر ِفيِه ِإ ّ
ل ل َيْزَداُد ال َ
حُتْم ِفي َزَمن َ
صَب ْ
لزمانهم وإقبال الناس على المساوىء وفرارهم من الصالحات فقالَ» :وَقْد َأ ْ
ن ِفي
طا ُ
شْي َ
ل ال ّ
لَ ،و َ
ل ِإْقَبا ً
شّر ِفيِه ِإ ّ
ل ال ّ
ِإْدَبارًاَ ،و َ
» .1أثوياء« :جمع »ثوي« على وزن قوي بمعنى الضيف وفي الصل من مادة »ثواء« بمعنى القامة في مكان.
» .3دائب« :من مادة »دؤوب« على وزن غروب المداوم في العمل.
» .4كادح« :من مادة »كدح« على وزن مدح الساعي بجهد ومشقة في القيام بعمل.
] [ 245
سُتُه).«(1
ت َفِري َ
ت َمِكيَدُتُهَ،وَأْمَكَن ْ
عّم ْ
عّدُتُهَ ،و َ
ت ُ
ن َقِوَي ْ
طَمعًاَ .فهَذا َأَوا ٌ
ل َ
س ِإ ّ
ك الّنا ِ
لِ
َه َ
فهذه العبارات الصريحة والواضحة تشير إلى مدى سقوط الوضع الخلقي للمسلمين في ذلك العصر والزمان
بفعل الحكومات المستبدة ،ومدى الوسط المضحك الذي واجهه المام)عليه السلم(في عهده ،نعم إن فسد مسؤولوا
ن ُمُلوِكِهم«.
على دي ِ
ن الفساد سيشمل كل شيء »الّناس َ
البلد ومن كان على رأس الحكومة فا ّ
فما الذي يمكن توقعه من الناس إن وزع الخليفة أموال بيت المال المسلمين على بطانته ،وولى قرابته الطالحة
ل،
ونصبهم في المواقع الحساسة ،وتعاطى عامله الشراب علنية ليدخل المحراب فيصلي بالناس جماعة ثم ً
ويمارس الخرون الرذيلة والعمال البشعة ،أو ليست سلطة الشيطان بالتكالب على الدنيا وإبتاع الهواء؟
ن ابن عمر وبعض ولد أبي بكر وسعد ن سادت هذه المور تيسرت حكومة الشيطان ،فقد ورد في الخبر أ ّ نعم ،إ ّ
بن أبي وقاص قصدوا عليًا )عليه السلم( حين خلفته وسألوه زيادة العطاء من بين المال ،فصعد )عليه السلم(
ن َفَيفِقدون َذل َ
ك جُبو َ
صّيرتُهم إلى َما َيسَتو ِ ن َو َ
ضو َ
خو ُ ل ...» :إذا َمنعُتُهم َما كاُنوا ِفيِه َي ُ المنبر وخطب الناس قائ ً
ن َوُيِقيَم
حقوَقنا ـ إلى أن قال ـ َأّما َأّني َأعَلُم اّلذي ُتِريُدو َ
حَرمنا َوَمنعنا ُ ن أبي طالب َو َ ظَلمنا اب ُ
نَ :
ن َوَيُقوُلو َ
َفيسَأُلو َ
سي.(2)«... حُكم ِبَفساِد َنف ِ
صل ََأودكمَ ،وَلكن ل َأشَتري َ
ل ِنْعَمَة
غِنّيا َبّد َ
ل َفِقيرًا ُيَكاِبُد)َ(4فْقرًاَ ،أْو َ
صُر [تنظر ]ِإ ّ ل ُتْب ِ
سَ ،فَه ْن الّنا ِ
ت ِم َشْئ َ
ث ِ
حْي ُ
ك)َ (3 طْرِف َب ِب َ
ضِر ْ ثم قالِ» :ا ْ
ظ َوْقرًا).«!(6 عِ
سْمِع اْلَمَوا ِ ن َ عْ ن ِبُأُذِنِه َ
ل َوْفرًا)َ ،(5أْو ُمَتَمّردًا َكَأ ّقا ّحّ
ل ِب َ
خَخَذ اْلُب ْ
ل اّت َخي ً
ل ُكْفرًاَ ،أْو َب ِ
ا ّ
» .1فريسة« :من مادة »فرس« على وزن قرض بمعنى الصيد.
» .4يكابد« :من مادة »كبد« بمعنى تحمل المشقة وهذا هو المعنى المراد بها في العبارة ،كما وردت بمعنى الجعل في المشقة.
] [ 246
فقد ركز المام )عليه السلم( بهذه العبارات البليغة والرائعة على أربع فئات محرومة أو منحرفة تشكل أساس
فساد المجتمع وإنهياره:
ن َيُكو َ
ن الولى :الفقراء الذين يقعون أسرى الفقر ،وهو الفقر الذي عبرت عنه الروايات بالقولَ» :كاَد الَفقُر َأ ْ
ُكفرًا«.
الثانية :الغنياء الذين غرقوا في النعم والملذات والشهوات حتى نسوا كل شيء وهووا في الكفر.
الرابعة :المتمردون الذين عاشوا الغرور ولم تعد آذانهم تسمع كلم الحق.
—–
] [ 247
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
أين الخيار؟
استعمل المام )عليه السلم( عبارات بليغة رائعة في هذا المقطع من الخطبة ليكشف النقاب عن فساد الزمان
حاُؤُكْم!)(1
سَم َ
حَراُرُكْم َو ُ
ن َأ ْ
حاُؤُكْم! َوَأْي َ
صَل َ
خَياُرُكْم َو ُ
ن َأ ْ
والتولي عن الصالحات والقبال على السيئات فقالَ» :أْي َ
ن ِفي َمَذاِهِبِهْم!«.
سِبِهْمَ ،واْلُمَتَنّزُهو َ
ن)ِ (2في َمَكا ِ
عو َ
ن اْلُمَتَوّر ُ
َوَأْي َ
فقد بحث المام )عليه السلم( بهذه العبارات عن ستة طوائف في المجتمع ليدل فقد انها أنذاك على مدى النحطاط
والفساد ،والطوائف الست هى :الخيار ،الصالحون ،الحرار ،السمحاء،
» .1سمحاء« :جمع »سميح« الشخص الرؤوف وصاحب الكرم ،وقيل من يبذل حين وفرة النعمة وضيقها.
] [ 248
ن افتقرت المجتمعات البشرية إلى هذه الطوائف الشريفة والنجيبة في المجتمع،المتورعون ،والمتنزهون ،حّقا إ ّ
فليس هناك سوى الفساد والنحراف ،والمراد من المتورعين في مكاسبهم ،الفراد الذين ل يطففون في البيع ول
يغشون ول يكذبون ول يقسمون بالباطل ول يرابون والذين ينقضون عهودهم ومواثيقهم ،فمن يرى المجتمع
الصالح العامر بالخيار والصلحاء والحرار والسمحاء على أّنهم نماذج المجتمع إّنما يشعر بالمتعاظ ل سّيما إن
ل منهم الشرار والطلحاء والسرى والبخلء فل يمتلك سوى الصراخ :اين ُاولئك العزة؟ كيف خلى رأى بد ً
مكانهم؟
صِة).«(2
جَلِة اْلُمَنّغ َ
ن هِذِه الّدْنَيا الّدِنّيِةَ ،واْلَعا ِ
عْجِميعًا َ
ظَعُنوا)َ (1
س َقْد َ
ثم قال المام )عليه السلم(َ» :أَلْي َ
صَغارًا ِلَقْدِرِهْم،
سِت ْ
ن ،ا ْ
شَفَتا ِ
ل َتْلَتِقي ِبَذّمِهُم ال ّ
حَثاَلة)َ (4
ل ِفي ُ
خِلْقُتْم)ِ (3إ ّ
ل ُ
فأردفها )عليه السلم( بالقولَ» :وَه ْ
ن(«. جُعو َ
ل َوِإّنا ِإَلْيِه َرا ِ
ن ِذْكِرِهْم! فَـ)ِإّنا ِّ
عَْوَذَهابًا َ
وقد انبثقت هذه الظروف العصيبة والفراد المنحطين منذ انحراف الخلفة السلمية عن محورها الصلي وقد
بلغ المر ذروته على عهد عثمان ،فقد فوضت المواقع الحساسة من الحكومة السلمية إلى أصحاب الدنيا
البعيدين عن الورع والتقوى وقد تغلغلوا في المجتمع السلمي بحيث كان من المتعذر تغييرهم ابان حكومة علي
)عليه السلم( ،كما كان هؤلء الفراد هم السبب لكافة المعارك التي حدثت ضد المام )عليه السلم(.
ثم أشار المام )عليه السلم( إلى الوظيفة التي ينبغي أن يقوم بها أصحابه تجاه تلك الظروف والوضاع فقال:
عّز
سِهَ ،وَتُكوُنوا َأ َ
ل ِفي َداِر ُقْد ِ
جاِوُروا ا ّ
ن ُت َ
ن َأ ْ
جٌرَ .أَفِبهَذا ُتِريُدو َ
جٌر ُمْزَد ِ
ل َزا ِ
ل ُمْنِكٌر ُمَغّيٌرَ ،و َ
ساُدَ ،ف َ
ظَهَر اْلَف َ
»َ
عْنَدُه؟«.
َأْوِلَياِئِه ِ
» .2المنغصة« :من مادة »نغص« على وزن نقص الكدر وعدم الصفاء ماء الشرب ،ثم اطلقت على كدورة العيش ومنه العيش
المنغص.
» .4حثالة« :تعني في الصل راسب الدهن ثم استعملت بشأن الفراد الراذل الذين ل شخصية لهم.
] [ 249
ن هذا الستفهام إستفهام استنكاري ،والمراد على ضوء هذا الوضع الذي سلكتموه وقد سكتم إزاء الفساد أو طبعًا إ ّ
أعنتم عليه ،فل من أمر بمعروف ول نهي عن منكر ،فليس لكم أن تنالوا القرب اللهي وتكونوا في صفوف أولياء
عِتِه«.
طا َ
ل ِب َ
ضاُتُه ِإ ّ
ل َمْر َ
ل ُتَنا ُ
جّنِتِهَ ،و َ
ن َ
عْل َ
عا ّ
خَد ُ
ل ُي ْ
ت! َ
ال ،فأكد ذلك بالقولَ» :هْيَها َ
فُاولئك المسلمون ظاهرًا ويحسبون في صفوف أهل اليمان لكّنهم راضون بالفساد ساكتون باطنًا ،ل يقدرون على
خداع ال العالم بأسرارهم وأعمالهم ،لعلم يخدعون الخرين ،بل وأنفسهم لمّدة ،ولكن أنى لهم ذلك يوم القيامة يوم
ل يخفى على ال منهم خافية ،فليس أمامهم سوى الندم.
ليمـا َ
ن ن ِبالّتحّلي َول ِباّلتمّني ِوَلكن ا ِ
ورد في الحديث عن النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( أّنه قالَ» :ليسَ اليمـا ُ
ل«).(1
لعمـا ُ
صّدَقُه ا َ
ب َو َ
ص ِفي الَقل ِ
خل َ
ما َ
ن اْلُمْنَكِر اْلَعاِمِلي َ
ن عِن َ
ن َلُهَ ،والّناِهي َ
ف الّتاِرِكي َ
ن ِباْلَمْعُرو ِ
لِمِري َ
لا ْ
نا ّ
ثم إختتم الخطبة مشددًا في التأكيد فقالَ» :لَع َ
ِبِه!«.
ن المر بالمعروف
ن عمل النسان ل يشترط في المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وبعبارة أخرى فا ّ صحيح أ ّ
ل بالمنكر.
والنهي عن المنكر وظيفتان مستقلتان وإن كان نفس النسان تاركًا للمعروف وعام ً
ولكن أن يأمر النسان بالمعروف ول يأتمر به وينهى عن المنكر ول ينتهي عنه بحّد ذاته نوع من النفاق
الواضح ،والمنافق يستحق اللعن واللوم والعقاب.
ن اختلف الظاهر والباطن الذي يكون سببًا لخداع الناس وروح النفاق من أسوأ الصفات التيوبعبارة أخرى فا ّ
يحعل النسان يستحق اللعن فيوجب ُبعده عن ال ورحمته.
—–
] [ 250
شكوى أهل الزمان
—–
] [ 251
الخطبة)130 (1
لما إنهال أزلم بني أمية وبني مروان على بيت مال المسلمين بتلويح من عثمان فجعلوا ينهبون ما يريدون،
لسوة في المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فأصبح يشكل واجههم أبو ذر)رحمه ال( ذلك الصحابي الشجاع وا ُ
خطرًا جّديا على منافعهم ،فأشاروا على عثمان بنفيه إلى ربذة التي تعتبر أسوأ المناطق مناخًا ،أّما المام )عليه
السلم( فقد أراد أن يثبت عدم شرعية هذا الحكم الجائر من جهة ،وأن يشد من عزيمة أبي ذر من جهة أخرى،
فيعينه على تحمل ما يواجهه من صعوبات ،ومن هنا شايع أبي ذر وقد واساه بكلمات رائعة وعميقة وأمله
بالمستقبل الزاهر الذي ينتظره ،كما أضاف ورقة سوداء أخرى إلى سجل بني أمية ومروان المظلم.
—–
.1سند الخطبة:
ذكرها المرحوم الكليني في كتاب »روضة الكافي« باختلف طفيف ويستفاد من ذيلها أن ليس علي )عليه السلم( شيعه إلى الربذة
فقط ،بل شيعه المام الحسن والحسين )عليهما السلم( وعمار )وعقيل حسب بعض الروايات( ،وبعبارات رائعة سيأتي بيانها في
البحاث القادمة )الكافي ،8/206ح ،(25قال صاحب مصادر نهج البلغة بعد الشارة إلى رواية الكافي نقلها ابن أبي الحديد عن
كتاب »السقيفة« لحمد بن عبدالعزيز الجوهري )مصار نهج البلغة .(2/291
] [ 252
] [ 253
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
ن المام )عليه السلم( أورد هذا الكلم حين نفي أبو ذر من قبل عثمان إلى الربذة ،جاء في الخبر: كما ذكرنا فا ّ
لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان ،فنودي في الناس أل يكلم أحد أبا ذر ول يشيعه ،وأمر مروان بن الحكم
ل أخاه وحسنًا وحسينًا
ل علي بن أبي طالب)عليه السلم(وعقي ً حى عنه الناس إ ّ
أن يخرج به ،فخرج به ،وتن ّ
)عليهما السلم( وعمارًا )رحمه ال( ،فاّنهم خرجوا معه يشيعونه ،فجعل الحسن )عليه السلم(يكلم أبا ذر ،فقال
ن أمير المؤمنين )عثمان( قد نهى عن كلم هذا الرجل ،فان كنت ل تعلم فاعلم ذلك، مروان إيها حسن أل تعلم أ ّ
ح لحالك ال إلى النار ،فرجع فحمل علي )عليه السلم( على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال :تن ّ
مروان مغضبًا إلى عثمان فأخبره الخبر).(1
] [ 254
وهنا وقف أبو ذر )رحمه ال( فودعه القوم ،وخطب المام )عليه السلم( بهذه الكلمات التي تتضمن كل واحدة
منها نقطة مهّمة بهدف مواساة أبي ذر وتحمله المصاعب التي ستواجهه في المستقبل ،فقد أشار )عليه السلم( إلى
ت َلُه«.
ضْب َ
غ ِ
ن َ
ج َم ْ
لَ ،فاْر ُ
ت ِّ
ضْب َ
غ ِ
ك َ
لَ»:يا َأَبا َذّرِ ،إّن َ
ست نقاط فقال أو ً
أّما قوله )عليه السلم( فارج من غضبت له ولم يقل ارج ال ،فالواقع بّين المام )عليه السلم( دليل ذلك المل،
ن ذلك الشخص سيقف إلى جانبه. ن كل شخص يغضب لخر بالنسبة لشيء يؤذيه ،فمن الطبيعي أ ّ لّ
عَلْيِهَ ،واْهُر ْ
ب ك َ
خاُفو َ
ك ِفي َأْيِديِهْم َما َ
كَ ،فاْتُر ْ
عَلى ِديِن َ
خْفَتُهْم َ
عَلى ُدْنَياُهْمَ ،و ِ
ك َ
خاُفو َ
ن اْلَقْوَم َ
وقال في الثانيةِ» :إ ّ
عَلْيِه«.
خْفَتُهْم َ
ِمْنُهْم ِبَما ِ
إشارة إلى أّنهم شعروا بالخطر على حكومتهم ومنافعهم المادية إثر صراحة كلمك في المر بالمعروف والنهي
عن المنكر ،فلم يستطيعوا تحمل وجودك في المدينة ،لكّنك قاطعتهم ولم تقبل بذلهم ،وذلك لّنك شعرت بالخطر
على دينك ،فلما قمت بوظيفتك واطلعت الناس على أعمال هؤلء الحكام ،فاتركهم واهرب بدينك وإيمانك.
غدًا،
ح َن الّراِب ُسَتْعَلُم َم ِ
ك! َو َعّما َمَنُعو َك َغَنا َ
جُهْم ِإَلى َما َمَنْعَتُهْمَ ،وَما َأ ْ
حَو َ
ثم قال المام )عليه السلم(َ» :فَما َأ ْ
سدًا« ،فهم بحاجة إلى دينك ،الدين الذي لم تكن مستعدًا للتضحية به من أجل دنياهم ،لكّنك لست بحاجة حّ لْكَثُر ُ َوا َْ
إلى دنياهم وإن منعوها عنك) ،(1والعبارة »وستعلم «...مواساة أخرى لبي ذر فعمر الدنيا قصير كأنه ويوم وغدا
تقوم القيامة ،أنذاك سيفتضح الظلمة عبدة الدنيا ويغبطون التقياء على درجاتهم العالية ،ثم ضاعف من ذلك
جَع َ
ل ل َل َ
عْبد َرْتقًا)ُ (2ثّم اّتَقى ا ّ عَلى َن َكاَنَتا َضي َ
لَر ِ ت َوا َْ
سمَوا ِ ن ال ّ الرجاء في قلب أبي ذر فقال في الثالثةَ» :وَلْو َأ ّ
خَرجًا!«.
ل َلُه ِمْنُهَما َم ْ
ا ّ
ث َ
ل حْي ُ
ن َ
خَرجًا * َوَيْرُزْقُه ِم ْ
ل َلُه َم ْ
جَع ْ
ل َي ْ
قا َ
ن َيّت ِ
ن هذه العبارة إشارة إلى الية الشريفةَ) :وَم ْ
والواقع هو أ ّ
ب().(3س ُ
حَت ِ
َي ْ
.1وعليه تفسير »ما« بالموصولة بمعنى الدين لّنهم أرادوا أن يستفيدوا من دين أبي ذر لصالح دنياهم ،فحال أبو ذر دون ذلك ،كما
ن هناك تقديرًا في العبارة حيث يكون المعنى ما أحوجهم إلى الدين ،الدين الذي حذرت عليه
يحتمل أن يكون الدين بصورة مطلقة ،إّل أ ّ
من إفسادهم له.
» .2رتق«:إلتحام شيء بآخر وتعني في العبارة إغلق طرق الخلص والفرار.
] [ 255
ل«.
طُل اْلَبا ِ
ك ِإ ّ
شّن َ
حَل ُيو ِ
قَ ،و َ
حّل اْل َ
ك ِإ ّ
سّن َ
ل ُيْؤِن َ
ثم قال في الرابعة والخامسةَ » :
فليكن أنسك في الحق ول تخشى شيئًا مادمت في هذا السبيل ،ولتكن وحشتك من الباطل وإّنك لسعيد مادمت هارباً
من الباطل ،فل ضير عليك إّنك قمت ل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر في ال ،فلو قبلت دنياهم وعاونتهم
في نيل أطماعهم المادية لحّبوك ،ولو أخذت من ذلك شيئًا وهادنتهم لمنوك ،ولذا قال في السادسةَ» :فَلْو َقِبْل َ
ت
ك« ،فهم تجار ظلمة ذائبون في الدنيا وأهل معاملة فيها ،فمن وافق لّمُنو َ
ت)ِ (1مْنَها َ
ض َ
كَ ،وَلْو َقَر ْ
حّبو َ
لَ
ُدْنَياُهْم َ
على مظالمهم وهادنهم بقبول سهم من أموالهم ،أحّبوه وقّدسوه ودافعوا عن ماله وعرضه.
فعبارته )عليه السلم( مواساة لبي ذر من جانب وصاعقة شديدة على الحكام الظلمة من جانب آخر ،فالحق أن
نفي »أبوذر« ذلك العبد الصالح والزاهد الورع كان نموذجًا للمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان وصمة عار
ن لسان ذلك الصحابي الجليل يعدل مئة ألف سيف. في جبين الحكام الظلمة وأعوانهم ،فقد كانوا يعلمون أ ّ
—–
تأّملت
تعتبر حياة أبي ذر مليئة بالحداث مقارنة بحياة سائر صحابة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( والتي يمكنها أن
تكون أسوة لكافة المجاهدين في سبيل الحق طيلة التاريخ البشري ،ول غرو فحياته إقتباس من حياة موله رسول
ال )صلى ال عليه وآله( وعلي )عليه السلم( مع فارق بسيط هو أّنه خضع لظروف صعبة جّدا ،لكّنه لم يتوان
قط في المر بالمعروف والنهي عن المنكر الوقوف بوجه الظلمة والفساد ،وإليك جانب من سيرته:
اسمه جندب وأبوه جنادة) (2وأسماه رسول ال عبدال ،ينسب إلى طائفة معروفة من طوائف
» .1قرضت« :من مادة »قرض« تعني في الصل قطع الشيء ومن هنا يقال المقراض للمقص ،كما يقال القرض لما يعطى من مال،
ووردت في العبارة المذكورة بمعنى قطعت منها جزءًا من المال لنفسك ،ومهادنة الظالمين.
.2روت أغلب المصادر »جندب وجنادة« بضم الجيم ،وكنيته أبو ذر ،حيث كان له ولد بهذا السم.
] [ 256
العرب وهى بني غفار ،كانت له ضيعة أطراف مّكة ،سمع ببعث النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( فاتجه إلى
مّكة ،فلما دخل المسجد رأى فيه طائفة من قريش وهى تتحدث عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( وهى تسبه
وتشتمه ،فدخل أبو طالب ،فقالوا :إسكتوا هذه عّمه ،عرف أبو ذر ،أبا طالب ،فلما خرج من المسجد تبعه فالتفت
إلى أبو طالب وسأله هل من حاجة؟ قالُ :اريد اليمان بالنبي )صلى ال عليه وآله( ،فقال له أبو طالب تعال هنا
غدًا ،فقضى أبو ذر ليلته في المسجد الحرام ،وفي اليوم التالي إلتقى حمزة ،ثم تعرف بجعفر وعلي وأخيرًا حمله
علي )عليه السلم( إلى النبي )صلى ال عليه وآله( فأسلم وآمن طواعية.
ثم أمره رسول ال )صلى ال عليه وآله( بالرجوع إلى أهله وقال له :فان لك ابن عم قد توفي وليس به وارث
غيرك فاستعن بتلك الموال حتى يؤذن لي بالدعوة العلنية آنذاك عد إلينا ،كان أبو ذر من أوائل من أسلم ،وإلتحق
بالنبي الكرم )صلى ال عليه وآله( بعد غزوة بدر وأحد و الخندق وحين أنفق كل ما لديه في سبيل ال ،وقد
وصفه النبي )صلى ال عليه وآله( بصّديق الّمة وشبيه عيسى بن مريم.
لمة المجلسي)رحمه ال( في كتاب »عين الحياة« يستفاد من مصادر الفريقين أّنه لم يكن من بين الصاحبة قال الع ّ
بعد المعصومين من هو أجل قدرًا من سلمان و أبي ذر والمقداد وقد قال فيه رسول ال )صلى ال عليه وآله(:
ث َوحَدُه
ت َوحَدُه َوُيبَع ُ
ش َوحَدهُ َوَيُمو ُ
ق ِمن َأِبي َذر َيعي ُ
جة َأصَد ُ
عَلى ِذي َله َ
ت الَغبَراُء َ
ت الخضَراُء ول َأَقّل ِ ظّل ِ
»َما أ َ
جّنَة َوحَدُه«).(1
ل ال َخِ
َوَيد ُ
—–
لزم أبو ذر رسول ال )صلى ال عليه وآله( في المدينة ،ولّما ولى عثمان الخلفة وأعطى مروان من بيت المال،
سِبي ِ
ل ل ُينِفُقوَنَها ِفي َ
ضَة َو َ
ب َواْلِف ّ
ن الّذَه َ
ن َيْكِنُزو َ
جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارعَ) :واّلِذي َ
ل.(2)(...
ا ِ
في إشارة إلى عثمان وبطانته الذين أخذوا ينهبون بيت مال المسلمين ،كان أبو ذر يردد تلك الية ويرفع بها
صوته ،فرفع ذلك مرارًا إلى عثمان وهو ساكت ،ولم تمض مّدة حتى صعب على الخليفة وبطانته تحمل كلم أبي
ذر ،فأرسل إليه عثمان مولى من مواليه أن إنته عّما بلغني عنك ،فقال أبو ذر :أو ينهاني عثمان عن قراءة كتاب
ال تعالى؟ فوال لن أرضي ال بسخط عثمان
] [ 257
ي وخير لي من أن أسخط ال برضا عثمان ،فأغضب ذلك عثمان وأحفظه ،فتطاير وتماسك ،إلى أن قال ب إل ّ
أح ّ
يومًا والناس حوله :أيجوز للمام أن يأخذ من المال شيئًا قرضًا ،فاذا أيسر قضى؟ وكان في المجلس كعب الحبار
وأبو ذر ،فقال كعب الحبار :ل بأس بذلك ،فقال :أبو ذر :يابن اليهودية أتعلمنا ديننا؟ )فمثل هذه المور ل تجوز
في بيت مال المسلمين( فقال عثمان :قد كثر أذاك وتولعك بأصحابي ،إلحق بالشام ،فأخرجه إليها.
ولم يسكت أبو ذر في الشام حين شاهد الخضراء التي بناها معاوية في دمشق إلى جانب البيوت المتواضعه
للفقراء من الناس والمحرومين ،فقال لمعاوية :يا معاوية إن كانت هذه من مال ال فهى الخيانة ،وإن كانت من
مالك فهى السراف ،وال لقد حدثت أعمال ما أعرفها ،وال ما هى في كتاب ال ول سّنة نبّيه ،وال إّني لرى حقًا
ل يحيا ،وصادقًا مكذبًا ،وأثرة بغير تقى ،وصالحًا مستأثرًا عليه ،فثقل ذلك الكلم على معاوية ،فكتب
يطفأ وباط ً
إلى عثمان ،فكتب عثمان أن إحمل جندبًا إلي على أغلظ مركب وأوعره حتى قدم به المدينة.
—–
فلما دخل أبو ذر)رحمه ال( على عثمان ،سعى عثمان لن يضطره للقول بخلف ما يريد فقال له :أنت الذي
ن الغِنياء« ،فقال أبو ذر :لو كنتم ل تقولون هذا لنفقتم مال ال على عباده، ل َفِقيٌر َوَنح ُ
نا َ تزعم أنا نقولِ» :إ ّ
لا ِ
ل جَعُلوا مـا َ
لَ ،
جًن َر ُ
ص َثلِثي َ
ولكّني أشهد أّني سمعت رسول ال )صلى ال عليه وآله( يقولِ» :إذا َبَلَغ َبنو العـا ِ
ل« ،فقال عثمان لمن حضر :أسمعتموها من رسول ال )صلى ال عليه وآله(؟ لَ ،وِديَنُه َدخ ً
خو ًعباَدُه ِ
لَ ،و ِ
ُدو ً
قالوا :ل؟ قال عثمان :ويلك يا أبا ذر! أتكذب على رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،ثم قال :ادعوا لي عليًا ،فما
جاء قال عثمان لبي ذر :اقصص عليه حديثك في بني العاص ،فأعاده ،فقال عثمان لعلي أسمعت هذا من رسول
ال )صلى ال عليه وآله( قال :ل; وقد صدق أبو ذر ،فقال :كيف عرفت صدقه؟ قال :لّني سمعت رسول ال
ق ِمن َأِبي َذر .«...فقالجة َأصَد ُعَلى ِذي َله َت الَغبَراُء َ
ت الخضَراُء ول َأَقّل ِ
ظّل ِ
)صلى ال عليه وآله( ،يقولَ» :ما أ َ
من حضر :أما هذا فقد سمعناه كّلنا من رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،فندم عثمان.
ن عثمان بعث غلمين بمئتي دينار إلى أبي ذر وقال: وجاء في الخبر عن المام الصادق )عليه السلم( قال» :إ ّ
ن عثمان يقرأك السلم وبعث بهذا المال لتستعن به على معيشتك ،فقال أبو ذر:
قول له إ ّ
] [ 258
ن عثمان يقول إّنه من خاصة مالي ولم يخالطه فهل أعطى سائر المسلمين ،قال :ل ،فقال :ل حاجة لي به ،قال :إ ّ
الحرام ،فلم يقبل أبو ذر وقال :إّنني لغنى الناس بولية علي بن أبي طالب ،فعودا بالمبلغ إليه وال يحكم بيني
وبينه«).(1
وأخيرًا ضاق عثمان ذرعًا بأبي ذر واستشار من حوله ،فأشاروا عليه بنفيه من المدينة ،فاختار أبو ذر الشام
والعراق ،فلم يوافقوه حيث كانوا يخشون منه ،إلى انتهى بهم المر لنفيه إلى الربذة) (2المعروفة بسوء أحوالها
ومناخها حتى توفي فيها ،ولم يكن لديه حتى الكفن مّرت
جماعة وفيهم مالك الشتر فأخبرتهم بنته في الطريق ،فكفنوه وصلى عليه صحابي رسول ال)صلى ال عليه
وآله( عبدال بن مسعود ،ثم دفنوه).(3
—–
لقد سعى البعض من المتعصبين بدافع حّبه لمعاوية وبني أمية أو لفرط ذوبانه في عثمان لثارة بعض الغبار على
ن عثمان
شخصية أبي ذر ،وذلك لعدم إمكانية الجمع بين كون أبا ذر من أولياء ال أّنه أصدق من على الرض وأ ّ
ن أبا ذر ل يؤمن
خليفة المسلمين ومعاوية من الصحابة ،ومن هنا فلم يروا أخف وطأة عليهم من أبي ذر فقالوا :إ ّ
بالملكية الفردية وكانت له نزعة اشتراكيه.
وقال الرزكلي في كتاب »العلم في أبي ذر«» :ولعله أول اشتراكي طادرته الحكومات«).(4
وهذا في الوقت الذي لم يتطرق فيه أبو ذر قط إلى نفي الملكية الفردية ،بل شدد من حملته ضد الثرياء كمعاوية
ممن يوزعون الثروة بصورة غير عادلة ،ولذلك لم يكن يشن مثل هذه
ن الربذة من القرى الواقعة أطراف المدينة حيث تبعد عنها ثلثة أميال )حدود 150كيلومتر(.
.2ورد في معجم البلدان أ ّ
.3لخصت هذه المطالب من عّدة كتب معروفة كشرح نهج البلغة لبن أبي الحديد ،وشرح المرحوم التستري ،وشرح المرحوم
الخوئي ،وبحار النوار.
] [ 259
الحملت على عهد الخيفة الول والثاني ،قال البعض وردت عبارة »مال ال« في كلمات أبي ذر ،فاستفادو منها
لمة
نفيه للملكية الخاصة ،والحال التعبير بمال ال عن بيت المال هو تعبير متداول وسائد ،فقد صّرح المرحوم الع ّ
ن التعبير بمال ال كثير في أقوال
الميني في المجلد الثامن من الغدير حين نقل نعت أبي ذر بالشتراكية أ ّ
الصحابة ،ثم نقل عّدة روايات عن عمر عّبر فيها صريحًا بمال ال ،كما وردت عّدة روايات عن أمير المؤمنين
علي )عليه السلم( عّبر فيها بمال ال).(1
ل شك أّنه يمكن التعبير عن تلك الموال بمال ال ،بل يمكن اطلق مال ال حتى على الموال الشخصية للناس،
ل اّلِذي آَتاُكْم.(2)(...
لا ِ
ن َما ِ
فقد جاء في القرآن الكريم مثل هذه التعبيرَ) :وآُتوُهْم ِم ْ
والدهى من كل ذلك لجنة فتوى الزهر قد أصدرت فتوى عام 1367ق تحت تأثير بعض المتعصبين في نفي
الشيوعية لتنقل عقيدة أخرى لبي ذر وحكمت ببطلنها لتعتبرها معلولة لبعده عن مبادىء السلم ،وهى أّنه كان
يعتقد بوجوب اعطاء المال الزائد عن حاجته إلى أهل الحاجة ول ينبغي أن يحتفظ بتلك الموال ،قال المرحوم
الميني بعد ذكره لهذه الفتوى لو ُاوكل شيخ الزهر مطالعة هذه المسألة لمن هو أعرف بأبي ذر وحكموا فيها
ن ليس هناك مثل هذه العقيدة لبي ذر ،والسوأ من ذلك ماذكروه من عذر لبي ذر بعدم بعيدًا عن التعصب ،لعلم أ ّ
معرفة بمبادىء السلم ،وهذا ما يضحك الثكلى ويبكي كل مسلم غيور ،فهل يصح مثل هذا الكلم بشأن صحابي
جليل قضى شرطًا من حياته مع رسول ال )صلى ال عليه وآله( وقد شّبهه النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(
ن أبا ذر ثقة عند بعض
بعيسى خلقًا وخلقًا) ،(4والطريف في المر أ ّ
.1الغدير .8/343
] [ 260
المحدثين كالبخاري ومسلم حيث نقلوا عنه 81حديثًا) ،(1وهذا بدوره يكشف عن مدى بعد لجنة فتوى الزهر عن
الحقيقة.
—–
لم بن جندل الغفاري قال :كنت غلمًا لمعاوية على قنسرين والعواصم روى ابن أبي الحديد عن الجاحظ عن ج ّ
في خلفة عثمان ،فجئت إليه يومًا أسأله عن حال عملي ،إذا سمعت صارخًا على باب داره يقول :أتتكم القطار
بحمل النار )إشارة إلى الجمال التي كانت تحمل أموال بين المال( ،الّلهم إلعن المرين بالمعروف التراكين به،
لم أتعرف الصارخ؟ فقلت: الّلهم إلعن الناهين عن المنكر المرتكبين له ،فازبأر معاوية وتعّير لونه وقال :يا ج ّ
الّلهم ل .قال :من عذيري من جندب بن جنادة ،يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت! ثم قال :أدخلوه
ي ،فجيئى بأبي ذر بين قوم يقودونه ،حتى وقف بين يديه ،فقال له معاوية :يا عدّو ال وعدّو رسوله تأتينا كل عل ّ
ل من أصحاب محمد من غير أذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك، ويوم فتصنع ما تصنع ،أّما لو أني كنت قاتل رج ً
ولكني أستاذن فيك .فقال أبو ذر :ما أنا بعدّو ل ول لرسوله ،بل أنت وأبوك عدّوان ل ولرسوله ،أظهرتما السلم
وأبطنتما الكفر ،ولقد لعنك رسول ل )صلى ال عليه وآله( ودعا عليك مرات أل تشبع ..فغضب معاوية وأمر
بحبسه وكتب إلى عثمان فيه ،فكتب عثمان إلى معاوية أن إحمل جندبًا على أغلظ مركب وأوعره ،فوجه به مع
ل قتب ،حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من من سار به الليل والنهار ،وحمله على شارف ليس عليها إ ّ
الجهد ،ثم نفاه عثمان إلى الربذة).(2
] [ 261
ونختتم هذا البحث بحديث نبوي شريف ورد في كتاب أسد الغابة ،فقد أسلم أبو ذر لثلث سنوات قبل البعثة ،وكان
ق وإرن َكا َ
ن حّل ال َ
عَلى َأن َيُقو َ
ل َلوَمَة لِئم َو َ
خُذُه ِفى ا ِ
ن ل َتأ ُ
عَلى َأ ْ
يعبد الَ» :وَباَيع الّنِبي )صلى ال عليه وآله( َ
مّرا«).(1
—–
»ما عسى أن نقول يا أبا ذر وأنت تعلم إّنا ُنحّبك ،وَأنت ُتحّبنا! فاتق ال فان التقوى نجاة واصبر فان الصبر
كرم«.
»يا عّماه ،إن ال تعالى قادر أن يغير ما قد ترى ،وال كل يوم هو في شأن ،وقد منعك القوم دنياهم ،ومنعتهم
دينك ،فما أغناك عّما منعوك وأحوجهم إلى منعتهم ،فأسأل ال الصبر والنصر ،واستعذ به من الجشع والجزع،
ن الصبر من الدين والكرم.«... فا ّ
ثم تكّلم عمار )رحمه ال( فقال» :ل آنس ال من أوحشك ،ول آمن من أخافك ،أما وال لو أردت دنياهم لمنوك،
ل الرضا بالدنيا ،والجزع من الموت ،مالوا إلى ما
ولو رضيت أعمالهم لحّبوك ،وما منع الناس أن يقولوا بقولك إ ّ
سلطان جماعتهم عليه ،والملك لمن غلب ،فوهبوا لهم دينهم ،ومنحهم القوم دنياهم ،فخسروا الدنيا والخرة ،أل
ذلك هو الخسران المبين«.
] [ 262
فبكى أبو ذر )رحمه ال( وكان شيخًا كبيرًا ،وقال :رحمكم ال يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول ال
ل ال صاحبًا ،وما أخشى مع ال
)صلى ال عليه وآله( ،ما لي بالمدينة سكن ول شجن غيركم ،وال ما أريد إ ّ
وحشة ،توكلت على ال والصلة والسلم على رسول ال وآله).(1
—–
] [ 263
الخطبة)131 (1
أشار المام علي )عليه السلم( في هذا الكلم إلى عّدة مطالب:
1ـ قبوله الحكومة من أجل رفع راية الدين والعدل في المجتمع السلمي وإصلح البلد وأمان العباد واستقرار
المظلومين.
2ـ أشار )عليه السلم( في جانب آخر من الخطبة إلى الختلفات الفكرية لصحابه فقال :ل يمكن بسط العدل في
ظل هذه الظروف واعطاء الحقوق إلى أصحابها ،ويستحيل بلوغ هذه الهداف ما لم تتحد قلوبكم وتتفق أعمالكم.
3ـ خاض )عليه السلم( في تعريف نفسه فقال :أني أول من سمع رسول ال )صلى ال عليه وآله( فآمنت به ،ولم
ل رسول ال )صلى ال عليه وآله( بالصلة. يسبقني إ ّ
4ـ أشار في القسم الخير من الخطبة إلى صفات الزعيم المقتدر ،فعدد أوصافه بكل دّقة ،وهى الوصاف التي
يؤّدي توفرها في الزعيم السلمي إلى الديمومة والثبات.
—–
.1سند الخطبة:
أشار ابن الجوزي في »تذكرة الخواص« إلى هذه الخطبة وقال :ابتدأ المام هذه الخطبة حين استوى على منبر الكوفة بالقول :الحمد
ل وأومن به ثم خطب الخطبة ،وأورد القاضي نعمان الفصل الخير من الخطبة في المجلد الثاني من »دعائم السلم« ،كما أشار إلى
ن الخطبة وردت في بعضها ابن أثير في »النهاية« في مادة ظار ومادة دعا )مصادر نهج البلغة (2/295وتدّل هذه المصادر على أ ّ
عّدة كتب قبل السيد الرضي.
] [ 264
] [ 265
القسم الول
ق َوَأْنُتْم
حّعَلى اْل َ
ظَأُرُكْم َ
عُقوُلُهْمَ ،أ ْعْنُهْم ُ
شاِهَدُة َأْبَداُنُهْمَ ،واْلَغاِئَبُة َ
شّتَتُة ،ال ّ
ب اْلُمَت َ
خَتِلَفُةَ ،واْلُقُلو ُ
س اُْلم ْ
»َأّيُتَها الّنُفو ُ
ق««. حّج اْل َ
جا َ
عِو َ
لَ ،أْو ُأِقيَم ا ْ
سَراَر اْلَعْد ِ
طَلَع ِبُكْم َن َأ ْ
ت َأ ْسِد! َهْيَها َ لَ عِة ا َْعَو َ ن َو ْ
عْنُه ُنُفوَر اْلِمْعَزى ِم ْ ن َ َتْنِفُرو َ
—–
الشرح والتفسير
لستم من الصحاب الخيار
من الحوادث الليمة في التاريخ السلمي أن يبتلى إمام عالم وكفوء مقتدر كعلي )عليه السلم( بناس جّهال وعبدة
للهواء يعيشون النتاحر والفرقة ،فقد كانوا وسائل سيئة لقامة حكومة الحق والعدل ،وقد رأينا منذ بداية الكتاب
ن المام علي )عليه السلم(كان يتألم بشّدة من هذا المر وكان دائم لحّد الن في مختلف خطب نهج البلغة أ ّ
الشكوى ،باحثًا عن مختلف الساليب لعلج أمراضهم النفسية والخلقية ،فقد قال )عليه السلم( مستهلً هذه
عُقوُلُهْم«.
عْنُهْم ُ
شاِهَدُة َأْبَداُنُهْمَ ،واْلَغاِئَبُة َ
شّتَتُة ،ال ّ
ب اْلُمَت َ
خَتِلَفُةَ ،واْلُقُلو ُ
س اُْلم ْ
الخطبةَ» :أّيُتَها الّنُفو ُ
لمم ،أل وهو الختلف والتشتت فقد ركز المام )عليه السلم( هنا على الجذور الصلية لداء المجتمعات وا ُ
شاِهَدُة َأْبَداُنُهم «...إشارة إلى حضورهم الجسماني في والذي يؤّدي إلى النزاعات وهدر الطاقات ،والعبارة» :ال ّ
المجتمع وغيابهم الفكري والروحي عن الحوادث الخطيرة التي تصيب المجتمع ،أّما أهمية هذا الموضوع فقد
دفعت بالمام إلى ذكر مثل هذه العبارات مع اختلف طفيف في الخطب الخرى ،كالذي ورد في الخطبة 29و
خَتِلَفُة َأْهَواُؤُهْم«.
جَتِمَعُة َأْبَداُنُهْم ،واُْلم ْ
97حيث قال في الولىَ» :أّيَها الّناس ،اُْلم ْ
] [ 266
خَتِلَفُة َأْهَواُؤُهْم«.
عُقوُلُهْم ،اُْلم ْ
عْنُهْم ُ
شاِهَدُة َأْبَداُنُهْم ،اْلَغاِئَبُة َ
وقال في الثانيةَ» :أّيَها اْلَقْوُم ال ّ
سِد!«،
لَعِة)(3ا َْ
عَو َ
ن َو ْ
عْنُه ُنُفوَر اْلِمْعَزى)ِ (2م ْ
ن َ ق َوَأْنُتْم َتْنِفُرو َ
حّ
عَلى اْل َ
ظَأُرُكْم)َ (1
ثم قال )عليه السلم(َ» :أ ْ
ن »ظأر« جاءت في اللغة بمعنى القابلة ،فهى تشير إلى مراده أّني كالقابلة الشفيقة العبارة »أظأركم« بالنظر إلى أ ّ
قد رويتكم على الدوام من عين الحق الجياشة ،لكّنكم كنتم تفرون من ذلك دائمًا ،تفرون فراركم من السد ،وهذه
عِة
عَو َ
أسوأ حالة يمكن أن تعرض لنسان فينفر من الحق ويهرب منه بالشكل الذي يفوق التصور ،والعبارة »َو ْ
ن هذا الحيوان على درجة من الجبن سِد!« يعني إ ّ لَ عِة ا َْ
عَو َ
سِد!« ،تعبير رائع فلم يقل »من السد« بل قال »َو ْ لَا َْ
بحيث ل ينظر إلى أطرافه ليرى هل هو أسد أم ل ،بل يهرب لمجّرد سماعه الصوت ،وهذا هو حال بعض
الحيوانات التي تهرب إذا سمعت زئير السد مهما كانت المسافة بعيدة في الصحراء.
ق«.
حّج اْل َ
جا َ
عِو َ
لَ ،أْو ُأِقيَم ا ْ
سَراَر) (5اْلَعْد ِ
طَلَع)ِ (4بُكْم َ
ن َأ ْ
ت َأ ْ
ثم قال )عليه السلم(َ» :هْيَها َ
قطعًا ليس للحق من إعوجاج ليراد قيامه ،والمراد يخلطونه بالباطل وقد سعى أئمة الهدى)عليهم السلم( لتخليص
الحق من شوائب الباطل ،كما ليس في العدل من ظلمة ليجلوها عنه ،فالظلم الذي غالبًا ما يخالط العدل ويلبسه
ن إزالة الظلمة عن العدالة وتمييز الباطل عن الحق ،يتطلب أعوانًا وأنصارًا من أهل الوعي
على حال ل شك أ ّ
والتضحية ،ولم يكن للجهال والغدرة المشتتين كأهل الكوفة من قدرة للستعانة بهم في إزالة الظلمات وتسوية
العوجاجات ،وهذا داء دوي عرض لمام عادل وشجاع كعلي بن أبي طالب )عليه السلم(.
—–
» .1أظأر« :من مادة »ظأر« على وزن ضرب تعني في الصل المراقبة والمواظبة على الشيء ولما كان عمل القابلة الرضاع
ومراقبة الطفل فقد استعملت هذه المفردة لها.
» .3وعوعة« :بمعنى الضراخ والضجة والزئير ،وتطلق على الموات المتداخلة.
» .4اطلع« :لها معنى اللزم وهو الطلوع والظهور وكذلك معنى المتعدي ،وهنا بالنظر لسرار مفعولها فقد وردت متعدية ،والباء في
بكم للستعانة أو السبب.
» .5سرار« :من مادة »سر« تعني في الصل آخر ليلة من الشهر »ليلة المحاق التام( ويراد بها شّدة الظلمة.
] [ 267
أشرنا سابقًا إلى إبتلء المام )عليه السلم( بالصحاب الذين اعتادوا الحياة المرفهة والدعة والراحة ،وقد اعتمدوا
مختلف الذارئع للهروب من الجهاد ومقاتلة العدو ،وقد سعى المام )عليه السلم(جاهدًا لتطهير روحيتهم من هذه
الدران عن طريق الحث والتشجيع تارة واللوم والعتاب والذم تارة أخرى.
وقد أشار في هذه الخطبة إلى نقاط ضعفهم ليخلصها في ثلث هى الختلف و التشتت وغياب العقل والهروب
من الواقع ،ثم صّرح إثر ذلك :كيف يمكن تطهير المجتمع من رواسب بني أمية وعناصرهم المنافقة المتبقية من
عصر الجاهلية وإقامة الحق وتسوية العوج ،وأنتم بهذه الحوال.
وكما أراده المام )عليه السلم( في هذه الخطبة قانون كلي دائم يحكم كل عصر ومصر ويصدق في المشاريع
لمة المتحدة الواعية التي تستقبل الحق وتعمل به مهما كان مريرًا.
السياسية والجتماعية والعسكرية ،وهى ا ُ
—–
] [ 268
] [ 269
القسم الثاني
ن ِلَنِرَد
طاِمَ ،ولِك ْ
حَ ل اْل ُ
ضو ِ ن ُف ُ ىء ِم ْ ش ْس َ ل اِْلتَما َ
طانَ ،و َسْل َسًة ِفي ُ ن ِمّنا ُمَناَف َ
ن اّلِذي َكا َ ك َتْعَلُم َأّنُه َلْم َيُك ِ
»الّلُهّم ِإّن َ
ك .الّلُهّم ِإّني حُدوِد َ
ن ُ طَلُة ِم ْكَ ،وُتَقاَم اْلُمَع ّعَباِد َ
ن ِ
ن ِم ْ ظُلوُمو َ
ن اْلَم ْ
كَ ،فَيْأَم َلِد َح ِفي ِب َ لَ صَ ل ْ ظِهَر ا ِْ كَ ،وُن ْ ن ِديِن َ اْلَمَعاِلَم ِم ْ
لِة«. صَ ل)صلى ال عليه وآله( ِبال ّ لا ّ سو ُ ل َر ُسِبْقِني ِإ ّ
بَ ،لْم َي ْ
جا َ سِمَع َوَأ َبَ ،و َ ن َأَنا َ
ل َم ْ َأّو ُ
—–
الشرح والتفسير
بّين المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة أهداف الحكومة السلمية ـ ومنها حكومته ـ بعبارات غاية
ك َتْعَلُم َأّنُه َلْم َيُك ِ
ن في الروعة والدقة ليضمنها دروسًا خالدة لجميع الحّكام المؤمنين والمخلصين فقال» :الّلُهّم ِإّن َ
طاِم«.
حَ
ل اْل ُ
ضو ِ
ن ُف ُ
ىء ِم ْ
ش ْ
س َ
ل اِْلتَما َ
طانَ ،و َ
سْل َ
سًة)ِ (1في ُ
ن ِمّنا ُمَناَف َ
اّلِذي َكا َ
لمة على الخلفة ،أو إشارة إلى المعارك التي وقعت بينه رّبما كانت هذه العبارة إشارة إلى أصل قبول بيعة ا ُ
وبين العداء في صفين وأمثالها ،وهى تعكس الهداف الرئيسية لحّكام الستبداد الذين يهدفون إلى أمرين:
الحصول على المنصب مهما كان الثمن والستيلء على الموال أينما كانت ومن أي كان ،والواقع ليس ذلك
سوى حب الجاه وحب المال الذي ساد تاريخ البشر واجتاح حتى الحكومات المستبدة ،وقد أثبت المام )عليه
السلم( عمليًا ما قال ،فقد
» .1منافسة« :تعني في الصل سعي فردين يريد كل منهما الظفر بشيء نفيس يمتلكه الخر ،فالواقع هى مسابقة شريفة بين فردين
من أجل بلوغ كمال من الكمالت ،ولكن قد تستعمل هذه المفردة في الموارد السلبية ،كما تستعمل بشأن الفراد الذين يتسابقون من
أجل نيل المال والمقام ،والمراد بها في الخطبة المعنى الثاني.
] [ 270
اشترط على المام )عليه السلم( من قبل الشورى التي عينها عمر نيل الخلفة شريطة النحراف عن مسار
رسول ال )صلى ال عليه وآله( فلم يستجب المام )عليه السلم( كما وقف بقّوة بوجه طلحة والزبير وما قدماه
من اقتراح ليس بصواب ،كيف يستجيب لهما المام )عليه السلم( هو يرى الدنيا كعطفة عنز ،ثم بّين المام
ك،
لِد َ
ح ِفي ِب َ
لَ
صَل ْ
ظِهَر ا ِْ
كَ ،وُن ْ
ن ِديِن َ
ن ِلَنِرَد) (1اْلَمَعاِلَم ِم ْ
أهدافه الربعة من أجل قبول الحكومة وهىَ» :ولِك ْ
ك«. حُدوِد َن ُ طَلُة ِم ْ
كَ ،وُتَقاَم اْلُمَع ّ
عَباِد َ
ن ِ
ن ِم ْ
ظُلوُمو َ
ن اْلَم ْ
َفَيْأَم َ
فالواقع أشار المام )عليه السلم( في العبارات الربع التي أوردها كدافع أصلية لقبول البيعة ،إلى برامجه
المعنوية في الحكومة ومشاريعه المادية والظاهرية ،فلبّد في الدرجة الولى من إعادة معالم الدين التي تعين
للناس مسيرتها نحو ال سبحانه وقد اندثرت بفعل الحكومات المستبدة ،ومن ثم الصلحات في كافة الشؤون
الجتماعية والسياسية والقتصادية والخلقية ،ونصرة المظلوم من الظالم وإجراء الحدود اللهّية بحيث يشعر
المظلومون بالمن والستقرار حقًا ،وإن كان هذه الهداف الربعة هى مراد الحكومات لعاشت المجتمعات
السعادة والمادية والمعنوية ،وإن كان هدفهم الحصول على المناصب ونيل الموال والثروات ،فليست هناك من
نتيجة سوى الفساد والظلم وتعطيل الحدود اللهّية ومحو الخلق والدين ،وهذا بحّد ذاته درس لجميع المسلمين
في كافة الزمنة والعصور ،وهذه هى المور التي ذكرها القرآن الكريم كأهداف لبعثة النبياء وتشكيل الحكومة
لّمّيي َ
ن ث ِفي ا ُْ السلمية ،فقد ذكر التعليم والتهذيب والنجاة من الظلل المبين كهدف للبعثة فقالُ) :هَو اّلِذي َبَع َ
لل ُمِبين() ،(2كما ذكر ضَ ل َلِفي َ ن َقْب ُ ن َكاُنوا ِم ْ حْكَمَة َوِإ ْ ب َواْل ِ
عَلْيِهْم آَياِتِه َوُيَزّكيِهْم َوُيَعّلُمُهْم اْلِكَتا َ
سول ِمْنُهْم َيْتُلو َ َر ُ
ب َواْلِميَزا َ
ن ت َوَأْنَزْلَنا َمَعُهْم اْلِكَتا َ
سَلَنا ِباْلَبّيَنا ِ
سْلَنا ُر ُ
في موضع آخر هذا الهدف المتمثل ببسط العدل والقسطَ) :لَقْد َأْر َ
لةَ َوآَتْوا الّزَكاَة َوَأَمُروا ِباْلَمْعُرو ِ
ف صَ ض َأَقاُموا ال ّ لْر ِ ن َمّكّناُهْم ِفي ا َْ ن ِإ ْ
ط ،(3)(...كما قال) :اّلِذي َ سِس ِباْلِق ْ
ِلَيُقوَم الّنا ُ
لُموِر().(4 عاِقَبُة ا ُْ
ل َ ن اْلُمْنَكِر َو ِ عْ َوَنَهْوا َ
ن هذه المفردة »لَنِرَد« من مادة وورد قد وردت خطأ في نسخة نهج البلغة لصبحي والصحيح لنرد بالتشديد من مادة الرد
.1يبدو أ ّ
بمعنى العادة ،كما وردت كذلك في أغلب نسخ نهج البلغة.
] [ 271
ثم إختتم المام )عليه السلم( هذا المقطع من الخطبة بذكر شهادة واضحة على صدق قوله بالنسبة لداوفعه في
ل )صلى ال عليه وآله( لا ّ
سو ُ
ل َر ُ
سِبْقِني ِإ ّ
بَ ،لْم َي ْ
جا َ
سِمَع َوَأ َ
بَ ،و َ
ن َأَنا َ
ل َم ْ
قبول البيعة فقال» :الّلُهّم ِإّني َأّو ُ
لِة«.
صَِبال ّ
ن السلم كان غريبًا آنذاك ،والرسول لوحده وليس إلى جانبه سوى خديجة )عليها السلم( زوجته إشارة إلى أ ّ
الوفية ،فكان الجهر بالسلم إزاء المشركين المتعصبين غاية في الخطورة ،فقد بايع رسول ال )صلى ال عليه
وآله( وإنقاد له ،فكان أول من إلتحق به ،ولم يكن هّمه سوى طاعة ال سبحانه وإحياء الحق والتوحيد والعدل،
ومازال ذلك الهدف هوالدافع له من أجل قبول البيعة.
ليس هناك من خلف بين علماء الفريقين بشأن خديجة على أّنها أول إمرأة أمنت بالنبي الكرم )صلى ال عليه
ن عليًا )عليه السلم( أول من آمن به من الرجال ،وإن تذرع البعض من علماء العاّمة بصغر سن علي
وآله( وأ ّ
حين أمن ،ليسقطوا عنه تلك الفضيلة ويلصقوها بالخرين ،ولكن يتضح خواء هذه الذريعة من خلل قبول النبي
الكرم )صلى ال عليه وآله( لسلم علي )صلى ال عليه وآله( وأبعد من ذلك تسميته بوصّيه في يوم الدار).(1
—–
.1ورد شرح إسلم علي )عليه السلم( وأّنه أول من أسلم في أغلب مصادر الفريقين والرد على التخرصات في المجلد الثالث من هذا
الكتاب ،والمجلد التاسع ،ص 326من نفحات القرآن.
] [ 272
] [ 273
القسم الثالث
لَ ،فَتُكو َ
ن خي ُ
ن اْلَب ِسِلِمي َحَكاِمَ ،وِإَماَمِة اْلُم ْلْ ج َوالّدَماِء َواْلَمَغاِنِم َوا َْعَلى اْلُفُرو ِ ن اْلَواِلي َ ن َيُكو َ ل َيْنَبِغي َأ ْ
عِلْمُتْم َأّنُه َ
»َوَقْد َ
خَذ َقْومًا ُدو َ
ن ل َفَيّت ِ
ف ِللّدَو ِ حاِئ ُل اْل َ
جَفاِئِهَ ،و َطَعُهْم ِب َجاِفي َفَيْق َ
ل اْل َ
جْهِلِهَ ،و َ
ضّلُهْم ِب َ
ل َفُي ِجاِه ُ ل اْل َ
ِفي َأْمَواِلِهْم َنْهَمُتُهَ ،و َ
لّمَة«. ك ا ُْ سّنِة َفُيْهِل َ
ل ِلل ّ
طُل اْلُمَع ّطِعَ ،و َ ن اْلَمَقا ِف ِبَها ُدو َقَ ،وَيِق َ
حُقو ِ ب ِباْل ُحْكِم َفَيْذَه َشي ِفي اْل ُ ل اْلُمْرَت ِ َقْومَ ،و َ
—–
الشرح والتفسير
خاض المام في المقطع الخير من الخطبة في بيان خصائص ولة العدل ودعاة الحق حيث أشار إلى ست
صفات من صفاتهم ،وهكذا يختتم هذه الخطبة التي أوردها بشأن الحكومة السلمية ،والحذير بالذكر أنه استهل
الكلم بالعبارة »وقد علمتم« حيث يرى اللتزام بهذه الصفات من المور العقلية الواضحة والمسلمة التي يعرفها
عَلى
ن اْلَواِلي َ
ن َيُكو َ
ل َيْنَبِغي َأ ْ
عِلْمُتْم َأّنُه َ
كل شخص ،أو على القل ينبغي معرفتها من كل شخص ،فقالَ» :وقَْد َ
ن ِفي َأْمَواِلِهْم َنْهَمُتُه).«(1 لَ ،فَتُكو َ
خي ُ
ن اْلَب ِ
سِلِمي َ
حَكاِمَ ،وِإَماَمِة اْلُم ْ
لْج َوالّدَماِء َواْلَمَغاِنِم َوا َْ
اْلُفُرو ِ
ن هذه المور تشكل أصول الحياة الفردية والجتماعية للناس وهى الفروج ،والرواح ،والموال، والواقع هو أ ّ
والقوانين ،وإدارت الدولة التي ينبغي لللمام المدّبر والواسع الفاق والعادل المنصف أن يؤّدي حقوقها جميعًا،
فتأمن الّمة على أرواحها وأموالها وأعراضها،
» .1النهمة« :تعني في الصل الحاجة وشّدة الحب لشيء والمبالغة في الحرص عليه.
] [ 274
لمة وإمامتها إلى الصالحين من أفرادها ،فان كان إمام الخلق بخيلً
وتطبق القوانين والحكام وتوكل زعامة ا ُ
اقتصرت هّمته وشهوته على جمع الموال وضحى بكل شيء من أجل بلوغ هذا الهدف ،فل من أمن واستقرار،
ول من احترام للقوانين والحكام.
ن العلم بالحكام
جْهِلِه« ،فل شك أ ّ
ضّلُهْم ِب َ
ل َفُي ِ
جاِه ُ
ل اْل َ
ثم قال )عليه السلم( في بيان الصفة الثانيةَ» :و َ
والموضوعات والساليب الصحيحة تعّد من أهم دعائم الحكومة وليس للجّهال من الفراد قدرة إدارة شؤون
لمة إلى المجهول بجهلهم. الحكومة وإن صفت نّيتهم واتصفوا بالورع و التقوى ،فهم يقودون ا ُ
طِع)
ن اْلَمَقا ِ
ف ِبَها ُدو َ
قَ ،وَيِق َ
حُقو ِ
ب ِباْل ُ
حْكِم َفَيْذَه َ
شي ِفي اْل ُ
ل اْلُمْرَت ِ
ثم قال )عليه السلم( في الصفة الخامسةَ» :و َ
،«(5فأهم عامل للحكم بالظلم والجور هو الرشوة التي يقدمها أصحاب الثراء والقدرة فيغيرون مسار القضاء
ليصدر أحكامه لصالحهم ضد أصحاب الحق فيحولون دون إجراء الحق والعدل.
» .1الجافي« :من مادة »جفاء« تعني قي الصل العنف وأخذ الشيء.
» .3الحائف« :من مادة »حيف« بمعنى الظلم والجور وتعني في الصل النحراف في الحكم التمييز.
» .5المقاطع« :جمع »مقطع« بمعنى أخر كل شيء ،كما تطلق هذه المفردة أحيانًا على الحدود اللهّية التي تنتهي بجرم المجرمين
ن القاضي إن كان مرتشيًا فاّنه ل يأذن باجراء حدود ال تعالى. وقد وردت بهذا المعنى في العبارة ،وفي إشارة إلى أ ّ
] [ 275
ل فالقوياء يحفظون حقوقهم ،وإن تسللت هذه الرشوة إلى طبعًا فلسفة القوانين والمحاكم حفظ حقوق الضعفاء ،وإ ّ
المحكمة ونفذت إلى ذهن القاضي والتي ل يقوى على دفعها سوى الثرياء والقوياء ،فعندما تسلب قدرة الضعفاء
على الدفاع فتضيع حقوقهم ،وهذا هو المر الذي نشهده في كافة أنحاء عالمنا المعاصر ،ومن الضروري اللتفات
ل أخرى كتصفية الحسابات السياسيةن الرشوة ل تقتصر على الجانب المالي ،فقد تتخذ أشكا ً
إلى هذه النقطة أ ّ
والوصول إلى المناصب والمقامات والشهوات الجنسية والمدح الكاذب وأمثال ذلك ،وهكذا تتحرك عجلة المحكمة
باتجاه الظلم والجور.
—–
آفة الحكومات
كما ورد في بداية هذه الخطبة ،فهى تتألف في الواقع من ثلثة أقسام مرتبطة مع بعضها تمامًا ،الول ذم المام
)عليه السلم( القوى الجاهزة التي ينبغي لها أن تنشط في إقامة الحق والعدل ،لكّنها عاشت الضعف والجز بفعل
الختلف وعدم توظيف العقل والفكر ،ثم أشار إلى أهداف ودوافع حكومة العدل السلمية والنسانية ،بينما ذكر
آخر الخطبة الركان الصلية لمواصفات حّكام العدل ،طبعًا إن كانت القوى المؤمنة والمتحدة من جانب،
ن ذلك سيؤّدي إلى والهداف والدوافع المقّدسة والوالي الذي يتحلى بالصفات الست المذكورة من جانب آخر ،فا ّ
قيام حكومة من شأنها حفظ المن والستقرار وإحياء القيم النسانية ،وبالعكس لو:
] [ 276
وخاض الحّكام في البذخ ونهب الموال والثروات والتمييز والظلم والجور ،وتسللت الرشوة إلى الجهاز
القضائي ،وعطلت السنن الحسنة ،فتتأسس حكومة فاسدة ينعدم فيها الدين كما تزول فيها الدنيا ...ويا له من درس
وعبرة لحّكام الحق–— .
] [ 277
الخطبة)132 (1
تشمتل هذه الخطبة كما ورد في عنوانها على المواعظ والرشادت والنصائح والوصية بالزهد في الدنيا ،وتتألف
من أربعة أقسام هى:
1ـ حمد ال والثناء عليه مع ذكر صفات ال سبحانه الخاصة والشهادة الخالصة للنبي )صلى ال عليه
وآله(بالنبوة.
2ـ إشارة إلى انتهاء الجل وسلخ النسان من كافة ممتلكاته التي حازها في الحياة الدنيا.
لمم السالفة ،وُاولئك الذين جمعوا الموال والثروات ،فكان عاقبة دورهم أن أصبحت
3ـ لزوم العتبار بحياة ا ُ
قبورهم ،كما خّلفوا للخرين أزواجهم وأموالهم.
—–
.1سند الخطبة:
نقلها بصورة متفرقة المدي ـ من علماء القرن الخامس ـ في كتاب »الغرر« ،ويفهم من اختلفها مع ما ورد في نهج البلغة أّنها
كانت في مصدر آخر غير نهج البلغة ،كما أشار ابن الثير المتوفى عام 606هـ في »النهاية« إلى جوانب من هذه الخطبة )مصادر
نهج البلغة .(2/298
] [ 278
] [ 279
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
صفات ال الخاصة
خَذ
عَلى َما َأ َ
حَمُدُه َ
استهل المام )عليه السلم( الخطبة بحمد ال والثناء عليه وذكر أوصافه الخاصة فقالَ» :ن ْ
عَلى َما َأْبَلى َواْبَتَلى«.
طى َ ،و َ
عََوَأ ْ
ن وفور النعمة سبب الغرور ن سلب النعمة قد يكون نفسه نعمة ،ل ّعلى كل حال يستفاد من العبارات المذكورة أ ّ
ن الحمد تجاه سلب النعم علمة على التسليم المطلق لمشيئةوالبتعاد عن ال ومقاطعة الخلق ،أضف إلى ذلك فا ّ
ال.
ثم أشار إلى ذكر ثلثة أوصاف أخرى من أوصاف ال سبحانه وتعالى والتي تشكل في
] [ 280
ضُر
حا ِ
خِفّية)َ ،(1واْل َ
ل َ
ن ِلُك ّ
طُالواقع تحذيرًا لكافة الفراد الذين يراقبون أنفسهم ونّياتهم فقال )عليه السلم(» :اْلَبا ِ
ن«.
ن اْلُعُيو ُ
خو ُ
صُدوُرَ ،وَما َت ُ
ن ال ّ
سِريَرة .الَعاِلُم ِبَما ُتِك ّ
ل َ
ِلُك ّ
ن علم ال سبحانه علم حضوري ،يعني أّنه حاضر وناظر في كل مكان، ل بوضوح على أ ّ فهذه الصفات تد ّ
فالخفيات والعلنيات لديه على حّد سواء ،والحضور والغياب عنده واحد ،فهو يعلم أسرار الصدور وخائنة العين،
وهو علم بباطن كل شخص وكل شيء.
ن العالم حاضر
ن النسان لو تأمل حقيقة الحمد والثناء وذكر هذه الصفات وأمن بها إيمانًا راسخًا لدرك أ ّ
حّقا إ ّ
عند ال تبارك وتعالى ،ول حضور في روحه وفكره ،ولما قارف السيئة ،بل لما فكر فيها.
ثم إختتم هذا المقطع من الخطبة بالشهادة ل بالوحدانية وللّنبي الكرم )صلى ال عليه وآله( بالنبوة ،فقال)عليه
ن،
علَ َ
لْ
سّر ا ِْ
ق ِفيَها ال ّ
شَهاَدةً ُيَواِف ُ
جيُبُه)[ (2نجّيه] َوَبِعيُثُه)َ (3
حّمدًا َن ِ
ن ُم َ
غْيُرُهَ ،وَأ ّ
ل ِإلَه َ
ن َ
شَهُد َأ ْ
السلم(َ» :وَن ْ
ن«.سا َ ب الّل َ
َواْلَقْل ُ
ن الشهادة بهذين الركنين الصليين الذين يشكلن أسس اليمان تدعو النسان إلى نفي معبود آخر وتحذر طبيعي أ ّ
من عبادة الشيطان وهوى النفس المارة ،كما تدعو الشهادة بالنبّوة إلى طاعة النسان لوامر النبي )صلى ال
عليه وآله( ،ول سّيما الشهادة التي ل تقتصر على اللسان بل تتعزز بالقلب وروح النسان.
—–
] [ 281
القسم الثاني
ل َيُغّرّن َ
ك حاِديِهَ .ف َ ل َ جَعَ عيِهَ ،وَأ ْ سَمَع َدا ِ
ل اْلَمْوتُ َأ ْ بَ .وَما ُهَو ِإ ّ ل اْلَكِذ ُق َ حّبَ ،واْل َ ل الّلِع ُجّد َل اْل ِ
و منَهاَ» :فِإّنُه َوا ّ
ل َأَمل طو َبـ ُ ن اْلَعَواِق َلَ ،وَأِم َ لَلْق َ
حِذَر ا ِْ ل َو َجَمَع اْلَما َ ن َك ِمّم ْن َقْبَل َ
ن َكا َ ت َم ْ
كَ ،وَقْد َرَأْي َسَ ن َنْف ِ
س ِم ْسَواُد الّنا ِ َ
طى ِبِه عَواِد اْلَمَناَياَ ،يَتَعا َ
عَلى َأ ْ ل َ حُمو ً ن َمْأَمِنِهَ ،م ْخَذُه ِم ْ طِنِهَ ،وَأ َ
ن َو َ عْجُه َ عَ ت َفَأْز َل ِبِه اْلَمْو ُ
ف َنَز َ
جل ـ َكْي َ سِتْبَعاَد َأ َ
َوا ْ
جَمُعو َ
ن شيدًاَ ،وَي ْ ن َم ِن َبِعيدًاَ ،وَيْبُنو َ ن َيْأُمُلو َ
لَ .أَما َرَأْيُتُم اّلِذي َ
لَناِم ِ
ساكًا ِبا َْب َوِإْم َعَلى اْلَمَناِك ِ ل َحْم ًلَ ، جا َل الّر َ جا ُالّر َ
ل ِفي
ن; َ
خِري َ
جُهْم ِلَقْوم آ َ
نَ ،وَأْزَوا ُ
ت َأْمَواُلُهْم ِلْلَواِرِثي َ
صار ْ
جَمُعوا ُبورًا; َو َ
ت ُبُيوُتُهْم ُقُبورًاَ ،وَما َ
ح ْ
صَب َ
ف َأ ْ
َكِثيرًا! َكْي َ
ن!«.سَتْعِتُبو َ
سّيَئة َي ْ
ن َ
ل ِم ْ
نَ ،و َ
سَنة َيِزيُدو َ
حََ
—–
الشرح والتفسير
نزول الموت؟
ن هذه الحياة الدنيا إلى زوال ولبّد من مفارقة حذر المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة الجميع في أ ّ
ق َ
ل حّ
بَ ،واْل َ
ل الّلِع ُ
جّد َ
ل اْل ِ
ل واللتحاق بالخرة وتحمل تبعات العمال فقالَ» :فِإّنُه َوا ّ ل أم آج ً هذه الدنيا عاج ً
حاِديِه).«(2
ل َ
جَعَ
عيِه)َ ،(1وَأ ْ
سَمَع َدا ِ
ت َأ ْ
ل اْلَمْو ُ
بَ .وَما ُهَو ِإ ّ
اْلَكِذ ُ
ولما كان الموت حقيقة واقعة بالنسبة لجميع الفراد ،وقضية قطعية تأبى الجتناب ،فقد
» .2حادي« :من مادة »حداء« من يسوق الجمال بسرعة والعبارة فعل وفاعل ومفعول محذوف كالجملة السابقة.
] [ 282
أّكد المام )عليه السلم( كلمه بأنواع التأكيدات) ،(1والتي بلغت عشرة أنواع حسب قول بعض شّراح نهج
ن صوت داعي الموت يطرق الذن من كل جانب وقد دّوى صوت الرحيل ليمل كافة أرجاءالعالم، البلغة ،فقال أ ّ
وملك الموت ل يفرق بين كهل وشاب وطفل ،فقد كمن للجميع ول يتنظر سوى أمر ال ،ثم قال )عليه السلم(:
طو َ
ل بـ ُن اْلَعَواِق َ
لَ ،وَأِم َ
لَلْق َ
حِذَر ا ِْ
ل َو َ
جَمعَ اْلَما َ
ن َ ك ِمّم ْن َقْبَل َ
ن َكا َ
ت َم ْ
كَ ،وَقْد َرَأْي َ
سَ ن َنْف ِ
س ِم ْ
سَواُد الّنا ِ
ك َ ل َيُغّرّن َ»َف َ
ن َمْأَمِنِه« ،يمكن أن يكون للعبارة »َف َ
ل طِنِهَ ،وَأخََذُه ِم ْن َو َعْ جُه)َ (2 عَت َفَأْز َ
ل ِبِه اْلَمْو ُف َنَز َ
جل ـ َكْي َسِتْبَعاَد َأ َ
َأَمل َوا ْ
س« ،معنيان: سَواُد الّنا ِ ك ََيُغّرّن َ
الول :إن رأيت الناس أحياء وسالمين فل يخدعك ذلك ول يغفلك من الموت.
فقد رسم المام )عليه السلم( صورة واضحة بهذه العبارات الصريحة والبليغة المؤثرة لكيفية نهاية حياة الثرياء
المرفهين والمغرورين بالجاه والمنصب ،ولسّيما حين يدركهم الموت المفاجىء ،فهى عبارات تمزق كافة
الحجب التي تسدل على عين النسان ،كما توقظ كل سامع من نوم غفلته.
ن َيْأُمُلو َ
ن ثم أضفى )عليه السلم( صورة أخرى على هذا المعنى مواصلة لكلمه فقالَ» :أَما َرَأْيُتُم اّلِذي َ
.1هذه النواع العشرة من التأكيد هى» :ان« وضمير الشأن »إن« اعتبرنا الضمير في »أّنه« ضمير الشأن والجملة السمية والقسم
بلفظ الجللة والجد واللف واللم التي دخلت عليه ول اللعب والحق ول الكذب والستفادة من الحصر في العبارة )ما هو إّل.(...
] [ 283
ت َأْمَواُلُهْم
صار ْ
جَمُعوا ُبورًا; َو َت ُبُيوُتُهْم ُقُبورًاَ ،وَما َح ْ
صَب َ
ف َأ ْ
ن َكِثيرًا! َكْي َجَمُعو َ
شيدًا)َ ،(1وَي ْ ن َم ِ
َبِعيدًاَ ،وَيْبُنو َ
ن!سَتْعِتُبو َ
سّيَئة َي ْ
ن َ
ل ِم ْ
نَ ،و َسَنة َيِزيُدو َ
حَ
ل ِفي َ ن; َخِري َجُهْم ِلَقْوم آ َ
نَ ،وَأْزَوا ُ ِلْلَواِرِثي َ
نعم ،يفيق النسان من نوم الغفلة حين يصفعه الجل ،وفي تلك اللحظة تغلق صحف العمال تمامًا ،فل من شيء
يمكن واضافته إلى الحسنات ،ول يمكن تقليل شيء من السيئات ،ولو سلب النسان حياته بينما بقيت صحف
ن المشكلة تكمن في غلق صحيفة العمال فل
لأّالعمل مفتوحة والسبيل مشرع أمام تداركها فل عقبة ول ضير ،إ ّ
مجال لتداركها ،وهذا ما يجعل النسان يعيش الهم والغم.
—–
» .1مشد« :من مادة »شيد« على وزن بيد ،لها معنيان :الول بمعنى الرتفاع والخر بمعنى الجص ومن هنا يطلق على القصور
المرتفعة والعالية التي تعانق السماء باقصور المشيدة ،كما تطلق على القصور المحكمة لتبقى محصنة من حوادث الدهر )في مقابل
مساكن المستضعفين التي تبنى عادة من الطين(.
] [ 284
] [ 285
القسم الثالث
ق َلُكْم
خَل ْ
ن الّدْنَيا َلْم ُت ْ
عَمَلَهاَ :فِإ ّ
جّنِة َ
عَمُلوا ِلْل َ
عَمُلُهَ .فاْهَتِبُلوا َهَبَلَهاَ ،وا ْ
شَعَر الّتْقَوى َقْلَبُه َبّرَز [َبرز ]َمَهُلُهَ ،وَفاَز َن َأ ْ
»َفَم ْ
ظُهوَر عَلى َأْوَفازَ .وَقّرُبوا ال ّ ل ِإَلى َداِر اْلَقَراِرَ .فُكوُنوا ِمْنَها َ عَما َ
لْجازًا ِلَتَزّوُدوا ِمْنَها ا َْ
ت َلُكْم َم َ
خِلَق ْ
ل ُ
َداَر ُمَقامَ ،ب ْ
ل [للّزوال]«. ِللّزَيا ِ
—–
الشرح والتفسير
خلص المام )عليه السلم( إلى نتيجة بعد مقدمات دقيقة أوردها في بداية ووسط هذه الخطبة بشأن علم ال بكل
شَعَر الّتْقَوى َقْلَبُه
ن َأ ْ
شيء سّيما بأعمال العباد ونّياتهم وكذلك قرب الموت والعتبار بحياة الماضين فقالَ» :فَم ْ
عَمُلُه«.
َبّرَز)َ[ (1برز ]َمَهُلُه)َ ،(2وَفاَز َ
ن التقوى إذا تجذرت في أعماق قلب النسان ظهرت ثمارها على يديه ولسانه وعينه وسمعه ،وذلكفمن الواضح أ ّ
ن التقوى ملكة نفسية تتمثل بخشية ال وهى الدافع القوي للتيان بالعمال الصالحة وحاجز عن الذنوب
لّ
والمعاصي.
ن هذه المفردة تكون أحيانًا على هيئة ثلثي مجّرد )على وزن
» .1برز« :من مادة »بروز« بمعنى الظهور والسبقة ،وتوضيح ذلك أ ّ
ضرب( بمعنى الظهور ،وأحيانًا أخرى من باب تفعيل )على وزن صّرف( بمعنى السبقة ،وقد استعملت في العبارة الثاني ،وإن وردت
بصيغة الثلثي المجرد في بعض النسخ.
» .2مهل« :له معنى السم المصدري وتعني الوفق والمداراة ،كما تستعمل بمعنى الفرصة للقيام بالعمل الصالح.
» .3هبل« :نعني أحيانًا الهلكة وفقدان الشيء أحيانًا ،وأخرى بمعنى الغنيمة والهتبال بمعنى الخدعة ،كما يعني الغتنام والستيلء
على شيء ،والمعنى الثاني هوالمراد بالعبارة.
] [ 286
الجّنة ل تعطى لحد بالمجان ،كما ل تتأتى من خلل الظن والتصور والخيال والزعم الفارغ ،فمفتاح الجّنة
العمال الصالحة ،والعمال الصالحة تنبعث من التقوى.
ق َلُكْم َدارَ
خَل ْ
ن الّدْنَيا َلْم ُت ْ
ثم قال )عليه السلم( في مواصلة لشرح وضع الدنيا والخرة ومنزلة كل جماعةَ» :فِإ ّ
ل ِإَلى َداِر اْلَقَراِر« ،فالنظرة السلمية التي تعرض لها القرآن عَما َ
لْجازًا ِلَتَزّوُدوا ِمْنَها ا َْ
ت َلُكْم َم َ
خِلَق ْ
ل ُ
ُمَقامَ ،ب ْ
ن الدنيا دار ممر وأّنها قنطرة وميدان للتدريب وبالتالي فهى متجر ومقدمة الكريم ونهج البلغة مرارًا تكمن في أ ّ
للخرة الموضوع الصلي للنسان ،وإن اعتمدنا هذه النظرة للدنيا آنذاك سيبدو لنا كل شيء بصيغة أخرى
وستحول دون مقارفتنا للذنب والظلم ،وتسوقنا نحو الخير والحسان.
أّما أتباع المدارس المادية التي ترى الدنيا ولذاتها هدفها النهائي ،وقد غفلت تمامًا عن الخرة ،فليس هناك من حد
لتلوثها بالذنوب والنزاعات من أجل الستحواذ على الموال والمناصب الظاهرية ،وعليه فل أمل في إطفاء غائلة
عَلى َأْوَفاز)
المعارك والنزاعات بينها ،وأخيرًا خلص المام إلى نتيجة رائعة عميقة المعنى فقالَ» :فُكوُنوا ِمْنَها َ
ن الوقت ضيق والموانع كثيرة وزمان الرحيل مجهول تمامًا، ل) ،«(2في إشارة إلى أ ّ
ظُهوَر ِللّزَيا ِ
َ .(1وَقّرُبوا ال ّ
ول ينبغي أن يقتصر التأهب على الكهول ،بل لبّد أن يعيش ذلك التأهب حتى الشباب على الدوام ،فما أكثر من
بقي من الباء الكهول والعجزة ،بينما رحل الشبان الشداء.
—–
نتيجة الخطبة
أشار المام في هذه الخطبة إلى أمور مهّمة يمكن إيجازها في ما يلي:
1ـ لفت النظار في بداية الخطبة إلى حضور ال سبحانه في كل مكان وعلمه بخفايا النسان وباطنه ،ليراقب
الجميع أعمالهم.
» .1أوفاز« :جمع »وفز« على وزن نبض السرعة والعجلة والستعداد للسفر.
» .2الزّيال« :بمعنى الفراق والعبارة »قربوا الظهور للزّيال« تعني أعدوا المراكب للرحيل من الدنيا ولزمة ذلك التيان بالعمال
الصالحة والتوبة من الذنوب وأداء حقوق المخلوق والخالق.
] [ 287
2ـ عّد الشهادة الحقيقة بالوحدانية للحق والنبوة للنبي )صلى ال عليه وآله( من العلم الذي ينسجم فيه الظاهر
والباطن وينفصل عن كل نفاق.
3ـ إلفات إنتباه الجميع إلى قرب الموت والرحيل عن الدنيا وهو سبب اليقظة والعلم.
4ـ دعى مخاطبيه لمطالعة تاريخ الماضين من خلل الكتب والثار التي خلفوها في المدن والمناطق ،ليعلموا أ ّ
ن
ذلك المصير ينتظرهم مهما كانوا ومهما بلغوا.
5ـ دعى الجميع إثر تلك المواعظ والرشادات إلى الروع والتقوى ،التقوى التي تخترق أعماق قلب النسان
وتظهر آثارها على جميع أفعاله وممارساته.
ل به.
6ـ يذّكر كافة مخاطبيه بهذه النقطة وهى عدم إعطاء الجّنة لحد دون حساب ،بل لها ثمن ل يبلغها العبد إ ّ
ن الدنيا ممر ول مقر ،متجر ينبغي للجميع التزود منه فيستعدوا في كل آن
7ـ يستعرض أخيرًا هذا المر في أ ّ
للرحيل والنطلق.
—–
] [ 288
] [ 289
الخطبة)133 (1
ظ الناس
ل سبحانه وَيذكر القرآن والنبي وَيع ُ
ظم ا ّ
ُيع ّ
يتضح من النظرة الجمالية إلى الخطبة أّنها تتألف من خمسة أقسام مهّمة هى:
القسم الول :يتحدث عن عظمة ال وقدرته المطلقة وسجود كافة المخلوقات لذاته المقّدسة.
القسم الثاني :إشارة إلى عظمة القرآن الكريم وخلوده.
القسم الرابع :الحديث عن تفاهة الدنيا ودعوة الجميع لليقظة والتعرف على الدنيا والتزود منها.
القسم الخامس :وعظ المخاطبين والعود على التذكير بالقرآن وعظمته ولزوم التدبر في آياته ،وهكذا يعرض
اطروحة كاملة لهل الحق لنيل السعادة.
.1سند الخطبة:
ن ما ورد في هذه الخطبة جزء اقتطفه لم يجد كاتب مصادر نهج البلغة سندًا آخر لهذه الخطبة ،سوى ما قاله ابن أبي الحديد من أ ّ
ل على أّنه أصل الخطبة وإن لم يشر إلى سندها ،ولكن يحتمل أن يكون كلم ابن أبي الحديد السيد الرضي من خطبة طويلة ،فيراه دلي ً
ن السيد الرضي بّين من خلل تعبيره »منها ومنها« والذي كرره في هذه الخطبة أّنه استنباطًا لهذه الخطبة في نهج البلغة ،ل ّ
ن أصل الخطبة طويل جّدا ،وقد ذكرها المدي في »الغرر« ويحتمل أّنه نقلها من مصدر آخر. ن عدم إرتباط أجزائها يفيد أ ّ
قطعها ،كما أ ّ
] [ 290
] [ 291
القسم الول
صا ِ
ل ل َ
ت َلُه ِباْلُغُدّو َوا ْ
جَد ْسَن َمَقاِليَدَهاَ ،و َ ضو َ لَر ُ ت َوا َْ
سمَوا ُت ِإَلْيِه ال ّ
خَرُة ِبَأِزّمِتَهاَ ،وَقَذَف ْ
لِت َلُه الّدْنَيا َوا ْ
»َواْنَقاَد ْ
ت ُأُكَلَها ِبَكِلَماِتِه اّلثَماُر اْلَياِنَعُة«.ضيَئَةَ ،وآَت ْ
ن اْلُم ِ
ضَباِنَها الّنيَرا َ ن ُق ْ
ت َلُه ِم ْ ح ْضَرُةَ ،وَقَد َجاُر الّنا ِشَ لْ ا َْ
—–
الشرح والتفسير
انقياد ما في الدنيا ل
خاض المام )عليه السلم( في هذا المقطع في بيان طائفة من أوصاف ال تبارك وتعالى ،وأشار بخمس عبارات
خَرُة ِبَأِزّمِتَها).«(1
لِت َلُه الّدْنَيا َوا ْ
إلى أمور دقيقة بهذا الشأن فقالَ» :واْنَقاَد ْ
ن المام )عليه السلم( شّبه الدنيا والخرة بالحيوانات السلسة والمروضة التي أسلمت زمامها فيقودها فالواقع هو أ ّ
ت ِإَلْيِه
حيث يشاء ،ثم قال )عليه السلم( في العبارة الثانية مؤّكدا ذات المعنى السابق بصيغة أخرىَ» :وَقَذَف ْ
ن َمَقاِليَدَها) ،«(2فهو يفتح ما يشاء ويغلق ما يشاء ويفعل كل ذلك على أساس الحكمة ،وأشار ضو َ لَر ُت َوا َْ
سمَوا ُ ال ّ
ل)
صا ِ
ل َ
ت َلُه ِباْلُغُدّو َوا ْ
جَد ْ
سَفي العبارة الثالثة إلى سجود الشجار والناضرة لذاته المقّدسة وقال )عليه السلم(َ» :و َ
ضَرُة«.
جاُر الّنا ِ شَ
لْ (3ا َْ
صبعًا التركيز على الشجار الناضرة ل يعني الحصر ،بل نموذج من أجمل الكائنات الحية
» .1أزمة« :جمع زمام اللجام.
ن أصلها» .2مقاليد« :قال أغلب أرباب اللغة مقليد وقال البعض الخر جمع مقلد بمعنى مفتاح ،وقال صاحب »لسان العرب« أ ّ
ن المعنى الول أنسب وأكثر إنسجامًا
فارسي كليد الذي يعني المفتاح ،كما قال صاحب »لسان العرب« تأتي أحيانًا بمعنى الخزائن إّل أ ّ
مع العبارة أزمة في الجملة السابقة وقذفت في هذه الجملة.
» .3غدو« :جمع »غدوة« بمعنى الصباح ،و»الصال« جمع أصل على وزن رسل وهى جمع من مادة أصل بمعنى العصر وآخر
النهار واعتبر بعض أرباب اللغة الصال والصل جمع أصيل.
] [ 292
لعالم الخليقة ،كما يشير الغدو والصال إلى جميع الوقات ،كقولنا إنا في خدمة نشر المبادىء السلمية ليل
ن() ،(1كماجَدا ِ
جِر َيس ُ
شَونهار ،أي في جميع الحوال والوقات ،ومن هنا أطلق القرآن الكريم القول) :والّنجِم وال ّ
يحتمل أن تكون آثار ال وعظمته أوضح في الشجار حين شروق الشمس وغروبها أكثر من أي زمان ،ويمكن
ن نظامها الدقيق يعكس علم خالقها وقدرته المطلقة ،كما يمكن أن يكون أن يكون هذا السجود بلسان الحال ،ل ّ
بلسان القال ،وبناءًا على تمتع كافة ذرات كائنات العالم بالعلم والشعور وتسبيحها ل سبحانه عن علم وسجودها
له.
ضيَئَة«.
ن اْلُم ِ
ضَباِنَها) (3الّنيَرا َ
ن ُق ْ
ت)َ (2لُه ِم ْ
ح ْ
وقال )عليه السلم( في العبارة الرابعةَ» :وَقَد َ
وهذا من عجائب القدرة اللهّية بأن يخلق مادة بين الماء والتراب تكون مركزًا للنور والضوء ،وذلك الضوء الذي
تحل من خلله أغلب مشاكل النسان.
—–
تتفق عبارات الخطبة التي تضمنت آثار التوحيد ال وعظمته وما ورد في اليات والقرآنية ،فقد ورد في موضع
ن() ،(5وفي موضع آخرَ) :لُه َمَقاِليُد حْكُم َوِإَلْيِه ُتْرجَُعو َخَرِة َوَلُه اْل ُ لِ لوَلى َوا ْ حْمُد ِفي ا ُْمن القرآن الكريمَ) :لُه اْل َ
ن ِفي
جُد َلُه َم ْ سُل َي ْ
نا َ
ن() ،(6وكذلكَ) :أَلْم َتَرى َأ ّ سُرو َ خا ِك ُهْم اْل َ ل ُأْوَلِئ َ
تا ِن َكَفُروا ِبآَيا ِض َواّلِذي َ لْر ِ ت َوا َْ
سَمَوا ِ
ال ّ
ب ،(7)(...وورد أيضًا) :اّلِذي جُر َوالّدَوا ّ
شَل َوال ّ جَبا ُ
جوُم َواْل ِ س َواْلَقَمُر َوالّن ُ
شْم ُ ض َوال ّلْر ِ ن ِفي ا َْ
ت َوَم ْسَمَوا ِ
ال ّ
» .2قدحت« :من مادة »قدح« على وزن مدح بمعنى ضرب الحجر بالسندان لتوليد شعلة النار والتي كانت شائدة سابقًا ،ثم وردت
بمعنى اشتعلت.
» .3قضبان« :جمع قضيب بمعنى عضن الشجرة وقضب على وزن نبظ بمعنى الفاكهة.
» .4يانعة« :من مادة »ينع« على وزن منع بمعنى نضج الفاكهة.
غْيرَ
شات َو َ جّنات َمْعُرو َ شَأ َ
ن() ،(1وقالَ) :وُهَو اّلِذي َأْن َ ضِر َنارًا َفِإَذا َأْنُتْم ِمْنُه ُتوِقُدو َخ َ لْجِر ا َْ
شَن ال ّل َلُكْم ِم ْ
جَع َ
َ
ن َثَمِرِه ِإَذا َأْثَمَر.(2)(...
شاِبه ُكُلوا ِم ْ
غْيَر ُمَت َ
شاِبهًا َو َ
ن ُمَت َ
ن َوالّرّما َ
خَتِلفًا ُأُكُلُه َوالّزْيُتو َ ع ُم ْل َوالّزْر َخَ
شات َوالّن ْ َمْعُرو َ
على كل حال كلما تأملنا آيات القرآن الكريم وخطب نهج البلغة كهذه الخطبة اتضحت لنا عظمة الحق تبارك
وتعالى وقدرته ونعمته فتثير الدنيا حس الشكر له لنرتوي من العين الصافية لفرات معرفته وتعرفنا على صفات
جماله وجلله.
—–
.1سورة يس . 80 /
] [ 294
] [ 295
القسم الثاني
عَواُنُه«.
ل ُتْهَزُم َأ ْ
عّز َ
ل ُتْهَدُم َأْرَكاُنُهَ ،و ِ
ت َ
ساُنُهَ ،وَبْي ٌ
ل َيْعَيا ِل َ
ق َ
طٌظُهِرُكْم َنا ِ
ن َأ ْ
ل َبْي َ
با ّ
منَهاَ» :وِكَتا ُ
—–
الشرح والتفسير
إعجاز القرآن
خاض المام )عليه السلم( في هذا المقطع القصير من كلمه بالحديث عن أهمّية كتاب ال القرآن الكريم ،وقد
ت َ
ل ساُنُهَ ،وَبْي ٌ
ل َيْعَيا)ِ (2ل َ
ق َ
طٌظهُِرُكْم)َ(1نا ِ
ن َأ ْ
ل َبْي َ
با ّ
أّدى حق المطلب بثلث عبارات قصيرة وبليغةَ» :وِكَتا ُ
عَواُنُه«.
ل ُتْهَزُم َأ ْ
عّز َ
ُتْهَدُم َأْرَكاُنُهَ ،و ِ
لولى إلى هداية القرآن في كل زمان ومكان وتحت أية ظروف ،وإن بدا صامتًا ،لكّنه تحدث فقد أشار في العبارة ا ُ
بمئة لسان ،وقد سمعه كل من جلس إليه ومنحه آذانًا صاغية ،فهو ل ينفك يلقن النسان دورس الحياة السعيدة،
ن تقادم الزمان ل يؤثر مطلقًا على حقائق القرآن الكريم،
ساُنُه« ،يمكن أن تكون إشارة إلى أ ّ
ل َيْعَيا ِل َ
والعبارةَ » :
وهو غض طري على الدوام كما صورته الخبار والروايات).(3
وأشار في العبارة الثانية إلى نقطة أخرى حفظ القرآن الكريم ،فكما يحفظ البيت المستحكم
ن الفراد إن أرادوا
» .1أظهر« :جمع »ظهر« كل شيء ،والتعبير بين أظهركم تعني في أغلب الموارد الدفاع عن الشيء ،وذلك ل ّ
الدفاع عن منطقة ولوا إليها ظهورهم وإلتفوا حولها واستقبلوا العدو ،ثم استعملت هذه المفردة حين يكون الشخص وسط جماعة
سواء دافعوا عنه أم لم يدافعوا ،وهذا هوالمعنى المراد بها في العبارة.
» .2يعيى« :من مادة »عي« على وزن حي بمعنى التعب والعجز ،وقال الراغب في المفردات تعني في الصل العجز الذي يعرض
لجسم النسان إثر كثرة المشي ،ثم اطلقت على كل تعب وعجز.
.3ورد هذا الكلم في حديث عن المام الصادق )عليه السلم( أّنه قال» :هو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة«
)بحار النوار .(2/280
] [ 296
ذا العمدة القوية أصحابه من مخاطر الحوادث والحرارة والبرودة والحيوانات الوحشية والعداء واللصوص،
ن القرآن الكريم يتكفل بحفظ أتباعه من النحراف والضلل ووسوسة الخناسين وإلقاءات الشياطين.
فا ّ
ب لنصرته ،وذلك ل ّ
ن ن قدرة النسان ل تقهر إن لذ بالقرآن وه ّ
وأشار في العبارة الثالثة إلى هذده الحقيقة وهى أ ّ
قدرة هداية القرآن تستند إلى قدرة ال سبحانه وقدرة ال قاهرة ل تغلب ،وبفعل مصداق الية الشريفةِ) :إ ْ
ن
ب َلُكْم ،(1)(...فمن تأيد بنصر القرآن لن يهزمه عدو.
غاِل َ
ل َ
ل َف َ
صْرُكْم ا ُ
َيْن ُ
—–
القرآن الناطق
ساُنُه«
ل َيْعَيا ِل َ
ق َ
طٌن »َنا ِ
لعل العبارة التي وردت في هذا المقطع من الخطبة والتي عّبرت عن القرآن الكريم بأ ّ
تشير هذا السؤال :كيف التوفيق بين هذه العبارة وما ورد عن المام في الخطبة 158بشأن القرآن إذ قال )عليه
عْنُه«.
خِبُرُكْم َ
ن ُأ ْ
قَ،وَلِك ْ
طَن َيْن ِ
طُقوُهَ ،وَل ْ
سَتْن ِ
نَ ،فا ْ
ك اْلُقْرآ ُ
السلم(» :ذِل َ
ن العبارات المذكورة تفسر بعضها البعض تتضج الجابة على هذا السؤال من أدنى دّقة وتأمل ،بعبارة أخرى فا ّ
ل يمكن ن كل تعبير ناظر لشيء ،مث ً
ن القرآن حين يعبر عن القرآن بالصامت والناطق فمفهوم ذلك أ ّ الخر ،ل ّ
القول :القرآن صامت من حيث الظاهر ،لكّنه في الواقع تحدث بصوت جلي بليغ ،أو أّنه صامت إزاء الفراد
السطحيين بينما ناطق هو تجاه العلماء المفكرين ،أو أّنه ناطق في مواصلة الطرق العملية الصولية ،أّما بالنسبة
لتطبيقها على مصاديقها استنباط الحكام الفرعية )كقضية التحكيم في حادثة معركة صفين( ،فيجب على
المجتهدين أن ينطقوا عنه ،ويمكن جمعها معًا في مفهوم جامع لكلم علي )عليه السلم( وسيأتي مزيد من
التوضيح في ذلك هذه الخطبة.
] [ 297
القسم الثالث
جاَهَد ِفي ا ّ
ل يَ ،ف َ
حَ
خَتَم ِبِه اْلَو ْ
لَ،و َ
سَنَ ،فَقّفى ِبِه الّر ُ
سِ
لْل ُ
ن ا َْ
لَ ،وَتَناُزع ِم َ
سِ
ن الّر ُ
ن َفْتَرة ِم َ
حي ِعَلى ِ سَلُه َ
منَهاَ» :أْر َ
ن ِبِه«.عْنُهَ ،واْلَعاِدِلي َ
ن َ اْلُمْدِبِري َ
—–
الشرح والتفسير
تحّدث المام )عليه السلم( في المقطع الول والثاني عن صفات ال سبحانه والقرآن الكريم ،ثم أشار هنا بعبارات
ن ال تعالى أرسله بالسلم بعد مّدة وفترة من قصيرة عميقة المعنى إلى النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( في أ ّ
حي ِ
ن عَلى ِ
سَلُه َ
الرسل السابقين حين كان النزاع قائمًا على قدم وساق بين الفراد في دفاع كل عن معتقده فقالَ» :أْر َ
ن«.
سِلْل ُ
ن ا َْ
لَ ،وَتَناُزع ِم َ
سِ
ن الّر ُ
َفْتَرة)ِ (1م َ
ن الحوادث التي تدور بين أتباع المذهب المختلفة بما فيهم عبدة
ن« ،إشارة إلى أ ّ
سِلْل ُ
ن ا َْ
فالعبارةَ» :تَناُزع ِم َ
الوثان وأهل الكتاب ومن ليس له دين وعقيدة ،لم تكن حوارات منطقية ذات محتوى فكري وعقلي ،بل كان كل
طر بعض اللفاظ بدافع التعصب لثبات أحقيقته ،بل كان هذا النزاع والختلف اللفظي أحيانًا مصدر معارك يس ّ
طاحنة وسفك دماء غزيرة.
ن رسول ال ي« ،فقد أشار المام إلى نقطتين :الولى أ ّ حَخَتَم ِبِه اْلَو ْ
لَ،و َ
سَثم قال )عليه السلم(َ» :فَقّفى)ِ (2بِه الّر ُ
ن مسرتهم بصورة كلية واحدة ،والثانية أّنه بلغ )صلى ال عليه وآله( واصل مسيرة النبياء الماضين ،وذلك ل ّ
ن)
عْنُهَ ،واْلَعاِدِلي َ
ن َ
ل اْلُمْدِبِري َ
جاَهَد ِفي ا ّ
بتعاليمهم الكمال وختم بهم النبّوة ،ثم إختتم كلمه )عليه السلم( بالقولَ» :ف َ
ِ (3بِه«.
» .1فترة« :وفتور تعني في الصل الهدوء والستقرار وتأتي أحيانًا بمعنى الضعف والفتور ،وتطلق على الفاصلة بين حركتين أو
حادثتين أو انقلبين ،ومن هنا عبروا بالفترة عن الفاصلة بين ظهور النبياء.
» .2قفى« :من مادة »قفا« بمعنى ظهر ،كما ورد بمعنى خلف الشيء في المجيىء.
» .3العادلين« :جمع »عادل« من مادة عدل على وزن فكر بمعنى المعادل والشبيه والمثيل وإن وردت من مادة عدل على وزن نظم
عنت العدالة ،ومن مادة العدول بمعنى النحراف والرجوع عن الشيء ،وعليه فالعادل على ثلثة معاني ،وأريد بها المعنى الول في
ن المعنى الول يتعدى عادة بالباء والمعنى الثالث بواسطة عن(.
الخطبة )لبّد من اللتفات إلى أ ّ
] [ 298
—–
] [ 299
القسم الرابع
ن الّداَر
صُرُهَ ،وَيْعَلُم َأ ّ
صيُر َيْنُفُذَها َب َ
شْيئًاَ ،واْلَب ِ
صُر ِمّما َوَراَءَها َ
ل ُيْب ِ
عَمى َ ، لْصِر ا َْ
منَهاَ» :وِإّنَما الّدْنَيا ُمْنَتَهى َب َ
عَمى َلَها ُمَتَزّوٌد«. لْ صيُر ِمْنَها ُمَتَزّوٌدَ ،وا َْ
صَ .واْلَب ِ
خ ٌ شا ِ
عَمى ِإَلْيَها َ
لْصَ ،وا َْ خ ٌشا ِ
صيُر ِمْنَها َ َوَراَءَهاَ .فاْلَب ِ
—–
الشرح والتفسير
أورد المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة كما ذكر ذلك الشارح البحراني عّدة نقاط لطيفة ورائعة رغم
عَمى« .ثم
لْصِر ا َْ
اقتضابها ،وقد لفت النظار إلى الصول التي تعد معالم حياة الفراد فقالَ» :وِإّنَما الّدْنَيا ُمْنَتَهى َب َ
ن الّداَر َوَراَءَها«. صُرُهَ ،وَيْعَلُم َأ ّ
صيُر َيْنُفُذَها َب َ
شْيئًاَ ،واْلَب ِ
صُر ِمّما َوَراَءَها َ
ل ُيْب ِ
أكمل ذلك بقولهَ » :
نعم ،فعّباد الدنيا وبسبب حّبهم وشغفهم بزخارف الدنيا وزبرجها كالمحبوس في سجن ل يرى سوى ما في داخل
السجن ،فأّما نظرهم ضعيف ،أو هناك حجب تحيط بأطرافهم ،أو كلهما ،وأّما دعاة الحق فنظرهم ثابت ول
حجاب لهم ،ومن هنا فهم يرون ببصيرتهم الثاقبة الدار الخرة منزلهم البدي الخالد بكل وضوح فليس لهم من هم
سواها والحق إننا عرفنا الدنيا كما هى تبع ذلك اليمان بالخرة ،وذلك لتعذر فهم الدنيا دون الخرة ،فهل خلق
الخالق الحكيم كل ما في هذا العالم الواسع ليعيش النسان هذه المّدة المعينة فيأكل ويشرب وينام ويصحو بالتالي
يموت ويوارى جثمانه الثرى ويدع النسيان؟ والحال بداية عمره كنهايته ممزوجة بالضعف والعجز ،ووسطه
الذي يمكن الستفادة منه مشوب بأنواعه المشاكل المصائب واللم والمعاناة؟ هل هناك حكيم يقوم بمثل هذا
العمل الطائش؟ ولذلك صّرح
] [ 300
ن().(1
غاِفُلو َ
خَرِة ُهْم َ
لِنا ْ
عْحَياِة الّدْنَيا َوُهْم َ
ن اْل َ
ظاِهرًا ِم ْ
ن َ
القرآن الكريمَ) :يْعَلُمو َ
عَمى ِإَلْيَها
لْ
صَ ،وا َْ
خ ٌ
شا ِ
صيُر ِمْنَها َ
وقال في النقطة الثانية التي تمثل في الواقع نتيجة بالنسبة للنقطة الولَ» :فاْلَب ِ
ص«.خ ٌشا ِ
َ
وبناءًا على هذا فقد استعمل الشاخص بمعنيين وما يصطلح عليه بالجنس التام ،المعنى الول من مادة شخوص
بمعنى الرحيل والمفارقة ،والمعنى الثاني التطلع وتصويب العين نحو موضع والتخلف عن الحركة ،وكأن العين
ن الشاخص هنا يعني تريد مغادرة الحدقة ،وللعبارة تفسير آخر اقتصر على ذكره شّراح نهج البلغة وهو أ ّ
الراحل غاية ما في المر تطلق حين يقال »منها شاخص« ،كما يقال »إليها شاخص« وهذا هو الفارق بين من
عَمى َلَها ُمَتَزّوٌد«.
لْ
صيُر ِمْنَها ُمَتَزّوٌدَ ،وا َْ
كانت له بصيرة والعمى ،وقال في النقطة الثالثة والخيرةَ» :واْلَب ِ
—–
التعامل مع الدنيا
ل لبّد منهناك على الدوام نظرتان يمتلكها النسان تجاه الدنيا ،فأتباع الديان السماوية يرون الدنيا بصفتها منز ً
التزود فيها إلى الخرة ،يبلغون مرادهم بواسطة هذا الزاد والمتاع وليس لهم من مراد سوى السعادة البدية
والفوز برضوان ال سبحانه وتعالى ،أّما أتباع المدرسة المادية )والمدارس التي تتفق معها( فهم ينظرون إلى
الدنيا على أّنها الهدف النهائي والغاية فيوظفون كافة طاقاتهم ويجندون قواهم من أجل الظفر بها ،وأحيانًا يتفق
ن الدنيا وسيلة لنيل الخرة ،إ ّ
ل أصحاب النظرة الولى في العمل مع أتباع النظرة الثانية ،يعني رغم اعتقادهم بأ ّ
ن عملهم يشير إلى نسيان ذلك العتقاد وتعاملهم مع الدنيا كهدف نهائي ومن هنا وردت أّ
] [ 301
ي ِفيُكْم
لَ ،فَقْد ُنوِد َ
حَمُكُم ا ّ
جّهُزوا ،ر ِ
تحذيرات أئّمة الدين التي تهدف ايقاظهم من الغفلة ،فيقولون أحيانًاَ» :ت َ
ل«).(1 حي ِ
ِبالّر ِ
ضّر َوَتُمّر«)
سَنِتِهم«) ،(2كما يقولون» :الدنياَ :تُغّر َوَت ُ
على أل ِ
ق َ
ن َلعر ٌ
عِبيُد الّدنيـا َوالّدي ُ
س َ
وأخرى يقولون» :الّنا ُ
.(3
وأخيرًا يقولون :إّنما الدنيا منتهى بصر العمى ،ول يبصر ما وراءها شيئًا والبصير ينفذها بصره ،ويعلم أ ّ
ن
الدار وراءها«.
—–
] [ 302
] [ 303
القسم الخامس
حًةَ .وِإّنَما
ت َرا َجُد ِفي اْلَمْو ِل َي ِ
حَياةَ َفِإّنُه َ
ل اْل َ
شَبُع ِمْنُه َوَيَمّلُه ِإ ّحُبُه َي ْ
صا ِ
ل َوَيَكاُد َيء ِإ ّ ش ْن َ
س ِم ْ
عَلُموا َأّنُه َلْي َمنَهاَ» :وا ْ
نَ ،وِفيَها ظْمآ ِي ِلل ّ
صّماِءَ ،وِر ّن ال ّلُذ ِ سْمٌع ِل ُْ
ن اْلَعْمَياِءَ ،و َ صٌر ِلْلَعْي ِتَ ،وَب َب اْلَمّي ِ
حَياٌة ِلْلَقْل ِ
ي َ
حْكَمِة اّلِتي ِه َ ك ِبَمْنِزَلِة اْل ِ
ذِل َ
ضهُ
شَهُد َبْع ُ
ضُه ِبَبْعضَ ،وَي ْ ق َبْع ُ طُ ن ِبِهَ ،وَيْن ِسَمُعو َن ِبِهَ ،وَت ْ
طُقو َن ِبِهَ ،وَتْن ِ
صُرو َ ل ُتْب ِ
با ّ سلَمُةِ .كَتا ُ الِغَنى ُكّلُه َوال ّ
عى ت اْلَمْر َ
ل ِفَيما َبْيَنُكْمَ ،وَنَب َ
عَلى اْلِغ ّ حُتْم َطَل ْ
صَ لَ .قِد ا ْ نا ّعِ حِبِه َ
صا ِ
ف ِب َ خاِل ُ ل ُي َ
لَ ،و َ ف ِفي ا ّ خَتِل ُل َي ْ
عَلى َبْعضَ ،و َ َ
ثَ ،وَتاَه ِبُكُم اْلُغُروُر، خِبي ُسَتَهاَم ِبُكُم اْل َ
لَ .لَقِد ا ْ
لْمَوا ِ
ب ا َْس ِ
لَ ،وَتَعاَدْيُتْم ِفي َك ْلَما ِبا ْح ّ عَلى ُ صاَفْيُتْم َ
عَلى ِدَمِنُكْمَ .وَت ََ
سُكْم«.سي َوَأْنُف ِعَلى َنْف ِن َ سَتَعا ُ
ل اْلُم ْ
َوا ّ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( في هذا المقطع إلى مسائل مهّمة وقضايا مختلفة ل يبدو أّنها مرتبطة مع بضعها ،ومن
ن هذه العبارات قطوف اختارها المرحوم السيد الرضي من خطبة طويلة هنا يعتقد بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
مرتبطة ،وذلك لّنه رآها أعظم فصاحة وبلغة ،وإلى هذا يعود سبب عدم رؤيتنا لرتباط واضح بينها ،ومع ذلك
فهناك حكمة بالغة تختزنها هذه العبارات ،فقد ساق في البداية تثبيتها من أجل لفت النظار إلى أهمّية العلم الذي
جُد
ل َي ِ
حَياَة َفِإّنُه َ
ل اْل َ
شَبُع ِمْنُه َوَيَمّلُه ِإ ّ
حُبُه َي ْ
صا ِ
ل َوَيَكاُد َ
يء ِإ ّ
ش ْ
ن َ
س ِم ْ
عَلُموا َأّنُه َلْي َ
يمثل حياة قلب النسان فقالَ» :وا ْ
حًة«.
ت َرا َ
ِفي اْلَمْو ِ
] [ 304
بعض اليات والروايات التي تصور راحة أولياء ال سبحانه في الموت ،ومن ذلك ما ورد في سورة الجمعةُ) :ق ْ
ل
ن() .(1وما ورد في
صاِدِقي َ
ن ُكنُتْم َ
ت ِإ ْ
س َفَتَمّنْوا اْلَمْو َ
ن الّنا ِ ن ُدو ِل ِم ْ
عْمُتْم َأّنُكْم َأْوِلَياُء ِ
ن َز َ ن َهاُدوا ِإ ْ
َيا َأّيَها اّلِذي َ
جّنُة َنِعيم().(2 ن َو َ حا ٌ
ح َوَرْي َن * َفَرْو ٌن اْلُمَقّرِبي َ
ن ِم ْ ن َكا َ سورة الواقعةَ) :فَأّما ِإ ْ
فمن الطبيعي أل يكره الموت من يرى نفسه على أعتاب الروح والريحان والجّنة المليئة بالنعم ،وقد ورد في
ل«) ،(3كما ورد هذا المعنى بعبارة أخرى عن المام ن ِلقاِء ا ِ
حٌة ُدو َ ن را َ
س ِللُمؤِم ِ
الحديث النبوي الشريفَ» :لي َ
ل«).(4عنَد ِلقاءر ا ِ
ل ِ
حِقيَقِة إ ّ
عَلى ال َ
ن َ
حَة ِللُمؤِم ِ
الصادق أّنه قال» :ل را َ
حياةَ ِزيـاِدًَة ِلي ِفيوجاء في الدعاءالمعروف للمام علي بن الحسين )عليهما السلم( في يوم الثلثاءَ» :واجّعل ال َ
ن هذه العبارة شر« .وقد ذكرت عّدة أجوبة على هذا السؤال أوضحها جميعًا أ ّ ل َ ن ُك ّحًة ِلي ِم ْ خير َوالَوفـاَة را َ
ل َُك ّ
إشارة إلى الناس الذين يهربون عادة من الموت ،بينما ليس لمر كذالك بالنسبة لخواص ال سبحانه ،كما يحتمل
أن يكون المراد كراهة حتى أولياء ال تعالى للموت بفضله نهاية التزود ومواصلة مسيرتهم التكاملية ،على كل
حال فقد أراد المام علي )عليه السلم( هذه المقدمة على أّنها نتيجة وتشيبه للعلم والمعرفة التي يرتوي منها
لُذ ِ
ن سْمٌع ِل ُْ
ن اْلَعْمَياِءَ ،و َ
صٌر ِلْلَعْي ِ
تَ ،وَب َ
ب اْلَمّي ِ
حَياٌة ِلْلَقْل ِ
ي َ
حْكَمِة اّلِتي ِه َ
ك ِبَمْنِزَلِة اْل ِ
النسان مطلقًا فقالَ» :وِإّنَما ذِل َ
سلَمُة«. ن)َ ،(6وِفيَها الِغَنى ُكّلُه َوال ّ ظْمآ ِ ي)ِ (5لل ّصّماِءَ ،وِر ّ
ال ّ
فالواقع أراد المام )عليه السلم( أن هناك نوعين من الحياة حياة مادية وجسمانية والتي ل يشبع منها الناس غالبًا،
والحياة المعنوية والروحانية والفضل منها العلم والمعرفة التي ل يرتوي منها العقلء والعلماء قط ،وبناءًا على
ن المشار إليه »ذلك« بالضبط هو ذلك الشيء الذي ورد هذا فا ّ
» .6الضمآن« :من مادة »ظمأ« على وزن طمع بمعنى العطش.
] [ 305
قبل ذلك وهو الحياة المادية التي ل يشبع منها الناس ،والغريب هنا كما أورده شّراح نهج البلغة حيث ذكر كل
ل للعبارة المذكورة ،الحال تفسيرها واضح وهو يشبه ما ورد في إحدى قصار الكلمات واحد منهم احتما ً
ب ُدْنَيا«).(1
طاِل ُ
عْلم َو َ
ب ِ
طاِل ُ
نَ :
شَبَعا ِ
ل َي ْ
ن َ
لميرالمؤمنين علي )عليه السلم( إذ قالَ» :مْنُهوَما ِ
على كل حال فالمراد بالحكمة في العبارة المذكورة هو العلم والمعرفة التي تقرب النسان من ال وتنظم أموره
ن الخير الكثير يعود
المادية والمعنوية وتحول دون أعماله العبثية ،وبعبارة قصيرة كما وردت في القرآن الكريم فا ّ
خْيرًا َكِثيرًا.(2)(...
ى َ
حْكَمَة َفَقْد ُأوِت َ
ت اْل ِ
ن ُيْؤ َ
إلى صاحبهَ) :وَم ْ
وقد يبّين المام )عليه السلم( في عبارته المذكورة العميقة المعنى الوصاف الخمسة للحكمة وكشف عن منزلتها
ن الرواح والفكار التي تصبحن الحكمة حياة القلب الميت ،يعني أ ّ لإّفي حياة النسان المادية والمعنوية ،فقال أو ً
ل العلم والحكمة فتحيا وتمارس
بفعل الجهل كالموات خالية من أية حركة إيجابية ،إّنما تعود إلى الحياة في ظ ّ
الحركة.
ن الحكمة تبصر العمى وتسمع الصم وتوضح الحقائق لمن غطت الحجب بصره وأثقل الوقر أذنه، وثانيًا وثالثًا أ ّ
بحيث يرى الحق في كافة أنحاء الخلق ويسمع نداء تسبيح الكائنات ويدرك رسالته أولياء ال سبحانه ،وقال في
ن عطشى الحق ل يرتوون من منابع الحكمة ويجدون فيها أسباب عافيتهم وسلمتهم، الوصف الرابع والخامس أ ّ
ل وقد اختزنته الحكمة.
وعليه فلن يبقى من الخير والبركة والسعادة شيئًا إ ّ
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه بالحديث عن القرآن الكريم والذي يراه بعض شّراح نهج البلغة أّنه جمل
استئنافية قطع إرتباطها بالعبارات السابقة بسبب ما اعتمده السيد الرضي في النتخاب) ،(3ولكن كما أورد
ن ليس هناك إرتباط بين هذه العبارات وسابقاتها حيث بّينت أحد منافع
المرحوم البحراني فاّنه ل يمكن القول أ ّ
الحكمة المهّمة وهى القرآن الكريم ،أو بعبارة
.3هذا الحتمال مختار ابن أبي الحديد والمرحوم الشارح الخوئي ومحمد عبده.
] [ 306
ن الوصاف التي بّينتها للقرآن تشبه الوصاف أخرى قد رّكزت على المصداق التام للحكمة ،والجدير بالذكر أ ّ
التي بّينتها العبارات المذكورة للحكمة ،على كل حال فقد قال كتاب ال الذي تبصرون به الحقائق وتتحدثون به،
وتسمعون به ينطق بعضه البعض الخر )وتفسر فيه المتشابهات على ضوء المحكمات( ويشهد بضعه على
ل
با ّ
البعض الخر )ويؤيد بعضه الخر( ول يختلف ما يقوله في ال ،ومن يصحبه ل يخلف الِ» :كَتا ُ
ل«.
ف ِفي ا ّ
خَتِل ُ
ل َي ْ
عَلى َبْعضَ ،و َ
ضُه َ
شَهُد َبْع ُ
ضُه ِبَبْعضَ ،وَي ْ
ق َبْع ُ
طُن ِبِهَ ،وَيْن ِ
سَمُعو َ
ن ِبِهَ ،وَت ْ
طُقو َ
ن ِبِهَ ،وَتْن ِ
صُرو َ
ُتْب ِ
والوصاف السبعة التي بّينها المام )عليه السلم( بشأن القرآن تشبه من جهات الوصاف الخمسة التي بّينها
بصورة كلية بخصوص الحكمة.
ن اليات اللهّية ودلئل الحق قد وردت بكثرة في القرآن الكريم بحيث يسع النسان بواسطتها ومّما ل شك فيه أ ّ
ضُه ِبَبْعض«
ق َبْع ُ
طُرؤية جمال الحق ويسمع نداء ال تبارك وتعالى ،وهناك فارق واضح بين العبارةَ» :يْن ِ
ن الحديث في العبارة الولى عن آيات القرآن التي يفسر بعضها البعض، عَلى َبْعض« ،ل ّضُه َ
شَهُد َبْع ُ
والعبارةَ» :ي ْ
ل منها يعاضد وتتضح المتشابهات في ظل المحكمات ،وأّما العبارة الثانية فتتحدث عن إنسجام آيات القرآن وك ّ
ل« ،إشارة إلى عدم اختلف القرآن الكريم في بيان ف ِفي ا ّ خَتِل ُ
ل َي ْ
الخرى وتشهد على صدقها ،وبالعبارةَ» :و َ
صفات الجمال والجلل والتي تعّد من أهم مباحث القرآن الكريم ،ويتحدث بجميع أياته عن تلك الذات المقّدسة
ن أي من آيات القرآن ل« .إشارة إلى أ ّ نا ّ
حِبِه عَ ِ
صا ِ
ف ِب َ
خاِل ُ
ل ُي َ
الجامعة لكافة الكمالت اللمتناهية ،والعبارةَ» :و َ
ل تبعد النسان عن مسار الحق ،بل
] [ 307
ن اْلُقْرآ َ
ن ل َيَتَدّبُرو َ
تأخذ بيده إليه ،فمن تمسك بالقرآن لن يضل أبدًا ،ومن رجاه ل يخيب ،فالقرآن يعّرف نفسهَ) :أَف َ
لفًا َكِثيرًا().(1
خِت َ
جُدوا ِفيِه ا ْ
ل َلَو َ
غْيِر ا ِ
عْنِد َ
ن ِ
ن ِم ْ
َوَلْو َكا َ
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه كطبيب حاذق وحكيم ماهر فخاض في بيان معاناة مخاطبيه المعنوية وقد
ذكرهم بنقطة مهّمة ،كيف ولم عجزتم عن مواصلة سبيل الحق وعندكم هذا القرآن ـ وعليه ل يبدو صوابًا ما
أورده شّراح نهج البلغة من عدم إرتباط العبارات اللحقة بالعبارات السابقة ،فقال بادىء المر كأّني بكم قد
عَلى ِدَمِنُكْم)
عى َ ت اْلَمْر َ
ل)ِ (2فَيما َبْيَنُكْم« .ثم قالَ» :وَنَب َ عَلى اْلِغ ّ
حُتْم َ طَل ْ
صَإتفقتم على الخيانة والحسد والحقدَ» :قِد ا ْ
،«(3إشارة إلى أن أعمالكم الخاطئة إّنما تفرزها أفكاركم الملوثة ،وأضاف في بيانه لنقطة ضعفهم الرابعة
ل« ،فنقطة اشتراككم تكمن في تعلقكم لمَْوا ِ ب ا َْ
س ِ
لَ ،وَتَعاَدْيُتْم ِفي َك ْلَما ِ
با ْح ّ
عَلى ُ
صاَفْيُتْم َ
والخامسة فقالَ» :وَت َ
بالمال والماني الفارغة ،ونقطة اختلفكم في كسب المال ،حيث يريد كل منك أن يختطف المال الذي في يد
غيره.
والواقع يمكن خلصة نقاط ضعفهم في أربع كلمات هى الحقد والحسد والرياء وطول المل والنزاع من أجل
ن المجتمع لن يرى المن والسقرار إن سادته هذه الرذائل ،ول يسوده سوى النزاع والقتال كسب المال ،والحق أ ّ
وأنواع التوتر ،كما ل يعيش سوى الضعف والوهن تجاه العدو الخارجي ،وإن طالعتنا بعض مظاهر الجمال في
ن المام )عليه السلم( أراد
هذا المجتمع فهى بمثابة الزهور الجميلة التي تنبت في المزابل وجذورها عفنة ،وكأ ّ
ن المبادىء التي سادت المجتمع الجاهلي قبل السلم والتي وردت الشارة إليها في أن يفهمهم هذه القضية وهى أ ّ
صدر هذه الخطبة قد إنتعشت اليوم مّرة أخرى في وسطكم ،ثم أشار المام )عليه السلم( في آخر الخطبة إلى أحد
الركان المهمة لنحرافهم والذي يتمثل بوساوس الشياطين والتي جعلتهم يضلون سبيل
» .2غل« :من مادة »غلول« أو غلل على وزن أفول وأجل تعني في الصل النفوذ التدريجي والخفي للماء في جذور الشجار ،ثم
اطلق الغل الذي له معنى )السم المصدري( على الخيانة لّنها تحصل بصورة تدريجية وخفية.
» .3دمن« :جمع »دمنة« على وزن فتنة بمعنى السرقين ،كما يطلق على الحقد القديم.
] [ 308
سُكْم« .قال
سي َوَأْنُف ِ
عَلى َنْف ِ
ن َ سَتَعا ُ
ل اْلُم ْ
ثَ ،وَتاَه)ِ (1بُكُم اْلُغُروُر)َ ،(2وا ّ خِبي ُ سَتَهاَم ِبُكُم اْل َ
السعادة والنجاةَ» :لَقِد ا ْ
حد َأَبدًا ،(3)(...كما قال: ن َأ َ
حَمُتُه َما َزَكا ِمْنُكْم ِم ْ
عَلْيُكْم َوَر ْ
ل َ
لا ِ
ضُل َف ْسبحانه وتعالى في كتابه العزيزَ) :وَلْو َ
ل َقِليل() ،(4استهام من مادة هيام على وزن قيام خرج ل يدري
ن ِإ ّ
طا َ
شْي َ
لّتَبْعُتْم ال ّ
حَمُتُه َ
عَلْيُكْم َوَر ْ
ل َ
لا ِ
ضُ
ل َف ْ
)َوَلْو َ
أين يذهب ،فهو يمشي دون هدف حيران فل يبلغ الهدف ،ولّما كان العاشق حيران في حياته فقد اطلقت هذه
المفردة على العشق الشديد.
ن الشيطان يحث النسان على العبث والعشوائية ول يقود ذلك سوى للحيرة والضطراب ،وهذا على كل حال فا ّ
ن صفاتهم الباطنية القبيحة من جانب ،والنقياد لوساوس
بدوره يلقي بالنسان في وادي الهلكة ،وبالنتيجة فا ّ
الشياطين من جانب آخر قد مهدت السبيل لبؤسهم وشقائهم وسلبتهم بصيرتهم وسمعهم ونطقهم وفهم الصحيح،
وهكذا يستعرض هذا الطبيب الرباني بهذه الخطبة الغّراء جذور المراض وطرق مكافحتها وعلجها.
—–
أشار المام في هذا المقطع الخير من الخطبة إلى عّدة أمور مهّمة منها:
ن القرآن الكريم مصدر البصر السمع والنطق ،مع ذلك هناك من لم يستثمر ذلك ،لّنهم محجوبون وحجابهم 1ـأّ
ن هذه المور أهم حجب المعرفة ،نعم
ب الدنيا ،ونعلم أ ّ
فسادهم والباطني وتلوثهم وطول أملهم وغرقهم في ح ّ
فالكتب السماوية مهما ملئت الحكمة ،ومهما تحلى الئّمة بالعلم والبلغة فل جدوى من ذلك ما لم تكن هناك قابلية
في القابل ،فالشمس ترسل أشعتها
» .1تاه« :من مادة »تيه« بمعنى الحيرة ومن مادة »توه« على وزن لوح بمعنى الهلكة ،ويبدو المعنى الثاني في العبارة هو النسب.
» .2غرور« :إن قرأ بالضم فهو الخداع والمكر ،وإن قرأ بالفتح أفاد الوصف وعنى الشخص الخادع وقد أطلقه القرآن على الشيطان،
وقد ورد بالصيغة الولى في النسخة المعروفة لصبحي الصالح ،بينما ورد بالصيغة الثانية في أغلب النسخ ،وتبدو الصيغة الثانية
أنسب على ضوء تناسق العبارات.
] [ 309
على الدوام ولكن ما جدوى هذا الشعاع بالنسبة للعمى ،وكذلك هى المطار في لطافة طبعها لكنه ل ينبت
الزهار في كل مكان.
ب المال والثراء أساس الحروب والمعارك النزاعات ول يقتصر هذا المر على الزمان والماضي ،بل نح ّ 2ـإّ
تلمسه بوضوح في كل مكان في الوقت الحاضر ،فالدول الغاشمة تصّرح دون خشية إننا دخلنا تلك الحرب من
أجل حفظ مصالحنا ،أو لدينا بعض المصالح في البلد الفلني )طبعًا مصالح غير مشروعة( وعليه فلبّد أن يكون
لنا تواجد عسكري فيه لنرعى تلك المصالح ،والمؤسف أن وجه الدنيا أخذ يتكدر يومًا بعد آخر والحياة أصبحت
ل«.لْمَوا ِ
ب ا َْ
س ِ
فيها عديمة المن ،وليس ذلك سوى ما أورده المام )عليه السلم( إذا قالَ» :وَتَعاَدْيُتْم ِفي َك ْ
—–
] [ 310
] [ 311
الخطبة)134 (1
ن المام )عليه السلم( خطب بهذا الكلم حين اّتجه قيصر بجيشه نحو ثغور قال بعض شّراح نهج البلغة أ ّ
السلم عندما عزل خالد بن الوليد عن إمرة جيش المسلمين وقد تولى المرة أبو عبيدة الجراح وشرحبيل وقد
ضاق عليهما المر ،لذلك عزم عمر أن يحضر بنفسه وأستشار أمير المؤمنين علي )عليه السلم() ،(2ويفهم من
ن عمر خالف ما أشار عليه علي )عليه السلم( ،فلّما علم الروم مقدم عمر بنفسه خافواكلم ابن أبي الحديد أ ّ
وسألوا الصلح على أن يؤّدوا الجزية إلى المسلمين ،ثم روى قصة أشبه بالخرافة).(3
ل :ما وراه ابن أبي الحديد عن سيف وروايات سيف ل تخلو من الوضع
لمة التستري أو ً
قال المرحوم الع ّ
والتحريف.
ن هذا الكلم قاله علي )عليه السلم( حين استشارة عمر في الخروج بنفسه
ثانيًا :ل دليل لدنيا أ ّ
.1سند الخطبة:
نقل هذا الكلم عن المام )عليه السلم( باختلف طفيف ابن الثير في النهاية في مادة كنف وأبو عبيد في كتاب الموال )مصادر نهج
البلغة (2/302
] [ 312
ن عمر كان يقبل عادة ما يشير عليه علي )عليه السلم( وكان يرى نجاته في ذلك القبول،والجدير بالذكر هنا أ ّ
لمة التستري.وهذا بدوره يؤيد ما أورده المرحوم الع ّ
لمة بالنصر والغلبة والمل بهذا الوعد،
على كل حال تتألف هذه الخطبة من قسمين :الول وعد ال سبحانه لهذه ا ُ
والثاني الذي قال فيه علي )عليه السلم( لعمر :ل تشخص بنفسك فاّنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك ،فتلقهم
فتنكب ل يكن للمسلمين كهف دون أقصى بلدهم ،ليس بعدك مرجع يرجعون إليه.
—–
] [ 313
نَ ،وَمَنَعُهْم
صُرو َ
ل َيْنَت ِ
ل َ
صَرُهْمَ ،وُهْم َقِلي ٌ
سْتِر اْلَعْوَرِةَ .واّلِذي َن َ
حْوَزِةَ ،و َ
عَزاِز اْل َ
ن ِبِإ ْ
ل هَذا الّدي ِ
لْه ِ
ل َِ لا ّ »َوَقْد َتَوّك َ
ت.
ل َيُمو ُ ي َ حّ نَ ،ل َيْمَتِنُعو َ
ل َ َوُهْم َقِلي ٌ
جٌع
س َبْعَدكَ َمْر ِ
لِدِهْمَ .لْي َ
صى ِب َن َأْق َ
ن َكاِنَفٌة ُدو َ
سِلِمي َ
ن ِلْلُم ْ
ل َتُك ْبَ ، كَ ،فَتْلَقُهْم َفُتْنَك ْسَ سْر ِإَلى هَذا اْلَعُدّو ِبَنْف ِ ك َمَتى َت ِ ِإّن َ
بَ ،وِإ ْ
ن ح ّك َما ُت ِ
ل َفَذا َ
ظَهَر ا ّ
ن َأ ْ
حِةَ ،فِإ ْ
صي َ
ل اْلَبلِء َوالّن ِ حِفْز َمَعُه َأْه َ
حَربًا ،و ا ْ ل ِم ْ جً ث ِإَلْيِهْم َر ُن ِإَلْيِهَ .فاْبَع ْ
جُعو َ َيْر ِ
ن«.سِلِمي َس َوَمَثاَبًة ِلْلُم ْت ِرْدءًا ِللّنا ِ خَرىُ ،كْن َ لْن ا َُْتُك ِ
—–
الشرح والتفسير
الحضور الخطير
استهل المام )عليه السلم( كلمه للخليفة بهدف تقوية معنوياته حذرًا من خوف لقاءالعدو الغاشم كالروم بقوله:
ن ال سبحانه تكفل سْتِر اْلَعْوَرِة« ،والعبارة توكل تشير إلى أ ّ حْوَزِة)َ ،(1و َ
عَزاِز اْل َ ن ِبِإ ْ
ل هَذا الّدي ِ لْه ِل َِ
لا ّ َوَقْد َتَوّك َ
حّ
ق ن اْل َ
سوَلُه ِباْلُهَدى َوِدي ِ
ل َر ُ
سَبحمايتهم والدفاع عنهم ،وهو المر الذي أشار إليه القرآن الكريم) :هَُو اّلِذي َأْر َ
ن().(2 شِرُكو َ ن ُكّلِه َوَلْو َكِرَه اْلُم ْعَلى الّدي ِ
ظِهَرُه َ ِلُي ْ
وهذا الوعد اللهي ـ طبق كلم المام )عليه السلم( ـ لم يكن مقتصرًا على زمان النبي )صلى ال عليه وآله( ،بل
ن العورة تعني في الصل النقاط الحدودية
سْتِر اْلَعْوَرِة« ،بالنظر إلى أ ّ
يجري في كل عصر ومصر ،والعبارةَ» :و َ
ن الحق تبارك وتعالى وإضافة إلى الهشة وما يخشاه النسان ويخافه ،فهى تشير إلى أ ّ
» .1حوزة« :من مادة »حوز« على وزن موز تعني الجمع والتصال والمتلك وعادة ما تطلق الحوزة على كل مجموعة.
] [ 314
تعهده بعّزة المسلمين ورفعتهم فاّنه يمنع العدو من اللتفات إلى نقاط ضعفهم أسرارهم حتى ل يتمكن من تسديد
ضرباته للمسلمين.
نَ ،وَمَنَعُهْم
صُرو َ
ل َيْنَت ِ
ل َ
صَرُهْمَ ،وُهْم َقِلي ٌ
ثم شّد من العزائم أكثر فأتى بشاهد حي فقال )عليه السلم(َ» :واّلِذي َن َ
ت).«(1
ل َيُمو ُ
ي َ
حّ
نَ ،
ل َيْمَتِنُعو َ
ل َ
َوُهْم َقِلي ٌ
فقد نصر ال تعالى ُاولئك المسلمين الذين كانوا يبدون في الظاهر ضعفاء ومن حيث العّدة قلئل ،واليوم وقد
اتسعت حوزة السلم والحمد ل وقد إنضوت عّدة أفواج تحت رايته ،فهم مشمولون قطعًا بنصرة الحق والغلبة
ن أي موجود تثق به وتعتمد لهم والهزيمة لعدائهم ،فناصرهم هو ال تعالى الحي القيوم الذي ل يموت ،طبعًا إ ّ
ن مرور الزمان يصيبه بالضعف والهن والفتور وبالتالي الزوال والفناء ،والذات اللهّية المقّدسة الوحيدة
عليه فا ّ
التي ل تعرف للضعف الفتور من معنى والتي ل ينبغي العتماد سوى عليها.
ثم ورد المام )عليه السلم( ذى مقدمة بعد هذه المقدمة فيخلص إلى نتيجة ليؤكد على عمر عدم حضور ميدان
سْر
ك َمَتى َت ِ
ل واضحًا لذلك والذي يقبل بصورة تامة في الموارد المشابهة فقالِ» :إّن َ القتال بنفسه بعد أن ذكر دلي ً
جعٌ
ك َمْر ِ س َبْعَد َ
لِدِهْمَ ،لْي َ
صى ِب َ
ن َأْق َ
ن َكاِنَفٌة)ُ (3دو َ
سِلِمي َ
ن ِلْلُم ْ
ل َتُك ْ
ب)َ ،(2
كَ ،فَتْلَقُهْم َفُتْنَك ْ
سَ
ِإَلى هَذا اْلَعُدّو ِبَنْف ِ
ن ِإَلْيِه«.
جُعو ََيْر ِ
ن المجتمع
لمة مبايعة شخص آخر فا ّ
ن أرادت ا ُ إشارة إلى هذا المر إن حضرت ميدان القتال بنفسك وقتلت فا ّ
السلمي سيفقد مركزيته وتنها المناطق النائية التي تكون عرضة للخرق أكثر من غيرها وهذا ما سيسري إلى
سائر أنحاءالبلد ،ولما كان السلب في القضايا الجتماعية يقترن دائمًا باليجاب بغية سدالفراغ الجتماعي ،فبعد
أن أشار عليه المام بعدم الذهاب بنفسه ،طرح عليه البديل ببعث رجل مجرب في الحرب وطائفة ممن أبلت في
ن أتاهم النصر فذلك ما يبغي ويحب ،وإن حدث شيء آخر )إشارة القتال ،من أهل النصح والخير فا ّ
» .2تنكب« :من مادة »نكب« على وزن نخل بمعنى النحراف عن المسير ،وفي هذه العبارة بمعنى الهزيمة والقتل.
» .3كانفة« :من مادة »كنف« على وزن ظرف بمعنى الحفظ ،وعليه كانفة تقال للشخص أو الشيء العاصم الذي يحفظ الفراد.
] [ 315
إلى الهزيمة المسلمين( فسيكون هو ملذ المسلمين وكهفهم )فيستطيع ومن خلل بعث القوى السيطرة على
حِة،
صي َ
ل اْلَبلِء)َ (3والّن ِ
حِفْز)َ (2مَعُه َأْه َ حَربًا) ،(1وا ْ ل ِم ْ
جًث ِإَلْيِهْم َر ُ
الوضاع وتحيق النصر على العدو(َ» :فاْبَع ْ
ن«.سِلِمي َس َوَمَثاَبًة)ِ (5لْلُم ْ
ت ِرْدءًا)ِ(4للّنا ِخَرىُ ،كْن َ لْ ن ا ُْ
ن َتُك ِ
بَ ،وِإ ْ
ح ّ
ك َما ُت ِ
ل َفَذا َ
ظَهَر ا ّ
ن َأ ْ
َفِإ ْ
ن حضور زعيم جماعة في فقد بّين المام )عليه السلم( جوابه للخليفة حين المشورة بدليل منطقي وواضح وهو أ ّ
ن من الحتمالت الواردة قتله في المعركة ونتيجة ذلك ميدان القتال أمر خطير سوى في الموارد الستثنائية ،ل ّ
إنيهار الجيش من جانب وتصدع كيان البلد من جانب آخر ،بينما لو بقى مكانه كان له أن يبعث بجيوش بدل
جيش واحد ويحتفظ بقدرته وسيطرته على جميع البلد.
—–
تأّملت
طرح بعض شّراح نهج البلغة هذا السؤال أشار علي )عليه السلم( على عمر أل يشخص بنفسه ،فما بال رسول
ال )صلى ال عليه وآله( كان يشاهد الحروب بنفسه ،ويباشرهم بشخصه ،وما بال أميرالمؤمنين علي)عليه
السلم( شهد حرب الجمل وصفين والنهروان بنفسه؟
ن النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( كان عالمًا عن طريق الوحي بأّنه ل يقتل وقد أجاب بعض الشّراح بالقول أ ّ
في الحرب ،كما كان علي )عليه السلم( عالمًا من جهة النبي )صلى ال عليه وآله( أّنه ل يقتل في هذه الحروب،
ويشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس يقاتل بعدي الناكثين ،والقاسطين ،والمارقين ،وعليه
» .2احفز« :من مادة »حفز« على وزن نبض الدافع والسوق الشديد.
» .4ردء« :بالكسر من مادة »ردء« على وزن عبد بمعنى المساعدة وعليه فردء بمعنى النصير والعضيد والسند.
» .5مثابة« :من مادة »ثوب« على وزن قوم بمعنى رجوع الشيء إلى حالته اُلولى ومثابة بمعنى المرجع ومن يعاد إليه.
] [ 316
وبعبارة أخرى يمكن القول :الموارد مختلفة تمامًا ولكل ميدان من ميادين القتال وشرائطه ووضع العدو حكمه
الخاص ،ولكن غالبًا إن كان الميدان بعيدًا عن مركز الحكومة واشترك رئيس الحكومة فيه وقتل أّدى إلى عّدة
مشاكل ،ومن هنا نهى المام )عليه السلم( الخليفة عن حضور ميدان القتال بنفسه.
—–
لعل هناك من يشكل :كيف قدم المام)عليه السلم( هذه النصيحة الوّدية والمشفقة للخليفة مع أّنه يرى الحكومة من
ن الولية لعلي
حقوقه المسلمة وقد صّرح النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( واليات القرآنية بهذا المعنى في أ ّ
)عليه السلم(؟
—–
الكلم المذكور درس لجميع المسلمين بتقديم الخير والصلح حين المشورة دون الخذ بنظر العتبار قضية
المستشار وكيفية العلقة به.
] [ 317
ن المام الصادق )عليه ن يقبلها ويؤّدي حقها ،فقد ورد في الحديث أ ّ بعبارة أخرى :إّما يرفض المشورة وإّما أ ّ
لّدي ُ
ت ك ِمْنُه َ
ت َذِل َ
حِني َواسِتشاَرِني ُثّم َقِبْل ُ
صَ
ف َوَقاِتَلُه َلو ِإَتَمَنني واسَتن َ
سي ِي ِبال ّ
عِل ّ
ب َ
ضاِر َ
ن َ
عَلم َأ ّ
السلم( قال» :ا ْ
لمـاَنَة«).(1
اَ
—–
أراد بعض المخالفين التشبث بكلم المام )عليه السلم( ليقيموا الدليل على أحقّية الخليفة الثاني بالخلفة وعلى
ن الوظيفة الشرعية والعقلية وحفظًا ن هذا الستنباط خاطىء ،ل ّ لسان علي )عليه السلم( ،ولكن من الواضح أ ّ
لمصالح المسلمين تتطلب من كل شخص في مثل ظروف علي )عليه السلم( أن يقدم النصح لمن كان يمر
بظروف عمر ،فينطق لسانه بخير المسلمين وصلحهم ،وإن جرت المور على خلف مصالحه الشخصية ،بل
لمة ،بل معناها أ ّ
ن ن ِإَلْيِه« ،ل تعني قط أّنك أصلح ا ُ
جُعو َ
جٌع َيْر ِ
ك َمْر ِ
س َبْعَد َ
إن كانت بضرورة ،والعبارةَ» :لْي َ
ل الظروف الفعلية ـ حّقا أم بغير حق ـ بهذه الصفة فان قتلت تطلبت البيعة لخر زمانًا طوي ً
ل الناس عرفوك في ظ ّ
لمة.
وهنا تنهار ا ُ
—–
] [ 318
] [ 319
الخطبة)135 (1
فقال المغيرة بن الخنس لعثمان :أنا أكفيكه ،فقال علي)عليه السلم( للمغيرة:
نظرة إلى الخطبة
ن هذهن هذا الكلم لم يكن بحضرة عثمان ،وإن أفادت عبارات الخطبة أ ّ صّرح ابن أبي الحديد وآخرون أ ّ
ن عمارًا لما سمع بخبر وفاة أبي ذر ترحم عليه بحضور المشاجرة كانت بحضرة عثمان ،فقد جاء في الخبر أ ّ
ي من مجالستك قال ب إل ّ
عثمان ،فغضب عثمان وقال :انفوه إلى الربذة ،فقال عّمار :مجالسة الكلب والخنازير أح ّ
ذلك وخرج ،فعزم عثمان على نفيه ،فذهب بنو مخزوم إلى علي )عليه السلم( وشكوا له ضرب عثمان لعمار
ل وقعت فتنة عظيمة ،فذهب المام علي )عليه السلم( إلى وهو عازم الن على إبعاده فسألوه أن يكلم عثمان وإ ّ
عثمان وقال له :نفيت أبي ذر إلى الربذة حتى مات غريبًا وهو من صحابة رسول ال )صلى ال عليه وآله( وقد
نقم عليك الناس ذلك ،وتريد الن نفي عمار.
ل لكي ل يجرأ عمار ،ففسادهم منك ،فقال علي )عليه السلم( :ل تقدر على
فغضب عثمان وقال :لبّد من نفيك أو ً
ذلك وفساد أمثال عمار بسبب أعمالك ،فأنت تعمل خلف دين ال تعالى فنقم
.1سند الخطبة:
لم ينقل صاحب كتاب مصادر نهج البلغة من نقل هذه الخطبة سوى أحمد بن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح ،لكّنه أورد بعض
التوضيحات بشأن وورد الخطبة عن كتاب شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد.
] [ 320
الناس عليك ،قال ذلك ثم خرج من عند عثمان ،وقد أحاط الناس به وقالوا فليبعدنا عثمان جميعًا لنموت بعيدًا عن
أهلنا ،فقال المام )عليه السلم( قولوا لعمار يلزم بيته ول يخرج.
فقال بنو مخزوم :إن كنت معنا فليس لعثمان أن يفعل شيئًا ،فلما بلغ ذلك عثمان شكى عليًا )عليه السلم(إلى
الناس ،فقال له زيد بن ثابت وكان من شيعته وخاصته :أفل أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك ،قال :بلى،
فأتاه زيد معه المغيرة بن الخنس) (1وعداده بني زهرة وُاّمه عمة عثمان ،فحمد زيد ال وأثنى عليه ثم قال :أّما
ن ال قدم لك سلفًا صالحًا في السلم ،وجعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به ،فأنت للخير كل الخير أهل، بعد فا ّ
لمة ،فله عليك حقان ،حق الولية وحق القرابة ،وقد شكا إلينا أ ّ
ن وأميرالمؤمنين عثمان ابن عمك ووالي هذه ا ُ
ي ،وقد مشينا إليك نصيحة لك ،وكراهية أن يقع بينك وبين ابن عمك أمر نكرهه عليًا يعرض لي ،ويرد أمري عل ّ
ب العتراض ول لكما ،فحمد علي )عليه السلم( ال وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال :أّما بعد ،فوال ما أح ّ
ن عنه ما وسعني الكف. ل بالحق ،ووال لكف ّل أن يأبى حّقا ل ل يسعني أن أقول فيه إ ّ
الرّد عليه ،إ ّ
ل وقاحًا ،وكان من شيعة عثمان وخلصائه :إّنك وال لتكفن عنه أو لتكفن ،فاّنه
فقال المغيرة بن الخنس وكان رج ً
أقدر عليك منك عليه.
فقال له )عليه السلم( :يابن اللعين البتر ،والشجرة التي ل أصل لها ول فرع.(2)...
ن له
بناءًا على هذا فخلصة الكلم أّنه اعتراض شديد على المغيرة بن الخنس الذي نطق بكلم أكبر منه واعتقد أ ّ
منزلة أعظم مّما في نفسه.
—–
.1المغيرة بن الخنس وأبوه أحد المنافقين وهو غير المغيرة بن شعبة المعروف بنفاقه وعداوته لهل البيت)عليهم السلم(.
.2شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 8/301ـ ;302والفتوح لبن أعثم الكوفي 1/16طبقًا لنقل شرح نهج بالبلغة للمرحوم
التستري .9/261
] [ 321
ل َقاَم
صُرُهَ ،و َ
ت َنا ِ
ن َأْن َ
ل َم ْ
عّز ا ّ ل َما َأ َت َتْكِفيِني؟ َفَوا ّ
عَ ،أْن َ
ل َفْر َ
ل َلَها َو َصَل َأ ْجَرِة اّلِتي َ شَ لْبَتِرَ ،وال ّ
ن ا َْ
ن الّلِعي ِ
»َياْب َ
ت!«. ن َأْبَقْي َ
ك ِإ ْ
عَلْي َ
ل َ
ل َأْبَقى ا ّ
كَ ،ف َجْهَد َ
كُ ،ثّم اْبُلْغ َ
ل َنَوا َ
عّنا َأْبَعَد ا ّ
ج َخُر ْضُهُ .ا ْت ُمْنِه ُن َأْن َ
َم ْ
—–
الشرح والتفسير
أنت عاجز
كان علي )عليه السلم( الكهف الحصين للمظلومين والمحرومين على عهد الخلفاء الثلث سّيما على عهد الخليفة
الثالث عثمان الذي جاوزت بطانته الحّد في الظلم والجور ،فلم ترحم صغيرًا ولم توقر كبيرًا ،فكان )عليه السلم(
لمة ضد من يوصل نداء المظلومية للخليفة ،فمن الطبيعي أن يسبب له هذا المر بعض المشاكل حيث كان يجند ا ُ
الخلفة الحاكمة.
فقد عرض المام )عليه السلم( بهذا الرّد على تهديد المغيرة بن الخنس بالذم له والستخفاف به ،فأشار بادىء
المر إلى جذور فساده ونقاط ضعفه ليخلص إلى نتيجة تفيد عجزه عن القيام بأي عمل ضد المام )عليه السلم(
ت َتْكِفيِني؟« ،والتعبير عن المغيرة بن الخنس
عَ ،أْن َ
ل َفْر َ
ل َلَها َو َ
صَل َأ ْ
جَرِة اّلِتي َ
شَ
لْبَتِرَ ،وال ّ
ن ا َْ
ن الّلِعي ِ
فقالَ» :ياْب َ
باللعين كونه من رؤوس النفاق حيث أظهر السلم في فتح مكة وأبطن الكفر ،وقد حاول رسول ال )صلى ال
عليه وآله( إستمالة قلبه فأعطاه سهمًا كبيرًا من غنائم حنين ،وأخوه أبو الحكم الذي قتله علي )عليه السلم( يوم
ُاحد ،ومن هنا حقد المغيرة على علي)عليه السلم().(1
وأّما وصف المام لبيه بالبتر ل أّنه لم يكن له عقب ،بل البتر هنا تعني انقطاعه عن الخير والسعادة ،أو أبتر
من حيث النسب حيث كان أولده ممن ل خير فيهم فكانوا كالعدم،
ن عداء آل المغيرة استمر ضد علي )عليه السلم( حتى شهد ولده عبد ال المعركة الجمل فقتل فيها )شرح نهج البلغة
.1يقال إ ّ
للمرحوم التستري .(9/266
] [ 322
لسرة وُبعدها عن القيم والمثل ،فالواقع وأّما قوله والشجرة التي ل أصل لها ول فرع فهو كناية عن وضاعة هذه ا ُ
لْر ِ
ض ق ا َْ
ن َفْو ِ
ت ِم ْ
جُتّث ْ
خِبيَثة ا ْ
جَرة َ
شَخِبيَثة َك َ
ل َكِلَمة َ
ن قول المام )عليه السلم( إقتباس من الية الشريفةَ) :وَمَث ُ أّ
ن َقَرار().(1
َما َلَها ِم ْ
إشارة إلى أّنك لصغر من أن تهدد عليًا )عليه السلم( ،فافعل ما بوسعك لترى إّنك ل تقوى على شيء ،وبائس
هو الفرد الذي أنت ناصره.
—–
لو أنعمنا النظر في شأن وورد هذا الكلم للمام )عليه السلم( وتتبعنا بدقة مساره التاريخي لرأينا كيف اصطدم
المام )عليه السلم( بصورة منطقية بالنحرافات في عصر الخلفاء ول سّيما على عهد عثمان ،فلم يتوان في
تقديم الوعظ والنصح من أجل منع أي توتر واضطراب حيث كان يكتفي بالحّد الدنى من التذكير ،أّما حين كان
يصطدم بالمنافقين والجّهال عديمي المنطق ،فقد كان يقف بوجههم بكل شّدة وصلبة حتى ل يقتدح في أذهانهم
التفكير بالعمال الطائشة والخطيرة ،وصدر وذيل الكلم المذكور خير شاهد على السلوكين.
» .2منهض« :من مادة »نهض« القيام من المكان ومنهض من باب إفعال الشخص الذي يساعد غيره لينهض.
» .5نواك« :من مادة »نوا« والكاف ضمير متصل تعني في الصل غاية المسافر بعيدة كانت أم قريبة.
.6فالعبارة ل أبقى ال عليك تطلق حين اللعن ليبعد عن رحمة ال ،والعبارة إن بقيت تعني ل رحمك ال إن رحمتني ،فهى في الواقع
استخفاف بالمخاطب ،فافعل ما شئت إّنك ل تقدر على شيء.
] [ 323
الخطبة)136 (1
ن بيعتي لم تكن صدفة بعيدة عن تفكير الناس وتخطيطهم ،وعليه فل يحق لحد نقضها لّنها بيعة عاّمة.
الول :أ ّ
الثاني :أّني أريدكم جنودًا لتبلور الهداف الربانية ،لكّنكم تريدونني من أجل ضمان منافعكم الدنيوية.
الثالث :أبغي من كل الفراد النصرة لستنقاذ حق المظلوم من الظالم ،ويبّين المام )عليه السلم(عزمه القاطع
بهذا الشأن
—–
.1سند الخطبة:
ن المام علي )عليه السلم( أورد هذا الكلم إمتنع البعض عن بيعة المامقال المرحوم الشيخ المفيد)رحمه ال( في كتاب »الرشاد« أ ّ
)عليه السلم( ـ حسب رواية الشعبي ـ ومنهم عبدال بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وحسان بن ثابت واسامة بن
زيد ،فخطب المام )عليه السلم( لبيان أحقّية بيعته )مصادر نهج البلغة (2/306وهكذا نقل هذه الخطبة الشيخ المفيد في إرشاده
وقد عاش قبل السيد الرضي ،وكذلك أشار إليها ابن الثير في كتاب »النهاية« في مادة )فلت(.
] [ 324
] [ 325
سُكْم.
لْنُف ِ
لَ ،وَأْنُتْم ُتِريُدوَنِني َِ
حدًاِ .إّني ُأِريُدُكْم ِّ
س َأْمِري َوَأْمُرُكْم َوا ِ
ي َفْلَتًةَ ،وَلْي َ
ن َبْيَعُتُكْم ِإّيا َ
»َلْم َتُك ْ
—–
الشرح والتفسير
ن المام أورد هذا الكلم ـ بعبارة أخرى هذا المقطع من الخطبة ـ حين إمتنع بعض صحابة النبي كما ورد سابقًا فا ّ
ن َبْيَعُتُكْم
الكرم )صلى ال عليه وآله( عن بيعته ،فأتّم المام )عليه السلم( الحجة عليهم بهذا الكلم فقالَ» :لْم َتُك ْ
ي َفْلَتًة« ،بل حين رأيتم المشاكل الناشئة من بيعة الخلفاء السابقين ولسّيما بيعة الخليفة الثالث وما ترتب عليها ِإّيا َ
ن القلية ل تمتلك ي فأبيتم أمرًا جديدًا في مسألة البيعة ،وبناءًا على ما تقدم فا ّ
من آثار فقد عزمتم على القبال عل ّ
لمة.
الحق في نقض البيعة التي سارعت إليها الكثيرة من ا ُ
ن الفلتة تعني العمل الذي يقع بغتة دون روية وتدبر فقد أراد المام:
وبالنظر إلى أ ّ
ل،
حدًاِ ،إّني ُأِريُدُكْم ِّ
س َأْمِري َوَأْمُرُكْم َوا ِ
ثم قال المام )عليه السلم( في مواصلة كلمهَ» :وَلْي َ
.1صحيح البخاري 6/2505طبعة دارالنشر بيروت وصحيح ابن جبان ،2/148طبع مؤسسة الرسالة.
] [ 326
سُكْم« ،فلست من قبيل طلب الدنيا من الحّكام الذين ينشدون من وراءها تأمين جللهم وأبهتهم لْنُف ِ
َوَأْنُتْم ُتِريُدوَنِني َِ
ومصالحهم الشخصية ،فما أريده هو إقامة الدين بواسطتكم وأن ُاؤّدي حقوق الناس وأفوز برضى ال سبحانه،
ولكنكم تريدونني لمصالكم الشخصية كالحصول على سهم كبير من بيت المال أو نيل المناصب والمقامات والرفاه
في الحياة ،وباللتفات إلى الختلف بين هاتين النظرتين فمن الطبيعي أل تتساوى المسارات تبعًا لوسائل العمل،
سُكْم« ،في إشارة إلى أ ّ
ن عَلى َأْنُف ِعيُنوِني َ سَ ،أ ِثم دعاهم لصلح أنفسهم بعد أن وّبخهم وأيقظهم فقالَ» :أّيَها الّنا ُ
مدرستي التربوية معدة لصلحكم ،فما ُاريده منكم وبقبول نصائحي ـ التي تستند إلى مصدر الوحي والقرآن
ن لم يكن لديكم الندفاع فل الكريم وتعاليم النبي الكرم)صلى ال عليه وآله( ـ اللتحاق بها والتعاون معي ،فا ّ
جدوى من أي برنامج ،ثم أشار في الختام إلى نقطة مهّمة ووضح عزمه الراسخ فيها وهى مسألة بسط العدالة في
خَزاَمِتِه)(1
ظاِلَم ِب ِ
ن ال ّ لُقوَد ّ ظاِلِمِهَ ،و َ ن َ ن اْلَمظُْلوَم ِم ْ صَف ّلْن ِل َُ
كافة أرجاء البلد السلمي مقاتلة الظلمة فقالَ» :واْيُم ا ّ
ن َكاِرهًا« ،فهذا التشبيه الرائع للظلمة بالبعير الجامح الذي يمتنع حتى من ن َكا َ
ق َوِإ ْ
حّ ل) (2اْل َ حّتى ُأوِرَدُه َمْنَه َ َ
ن الهدف من مقارعة الظلمة ل يقتصر على شرب الماء ويريد صاحبه أن يورده مشربه كرهًا ويرويه ،يفيد أ ّ
ن التمرد والعصيان ن الظالم إن جاوز الحّد فا ّ ن هذا العمل بنفعهم أيضًا ،ل ّ استرداد حقوق المظلومين فحسب ،بل أ ّ
ن الظلمة أول من تحرقهم تلك النار ،المر الذي وقع العام سيكون كألسنة اللهب التي تحرق الخضر واليابس وأ ّ
ن أهم هدف اجتماعي للمام )عليه في عصر عثمان قبيل حكومة المام )عليه السلم( كما يفيد من جانب آخر أ ّ
السلم( بسط العدل وأخذ حق المظلومين ،وهذا هو الدواء الشافي المرير على ألسنة أغلب الفراد الجّهال ،وهذا
ت َوَأْنَزْلَنا َمَعُهْم اْلِكَتا َ
ب سَلَنا ِباْلَبّيَنا ِ
سْلَنا ُر ُ
أهم هدف لبعثة النبياء والذي صوره القرآن الكريم بالقولَ) :لَقْد َأْر َ
ط.(3)(... سِس ِباْلِق ْ
ن ِلَيُقوَم الّنا ُ َواْلِميَزا َ
» .1خزامة« :بالكسر حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشد فيها الزمام ويشهل قياده ،وقال البعض إن كان جنس الحلقة من
النحاس قيل لها البرة وإن كانت من الشعر فهى الخزامة.
» .2منهل« :من مادة »نهل« على وزن جهل بمعنى الشربة الولى ويطلق المنهل على الموضع الذي يمكن الستفادة منه من ماء
ن سطح ماء أغلب النهار أكثر انخفاضًا من الساحل وعادة ما يشقون بعض الماكن لوصول الماء ليبلغهالنهر )لبّد من اللتفات إلى أ ّ
الناس والحيوانات بسهولة ويقال لمسير هذه الماكن الشريعة وآخرها المنهل.
] [ 327
الخطبة)137 (1
ن َكلم لُه )عليه السلم(
َوِم ْ
جة اشتراك علي )عليه السلم( في قتل عثمان ،والحال هم كانوا يحرضون
1ـ نقض طلحة والزبير للبيعة لح ّ
الناس للقيام على عثمان.
2ـ النصيحة المشوبة بالتهديد لطلحة والزبير ليكفا عن الفتنة ،ويلتحقا بصفوف عاّمة المسلمين.
ن المام )عليه السلم( لم يكن طالبًا للحكومة ،بل هم الذين أصروا عليه بقبول
3ـ الشارة إلى مسألة البيعة وأ ّ
البيعة.
4ـ لعن المام )عليه السلم( في ختام الخطبة طلحة والزبير وهو المر الذي جرى عليهما عمليًا فساءت
عاقبتهما.
—–
.1سند الخطبة:
رواها ابن عبد البر من علماء العاّمة للقرن الخامس في كتاب »الستيعاب« في شرج سيرة طلحة ،كما رواها ابن الثير من علماء
سر بعض أجزاءها القرن السابع في »اسد الغابة« ،ونقلها المرحوم الشيخ المفيد )رحمه ال( في كتاب »الجمل« عن الواقدي ،كما ف ّ
ابن أبي الحديد عن أبي مخنف وكذلك ابن الثير في كتاب »العوذ« )مصادر نهج البلغة .(2/309
] [ 328
] [ 329
القسم الول
سَفُكوُهَ ،فِإ ْ
ن حّقا ُهْم َتَرُكوُهَ ،وَدمًا ُهْم َ ن َصفًاَ .وِإّنُهْم َلَيطُْلُبو َ
جَعُلوا َبْيِني َوَبْيَنُهْم ِن ْ
ل َ ي ُمْنَكرًاَ ،و َعَل ّل َما َأْنَكُروا َ»َوا ّ
حْكُم
عْدِلِهْم َلْل ُ
ل َن َأّو َ
ل ِقَبَلُهْمَ .وِإ ّ
طِلَبُة ِإ ّ
ن َكاُنوا َوُلوُه [ُوّلوُه ]ُدوِني َفَما ال ّ صيَبُهْم ِمْنُهَ ،وِإ ْ
ن َلُهْم َن ِ
شِريَكُهْم ِفيِهَ ،فِإ ّ
ت َ
ُكْن ُ
شْبَهُة اْلُمْغِدَفُة;
حَمُةَ ،وال ّحَمُأ َواْل ُ
غَيُة; ِفيَها اْل َ
يَ .وِإّنَها َلْلِفَئُة اْلَبا ِعَل ّ
س َ ل ُلِب َ
ت َو َ
س ُ
صيَرِتي; َما َلَب ْ ن َمِعي َلَب ِ سِهْمِ .إ ّ
عَلى َأْنُف َِ
حُه، حْوضًا َأَنا َماِت ُ ن َلُهْم َ
طّ لْفِر َ
ل َُ شَغِبِهَ .واْيُم ا ّن َ عْ ساُنُه َ طَع ِل َ
صاِبِهَ ،واْنَق َ
ن ِن َ
عْل َ طُ ح اْلَبا ِ
ح; َوَقْد َزا َ
ضٌ لْمَر َلَوا ِ ن ا ََْوِإ ّ
سي!«. حْ ن َبْعَدُه ِفي َل َيُعّبو َ
يَ ،و َ عْنُه ِبِر ّ
ن َ صُدُرو َ ل َي َْ
—–
الشرح والتفسير
الحاقدون الظالمون
ن طلحة والزبير كانا من بين ُاولئك الذين أثاروا الناس ضد عثمان ويجمع العدو والصديق على ل شبهة ول شك أ ّ
لمةن العجيب ما إن هبت ا ُ لأّ اشتراكهما في قتل عثمان ،كما أعلنت عائشة صراحة اعتراضها على عثمان ،إ ّ
لمبايعة علي )عليه السلم( فتسلم زمام المور حتى وقف بوجهه طلحة والزبير وكذلك عائشة ،والعجب من ذلك
جتهم لذلك الوقوف هو الطلب بدم عثمان ،ول زال التاريخ يحفل بالكثير من هذه العجائب والفراد الذين نحّ أّ
ن المام )عليه السلم( أشار في هذه الخطبة إلى هذا المطلب يحرصون على الدنيا وزخارفها ،على كل حال فا ّ
حّقا ُهْم
ن َ
طُلُبو َ
لَ» :وِإّنُهْم َلَي ْ
صفًا) ،«(1ثم أضاف قائ ً
جَعُلوا َبْيِني َوَبْيَنُهْم ِن ْ
ل َ
ي ُمْنَكرًاَ ،و َ
عَل ّ
ل َما َأْنَكُروا َ
فقالَ» :وا ّ
سَفُكوُه«.
َتَرُكوُهَ ،وَدمًا ُهْم َ
] [ 330
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه بالشارة إلى حديث النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( بشأن أصحاب
حَمُأ
غَيُة; ِفيَها اْل َ
يَ .وِإّنَها َلْلِفَئُة اْلَبا ِعَل ّ
س َ ل لُِب َ
ت َو َس ُ
صيَرِتي)َ ;(1ما َلَب ْ ن َمِعي َلَب ِ الجمل الذين ينقضون البيعةِ» :إ ّ
شَغِبِه).«(2 ن َ عْ ساُنُه َ طَع ِل َ صاِبِهَ ،واْنَق َ
ن ِن َ عْ ل َطُ
ح اْلَبا ِح; َوَقْد َزا َ
ضٌلْمَر َلَوا ِ
ن ا َْشْبَهُة اْلُمْغِدَفُة; َوِإ ّ
حَمُةَ ،وال ّ
َواْل ُ
لّيام
فهذا الكلم إشارة للحديث المعروف عن النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :ل َتذَهب الّليالي َوا َ
غية«).(3 ن ِنسـاِئي ِفي ِفَئة َبا ِ
ب ِإمَرَأًة ِم ْ
حوَأ ُ
ل َلهـا ال َ
ق ُيَقا ُ
ب مـاء ِبالِعرا ِ
ح ِكل ُ
حّتى َتتناَب َ
] [ 331
فالحديث يشير إلى الحادثة المعروفة لصحاب الجمل حين قدموا من المدينة إلى البصرة ،فلّما بلغوا الحوأب
نبحت عائشة كلبها ،فتذكرت حديث النبي )صلى ال عليه وآله( فقالت :إرجعوني إلى المدينة ،لكن الساسة
ن تلك المنطقة ليست الحوأب).(1المحترفين جندوا أهل تلك المنطقة ليشهدوا بأ ّ
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( قال وروى ابن عساكر في »تاريخ دمشق« ومتقى الهندي في كنز العمال أ ّ
س ِمّني«) ،(2ومن ك َيوَمئذ َفَلي َ صر َ
ق َفَمن َلم َين ُ
حّ
عَلى ال َ
ت َ
غيِة َوَأن َ
ل الِفَئِة الَبا ِ
ي سُتقاِت ُعَل ّ
لعلي )عليه السلم(َ» :يا َ
حَمُة« ،بالنظر
حَمُأ َواْل ُ
ي ،فالعبارةِ» :فيَها اْل َ ن معي لبصيرتي ما لبست ول لبس عل ّ هنا قال المام )عليه السلم( إ ّ
ن الحمأ بمعنى المستنقع والمادة الغامقة في جرف الحواض والجداول ،والحمة بضم ففتح بمعنى البرة إلى أ ّ
اللسعة للعقرب والحية ،فهى كناية عن الفراد الرجاس والخطيرين الذين كانوا من مثيري فتنة الجمل.
ن الحمأ بمعنى القرابة الحميمة والحمة بمعنى الزوج وهى كناية عن الزبير
وهنا تفسير آخر لهاتين المفردتين في أ ّ
بن العوام ابن عمة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( ،وعائشة إحدى أزواج النبي )صلى ال عليه وآله(،
ن المغدقة من مادة أغداق تعني في الصل التغطية إشارة إلى الضجة التي والعبارة الشبهة المغدقة بالنظر إلى أ ّ
أقامها أصحاب الجمل بعنوان المطالبة بدم عثمان والحال أيديهم ملطخة بدم عثمان ،بينما صوروا أنفسهم من
ن المراد هو عدم خفاء المر على حماته ،وهذه العبارة ل تنافي العبارة اللحقة التي قالت بوضوح المطلب ،ل ّ
الفراد من ذوي العقول والدراك ،لّنهم كانوا على علم بمؤامرات أصحاب الجمل ودعاياتهم المغرضة الكاذبة.
ثم إختتم المام )عليه السلم( كلمه بتوجيه تهديد شديد استهله بالقسم فقال )عليه السلم(َ» :واْيُم ا ّ
ل
.2تاريخ دمشق ،32/171طبعه بيروت; كنز العمال 12/211طبعة حيدر آباد )مطابق نقل أحقاق الحق .(17/166
] [ 332
سي!).«(5
حْ
ن)َ (4بْعَدُه ِفي َ
ل َيُعّبو َ
ي)َ ،(3و َ
عْنُه ِبِر ّ
ن َ
صُدُرو َ
ل َي ْ
حُه)َ ،(2
حْوضًا َأَنا َماِت ُ
ن)َ (1لُهْم َ
طّ
لْفِر َ
َُ
كما أوردنا في الخطبة العاشرة التي تشبه إلى حّد بعيد هذه الخطبة ،مراد المام )عليه السلم( من هذه العبارة أّني
سأجعل من ميدان معركة الجمل مستنقعًا خطيرًا مملوءًا بالماء بحيث ل يسعهم الهروب منه وأخمد الفتنة في
ن المام )عليه السلم( حقق مهدها حتى ل يفكروا قط في العودة إلى مثل ذلك الميدان ،وكما ورد في التواريخ فا ّ
عمليًا ما قاله ،فقد قتل زعماء الجمل وعادت عائشة مخذولة إلى المدينة وافتضح أصحاب الفتنة وتشتتوا في
البلد.
—–
» .1افرطن« :من مادة »افراط« تعني في الصل تجاوز الحّد ،لكّنها وردت أحياناً بمعنى القيام بالحّد الكثر من العمل وقد جاءت بهذا
المعنى في العبارة ،يعني سأمل حوض المعركة للخصوم )طبعًا المراد حوض المنية( بحيث ل يبقى أمامهم من سبيل للنجاة ،وبناءًا
على هذا فل مجال لطرح مثل هذا السؤال أو يمكن للمام )عليه السلم( أن يفرط في شيء.
» .2ماتح« :من مادة »متح« على وزن مدح بمعنى سحب الماء من العلى كسحب الماء من البئر بواسطة الدلو ،وعليه فالماتح
تطلق على من يطرح الدلو بواسطة الحبل في البئر ويسحب منه الماء.
ي« :اسم مصدري ومصدره »ري« على وزن حي والباء للمعية.
» .3ر ّ
] [ 333
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
ل اْلُعوِذ)(1ي ِإْقَبا َ
أشار المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى مسألة البيعة فقالَ» :فَأْقَبْلُتْم ِإَل ّ
جاَذْبُتُموَها«.
عْتُكْم َيِدي َف َ طُتُموَهاَ ،وَناَز َ
س ْ
ت َكّفي َفَب َ
ض ُ
ن :اْلَبْيَعَة اْلَبْيَعَة! َقَب ْ
لِدَهاَ ،تُقوُلو َ
عَلى َأْو َ
ل)َ (2
طاِفي ِ
اْلَم َ
» .1العوذ« :بضم العين جمع »عائذ« النسان أو الحيوان الذي يلد حديثًا.
» .2المطافيل« :جمع »مطفل« على وزن مسلم ذات الطفل من النسان والوحش ،وعليه فالعوذ والمطافيل قريبة المعنى وهما هنا
للتأكيد.
] [ 334
تكشف مدى شوق الناس للبيعة ،وفي ذات الوقت مدى زهد المام )عليه السلم( بها.
ثم إّتجه إلى الحق تبارك وتعالى فشكى إلى ال الظلمة الذين نقضوا العهد وجعلوا من إراقة دماء البرياء وسيلة
ظَلَماِنيَ ،وَنَكَثا َبْيَعِتيَ ،وَأّلَبا)(1
طَعاِني َو َ
لتحقيق أطماعهم وأغراضهم ،ثم أخذ بالدعاء عليهم ولعنهم» :الّلُهّم ِإّنُهَما َق َ
ي«.عَل ّ
س َ
الّنا َ
ل:
ل« ،والتفت إلى الناس قائ ً عِم َل َو َ
ساَءَة ِفَيما َأّم َ
حِكْم َلُهَما َما َأْبَرَماَ ،وَأِرِهَما اْلَم َل ُت ْ
عَقَداَ ،و َ ل َما َ
حُل ْ
ثم قالَ» :فا ْ
طا) (5الّنْعَمَةَ ،وَرّدا اْلَعاِفَيَة« ،لعل العبارةع)َ ،(4فغََم َ ت)ِ (3بِهَما َأَماَم اْلِوَقا ِ سَتْأَنْي ُ
لَ ،وا ْل اْلِقَتا ِ
سَتَثْبُتُهَما)َ (2قْب َ
»َوَلَقِد ا ْ
الخيرة مواصلة شكوى المام )عليه السلم( ل سبحانه ،ويمكن أن تكون خطابًا للناس ،،يبدو المعنى الثاني
ن هذه العبارات تبّين مدى سعي المام )عليه السلم( لجتناب الحرب وسفك الدماء وقد أنسب ،على كل حال فا ّ
بذل قصارى جهده لوعظ أصحاب الجمل ومثيري الفتن عّلهم يعودون إلى رشدهم وتثار حميتهم الدينية ،فيعودا
ب الخلفة والجاه والمقام قد أعمى أبصارهم وأصم أسماعهم بحيث لم يعد لنصائح المام نح ّ لأّعن سبيل الغي ،إ ّ
)عليه السلم( ومواعظه من تأثير عليهم ،بالتالي حّلت عليهم لعنة المام )عليه السلم( ففشلوا في تحقيق أهدافهم،
فانهزموا شّر هزيمة وقتلوا بذلة وهوان.
—–
ن طلحة والزبير كانا ممن أثارا الناس ضد عثمان ،فقد أورد ابن قتيبة في كتابه »السياسة والمامة« أ ّ
ن ل شك أ ّ
أهل الكوفة ومصر حين قاما ضد عثمان وحاصروه في داره كان
» .2استثبت« :من مادة »ثوب« على وزن صوم بمعنى رجوع الرميض إلى العافية ومفهوم العبارة أني أردت من طلحة والزبير
الرجوع عن انحرافهما.
» .3استأنيت« :من مادة »أناة« على وزن قناة بمعنى الصبر والنتظار ومفهوم الجملة أّني كنت أنتظر تأثير اقتراحي عليهما فيعودا
إلى رشدهما ويسلكا سبيل العافية والسلمة ،لكن من المؤسف...
» .4وقاع« :بمعنى الحرب وتستعمل هذه المفردة أحيانًا بمعنى المصدر وأخرى الجمع »وقيعة«.
ن طلحة
» .5غمطا« :من مادة »غمط« على وزن غصب بمعنى استصغار الشيء وكفران النعمة والعبارة المذكورة إشارة إلى أ ّ
والزبير استخفا بما منحتهم من فرصة وكفرا بالنعمة.
] [ 335
ن عثمان ل يهتم لمحاصرتكم طالما يحمل إليه الماء والغذاء فاقطعوا طلحة ممن أثار الفريقين ضد عثمان ويقول :أ ّ
عنه الماء) ،(1كما ورد عن ابن أبي الحديد بشأن الزبير أّنه كان يقول :اقتلوا عثمان فقد أحدث في دنيكم ،فقالوا
له :ابنك على باب دار عثمان يدافع عنه ،قال :إن قتل عثمان فليقتل ابني قبله) ،(2فقد كان تصور طلحة العكس
لمة مستعدة لبيعتهما على حّدحين قتل عثمان وبايع الناس عليًا )عليه السلم(فتغّيرت الوضاع تمامًا ،ولم تكن ا ُ
قول الكاتب المصري المعروف العقاد ،حيث لم يكن أمرهما يختلف عن عثمان) ،(3وكانت عائشة من الناقمين
لمة لمير المؤمنين علي )عليه السلم( ن هؤلء الفراد الثلث انقلبوا على عقبهم بعد بيعة ا ُ لأّعلى عثمان) ،(4إ ّ
فاصبحوا من أنصار عثمان وهبوا للمطالبة بدمه ،وكثيرة هى هذه النقلبات التي تسود حركة الساسة المحترفين،
وبالتالي ذاق الثلث العاقبة المريرة لثارتهم الفتن ،فقد هزم طلحة والزبير وقتل في المعركة ،وعادت عائشة
تجر أذيال الخيبة إلى المدينة ،وقد تناولنا بالتفصيل موقعة الجمل وطيش عائشة ودور طلحة والزبير في
المجلدات السابقة من هذا الشرح).(5
ن اتباعهم ممن حاول توجيه أعمالهم قد خسروا أنفسهم في زواية حرجة ،فمن جانب ولكن ما ينبغي إضافته هنا أ ّ
اعتبروا طلحة والزبير من الصحابة ،كما يجرون عليهم نظرية عدالة الصحابة )طهارة وقدسية جميع صحابة
النبي )صلى ال عليه وآله(( ،ومن جانب آخر يعتبرونهما من ضمن العشرة المبشرة ،تارة يزعمون أنّهم كانوا
مجتهدين وإن أخطاؤا في اجتهادهم ،وعليه فهم معذورون ومأجورون ،والحال لو وجهنا أعمالهم تحت هذا
ن الجتهاد ل يقتصر على هؤلء الفراد ،وهذا بدوره يؤّدي الغطاء لمكن تبرير كل جريمة ومن كل فرد ،ذلك ل ّ
إلى تجاوز البديهيات العقلية والنصوص القرآنية ،وتارة أخرى يزعمون أّنهم تابوا ،وتوبتهم مقبولة عند ال ،ولكن
هل يمكن اشعال فتيل حرب تؤّدي بسبعة عشر آلف شخص ثم تنسلخ مسؤولية هذه الدماء بمجّرد لقلقة اللسان
بالقول استغفر ال؟! فهل أّدوا حق تلك الدماء لصحابها؟ أم
.1السياسة والمامة .1/38
.5ج 1شرح الخطبة الثالثة عشرة ،ج 2شرح الخطبة الثلثون والحادية والثلثون ج ،3ص 209ـ .301
] [ 336
هل عوضوا تلك الموال التي ذهبت هدرًا بهذا الخصوص؟ وهل اعترف طلحة والزبير وعائشة بخطأهم أمام
المل العام؟
ن مثل هذا الدفاع العابث هو نتيجة للغماض عن الحقائق والتعصب العمى ،أو ليس من الجدر بنا تقسيم إّ
صحابة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( إلى طائفتين ،طائفة كانت صالحة على عهده وأخرى منافقة وطالحة،
كما تقسم الطائقة الصالحة إلى فئتين ،فئة واصلت صلحها ،وأخرى انقلبت على عقبها فجانبت الحق والعدل
ن المراد من بشارة القرآن الكريم النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( بنجاة واليمان والسلح ،كما علينا أن نعلم بأ ّ
شخص أو أشخاص في ذلك الزمان هو شمولها بهذا الحكم ،على أّنهم رّبما غيروا مسيرتهم ،فممكن أن يقوم
النسان بعمل بحيث تجب له الجّنة ،ثم يفعل بعد ذلك ما يوجب دخوله النار.
—–
] [ 337
الخطبة)138 (1
ل الحكومة
والقسم الثاني :إشارة إلى الحداث الدامية التي يفرزها قيام ذلك الولي من أجل بسط العدل في ظ ّ
اللهّية حيث يمل الرض بالقسط والعدل.
القسم الثالث :إشارة إلى الحوادث دامية أخرى تظهر من الشام ،ولعل ذلك إشارة إلى حكومة البعض من بني
مروان ،أو ظهور بعض الفراد كالسفياني الذي يسبق ظهور المام المهدي )عليه السلم(.
—–
.1سند الخطبة:
] [ 338
] [ 339
القسم الول
عَلى
ن َ
طُفوا اْلُقْرآ َ
عَ
ن ِإَذا َ
عَلى اْلُقْرآ ِ
ي َ
ف الّرْأ َ
ط ُ
عَلى اْلَهَوىَ ،وَيْع ِ
طُفوا اْلُهَدى َ
عَ
عَلى اْلُهَدىِ ،إَذا َ
ف اْلَهَوى َ
ط ُ
»َيْع ِ
ي«.
الّرْأ ِ
—–
الشرح والتفسير
لولى عّدها أغلب ن هذه الخطبة تشير إلى الحوادث المستقبلة حيث تطرقت إلى ثلث حوادث ،ا ُ كما ورد سابقًا فا ّ
شّراح نهج البلغة في المام المهدي )عليه السلم( ،لّنه قال يجعل رغبات النفس وهواجس القلب تابعة للهدى
حين يسود العكس باتباع الهدى للهوى ،ويجعل الرأي والفكر منقادًا للقرآن في الوقت الذي يجعلون القرآن فيه
طُفوا
عَ
ن ِإَذا َ
عَلى اْلُقْرآ ِ
ي َ
ف الّرْأ َ
ط ُ
عَلى اْلَهَوىَ ،وَيْع ِ
طُفوا اْلُهَدى َ
عَ
عَلى اْلُهَدىِ ،إَذا َ
ف) (1اْلَهَوى َ
ط ُتابعًا للرأيَ» :يْع ِ
ي«.عَلى الّرْأ ِ
ن َ
اْلُقْرآ َ
.1يعطف من مادة عطف على وزن فتح بمعنى الميل والرغبة أو الترغيب بشيء ،وقد تستعمل أحيانًا بصيغة المتعدي فتعني
الترغيب ،كما تتعدى أحيانًا بحرف إلى فتعني الرغبة في شيء ،وتتعدى أيضًا بحرف على فتعني الرجوع إلى الشيء وأخيرًا تتعدى
بحرف عن فتعني النصراف عن الشيء.
] [ 340
من أجل تحقيق أطماعهم للمشروعة ،ولو تأملنا أسباب البؤس والشقاء لرأيناها تتمثل بهذين الدائين ،تحكيم هو
النفس على العقل وتطبيق الرغبات الخفية على آيات القرآن من التفسير بالرأي ،وإن زال هذان السبيلن تمهد
السبيل من أجل بلوغ حكومة العدل اللهي ،ولعل جميع القضايا التي أصابت المسلمين منذ البداية لحّد الن إنما
تعود إلى هذين النحرافين كما يعود سبيل الصلح إلى إصلحهما.
—–
خَذ ِإَلَهُه
ن اّت َ
ت َم ْ
ن الهوى من بين حجب المعرفة ،حيث قال القرآن الكريمَ) :أَفَرَأْي َ ذكر العلماء في بحث المعرفة أ ّ
شاَوًة.(1)(...
غَصِرِه ِ
عَلى َب َ
ل َ
جَع َ
سْمِعِه َوَقْلِبِه َو َ
عَلى َ
خَتَم َ
عْلم َو َ
عَلى ِ
ل َ
ضّلُه ا ُ
َهَواُه َوَأ َ
صَرُه« ،والتفسير
شى َب َ
عَشْيئًا َأ ْ
ق َ
شَ
عِن َ
وما أورع ما قال أمير المؤمنين علي )عليه السلم( في الخطبة َ» :109وَم ْ
بالرأي وحمل اليات القرآنية عليه إحدى مكائد الشيطان الكبرى في تحريف العبارات عن معناها الواقعي وإسقاط
الوحي عن قيمته ،ومن هنا فقد عدت الحاديث السلمية هذا العمل بمنزلة الكفر حيث قال المام الصادق )عليه
ل َفَقد َكَفَر«) ،(2ولّما كان الوقوف بوجه هذين النحرافين من خصائص با ِ
ن ِكَتا َ
سَر ِبَرأيِه آَيًة ِم ْ
ن َف ّ
السلم(َ» :م ْ
ن الضمير في هذه العبارات يعود كما يعتقد شّراح نهج البلغة إلى المام المهدي المام المهدي )أرواحنا فداه( فا ّ
)عليه السلم(.
—–
] [ 341
القسم الثاني
عاِقَبُتَهاَ .أ َ
ل عْلَقمًا َ
عَهاَ ،ضا ُ حْلوًا َر َ لُفَهاُ ،
خَ جُذَهاَ ،مْمُلوَءًة َأ ْساقَ ،باِديًا َنَوا ِ عَلى َب ِبُكْم َ حْر ُ
حّتى َتُقوَم اْل َ و منَهاَ » :
ج َلُه الَْْرضُ خِر ُ
عَماِلَهاَ ،وُت ْى َأ ْ
ساِو ِعَلى َم َ
عّماَلَها َ غْيِرَها ُن َ خُذ اْلَواِلي ِم ْ ن ـ َيْأ ُ
ل َتْعِرُفو َغٌد ِبَما َ سَيْأِتي َ غد ـ َو َ َوِفي َ
سّنِة«.ب َوال ّ ت اْلِكَتا ِ
حِيي َمّي َ
سيَرِةَ ،وُي ْ ل ال ّ
عْد ُف َ سْلمًا َمَقاِليَدَهاَ ،فُيِريُكْم َكْي َ
َأَفاِليَذ َكِبِدَهاَ ،وُتْلِقي ِإَلْيِه ِ
—–
الشرح والتفسير
يمثل هذا القسم من الخطبة في الواقع استمرارًا للقسم السابق وهو إشارة إلى حوادث آخر الزمان يتعرض بادىء
المر فيها إلى المعارك الدموية المدمرة التي تثقل كاهل المجتمعات البشرية ويعّم الظلم والجور كافة الماكن ،ثم
ل ،ويوفر كافة مستلزمات الراحة يظهر رمز العدل اللهي فينهي النزاعات والقتتال ويمل الرض قسطًا وعد ً
جُذَها) ،«(1ثمساقَ ،باِديًا َنَوا ِ عَلى َب ِبُكْم َ
حْر ُ
حّتى َتُقوَم اْل َ
ن هذا الوضع سيتواصلَ » :
والرفاه ،فقال )عليه السلم( بأ ّ
حْلوًا
لُفَها)ُ ،(2خَ أشار إلى النتصارات التي تتحقق في بداية الحرب والمرارة التي تختتم بها فقالَ» :مْمُلوَءةً َأ ْ
ن الحرب تنطوي على لبن حلو وفي نفس الوقت مسموم عاِقَبُتَها« ،وكأ ّ
عْلَقمًا)َ (3
عَهاَ ،
ضا ُ
َر َ
» .2أخلف« :جمع »خلف« بالكسر بمعنى حلمة ضرع الناقة ،كما وردت بمعنى حلمة ضرع سائر الحيوانات كالبقرة والشاة.
» .3علقم« :برعم شديد المرارة يطلق عليه الحنظل ،وتطلق هذه الكلمة على كل شيء مّر.
] [ 342
بحيث يجذب الفراد المهوسين ليأملوا بتحقيق نصر خاطف سريع ،بينما يصرعون ويهلكون في نهاية المر ،ثم
غْيِرَها
ن َ
خُذ اْلَواِلي ِم ْ
ن ـ َيْأ ُ
ل َتْعِرُفو َ
غٌد ِبَما َ
سَيْأِتي َ
غد ـ َو َ
ل َوِفي َ
أشار المام إلى ظهور حكومة العدل اللهيَ» :أ َ
عَماِلَها«.
ى َأ ْ
ساِو ِ
عَلى َم َ
عّماَلَها َ
ُ
لْرضُ
ج َلُه ا َْ
خِر ُ
ثم تطرق إلى ذكر الوضاع المطلوبة المفعمة بالخير والبركة والتي تحصل بعد قيامه فقالَ» :وُت ْ
سّنِة« ،فمن جانب: ب َوال ّ
ت اْلِكَتا ِ
حِيي َمّي َ
سيَرِةَ ،وُي ْ
ل ال ّ
عْد ُ
ف َ
سْلمًا َمَقاِليَدَهاَ ،فُيِريُكْم َكْي َ
َأَفاِليَذ)َ (1كِبِدَهاَ ،وُتْلِقي ِإَلْيِه ِ
يتم اكتشاف المعادن النفيسة باطن الرض بسهولة.
ومن جانب ثان :بيده مقاليد تلك الكنوز أو مقاليد حكومة أرجاء الرض.
ومن جانب ثالث :يبسط العدل والقسط بالستناد إلى التمتع بتلك المصادر الغنية وهذه الحكومة الشاملة.
ومن جانب رابع :يحيى التعاليم المندرسة والقيم المغيبة للقرآن والكريم والسّنة الشريفة ،وهكذا تسير البشرية
ل حكومة المام المهدي )عليه السلم( ،وتحيى باتجاه التكامل على المستوى المادي والمعنوي ،فالعقول تتم في ظ ّ
القيم النسانية وتفيض النعم بأنواعها على الناس ويطاح بصنم الظلم والجور.
وقد وردت مثل هذه العبارات في الروايات المتعلقة بقيام المام المهدي )عليه السلم( فقد روي عن المام الباقر
ن ُكّلِه َوَلْو َكِرَه
ى الّدي ِ
عل َ
ظِهَرهُ ِدَينُه َ
بِ ،وُي ْ
ق والَمغِر َ
طاُنُه الَمشِر َ
سل َ
)عليه السلم( أّنه قال» :وَتظهُر َلُه الُكُنوُز وَيبُلُغ ُ
عّمَر«).(2 ل ُ
ب ِإ ّ
خرا ٌ ض َلر ِ عَلى َوجُه ا َ
ن َفل َيفَقى َ
شِركُو َ
اْلُم ْ
ض
ق الر ِ
شر َ
ل َلُه َ
حا ُ
جورًاَ ،فَيفَت ُ
ظلمًَا َو َ
ت ُ
طًا َكَما ُمِلَئ ْ
ل َوِقس َ
عد ً
ض َ
لر َ
ل ِبِه ا َ
لا ُ
وقا في موضع آخرَ» :يم ُ
غرِبهـا«).(3
َو َ
—–
» .1أفاليذ« :جمع »أفلذ« وهذا جمع »فلذ« على وزن فكر بمعنى كبد الناقة ،أو كبد كل إنسان أو حيوان :،وفلذة تعني قطعة من
الكبد ،والمراد بها في هذه العبارة الشياء النفيسة والكنوز والمعادن الثمينة في جوف الرض.
لمة الخوئي .8/353
.2شرح نهج البلغة لع ّ
] [ 343
القسم الثالث
سَ ،وَفَرشَ ضُرو ِ ف ال ّ ط َ ع ْعَلْيَها َف َ ط َن ،فََع َ حي ُكوَفا َ ضَوا ِ
ص ِبَراَياِتِه ِفي َ ح َ شاِمَ،وَف َ ق ِبال ّمنَهاَ» :كَأّني ِبِه َقْد َنَع َ
شّرَدّنُكْم ِفي
ل َلُي َ
صْوَلِةَ .وا ّ
ظيَم ال ّ عِ جْوَلِةَ ،طَأُتُهَ ،بِعيَد اْل َ
ض َو ْ لْر ِ ت ِفي ا َْ غَرُتُهَ ،وَثُقَل ْ ت َفا ِ
سَ .قْد َفَغَر ْ ض ِبالّرُؤو ِ لْر َ ا َْ
عَواِز ُ
ب ب َ ب ِإَلى اْلَعَر ِحّتى َتُؤو َ كَ ، ن َكذِل َ
ل َتَزاُلو َنَ ،ف َ ل ِفي اْلَعْي ِحِ لَ ،كاْلُك ْل َقِلي ٌل َيْبَقى ِمْنُكْم ِإ ّحّتى َ ض َ لْر ِ ف ا َْطَرا َِأ ْ
ن ِإّنَما
طا َ
شْي َ
ن ال ّعَلُموا َأ ّ
عَلْيِه َباِقي الّنُبّوِةَ .وا ْ
ب اّلِذي َ لَثاَر اْلَبّيَنَةَ ،واْلَعْهَد اْلَقِري َ
ن اْلَقاِئَمَةَ ،وا ْ سَن َ
لِمَها! َفاْلَزُموا ال ّحَ َأ ْ
عِقَبُه«.
طُرَقُه ِلَتّتِبُعوا َ
سّني َلُكْم ُُي َ
—–
الشرح والتفسير
ل بالشام فيشهر أشار المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة إلى حاكم دموي وغاشم ومقتدر يظهر مستقب ً
ص)(2
ح َ
شاِمَ،وَف َ
ق)ِ (1بال ّ
سيفه ويستولي على جميع البلد السلمية ،ثم ذكر له تسع صفات ،فقالَ» :كَأّني ِبِه َقْد َنَع َ
ن).«(4
حي)ُ (3كوَفا َ
ضَوا ِ
ِبَراَياِتِه ِفي َ
» .1نعق« :من مادة »نعق« على وزن كعب تعني في الصل صوت الغراب أوالصوت الذي يخرج من الشاة حين يذودها الراعي
وتشير هنا إلى زعيق الظالم في الشام.
» .2فحص« :من مادة »فحص« على وزن بحث تعني في الصل البحث ،كما وردت بمعنى البسط وهذا هو المعنى المراد بها في
الخطبة.
» .3ضواحي« :جمع »ضاحية« من مادة »ضحو« على وزن سهو بمعنى التعرض للشمس كما تطلق الضواحي على المناطق أطراف
المدن.
» .4كوفان« :اسم آخر للكوفة وتعني في الصل تلل الرمل الحمراء الدائرية.
] [ 344
ن ذلك الشخص هو السفياني الذي يسبق ظهور المام المهدي )عليه السلم( حيث يظهر في الشام والرأي الخر أ ّ
ن القسام السابقة من الخطبة بشأن ظهور المام المهدي ويسفك الدماء ويدعو الناس إلى نفسه ،وبالنظر إلى أ ّ
ن هذا القسم في الظهور أيضًا ،والعبارات المذكورة إشارة إلى ظهور السفياني. )عليه السلم( لذلك يبدو أ ّ
ن رسول ال )صلى ال عليه وآله( أشار إلى فتنة بين أهل الشرق
وقد ورد في الخبر عن حذيفة بن اليمان أ ّ
والغرب فيخرج السفياني حتى يرد دمشق فيبعث بجيش إلى الشرق وآخر إلى المدينة حتى
» .1ضروس« :من مادة »ضرس« بمعنى عض الشيء والضغط عليه ،وتطلق الضروس على الناقة السيئة الخلق التي تعض
حالبها.
» .2فغرت« :من مادة »فغر« على وزن فقر بمعنى فتح الفم ،وهي هنا كناية عن الحرص في الستيلء على كل شيء ،وافغر اسم
فاعل من هذه المادة.
» .3جولة« :من مادة »جول« على وزن قول بمعنى الحركة والدوران حول مكان ،وهى كناية عن السعي والجهد المتواصل.
» .4الصولة« :من مادة »صول« على وزن قول بمعنى الحملة في الحرب أو القفز علي شيء.
] [ 345
يصل بابل وبغداد ،فيقتل أكثر من ثلثة الف وينتهك عرض أكثر من مئة إمرأة ،ثم يّتجهون إلى الكوفة فيخربون
أطرافها ،ثم يعودن إلى الشام ،فتظهر راية هدى في الكوفة وينطلق جيشها إلى جيش السفياني فيقتله ول ينجو منه
ل واحد يخبر عن الحادثة )وهكذا تخمد الفتنة(.
إّ
لمة المجلسي نقل أصحابنا هذا الحديث عن المام الباقر )عليه السلم( والمام الصادق )عليه
قال المرحوم الع ّ
السلم( ضمن أحاديث المهدي )عليه السلم().(1
ن هذا الوضع من ولكن القسم الخير من هذه الخطبة ل ينسجم مع هذا التفسير ،ثم قال المام )عليه السلم( :بأ ّ
الضطراب وسفك الماء والبعاد والتشتت يستمر حتى يعود إلى العرب رشدها وعقلها فتتخلص بهذا العقل من
لِمَها!).«(4
حَب)َ (3أ ْ
عَواِز ُ
ب َ
ب) (2إَِلى اْلَعَر ِ
حّتى َتُؤو َ
كَ ،
ن َكذِل َ
ل َتَزاُلو َ
فرقتها واختلفها وتتحد كلمتهاَ» :ف َ
ثم أمر الناس بأربع من شأنها نصرهم على حّكام الظلم والجور ،وإعادة المن والسلم إليهم فقال )عليه السلم(:
سّني)(5
ن ِإّنَما ُي َ
طا َ
شْي َ
ن ال ّ
عَلُموا َأ ّ
عَلْيِه َباِقي الّنُبّوِةَ .وا ْ
ب اّلِذي َ
لَثاَر اْلَبّيَنَةَ ،واْلَعْهَد اْلَقِري َ
ن اْلَقاِئَمَةَ ،وا ْ
سَن َ
»َفاْلَزُموا ال ّ
عِقَبُه«.
طُرَقُه ِلَتّتِبُعوا َ
َلُكْم ُ
والمراد بالسنن القائمة ضروريات السلم وتعاليمه التي ينبغي أن تكون محور النشطة السياسية والجتماعية
والفردية في كل زمان ،والمراد بالثار البّينة هى الخبار والروايات التي ثبتت من الطرق المعتبرة والتي تختزن
أغلب التعاليم والوصايا السلمية ،والمراد بالعهد القريب وصّية النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( بولية علي
)عليه السلم( ،والمراد بالعبارة »واعلموا «...مراقبة الشيطان والحذر منه في التيان بالمور المذكورة ،وذلك
ن الشيطان يسهل طرقه ليصد الناس عن طاعة ال والئمة المعصومين )عليه السلم( والذي ل يخلو عادة من لّ
المصاعب ،أّما الفراد الذين اعتبروا
.1بحار النوار 52/186ـ 187بتصرف.
» .3عوازب« :جمع »عازبة« في الصل من مادة »عزبة« من ل زوجة له ،لكنها وردت أحيانًا بمعنى الخفاء والبتعاد ،وهذا هو
المراد بها في العبارة.
» .5يسني« :من مادة »سنو« تعني في لصل ري الرض من الغيوم ،ثم استعملت بمعنى مطلق التسهيل من أجل القيام بعمل.
] [ 346
القسم الخير من الخطبة بشأن حكومة عبدالملك بن مروان فيرد عليهم إشكالت:
ل عقل العربن اسقاط حكومة بني أمية ومجيىء حكومة بني العباس قد تّم في ظ ّ الول :مفهوم العبارة هو أ ّ
ن بني العباس قد واصلوا جنايات بني أمية ولم تكن
ودرايتها والعودة إلى الطريق الصحيح ،والحال نعلم أ ّ
ل أن يقال بعقلئية سقوط بني أمية وشروع حركة بني العباس وإن ل استبدادًا من حكومة بني أمية ،إ ّحكومتهم أق ّ
انحرفوا في مواصلة الطريق.
الثاني :لم يكن ظهور بني العباس مباشرة بعد موت عبدالملك ،بل استغرق عشرات السنين حيث حكم ولد
ن حكومة ولد عبدالملك كان امتدادًا ل أن يقال في جواب هذا الشكال أ ّ
عبدالملك ثم أعقب ذلك سقوط بني أمية ،إ ّ
لحكومته ،ولكن من اعتبر القسم الخير من الخطبة إشارة إلى خروج السفياني قبل قيام المام المهدي )عليه
سر العبارات المذكورة على أّنها بعد سفك الدماء الطائش في آخر الزمان والفساد الذي يحصل الناس السلم( قد ف ّ
مع خروج السفياني ،حيث يطرح حجب الغفلة وتتم العقول وتستعد الناس لقبول حكومة المهدي )عليه السلم(لبّد
في تلك الشرائط ومن أجل مزيدًا من الستعداد من حفظ السنن السلمية والولء للولية ،وقد مّر علينا في
الخطبة 101العبارات المشابهة لما ورد في هذه الخطبة ،وقد وردت البحاث بشأن تطبيقها على حكومة
عبدالملك.
—–
] [ 347
الخطبة)139 (1
ن عمر حين أشرف على الموت عهد بتشكيل الشورى المؤلفة من ستة أفراد لتعيين الخليفة ،كان أحدهم عليًانعلم أ ّ
)عليه السلم( وعثمان ،وكان إختيار الفراد قد جرى وفق تخطيط وسياسة ،وكان الهدف واضحًا منذ البداية في
إقصاء علي )عليه السلم( وتسلم عثمان لزمام المور بصفته الخليفة السابق ،بل بصفته منتخب شورى كبار
المسلمين وقد مضى شرح ذلك في الخطبة الشقشقية).(2
أّما المام علي )عليه السلم( الذي كان ينظر لما هو أبعد من الشورى فقد خطب هذه الخطبة ليحذر أصحاب
الشورى ،وقد ذكر المرحوم السيد الرضي جانب منها.
—–
.1سند الخطبة:
نقل هذه الخطبة الطبري في تاريخه في شرح حوادث عام 23هـ )عام قتل عمر( وقال ابن أبي الحديد هذا جزء من خطبة خطبها علي
)عليه السلم( في أصحاب الشورى بعد وفاة عمر ،وقد ورد في الكلمات القصار رقم » 22لنا حق «...وهو جزء من هذه الخطبة
)مصادر نهج البلغة .(2/302
] [ 348
] [ 349
ن َتَرْوا هَذا
سى َأ ْ
عَطِقي; َ عوا َمْن ِ سَمُعوا َقْوِليَ ،و ُ
عاِئَدِة َكَرمَ .فا ْ
حمَ ،و َصَلِة َر ِ
قَ ،و ِحّعَوِة َ
حٌد َقْبِلي ِإَلى َد ْع َأ َسِر َن ُي ْ
»َل ْ
شيَعًة
لَلِةَ ،و ِ
ضَل ال ّ
لْه ِ
ضُكْم َأِئّمًة َِ
ن َبْع ُ
حّتى َيُكو َن ِفيِه اْلُعُهوُدَ ،خا ُ
فَ ،وُت َ
سُيو ُضى ِفيِه ال ّ
ن َبْعِد هَذا اْلَيْوِم ُتْنَت َ
لْمَر ِم ْ ا َْ
جَهاَلِة«.ل اْل َ
لْه ِ َِ
—–
الشرح والتفسير
الول :أشار فيه المام )عليه السلم( إلى جانب من فضائله ،ولم يكن ذلك بدافع الفخر ومدح النفس ،بل ليمهد
السبيل أمام الخرين للقبول.
الثاني :طلب فيه من مخاطبيه سماع ما يقول وقبول نصائحه التي تستبع خيرهم ومصالحهم وسعادتهم.
والقسم الثالث :تطرق فيه إلى الحوادث الليمة التي يشهدها المجتمع السلمي في حالة عدم قبول مواعظه
وإشراته.
عاِئَدِة َكَرم«.
حمَ ،و َ
صَلِة َر ِ
قَ ،و ِ
حّ
عَوِة َ
حٌد َقْبِلي ِإَلى َد ْ
ع َأ َ
سِر َ
ن ُي ْ
فقد قال في القسم الولَ» :ل ْ
] [ 350
طِقي« ،ل تتعجلوا المور بانتخاب عوا َمْن ِ سَمُعوا َقْوِليَ ،و ُ ثم قال بالستناد إلى إذعان الجميع بالفضل فيما ذكرَ» :فا ْ
عثمان ،فهذا عمل خطير له عواقب وخيمة على المسلمين ،وتطرق )عليه السلم( إلى المصير الصعب الذي
ن ِفيِه
خا ُ
فَ ،وُت َ
سُيو ُ
ضى)ِ (4فيِه ال ّ ن َبْعِد هَذا اْلَيْوِم ُتْنَت َلْمَر ِم ْن َتَرْوا هَذا ا َْ
سى َأ ْعَسيفرزه هذا النتخاب فقالَ » :
جَهاَلِة«. ل اْل َ
لْه ِشيَعًة َِ
لَلِةَ ،و ِ
ضَ ل ال ّ لْه ِ
ضُكْم َأِئّمًة َِ
ن َبْع ُ
حّتى َيُكو َ
اْلُعُهوُدَ ،
ن هذا الخبار إشارة لحادثة قتل عثمان وشهر السيوف ونقض البيعة من هناك خلف بين شّراح نهج البلغة في أ ّ
قبل بعض الفراد كطلحة والزبير وأمثالهما أم إشارة إلى تمرد الناكثين والقاسطين والمارقين )أصحاب الجمل
وصفين والنهروان( ،ولكن بالنظر إلى الظروف التي وردت فيها هذه الخطبة )حين تشكيل الشورى لنتخاب
الخليفة الثالث( ،يبدو المعنى الول أقوى ،وكما تكهن المام )عليه السلم( فبمجّرد تسلم عثمان زمام المور حتى
بدأ التبذير والبذخ في بيت مال المسلمين وحصل أقرباؤه وبطانته على المراكز الحساسة في البلد السلمي
فتهافتوا على بيت المال ليفعلوا فيه ما شاؤوا ،وهو المر الذي أثار غضب المسلمين فثاروا عليه وكان في مقدمة
من ثار عليه طلحة والزبير ،وقد تبعهم طائفة من الناس فحصل ما لم ينبغي أن يحصل ،والحال لو لم تسود
الشورى تلك العصبيات والملحظات الشخصية وفوضت الخلفة لهلها ،لما وقعت تلك الحوادث المريرة ول ما
ل حوادث عصر عثمان. ن جذور فتنة الناكثين والقاسطين والمارقين إّنما ترعرعت في ظ ّ تبعها من نتائج ،وذلك ل ّ
—–
» .4تنتضي« :من مادة »نضو« و»نضي« على وزن نظم بمعنى سل السيف ،أوالخروج من البيت وشحوب اللون وما شباه ذلك،
والمراد بها في العبارة المعنى الول.
] [ 351
جذور الفساد
ذكرنا في المجلد الول من هذا الكتاب في شرحنا لخطبة الثالثة المعروفة بالخطبة الشقشقية قصة الشورى المؤلفة
من ستة أفراد والتي شّكلها عمر وأّدت إلى انتخاب عثمان كخليفة والتي تمثل في الواقع مؤامرة ضد خلفة علي
)عليه السلم( ،وقد أوردنا جانبًا من القوال بهذا الشأن استنادًا إلى التواريخ المعتبرة والذي نود إضافته هنا إلى
ن أغلب مشاكل المسلمين قد ما ذكرناه هو أننا لو أنعمنا النظر في تركيب هذه الشورى وحوادثها السلبية وسنرى أ ّ
أفرزتها تلك الشورى ،ومن ذلك أيضًا حكومة عثمان واستيلء بني أمية وبني مروان على المناصب الحساسة
للبلد السلمية وبيت المال المسلمين وحكومة معاوية ومعارك الجمل وصفين والنهروان ومن ثم حكومة يزيد
وأمثال عبدالملك.
فهذه الشورى هى التي أّدت بالتالي إلى تغييب القيم السلمية وأحيت السنن الجاهلية والمعايير المادية والدنيوية
وشادت المجتمع السلمي وقطعت ألسن دعاة الحق ونفت وشردت أبي ذر وأثارات النقمة ضد عّمار بن ياسر
حين اعترض على نتيجة الشورى فلم يكترث أحد لما كان يقول :فقد استوى ُاوالئك العتاة على عرش الغرور
والحمية فعاثوا الفساد في أوساط المجتمعات السلمية ،الفساد في الحكومة والفساد في اليمان والخلق ،ولو
سمحت النعرات الطائفية بالتعامل الدقيق مع هذه الحداث لتضحت فداحة الخسارة التي مني بها المسلمون من
جراء الشورى.
—–
] [ 352
] [ 353
الخطبة)140 (1
نهى المام )عليه السلم( الناس في هذه الخطبة عن اغتياب بعضهم البعض الخر وقد عزز ذلك بعّدة أدلة ،فقد
ذكر بادىء المر وجوب الشكر على من تطهر من العيوب والذنوب ،ويتمثل شكرها بتجنب الغيبة واقتفاء عيوب
الخرين ،المر الخر لو تأمل صاحب الغيبة نفسه لكتشف فيها العيوب التي يحاول العثور عليها في الخرين،
فكيف والحال كذلك يسعى لذم الخرين على عيوبهم وهم يحملونها ،وأخيرًا لعل النسان يقارف الصغيرة وهو
يظن بأّنه لم يرتكب الكبيرة من الذنوب فيخوض في غيبة الخرين ،وتقصي معايبهم وهذا بحّد ذاته من الكبائر،
ن ال قد غفر لهم بينما لم يغفر لمن فتش عن عيوب الخرين، أضف إلى ذلك فما يدري من يغتاب الخرين أ ّ
ن ال قد أغلق الطريق على أصحاب الغيبة والباحثين عن عيوب الناس ليطهر المجتمع السلمي وزبدة الكلم فا ّ
من هذه الفاحشة.
—–
.1سند الخطبة:
ن مصدره غير نهج البلغة )مصادر نهج ذكر المدي في كتاب »غرر الحكم« مع فارق وما ورد في نهج البلغة وهذا يدل على أ ّ
البلغة ،(2/314كما وردت هذه الخطبة في بعض المصادر كجزء من خطبة تعرف بالديباج )كتاب تمام نهج البلغة(.
] [ 354
] [ 355
القسم الول
شْكُر ُهوَ ن ال ّ
صَيِةَ ،وَيُكو َ
ب َواْلَمْع ِ ل الّذُنو ِ حُموا َأْه َ
ن َيْر َ لَمِة َأ ْ
سَ ع ِإَلْيِهْم ِفي ال ّصُنو ِصَمِة َواْلَم ْ ل اْلِع ْ
لْه ِ »َوِإّنَما َيْنَبِغي َِ
عَلْيِه
ل َ
سْتِر ا ّ
ضَع َ خاُهَ ،وعَّيَرُه ِبَبْلَواُهَ .أَما َذَكَر َمْو ِب َأ َ
عا َ ب اّلِذي َ ف ِباْلَعاِئ ِعْنُهْمَ ،فَكْي َ
جَز َلُهْم َ
حا ِعَلْيِهْمَ ،واْل َ
ب َاْلَغاِل َ
ك الّذْن َ
ب ب ذِل َ
ن َرِك َ ن َلْم َيُك ْ
ب ِمْثَلُه! َفِإ ْ
ف َيُذّمُه ِبَذْنب َقْد َرِك َ عاَبُه ِبِه! َوَكْي َب اّلِذي َ ن الّذْن ِظُم ِم ْ
عَ ن ُذُنوِبِه ِمّما ُهَو َأ ْ ِم َ
صِغيِر،صاهُ ِفي ال ّ ع َصاهُ ِفي اْلَكِبيِرَ ،و َ ع َ ن َلْم َيُكنْ َ
ل َلِئ ْ
ظُم ِمْنُهَ .واْيُم ا ّ
عَ سَواُهِ ،مّما ُهَو َأ ْل ِفَيما ِصى ا ّ ع َِبَعْيِنِه َفَقْد َ
س َأْكَبُر!«. ب الّنا ِعْي ِ عَلى َ جرَأُته ] َ جَراُتُه [َل ُ َل َ
—–
الشرح والتفسير
إهتم السلم بقضية الغيبة وإقتفاء عيوب الخرين على أّنها من المشاكل الجتماعية الكبرى التي تشيع روح
التشاؤم والنفاق وتفكك عرى الثقفة وتقضي على روح التحاد والخوة ،ومن هنا عّدها السلم من الذنوب
لولى التي شملتها عناية ال سبحانه فلم الكبيرة ،وقد قسم المام )عليه السلم( الناس إلى خمس طوائف ،الطائفة ا ُ
سلََمِة َأ ْ
ن ع ِإَلْيِهْم ِفي ال ّ
صُنو ِ
صَمِة َواْلَم ْ
ل اْلِع ْ
لْه ِ تتلوث بالذنوب المعاصي ،فقال بشأن هذه الطائفةَ» :وِإّنَما َيْنَبِغي َِ
عْنُهْم« ،فأي نعمة أعظم من أن جَز َلُهْم َ
حا ِ
عَلْيِهْمَ ،واْل َ
ب َشْكُر ُهَو اْلَغاِل َ
ن ال ّ
صَيِةَ ،وَيُكو َ
ب َواْلَمْع ِ
ل الّذُنو ِ
حُموا َأْه َ
َيْر َ
يتلطف ال تعالى على إنسان ويصونه من مقارفة الذنب ،وأي شكر أعظم من شكر هذه النعمة اللهّية الكبرى بأن
يحفظ لسانه من إغتياب الخرين واقتفاء عيوبهم.
ن حب الذات ل يدعهم
الطائفة الثانية التي تحمل العيوب وتذم الخرين على مثلها ،أي إ ّ
] [ 356
ب اّلِذي
ف ِباْلَعاِئ ِ
يرون عيوبهم بينما دقيق هو في متابعة عيوب الخرين ،وقد قال فيها علي )عليه السلم(َ» :فَكْي َ
عاَبُه ِبِه!«.ب اّلِذي َن الّذْن ِ
ظُم ِم ْ
عَ
ن ُذُنوِبِه ِمّما ُهَو َأ ْ
عَلْيِه ِم َ
ل َ
سْتِر ا ّ
ضَع َ
عّيَرُه ِبَبْلَواُهَ .أَما َذَكَر َمْو ِ
خاُهَ ،و َ
ب َأ َ
عا َ
َ
ن النسان المؤمن يجب أن يتحلى بقبسات من صفات ال سبحانه ،فال ستار العيوب ،فينبغي عليه أن
إشارة إلى أ ّ
يستر عيوب الخرين.
الطائفة الثالثة التي ترتكب الذنوب وتذم الخرين على مثلها ،والحال من الطبيعي أن يكون النسان أحرص على
نفسه من الخرين ،فكيف لهذا النسان بالتفكير في عيوب الخرين دون أن يهم بإصلح نفسه وعيوبه ،أي عقل
يسّول للنسان نسيانه لذاته بصورة كلية ويلقي بها في مستنقع البؤس والشقاء فيخوض في ذنوب الخرين ،ناهيك
ب ِمْثَلُه!«.
ف َيُذّمُه ِبَذْنب َقْد َرِك َ
ن الدافع من ذلك هوالفساد ل الصلح ،فقد قال المام )عليه السلم(َ» :وَكْي َ
عن أ ّ
الطائفة الرابعة من تذم الخرين على ذنوب لم ترتكبها ،لكّنها إرتكبت ما هو أفضع منها ،وهو غافل عن هذه
ل ِفَيما
صى ا ّ
ع َ
ب ِبَعْيِنِه َفَقْد َ
ك الّذْن َ
ب ذِل َ
ن َرِك َ
ن َلْم َيُك ْ
الذنوب غير مكترث لها ،فقال المام )عليه السلم( بشأنهاَ» :فِإ ْ
ظُم ِمْنُه«.
عَسَواُهِ ،مّما ُهَو َأ ْ
ِ
الطائفة الخامسة التي رّبما لم ترتكب تلك الذنوب التي تذم الخرين على إرتكابها ،حيث لم تصدر منها سوى
صاُه
ع َ
صاهُ ِفي اْلَكِبيِرَ ،و َ
ع َ
ن َ
ن َلْم َيُك ْ
ل َلِئ ْ
بعض الصغائر من الذنوب فقال قال المام )عليه السلم( بشأنهاَ» :واْيُم ا ّ
س َأْكَبُر!«.
ب الّنا ِ
عْي ِ
عَلى َ
جرَأُته ] َ
جَراُتُه [َل ُ
صِغيِرَ ،ل َ
ِفي ال ّ
وهكذا أغلق المام )عليه السلم( جميع الطرق على ُاولئك الذين يقتفون عيوب الخرين ويسلبهم أية ذريعة بعد
أن يذكرهم بكافة العواقب الوخيمة التي تترتب على شنائع أعمالهم ،ليبتعدوا عن وساوس الشياطين ويطلعهم على
أهوائهم وقبح أفعالهم ليجسدها أمام أنظارهم.
—–
] [ 357
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
أكد المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة تلك المبادىء التي أوردها في القسم السابق وقد حذر كافة العباد
لَ ،
ل عْبَدا ّ
من تتبع عيوب الخرين وغيبتهم ،ثم تابع هذا المر من خلل الدلة المنطقية فقال )عليه السلم(َ» :يا َ
عَلْيِه«.
ب َ
ك ُمَعّذ ٌ
صَيةَ ،فَلَعّل َ
صِغيَر َمْع ِ
ك َ
سَ
عَلى َنْف ِ
ن َ
ل َتْأَم ْ
حد ِبَذْنِبِهَ ،فَلَعّلُه َمْغُفوٌر َلُهَ ،و َ
ب َأ َ
عْي ِ
ل ِفي َ
جَْتْع َ
ن ذنب الخرين قد يغفر بسبب التوبة أو شفاعة المعصومين )عليه السلم( أو على أساس القيام في إشارة إلى أ ّ
بأعمال الخير بينما يؤاخذ هذا النسان بذنبه مهما كان صغيرًا بفعل الغرور والغفلة ،وعليه كيف يسمح العاصي
لنفسه بذم الخرين على معايبهم ومثالبهم فيغتابهم؟
ثم إختتم الخطبة بالشارة إلى المطلب الذي ذكره في القسم الول من الخطبة ولكن بعبارة أخرى فقال )عليه
غْيُرُه«.
ي ِبِه َ
عَلى ُمَعاَفاِتِه ِمّما اْبُتِل َ
ل َلُه َ
غًشا ِ
شْكُر َ
ن ال ّ
السلم(َ» :وْلَيُك ِ
] [ 358
فو فرضنا تنزه شخص عن كل عيب أو عيوب معينة ،فذلك نعمة كبيرة تستحق شكر ال والشعور بلطف ال
ن مثل هذا الشكر يشغل النسان بنفسه إلى الحد الذي يسلبه فرصة البحث عن عيوب
تعالى وعنايته ،والحق إ ّ
الخرين.
نعم ،فهذا المعلم الرباني يعتمد مختلف الدلة المنطقية بغية القضاء على هذه الرذيلة القبيحة المتمثلة بالغيبة
وتحري عيوب الخرين ،كما يغلق جميع الطرق على أصحاب الحجج والذرائع.
—–
ن هذه الظاهرة شائعة في أغلب المجتمعات البشرية، الغيبة تعني إفشاء عيوب الفراد ومثالبهم ،والمؤسف له هو أ ّ
ن السند
وبما ل شك فيه أّنها تختزن مختلف الثار السلبية على المستوى الخلقي وكذلك الجتماعي ،وذلك ل ّ
الرصين لكل مواطن في المجتمع هو ماء وجهه ،والغيبة تزيل ماء الوجه وتطعن في شخصية الفرد وتقضي على
روح الثقة وبين أفراد المجتمع والتالي تلعب دورًا سلبيًا في إضعاف التعاون الجتماعي ،ومن هنا عّدها الشارع
وحداة من أقبح وأشنع الذنوب حتى شبهها القرآن الكريم يأكل لحم الخ الميت ،وقال رسول ال )صلى ال عليه
حراٌم
عَليُكم َ
ضُكم َ
ن ِدمـاَءُكم َوَأمواَلُكم َوَأعرا َس ِإ ّ
جة الوداع وهى خطبة حساسة» :أّيها الّنا ُ وآله( في خطبة ح ّ
ل والّدَم«).(1
حّرَم الَما َحّرَم الِغيَبَة كََما َ
ل َنا َ شْهِرُكم هـذا ِفي َبَلِدُكم هـذا ِإ ّ
حرَمِة ِيوِمُكم هذا ِفي ِ
َك ُ
ت َِتاِئبًا
ن ما َ
ن ال تبارك وتعالى أوحى إلى موسى بن عمرانَ» :م ْ وكفى بقباحة الغيبة ما ورد في الحديث القدسي أ ّ
ل الّناَر«).(2
خُن َيد ُ
ل مَ ْ
عَليها َفُهَو َأو ُ
صرًا َ
ت ُم ِن َما َ
جّنَة َوَم ْ
ل ال َ
خُن َيد ُ
خُر َم ْ
ن الِغيَبِة َفُهَو آ ِ
ِم ْ
خطوة
ل ُ
ن َأو ُ
عوَرَتُه َكا َ
ف َ
ش َ
خيِه َوَك َ
غيَبِة َأ ِ
ن َمشى ِفي ِ
وقال رسول ال )صلى ال عليه وآله( بهذا الشأنَ» :م ْ
جَهّنَم«).(3
ضَعهـا ِفي َ
طاَها َو َ
خََ
] [ 359
ن«).(1
ب ِبالّدي ِ
خِر َ
ل َ
س ِبالِغيَبِة إ ّ
عَمَر َمجِل ٌ
كما قال )صلى ال عليه وآله(َ» :ما َ
وكثيرة هى الحاديث التي وردت بهذا الخصوص والتي ل يسع المجال ذكرها ،ونكتفي هنا بذكر حديث آخر عن
المام الصادق )عليه السلم( :ونحيل من أراد المزيد إلى المجلد الثالث من كتاب الخلق في القرآن في مبحث
عَلى ُك ّ
ل حراٌم َ
الغيبة وكتاب جامع السعادات المجلد الثاني والمجلد الثامن من وسائل الشيعة ،حيث قال» :الِغيَبُة َ
ب«).(2 ط َ
حَل الّناُرال َ
ت َكَما َتأُك ُ
سنا ِ
حَل ال َ
ُمسِلم َوَأّنها َتأُك ُ
ن السلم يرى حرمة ماء وجه المسلم والتي تعدل حرمة دمه ،وقد اقترن العرض بالدم في والحقيقة هى أ ّ
ن من إغتاب شخصًا آخر وانتهك حرمته الجتماعية وأراق الروايات والخبار السلمية وبناءًا على ما تقدم فا ّ
ماء وجهه فكأنه قتله ،ومن هنا تواترت الروايات التي أكّدت الثمن الباهض الذي سيدفعه صاحب الغيبة يوم
ن لم يكن له من
القيامة وما سيؤخذ منه حسنات بسبب ما اقترف من غيبة فتضاف إلى حسنات من إغتابه ،فا ّ
حسنات ،أخذت من سيئات من إغتابه وأضيفت إلى سيئات صاحب الغيبة.
نعم ،الغيبة حق الناس على غرار قتل النفس وجرح الفراد ،ولهذا فلو إلتفت المؤمنون إلى تبعات السيئة لهذه
الذنوب والتي صورتها الروايات السلمية لما سعى لمقارفة هذه السيئة ،وهذا ما دفع بالمام )عليه السلم(
للتيان بعّدة أدلة منطقية لبيان الثار السيئة لهذه السيئة وقد حذر الجميع من مقارفتها ،ويبدو بحث موضوع الغيبة
من البحاث الواسعة كما صورها علماء الخلق ونكتفي هنا بذكر بعض المور بهذا الشأن:
1ـ لبّد أن نّتجه قبل كل شيء نحو دوافع الغيبة وذلك لّنه يمكن الستدلل على قبح النتائج من خلل قبح
ب الدنيا والثأر والسخرية
ب الذات والغرور والتكبر والحقد والرياء وح ّ
الدوافع ،فدافع الغيبة غالبًا هوالحسد وح ّ
والستهزاء بالخرين وما شاكل ذلك ،حيث يحاول الفراد الملوثون بهذه المراض بلوغ أهدافهم السيئة عن
ن الداوفع المذكورة جميعًا من الكبائر فاّنه يمكن الوقوف على قباحة الغيبة.
طريق الغيبة وبالنظر إلى أ ّ
—–
] [ 360
ن أهم أرصدة المجتمع وسنده الصل والذي من شأنه توحيد الفراد ويدفعهم باّتجاه الهداف النبيلة هو الثقة 2ـإّ
ن كل فرد في ن أولى النتائج السيئة للغيبة تتمثل بالقضاء على هذا السند ،وذلك ل ّ
المتبادلة ومّما ل يشك فيه أ ّ
ن بقيت خفية لن تنعكس سلبًا على الخرين ويبقى التفاؤل ثقة الفراد الغالب ينطوي على عيب أو عيوب فا ّ
بعضهم بالبعض الخر قائمة ،أّما كشف هذه العيوب عن طريق تحريها والبحث عنها وممارسة الغيبة وذم كل
فرد آخر إّنما يحيل المجتمع إلى جهنم محرقة بحيث يسيىء كل فرد الظن بالخر وينفر منه ،بالنتيجة تزعزع
النظام العام للمجتمع وتعّرضه للقلق والضطراب.
ن سلب ماء الوجه وبعبارة أخرى كما يتهدد المن العام للمجتمع بفعل نهب الموال وسفك دماء البرياء ،فا ّ
وسرقته من الخرين عن عن طريق الغيبة إّنما يشيع تلك الفوضى ويقضي على المن ،وذلك لّنه كما ورد في
ن التعرض لحيثيات الخرين بمثابة التعرض لنفسهم الرواية المذكورة عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( فا ّ
وأموالهم ،ل يمكن كتمان الغيبة عادة وتفشي على صاحبها فتشتعل فيهم نيران الحقد والكراهية ،الحقد الذي يمهد
السبيل أمام سفك الدماء وعظام المشاكل ،والغيبة أحد أسباب إشاعة الفحشاء وعامل مهم من عوامل سوء الظن،
ن المذنب الثم يراعي عادة جانب الحتياط إن بقيت معصيته إلى جانب كونها تجعل الثم جريئًا في ذنوبه ،ل ّ
خفية مستورة ،فان هتكت زال حجاب الحياء والخجل.
—–
3ـ الغيبة حق الناس ،والمسألة المهّمة بشأن الغيبة أّنها ليست معصية بين النسان ورّبه تبارك وتعالى يمكن
غسلها بماء الندم فتحصل التوبة ،بل كما ل يمكن تلفي الخسائر الناجمة عن سفك الماء وغصب الموال دون
القصاص أو الدية ودفع التعويضات المالية ،فاّنه ل يمكن غفران إزالة ماء وجه الخرين دون تعويض ،سّيما إن
توفي من أغتيب ولم يكن هناك من سبيل لمن إغتابه للوصول إليه ولم يبق أمامه سوى الحساب والقيامة ،يعني
حين ل يكون هنالك من سبيل للتعويض سوى إضافة حسناته إلى ذلك الفرد أو تقبل سيئاته ،وهذه بحّد ذاته مصيبة
كبرى.
—–
] [ 361
ن أفضل علج للغيبة يتمثل بما ذكره مولى الموحيد أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( في الكلم المذكور وقد
4ـإّ
لفت انتباه النسان إلى هذه الحقيقة وهى إن رأى النسان عيبًا ومنقصة في شخص آخر وليس فيه مثلها ،فقد وجب
عليه شكر ال ،الشكر الذي يصده عن تحري عيوب الخرين ،وإن قارف معصية وقد إرتكبها مثله ،فل ينبغي له
ن كبيرة غيره رّبما
أن يتجاهل عيبه وينشغل بعيوب الخرين ،وإن إرتكب الصغيرة وجب عليه أن يفكر في أ ّ
غفرت ولم يغفر له ،بل جرأته على تقصي عيوب الخرين لكبر من ذنونهم مهما كبرت.
ن المراض الروحية
ن المراض البدنية لن تعالج بصورة تامة ما لم تزول جذورها فا ّ
أضف إلى ذلك فكما أ ّ
كالغيبة لبّد من إقتلع جذورها حتى تزول الرغبة في مقارفتها.
—–
ن السامع شارك في إراقة ماء 5ـ استماع الغيبة أحد الذنوب ـ كما سيأتي شرح ذلك في الخطبة القادمة ـ ذلك ل ّ
وجه مسلم فهو شريك في الجرم ،سّيما إن إستمع مختارًا بما يجعله سببًا لتشجيع صاحبه الغيبة.
—–
6ـ ل يقتصر سبيل التوبة عن الغيبة على الستغفار ،بل لبّد من محاولة تعويض من أغتيب وُاريق من ماء
وجهه إلى جانبي الندم والتوسل إلى ال تعالى في طلب العفو الرحمة ،فان أمكن مناشدته إبراء الذّمة ،وأّما إن
تعّذر ذلك بسبب ترتب مفسدة ،أو توفى الشخص ،فلبّد من القيام بأعمال الخير من أجله حتى يرضى ،وكل هذه
المور تشير إلى مدى فضاعة الغيبة وصعوبة التخلص من تبعاتها ،ومن أراد المزيد بشأن المسائل المتعلقة
بالغيبة ومن ذلك موارد الستثناء عليه مراجعة الجلد الثالث من كتاب الخلق في القرآن).(1
—–
.1للمؤلف.
] [ 362
] [ 363
الخطبة)141 (1
ن َكلم لُه )عليه السلم(
َوِم ْ
ق والباطل
في النهي عن سماع الغيبة وفي الفرق بين الح ّ
ن هذا الكلم مواصلة للخطبة السابقة ،فقد ورد الحديث في الخطبة السابقة عن نهي الناس عن الغيبة،
يبدو أ ّ
وجرى الكلم هنا في النهي عن سماع الغيبة ،كما أكد )عليه السلم( عدم تصديق كل ما يصدر من الشخص
بهدف حفظ شخصية الخرين ،فالخطأ جائز حتى على الصادقين.
وإختتم )عليه السلم( الخطبة بوصّية الجميع بعدم تصديق الشيء ما لم يره ،فما أكثر الخطأ واللبس في السماع.
—–
.1سند الخطبة:
نقلها القاضي القضاعي في كتاب »دستور معالم الحكم« ،كما نقل جزءًا منها علي بن هذيل في كتاب »عين الدب والسياسة« ،وكذلك
المرحوم الصدوق في »الخصال« وابن عبد ربه في »العقد الفريد«) ،مصادر نهج البلغة (2/315
] [ 364
] [ 365
لَ .أَما ِإّنُه َقْد َيْرِميجا ِل الّر َن ِفيِه َأَقاِوي َ
سَمَع ّ
ل َي ْ
طِريقَ ،ف َسَداَد َ خيِه َوِثيَقَة ِدين َو َ
ن َأ ِ
ف ِم ْعَر َ ن َسَ ،م ْ»َأّيَها الّنا ُ
حّ
قن اْل َ
س َبْي َ
شِهيٌدَ .أَما ِإّنُه َلْي َ
سِميٌع َو َ ل َك َيُبوُرَ ،وا ّ ل ذِل َ
طُلُمَ ،وَبا ِ
ل [ُيحيك ]اْلَك َ حي ُ
سَهاُمَ ،وُي ِ ئ ال ّ
طُ خِالّراِميَ ،وُت ْ
صاِبَع.
ل َأْرَبُع َأ َ
ل ِإ ّ
طَِواْلَبا ِ
ل:
ن َتُقو َ
ل َأ ْ
طُل :اْلَبا ِ
عْيِنِه ثّم َقا َ
عن َمْعنى قوِلِه هَذا ،فجمع َأصاِبَعُه َوَوضعَها بين ُأُذِنِه َو َ سِئل)،عليه السلم(َ ، َف ُ
ت!«.
لَ :رَأْي ُ
ن َتُقو َ
ق َأ ْ
حّتَ ،واْل َ
سِمْع ُ
َ
—–
الشرح والتفسير
فقد بّين المام )عليه السلم( في الخطبة السابقة طرق معالجة الغيبة ،وسعى هنا للحد من الثار الهدامة للغيبة أو
القضاء عليها تمامًا.
ن ِفيِه َأَقاِويلَ
سَمَع ّ
ل َي ْ
طِريقَ ،ف َ
سَداَد)َ (1
خيِه َوِثيَقَة ِدين َو َ
ن َأ ِ
ف ِم ْ
عَر َ
ن َ
سَ ،م ْ
فقال بادىء ذي بدءَ» :أّيَها الّنا ُ
ل«.
جا ِ
الّر َ
ن المام )عليه السلم( قد أبطل بهذه العبارة القصيرة ومن خلل عّدة طرق الثار
فالواقع هو أ ّ
» .1سداد« :بمعنى الصحيح من الكلم والعمل وتستعمل هذه المفردة كمصدر واسم مصدر ،ويبدو أّنها قريبة من مادة سد بمعنى
ن للكلم الحق استحكام خاص.الجدار المحكم الذي يقام ضد السيول وما شابه ذلك ،ل ّ
] [ 366
ن النسان إن عرف أحدًا بحسن السيئة للغيبة في المستمع ،وأول تلك الطرق ما ورد في العبارة المذكورة ،ل ّ
ن الموارد المشكوكة غالبًا ما
السيرة والورع والتقوى كان عليه أن يوقن بخطأ ما يقال فيه من أمور مخالفة ،ل ّ
ن هذا
ب« ،وبالطبع فا ّ
عّم الغَل ِ
لَشيَء ِبا َ
ق ال ّ
حُن َيل َ
ظّ
تحمل على الموارد المعلومة وعلى حّد التعبير المشهور» :ال ّ
الكلم ل يعني قبولنا لغيبة الفراد وتتبعهم لعورات الخرين الذين ليس لهم من سابقة ،بل الهدف مضاعفة التأكيد
بالنسبة للفراد من ذوي السوابق الحسنة ،بحيث ل ينبغي التصديق مطلقًا بما يقال بشأن ُاولئك.
ن المتكلم كان صادقًا ،ولكن من الموقن به أّنه ليس ثم أشار المام )عليه السلم( إلى نقطة أخرى وهى لو فرضنا أ ّ
بمعصوم ،وعليه فالخطأ محتمل من جميع الناس سوى المعصومين ،وعليه فل ينبغي تصديق المقابل بكل سهولة
في ما ينسبه إلى الخرين ،ناهيك عن عدم مطابقة الظن والحدس إلى الواقع على الدوام ،فقالَ» :أَما ِإّنُه َقْد َيْرِمي
لُم،
ل)ُ[ (1يحيك ]اْلَك َ حي ُ
سَهاُم« ،أضف إلى ذلك وعلى ضوء كلم المام )عليه السلم(َ» :وُي ِ ئ ال ّ
طُخِالّراِميَ ،وُت ْ
ن أغلب الناس ل يلتزمون بكلم الحق ويتفوهون بكل شِهيٌد« ،في إشارة إلى أ ّ
سِميٌع َو َ
ل َ
ك َيُبوُر)َ ،(2وا ّ
ل ذِل َ
طَُوَبا ِ
ما يرد على ألسنتهم ،ومن هنا ل ينبغي قبول ما ينسبونه إلى الخرين من عيوب ،فقد يكون ذلك من القوال
الباطلة التي تنسب إلى الفراد دون تريث.
صاِبَع«.
ل َأْرَبُع َأ َ
ل ِإ ّ
طِق َواْلَبا ِ
حّن اْل َ
س َبْي َ
ثم أشار )عليه السلم( إلى نقطة مهّمة أخريس فقالَ :أَما ِإّنُه َلْي َ
ل:
عْيِنِه ثّم َقا َ
ن َمْعنى قوِلِه هَذا ،فجمع َأصاِبَعُه َوَوضعَها بين ُأُذِنِه َو َ عْ
وفي هذه الثناء سأله أحد الحاضرينَ » :
ت!«.
لَ :رَأْي ُ
ن َتُقو َ
ق َأ ْ
حّتَ ،واْل َ
سِمْع ُ
لَ :
ن َتُقو َ
ل َأ ْ
طُ
اْلَبا ِ
فالعبارة في الواقع إشارة إلى الشائعات التي تتناقها اللسن فيطالعك هذا وذاك وهم يرددون يقال كذا ويقال كيت
وليس المر سوى شائعات ل أساس لها ،وقد قال )عليه السلم( ل تلتفتوا إلى الشائعات ول تنسبوا إلى الخرين
ما ل ترون ،ومن هنا تتضح الجابة على السؤال الذي
» .1يحيل« :من مادة »إحالة« كل تغير أو حركة تخرج عن الحق والستقامة وتحيل إلى النحراف والعوجاح.
» .2يبور« :من مادة »بوار« تعني في الصل شّدة كساد الشيء وحيث يبعث ذلك على الفساد حسبما ورد في المثل كسد حيا فسد فقد
اطلقت هذه المفردة على الفساد ومن ثم الهلكة.
] [ 367
ن اليات القرآنية والوحي السماوي وسّنة النبي الكرم )صلى ال عليه
أورده أغلب شّراح نهج البلغة ومفاده :إ ّ
وآله( والئّمة المعصومين)عليهم السلم(كلها عن طريق السمع فكيف يحكم ببطلنها؟
فليس مراد المام )عليه السلم( بطلن أخبار الثقاة والحاديث المتواترة والمستفيضة التي وصلتنا عن طريق
السمع ،بل مراده ذلك المعنى العرفي والمتداول بشأن الشائعات ،والشاهد على ذلك ما روي عن المام الحسن
المجتبى )عليه السلم( لما سئل :كم بين الحق والباطل؟ فقال )عليه السلم(» :أربع أصابع فما رأيته بعينك فهو
ل كثيرًا«).(1
الحق وقد تسمع بُاذنيك باط ً
ن العين قد تخظىء أحيانًا ،وليس كل كما يسمعه باطل ،وذلكوزبدة الكلم ليس كل ما يراه النسان حق ،وذلك ل ّ
ل وثقة ،لكن قليل هو الخطأ على مستوى العين ،أّما الكلم الباطل عن طريق السمع ن المتكلم قد يكون فردًا عاد ً
لّ
فهو كثير ،وهذا ما أشارت إليه العبارة الواردة عن المام )عليه السلم(.
ولعل هذا هو أنسب التفاسير للعبارة المذكورة ،بينما أورد البعض من شّراح نهج البلغة تفسيرًا آخر خلصته أ ّ
ن
ل أربع أصابع« إشارة إلى العيوب التي تقال في حق الفراد ،أغلب هذهالعبارة» :ليس بين الحق والباطل إ ّ
العيوب ناشيء من سوء الظن وعدم التحقيق والحسد ،والحقد والكراهية وما شاكل ذلك ،وعليه فهناك الكثير من
ن العيوب الفلنية في الشخص الفلني إن رآهاالكذب والباطل في هذه القوال ،ولكن يمكن للنسان القول بأ ّ
بعينه.
—–
لو وضع الناس نصب أعينهم واستحضروا على الدوام وفي كل مكان عبارة المام )عليه السلم(ليس بين الحق
ل أربع أصابع وعملوا بها في حياتهم ،قطعًا كل التفاؤل محل التشاؤم وحسن الظن بدل سوء الظن والثقة
ولباطل إ ّ
والعتماد بدل عدمهما والمحّبة بدل البغض والكراهية ،وسوف تبهت الشاعات ول يكون لها ذلك الصدى
والتأثير وبالتالي سوف لن يبلغ أصحابها
] [ 368
ن الشائعات في الوقت الحاضر قد ما يرومونه من أهداف فل يسود المجتمع سوى الحب والخاء ،والمؤسف له أ ّ
جاوزت الفراد لتطيل فئات البلد وتجمعاته بحيث ألقت بظللها الوخيمة على جميع أرجاء العالم وما ذلك إلى
للغفلة عن الفارق بين الحق والباطل التي أشير إليها في كلم المام )عليه السلم( ،وإننا لنلمس الثمن الباهظ الذي
يدفعه العالم بسبب عدم التزامه بهذا المر.
—–
] [ 369
الخطبة)142 (1
ن َكلم لُه )عليه السلم(
َوِم ْ
المحور الول :يشرح النتائج السلبية للمعروف والحسان إلى غير أهله.
والمحور الثاني :الموارد المؤهلة لن يصنع النسان إليها المعروف لينال من خللها شرف الدنيا والفوز بفضائل
الخرة.
—–
.1سند الخطبة:
ذكرها المرحوم الكليني في كتاب »الكافي« )مصادر نهج البلغة ،(2/302والمرحوم الشيخ المفيد والشيخ الطوسي في المالي وابن
ن هذه الخطبة هى
قتيبة في كتاب »المامة والسياسة« ،والجدير بالذكر أّنه يستفاد من بعض المصادر المذكورة مثل كتب الكافي أ ّ
استمرار للخطبة ) 126مصادر نهج البلغة 2/282بتصرف(.
] [ 370
] [ 371
القسم الول
شَراِر،
لْ
حَمَدةُ الّلَئاِمَ ،وَثَناُء ا َْ
ل َم ْ
ظ ِفَيما َأَتى ِإ ّ
حّ
ن اْل َ
غْيِر َأْهِلِهِ ،م َ
عْنَد َ
حّقِهَ ،و ِغْيِر َف ِفي َ ضِع اْلَمْعُرو ِ س ِلَوا ِ »َوَلْي َ
ل!خي ٌ
ل َب ِ
تا ّ ن َذا ِعْجَوَد َيَدُه! َوُهَو َ عَلْيِهْمَ :ما َأ ْ
لَ ،ماَداَم ُمْنِعمًا َ
جّها ِ
َوَمَقاَلُة اْل ُ
مواضع المعروف
ط ِمْنُه اْلَفِقيَر َواْلَغاِرَم،
يَ ،وْلُيْع ِ
سيَر َواْلَعاِن َ
لِك ِبِه ا َْ
ضَياَفَةَ ،وْلَيُف ّ
ن ِمْنُه ال ّ
سْحِ ل ِبِه اْلَقَراَبَةَ ،وْلُي ْ
صْل َفْلَي ِ
ل َما ً
ن آَتاُه ا َّفَم ْ
ضاِئ ِ
ل ك َف َ ف َمَكاِرِم الّدْنَياَ ،وَدْر ُ شَر ُ ل َ صا ِ
خ َ
ن َفْوزًا ِبهِذِه اْل ِبَ ،فِإ ّ
ب ،اْبِتَغاَء الّثَوا ِ ق َوالّنَواِئ ِحُقو ِعَلى اْل ُسُه َصِبْر َنْف َ
َوْلَي ْ
ل«. شاَء ا ّن َخَرِة; ِإ ْ
لِ اْ
الشرح والتفسير
المعروف في موضعه
كما ورد سابقًا هذه الخطبة حسب بعض الروايات المعتبرة جزء من الخطبة رقم ،126والتي اعترض فيها بعض
الجّهال على المام )عليه السلم( بسبب تسويته بين الناس في العطاء من بيت المال المسلمين ،فكّلموه لم ل تزيد
في عطاء أشراف القبائل ليطروه ويثنوا عليه ويقفوا إلى جانبه عند الشدائد ،أّما المام )عليه السلم( فقد وّبخهم
ن البذل والعطاء في غير موضعه ل يوجب غضب ال وسخطه فحسب ،بل به آثاره السلبية في هذه الخطبة في أ ّ
غْيِر
ف ِفي َ
ضِع اْلَمْعُرو ِ
س ِلَوا ِ حتى في الدنيا أهونها ثناء الشرار وإنسحاب الخيار ،فقال )عليه السلم(َ» :وَلْي َ
ل«. جّها ِ
شَراِرَ ،وَمَقاَلُة اْل ُ
لْحَمَدُة) (1الّلَئاِمَ ،وَثَناُء ا َْ
ل َم ْ
ظ ِفَيما َأَتى ِإ ّ
حّن اْل َ
غْيِر َأْهِلِهِ ،م َ
عْنَد َ
حّقِهَ ،و ِ
َ
] [ 372
ن هذا المدح والثناء قائم مادام البذل والعطاء ومد يد الجود والسخاء ،ولكن بمجّرد أن يقطع هذا أضف إلى ذلك فا ّ
ل عن البذل في سبيل ال تعالى:
البذل ل يبقى من أثر لذلك المدح ولثناء ،هذا في الوقت الذي يكون فيه بخي ً
ل!«.
خي ٌ
ل َب ِ
تا ّ
ن َذا ِ
عْجَوَد َيَدُه! َوُهَو َ
عَلْيِهْمَ :ما َأ ْ
»َماَداَم ُمْنِعمًا َ
وقد جربنا كلم المام )عليه السلم( مرارًا في حياتنا والذاكرة البشرية تحتفظ بالكثير من ذلك طيلة التاريخ ،فقد
حفلت الدنيا بالفراد المتكالبين على الدنيا ممن تحكموا بثروات المجتمع وقد أغدقوها على المتملقين من الشرار
ممن حولهم وبطانتهم وقد ولو ظهورهم بالمّرة عن معاناة المحرومين وآلم المساكين ،فان دارت عليهم الدوائر
وتنكرت لهم الدنيا ،هب المحرومون للوقوف بوجههم ولم يكتف المر عند هذا الحّد ،بل تنكر لهم حتى أنصارهم
من المتملقين وعرضوا لهم بالذم والتوبيخ ،فلم يتركوهم وشأنهم فحسب ،بل سارعوا للتمرد عليهم وأعدوا أنفسهم
للنسجام مع من يخلفونهم من الحّكام ،وهذه هى عاقبة من ولى ظهره للحق تبارك وتعالى والخلق والتحق بركب
النفعيين.
—–
] [ 373
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
عرض المام )عليه السلم( بالذم الشديد لصانع المعروف في غير أهله كما ورد ذلك في المقطع الول من
الخطبة والذي كان يمثل الجانب السلبي من القضية ،أّما في هذا القسم فقد تعرض إلى جانبها اليجابي فبّين
الموارد الطبيعة التي تستحق النفاق والبذل والعطاء ،حذرًا من استغلل البعض لما مّر معنا سابقًا في العبارات،
سيَر
لِك ِبِه ا َْ
ضَياَفَةَ ،وْلَيُف ّ
ن ِمْنُه ال ّ
سْ
حِل ِبِه اْلَقَراَبَةَ ،وْلُي ْ
صْل َفْلَي ِ
ل َما ً
ن آَتاُه ا ّ
فيعتمد البخل وعدم النفاق فقالَ» :فَم ْ
ط ِمْنُه اْلَفِقيَر َواْلَغاِرَم).«(2
ي)َ ،(1وْلُيْع ِ
َواْلَعاِن َ
فقد أشار المام )عليه السلم( إلى ستة موارد للنفاق والبذل وفي مقدمتها القرابة من ذوي الحاجة ،فمما ل شك
ن هؤلء مقدمون على غيرهم ،وهذا ما ورد في الخبر المروي عن المام الصادق )عليه السلم( أّنه قال: فيه أ ّ
ح«)شِ
حِم الَكا ِ
عَلى ِذي الّر ِ
ل؟ فقال )صلى ال عليه وآله(َ : ضُ
صَدَقِة َأف َ
ي ال ّ
ل )صلى ال عليه وآله(َأ ّ
لا ِ
سو ُ
ل َر ُ
سِئ َ
»ُ
،(3ثم ركز المام على قضية الضيافة وهى المر الذي يؤّدي إلى إشاعة أجواء الموّدة
ن معناها واسع
» .1العاني« :من ماد »عنى« بمعنى الشّدة والتعب ،وعدها البعض من شّراح نهج البلغة مرادفة لسير ،ويبدو أ ّ
يشمل كل إنسان يعيش التعب والرهاق.
.3الكافي .4/10
] [ 374
والمحّبة بين الصدقاء ويزيل الحقاد ،كما يوطد العلقات العاطفية والجتماعية وقد أولى السلم هذه المسألة
ح ّ
ب ن المام الصادق)عليه السلم( سأل أحد أصحابهَ» :أُت ِ النسانية والخلقية أهمّية قصوى حتى ورد في الخبر أ ّ
لللَ ،أَما َوا ِ با َ ح ّن ُي ِ
ب َم ْ
ح ّن ُت ِ
ك َأ ْ
عَلي َ
ق َ حّ لِ :إّنُه َي ُ
تَ :نعمَ ،قا َ لَ :تنَفُع ُفَقراَئُهم؟ ُقل ُ
تَ :نعمَ ،قا َ سين؟ ُقل ُ حَك يـا ُ ِإخواَن َ
لكَثُر، ل َوا َن والّثلَثة َوالَق ّ جل ِ ل َوَمِعي ِمْنُهم الّر ُ ل ِإ ّ
تَ :نعمَ ،ما َأُك ُ ك؟ ُقل ُ عوُهم ِإلى َمنِزِل َ حّبُهَ ،أَتد ُ
حّتى ُت َِتْنَفُع ِمنُهم َ
طُئهم طعاِمي َوَأو ِ ك َأطِعُمُهم َتِ :فدا َ عَليِهمَ ،فُقل ُك َ ن َفضِل َ ظُم ِم ْ ك َأع َعَلي َضَلُهم َ
ن َف ْ ل )عليه السلم(َ :أَم إ ّ عبِدا ِ
ل َأُبو ََفقا َ
ك ،وِإذاعياِل َ
ك َوَمغِفَرِة ِ
خُلوا ِبَمغِفَرِت َك َد َ
خُلوا َمنِزَل َ لَ :نعمِ ،إّنُهم ِإذا َد َظُم؟ َقا َي َأع َ عَل ّ
ضَلُهم َي َف ْ عَل ّ
ن َ َرحِلي َوَيُكو ُ
ك«).(1 عياِل َ
ب ِك َوُذُنو ِ خَرجوا ِبُذُنوِب َ ك َ ن َمنِزِل َ
جوا ِم ْ خَر َُ
ولّما كان دفع الحقوق الواجبة والمستحبة وتعويض الخسائر شاقًا على النفس فقد أكد المام )عليه السلم( على
ب«.
ب) ،(2اْبِتَغاَء الّثَوا ِ
ق َوالّنَواِئ ِ
حُقو ِ
عَلى اْل ُ
سُه َ
صِبْر َنْف َ
الصبر والتحمل فقالَ» :وْلَي ْ
وبناءًا على هذا فالتعبير بالحقوق يشمل الواجبة والمستحبة ،والنوائب جمع نائبة والحادثة الليمة ،وتشير هنا إلى
جميع المور التي تتضمن الخسارة المالية ،سواء كان من جانب ظلم الظلمة وحّكام الجور ،أو الحوادث غير
المتوقعة التي تصيب النسان طيلة حياته.
شَرفُ َمَكاِرِم
ل َ
صا ِ
خ َ
ن َفْوزًا ِبهِذِه اْل ِ
وإختتم كلمه بالشارة إلى الثار العظيمة لهذا البذل فقال )عليه السلم(َ» :فِإ ّ
ن البذل في الموارد الستة المذكورة يؤّدي إلى حسن سمعة قأّ
ل« ،فالح ّ شاَء ا ّ
ن َ
خَرِة; ِإ ْ
لِلا ْ
ضاِئ ِ
ك َف َ
الّدْنَياَ ،وَدْر ُ
النسان في المجتمع ،كما يوجب فوزه في الحياة الخرة ،وأفضل شاهد على ذلك ما روي عن المام الحسين
ساَد«) ،(3وقد أصبحت هذه العبارة مثل يضرب لتأكيد المعنى المذكور ،وكذلك جاَد َ
ن َ )عليه السلم( أّنه قالَ» :م ْ
ما روي عن أميرالمؤمنين )عليه السلم( أّنه قال:
] [ 375
ن َأِميَرُه«) ،(1بل يؤيد ذلك ما نلمسه في حياتنا اليومية ،وهذا على مستوى الدنيا.
ت َتُك ْ
شئ َ
ن ِ
»َوَأحسن إلى َم ْ
ن البذل من أهم أسباب النجاة ولسّيما إعانة المحتاجين ،فقد قال المام الصادق )عليه أّما من حيث الخرة فا ّ
ف«).(2جّنَة الَمعُرو ُ
ل ال َ
خُن َيد ُ
ل َم ْ
السلم(َ» :أّو ُ
—–
] [ 376
] [ 377
الخطبة)143 (1
خطَبة لُه )عليه السلم(
ن ُ
َوِم ْ
في الستسقاء
الخطبة كما ورد في عنوانها بشأن الستسقاء والتضرع إلى ال سبحانه في طلب نزول المطار ،وهى الخطبة
لولى رقم ،(155وتتألف هذه الخطبة في الواقع من
الثانية من خطب نهج البلغة في باب الستسقاء )الخطبة ا ُ
ثلثة أقسام:
ن السماء والرض مطيعة لمر ال فان شاء أخرج بركاتهما إلى الناس،
القسم الول :يشير إلى هذه الحقيقة في أ ّ
ن الذي ينبغي التوجه إلى قبل عالم السباب هو ذات مسبب السباب.وبناءًا على هذا فا ّ
ن أعمال السوء والذنوب والمعاصي تؤّدي إلى إغلق أبواب الخيرالقسم الثاني :ناظر إلى هذا المطلب وهو أ ّ
والبركة بأمر ال تبارك وتعالى ،ومفاتحها الستغفار من الذنوب والنابة إلى ال تعالى.
.1سند الخطبة:
وردت هذه الخطبة حسب تصريح صاحب مصادر نهج البلغة في كتاب »أعلم النبوة« للديلمي عن المام الصادق )عليه السلم( عن
أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( ،وفي »النهاية« لبن الثير في مادة بطن بمناسبة المفردة بطنان التي وردت في آخر الخطبة،
)مصادر نهج البلغة (2/319كما وردت في بحار النوار ،ج 88عن »أعلم« النبوة للديلمي ،لكن لم يتضح على وجه الدقة في أي
قرن عاش الديلمي مؤلف الكتاب.
] [ 378
القسم الثالث :يعرض إلى رفع المام )عليه السلم( يده بالتوسل إلى ال سبحانه في مراسم صلة الستسقاء حيث
يطلب نزول المطر بعبارات دقيقة رائعة عميقة المعنى ،والمطار المفعمة بالبركة والتي تروي الرض وتسقي
الشجار والثمار وتسّر الناس.
—–
] [ 379
القسم الول
ن َلُكْم ِبَبَرَكِتِهَما
جوَدا ِحَتا َت ُ
صَب َ
طيَعَتانِ ِلَرّبُكْمَ ،وَما َأ ْ ظّلُكْم ُم ِسَماَء اّلِتي ُت ِض اّلِتي ُتِقّلُكْم [تحملكم]َ ،وال ّ لْر َ ن ا َْ
ل َوِإ ّ
»َأ َ
حُكْمصاِل ِحُدوِد َم َ عَلى ُ عَتاَ ،وُأِقيَمَتا َ
طا َن ُأِمَرَتا ِبَمَناِفِعُكْم َفَأ َ
جَواِنِه ِمْنُكْمَ ،ولِك ْ
خْير َتْر ُ
ل ِل َ
ل ُزْلَفًة ِإَلْيُكْمَ ،و َ
جعًا َلُكْمَ ،و َ
َتَو ّ
َفَقاَمَتا«.
—–
الشرح والتفسير
من الوصايا السلمية التي وردت بصورة موسعة في الكتب الفقهية الوصّية بصلة الستسقاء ،حيث يقبل فيها
الناس على ال تبارك وتعالى ويتوبون إليه من ذنوبهم معاصيهم ويسألونه نزول المطر ،وقد حدث هذا المر
ن المام )عليه السلم( قد دعى الناس حين كرارًا ومرارًا في التيان بهذه الصلة ونزول الرحمة اللهّية ،ويبدو أ ّ
الستسقاء ،ومن هنا فقد خطب بهذه الخطبة المليئة بدروس التوحيد والتهذيب والتربية ،فقد قال )عليه السلم(
بادىء المر بهدف إعداد الناس وإحياء روح التوحيد فيهم والتوجه إلى ال تعالى الذى يمثل مصدر الخير والبركة
ن ِلَرّبُكْم«.
طيَعَتا ِ
سَماَء اّلِتي ُتظِّلُكْم ُم ِ
ض اّلِتي ُتِقّلُكْم)[ (1تحملكم]َ ،وال ّ
لْر َ
ن ا َْ
ل َوِإ ّ
والعطاءَ» :أ َ
جَواِنِه ِمْنُكْم،
خْير َتْر ُ
ل ِل َ
ل ُزْلَفًة ِإَلْيُكْمَ ،و َ
جعًا َلُكْمَ ،و َ
ن َلُكْم ِبَبَرَكِتِهَما َتَو ّ
جوَدا ِحَتا َت ُ
صَب َ
ثم قال )عليه السلم(َ» :وَما َأ ْ
حُكْم َفَقاَمَتا« ،والتعبير بالسماء إشارة إلى الغيوم المحلية، صاِل ِ
حُدوِد َم َ عَلى ُ عَتاَ ،وُأِقيَمَتا َ
طا َن ُأِمَرَتا ِبَمَناِفِعُكْم َفَأ َ
َولِك ْ
ن العرب تستعمل السماء بمعنى الجانب العلوي، لّ
» .1تقلكم« :من مادة »اقلل« بمعنى حمل الشيء وأخذه ،ولّما كان النسان يعيش على الرض فكأّنها تحمله على أكتافها ،وقد
وردت تحملكم بدًل من تقلكم في أغلب شروح نهج البلغة والتي تفيد نفس المعنى.
] [ 380
فتطلقه أحيانًا على موضع النجوم فتقول نجوم السماء ،وتطلقه أحيانًا أخرى على موضع الشمس والقمر ،وأخيرًا
على موضع السحب والغيوم وحتى الموضع الذي يضم الغصون المرتفعة للشجار ،ومن ذلك الية القرآنية:
سَماِء().(1
عَها ِفي ال ّ
ت َوَفْر ُ
صُلَها َثاِب ٌ
)َأ ْ
—–
ن ال أمر السماء
هذا الكلم يشتمل على درس مهم في التوحيد والخلق ،فقد قال المام )عليه السلم( من جانب أ ّ
لم اللذان يتحدان لتزويد النسان بما يحتاجه من غذاء
ن السماء أشبه بالب والرض با ُ
والرض بمنافعكم ،وكأ ّ
وشراب ولباس ودواء ومركب دون التمييز بين المطيع والعاصي والمؤمن والكافر ،لّنهما مظهر رحمانية الحق.
ن المائدة اللهّية ل تنضب فالجيال متعاقبة في الذهاب والياب وهما قائمان على خدمتهم،
الطريف في المر أ ّ
ن السماء والرض ورغم تقديمها لكل هذه الخدمات فهما ل يرحوان أي عوض من النسان، ومن جانب آخر فا ّ
بل يخدمان بكل إخلص ،وهذا درس مهم للنسان يشّده إلى خدمة الخرين بعيدًا عن الجر والثواب.
—–
.1سورة ابراهيم .24 /
] [ 381
القسم الثاني
ب،
ب َتاِئ ٌتِ ،لَيُتو َ خْيَرا ِن اْل َ
خَزاِئ ِ
ق َ لِ غَ تَ ،وِإ ْ س اْلَبَرَكا ِحْب ِ تَ ،و َ
ص اّلثَمَرا ِ سّيَئِة ِبَنْق ِ
ل ال ّ عَما ِ لْعْنَد ا َْ
عَباَدُه ِ
ل َيْبَتِلي ِنا ّ »ِإ ّ
ق،
خْل ِحَمةِ اْل َ
ق َوَر ْ سَببًا ِلُدُروِر الّرْز ِ سِتْغَفاَر َ لْ حاَنُه ا ِسْب َ
ل ُ لا ّ جَع َجٌرَ .وَقْد َ جَر ُمْزَد ِ َوُيْقِلَع ُمْقِلٌعَ ،وَيَتَذّكَر ُمَتَذّكٌرَ ،وَيْزَد ِ
جَعلْ َلُكْمن َوَي ْ
عَلْيُكْم ِمدَْرارًاَ .وُيْمِدْدُكْم ِبَأْمَوال َوَبِني َسَماَء َل ال ّ سِ غّفارًاُ .يْر ِ ن َ سَتْغِفُروا َرّبُكْم ِإّنُه َكا َ
حاَنُه) :ا ْسْب َ ل َُفَقا َ
طيَئَتُهَ ،وَباَدَر َمِنّيَتُه!«.
خِ ل َ سَتَقا َ
ل َتْوَبَتُهَ ،وا ْ
سَتْقَب َ
ل اْمَرءًا ا ْ حَم ا ّل َلُكْم َأْنَهارًا( َفَر ِجَع ْ
جّنات َوَي ْ َ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى نقطة مهّمة من أجل إعداد الناس لصلة الستسقاء فقال:
ب،
ب َتاِئ ٌ
تِ ،لَيُتو َ
خْيَرا ِ
ن اْل َ
خَزاِئ ِ
ق َ
لِغَ
تَ ،وِإ ْ
س اْلَبَرَكا ِ
حْب ِ
تَ ،و َ
ص اّلثَمَرا ِ
سّيَئِة ِبَنْق ِ
ل ال ّ
عَما ِ لْ
عْنَد ا َْ
عَباَدُه ِ
ل َيْبَتِلي ِ نا ّ »ِإ ّ
جٌر«.
جَر ُمْزَد ِ َوُيْقِلَع ُمْقِلٌعَ ،وَيَتَذّكَر ُمَتَذّكٌرَ ،وَيْزَد ِ
ثم إعتمد المام )عليه السلم( بعد ذلك أسلوب الطبيب الماهر الذي يصف العلج بعد تشخيص المرض فقال:
سَتْغِفُروا َرّبُكْم ِإّنُه َكا َ
ن حاَنُه) :ا ْ
سْب َ
ل ُ
قَ ،فَقا َ
خلْ ِ
حَمِة اْل َ
ق َوَر ْ
سَببًا ِلُدُروِر) (1الّرْز ِ سِتْغَفاَر َ
لْ حاَنُه ا ِ
سْب َل ُلا ّ
جَع َ»َوَقْد َ
عَلْيُكْم ِمْدَرارًاَ .وُيْمِدْدُكْم
سَماَء َل ال ّ
سِ
غّفارًاُ .يْر ِ
َ
» .1درور« :من مادة »دّر« على وزن جّر بمعنى تقاطر الحليب من الثدي ،ثم استعملت في المطر وأمثاله ،و»درور الرزق« بمعنى
نزول الرزق من ال تعالى.
] [ 382
ل َلُكْم َأْنَهارًا(«.
جَع ْ
جّنات َوَي ْ
ل َلُكْم َ
جَع ْ
ن َوَي ْ
ِبَأْمَوال َوَبِني َ
ل بأنسب أية قرآنية ،وهى الية التين المام )عليه السلم( وبهدف إثبات هذا المر قد استد ّ
والجدير بالذكر أ ّ
وردت على لسان نبي ال نوح )عليه السلم( حين خاطب قومه باستغفار ال والتوبة إليه والذي يؤّدي إلى نزول
البركات والخيرات ومضاعفة الرصدة المادية والمعنوية وتقوية الوجود النساني وتحسين الوضاع القتصادية
والزراعية.
ن التوبة ل تقتصر على بلوغ الرفاه المادي في الحياة الدنيا ،بل الهدف الهم والعبارة َوَباَدَر َمِنّيَتُه!« ،إشارة إلى أ ّ
ن الموت إن سبق التوبة فل سبيل للتدارك ،وإن كان العكس وسبقت التوبة من ذلك النجاة في الخرة ،وذلك ل ّ
والعمال الصالحة الموت ،كان مفتاح النجاة بيده في الدار الخرة.
—–
ن الذنوبلقد قيل الكثير في فلسفة البلء ،والذي يستفاد من أغلب اليات القرآنية والروايات السلمية هو أ ّ
والمعاصي تشكل أحد علل الفات والحوداث الصعبة في الحياة البشرية ،حيث تحدث عّدة آيات عن التلزم بين
هذين المرين ،بل يستفاد من بعض الروايات والخبار الترابط الوثيق بين نوع الذنب والبلء الذي يترتب عليه،
ن الزنا وعدم العفة وشرب الخمر والتطفيف والربا وقطع الرحم كل ذلك يؤّدي إلى سلب نعمة على سبيل المثال فا ّ
جدنا ِفي
معينة كما أشار إلى ذلك الحديث النبوي الشريف ،من ذلك روى أبي حمزة عن المام الباقر أّنه قالَ» :و َ
ن َبعِدي َكُثَر َمو ُ
ت ظَهَر الّزنا ِم ْ
ل )صلى ال عليه وآله(ِ :إذا َ لا ِ
سو ِ
ب َر ُ
ِكَتا ِ
» .1استقال« :من مادة »إستقالة« بمعنى معونة من وقع على الرض للقيام ،ثم اطلقت على فسخ المعاملة أو طلب العفو على الذنب.
] [ 383
ض َبَرَكَتها ِمنَ
ل ُتا ِص ِإذا َمَنُعوا الّزكاَة َمَنَع ْ
ن َوالّنق ِ
سِني ِ ل ِبال ّ
خَذُهم ا ُ
ن َأ َل َوالَميزا َ
ف الِمكيا َ طف َ الُفجأة ،وِإذا وِإذا َ
طا ُ
ل سّل َ
ضوا الَعهَد َ
نِ ،إذا َنَق ُظلِم والُعدوا ِ عَلى ال ّ
جاُروا ِفي الحَكاِم َتعاوُنوا َ ن ُكّلهاِ ،إذا َع َوالـّثماِر َوالَمعاِد ِالّزر ِ
ن الُمنَكِرعِ
ف َولم َينُهوا َل ِفي َأيِدي الشراِر ِإذا َلم َيأمُروا بالَمعُرو ِ لموا ُ تا َ جِعل ْ
لرحاَم ُ طُعوا ا َ عُدّوُهمِ ،إذا َق َعَليِهم َ
َ
ب َلُهم«)(1 خيارُهم َفل ُيسَتجا ُ عوا ِ شراَرهُم َفَيد ُ عَليِهم ِل َ طا ُ سّل َ
ل َبيِتي ََوَلم َيّتِبُعوا الخياَر ِمن َأه ِ
ن هناك إرتباط بين الذنب وقطع النعم ،فالفيض ال يتوقف على الستعداد
والدليل العقلي يؤكد هذا المر على أ ّ
والستحقاق ،فان قارف النسان الذنب وأفضح عن عدم استعداده كان من الطبيعي أن يقطع عن نفسه الفيض
اللهي.
ن هناك هدفًا مهّما آخر يتمثل بايقاظ الغافلين وإعادتهم إلى ال أضف إلى ذلك فالذي يستفاد من اليات القرآنية أ ّ
ن البلء يعّم القوام المشركة حين بعث النبياء والرسل لهدايتها من تبارك وتعالى ،حتى صّرحت بعض اليات بأ ّ
سْلَنا ِفي َقْرَية
أجل تمهيد السبيل أمامهم لقبول الدعوة ومن ذلك الية 94من سورة العراف التي قالتَ) :وَما َأْر َ
ن(.
عو َ
ضّر ُ
ضّراِء َلَعّلُهْم َي ّ
ساِء َوال ّ
خْذَنا َأْهَلَها ِباْلَبْأ َ
ل َأ َ
ى ِإ ّ
ن َنِب ّ
ِم ْ
ن مفتاح البواب ن القضية التربوية تشكل أحد الهداف المهّمة للبلء والحوداث الليمة ،على كل حال فا ّ وهكذا فا ّ
ل سبحانه كما صّرح بذلك القرآن الكريم إذ قال: الموصدة وإخماد جذوة أمواج البلء إّنما يكمن في العودة إلى ا ّ
خْذَناُهْم ِبَما َكاُنوا
ن َكّذُبوا َفَأ َ
ض َوَلِك ْ
لْر ِ
سَماِء َوا َْ
ن ال ّ
عَلْيِهْم َبَرَكات ِم ْ
حَنا َ
ل اْلُقَرى آَمُنوا َواّتَقْوا َلَفَت ْ
ن َأْه َ
)َوَلْو َأ ّ
ن().(2 سُبو َ َيْك ِ
ن شخصًا قال لميرالمؤمنين علي )عليه السلم( لقد أسرفت في المعاصي وهكذا سائر اليات ،وورد في الخبر أ ّ
فادعوا ال أن يغفر لي ،قال علي)عليه السلم( :عليك بالستغفار ،وقال الخر :مزارعنا تشكو من قّلة الماء،
فادعوا ال أن يرسل علينا المطر ،فقال )عليه السلم( :عليك بالستغفار ،وشكى الثالث من الفقر فأشار عليه
المام )عليه السلم( بالستغفار ،وشكى الرابع العقم وكان له مال كثير فأشار عليه المام بالستغفار ،وشكى له
الخامس من قّلة ثمار البستان فنصحه )عليه السلم( بالستغفار ،وشكى
] [ 384
السادس من جفاف البار وعيون الماء فقال له )عليه السلم( عليك بالستغفار ،فتعجب ابن عباس من إشارته
على الجميع بالستغفار وقد كان لكل مشكلته التي تختلف عن غيره ،فقال )عليه السلم( أولم تسمع إلى القرآن
سَتْغِفُرواتا ْ غَدقًا * َفُقْل ُ
سَقْيَناُهْم َماًء َ
لْطِريَقِة َ عَلى ال ّ سَتَقاُموا َ واليات 12 ،11 ،10من سورة نوح إذ قالَ) :وّلْو ا ْ
ل َلُكْم َأْنَهارًا(
جَع ْ
جّنات َوَي ْ ل َلُكْم َ
جَع ْ
ن َوَي ْعَلْيُكْم ِمْدَرارًا * َوُيْمِدْدُكْم ِبَأْمَوال َوَبِني َ
سَماَء َ
ل ال ّ
سْغّفارًا * ُيْر ِ
ن َ
َرّبُكْم ِإّنُه َكا َ
).(1
—–
.1تفسير نهج الصادقين ) 10/19بتصرف ،وقد ورد هذا الحديث بصورة مختصرة عن المام المجتبى)عليه السلم(( )مجمع البيان
.(10/361
] [ 385
القسم الثالث
جي َ
ن كَ ،وَرا ِ حَمِت َ ن ِفي َر ْ غِبي َنَ ،را ِ ج اْلَبَهاِئِم َواْلِوْلَدا ِجي ِعِنَ ،وَبْعَد َ لْكَنا ِسَتاِر َوا َْ لْ ت ا َْ ح ِ ن َت ْك ِم ْ جَنا ِإَلْي َ
خَر ْ »الّلُهّم ِإّنا َ
نَ ،ولَ سِني َ
ل ُتْهِلْكَنا ِبال ّ نَ ،و َ طي َن اْلَقاِن ِل َتجَْعْلَنا ِم َ كَ ،و َغْيَث َ
سِقَنا َ ك .الّلُهّم َفا ْ ك َوِنْقَمِت َ عَذاِب َن َ ن ِم ْ خاِئِفي َكَ ،و َ ل ِنْعَمِت َ
ضَ َف ْ
جَأْتَنا
ن َأْل َ
حي َكِ ، عَلْي َ
خَفى َ ل َي ْ ك َما َ شُكو ِإَلْي َ ك َن ْجَنا ِإَلْي َ
خَر ْن .الّلُهّم ِإّنا َ حِمي َحَم الّرا ِ سَفَهاُء ِمّنا( َيا َأْر َ ل ال ّ خْذَنا )ِبَما َفَع َُتَؤا ِ
ن [المحن عَلْيَنا اْلِفَت ُ
ت َ حَم ْلَ سَرُةَ ،وَت َ ب اْلُمَتَع ّطاِل ُعَيْتَنا اْلَم َجِدَبُةَ ،وَأ ْ ط اُْلم ْ حُ جاَءْتَنا اْلَمَقا ِ عَرُةَ ،وَأ َ ق اْلَو ْضاِي ُاْلَم َ
سَنا [تناقشنا ل ُتَقاِي َ طَبَنا ِبُذُنوِبَناَ ،و َ خا ِ ل ُت َنَ ،و َ جِمي َل َتْقِلَبَنا َوا ِ
نَ ،و َ خاِئِبي َ ل َتُرّدَنا َ ك َأ ّسَأُل َ
صِعَبُة .الّلُهّم ِإّنا َن ْ سَت ْ ]اْلُم ْ
ت ِبَها شَبًةُ ،تْنِب ُسْقَيا َناِقَعًة [نافعة ]ُمْرِوَيًة ُمْع ِ سِقَنا ُ ك; َوا ْ حَمَت َ
ك َوَر ْ كَ ،وِرْزَق َ ك َوَبَرَكَت َ غْيَث َ
عَلْيَنا َشْر َ عَماِلَنا .الّلُهّم اْن ُ
]ِبَأ ْ
سَتْوِر ُ
ق نَ ،وَت ْطَنا َ ل اْلُب ْ سي ُنَ ،وُت ِ جَتَنى ُ ،تْرِوي ِبَها اْلِقيَعا َ حَياَ ،كِثيَرَة اُْلم ْ تَ .ناِفَعَة اْل َ حِيي ِبَها َما َقد َما َ تَ ،وُت ْ َما َقْد َفا َ
شاُء َقِديٌر««. عَلى َما َت َ ك َ سَعاَر; »ِإّن َ لْ ص ا َْ خ ُ جاَرَ ،وُتْر ِ شَ لْ ا َْ
—–
الشرح والتفسير
بعد أن مهد المام )عليه السلم( قلوب الناس ودعاهم إلى التوبة من الذنوب والنابة إلى ال سبحانه في هذه
الخطبة التي خطبها بمناسبة صلة الستستقاء ،إلتفت إلى الحق تبارك وتعالى فتوسل إليه بعبارات وهو يسأله
اللطف والرحمة ،كما فرض عّدة مطالب من خلل خمس عبارات يستهلها بالقول الّلهم ،فقد قال بادىء ذي بدء:
سَتاِر
لْت ا َْ
ح ِ
ن َت ْ
ك ِم ْ
جَنا ِإَلْي َ
خَر ْ
»الّلُهّم ِإّنا َ
] [ 386
عَذاِب َ
ك ن َ
ن ِم ْ
خاِئِفي َ
كَ ،و َ
ل ِنْعَمِت َ
ضَن َف ْ
جي َ
كَ ،وَرا ِ
حَمِت َ
ن ِفي َر ْ
غِبي َ
نَ ،را ِ
ج اْلَبَهاِئِم َواْلِوْلَدا ِ
جي ِ
عِن)َ ،(1وَبْعَد َ
لْكَنا ِ
َوا َْ
ك«.َوِنْقَمِت َ
ن خروجنا من المنازل وقدومنا إلى الصحراء من أجل أداء صلة الستسقاء دليل على إسرافنا على إشارة إلى أ ّ
أنفسنا ،فان كّنا من عبادك الخاطئين فما ذنب هذه الماشية والطفال العطاشى ،وليس لنا من دافع في هذا الخروج
سوى طلب رحمتك وفضلك وكرمك وقد أقبلنا عليك وأتينا إليك واستجرنا بك من عذابك وعقوبتك ،وقد صّرحت
الروايات السلمية الواردة في باب آداب صلة الستستقاء بحمل حتى الرضع من الطفال والهيم العطاشى إلى
الصحراء ،بل وردت الوصّية بتفريق الطفال عن ُامهاتهم لترق القلوب لبكاء الطفال ويزداد القبال على ال
تبارك وتعالى).(2
ول يخفى ما لهذا المنظر من عظيم الثر في إثارة عواطف الناس وحضور قلوبهم وجريان دموعهم والذي يؤّدي
إلى استجابة الدعاء ،إلى جانب كونه سبب المزيد من لطف ال ورحمته.
» .1الكنان« :جمع »كن« على وزن »جن« بمعنى واسطة الحفظ والصون ومن هنا تطلق الكنان على الغيران.
» .3السنين« :جمع »سنة« وإن استعملت مع مفردة الهلكة أو الخذ عنت الجدب والقحط.
» .7مجدية« :من مادة »جدب« على وزن جعل قّلة النعمة ،وعليه المجدبة تطلق على السنين التي يعاني فيها الناس من الشّدة في
أرزاقهم.
] [ 387
فقد أشار المام )عليه السلم( بهذه العبارات إلى مسألة وهى إننا إن عددنا حاجاتنا ومشاكلنا الواحدة بعد الخرى
ب أن يطرح العباد مشاكلهم بألسنتهم ويقرون بعجزهم وسعة حاجاتهم، ل على أساس إّنك ل تعلمها ،بل لّنك تح ّ
ثم أشار إلى أربع مشاكل تشترك مع بعضها من جهات وتشترك في أخرى وهى :صعوبات الحياة والجدب
والقحط و الرغبات التي يتعذر نيلها في الشرائط العادية ،وأخيرًا الفتن الصعبة والمزعجة ،وهى المشاكل التي ل
ل َيْعَلُم
نا َ
ل من ال تبارك وتعالى ،ورد في حديث عن المام الصادق )عليه السلم( أّنه قالِ» :إ ّ يرجى حّلها إ ّ
ج«).(1
حواِئ َ
ث ِإَليِه ال َ
ب َأن َتُب ّ
ح ّ
ك َوما ُتريُد َوَلِكّنُه ُي ِ
جَت َ
حا َ
َ
طَبَنا
خا ِ
ن)َ ،(2ولَ ُت َ
جِمي َ
ل َتْقِلَبَنا َوا ِ
نَ ،و َ
خاِئِبي َ
ل َتُرّدَنا َ
ك َأ ّ
سَأُل َ
ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه فقال» :الّلُهّم ِإّنا َن ْ
عَماِلَنا«.
سَنا [تناقشنا] ِبَأ ْ
ل ُتَقاِي َ
ِبُذُنوِبَناَ ،و َ
ل نرجع
فليس هنالك من سبيل للنجاة إن عاملتنا على أساس أعمالنا ،فنسألك أن بحملنا على لطفك وكرمك وأ ّ
ن هذه الدعية وإن اشتملت على الطلبات المؤكدة من ال تبارك وتعالى ،فهى تنطويخائبين من بابك ،والطبع فا ّ
على الدروس العميقة المعنى للسامعين ليقضوا على آثار ذنوبهم وشناعة أعمالهم فيسارعوا لصلح أنفسهم،
وتشتمل أغلب الدعية التي تردنا عن المعصومين )عليه السلم( على هذه المور التربوية.
—–
» .2واجم« :من مادة »وجم« على وزن نجم من اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلم.
» .3معشبة« :من مادة »عشب« على وزن شرف نمو النبات.
» .5القيعان« :جمع »قاع وقاعة« الرض السهلة الواسعة كما تطلق أحيانًا على الرض التي تتجمع فيها المياه.
.6والجدير بالذكر قد نزلت الن )حين كتابتي لهذه السطور في العاشر من رمضان عام 1423هـ( أمطار مفعمة بالبركة والخير بعد
ن هذا المطر ينطوي إن شاء ال تعالى على جميع الصفات التي ذكرها المام )عليه السلم( في هذه الخطبة.
جفاف طويل ،ويبدو أ ّ
] [ 388
سل ال كل شيء
تحدثنا باسهاب في ذيل الخطبة 155عن صلة الستسقاء وآدابها ،ونخوض هنا في الجابة عن سؤال وهو لم
شرح المام )عليه السلم( الصفات المذكورة في المطر حين استغاثته بال سبحانه في نزوله )حيث ذكر في هذه
الخطبة تسع صفات وفي الخطبة السابقة عشرين صفة( والحال ال عليم بكل هذه الصفات ول داعي من شرحها؟
—–
] [ 389
الخطبة)144 (1
خطَبة لُه )عليه السلم(
ن ُ
َوِم ْ
مبعث الرسل
المحور الول :الذي بّين فيه بعض المورالمهّمة بشأن مبعث النبياء ورسالتهم.
المحور الثاني :الذي تطرق فيه إلى فضائل أهل البيت )عليه السلم( وأفضليتهم على من سواهم.
المحور الثالث :الذي يتضمن إشارات عميقة المعنى إلى نهج الضالين وعاقبة أمرهم
—–
.1سند الخطبة:
أورد المدي جانبًا من هذه الخطبة في كتابه »غرر الحكم« وفيها إضافات لما في نهج البلغة مما يدّل على أّنه استقاها من مصدر
أخر غير نهج البلغة )مصادر نهج البلغة .(2/322
] [ 390
] [ 391
القسم الول
عَذاِر ِإَلْيِهْم،
لْك ا ِْ
جُة َلُهْم ِبَتْر ِ
حّب اْل ُج َ
ل َت ِ
خْلِقِهِ ،لَئ ّ
عَلى َ
جًة َلُه َ
حّ جَعَلُهْم ُ حِيِهَ ،و َ ن َو ْصُهْم ِبِه ِم ْ
خ ّ سَلُه ِبَما َ
ل ُر ُثا ّ »َبَع َ
صو ِ
ن ن َم ُ خَفْوُه ِم ْ
ل َما َأ ْ
جِه َ ل َأّنُه َ
شَفًة; َ
ق َك ْخْل َ
ف اْل َ
ش َل َتَعاَلى َقْد َك َ
نا ّ ل ِإ ّ
قَ .أ َ حّ ل اْل َ
سِبي ِ
ق ِإَلى َ صْد ِ
ن ال ّ سا ِعاُهْم ِبِل َ
َفَد َ
ب َبَواًء«.جَزاًءَ ،واْلِعَقا ُ ب َن الّثَوا ُل« َفَيُكو َعَم ًن َ سُحَ
ن »ِلَيْبُلَوُهْم َأّيُهْم َأ ْ ضَماِئِرِهْم; َولِك ْن َ سَراِرِهْم َوَمْكُنو ِ َأ ْ
—–
الشرح والتفسير
ن دافع المام )عليه السلم( من هذه الخطبة بيان الرد القاطع على المغرضينيعتقد جمع من شّراح نهج البلغة أ ّ
ن جانبًا من الخطبة قد عالج هذا المر ،وإن إشتملت سائر
الذين ينكرون فضائل المام )عليه السلم( ،والطبع فا ّ
القسام على إبعاد كلية.
وعلى كل حال فقد أشار المام )عليه السلم( في المقطع الول من هذه الخطبة إلى أمرين :هما فلسفة بعثة
جًة َلُه
حّ
جَعَلُهْم ُ
حِيِهَ ،و َ
ن َو ْ
صُهْم ِبِه ِم ْ
خ ّ سَلُه ِبَما َ
ل ُر ُ ثا ّالنبياء وفلسفة المتحان اللهي ،فقال )عليه السلم(َ» :بَع َ
ق«.حّ ل اْل َ
سِبي ِ
ق ِإَلى َ صْد ِ
ن ال ّ سا ِعاُهْم ِبِل َ
عَذاِر)ِ (1إَلْيِهْمَ ،فَد َ
لْك ا ِْ
جُة َلُهْم ِبَتْر ِ
حّب اْل ُ
ج َ
ل َت ِ
خْلِقِهِ ،لَئ ّ
عَلى َ
َ
فهذه العبارة تشير إلى نقطة مهّمة وردت كرارًا في اليات القرآنية وهى عدم مؤاخذة ال سبحانه العباد دون بعث
الرسل وإبلغهم أوامره ونواهيه سبحانه عن طريق الوحي ،فقد جاء
» .1العذار« :مصدر باب إفعال من مادة »عذر« بمعنى إتمام الحجة.
] [ 392
ك َقْرَيًة َأَمْرَنا
ن ُنْهِل َ
سول * َوِإَذا َأَرْدَنا َأ ْ
ث َر ُ
حّتى َنْبَع َ
ن َ
في الية 15و 16من سورة السراءَ) :وَما ُكّنا ُمَعّذِبي َ
ل َفَدّمْرَناَها َتْدِميرًا( ،هنا يطرح هذا السؤال وهو عدم انسجام ما ورد في هذه عَلْيَها اْلَقْو ُ
ق َ
حّسُقوا ِفيَها َف َ
ُمْتَرِفيَها َفَف َ
الخطبة واليات القرآنية الواردة بهذا الشأن ومبدأ استقلل حكم القتل ،فالحجة تتم على النسان من خلل العقل
الذي يحكم بحسن وقبح الشياء )كإدراكه لحسن العدل وقبح الظلم( وعليه فهو يستحق العقاب أو الثواب حتى دون
ن هناك استحقاقًا للثواب والعقاب وإرادة الحق بعث النبياء والرسل ،ونقول في الجابة عن هذا السؤال صحيح أ ّ
تبارك وتعالى ومن باب اللطف بالعباد واقتضت عدم مؤاخذة العباد وعقابهم ما لم تويد المستقلت العقلية بواجبات
الشرع ومحرماته التي تعين عن طريق الوحي.
ن ال تعالى ل يعاقب شخصًا دون بعث النبياء ونزول الوحي سوى في المستقلت العقلية من وبعبارة أخرى :إ ّ
قبيل قبح الظلم والجور والسرقة وقتل النفس ،ثم خاض المام )عليه السلم( في مطلب آخر في إطار مواصلة
خَفْوُه
ل َما َأ ْ
جِه َل َأّنُه َ
شَفًة; َ
ق َك ْ
خْل َ
ف اْل َ
ش َ
ل َتَعاَلى َقْد َك َ
نا ّ ل ِإ ّ
لكلمه والذي يتمثل بفلسفة المتحان اللهي فقالَ» :أ َ
ب َبَواًء)جَزاًءَ ،واْلِعَقا ُ ب َ
ن الّثَوا ُل« َفَيُكو َ
عَم ًن َ سُ
حَ ن »ِلَيْبُلَوُهْم َأّيُهْم َأ ْ
ضَماِئِرِهْم; َولِك ْ
ن َ
سَراِرِهْم َوَمْكُنو ِ
ن َأ ْ
صو ِ
ن َم ُ
ِم ْ
.«(1
فقد كشف المام )عليه السلم( بهذه العبارة اللثام عن مسألة مهّمة حيث ل معنى لمفهوم المتحان بالنسبة ل
بالشكل الذي تعارف على العباد ،فالهدف من اختبار العباد لرفع الجهل والبهام ،لمعرفة الشياء و التعرف على
الشخاص ،وليس لمثل هذه المور من مفهوم لمن كان الغيب والشهادة والظاهر والباطن عنده سواء ،بل هدف
البلء اللهي هو أن يظهر النسان ما يبطنه لتتحقق مسألة استحقاق الثواب والعقاب.
وبعبارة أوضح :ل يمكن إثابة الفرد أو معاقبته على ما يضمره من نّيات حسنة أو سيئة ،بل يترتب الثواب
والعقاب على ما يصدر منه من أعمال وأفعال تفرزها النّيات ،وهذا ما بّينه
» .1بواء« :تعني في الصل العودة والنزول ثم أطلقت على العقوبة المستمرة والمتواصلة وهذا هو المعنى المراد بها في الخطبة.
] [ 393
لُدُكْم ِفْتَنٌة)(...
عَلُموا َأّنَما َأْمَواُلُكْم َوَأْو َ المام )عليه السلم( في إحدى قصار كلمات في تفسير للية القرآنيةَ) :وا ْ
لْفَعالُ اّلتي ِبَها ظَهَر ا َْن ِلَت ْ
سِهْمَ ،ولِك ْ ن َأْنُف ِ
عَلَم ِبِهْم ِم ْ
حاَنُه َأ ْ
سْب َ
ن ُ
ن َكا َ
،(1معنى أن يختبرهم بالموال والولدَ» ...وِإ ْ
ب«).(2ب َواْلِعَقا ُ
ق الّثَوا ُ
حّسَت َ
ُي ْ
فلم يرد في الفقه ول في دستور أي بلد التصريح بعقاب شخص بسبب نّية القتل أو السرقة ،وكما ل يثاب بسبب
ل بسبب تلك النّيات وقد تظافرت نّيته الحسنة في الخدمة ،وإن شمل مثل هؤلء الفراد بنوع من التكريم تفض ً
ل منه سبحانه كونه أرحم الجميع ،لكّنه ليعاقب على نّية الشّر كما ورد الروايات التي صّرحت بجزاء الخير تفض ً
عَليِه«).(3
ب َ
سّيَئة َلم ُتكَت ْ
ن َهّم ِب َ
سَنًةَ ...وَم ْ
حَ
ت َلُه َ
سَنة َفَلْم َيْعَملها ُكِتَب ْ
حَ
ن َهّم ِب َ
في الحديثَ» :م ْ
—–
] [ 394
] [ 395
القسم الثاني
حَرَمُهْم،
طاَنا َو َ
عَضَعُهْمَ ،وَأ ْ
ل َوَو َ
ن َرَفَعَنا ا ّعَلْيَنا ،أَ ْن ِفي اْلِعْلِم ُدوَنَناَ ،كِذبًا َوَبْغيًا َخو َ سُعُموا َأّنُهُم الّرا ِ ن َز َن اّلِذي َ»َأْي َ
شم; َ
ل ن َها ِ
ن ِم ْ
طِ سوا ِفي هَذا اْلَب ْغِر ُ
ن ُقَرْيش ُ لِئّمَة ِم ْ ن ا َْ
جَلى اْلَعَمى ِ .إ ّ سَت ْ
طى اْلُهَدىَ ،وُي ْ سَتْع َ
جُهْمِ .بَنا ُي ْ
خَر َخَلَنا َوَأ ْ
َوَأْد َ
غْيِرِهْم«. ن َ لُة ِم ْ
ح اْلُو َ
صُل ُ
ل َت ْسَواُهْمَ ،و َ عَلى ِ ح َ صُل ُ
َت ْ
—–
الشرح والتفسير
منزلة الولية
خاض المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة في الرد على التخرصات في مجال العلم والمعرفة
ن الساسة المحترفين آنذاك السلمية تجاه أهل البيت )عليهم السلم( ويقدمهم على أّنهم أعلم من غيرهم بكذبهم ،وأ ّ
ن اّلِذي َ
ن كانوا يثيرون تلك التخرصات بهدف النيل من مسألة خلفة وإمامة أهل البيت)عليهم السلم(فقالَ» :أْي َ
عَلْيَنا«.
ن ِفي اْلِعْلِم ُدوَنَناَ ،كِذبًا َوَبْغيًا َ
خو َ
سُ
عُموا َأّنُهُم الّرا ِ
َز َ
وأضاف )عليه السلم( أينهم ُاولئك ليروا كيف رفعنا ال تعالى وفضلنا وأعطانا ووضعهم وحرمهم وأدخلنا في
جُهْم«.
خَر َ
خَلَنا َوَأ ْ
حَرَمُهْمَ ،وَأْد َ
طاَنا َو َ
عَضَعُهْمَ ،وَأ ْ
ل َوَو َ
ن َرَفَعَنا ا ّ
سعة رحمته وأخرجهم منهاَ» :أ ْ
ن إّتباع أهل البيت)عليهم السلم(في معارفهم والسلمية ووقوفهم على القرآن والوحي والسّنة في إشارة إلى أ ّ
لمة الذي كان يلوذ به حتى الخلفاء في ما يعترضهم من النبوية الشريفة ليس بالشيء الخفي على أحد ،فهم كهف ا ُ
مشاكل وصعوبات ،وهذا من البديهيات التي ل يختلف عليها إثنان ،وأّما ُاولئك الذين تدفعهم القضايا السياسية
والحب والبغض الناشيء من العلقات المادية بانكار هذه الحقيقة فإّنما يفضحون أنفسهم.
] [ 396
وأخيرًا إختتم المام )عليه السلم( هذا المقطع من الخطبة بالشارة إلى الحديث النبوي الشريف بشأن اقتصار
سَواُهْم،
عَلى ِ
ح َ
صُل ُ
ل َت ْ
شم; َ
ن َها ِ
ن ِم ْ
طِسوا ِفي هَذا اْلَب ْ
غِر ُ
ن ُقَرْيش ُ
لِئّمَة ِم ْ
ن ا َْ
المام على قريش وبني هاشم فقالِ» :إ ّ
غْيِرِهْم«.
ن َ
لُة ِم ْ
ح اْلُو َ
صُل ُ
ل َت ْ
َو َ
—–
جار السياسة بهدف نيل أهدافهم وتحقيق مآربهم إلى إنكار أوضح المسائل أحيانًا أو المرور عليها من
لقد عمد ت ّ
خلل التوجيهات الجوفاء وأحد مصاديق ذلك منح بعض الصحابة الفضلية على علي )عليه السلم( حتى قدموا
عليه تلميذه في التفسير والذي كان يفخر بذلك هو ابن عباس) ،(1وزيد بن ثابت في العلم بأحكام الميراث وأبي بن
كعب في القراءة ،ولم ينسبوا للنبي الكرم )صلى ال عليه وآله( حديثًا بهذا الشأن ،في حين تظافرت مصادر
الفريقين )الشيعة والسّنة( التي تؤكد أعلمّية علي )عليه السلم( على سائر الصحابة قاطبة بما ل يمكن إنكارها
ومن ذلك:
1ـ حديث الثقلين وهو من أشهر الحاديث التي روتها مصادر العاّمة ـ وقد استشهدنا به سابقًا) (2ـ بالكتاب وأهل
ن القرآن هو مصدر جميع العلوم المعارف. البيت)عليهم السلم(الذين ل يفترقون عنه والكل يعلم بأ ّ
طاِلب« ج
ن َأِبي َ
يب ِ عل ّن َن ِإلّ ِم ْ
سيِر الُقرآ ِ
ن َتف ِ
ت ِم ْ
خذ ُ .1نقل الدكتور الذهبي في كتابه »التفسير والمفسرون« عن ابن عباسَ» :ما َأ َ
حر« )الغدير 2/45 سبَعِة َأب ُ
ي ِإّل َكَقطَرة ِفي َ عل ّ
عْلِم َحّمد ِفي َ ب ُم َ
حا ِ
عْلُم َأص َ
علِمي َو ِ
،1ص ،89كما روي عن ابن عباس أّنه قالَ» :وَما ِ
في شرح ديوان حسان(.
] [ 397
ف َباب«)
ح )منه( َأل َ
ل َباب َيْفَت ُ
ب ُك ّ
ف َبا ِ
ل َأل َ
سولُ ا ِ
عّلَمِني َر ُ
3ـ الحديث المروي عن علي )عليه السلم( أّنه قالَ » :
ن هذا الحديث لم يرد لّمة من يماثله في العلم والمعرفة وذلك ل ّ ،(2وهو دليل آخر يكشف بوضوح أن ليس بين ا ُ
في شخص سواه.
ب() (3إّنما هو علي«).(4
عْلُم اْلِكَتا ِ
عْندَهُ ِ
ن ِ
4ـ قال رسول ال )صلى ال عليه وآله( في تفسير اليةَ)» :وَم ْ
عْلٌم ِم ْ
ن عْنَدُه ِ
لبّد من اللتفات هنا إلى أّنه طبق الية 40من سورة النمل فقد تمكن آصف بن برخيا) :اّلِذي ِ
ب ،(...من التيان بعرش بلقيس من اليمن إلى الشام ،فما بالك بقدرة من لديه علم بكل الكتاب.
اْلِكَتا ِ
لمةن علّيا )عليه السلم( كان الكهف العلمي الحصين ل ُ 6ـ العارفون بتاريخ السلم في عصر الخلفاء يعلمون أ ّ
حتى قال الخليفة الثاني كرارًا ومرارًا» :لول علي لهلك عمر« ،وقال في عبارة ُاخرى» :الّلهّم ل ُتبِقِني ِلمعضَلة
حسن«).(6 ت ِفيها )يا( َأبا ال َ
ل ِبَأرض َلس َ
س َلها ابن َأِبي طالب« ،وقال» :ل َأبَقاِني ا ُ
َلي َ
وهذا المطلب على درجة من الوضوح حتى أصبح المثل يضرب به بين الناس ،فكلما
.1روى هذا الحديث جمع من حفاظ العاّمة كابن عبد البر في »الستيعاب« ،والقاضي في »الموقف« ،وابن أبي الحديد في »شرح
نهج البلغة« ،وابن طلحة الشافعي في »مطالب السئول«) ،الغدير ،3/69وابن عساكر في )التاريخ المختصر لدمشق .(17/301
.4انظرو مصادر هذا الحديث في كتب العاّمة في إحقاق الحق ،3/280كما وردت روايات بهذا الخصوص في شواهد التنزيل
للحسكاني 1/307ـ .310
.5ذكرنا شرح هذا الموضوع في المجلد الرابع من هذا الكتاب ذيل الخطبة .93
لمة الميني أورد هذه العبارات بمصادر دقيقة من كتب العاّمة )الغدير (3/97تحت عنوان آراء الصحابة بعلي )عليه
.6المرحوم الع ّ
السلم(.
] [ 398
سن َلها«).(1
حَ
ضيٌة َول َأَبا َ
عصيت قضية على أحد ولم يكن هنالك من يحّلها قالواَ» :ق ِ
—–
ن الئّمة من قريش
رواية أ ّ
ن الئّمة من قريش ومن بني هاشم وليس للخرين صلحية الخلفةنشير في الخطبة إلى هذه النقطة وهى أ ّ
والمامة وينسجم هذا الكلم مع عّدة روايات التي وردت في أشهر مصادر العاّمة ومنها:
1ـ روي عن جابر بن سمرة في صحيح مسلم أّنه قال :سمعت رسول ال )صلى ال عليه وآله( قال» :ل َيزالُ
ل؟ قال :فقالُِ :كّلُهم ِمن ُقَريش«)،(2
ت لِبي َما َقا َ
خِليفة ـ ُثم قال كلمة لم أفهمها ـ فقل ُ
شَر َ
عَ
عِزيزًا ِإلى ِإثني َ
لسلُم َ
اِ
وقد وردت هذه الروايات بعبارات مختلفة.
ن جابرًا قال في ذيل الحديث »َفَقالَ )صلى والجدير بالذكر إننا نقرأ في أحد طرق هذا الحديث في صحيح مسلم أ ّ
لُ :كّلُهم ِمن ُقَريش« ،كما ورد عنه )صلى ال عليه وآله( ل؟ َقا َ
لِبي َما َقا َت َس َفُقل ُصمِنيها الّنا ُال عليه وآله( َكِلِمًة َأ َ
خِليَفًة َكّلُهم ِمن ُقَريش«.
شَر َعَليُكم ِإثنا عَ َ
ن َ عُة َأو َيُكو َ
سا َ
حّتى َتُقوَم ال ّ
ن َقاِئمًا َ
ل الّدي ُ
أّنه قال» :ل َيزا ُ
شَر َأِميرًا
عَن ِإثني َ
2ـ جاء في صحيح البخاري عن جابر قال :سمعت رسول ال )صلى ال عليه وآله( قالَ» :يُكو ُ
لَ :كّلُهم ِمن ُقَريش«).(3
لَ :أِبي َأّنه َقا َ
ل َكِلَمًة َلم أسَمعها َفقا َ
َفَقا َ
ح«).(4
صحي ٌ
ن َ
سٌ
ثحَ
حدي ٌ
3ـ وورد مثل هذا المضمون في صحيح الترمذي مع اختلف طفيف وقال فيه» :هذا ِ
ن النبي )صلى ال عليه وآله( قاله في 4ـ كما ورد نفس هذا المضمون في صحيح أبي داود ويفيد تعبير الحديث أ ّ
شَر
عَعِزيزًا ِإلى ِإثني َ
لسلُم َ
لا ِ
ن النبي )صلى ال عليه وآله( حين قال» :ل َيزا ُجماعة ،حيث جاء في الخبر أ ّ
س ِبَأعَلى َأصواِتِهم«).(5
خِليفة َكّبَر الّنا ُ
َ
] [ 399
ل أّنهم لم يقدموا
لقد أسهب علماء العاّمة بشأن تفسير الحاديث المذكورة والتي وردت في أشهر مصادرهم ،إ ّ
تفسيرًا قانعًا حول الثني عشر خليفة أو أمير ،وذلك لّنهم يعتقدون بعدم انطباق هذا العدد والخلفاء ،ول يمكن
ل على ضوء اعتقاد أتباع أهل البيت)عليهم السلم(.تفسيره إ ّ
—–
ُاشير في الخطبة إلى منزلة بني هاشم في قريش ،والذي أقتبس في الواقع من كلمات النبي الكرم )صلى ال عليه
وآله( ،ومن ذلك ما روي عن عائشة في كتاب »فضائل الصحابة« لحمد بن حنبل قالتَ :قال رسول ال )صلى
شم«)
ن َبِني َها ِ
خْيَرًا ِم ْ
جْد ُوْلَد َأب َ
شاِرَقها َوَمَغاِرَبها َفَلم َأ ِ
ض َم َ
لر َ
تا َ
حّمد َقّلب ُ
ل َيا ُم َ
جبَرائي ُ
ل ِلي ِ
ال عليه وآله(َ» :قا َ
.(3
ن المقصود ليس جميع بني هاشم ،والحديث يبدو ناظرًا إلى الئّمة المعصومين)عليهم السلم(.
ومن الواضح أ ّ
—–
] [ 401
القسم الثالث
ب اْلُمْنَكَر َفَأِلَفُه،ح َ
صِسِقِهْم َوَقْد َ
ظُر ِإَلى َفا ِ جنًا; َكَأّني َأْن ُ شِرُبوا آ ِصاِفيًا َو َ
لَ ،وَتَرُكوا َ جً خُروا آ ِ ل َوَأ ّجً عا ِ
منَها» :آَثُروا َ
قَ ،أْو َكَوْقِع غّر َ ل ُيَباِلي َما َ
ل ُمْزِبدًا َكالّتّياِر َ
لِئُقُهُ ،ثّم َأْقَب َ
خَت ِبِه َ
صِبَغ ْعَلْيِه َمَفاِرُقُهَ ،و ُ
ت َشاَب ْحّتى َ ئ ِبِه َوَواَفَقُهَ ،
سََوَب ِ
ق!«. حّر َل َما َحِف ُل َي ْ
شيِم َالّناِر ِفي اْلَه ِ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة إلى الفراد الذين وقفوا بوجه أئّمة الحق وقد ولوا ظهورهم
جنًا)َ ;(1كَأّنيشِرُبوا آ ِ
صاِفيًا َو َلَ ،وَتَرُكوا َ جً
خُروا آ ِل َوَأ ّ
جًعا ِ
للحق من أجل الحكومة لبضعة أّيام فقال» :آَثُروا َ
خلَِئُقُه)
ت ِبِه َ
صِبَغ ْ
عَلْيِه َمَفاِرُقُهَ ،و ُ
ت َ
شاَب ْ
حّتى َ
ئ ِبِه)َ(2وَواَفَقُهَ ،
سَب اْلُمْنَكَر َفَأِلَفُهَ ،وَب ِ
ح َ
صِ
سِقِهْم َوَقْد َ
ظُر ِإَلى َفا ِ
َأْن ُ
.«(3
شيِم)
قَ ،أْو َكَوْقِع الّناِر ِفي اْلَه ِ
غّر َ
ل ُيَباِلي َما َ
ل ُمْزِبدًا)َ (4كالّتّياِر)َ (5
ثم قال مواصلة لكلمه )عليه السلم(ُ» :ثّم َأْقَب َ
ق!«.
حّر َ
ل)َ (7ما َ
حِف ُ
ل َي ْ
َ (6
» .1آجن« :من مادة »اجن« على وزن فجر الماء المتغير اللون والطعم والرائحة.
» .3خلئق« :أحيانًا جمع »خلق« بمعنى المخلوق وأخرى جمع »خليقة« بمعنى الخلق والملكة وهذا هو المعنى المراد بها في
العبارة.
» .4مزبد« :من مادة »زبد« رغوة الماء وما شابه ذلك ومزبد اسم فاعل.
» .5تيار« :يعني في الصل الموج الشديد الذي يقذف الماء خارج البحر ،ويطلق أحيانًا على مطلق الموج.
» .6الهشيم« :من مادة »هشم« تطلق على النباتات الجافة المتكسرة.
» .7يحفل« :من مادة »حفول« بمعنى العتناء بالشيء وعليه فل يحفل تعني ل يهتم.
] [ 402
ن المراد هنالك خلف بين شّراح نهج البلغة بشأن الضمير وعودته في هذه العبارات ،فقد ذهب البعض إلى أ ّ
ن المراد بعض الصحابة الذين انحرفوا ،وقال البعض يراد بها بالخلفاء الوائل ،وذهب البعض الخر إلى أ ّ
مفهومًا عامًا وأخيرًا رآه البعض إشارة إلى بني ُامية ،ويبدو الحتمال الخير أنسبها جميعًا ،لّنهم آثروا الدنيا على
ظُر ِإَلى
الخرة جهرة وقد تنكروا للحق وسقطوا في مستنقع الدنيا العفن ،وبناءًا على هذا فالمراد بالعبارة »َكَأّني َأْن ُ
سِقِهم« ،هو عبدالملك بن مروان حيث كان من أقدر عناصر بني ُامية ،وقد إرتكب الكثير من الجرائم وباشرها َفا ِ
بنفسه ،وما أبشع الجنايات التي إرتكبها واليه الغاشم الحجاج ،فقد كان كالنار الملتهبة التي تحرق الخضر
واليابس ول يقف أمامها شيء ،والعبارة كأّني انظروا إلى فاسقهم إشارة إلى فرد يظهر في المستقبل ،فل يمكن
ل مع تكّلف.
تطبيقها على الماضين أو المعاصرين له )عليه السلم( إ ّ
—–
] [ 403
القسم الرابع
ل،ت ِّب اّلِتي ُوِهَب ْن اْلُقُلو ُ حُة ِإَلى َمَناِر الّتْقَوى! َأْي َ
لِم َ
صاُر اْل ّ لْب َح اْلُهَدىَ ،وا َْ صاِبي ِحُة ِبَم َ صِب َ
سَت ْ ل اْلُم ْ
ن اْلُعُقو ُ
»َأْي َ
عِ
ن جّنِة َوالّناِرَ ،فصََرُفوا َ عَلُم اْل َ
حَراِمَ ،وُرِفَع َلُهْم َ عَلى اْل َ
حوا َ شا ّ طاِمَ ،وَت َحَ عَلى اْل ُحُموا َ ل! اْزَد َ عِة ا ّ طا َ عَلى َ ت َعوِقَد ْ َو ُ
جاُبوا َوَأْقَبُلوا!«.
سَت َ
ن َفا ْ
طا ُ شْي َعاُهُم ال ّ
عاُهْم َرّبُهْم َفَنَفُروا َوَوّلْواَ ،وَد َعَماِلِهْم; َوَد َجوَهُهْمَ ،وَأْقَبُلوا ِإَلى الّناِر ِبَأ ْ جّنِة ُو ُ
اْل َ
—–
الشرح والتفسير
تحّدث المام )عليه السلم( في المقطع الخير من هذه الخطبة عن فئتين :فئة عاقلة ومتقية ومطيعة للحق وأخرى
حُة
صِب َ
سَت ْ
ل اْلُم ْ
ن اْلُعُقو ُ
تكالبت على حطام الدنيا وتسابقت مع بعضها من أجل نيل الموال الحرام فقالَ» :أْي َ
ل!«،
عِة ا ّطا َ
عَلى َ ت َ عوِقَد ْلَ ،و ُت ِّ ب اّلِتي ُوِهَب ْ
ن اْلُقُلو ُ
حُة)ِ (1إَلى َمَناِر الّتْقَوى! َأْي َ
لِم َ
صاُر اْل ّ
لْب َ
ح اْلُهَدىَ ،وا َْ
صاِبي ِ
ِبَم َ
ن جماعة عظيمة من الناس سلكت سبيل المخالفة ،وقد قل الصالحون وكأن المام )عليه السلم( يبحث إشارة إلى أ ّ
عنهم ليجدهم.
حوا)(3
شا ّ
طاِم)َ ،(2وَت َ
حَعَلى اْل ُ
حُموا َ
ثم تطرق )عليه السلم( إلى الفئة الثانية التي تهافتت على الدنيا فقال» :اْزَد َ
جوَهُهْم،
جّنِة ُو ُ
ن اْل َ
عِ
صَرُفوا َ
جّنِة َوالّناِرَ ،ف َ
عَلُم اْل َ
حَراِمَ ،وُرِفَع َلُهْم َ
عَلى اْل َ
َ
» .1لمحة« :من مادة »لمح« على وزن لمس تعني في الصل لمعان البرق ،ثم جاءت بمعنى النظرة الخاطفة ،كما وردت بمعنى
النظر إلى الشيء وهذا هو المعنى المراد بها في العبارة.
» .2حطام« :الشيء المكسور الفاني الذي ل قيمة له ويقال حطام الدنيا لموالها بسبب فنائها وزوالها سريعًا.
» .3تشاحوا« :من مادة تشاح واصلها الشح بمعنى البخل المقرون بالحرص ويقال تشاح حيث يتنازع فردان أو طائفتان من أجل
الحصول على الشيء.
] [ 404
جاُبوا َوَأْقَبُلوا!«.
سَت َ
ن َفا ْ
طا ُ
شْي َ
عاُهُم ال ّ
عاُهْم َرّبُهْم َفَنَفُروا)َ (1وَوّلْواَ ،وَد َ
عَماِلِهْم; َوَد َ
َوَأْقَبُلوا ِإَلى الّناِر ِبَأ ْ
يبدو أن الفئتين اللتان أشار إليهما المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة ،هما تلك الفئتان اللتان ذكرتا
سابقًا ،فئة سلمت لئّمة الهدى وانقادت لهم ،وأخرى تمردت ووقفت بوجههم سعت لطفاء نورهم ،فهى فئة أخلدت
إلى الدنيا ولم تهتم بالحلل والحرام وتتسابق فيما بينها من أجل تبعية الشيطان وطاعته.
—–
» .1نفروا« :من مادة »نفر« و»نفور« بمعني البتعاد عن الشيء والفرار منه.
] [ 405
الخطبة)145 (1
الموضوع الول :إشارة إلى تقلب الدنيا ووزال نعمها ،حيث يتعرف النسان أكثر فأكثر على حقيقة هذا العالم
المتغير حين يتأمل هذه العبارات التي تضمنت مواعظ توقظ السامع من غفلته.
الموضوع الثاني :حول ذم البدع حيث تتغيب سنة كّلما شاعت بدعة بين الناس.
—–
.1سند الخطبة:
أورد ابن شعبة الحراني في كتابه »تحف العقول« جانبًا من هذه الخطبة ضمن خطبة تعرف باسم الوسيلة ،كما ذكرها المرحوم الشيخ
المفيد)رحمه ال( في كتاب »الرشاد« مع اختلف طفيف ،كما نقلها المرحوم الشيخ الطوسي في المالي وأشار أبو العتاهية في
أشعاره إلى مضمون بعض عبارات هذه الخطبة ويحتمل أّنه أخذها من كلم المام )عليه السلم( ،ووردت أجزاء من هذه الخطبة في
الكلمات القصار في كلمة رقم ) .191مصادر نهج البلغة (2/323
] [ 406
] [ 407
القسم الول
ص! لَ ص ٌ غ َ ل َأْكَلة َ قَ ،وِفي ُك ّ شَر ٌ عة َ جْر َل َ ل ِفيِه اْلَمَناَياَ ،مَع ُك ّضُ ض َتْنَت ِ
غَر ٌ سِ ،إّنَما َأْنُتْم ِفي هِذِه الّدْنَيا َ »َأّيَها الّنا ُ
جّدُد َلُه
ل ُت َ
جِلِهَ ،و َن َأ َخَر ِم ْل ِبَهْدِم آ َ
عُمِرِهِ ،إ ّن ُ ل ُيَعّمُر ُمَعّمٌر ِمْنُكْمَ ،يْومًا ِم ْ خَرىَ ،و َ ق ُأ ْ ل ِبِفَرا ِ ن ِمْنَها ِنْعَمًة ِإ ّ
َتَناُلو َ
ق َلُهخَل َن َي ْ
ل َبْعَد َأ ْ
جِديٌد ِإ ّ
جّدُد َلُه َ
ل َيَت َ
ت َلهُ َأَثٌرَ .و َ
ل َما َحَيا َلُه َأَثٌر ِإ ّ
ل َي ْ
ن ِرْزِقِهَ .و َ ل ِبَنَفاِد َما َقْبَلَها ِم ْ
ِزَياَدٌة ِفي َأْكِلِهِ ،إ ّ
عَهاَ ،فَما َبَقاُء َفْرع َبْعَد َذَها ِ
ب ن ُفُرو ُحُ ل َن ْصو ٌ ت ُأ ُض ْصوَدٌةَ .وَقْد َم َ ح ُط ِمْنُه َم ْسُق ُ
ل َوَت ْ ل َتُقوُم َلُه َناِبَتٌة ِإ ّ
جِديٌدَ .و ََ
صِلِه!«.َأ ْ
—–
الشرح والتفسير
] [ 408
ل بفراق أخرى ،فبّين ثم واصل المام )عليه السلم( كلمه بشرح رائع للعبارة السابقة حين قال ل تنالون نعمة إ ّ
جِلِه،
ن َأ َ
خَر ِم ْل ِبَهْدِم آ َعُمِرِهِ ،إ ّ
ن ُ ل ُيَعّمُر ُمَعّمٌر ِمْنُكْمَ ،يْومًا ِم ْ خمسة نماذج واضحة في خمس عبارات فقالَ» :و َ
ل َبْعَد
جِديٌد ِإ ّجّدُد َلُه َ
ل َيَت َ
ت َلُه َأَثٌرَ .و َ
ل َما َ حَيا َلُه َأَثٌر ِإ ّ
ل َي ْ
ن ِرْزِقِهَ .و َل ِبَنَفاِد َما َقْبَلَها ِم ْجّدُد َلُه ِزَياَدٌة ِفي َأْكِلِهِ ،إ ّ
ل ُت َ
َو َ
صوَدٌة).«(2 ح ُط ِمْنُه َم ْسُق ُ
ل َوَت ْ
ل َتُقوُم َلُه َناِبَتٌة ِإ ّ
جِديٌدَ .و َ ق)َ (1لُه َ خَل َ
ن َي ْ
َأ ْ
» .1يحلق« :من مادة »خلوق« بمعنى يبلى ويخلق من مادة خلق المراد المعنى الول في الخطبة.
» .2محصودة« :من مادة »حصد و حصاد« على وزن غصب بمعنى حصاد الشيء.
] [ 409
التجارب والخيرات فقد نشاط الشباب ،وهكذا يمنح ال النسان نعمة الولد ول تمضي مّدة حتى يفقد أباه ويتعرف
على أصدقاء جدد ،في حين يسلب القدماء من أصدقائه ،وهكذا يحصل على نعمة ويفقد أخرى ،وهذه هى طبيعة
الحياة الدنيا والنعم المادية ،فهى ل تجتمع لحد في أي زمان ومكان فل تنال نعمة إلى بفراق نعمة أخرى ،وهذا
حَيا َلُه َأَثٌر ،«...إشارة إلى أ ّ
ن ل َي ْ
بحّد ذاته إنذار لكافة الناس بعدم التعلق بنعم الدنيا وربط القلب بها ،والعبارة »َو َ
النسان إن خّلف بعض الثار ـ سواء كانت هذه الثار علمية أم خيرية ذات النفع العام ـ فاّنه يفقد قطعًا من أجلها
ل َتُقوُم َلُه َناِبَتٌة ،«...يمكن أن تكون إشارة إلى نعمة الولد والحفيد حيث طاقة من حيث الفكر والبدن ،والعبارة »َو َ
ل يغرس النسان كلما كبر هؤلء فقدوا بالتدريج قرابتهم الكبر ،كما يمكن أن تكون إشارة إلى كل نمو وتقدم ،مث ً
بذور جديدة في جانب من بستانه في حين يعاني جانب أخر من ذبول الشجار وموتها الواحدة بعد الخرى.
صِلِه!«،
ب َأ ْ
عَهاَ ،فَما َبَقاُء َفْرع َبْعَد َذَها ِ
حنُ ُفُرو ُ
ل َن ْ
صو ٌ
ت ُأ ُ
ض ْ
ثم إختتم المام )عليه السلم( كلمه بالقولَ» :وَقْد َم َ
ن الفرع الزائد على الصل ليس فقد ذهب أباؤنا وأسلفنا وصاروا إلى الزوال فل ينبغي لنا إنتظار البقاء ،ل ّ
ل.
ل أم آج ًبممكن ،وبناءًا على هذا سنلحق بهم عاج ً
—–
لقد رسم المام )عليه السلم( صورة واضحة ودقيقة في هذا القسم من الخطبة عن الدنيا ،نعم ،فلهذه الدنيا نعيش
فيها آفاق تختلف تمامًا عن واقعها ،أفاق القصور والثروات والنعم والجمال والنشاط ولكن ما إن نقترب منها حين
نصطدم بصورتها القبيحة ،فالنسان من جانب ـ كما أشار المام )عليه السلم( ـ هو هدف دائم لسهام الفات
والبلء ،بحيث ل يسعه التهكن بمستقبله لما بعد ساعة ،ومن جانب أخر فإلى جانب كل نعمة مصيبة وإلى جانب
كل وردة شوكة وأخيرًا ل ننال نعمة حتى نفقد أخرى ،نعيش حياة متواضعة ،لكّنها مفعمة بالستقرار ،نتمنى سعة
ل أننا إن نلنا منيتنا طالعتنا العديد من المشاكل ،حفظ المال والثروة بحّد ذاته مشكلة كبيرة ،إلى
هذه المعيشة ،إ ّ
ساد التي تصوب نحوه وأماني الشرار بزواله واللصوص الذين يتربصون به ،وأحيانًا خيانة جانب عين الح ّ
الزملء والصدقاء وهكذا سائر المشاكل التي تصب على رأسه من كل حدب وصوب والتي تقضي على
استقراره بصورة تامة ،ناهيك عن مختلف المراض
] [ 410
التي تعرض للنسان بفعل الجهاد ،إننا خام ما دمنا شبابًا فان نضجنا وعجزنا ،وآنذاك يسعنا الستفادة الصحيحة
من الموال بينما أيدينا خالية ،فان أصبحنا نملك شيئًا لم يسعنا الستفادة منه ،فهل يمكن التعلق بمثل هذه الدنيا
ن أحدهم طلب من ملك أن يجلس على عرشه ساعة ويسلمه مقاليد الحكم ويأتمر بأمره والوثوق بها؟ يقال إ ّ
الحرس والغلمان ،فأجابه الملك لكنه أمر أن يعلق فوق رأسه بشعرة ،فلما جلس على العرش شعر بالفرح الشديد،
فوقعت عينه على الخنجر وأّنه معلق بشعرة فارتعش ،لّنه ظن سيقع عليه في كل لحظة ،فلّما هّم بالهروب قيل له
لم تنتهي ساعتك ،فجلس خائفًا ينتظر انتهاء المّدة وهو يدعو إلى إنتهائها ،ففهم إن كان السلطة من جمال فهى
تشتمل على آلف الخطار ،ولعل هناك من يهم بقتله من أقرب مقربيه كما يفيد التاريخ ذلك ،ورغم كل هذه
المشاكل فليس هناك من بقاء وخلود في الحياة الدنيا ليسعى إليها النسان ويجهد نفسه من أجلها ،وما عليه إ ّ
ل
خل ِمّنا«).(1
حل َلنا الّدهُر َ
السير نحو الخرة ،وكما قال آخر خلفاء بني ُامية »َلّما َ
—–
] [ 411
القسم الثاني
حَدَثاِتَها
ن ُم ْ
ضُلَهاَ ،وِإ ّ
لُموِر َأْف َ
عَواِزَم ا ُْ
ن َ
ع َواْلَزُموا اْلَمْهَيَعِ .إ ّ
سّنٌةَ .فاّتُقوا اْلِبَد َ
ك ِبَها ُ
ل ُتِر َ
عٌة ِإ ّ
ت ِبْد َ
حِدَث ْ
منَهاَ» :وَما ُأ ْ
شَراُرَها«.
ِ
—–
الشرح والتفسير
يعالج هذا الكلم من الخطبة قضية مهّمة وهى قبح البدع ،وعلى ضوء عدم الرتباط الواضح بين هذا القسم والذي
ن بين هذين القسمين أقسام حذفها المرحوم السيد الرضي )رضي ال عنه( ،ولبّد من تغير سبقه فالذي يبدوا أ ّ
مفردة البدعة على أساس اللغة والشرع ليتضح لدينا مضمون هذا القسم من الخطبة :فالبدعة لغويًا تعني كل تجدد
والذي يمكنه أن يكون حسنًا أو سيئًا ،حسب ما صّرح به أرباب اللغة» :البدعة إنشاء أمر على غير مثال سابق«.
أّما المعنى السائد بين الفقهاء العلماء ـ كما ذكرنا ذلك في شرح الخطبة السابعة عشرة ـ إدخال شيء في الدين أو
إخراجه دون قيام دليل معتبر على ذلك ،ولما كانت تعاليم السلم وأحكامه خالدة ونازلة عن طريق الوحي فكل
لمة السلمية ،نعود الن إلى شرح كلم المام )عليهبدعة كبيرة ،وإليها تعود كل فرقة واختلف أصاب ا ُ
سّنٌة«.
ك ِبَها ُ
ل ُتِر َ
عٌة ِإ ّ
ت ِبْد َ
حِدَث ْ
السلم( فقد قالَ» :وَما ُأ ْ
ثم نصح باجتناب البدع وضرورة السير على النهج المستقيم فقال )عليه السلم(َ» :فاّتُقوا اْلِبَد َ
ع
] [ 412
شَراُرَها«.
حَدَثاِتَها)ِ (3
ن ُم ْ
ضُلَهاَ ،وِإ ّ
لُموِر َأْف َ
عَواِزَم) (2ا ُْ
ن َ
َواْلَزُموا اْلَمْهَيَع)ِ .(1إ ّ
لمور، فقد اتضحت حقيقة ما قيل في هذه العبارة في كيفية ترك سّنة حين ظهور بدعة ،وكيف تكون البدعة شّر ا ُ
لّنه لو سمح للفراد أن ينقصوا من الدين شيئًا أو يضيفوا له شيئًا على ضوء ذوقهم وفكرهم القاصر ،لما بقي من
أحكام الدين وتعاليمه شيئًا خلل مّدة وجيزة ولنقلب كل شيء رأسًا على عقب ،وفقد اعتباره وأصالته،
ولستبدلت التعاليم الصلية للدين بسلسلة من الفكار المنحرفة والواهية ولحل السراب محل العين الزلل ،طبعًا
إن كان التجدد وليد البحث والتحقيق والدقيق في أدلة أحكام الشرع وكشف حقائق حديثة من خلل الكتاب والسّنة
والدليل القاطع للعقل ،فليس هذا من البدعة في شيء فحسب ،بل سيكون سبب رفعة الدين وإزدهاره.
ن الكشف شيء جديد ،أّما المكشوف فهو موجود سابقًا في الدين ،أّما إن كان الذوق الشخصي وبعبارة أخرى :فا ّ
والستحسان الظني هو دعامة وأساس التجدد فليس له من نتائج سوى الظلل ومسخ الصورة الحقيقية الناصعة
ل بدعة خلف للدين ويتضح مّما مّر معنا عدم صواب ما أورده شّراح نهج البلغة للعبارة المذكورة من أن ك ّ
ن لكللسّنة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(الذي حرم البدعة ،وعليه فالسّنة تترك بظهور البدعة ،بل المراد أ ّ
موضوعه في السلم حكم ،وكل بدعة تعارض ذلك الحكم ،إذن فبظهور البدع تترك الحكام الصلية للدين ـ كما
تبّين جسامة خطأ ما أورده بعض شّراح نهج البلغة مثل ابن أبي الحديد الذي قسم البدع إلى حسنة وسيئة ،فاعتبر
ل صلة التراويح )تلك الصلة المتسحبة التي كان يصليها الناس فرادا على عهد رسول ال )صلى ال عليه مث ً
وآله( في ليالي رمضان وقد ابتدع عمر أن تصلى جماعة( من البدع الحسنة ،وذلك لّنه بهذه البدعة ترك سّنة،
وترك سّنة استحباب الفراد في الصلة المستحبة ،وعليه فليس لدينا بدعة حسنة ،وإن أقررنا البدعة الحسنة كان
ن السّنة قد تكون
ذلك القرار بأ ّ
» .1المهيع« :من مادة »هيع« على وزن رأي بمعنى الطريق الواسع والواضح.
» .2عوازم« :جمع »عازمة أو عوزم« على وزن جوهر تعني في الصل المسن من النسان أوالحيوان وتطلق على كل شيء قديم،
وتعني هنا المور التي كانت موجودة منذ زمان النبي وأصالتها ثابتة في الدين.
.3وردت حدثات بكسر الدال في النسخة المعروفة لصبحي الصالح فلها معنى اسم الفاعل ،وردت مفتوحة في أغلب النسخ بمعنى
الحدوث وهذا هوالصحيح.
] [ 413
حسنة وقد تكون سيئة ،كما اتضح المعنى الذي أراده بعض العلماء للبدعة حين أجروا عليها الحكام الخمسة من
أن بعض البدع واجبة وبعضها محرمة ،فاّنما أرادوا المعنى اللغوي ل الشرعي باضافة أو طرح أشياء من الدين
ضلَلٌة ،أل
عة َل ِبد َ
ل َوُك ّ
وأحكامه ومن هنا ورد في الحديث عن النبي الكرم)صلى ال عليه وآله( أّنه قال» :أ ّ
ضلَلة ِفي الّناِر«).(1
ل َ
َوُك ّ
ومن أراد الوقوف على المزيد بشأن البدعة فليراجع المجلد الول من هذا الكتاب ذيل الخطبة السابعة عشرة.
—–
.1ورد مثل هذا المعنى في المالي للشيخ المفيد)رحمه ال( ،ص 188مع اختلف طفيف كما ورد في مصادر العاّمة )الموسوعة
الفقهية الكويتية .(8/24
] [ 414
] [ 415
الخطبة)146 (1
ن هذه الستشارة بخصوص الحضور في معركة نهاوند أو القادسية ،ويرى هناك خلف بين المؤرخين في أ ّ
الطبري حسب قول ابن أبي الحديد أّنها في معركة نهاوند ،بينما يراها المدائني في كتاب »الفتوح« بشأن معركة
ن عمر حين عزم على الشخوص بنفسه لقتال العجم طلب القادسية) ،(2وخلصة ما ورد في تاريخ الطبري أ ّ
ن عمر استشار عليًا )عليه السلم( فأشار )عليه السلم(لأّمشورة الصحابة فتقدم طلحة والزبير وقال رأيهما ،إ ّ
بعدم الشخوص بنفسه كما في الخطبة ،قال المرحوم الشيخ المفيد )رحمه ال( في »الرشاد« ،ورد عن أبي بكر
لمور التي نقلت عن أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( في إرشاد الناس لما فيه مصلحتهم ن من بين ا ُ
الهذلي أ ّ
ن فريقًا من أهل همدان والري وإصفهان ودامغان ونهاوند تكاتبوا بينهم وبعثوا الرسل ولول إرشاده لكان فسادهم أ ّ
ن السلم قد فقد زعيمه )النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(( وخلفه من لم يستمر ،ثم خلفه من طال عمره فرأوا أ ّ
وقد
.1سند الخطبة:
روى جانبًا من هذه الخطبة أبو حنيفة الدينوري في كتاب »الخبار الطوال« وأحمد بن أعثم الكوفي في كتاب »الفتوح« والطبري في
تاريخه والمعروف في حوادث عام 27هـ )الصحيح عام 21هـ كما ورد في تاريخ الطبري( وذكرها الشيخ المفيد)رحمه ال( في
»الرشاد« )مصادر نهج البلغة .(2/325
] [ 416
هجم على مدننا وإّنه لن يتركنا ما لم نخرجه ،فلّما بلغ عمر الخبر فقدم إلى المسجد وأطلع الصحابة بالخبر ،فقال
كل رأيه ،فأشار علي )عليه السلم( )كما ورد في هذه الخطبة( بما فيه صلح السلم والمسلمين ،قال الشيخ
المفيد :انظر كيف بّين المام )عليه السلم( رأيه الصائب في تلك الظروف الحساسة وأنقذ المسلمين) ،(1على كل
ن حضور رئيس الدولة في الحرب في بعض ن هذه الخطبة تعالج بمجموعها موضوعًا واحدًا ،وهو أ ّ حال فا ّ
الظروف أمر خطير جّدا من شأنه أن يؤّدي إلى مشكلتين ،أحدهما إتحاد أفراد العدو فيما بينهم وبذل قصارى
جهدهم من أجل قتله ،فيضطرب الجيش ويختل نظمه ،والخرى على فرض عدم حدوث مثل هذا الخطر فلعل
إخلء الجبهة الداخلية يشجع العدو على الهجوم على المراكز الصلية للبلد من كافة الجهات فتنجم من جراء ذلك
ن عليًا )عليه السلم( أّنه
الخطار الشديدة التي تهدد كيان السلم والمسلمين ،وتشير هذه الخطبة بوضوح إلى أ ّ
كان يقف حتى إلى جانب أعدائه إذا اقتضت ذلك مصالح السلم والمسلمين حرصًا على الدين وكيانه.
ن رئيس الدولة ل ينبغي أن يشخص بنفسه قط في ميدان القتال فقد شخص أمير طبعًا هذا الكلم ل يعني أ ّ
المؤمنين علي )عليه السلم( بنفسه في معارك الجمل وصفين والنهروان ،وأعظم من ذلك حضور النبي الكرم
)صلى ال عليه وآله( في الغزوات ،فالشرائط متفاوتة تمامًا بحيث كانت تتطلب عدم حضور الخليفة الثاني في
الميدان.
ن حضور ن المعارك قد تقع أحيانًا بالقرب من البلد السلمية وفي المناطق القريبة منه فا ّ
والجدير بالذكر أ ّ
المعركة من قبل رئيس الدولة ل يترتب عليه أية مخاطر في مثل هذه الظروف ،في حين تبرز مثل هذه المخاطر
في المناطق البعيدة وتجاه عدو قوي يمتلك جيشًا كبيرًا ،وقد تحدثنا في مثل هذا المر في شرحنا للخطبة .134
—–
] [ 417
القسم الول
—–
الشرح والتفسير
صّرح المام )عليه السلم( في البداية بهدف عدم رعب المسلمين بفعل كثرة جيوش العدو في تلك المعركة
ل ،فقالِ» :إ ّ
ن ن رأي عثمان حين أشار عليه الخليفة الثاني كان مقبو ً القاسية ،سّيما ما ذكرته بعض التواريخ من أ ّ
حّتى َبَلَغ
عّدهُ َوَأَمّدُهَ ،
جْنُدهُ اّلِذي َأ َ
ظَهَرُهَ ،و ُ
ل اّلِذي َأ ْ
نا ّ
ل ِبِقّلةَ .وُهَو ِدي ُ
لُنُه ِبَكْثَرة َو َ
خْذ َ
ل ِ
صُرُه َو َن َن ْ
لْمَر َلْم َيُك ْ
هَذا ا َْ
طَلَع« ،في إشارة إلى أننا كّنا دائمًا قّلة مقابل العدو في الحروب التي خضناها على عهد ث َحْي ُ
طَلَع َ َما َبَلَغَ ،و َ
رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،مع ذلك فقد انتصرنا وشملنا ال برحمته وعنايته ،وقد لمسنا هذا الفضل دائمًا،
وعليه فل تخشوا من كثرة العدو وامضوا بعد التوكل على ال تعالى.
] [ 418
جْنَدُه« ،إشارة
صٌر ُ عَدُهَ ،وَنا ِ جٌز َو ْل ُمْن ِ
لَ ،وا ّنا ّ عود ِم َ عَلى َمْو ُ ن َ حُ ثم قال )عليه السلم( مؤكدًا ذلك الكلمَ» :وَن ْ
ن().(1
شِرُكو َن ُكّلِه َوَلْو َكِرَه اْلُم ْ
عَلى الّدي ِظِهَرهُ َق ِلُي ْ
حّ ن اْل َسوَلُه ِباْلُهَدى َوِدي ِ ل َر ُسَإلى الية الشريفةُ) :هَو اّلِذي َأْر َ
لشَْهاُد().(2 حَياِة الّدْنَيا َوَيْوَم َيُقوُم ا َْ
ن آَمُنوا ِفي اْل َ
سَلَنا َواّلِذي َ
صُر ُر ُ
واليةِ) :إّنا َلَنن ُ
نعم ،فقد وعدنا في ظل اليمان بالنصر في الدنيا والخرة وتشهد سائر اليات القرآنية على هذا المعنى ،وما إن
فرغ المام )عليه السلم( من بيان هذه المقدمة بهدف الستقرار الروحي للخليفة والحاضرين حتى تطرق إلى
ظاِم)ِ (3م َ
ن ن الّن َ
لْمِر َمَكا ُ
ن اْلَقّيِم ِبا َْ
الموضوع الصلي للمشورة في حضور عمر بنفسه في المعركة فقالَ» :وَمَكا ُ
حَذاِفيِرِه)َ (5أَبدًا« ،يا له من تعبير جَتِمْع ِب َ
بُ ،ثّم َلْم َي ْ
خَرُز َوَذَه َ
ق اْل َ
ظاُم َتَفّر َ
طَع الّن َ
ن اْنَق َ
ضّمُهَ :فِإ ِ
جَمُعُه َوَي ُ
خَرِز)َ (4ي ْ
اْل َ
رائع وتشبيه جميل فالقائد والزعيم لبلد بمنزلة خيط المسبحة أو القلدة بفضله رمز الوحدة وإنسجام والّمة ،كما
تحمل الزعيم قضية في أن يتحلى بسعة الصدر ووسع الفكر بحيث يستطيع استقطاب كافة الفراد وصهرهم في
كتلة متحدة.
.3وإن كان لهذه المفردة مفهوم كلي لكّنها تعني هنا السلك ينظم فيه الخرز.
» .4خرز« :بمعنى حبات السبحة وتكون نفيسة ،كما تكون عادية ويصنع منها المسبحة وأصلها »الخرز« على وزن الفرض بمعنى
ثقب الجلد أو شيء أخر.
» .5حذافير« :جمع »حذفور و حذفار« على وزن مضمار بمعنى جانب الشيء وناحيته وحذافير بمعنى جميع الجوانب.
] [ 419
ب اْلَيْوَم َوِإ ْ
ن ل بالسلم فقهم عزيزون ومقتدرون في ظل اجتماعهم واتفاقهم في ظل هذا الدينَ» :واْلَعَر ُ ذلك إ ّ
ع!«.
جَِتما ِ
لْن ِبا ِ
عِزيُزو َ
لِمَ ،
سَلْ
ن ِبا ِْ
لَ ،فُهْم َكِثيُرو َ
َكاُنوا َقِلي ً
ب«.
حْر ِ
ك َناَر اْل َ
صِلِهْم)ُ(1دوَن َ
بَ ،وَأ ْ
حى ِباْلَعَر ِ
سَتِدِر الّر َ
طبًاَ ،وا ْ
ن ُق ْ
فخلص من ذلك إلى نتيجة أصليةَ» :فُك ْ
طَراِفَها
ن َأ ْ
ب ِم ْ
ك اْلَعَر ُ
عَلْي َ
ت َ
ض ْ
ض اْنَتَق َلْر ِ ن هِذِه ا َْ ت)ِ (2م ْ ص َخ ْ
شَن َك ِإ ْ
ثم ذكر دليل ذلك فقال )عليه السلم(َ» :فِإّن َ
ن السلم في بداياته ك« ،إشارة إلى أ ّ ن َيَدْي َ
ك ِمّما َبْي َت)َ (3أَهّم ِإَلْي َ
ن اْلَعْوَرا ِ
ك ِم َع َوَراَء َ
ن َما َتَد ُ
حّتى َيُكو َ
طاِرَهاَ ،
َوَأْق َ
لحّد الن ،وما زال المنافقون وسليلوا عصر الجاهلية في صفوف العرب وهم يتربصون الفرصة لطعن المسلمين
من الخلف ،فلو انطلق القائد وصحبه الوفياء إلى نقطة بعيدة يكون الميدان قد خلى للمفسدين والمنافقين ،ولعلهم
يسببون بعض الخطار التي تفوق أخطار العدو الخارجي ،أضف إلى لذلك فلو اصطدم الجيش بمشكلة في
الجبهات ،كان بإمكان القائد إن استقر في المركز أن يعبىء جيشًا جديدًا ويبعث به إلى ميدان القتال ،بينما ينهار
سند الجيش إن حضر بنفسه الميدان.
عَلْيكَ
ت َ
ض ْ
ب اْلَيْوَم «...تختلف عن العرب في العبارة »اْنَتَق َ
ن العرب في العبارة »َواْلَعَر ُ
والجدير بالذكر أ ّ
لولى المخلصون من المؤمنين ،والثانية المنافقون الذين يظهرون اليمان ،أو المسلمون ب «...فالمراد با ُ
اْلَعَر ُ
الضعاف.
—–
» .1اصل« :من مادة »صلي« على وزن سعي بمعنى دخول النار أو الحتراق فيها ،وإن استعملت في باب الفعال عن القذف في
ن الجيش حين ينشغل بالحرب عليك بالبتعاد عنهم حتى ل يتمكن العدو من إصابتك.
النار ،والعبارة إشارة إلى أ ّ
» .2شخصت« :من مادة »شخوص« على وزن خلوص تعني في الصل الخروج من المنزل أو المدينة ،ولما كان النسان يظهر حين
الخروج فقد أطلقت على قامة النسان والمرتفعات التي تلوح من بعيد ،ويقال للمسافر شاخص حيث يبّين حين دخوله المدينة ،وتطلق
هذه المفرادة على كل شيء مرتفع.
» .3عورات« :جمع »عورة« تعني في الصل العيب والعار ولما كان إظهار اللة الجنسية مدعاة للعيب والعار فقد اطلقت عليها
العرب العورة ،ولكن لهذه المفردة معنى أوسع وأشمل وهى النقطة التي يمكن اختراقها وما يخشاه النسان ويقلق منه ،وحيث كانت
حدود كل بلد من المناطق التي يمكن إلحاق الصدر بها والمقلقة فقد استعملت بهذا المجال ،إّل أّنها ل تعني الحدود خلفًا لما أورده
أغلب شّراح نهج البلغة ،والمراد بها النقاط المضطربة داخل البلد السلمي والتي يمكن هجوم المنافقين عليها ،والشاهد على ذلك
ن الجيش حين يتحرك نحو عدو خارجي ل يبقى خلفه سوى الجبهة الداخلية للبلد. العبارة ما تدع وراءك ،ل ّ
] [ 420
فائدة
ما يستفاد من هذه العبارات دورس مهّمة في مجال الدارة والقيادة وتصريف شؤون البلد:
لّمة ل من منظار شخصي بل كونها قضية اجتماعية تعّد من أهم الواجبات ،وذلك لّنه ل :حفظ القائد والزعيم ل ُ
أو ً
لمة وتماسكها ،ومن هنا لبّد من الخذ بنظر العتبار جميع التدابير للزمة من أجل حفظه ودفع أي رمز وحدة ا ُ
ن العدو ومن خلل الطلع على هذا الموضوع يسعى لستهداف احتمال يمكنه أن يشكل خطرًا عليه ،سّيما أ ّ
ن أقصر طريق لهزم جماعة يتمثل بدك موقع القيادةشخص القائد قبل كل شيء ،وقد دلت التجربة التاريخية أ ّ
واستهداف القائد ،ولعلنا نلمس هذا المر في قضية بني اسرائيل وقتالهم لجالوت التي عرضها القرآن الكريم حيث
استهدف داود شخص جالوت فقتله فانهزم الجيش إثر ذلك.
لخرى إلى العداء في داخل البلد ،حتى ورد في ثانيًا :على القائد أن ينظر باحدى عينيه إلى العدو الخارجي وبا ُ
هذه الخطبة وكما دّلت التجارب التاريخية الكثيرة على خطر العدو الداخلي الذي يفوق الخطر الخارجي ،وذلك
ن الذي يأتي من الخارج معروف ،بينما يتمثل العدو الداخلي عادة بالمنافقين الذين يتخفون بين أبناء المجتمع، لّ
ن سنحت لهم أدنى فرصة سددوا سهام حقدهم وضربوا ضربتهم ،إضافة إلى أّنهم على علم تام بمواقع الخلل في فا ّ
الداخل وكيفية التسلل إلى المناطق ،ومن هنا عّبر المام )عليه السلم( عنهم وعن أخطارهم المتوقعة بالعورات
وعد أخطارهم من أهم الخطار.
—–
] [ 421
القسم الثاني
شدّ
ك َأ َن ذِل َ حُتْمَ ،فَيُكو ُ
سَتَر ْ
طْعُتُموهُ ]ا ْ
بَ ،فِإَذا اقتطعتموه [َق َ ل اْلَعَر ِ صُغدًا َيُقوُلوا :هَذا َأ ْ ك َ ظُروا ِإَلْي َن َيْن ُ
جَم ِإ ْ
عا ِ لَن ا َْ
»ِإ ّ
سيِرِهْم حاَنُهُ ،هَو َأْكَرُه ِلَم ِ
سْب َ
ل ُ
نا ّ ن; َفِإ ّ سِلِمي َ
ل الُْم ْسيِر اْلَقْوِم ِإَلى ِقَتا ِ
ن َم ِ
ت ِم ْكَ .فَأّما َما َذَكْر َ طَمِعِهْم ِفي َ كَ ،و َ عَلْي َ
ِلَكَلِبِهْم َ
ضى ِباْلَكْثَرِةَ ،وِإّنَما ُكّنال ِفَيما َم َن ُنَقاِت ُ
عَدِدِهْمَ ،فِإّنا لَْم َنُك ْ
ن َ ت ِم ْعَلى َتْغِييِر َما َيْكَرُهَ .وَأّما َما َذَكْر َ كَ ،وُهَو َأْقَدُر َ ِمْن َ
صِر َواْلَمُعوَنِة!«. ل ِبالّن ْ ُنَقاِت ُ
—–
الشرح والتفسير
هذا المقطع من الخطبة في الواقع تأييد وتأكيد للقسم الول ،وقد أشار إلى ثلث نقاط ،الولى :الدليل الذي أقامة
غدًا َيُقوُلوا:
ك َ
ظُروا ِإَلْي َن َيْن ُ
جَم ِإ ْ
عا ِ
لَن ا َْ
المام )عليه السلم( على عدم حضور الخليفة في ميدان الحرب فقالِ» :إ ّ
ك«.طَمِعِهْم ِفي َ
كَ ،و َ عَلْي َ
شّد ِلَكَلِبِهْم)َ (1
ك َأ َ
ن ذِل َ
حُتْمَ ،فَيُكو ُ
سَتَر ْ
طْعُتُموُه ]ا ْ
بَ ،فِإَذا اقتطعتموه [َق َ
ل اْلَعَر ِ
صُهَذا َأ ْ
] [ 422
الطبيعي أن يتعقد المر لو بقي المسلمون في ديارهم وهجم عليهم العدو فما أمراهم لو توكلوا على ال وتصدوا
للعدو خارج بلدهم.
ن الخليفة الثاني كان يخشى عدم التكافىء وموازنة القوى بين المسلمين والعداء ،فرد عليه المام )عليه الثالثة :أ ّ
صِر
ل ِبالّن ْ
ضى ِباْلَكْثَرِةَ ،وِإّنَما ُكّنا ُنَقاِت ُ
ل ِفَيما َم َ
ن ُنَقاِت ُ
عَدِدِهْمَ ،فِإّنا َلْم َنُك ْ
ن َ
ت ِم ْ
السلم( بالقولَ» :وَأّما َما َذَكْر َ
َواْلَمُعوَنِة!« ،فقد كان عمر يرى قّوة العدو واقتداره في أمرين ،أحدهما كثرتهم وزيادة عددهم ،والخر حركتهم
وهجومهم على بلد السلم.
وقد صرح المام)عليه السلم( إننا لم نقاتل العدو وننتصر عليهم بهذه القّوة الظاهرية ،وقد أيدنا ال بنصره ومدده
العيني في جميع مواقف القتال ،وقد انتصرنا رغم قّلة العدد وكثرة العدو وهجومه علينا ،وهكذا شجعه المام
)عليه السلم( على مواجهة العدو ،وأكد وأيضًا عدم حضوره شخصًا في الحرب ،واستجاب له عمر وكان النصر
حليف المسلمين.
—–
وقعت معركتان مهمتان بين المسلمين والساسانيين على عهد عمر القادسية) (1في عام 14هـ ومعركة نهاوند
ن المام )عليه السلم( منعه من عام 21هـ ،وقد استشار عمر بشأن حضوره القتال ،وقد مّر علينا في الخطبة أ ّ
ذلك بعد ذكره للدلة المحكمة ،بينما أشار عليه الخرون بالحضور ،فقبل من المام )عليه السلم( وبقي في
ن هذه المشورة كانت في معركة نهاوند ،على كل حال حين عزم عمر على المدينة ،وذهب بعض المؤرخين إلى أ ّ
عدم الحضور في القادسية ولى سعد بن أبي وقاص إمرة الجيش ،بينما نصب يزدجرد الساساني رستم فرخزاد،
فبعث سعد رسوله النعمان بن المقرن إلى يزدجرد ،فعنفه حيث لم يتوقع ذلك من العرب آنذاك وقال له لول أّنك
ن رستم سيدفن قائد عسكركم في خندق رسول لقتلتك ،ثم أمر بذر التراب على رأسه وطرده من المدائن ،وقال له أ ّ
القادسية ،فلما عاد النعمان إلى سعد ،فقال سعد ،ابشر أن وضعوا التراب على رأسك فاننا سنملك بلدهم ،والعجيب
ن رستم كان يخشى قتال المسلمين رغم تعداد جيشه الذي بلغأّ
.1القادسية كانت من المدن اليرانية الغربية ولم تكن تبعد كثيرًا عن الكوفة )ذكر البعض أّنها تبعد تسعين كليومترًا( وهى الن من
مدن العراق.
] [ 423
وأخيرًا تقاتل الجيشان ،وفي اليوم الول هجم الساسانيون بفيلهم على المسلمين ،ولكن المسلمين تمكنوا من قطع
خراطيمها وقد قتل من العدو في ذلك اليوم 2000ومن المسلمين ،500وفي اليوم الثاني تقدم أبوعبيدة الجراح
بجيش من الشام لنصرة سعد بن أبي وقاص فقتل من الساسانيين عشرة آلف بينما قتل ألفان من المسلمين ،وفي
اليوم الثالث إشتد القتال واستمر القتال حتى اليوم الرابع فبان الضعف على العدو ،فهبت ريح شديدة فهجم
المسلمون على خيمة رستم ،فحاول الهرب لكنه صرع تحت حوافر الخيل ،فانهزم الجيش الساساني فلما بلغ الخبر
ل فبنى مسجدًا وباشر بناء
عمر أمر بعدم تعقيب العدو وأن تستقر الجيش هناك فبقي سعد هناك في الكوفة فع ً
ن يشخص لقتال الجيش الساساني في نهاوند فأشار ن عمر أراد أ ّ
الكوفة ،أّما معركة نهاوند) ،(1فقد ذكر الطبري أ ّ
عليه الصحابة حتى خطب المام )عليه السلم(فوافقه عمر وقال هذا هو الصواب.
ثم أمّر النعمان الذي كان والي البصرة ،فواجهة لقتال الفيروزان قائد جيش كسرى في نهاوند ،فان قتل خلفه حذيفة
ومن بعده نعيم ،كما وجه معه طلحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب العارفين بالقتال ثم أمره بمشورتها ،وقد
قتل النعمان في المعركة ،فحمل الراية حذيفة حتى قتل الفيروزان ودخل المسلمون نهاوند وحصلوا عن غنائم
كثيرة فبعثوا بها إلى عمر ،فلما رآى عمر الغنائم بكى فسألوه عن ذلك ،قال :أخشى خداع الناس من هذا الثراء.
ن هذه المعركة حدثت عام 21هـ لسبع سنوات بعد القادسية وقد انهزم الساسانيون ودخل قال بعض المؤرخين :أ ّ
ن تعرفوا على السلم واعتنقوه فأصبحوا من لأّالمسلمون ايران ،فما كان من اليرانيين المعروفين بالفطنة إ ّ
رواد العلوم السلمية.
—–
.1نهاوند مدينة معروفة غرب ايران وهى الن تابعة لمحافظة همدان ول تبعد عنها كثيرًا.
.2شرح نهج البلغة لبن أبي الحديد 9/96ـ ;102وتاريخ الطبري .3/202
] [ 424
] [ 425
الخطبة)147 (1
خطَبة لُه )عليه السلم(
ن ُ
َوِم ْ
في الغاية عن بعثة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( ،وأهمّية القرآن ،والخبار عن المستقبل
القسم الول :إشارة إلى أهداف بعثة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( ودور القرآن في هداية الناس.
القسم الثاني :يخبر فيه المام )عليه السلم( عن الفتن القادمة ويتحدث عن وقت يغرق الناس فيه بالذنوب
والمعاصي وينسون القرآن.
القسم الثالث :إنذار الناس والتذكير بعاقبة القوام السابقة التي صب عليها البلء.
القسم الرابع :بين فيه المام )عليه السلم( بعض المواعظ الموثرة والمفيدة وقد دعى الناس إلى إتباع القرآن وأهل
البيت)عليهم السلم(من أجل النجاة من الفساد.
—–
.1سند الخطبة:
نقلها قبل السيد الرضي باختلف طفيف المرحوم الكليني في كتاب روضة الكافي ،وقد ُاشير في الخطبة 237إلى جزء من هذه
الخطبة كما وردت إشارة إلى جانب منها في قصار الكلمات ،الكلمة ) 98مصادر نهج البلغة .(2/331
] [ 426
] [ 427
القسم الول
طا ِ
ن شْي َ عِة ال ّ طا َ ن َ عَباَدِتِهَ ،وِم ْن ِإَلى ِ لْوَثا ِعَباَدِة ا َْ
ن ِعَباَدُه ِم ْ
ج ِخِر َ ق ِلُي ْ
حّ
عَلْيِه َوآِلِهِ ،باْل َل َ صّلى ا ّ حّمدًا َ ل ُم َ ثا ّ »َفَبَع َ
حُدوُهَ ،وِلُيْثِبُتوهُ َبْعَد ِإْذ َأْنَكُروُه.جَجِهُلوُهَ ،وِلُيِقّروا ِبِه َبْعَد ِإْذ َحَكَمُهِ ،لَيْعَلَم اْلِعَباُد َرّبُهْم ِإْذ َ
عِتِهِ ،بُقْرآن َقْد َبّيَنُه َوَأ ْطا َ ِإَلى َ
ق َم ْ
ن حَف َم َ طَوِتِهَ ،وَكْي َ س ْ
ن َخّوَفُهْم ِم ْ
ن ُقْدَرِتِهَ ،و َ ن َيُكوُنوا َرَأْوُهِ ،بَما َأَراُهْم ِم ْ غْيِر َأ ْن َ حاَنُه ِفي ِكَتاِبِه ِم ْسْب َجّلى َلُهْم ُ َفَت َ
ت!«. صَد ِبالّنِقَما ِحَت َ نا ْ صَد َم ِحَت َ تَ ،وا ْ
ل ِ ق ِباْلَمُث َ
حََم َ
—–
الشرح والتفسير
أشار المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة ـ كما ذكر ذلك الشارح البحراني ـ إلى بعثة النبي الكرم
)صلى ال عليه وآله( ثم شرح أهداف البعثة ،ثم أشار إلى الوسيلة التي اعتمدها لتحقيق ذلك الهدف وهى القرآن
عِة
طا َ
ن َعَباَدِتِهَ ،وِم ْ
ن ِإَلى ِ
لْوَثا ِ
عَباَدةِ ا َْ
ن ِ
عَباَدُه ِم ْ
ج ِ
خِر َ
ق ِلُي ْ
حّعَلْيِه َوآِلِهِ ،باْل َ
ل َ
صّلى ا ّ
حّمدًا َ
ل ُم َ
ثا ّ
الكريم فقالَ» :فَبَع َ
عِتِه« ،يالها من عبارة بليغة رائعة وقصيرة بشأن الهدف من بعثة النبي الكرم )صلى ال عليه طا َ ن ِإَلى َ
طا ِ
شْي َ
ال ّ
وآله( والتي تستند إلى ركنين:
الول :ترك عبودية الصنام والتمسك بالتوحيد في العبادة ،أي عبادة ال.
لأّ
ن لولى يعني عبادة الوثان ،إ ّ
ن طاعة الشيطان نوع من الوثنية ،وعليه فهى داخلة في مفهوم العبارة ا ُ ل شك أ ّ
ن العبادة قد استعملت في معناها الخاص ،والمراد طاعة الشيطان ،إتباع أوامره ل تقابل هاتين العبارتين يفيد أ ّ
ن للوثان والشيطان في هاتين عبادته ،على كل حال فا ّ
] [ 428
العبارتين مفهوم واسع يشمل كل معبود غير ال سبحانه وتعالى ويضم شياطين النس والجن ،وبناءًا على هذا
يدخل في مفهوم هذه الجمل التسليم لحكام الظلم والجور وطاعة أوامرهم والستسلم للستعمار والستغلل
والنصياع للقوانين غير الشرعية ،وهذا هو هدف البعثة والذي يتمثل بالتحرر من كل هذه المور.
وهكذا بّين المام الهدف الصلي لبعثة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( والذي تعود إلى سائر الهداف بهذه
العبارات المختصرة وقد أماط كل إبهام.
ن مشركي العرب كانوا يؤمنون بال ويعترفون بوجوده وأّنه خالق السماوات والرض ويرون الوثان ل شك أ ّ
شفعائهم إليه ،ولكن ليس لهذا العتقاد الممزوج بالشرك أية قيمة ،وقد بعث ال نبّيه الكرم )صلى ال عليه وآله(
ليطّهر أرواحهم وأفكارهم من أدران الشرك والوثنية ويشدهم نحو التوحيد والعبودية الخالصة ،وهذا في الواقع
وظيفة كافة النبياء والمرسلين في تطهير التوحيد من رواسب الشرك.
غْيِر
ن َ
حاَنُه ِفي ِكَتاِبِه ِم ْ
سْب َ
جّلى)َ (2لُهْم ُ
وقال )عليه السلم( في تعريفه للقرآن وآثاره البّناءة في الفكر والعملَ» :فَت َ
ن ُقْدَرِتِه«.
ن َيُكوُنوا َرَأْوُهِ ،بَما َأَراُهْم ِم ْ
َأ ْ
والعبارة إشارة إلى آيات التوحيد وبيان أسماء ال وصفاته والتي تفعل مثل هذا الفعل في النسان حين يتأملها
وكأّنه يرى ال سبحانه وتعالى جهرة ،نعم يراه ولكن بالبصيرة ل
.1الكافي .8/386
ن آياته على درجة من الوضوح
» .2تجلى« :من مادة »تجلي« وأصل جلو على وزن دلو بمعنى الظهور والبروز ،وتجلى ال بمعنى أ ّ
وكأّنه يمكن رؤيته من خللها.
] [ 429
ن المراد بالكتاب هنا كتاب عالم التكوين المملوء بآيات ال سبحانه بحيث نشاهدها أينما بالبصر ،احتمل البعض أ ّ
نظرنا) ،(1ولكن يبدو هذا المعنى مستبعدًا بالستناد إلى العبارة السابقة التي أشير فيها إلى القرآن في العبارة
اللحقة إلى النذار اللهي ،والمراد بالكتاب القرآن الكريم ،ولما كان تجلي ال بواسطة اليات القرآنية قد يوهم
ن هذا التجلي يحصل دون رؤية بالبصر. إمكانية رؤية ال بالعين ،فقد صّرح عقيب ذلك مباشرة بأ ّ
وأشار في العبارة القادمة إلى جانب آخر من آيات القرآن الكريم وهى آيات النذار والتخويف ،فقال )عليه
طَوِتِه« ،ثم تطرق بعد ذلك إلى القصص الليمة للقوام السابقة وما تنطوي عليه من س ْ
ن َ خّوَفُهْم ِم ْ
السلم(َ» :و َ
ت!«.صَد ِبالّنِقَما ِ
حَت َ
نا ْ
صَد)َ (4م ِ
حَت َ
ت)َ ،(3وا ْ
ل ِ
ق ِباْلَمُث َ
حَن َم َ
ق)َ (2م ْ
حَف َم َ
دروس وعبر فقالَ» :وَكْي َ
—–
كما شحن كتاب عالم التكوين بآثار عظمة ال وقدرته في آيات الفاق والنفس وفي السماوات والرض وفي أكثر
ن كل نبات يخرج من المنظومات والكرات السماوية وفي أصغر ذرات وجودنا ،وكما صور ذلك الشاعر بأ ّ
الرض يهتف وحده ل شريك له ،وكذلك الذات اللهّية متجلية في القرآن الكريم ،حين يتحدث عن آياته في
السموات والرض وحين يستعرض نعم الجنان ونقم النيران وحين يتحدث عن قدرته الباهرة في الخلق وحين
يكشف اللثام عن صفات جلله وجماله ورحمانيته ،فذاته ظاهرة متجلية في كل هذه اليات وقد قال
.1قال الشاعر:
» .2محق« :من مادة »محق« على وزن خلق بمعنى المحو الكامل أو إزالة بركة الشيء.
] [ 430
ن أغلب المكاشفات تتم حين تلوة القرآن الكريم والتدبير في مفاهيمه ،أجل ل يمكن رؤية ال بعض العلم أ ّ
سبحانه بهذه العين ،بينما يمكن رؤيته بعين القلب ومن خلل آياته القرآنية ،فما أحرانا بالنظر إلى عالم التكوين
والتفكير وفي أسرار الوجود ومن ثم نفتح القرآن الكريم ونطالع آيات التكوين في الكتاب التدوين ،حّقا لو كان لنا
مئة ألف عين لشاهدنا مئة ألف تجلي من تجليات الحق تبارك وتعالى.
—–
] [ 431
القسم الثاني
ن اْلَكِذ ِ
ب ل َأْكَثَر ِم َلَ ،و َ طِ ن اْلَبا ِظَهَر ِم َ ل َأ ْقَ ،و َ حّن اْل َخَفى ِم َ يٌء َأ ْ
ش ْس ِفيِه َ ن َلْي َ
ن َبْعِدي َزَما ٌ عَلْيُكْم ِم ْ
سَيْأِتي َ »َوِإّنُه َ
حّرفَ ق ِمْنُه ِإَذا ُ ل َأْنَف َلَوِتِهَ ،و َق ِت َ حّ ي َ ب ِإَذا ُتِل َن اْلِكَتا ِسْلَعٌة َأْبَوَر ِم َن ِ ك الّزَما ِ ل ذِل َ عْنَد َأْه ِ
س ِسوِلِه; َوَلْي َ ل َوَر ُ عَلى ا ّ َ
ساُهحَمَلُتُهَ ،وَتَنا َ
ب َ ن اْلُمْنَكِر! َفَقْد َنَبَذ اْلِكَتا َف ِم َ عَر َ ل َأ ْفَ ،و َ ن اْلَمْعُرو ِ يٌء َأْنَكَر ِم َ ش ْلِد َ ل ِفي اْلِب َ ضِعِه; َو َ ن َمَوا ِ عْ َ
ل ُيْؤِويِهَما ُمْؤوَ .فاْلِكَتا ُ
ب حد َ طِريق َوا ِ نِ ،في َ حَبا ِ
طِصَ ن ُم ْ حَبا ِ صا ِ
نَ ،و َ ن َمْنِفّيا ِ
طِريَدا ِ ب َيْوَمِئذ َوَأْهُلُه َ ظُتُه; َفاْلِكَتا ُ
حَف َ
َ
جَتَمَعا.نا ْق اْلُهَدىَ ،وِإ ِ ل ُتَواِف ُ لَلَة َ ضَ ن ال ّ لّ سا َمَعُهْم! َِ سا ِفيِهْمَ ،وَمَعُهْم َوَلْي َ س َوَلْي َ ن ِفي الّنا ِ ك الّزَما َِوَأْهُلُه ِفي ذِل َ
عْنَدهُْم ِمْنُه ِإ ّ
ل ق ِب ِإَماَمُهْمَ ،فَلْم َيْب َس اْلِكَتا ُ ب َوَلْي َ عِةَ ،كَأّنُهْم َأِئّمُة اْلِكَتا ِجَما َ عَلى اْل َ عَلى اْلُفْرَقِةَ ،واْفَتَرُقوا َ جَتَمَع اْلَقْوُم ََفا ْ
جَعُلوال ِفْرَيًةَ ،و َ عَلى ا ّ صْدَقُهْم َسّمْوا ِ ل ُمْثَلةَ ،و َ ن ُك ّحي َ
صاِل ِل َما َمّثُلوا ِبال ّ ن َقْب ُ
طُه َوَزْبَرُهَ .وِم ْ خّل َ ن ِإ ّ
ل َيْعِرُفو َ سُمُهَ ،و َ اْ
سّيَئِة«.عُقوَبَة ال ّسَنِة ُ حَِفي اْل َ
—–
الشرح والتفسير
تحّدث المام )عليه السلم( في القسم المذكور عن ظهور السلم والهدف من بعثة النبي الكرم )صلى ال عليه
وآله(والثار العظيمة للقرآن في الهداية ،ثم واصل )عليه السلم( كلمه في هذا القسم بالحديث عن زمان ل يبدو
بعيدًا وسيشهد تغيرًا تامًا في الوضاع بما يهدد بالخطر جهود النبي )صلى ال عليه وآله( فينذر كافة المؤمنين
باللتفات إلى الخطار التي تتربص بهم ،فاستهل )عليه السلم( كلمه ببيان الوضع في ذلك الزمان بسبع عبارات
س ِفيِه
ن َلْي َ
ن َبْعِدي َزَما ٌ
عَلْيُكْم ِم ْ
سَيْأِتي َ
قصيرة بليغة فقالَ» :وِإّنُه َ
] [ 432
نعم ،ستظهر غيوم الجاهلية ثانية في سماء السلم فتحجب شعاع شمس النبّوة والقرآن فيتغير كل شيء وتنطمس
لمة من ظلمات حقائق السلم ويستولي سليلوا أئّمة الكفر والشرك والوثنية على الحكومة السلمية فتعاني ا ُ
الجهل والجور ،والسؤال المطروح أي زمان هذا الذي أشار إليه المام )عليه السلم(؟ هل المراد زمان معين؟ أم
الحكومة مفهوم عام ويشمل مختلف الزمنة حتى زماننا الحاضر؟ هناك خلف بهذا الشأن بين شّراح نهج
البلغة ،ولكن بالنظر إلى العبارة »سيأتي« التي تفيد عادة الخبار عن المستقبل القريب والتعبير بـ»عليكم« ومن
بعدي التي تشير إلى درك مخاطبيه له ،يبدو أّنه إشارة إلى زمان سيطرة بني ُامية ومعاوية ويزيد وسائر حكامهم
الذين تنطبق عليهم هذه الصفات ،نعم ،فهؤلء الذين كتموا الحق وقطعوا رقبة كل من تعصب له ،إلى جانب ذلك
فقد إتسق سوق الكذابين والوضاعين والمتملقين لبني ُامية ممن اندفع في مدحهم والثناء عليهم ،فقد ظهرت
المنكرات في كل مكان وضاع المعروف.
ن هذا المر حدث ويحدث في سائر الزمنة وحتى في عصرنا ،مع ذلك فمراد المام )عليه السلم( طبعًا ل ننكر أ ّ
من هذه العبارات العصر المظلم لبني ُامية.
ثم خاض المام )عليه السلم( في وضع القرآن وأصحابه في ذلك الزمان المظلم وشرح عّلة بؤس الناس آنذاك
ن)،(6ن)َ (5مْنِفّيا ِ
طِريَدا ِ
ب َيْوَمِئذ َوَأْهُلُه َ
والتي تتمثل بابتعادهم عن القرآنَ» :فاْلِكَتا ُ
» .2أبور« :من مادة »بوار« شّدة كساد الشيء والرض البائر والبوار الميتة الخالية من النبات.
» .3أنفق« :فعل تفضيل من مادة »نفاق« لها معاني مختلفة وُاريد بها هنا غلء السلعة ورواجها.
] [ 433
ل ُيْؤِويِهَما)ُ (1مْؤو«.
حد َ
طِريق َوا ِ
نِ ،في َ
حَبا ِ
طِصَ
ن ُم ْ
حَبا ِ
صا ِ
َو َ
ثم رسم صورة واضحة عن مصير القرآن في ذلك العصر والزمان بعبارة رائعة ل تماثلها عبارة فقال )عليه
طُه َوَزْبَرُه) ،«(2فقد يسطر القرآن بخطوط غاية في
خّ
ل َ
ن ِإ ّ
ل َيْعِرُفو َ
سُمُهَ ،و َ
لا ْ
عْنَدُهْم ِمْنُه ِإ ّ
ق ِ
السلم(َ» :فَلْم َيْب َ
الجمال وتذهب صفحاته وغلفه ويبتدعوا روائع الفن بهذا الخصوص وتتداول اليدي القرآن ويتلى في المساجد
بمختلف الصوات بصورة فردية وجماعية ،ولكن دون أن يكون هناك أدنى خبر عن مضمونه ومحتواه ،بالضبط
كالدواء الشافي الذي يوضع في زجاجة جميلة تترك على الرف دون أن يتناول المرضى منها شيئًا ،وهنا يبرز
ن المام )عليه السلم(هذا السؤال :هل الصالحون والمؤمنون وأصحاب القرآن صامتون في ذلك الزمان؟ كأ ّ
أجاب في
» .2زبر« :بالفتح الكتابة )وقد جاء بالمعنى المصدري واسم المصدر(.
] [ 434
ل ِفْرَيًة)
عَلى ا ّ
صْدَقُهْم َ
سّمْوا ِ
ل ُمْثَلةَ ،و َ
ن ُك ّ
حي َ
صاِل ِ
ل َما َمّثُلوا)ِ (1بال ّ
ن َقْب ُ
العبارة الخيرة على هذا السؤال فقالَ» :وِم ْ
سّيَئِة«.
عُقوَبَة ال ّ
سَنِة ُ
حَ
جَعُلوا ِفي اْل َ
َ ،(2و َ
فالعبارة إشارة إلى التاريخ السود لبني ُامية الذين مثلوا بالصالحين من العباد لما رأوهم يشكلون خطرًا عليهم،
حتى قيل بلغ تعداد من قتلهم معاوية ما يزيد على الربعين ألف من المهاجرين والنصار.
ول نرى من حاجة لستعراض تلك الفاجعة التي إرتكبها ولده يزيد بحق الحسين)عليه السلم(وأنصاره في
كربلء ،كما ل يمكن إحصاء من قتلهم عبدالملك بن مروان وعامله الحجاج من أهل العراق والحجاز) ،(3وهكذا
أخمدوا كل دعوة حق وقطعوا كل لسان صدق ومهدوا السبيل لملء أفكارهم ورغباتهم.
—–
تأّملن
لمة السلمية ،ويشترك حكام بني ُامية من ن عصر حكومة بني ُامية من أبشع العصور التي شهدتها ا ُ ل شك إ ّ
ب الحكومة معاوية حتى أخرهم الذي بعرف بمروان الحمار في ثلث خصال هى :الجلفة والقسوة المتناهية وح ّ
والذوبان فيها مهما كان الثمن لبلوغها وحسن الثأر والنتقام ،ومن هنا فقد ضحوا بكل معاني الحق والعدل
والشرف والنسانية من أجل حكومتهم المقيتة فارتكبوا من الظلم والجور ما لم يرد مثيله في التاريخ ،وقد أذاقوا
دعاة الحق وصحابة رسول ال )صلى ال عليه وآله( المّرين بين قتل وتشريد وقطع الرأس ونفي وصلب
وحصار في البيت من أجل تلك الحكومة ،وهذا ما أشآر إليه المام )عليه السلم( في عباراته الخيرة من هذا
القسم
» .1مثلوا« :من مادة »تمثيل« وأصلها »المثلة« بمعنى التنكيل والتشنيع.
» .2فرية« :من مادة »فري« على وزن فرد تعني في الصل القطع ،ولما كان قطع الشيء يؤّدي إلى فساده غالبًا ،فهى تطلق على كل
خلف ومنه الكذب والتهمة.
] [ 435
لمة السلمية والذي يشكل أكبر عقبة تعترض طريقهم إّنما هو ن أهم كهف كانت تلوذ به ا ُ
لأّ
من الخطبة ،إ ّ
القرآن ،القرآن الذي أعلن الحرب ضد الظلمة ،والطغاة وهدد دائمًا عروش الغاشمين ،وكان المعيار لتمييز
ل أن وظفوا أشباه الحكومة السلمية من الحكومالت الغاصبة والظالمة والكافرة ،فما كان من ُاولئك الطغاة إ ّ
ن آياته تشهدالعلماء ووعاظ السلطين ويهدف إزالة تلك العقبة عن طريقهم بتفسير القرآن حسب أهوائهم ،في أ ّ
بحقانية ُاولئك الغرباء على القرآن والبعيدين عن الحق تبارك وتعالى ،كما منعوا من يرون تلوة القرآن حق
تلوته ،وهكذا لم يبق من القرآن سوى اسمه ورسمه فحكم عليه بأن يصبح كالسجين الذي أودع زنزانة إنفرادية
مخيفة ليبعد عن أفكار الناس ،وهو المر الذي أشار إليه المام )عليه السلم( في هذه الخطبة.
ن معاوية حين قدم المدينة مّر بمجلس من كبار قريش ،فلما رأواه قاموا له خوفًا سوى ابن
فقد جاء في الخبر أ ّ
عباس ،فقال له مالك ل تقوم يابن عباس أهى صفين ،فقد قتل عثمان مظلومًا )وهذا ما دفعنا للقتال(.
ثم أمر لبن عباس بمئة ألف درهم )ليمزج الترهيب والترغيب ليتمكن بكل الوسائل من إسكات ابن عباس()،(1
ومن أراد المزيد بشأن جنايات بني ُامية والتعرف عليهم بدّقة على ضوء القرآن وأخبار العاّمة والعمال التي
قاموا بها من أجل مسخ المعارف السلمية وتحريفها فليراجع المجلد الثالث من هذا الكتاب.
—–
] [ 436
ن ل يبقى من القرآن إ ّ
ل لموية بأ ّ
ما أورده المام )عليه السلم( في هذه الخطبة بشأن العصر المظلم للحكومة ا ُ
ن ذلك المر قد تكرر في مختلف النقاط وإن لم يبلغ ما بلغه أبان اسمه ل يقتصر على ذلك الزمان ،والمؤسف له أ ّ
الحكومة بني ُامية ،وما زلنا نلمس نماذج ذلك حتى في عصرنا.
نل عَلى الّناسِ َزَما ٌوقد وردت للمام )عليه السلم( عبارة أشمل في قصار كلماته بهذا الخصوص إذ قالَ» :يأِتي َ
سّكاُنها
ن الُهدىُ ، ب ِم َ
خرا ٌن الِبَناِء َ
عاِمَرةٌ ِم َ
جُدُهم َيوَمِئذ َ
سا ِ
ل ِإسُمُه َوَم َ ن السلِم إ ّ ل ِإسُمُه َوِم َ
ن ِإ ّ
ن الُقرآ ِ
َيبَقى ِفيِهن ِم َ
طيَئُة«(1).خِ ج الِفتَنُة َوِإَليِهم َتَأوى ال َ
ض ِمنُهم َتجُر ُلر ِ لا َ
شّر َأه ِ عّماُرها ِ
َو ُ
—–
] [ 437
القسم الثالث
عْنُه
عْنُه اْلَمْعِذَرُةَ ،وُتْرَفُع َ
عوُد اّلِذي ُتَرّد َ
ل ِبِهُم اْلَمْو ُ
حّتى َنَز َ
جاِلِهْمَ ،
بآَ
ل آَماِلِهْم َوَتَغّي ِ
طو ِ ن َقْبَلُكْم ِب ُ
ن َكا َ
ك َم ْ
»َوِإّنَما َهَل َ
عُة َوالّنْقَمُة«.ل َمَعُه اْلَقاِر َحّ
الّتْوَبُةَ ،وَت ُ
—–
الشرح والتفسير
أسباب شقاء النسان
لمم السابقة ويفكروا في أسباب أنذر المام )عليه السلم( الجميع في هذا المقطع من الخطبة ودعاهم لتأمل تاريخ ا ُ
ل ِبِهُم
حّتى َنَز َ
جاِلِهْمَ ،
بآَ
ل آَماِلِهْم َوَتَغّي ِ
طو ِ
ن َقْبَلُكْم ِب ُ
ن َكا َ
ك َم ْ
بؤسهم وشقائهم فيعتبروا بذلك حيث قالَ» :وِإّنَما َهَل َ
عوُد« ،المراد بالهلك في قوله إّنما هلك حسب ما ذهب إلى جمع من شّراح نهج البلغة الهلك المعنوي يعني اْلَمْو ُ
لخروي وكذلك المادي لخروي ،ولكن ل يبعد أن تشمل الهلك المعنوي وا ُ الضللة التي ينتج عنها العذاب ا ُ
ن طول المل ونشيان أجل الحياة والغرق في الشهوات ،إّنما يفسد الخرة ويحط من قدر وعظمة والدنيوي ،أي أ ّ
النسان في الدنيا ،وبالتالي تعرضهم لنواع العذاب الدنيوي من قبيل طوفان قوم نوح وزلزلة قوم لوط
والصواعق السماوية التي أصابت القوام الخرى.
نعم ،فتغيب الجال أحد آثار طول المل والذي يعد من أعدى أعداء سعادة النسان ،لّنه يلقي بحجاب ضخم على
بصيرة العقل ويجعل الهوى حاكمًا عليه ويقذف بالنسان في مستنقع الذنوب والمعاصي ،وهذا ما ورد عن النبي
خَرَة«) ،(1ويفهم
سي ال ِ
ل َفُين ِ
لَم ِ
لا َ
طو ِ
الكرم )صلى ال عليه وآله( وأمير المؤمنين علي )عليه السلم(َ» :وَأّما ُ
ن ُاولئك
عوُد« ،أ ّ
ل ِبِهم الَمو ُ
حّتى َنَز َ
من العبارةَ » :
] [ 438
الفراد يفيقون في تلك اللحظة ،أجل يفيقون ،ولكن حيث ل ينفعهم ذلك ،ولذلك قال المام)عليه السلم(» :اّلِذي
عُة)َ (1والّنْقَمُة).«(2
ل َمَعُه اْلَقاِر َ
حّعْنُه الّتْوَبُةَ ،وَت ُ
عْنُه اْلَمْعِذَرُةَ ،وُتْرَفُع َ
ُتَرّد َ
نعم ،فمصدر كل تلك الجنايات والمخالفات التي ورد الكلم عنها في القسم السابق من الخطبة إّنما يكمن في ح ّ
ب
الدنيا وطول المل ونسيان الجل ،الجل الذي ل رجعة فيه ول يمكن تدارك ما فرط من النسان فيه.
—–
» .1قارعة« :من مادة »قرع« على وزن فرع بمعنى ضرب شيء بآخر وتطلق القارعة على كل حادثة مهّمة ومهلكة.
» .2النقمة« :تعني في الصل استقباح الشيء بحيث تحصل أحيانًا باللسان وأخرى بصورة عقوبة علمية ،ومن هنا غالبًا ما تستعمل
هذه المفردة بمعنى العقوبة.
] [ 439
القسم الرابع
عُدّوُه
نَ ،و َ ل آِم ٌ
جاَر ا ّ ن َ ي َأْقَوُم(; َفِإ ّي )ِلّلِتي ِه َ ل ُهِد َ خَذ َقْوَلُه َدِلي ًن اّت َقَ ،وَم ِ ل ُوّف َحا ّ صَ سَتْن َنا ْ سِ ،إّنُه َم ِ »َأّيَها الّنا ُ
ضُعوا َلُه،ن َيَتَوا َ
ظَمُتُه َأ ْ
عَ ن َما َ ن ِرْفَعَة اّلِذينَ َيْعَلُمو َ ظَمَ ،فِإ ّ ن َيَتَع ّل َأ ْ ظَمَة ا ّ
عَ ف َ عَر َ ن َ ل َيْنَبِغي ِلَم ْف; َوِإّنُه َ خاِئ ٌَ
ن ِذيبَ ،واْلَباِري ِم ْ جَر ِ لْ ن ا َْح ِم َحي ِ
صِ ق ِنَفاَر ال ّ حّ ن اْل َ
ل َتْنِفُروا ِم َ سِلُموا َلُهَ .ف َ سَت ْ
ن َي ْن َما ُقْدَرُتُه َأ ْن َيْعَلُمو َ لَمَة اّلِذي َ
سََو َ
حّتى َتْعِرُفوا اّلِذيب َ ق اْلِكَتا ِ
خُذوا ِبِميَثا ِ ن َتْأ ُحّتى َتْعِرُفوا اّلِذي َتَرَكُهَ ،وَل ْ شَد َ ن َتْعِرُفوا الّر ْ عَلُموا َأّنُكْم َل ْ
سَقِمَ .وا ْ
ال ّ
لُ .هُم جْه ِ
ت اْل َ
ش اْلِعْلِمَ ،وَمْو ُعْي ُ عْنِد َأْهِلِهَ ،فِإّنُهْم َ
ن ِ ك ِم ْسوا ذِل َ حّتى َتْعِرُفوا اّلِذي َنَبَذُهَ .فاَْلتِم ُ سُكوا ِبِهَ ، ن َتَم ّ
ضُهَ ،وَل ْ
َنَق َ
خَتِلُفو َ
ن ل َي ْ
ن َو َ
ن الّدي َ
خاِلُفو َ
ل ُي َ
طِنِهْم; َ
ن َبا ِ
ظاِهُرُهْم عَ ْ
طِقِهْمَ ،و َ
ن َمْن ِ
عْصْمُتُهْم َ
عْلِمِهْمَ ،و َ
ن ِ عْحْكُمُهْم َ
خِبُرُكْم ُ ن ُي ْاّلِذي َ
ق«.طٌ ت َنا ِصاِم ٌ
قَ ،و َ صاِد ٌ
شاِهٌد َ ِفيِه; َفُهَو َبْيَنُهْم َ
—–
الشرح والتفسير
سبيل النجاة
تحّدث المام )عليه السلم( في هذا القسم السابق عن فئة ضالة ومستبدة غيرت جميع الحقائق وإرتكبت أفضع
الجرائم ،ثم حل أجلها ولم تتب إلى رّبها فسارعت إلى عالم آخر ليصب عليها العذاب ،فأبان المام )عليه السلم(
حا ّ
ل صَسَتْن َ
نا ْ
سِ ،إّنُه َم ِ
في هذا المقطع سبيل النجاة حتى ل يبتلى الخرون بذلك المصير السود فقالَ» :أّيَها الّنا ُ
لولى من أجل الهتداء إلى الحق ي َأْقَوُم(« ،نعم ،هذه هى الخطوة ا ُ ي )ِلّلِتي ِه َ
ل ُهِد َ
خَذ َقْوَلُه َدِلي ً
ن اّت َ
قَ ،وَم ِ
ُوّف َ
ف«.خاِئ ٌ
عُدّوهُ َ
نَ ،و َ
ل آِم ٌ
جاَر ا ّ
ن َ
ل على ذلك بقولهَ» :فِإ ّ والصراط المستقيم ثم استد ّ
] [ 440
وأضاف بعد ذلك بهدف استماع الناس للمواعظ اللهّية ويبعدوا عنهم الكبر والغرور ويسلموا لوامر الَ» :وِإّنُه
لَمَة اّلِذي َ
ن سَضُعوا َلُهَ ،و َ
ن َيَتَوا َ
ظَمُتُه َأ ْ
عَن َما َ
ن َيْعَلُمو َ
ن ِرْفَعَة اّلِذي َ
ظَمَ ،فِإ ّ
ن َيَتَع ّ
ل َأ ْ
ظَمَة ا ّ
عَ ف َ عَر َ ن َ ل َيْنَبِغي ِلَم ْ
َ
ن ُاولئك الذين يعيشون الغرور والتكبر غافلون عن عظمة ال سِلُموا َلُه« ،في إشارة إلى أ ّ سَت ْ
ن َي ْ
ن َما ُقْدَرُتُه َأ ْ
َيْعَلُمو َ
سبحانه ،والذين يغترون بقدرتهم جاهلون بقدرة ال تعالى ،أّما من عرف ال وقدرته فهو يدرك أّنه ل شيء
تجاهه ،عليه فل داعي لهذا الكبر والغرور الفارغ.
ل واضحًا بهدف هداية مخاطبيه إلى الحق وإبعادهم عن ثم عرض المام )عليه السلم( في الخطوة التالية سبي ً
حّتى َتْعِرُفوا
ب َ
ق اْلِكَتا ِ
خُذوا ِبِميَثا ِ
ن َتْأ ُ
حّتى َتْعِرُفوا اّلِذي َتَرَكُهَ ،وَل ْ
شَد َ
ن َتْعِرُفوا الّر ْعَلُموا َأّنُكْم َل ْ
الباطل فقالَ» :وا ْ
حّتى َتْعِرُفوا اّلِذي َنَبَذُه« ،والواقع هذا هو أحد طرق معرفة الحق والباطل والذي سُكوا ِبِهَ ، ن َتَم ّ
ضُهَ ،وَل ْ
اّلِذي َنَق َ
لشياُء ِبأضَدادها« ،فالنسان يجهل معنى العافية ما لم يمرض ول يدرك فا َينطوي تحت القاعدة المعروفة» :تعَر ُ
مفهوم الضياء ما لم يرى الظلمة ،فقد اعتبر المام )عليه السلم( ـ في هذا المقطع من الخطبة كما ورد في العبارة
المذكورة ـ التعرف على تاركي الحق ومخالفيه كطريق بلوغ الحق ،فأشار إلى ثلث طوائف :طائفة تركت الحق،
وطائفة نقضت ميثاق القرآن ،والطائفة الثالثة التي نبذته وراء ظهرها ،والفارق بين هذه الطوائف الثلث واضح،
فالبعض يترك الحق دون أن يحضره والبعض الخر يحقره علوة على تركه ،وأخيرًا هناك من ينقض عهود ال
ومواثيقه ،والذي وردت الشارة
» .1البارىء« :من مادة برء على وزن قفل لها معنيان :الول :بمعنى الخالق واليجاد ومن هنا يقال ل الباريء ،والخر :بمعنى
البتعاد عن الشيء ولذلك تستخدم بمعنى العافية والبعد عن المرض وهذا هو المعنى المراد بها في عبارة الخطبة.
] [ 441
فقد وصف المام )عليه السلم( أهل البيت)عليهم السلم(في هذه العبارات القصيرة والعميقة المعنى بأوصاف
ل ،«...حيث عندهم علم ال تعالى وسّنة النبي )صلى ال عليه وآله( ،فأينما جْه ِ ت اْل َ
ش اْلِعْلِمَ ،وَمْو ُ
عْي ُ
منهاَ» :فِإّنُهْم َ
يحّلون يكشفون الظلم بنورهم ،وحكمهم )سواء كان الحكم بمعنى القضاء أوالحكم بمعنى كافة وصاياهم وبيانهم
ن السكوت أبلغ من الكلم في للحلول( ينطق عن علمهم ،وصمتهم العميق المعنى يفيد منطقهم ومقاصدهم )ل ّ
أغلب الموارد( ،وظاهر على قدر من الرزانة والخلص والطهر بحيث يعكس طهارة ونقاء باطنهم ،من
خصائصهم الخرى أن علمهم ل يختلف مع الدين قط ول يختلفون في تفسيرهم لحقائق الدين ،ول غرو فعلومهم
تنبع من ذات المصدر ،ومن هنا لديهم حقيقة الدين والقرآن وروحهما ،في حديث الثقلينِ...» :إّنهما َلن َيفَتِرقا
ضُلوا.«...
سُكُتم ِبِهما َفَلن َت ِ
)العترة والقرآن( َما إن َتَم ّ
—–
] [ 442
تأّمل
كثيرة هى طرق معرفة الحق والباطل والمهم أن يعزم النسان على معرفة الحق ويتجه قدمًا بشجاعة ـ وإحدى
هذه الطرق ما أشار إليه المام )عليه السلم( في هذه الخطبة والذي يتمثل بمطالعة الضداد.
ن الطريق الصحيحن رأى النسان المصير السود لجماعة تسبح في بحر من الخطاء والّزلت ،أدرك ببساط أ ّ فا ّ
عكس ذلك ،وإن أراد السير على الحق وجب عليه التخلي عن الصول التي اعتمدتها تلك الجماعة ،فيتعلم الدب
من عديميه والعدل الظالمين والطهر من المدنيين.
لعل هناك من يتصور تضارب هذه العبارة مع ما ورد في عبارة أخرى للمام )عليه السلم( قالها للحارث
ف َأهَلُه«) ،(1لكن الطريقان صحيحان،
ق َتعِر ُ
ف الح ّ
ق َفاعر ْ
حّف ِبالّرجال َبل ِبآَيِة ال َ
ل ل ُيعَر ُ
نا ِ
ن ِدي َ
الهمداني» :إ ّ
كل في محّله ،فان عرف الحق بوضوح في موضع كان لبّد من معرفة شخصية الفراد على أساس معياره ،فمن
كان مع الحق فهو الحسن الصالح ومن كان ضده فهو السيىء الطالح ،فهنا نعرف الشخاص بمعيار الحق .وان
كان الفراد معروفين والحق خفي كان لبّد من التعرف على الحق والباطل بواسطتهم ،على سبيل المثال لو
ن عّمارا على الحق وأبي جهل على الباطل ،وقد يتعذر تنازع عمار بن ياسر مع أبي جهل ،فاننا ندرك بسهولة أ ّ
أحيانًا معرفة الشخاص ومعرفة الحق ،فهنا ننظر إلى حاشية وأصدقاء ُاولئك الشخاص ،فرضًا شككنا في
شخص معاوية ورأينا بطانته وحاشيته جماعة من المنافقين وأصحاب الدنيا كعمرو بن العاص وممن طردهم
رسول ال )صلى ال عليه وآله( ومن تبقى من أقطاب الجاهلية آنذاك يمكننا التعرف عليه.
وزبدة الكلم هناك عّدة طرق لمعرفة الحق والباطل ولبّد من استفادة ما يناسب كل مورد من طريق.
—–
الخطبة)148 (1
تحّدث المام )عليه السلم( في المقطع الول من هذه الخطبة عن طلحة والزبير واللذان قد إتحدا في الظاهر
واتفقا على قتال علي )عليه السلم( في الجمل ،فقد كشف المام )عليه السلم( اللثام عن جانب من أسرارها فقا
ن ذلك التحاد مرحلي ومؤقت ،فان تسّلط أحدهما أسقط الخر ،وأشار )عليه لأّ
إّنهما وإن اتحدا ظاهريًا ،إ ّ
السلم( في المقطع الثاني إلى فتنة البصرة وأصحاب الجمل ،وقد دعى الناس للعمل على إخماد نار هذه الفتنة،
كما حذر في الختام من ضرورة مراقبة التحركات المشبوهة لناقضي المواثيق )طلحة والزبير وأعوانهما(.
—–
.1سند الخطبة:
قال ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلغة روى هذه الخطبة قبل السيد الرضي أبو مخنف في كتاب »الجمل« ،كما رواها باختلف
ن هذا الختلف ليس بقليل( المرحوم الشيخ المفيد )رحمه ال( في كتاب »الرشاد« )مصادر نهج البلغة
»لبّد من اللتفات إلى أ ّ
(2/332
] [ 444
] [ 445
سَببُ .ك ّ
ل ن ِإَلْيِه ِب َ
لَيُمّدا ِ
حْبلَ ،و َ
ل ِب َ
ن ِإَلى ا ّ
ل َيُمّتا ِ
حِبِهَ ،صا ِ
ن َ عَلْيِهُ ،دو َ
طُفُه َ
لْمَر َلُهَ ،وَيْع ِ
جو ا َْ
حد ِمْنُهَما َيْر ُ
ل َوا ِ
»ُك ّ
ن هَذا َنْفسَعّ ن َلَيْنَتِز َ
صاُبوا اّلِذي ُيِريُدو َ
ن َأ َل َلِئ ْ
عُه ِبِه! َوا ّ
ف ِقَنا ُش ُعّما َقِليل ُيْك َ
حِبِهَ ،و َصا ِ
ب ِل َض ّل َ حاِم ُحد ِمْنُهَما َ
َوا ِ
خَبُرَ .وِلُك ّ
ل نَ،وُقّدَم َلُهُم اْل َسَن ُ
ت َلُهُم ال ّ
سّن ْ ن! َفَقْد ُ
سُبو َ
حَت ِ
ن اُْلم ْ
غَيُةَ ،فَأْي َ
ت اْلِفَئُة اْلَبا ِ
عَلى هَذاَ .قْد َقاَم ِ
ن هَذا َ هَذاَ ،وَلَيْأِتَي ّ
ل َيْعَتِبُر!«. يُ ،ثّم َ ضُر اْلَباِك َ
ح ُ ي َوَي ْ
سَمُع الّناعِ َ
سَتِمِع الّلْدِمَ ،ي ْن َكُم ْ ل َأُكو ُ ل َ
شْبَهٌةَ .وا ّ ل َناِكث ُ
عّلٌةَ ،وِلُك ّ ضّلة َِ
—–
الشرح والتفسير
كشف المام )عليه السلم( في القسم الول من هذه الخطبة النقاب عن حقيقة في عدم وجود دافع شرعي لطلحة
ن تحقق والزبير ـ اللذان أثارا معركة الجمل ـ وليس لهما من هّم سوى الدنيا والستيلء على الحكومة ،ومن هنا فا ّ
طُفُه
لْمَر َلُهَ ،وَيْع ِ
جو ا َْ
حد ِمْنُهَما َيْر ُ
ل َوا ِ
لهما ما يريدان سعى كل منهما لزالة الخر لينفرد بالحكومة فقالُ» :ك ّ
حِبِه«.
صا ِ
ن َ
عَلْيِهُ ،دو َ
َ
حاِم ُ
ل حد ِمْنُهَما َ
ل َوا ِ
سَببُ .ك ّ
ن ِإَلْيِه ِب َ
لَيُمّدا ِ
حْبلَ ،و َ
ل ِب َ
ن)ِ (1إَلى ا ّ
ل َيُمّتا ِ
ل )عليه السلم( على ذلك بالقولَ » : ثم استد ّ
ب هوالحيوان المعروف ،وتعتقد العرب بأّنه خال من عُه ِبِه!« ،والض ّ ف ِقَنا ُ
ش ُ عّما َقِليل ُيْك َ
حِبِهَ ،و َ
صا ِ
ب)ِ (2ل َض ّ
َ
العاطفة إلى جانب حماقته حتى أّنه ليأكل فراخه ومن هنا ضرب به المثل في العقوق ،وقد استشهد المام )عليه
حِبِه« ،فهى عبارة غاية في الروعة لمدى العداوة والبغضاء التي صا ِ ب ِل َ
ض ّل َ حاِم ُالسلم( بذلك المثل في قولهَ » :
يخفيها كل منهما لصاحبه.
» .1يمتان« :من مادة »مت« على وزن خط تعني في الصل سحب الحب وحيث يسبب هذا العمل إقتراب الدلو فقد وردت هذه المفردة
بمعنى القتراب والتقرب وهذا هوالمعنى المراد بها في الخطبة.
ب« :لها عدة معان ومنها سحب الماء والحقد والحيوان المعروف.
» .2ض ّ
] [ 446
والعبارة الفئة الباغية إشارة إلى كل جماعة تقوم بوجه الحق وحكومة العدل ،كما يصدق هذا الكلم على أصحاب
الجمل ،وعلى أعوان معاوية أيضًا ،لّنهم وقفوا جميعًا ضد الحق ،ومن هنا جاء في الحديث النبي الكرم)صلى
غيُة«).(2
ك الِفَئُة الَبا ِ
عّمار َتقُتُل َ
ال عليه وآله( لعّمار الذي استشهد في صفين وقتله أعوان معاويةَ» :يا َ
والمفردة »المحتسبون« إشارة إلى الفراد الذين يجاهدون حسبة ل ول ينتظرون سوى ثوابه وأجره.
» .1المحتسب« :من مادة »حسبة« بمعنى التيان بالعمل حسبة ل وإرادة الثواب منه سبحانه ،ووردت مفردة المحتسب بمعنى
ن هدفه حساب عمل الناس.المأمور الذي يكلف من الحكومة للشراف على إجراء أحكام الدين ولعل ذلك لّنه يقوم بالعمل ل ،أو أ ّ
.2وردت هذه الرواية في أغلب مصادر العاّمة ومنها مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم وطبقات ابن سعد ومصادر أخرى )انظر
إحقاق الحق .(8/422
] [ 447
الفئة واتضاح سنن النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( تجاه مثل هؤلءالفراد والنبوءة السريعة التي طرحها النبي
الكرم )صلى ال عليه وآله( فلم يبق هنالك من مجال للبهام ولبّد لكل مؤمن مخلص أن يقف في وجه الباطل.
ن كل ناكث لعهد عادة ما يخلق لنفسه ذريعة ليخدع العوام ويجرهم شْبَهٌة« ،إشارة إلى أ ّ
ل َناِكث ُ
والعبارةَ» :وِلُك ّ
إليه ،كما تذرع طلحة والزبير بدم عثمان على أّنه الخليقة الذي قتل مظلومًا ،فيثيروا طائفة من العوام ضد علي
)عليه السلم( فيتمكنا من تحقيق أهدافهما المغرضة ،بينما كانا من العناصر التي قتلت عثمان ،كما مّر معنا في
سَفُكوُه«.
حّقا ُهْم َتَرُكوُهَ ،وَدمًا ُهْم َ
ن َ
طُلُبو َ
الخطبة 137خيث قال المام بشأن طلحة والزبير ومعاويةَ» :وِإّنُهْم لََي ْ
والعبارة »ناكث« إشارة إلى طلحة والزبير حيث بايعا عليًا )عليه السلم( في البداية ثم نقضوا البيعة.
ل َأُكونُ
ل َثم إختتم المام الخطبة بالشارة إلى نقطة مهّمة وهى المراقبة وعدم الغفلة عن العدو فقالَ» :وا ّ
ن الزعيم اليقظ ل يسمع أنين ل َيْعَتِبُر!« ،إشارة إلى أ ّيُ ،ثّم َ
ضُر اْلَباِك َ
ح ُ ي َوَي ْ
عَسَمُع الّنا ِ
سَتِمِع الّلْدِم)َ ،(1ي ْ
َكُم ْ
ضُبِعَ :تَناُم
ن كال ّ ل َأُكو ُل َالمظلومين وتعبئة قوى الشياطين ،وقد مضى شبيه هذا المعنى في الخطبة السادسةَ» :وا ّ
عْنُه«.
ق اْلُمْدِبَر َ
حّل ِإَلى اْل َ
ب ِباْلُمْقِب ِ
ضِر ُ
صُدهاَ ،ولِكّني أ ْ
خِتَلَها َرا ِ
طاِلُبَهاَ ،وَي ْ
ل ِإَلْيها َ
صَحّتى َي ِ ل الّلْدِمَ ،
طو ِعَلى ُ َ
—–
» .1اللدم« :تعني في الصل ضرب الشيء بأخر دون شّدة الصوت.
] [ 448
تأّمل
ل أّنهم
ن أصحاب الباطل وإن إّتحدوا في بادىء المر من أجل تحقيق أهدافهم ،إ ّ
العبارة أعله تبّين حقيقة وهى أ ّ
ما إن ينتصروا ويتمكنوا حتى يسعى كل منهم لزالة الخر والتفرد بتناول ثمرة شجرة النجاح والنموذج البارز
لذلك التحاد طلحة والزبير في معركة الجمل والذي يشكل الموضوع الرئيسي لهذه الخطبة ،والطريف في المر
ن بوادر هذه المنافسة الهدامة قد لحت حتى قبل شروع المعركة.
أّ
ن خلفًا وقع بينهما قبل الجمل بشأن إمامة العسكر ،ولّما إشتد النزاع
فقد نقل ابن أبي الحديد عن المؤرخين أ ّ
بينهما تدخلت عائشة فأمرت أن تصلي يومًا محمد بن طلحة وآخر عبدال بن الزبير حتى تنتهي المعركة).(1
من جانب آخر سأل طلحة عائشة أن يسلم عليه الناس بصفته أميرالمؤمنين ،كما سألها الزبير ذلك ،فسّلمت عائشة
عليهما بأميرالمؤمنين ،كما اختلفا في إمرة الجيش فقد أراد طلحة المرة ،بينما رأى الزبير نفسه الجدر بها)،(2
لمور شواهد حّية على ما أخبر به المام )عليه السلم( في هذه الخطبة حين قال كل واحد منها يرجو وكل هذه ا ُ
المر له ويفكر في القضاء على صاحبه ،فليس هناك من دافع إلهي ،ول تؤّدي الدوافع النفسانية سوى إلى
الحتكار دائمًا.
—–
.1ورد هذا المعنى في مروج الذهب في شرح معركة الجمل وأضاف المسعودي ولم يتم تقسيم صلة الجماعة بهذه البساطة ،بل حدث
ذلك بعد حوار طويل ونزاع طلحة والزبير )مروج الذهب 2/367طبعة دار المعرفة بيروت(.
] [ 449
الخطبة)149 (1
ن المام )عليه السلم( خطبها حين كان على أعتاب الشهادة ،فقد أوردها على سبيل كما ورد في أسناد الخطبة فا ّ
ن الخطبة تتألف من ثلثة أقسام:
الوصية إلى جانب النصح والمواعظ ،والواقع أ ّ
القسم الول :بشأن الموت الذي ل يستطيع أحد الفرار منه ول يعلم أين ومتى يدركه.
القسم الثاني :وصّية قصيرة وبليغة عظيمة المضمون تجذب القلوب وتوضح معالم الطريق في المستقبل.
القسم الثالث :الدروس التي ينبغي للناس تعلمها من شهادة المام )عليه السلم( كما يشير )عليه السلم( إلى هذه
الحقيقة وهى إنني إن رحلت عنكم وخّلفني غيري آنذاك ستعرفون ،من كنت؟ وماذا أردت؟ وما كانت سرائري؟
—–
.1سند الخطبة:
رواها المرحوم الكليني في الكافي ;1/299والمسعودي في مروج الذهب بصورة مختصرة ،وابن عساكر في كتاب مقتل
ن الخطبة بعد ضربة ابن ملجم وقبل شهادة المام)عليه السلم( ،وقد ذكر صاحب مصادر نهج
أميرالمؤمنين ،ويتفق الجميع على أ ّ
البلغة أسناد الخطبة في قسم الرسائل حيث جاء جانب مهم من هذه الخطبة في الرسالة رقم ) 33مصادر نهج البلغة .(2/347
] [ 450
] [ 451
القسم الول
طَرْد ُ
ت ب ِمْنُه ُمَواَفاُتُهَ .كْم َأ ْ
س; َواْلَهَر ُق الّنْف ِ
سا ُ
ل َم َ
جُلَ لق َما َيِفّر ِمْنُه ِفي ِفَراِرِهَ[ .و ]ا َْ ى َل اْمِر ًسُ ،ك ّ
»َأّيَها الّنا ُ
ن!«. خُزو ٌ
عْلٌم َم ْ
ت! ِخَفاَءُهَ .هْيَها َ
ل ِإ ْ
ل ِإ ّ
لْمِرَ ،فَأَبى ا ّ
ن هَذا ا َْ
ن َمْكُنو ِ
عْ حُثَها َ
لّياَم َأْب َ
ا َْ
—–
الشرح والتفسير
ن النسان ن الفرار من الموت مستحيل ،وأبعد من ذلك فا ّ أكد المام )عليه السلم( في هذا القسم من الخطبة أ ّ
س;
ق) (1الّنْف ِ
سا ُ
ل َم َ
جُ
لَلق َما َيِفّر ِمْنُه ِفي ِفَراِرِهَ[ .و ]ا َْ
ى َ
ل اْمِر ً
سُ ،ك ّ
يستقبل الموت حين فراره ،فقالَ» :أّيَها الّنا ُ
ب ِمْنُه ُمَواَفاُتُه«.
َواْلَهَر ُ
هناك عّدة تفاسير لشّراح نهج البلغة للعبارة الهرب من الموت موافاته ،فقد قال البعض :المراد من هذه العبارة
ل وجاء أمر ال سبحانه برحيل من الدنيا فحتى الدواء يعطي نتيجة معكوسة ،فما كان مشفيًا في ن الجل إذا ح ّ
أّ
ن الزمان الذي يصرفه النسان من أجل العلج في الحوال العادية يصبح سببًا للموت ،وقيل في تفسير العبارة أ ّ
مثل هذه الحالت إّنما يقّربه من آجله).(2
وبعبارة أخرى ،فقد شوهد كثيرًا وقوع النسان في ما يخافه ويحذره ،ويدركه ما هرب منه ،وعلى ضوء هذا
ن الحكم المذكور حكم غالبي وليس كلي.
التفسير فا ّ
» .1مساق« :مصدر ميمي أو اسم مكان من مادة »سوق« بمعنى الغاية التي يصلها النسان ،أو بعبارة أخرى آخر الطريق.
] [ 452
عْلٌم
ت! ِ
خَفاَءُهَ .هْيَها َ
ل ِإ ْ
ل ِإ ّ
لْمِرَ ،فَأَبى ا ّ
ن هَذا ا َْ
ن َمْكُنو ِ
عْحُثَها َ
لّياَم َأْب َ
ت) (1ا َْ
طَرْد ُ
ثم قال )عليه السلم(َ» :كْم َأ ْ
ن!«.
خُزو ٌ
َم ْ
—–
سؤال
ن ال وحده العالم بالجل ول يعلمه أحد) ،(2بينما تظافرت الخبار هنا يبرز هذا السؤال وهو :كيف قال المام بأ ّ
التي وردت عن أميرالمؤمنين علي )عليه السلم( أّنه كان يعلم بزمان وفاته ،وكان يعرف قاتله ،كما يخبر ولده
على الدوام في ليلة شهادته ،بل أشار بعبارات مختلفة إلى زمان شهادته حتى خلل شهر رمضان الذي استشهد
ن الطيور في بيت المام )عليه السلم( كانت على علم بشهادته؟ فيه ،وقد ورد في الكافي أ ّ
جواب
ن حالت المعصومين)عليهم السلم(وأولياء ال تعالى مختلفة، يعتقد البعض بالستناد إلى بعض الروايات) ،(3أ ّ
فأحيانًا يعلمون كل شيء بإرادة ال تعالى ،وأحيانًا أخرى تخفى عليهم بعض المسائل بإرادة ال تعالى حتى
اللحظات يمكن أن تكون متفاوتة ،فقد شم نبي ال يعقوب رائحة قميص يوسف من مساحة بعيدة )مصر( بينما لم
يراه في بئر كنعان ،وهناك احتمال أخر ما ذكره المام)عليه السلم(قانونًا كليًا حول الجل وخاتمة حياة جميع
ن هذا القانون الكلي كسائر القوانين الكلية له استثناءات ،فما المانع أن يعلم أولياء ال وباذن ال
لأّ
الفراد ،إ ّ
وتعليمه بلحظة موتهم.
ن علوم المعصومين)عليهم السلم(بالنسبة لمسائل المستقبل على أساس لوح المحو وهناك نقطة أخرى هى :إ ّ
ن ذلكوالثبات وهو قابل للتغيير ،أو ما يصلح عليه بالعلم بالمقتضيات ،ل العلم بالعلة التامة التي تأبى التغيير ،ل ّ
ل جاء في قصة السيد المسيح )عليه السلم( أّنه القسم الذي يسمى باللوح المحفوظ مختص بال تبارك وتعالى ،مث ً
أخبر عن موت عروس في ليلة زفافها ،بينما لم يقع ذلك ،وذلك لّنها تصدقت وحالت الصدقة دون وقوع تلك
المصيبة.
» .1اطردت« :من مادة »طرد« بمعنى الخراج ،واطردت الّيام طويتها واحدًا بعد الخر.
.3المصدر السابق.
] [ 453
القسم الثاني
ن،
ن اْلَعُموَدْي ِ
سّنَتُهَ .أِقيُموا هَذْي ِ
ضّيُعوا ُل ُت َعَلْيِه َوآِلِهَ ،ف َ
ل َ صّلى ا ّ حّمدًا َ شْيئًاَ ،وُم َشِرُكوا ِبِه َ ل ُت ْ
ل َ صّيِتيَ :فا ّ »َأّما َو ِ
جَهَلِةَ .ر ّ
ب ن اْل َعِ
ف َ خّف َجُهوَدُهَ ،و ُل اْمِرىً ِمْنُكْم َم ْ ل ُك ّ حّم َ
شُرُدواُ . لُكْم َذّم َما َلْم َت ْ
خَ نَ ،و َحْي ِ
صَبا َن اْلِم َْوَأْوِقُدوا هَذْي ِ
ل ِلي َوَلُكْم!«. غَفَر ا ّ
غدًا ُمَفاِرُقُكْم! َ
عْبَرٌة َلُكْمَ ،و َ
حُبُكْمَ ،وَأَنا اْلَيْوَم ِ
صا ِس َ لْم ِ عِليٌمَ .أَنا ِبا َْ
ن َقِويٌمَ ،وِإَماٌم َحيٌمَ ،وِدي ٌَر ِ
—–
الشرح والتفسير
ب المام )عليه السلم( فيها عصارة روحه وفكره بّين المام )عليه السلم( في القسم من الخطبة وصّيته وقد ص ّ
شْيئًا،
شِرُكوا ِبِه َل ُت ْ
ل َ
صّيِتيَ :فا ّفي تلك اللحظة الحساسة والصعبة التي يوشك فيها على الرحيل فقالَ»:أّما َو ِ
خلَُكْم َذّم)(1نَ ،و َحْي ِ
صَبا َ
ن اْلِم ْ
نَ ،وَأْوِقُدوا هَذْي ِ
ن اْلَعُموَدْي ِ
سّنَتُهَ .أِقيُموا هَذْي ِ
ضّيُعوا ُ
ل ُت َ
عَلْيِه َوآِلِهَ ،ف َ
ل َ
صّلى ا ّ
حّمدًا َ َوُم َ
شُرُدوا«.
َما َلْم َت ْ
والمراد بالشرك هنا المعنى الواسع للكلمة والذي يشمل الشرك في الذات والصفات وكذلك الشرك في الفعال،
وبعبارة أخرى ،كل ميل لما سوى ال سبحانه سواء في العقيدة أو العمل ،وكذلك ُاريد بالسّنة معناها الواسع الذي
ن العبارتين قد تضمنتا جميع أسباب يشمل جميع البرامج العبادية والخلقية والسياسية والجتماعية ،والواقع هو أ ّ
سعادة النسان،
ن أول من قال هذه العبارة )قصير بن» .1خلكم الذم« :مثل بين العرب مفهومه ليس هناك من ذم لكم لّنكم تقومون بوظيفتكم ،وقيل أ ّ
سعد( غلم )خزيمة( )أحد ملوك العرب( والذي قتل على يد الزباء ،فقال قصير لبن شقشقة الملك خذ بثأر حزيمة ،فقال :أّني لي به
وإّنه لسرع من العقاب ،فقال له قصير) :اطلب وخلك ذم() ،شرح نهج البلغة للبيهقي من علماء القرن السادس ،ص 239ذيل
الخطبة التي نبحثها(.
] [ 454
فالنسان لم يتعلق بما سوى ال ول يطلب غير رضاه ولم يحكم هو نفسه وطّبق كافة تعاليم النبي الكرم )صلى
ال عليه وآله( على كافة الصعدة والمجالت فهو النسان سعيد وموفق ،ومن هنا شّبه المام هذين الثنين
ن الخيمة ملذ آمن من الحرارة والبرودة وواقية من أغلب المخاطر ،كما شّبهها
بعمودي الخيمة إن ُاقيما فا ّ
ل للظللة مع وجودبمصباحين على جانبي النسان وهما يضيئان الفضاء والطريق ،ومن البديهي أل يبقى مجا ً
هذين المصباحين المضيئين.
ولذلك قال المام )عليه السلم( في مواصلته لكلمه ،إعملوا بهذه الوصايا وخلكم ذم ،وسوف لن يكون هناك من
خلل ونقص في دينكم وإيمانكم وحياتكم ،ولكنه يشترط ذلك بمواصلة الطريق دون النحراف ،واللتزام بمسار
ن جميع أصول السلم وفروعه قد جمعت في هذه العبارة :فالتوحيد يشمل التوحيد والعمل بالسّنة ،والواقع هو أ ّ
لصول العقائدية وحفظ سنة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( يشمل جميع التعاليم العلمية والخلقية ،وإن كافة ا ُ
قال )عليه السلم( أقيموا هذين العمودين وخلكم ذم ،للدليل السابق ،ولما كان إقامة التوحيد وسّنة النبي )صلى ال
عليه وآله( في جميع البعاد ليس ميسرًا للجميع وذلك لعدم تساوي القدرات الفكرية والجسمية ،فقد قال )عليه
جَهَلِة« ،وهو ذات المر الذي ُاشير إليه كرارًا في اليات
ن اْل َ
عِ
ف َ
خّف َ
جُهوَدُهَ ،و ُى ِمْنُكْم َم ْ
ل اْمِر ً
ل ُك ّ
حّم َ
السلم(ُ » :
الروايات.
] [ 455
ن كافة أسباب السعادة في ظل هذه الثلث ،فال سبحانه رحيم قد فتح كافة أبواب السعادة بوجه
والواقع هو أ ّ
النسان والدين الذي أتى به نبي السلم )صلى ال عليه وآله( يتمتع برسوخ ل مثيل له ،والمام )عليه السلم(
الذي نصب لجراء أحكام الدين عادل من جميع الجوانب يمكن أن تكون كلمة المام هنا إلى شخص النبي الكرم
)صلى ال عليه وآله( أو علي )عليه السلم( أو جميع أئمة السلم من النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(حتى
ن مثل هذا الرب والدين والمام ل يكّلف
آخر الئمة المام المهدي )سلم ال عليهم أجمعين( ،ومن الطبيعي أ ّ
النسان سوى على قدر وسعه.
لْم ِ
س ثم أشار المام )عليه السلم( في الختام إلى نقطة مهّمة ليكمل بها القسم الول والثاني فقالَ» :أَنا ِبا َْ
ل ِلي َوَلُكْم!« ،إشارة إلى أّنكم إن جعلتم هذه اليام الثلث مع غَفَر ا ّ
غدًا ُمَفاِرُقُكْم! َ
عْبَرٌة َلُكْمَ ،و َ
حُبُكْمَ ،وَأَنا اْلَيْوَم ِ
صا ِ
َ
بعضها لعلمتكم مطالب كثيرة ،فبالمس كنت مثلكم ،بل زعيمكم وقائدكم حيث صرعت الكثير من على شاكلة
عمرو بن عبد ود ،لقد فتحت خيبر وقلعت بابها ،ودافعت عن رسول ل )صلى ال عليه وآله( في ميادين القتال
حين تظافرت علينا العداء ،وكنت أجندل البطال في الجمل وصفين والنهروان ،لكنني اليوم لكم عبرة بعد أن
رقدت على فراش الموت ،وغذًا أنا مفارقكم ،،سوف ترون مكاني خاليًا ،أو ليست هذه اليام الثلث تكفيكم عبرة
لتكشف عن وضع الدنيا وتفاهتها؟ حقًا لم يسمع كلم أبلغ من هذا الكلم وبهذا الختصار والعمق في المعنى.
غدًا ُمَفاِرُقُكْم ،«...هل هو الخبار عن شهادته في ذلك الوقت أم الخبار عن أّما بشأن المراد من العبارة »َو َ
مستقبل بعيد والذي ورد التعبير عنه في العبارات المتداولة بقولهم غدًا؟ يبدو هنالك خلفًا بين شّراح نهج البلغة،
ن المراد ولكن ما يفهم من القرآن المختلفة وسائر كلمات المام)عليه السلم( في تلك الحادثة الليمة وقبلها أ ّ
ن مثل هذه التعبيرات طأُة ،«...ل ّ ت الو َالخبرالقطعي عن المستقبل القريب ،ول يتنافي ذلك مع العبارة» :إن َتثُب ِ
عَقاِبُكْم)(...
عَلى َأ ْ
ل اْنَقَلْبُتْم َ
ت َأْو ُقِت َ
تهدف إلى بيان مقاصد خاصة واعتيادية ،كما ورد في القرآن الكريمَ) :أَفِإْين َما َ
ن نبّيه )صلى ال عليه وآله( ل يقتل ،فهدف المام )عليه السلم( هنا بيان هذا .(1والحال يعلم ال سبحانه أ ّ
المطلب ،أّني لو بقيت لعفوت عن ضاربي.
] [ 456
] [ 457
القسم الثالث
ظّ
ل ت ِ ح َ ب ِرَياحَ ،وَت ْ صانَ ،وَمَها ّ غ َض اْلَقَدُم َفِإّنا ُكّنا ِفي أَْفَياِء َأ ْ
ح ِ ن َتْد َ
كَ .وِإ ْطَأُة ِفي هِذِه اْلَمَزّلِة َفَذا َ ت اْلَو ْ
ن َتْثُب ِ
»ِإ ْ
ن ِمّنيسُتْعَقُبو َ جاَوَرُكْم َبَدِني َأّيامًاَ ،و َ جارًا َ طَهاَ .وِإّنَما ُكْنتُ َ خّ ض َم َ لْر ِ عَفا ِفي ا َْ جّو ُمَتَلّفُقَهاَ ،و َ ل ِفي اْل َ حّضَم َغَمام ،ا ْ َ
عُ
ظ طَراِفيَ ،فِإّنُه َأْو َ ن َأ ْ
سُكو ُ طَراِقيَ،و ُ ت ِإ ْ
خُفو ُ ظُكْم ُهُدّويَ ،و ُ طق ِلَيِع ْ صاِمَتًة َبْعَد ُن ْحَراكَ ،و َ ساِكَنًة َبْعَد َ لًءَ : خَ جّثًة َ ُ
ش ُ
ف ن َأّياِميَ ،وُيْك َ غدًا َتَرْو َ
لِقي! َ صد ِللّت َ
ى ُمْر ِ ع اْمِر ً عي َلُكْم َوَدا ُ عَ .وَدا ِ سُمو ِ ل اْلَم ْق اْلَبِليِغ َواْلَقْو ِ
طِ ن اْلَمْن ِ
ن ِم َِلْلُمْعَتِبِري َ
غْيِري َمَقاِمي«. خُلّو َمَكاِني َوِقَياِم َ سَراِئِريَ ،وَتْعِرُفوَنِني َبْعَد ُ ن َعْ َلُكْم َ
—–
الشرح والتفسير
شرح المام )عليه السلم( في هذا المقطع من الخطبة مصيره على فراش الشهادة كما بّين وضع المسلمين بعده
ب)
صانَ ،وَمَها ّ
غ َ
ض) (3اْلَقَدُم َفِإّنا ُكّنا ِفي َأْفَياِء)َ (4أ ْ
ح ِ ن َتْد َ
كَ .وِإ ْ
طَأُة)ِ (1في هِذِه اْلَمَزّلِة)َ (2فَذا َ
ت اْلَو ْ
ن َتْثُب ِ
فقالِ» :إ ْ
عَفا)ِ (7في
جّو ُمَتَلّفُقَها)َ ،(6و َل ِفي اْل َ
حّ ضَم َغَمام ،ا ْ
ل َ ظّت ِ ح َِ (5رَياحَ ،وَت ْ
» .1وطأة« :بمعنى محل القدم وتأتي بصيغة كناية بمعنى الضغط الشديد.
» .2مزّله« :من مادة »زلل« على وزن ضرر بمعنى محل الزلل.
» .3تدحض« :من مادة »دحض« على وزن محض بمعنى الزلل أيضًا.
» .5مهاب« :من مادة هبوب بمعنى حركة الرياح ومهاب جمع مهب محل هبوب الرياح.
» .6متلفق« :بمعنى القطع المتصلة من مادة لفق على وزن لفظ الجمع.
» .7عفا« :من مادة »عفو« بمعنى ترك ،ولكن ما كان ترك الشيء يؤّدي إلى ذهابه وإندراسه ،فقد وردت في هذه العبارة وأمثالها
بمعنى الندراس.
] [ 458
ل بعض الدروس والعبر التي يمكن ثم بّين هذا المعلم الرباني إثر ذلك وبالنظر إلى علمه بمفارقة الدنيا عاج ً
جاَوَرُكْم َبَدِني َأّيامًا،
جارًا َ
ت َ
للخرين الستفادة منها والتي من شأنها إيقاظهم من غفلتهم فقالَ» :وِإّنَما ُكْن ُ
طق«. صاِمَتًة َبْعَد ُن ْ
حَراك)َ ،(3و َ
ساِكَنًة َبْعَد َ
لًء)َ (2
خَجّثًة َ
ن ِمّني ُ
سُتْعَقُبو َ
َو َ
ن ِم َ
ن ظ ِلْلُمْعَتِبِري َ
عُطَراِفيَ ،فِإّنُه َأْو َ
ن َأ ْ
طَراِقي)َ ،(6وسُُكو ُ
ت)ِ (5إ ْ
خُفو ُ
ظُكْم ُهُدّوي)َ ،(4و ُ
ثم استنتج مباشرةِ» :لَيِع ْ
ع«. سُمو ِل اْلَم ْق اْلَبِليِغ َواْلَقْو ِ
طِاْلَمْن ِ
ن المر كذلك فالمتحكمون مهما كانوا فصحاء وبلغاء ،والسامعون مهما كانوا صاغين ولكن هناك فارق
حّقا أ ّ
كبير بين النظر والسماع ،فيا لها من عبرة أن ترى ذلك الرجل الشجاع الذي ذاع صيته في الرجاء وهو الن
طريح الفراش جثة هامدة ل يقوى حتى على تحريك جفن عينيه ،كما ل تقوى شفتاه على الحركة وهذا ما ينطوي
على أعظم درس وعبرة حيث يشاهد النسان بعينه أفول القوة والقدره فيغرق في هالة من التفكير ،وهل لواعظ
القدرة على إبراز هذا التأثير؟
غدًا
لِقي! َ
صد)ِ (7للّت َ
ى ُمْر ِ
ع اْمِر ً
عي َلُكْم َوَدا ُ وأخيرًا إختتم الوصّية بتوديع الناس ،ذلك الوداع الليهم فقالَ» :وَدا ِ
غْيِري َمَقاِمي«. خُلّو َمَكاِني َوِقَياِم َ
سَراِئِريَ ،وَتْعِرُفوَنِني َبْعَد ُ
ن َ
عْف َلُكْم َ
ش ُ
ن َأّياِميَ ،وُيْك َ
َتَرْو َ
نعم ،فحين رجل مظهر العدل ذلك الزعيم الشفيق والرؤوف ،وحين غادر الناس تلك
» .4هدو« :على وزن غلو بمعنى السكون وعدم القدرة على الحركة.
] [ 459
الكنوز العلمية التي كانت تجري على لسان المام )عليه السلم( وحل محّله جبابرة بني ُامية الذي ل يجيدون
سوى لغة الظلم والجور ول يفكرون سوى بأهوائهم وغرائزهم الحيوانية وأراقوا دماء البرياء ،آنذاك فهم
المسلمون من فقدوا ،وأية خسارة تكبدوا.
وبناءًا على تقدم فالتعبير بغد ل يثير حسب ظاهر العبارة إلى لعالم البرزخ ول القيامة )كما ذهب إلى ذلك بعض
شّراح نهج البلغة( ،بل إشارة إلى الّيام السوداء والمريرة التي مّرت على المسلمين بعد شهادة أميرالمؤمنين
علي)عليه السلم(.
لِقي« ،سواء كانت بمعنى لقاء ملئكة الموت أو ال سبحانه فهى تفيد عدم تعلق روحه صد ِللّت َ
والعبارة »ُمْر ِ
المقّدسة سلم ال عليه بهذا العالم المادي الزائل ،بل كان متعلقًا بالعالم العلوي والملئكة والذات اللهّية المقّدسة،
ب الكعبة ،والشاهد الناصع على ذلك قوله )عليه وضربة ابن ملجم كانت المقدمة لذلك الفوز العظيم ولقاء ر ّ
ب الَكعَبِة«.
ت َوَر ّ
السلم(حين ضربُ» :فز ُ
—–
] [ 460
] [ 461
الخطبة)150 (1
خطَبة لُه )عليه السلم(
ن ُ
َوِم ْ
القسم الول :يتحدث عن فئة ظلت الطريق القويم وإتجهت نحو النحراف ،ثم تحدث عن إمامة أهل البيت)عليهم
لمة ،المامة والزعامة التي تذلل الصعاب وتحرر
السلم(الذين يرون الفتن بمصابيح الهداية وينهضون بهداية ا ُ
لمم.
اُ
القسم الثاني :تحدث عن ضعاف اليمان الذين يسبحون في الفتن والظلل إثر إتباع أهواء النفس ،فئة أخرى
راسخة اليمان وهى تجابه الكفر والشرك وقد نالت القرب اللهي.
القسم الثالث :الذي أشار إلى الفراد الذين تراجعوا القهقري بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله( وقطعوا أواصر
اليمان وجانبوا أولياء ال سبحانه والتحقوا بأعدائه وقد اقتلعوا ُاسس الولية وحولوها إلى غير موضعها.
—–
.1سند الخطبة:
السند الوحيد الذي ورد في كتاب مصادر نهج البلغة هو كتاب المسترشد للطبري الذي نقل أقسامًا من أخر هذه الخطبة باختلف،
ن هذه الخطبة أطول مما نقل المرحوم السيد الرضي وقد إكتفى السيد الرضي )رحمه ال( حسب طريقتهويفهم من رواية الطبري أ ّ
ببعض مقاطعها )مصادر نهج البلغة .(2/337
] [ 462
] [ 463
القسم الول
صٌدَ ،ولَن ُمْر َ جُلوا َما ُهَو َكاِئ ٌ سَتْع ِ
ل َت ْشِد .فَ َب الّر ْ يَ ،وَتْركًا ِلَمَذاِه ِ ك اْلَغ ّساِل ِظْعنًا ِفي َم َ ل َ شَما ً خُذوا َيِمينًا َو ِ »َوَأ َ
غد! َيا شيِر َ ن َتَبا ِ
ب اْلَيْوَم ِم ْ
ن َأْدَرَكُه َوّد َأّنُه َلْم ُيْدِرْكُهَ .وَما َأْقَر َ جل ِبَما ِإ ْ سَتْع ِ
ن ُم ْ جيُء ِبِه اْلَغُدَ .فَكْم ِم ْ طُئوا َما َي ِ سَتْب ِ
َت ْ
سَراج ُمِنير، سِري ِفيَها ِب ِ ن َأْدَرَكَها ِمّنا َي ْ
ن َم ْ ل َوإِ ّ
نَ .أ َ
ل َتْعِرُفو َ طْلَعِة َما َ ن َ عودَ ،وُدُنّو ِم ْ ل َمْو ُن ُوُروِد ُك ّ َقْوِم ،هَذا ِإّبا ُ
عِ
ن سْتَرة َ صْدعًاِ ،في ُ ب َ شَع َ شْعبًاَ ،وَي ْع َ صَد َق ِفيَها ِرّقاَ ،وَي ْ ل ِفيَها ِرْبقًاَ ،وُيْعِت َ حّ نِ ،لَي ُحي َصاِل ِ
ل ال ّ عَلى ِمَثا ِ حُذو ِفيَها َ َوَي ْ
صاُرُهْم،
ل َأْب َ جَلى ِبالّتْنِزي ِل ُت ْ
صَ ن الّن ْ حَذ اْلَقْي ِشْ
ن ِفيَها َقْوٌم َ حَذ ّ شَ ظَرُهُ .ثّم َلُي ْف َأَثَرُه َوَلْو َتاَبَع َن َ
صُر اْلَقاِئ ُ ل ُيْب ِ س َالّنا ِ
ح!«. صُبو ِحْكَمِة َبْعَد ال ّ س اْل ِن َكْأ َ ساِمِعِهْمَ ،وُيْغَبُقو َ سيِر ِفي َم َ َوُيْرَمى ِبالّتْف ِ
—–
الشرح والتفسير
ن هذه الخطبة بالمجموع تتكهن بحوادث المستقبل وتفيد القرائن والعبارات الواردة فيها ،أنّ
كما ورد سابقًا فا ّ
المام )عليه السلم( قد أشار إلى الحوادث ما قبل ظهور المام المهدي)عليه السلم(ومن ثم قيامه المبارك.
جُلوا َما
سَتْع ِ
ل َت ْ
شِدَ .ف َ
ب الّر ْ
يَ ،وَتْركًا ِلَمَذاِه ِ
ك اْلَغ ّ
ساِل ِ
ظْعنًا ِفي َم َ
ل َشَما ًخُذوا َيِمينًا َو ِفقد قال المام )عليه السلم(َ» :وَأ َ
جيُء ِبِه اْلَغُد«.طُئوا َما َي ِ سَتْب ِ
ل َت ْ
صٌد)َ ،(1و َ
ن ُمْر َ
ُهَو َكاِئ ٌ
» .1مرصد« :من مادة رصد على وزن »صمد« تعني في الصل مراقبة الشيء ،ويطلق المرصد على الشيء الذي يراقب وينتظر.
] [ 464
ن الن أوان تحقق ما وعدتم به )من ظهور الفتن والبلبل وسلطة الظلمة وزيادة الضغط ل بأ ّثم خاطب الناس قائ ً
ن«.ل َتْعِرُفو َ
طْلَعِة َما َ
ن َ
عودَ ،وُدُنّو ِم ْ
ل َمْو ُ
ن)ُ (2وُروِد ُك ّ
على المظلومين(َ» :يا َقْوِم ،هَذا ِإّبا ُ
حُذو)
سَراج ُمِنيرَ ،وَي ْ
سِري ِفيَها ِب ِ ن َأْدَرَكَها ِمّنا َي ْ
ن َم ْل َوِإ ّ
ثم تحّدث بصورة أوضح عن هذا الظهور العظيم فقالَ» :أ َ
ن« ،ثم تطرق في مواصلته لحديثه إلى برامج ذلك المصلح الكبير بعبارات قصيرة حي َ صاِل ِل ال ّ عَلى ِمَثا ِِ (3فيَها َ
عِ
ن سْتَرة َصْدعًاِ ،في ُب َ شَع َشْعبًا)َ ،(6وَي ْ ع)َ (5 صَد َ
ق ِفيَها ِرّقاَ ،وَي ْ
ل ِفيَها ِرْبقًا)َ ،(4وُيْعِت َ حّ عميقة المعنى ،فقالِ» :لَي ُ
ظَرُه«. ف)َ (7أَثَرُه َوَلْو َتاَبَع َن َ صُر اْلَقاِئ ُ
ل ُيْب ِ
س َالّنا ِ
فهذه العبارات تنطبق تمامًا على قضية ظهور المهدي )عليه السلم( ،لّنه يقطع أغلل السر ويطلق المظلومين
ويكسر شوكة الظالمين ويفرق جمعهم ،فهو يعيش لسنوات في الخفاء بحيث يعجز أعظم الباحثين عن العثور
عليه ،وقد أورد البعض من شّراح نهج البلغة عّدة تفاسير
» .1تباشير« :بمعنى البشارة وأوائل كل شيء )والذي يشير في الواقع بوروده( وتباشير الصبح بمعنى أوائله ،وذهب البعض إلى أ ّ
ن
تباشير جمع تبشير ،ولكن يستفاد من تعبيرات البعض أّنها مفرد أو جمع ل مفرد له.
» .4ربق« :بكسر فسيكون حبل فيه عّدة هرا ،كل عروة ربقة تشّد فيه البهم.
» .5يصدع« :من مادة »صدع« تعني في اللغة مطلق الشق ،أو شق الجسام المحكمة ،كما وردت بمعنى الظهار حيث يظهر باطن
الشيء بالشق.
» .6شعب« :بمعنى جماعة عظيمة من الناس وتستعمل اليوم بمعنى اُلمة.
» .7قائف« :من مادة »قوف« على وزن خوف بمعنى البحث عن آثار الشيء ،ويقال القائف لمن يتتبع آثار الشياء أوالفراد ،وهذا
هو معنى معرفة القيافة.
] [ 465
ن شارح نهج البلغة ابن أبي الحديد المعروف بتعصبه بالنسبه لغلب المسائل المرتبطة والجدير بالذكر أ ّ
ن المراد بهاسَراج ُمِنير« ،إلى أ ّ
سِري ِفيَها ِب ِ
ن َأْدَرَكَها ِمّنا َي ْ
ن َم ْ
بالمامة ،صّرح في شرحه للعبارة المذكورةَ» :وِإ ّ
مهدي آل محمد )صلى ال عليه وآله( ،كماترى إنطباق سائر الصفات المذكورة عليه ،وإن كان اعتقاد العاّمة
بالنسبة للمام المهدي )عليه السلم( أّنه يولد في آخر الزمان).(1
ن)(2 حَذ ّ
شَ
ثم أشار في ختام هذا المقطع من الخطبة إلى أصحاب المام المهدي )عليه السلم( وأوصافهمُ» :ثّم َلُي ْ
حْكَمِة
س اْل ِ
ن)َ (4كْأ َ ساِمِعِهْمَ ،وُيْغَبُقو َ
سيِر ِفي َم َ
صاُرُهْمَ ،وُيْرَمى ِبالّتْف ِ
ل َأْب َ
جَلى ِبالّتْنِزي ِ
ل ُت ْ
صَن) (3الّن ْ
حَذ اْلَقْي ِ
شِْفيَها َقْوٌم َ
ح!«. صُبو ِ
َبْعَد ال ّ
ن أصحاب المام المهدي )عليه السلم( هم من الرجال الشجعان والعلماء الذين أعدوا ويستفاد من العبارات إلى أ ّ
سلفًا وعملية بنائهم مستمرة متواصلة ،وقلوبهم نابضة بآيات القرآن وتفسير كلمات ا سبحانه ،وهم دائموا التعلم
صباح مساء ويزدادون إستعدادًا وتأهبًا ،ولكن من هذا الذي أعدهم مسبقًا؟ هل حصل ذلك بأنفسهم أو لديهم بعض
الساتذة الذين أمروا باعدادهم؟ أم لرتباطهم بإمامهم ومعلمهم الغائب؟ القضية ليست واضحة لدينا بالضبط،
ولكن على كل حال أّنهم أفراد أعدوا للمساعدة في هذه الثورة العظيمة حتى وصفهم ابن أبي الحديد بالعرفاء،
فممن جمع فيهم الزهد والحكمة والشجاعة فهم أصحاب ولي ال الذي إصطفاه).(5
—–
» .2ليشحذن« :من مادة »شحذ« تعني في الصل حّد السكين ،إّل أّنها وردت بمعنى حّد الذكاء والستعداد.
» .3القين« :بمعنى الحداد ،ولهذه المفردة معنى مصدري يعني الحدادة والعداد.
» .4يغبقون« :من مادة غبوق بمعنى يسقو بالماء في مقابل صبوح بمعنى يشرب وقت الصباح ومصدرها غبق على وزن غبن.
] [ 466
تأّمل
قطعية قيام المهدي الموعود )عليه السلم(
وردت في هذه الخطبة الشريفة في الفصل الشابق ـ كسائر خطب نهج البلغة ـ البشارة بظهور المام المهدي
)عليه السلم( ،البشارة التي وصلتنا من خلل الروايات المتواترة عن رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،ومن هنا
إتفق علماء السلم من الفريقين على هذا المر ،ولم يشذ سوى النزر اليسير الذين يعانون من انحراف فكري،
حتى سطر أبرز علماء العاّمة كتبًا تحت عنوان تواتر روايات المهدي )عليه السلم().(1
ويستفاد من هذه الخطبة كأغلب روايات النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( وأئمة أهل البيت)عليهم السلم(
أمران:
ن هذا الظهور المقّدس بهدف إزالة بساط الظلم ونشر التوحيد والعدل سيكون في زمان يعم فيه الفسادالول :أ ّ
ل الناس الظلم والجور وتغلق طرق الصلح وتثبت جميع المدارس والقوانين البشرية فشلها العالم ،أي يم ّ
وهزيمتها ،وهذا ما يضاعف من استقبال تلك الحكومة اللهّية.
ن أصحاب المهدي)عليه السلم( وبهدف إجراء هذا المشروع العالمي النساني العظيم هم من الفراد الثاني :أ ّ
الشجعان والعلماء والحلماء والرهن لمثتال الوامر.
ونختتم هذا البحث بحديث عن الصحابي المعروف أبي سعيد الخدري في مسند أحمد بن حنبل قال :قال رسول ال
عتَرِتي َأو ِمن
ن ِ
ل ِم ْ
ج َرج ٌ
عدوانًا ،قالُ :ثّم َيخُر ُ
ظلَمًا َو ُ
ض ُلر ُ حّتى َتمَتل ا َعُة َسا َ )صلى ال عليه وآله(» :ل َتُقوُم ال ّ
عدوانًا«).(2ظلمًا َو ُ
ت ُل َكَمال ُمِلَئ ْعد ً طًا َو َ
لها ِقس َ
ل َبيِتي َيم ُ
َأه ِ
كما ورد مثل هذا المعنى باختلف طفيف في سنن أبي داود).(3
—–
.1ومن ذلك كتاب للعالم المعروف الشوكاني تحت عنوان التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر )راجع كتاب نفحات القرآن
.(10/423
] [ 467
القسم الثاني
—–
الشرح والتفسير
ن الضمائر التي وردت في هذا القسم والوصاف ل اختلف شّراح نهج البلغة في هذا القسم من الخطبة وذلك ل ّ
ن عدم النسجام هذا يرتبط تبد منسجمة ،ومن هنا قال بعض الشّراح بوجود تقدير في العبارات ،واعتقدوا بأ ّ
إختيار السيد الرضي )رضي ال عنه( ،فلعل عدم النسجام هذا يزول لو نقل المرحوم جميع الخطبة ،على كل
ن المام )عليه السلم( نظر إلى ناس العصر الجاهلي ومن ثم عصر حال ما يبدو مناسبًا في تفسير هذا القسم هو أ ّ
الظهور النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( ،فقسم أهل ذلك الزمان إلى ثلث طوائف :الضالون ،وضعاف
جُبوا
سَتْو ِ
يَ ،وَي ْ
خْز َ
سَتْكِمُلوا اْل ِ
لَمُد ِبِهْم ِلَي ْ
ل ا َْ
طا َ
اليمان ،والمؤمنون الشجعان الشداء ،فقال بشأن الطائفة الولىَ» :و َ
اْلِغَيَر).«(1
نعم ،فأحيانًا يترك ال الفراد الذين يصرون على سلوك سبيل العصيان والطغيان ليبلغوا قمة الفضحية فيستوجبوا
العقاب اللهي.
» .1غير« :جمع »غيرة« بكسر ففتح بمعنى حوادث الدهر والتغيرات التي توجب تغير النعم ،وقال البعض غير مفرد ول جمع.
] [ 468
وقد أشارت الشارت القرآنية إلى هذه الطائفة في عّدة موارد واصطلحت على عقابهم بالستدراج .ثم تحّدث عن
ح)(3ن َلَقا ِعْشاُلوا)َ (2 نَ ،وَأ َ
ح قَْوٌم ِإَلى اْلِفَت ِ
سَتَرا َ
لَ ،وا ْجُ لَق) (1ا َْ خَلْوَل َ
حّتى ِإَذا ا ْ
الطائفة الثانية والثالثة فقالَ » :
ع ُمّدِة
طا َ
ضاِء اْنِق َ
ق َواِرُد اْلَق َ
حّتى ِإَذا َواَف َق; َ حّ سِهْم ِفي اْل َ
ل َأْنُف ِ
ظُموا َبْذ َسَتْع ِ
صْبِرَ ،وَلْم َي ْ
ل ِبال ّ
عَلى ا ّ حْرِبِهْمَ ،لْم َيُمّنوا َ
َ
ظِهْم«.
عِ سَياِفِهْمَ ،وَداُنوا ِلَرّبِهْم ِبَأْمِر َوا ِ
عَلى َأ ْ
صاِئَرُهْم َ
حَمُلوا َب َ لِءَ ، اْلَب َ
وهكذا مّيز هذه الطوائف الثلث التي ل يخلو مجتمع من نظائرها ،وكل تسلك طريقها ،وقد قسمهم جمع من شّراح
ن ،«...اعتبروها إشارة إلى الصالحين الذين يتخذون ح َقْوٌم ِإَلى اْلِفَت ِ
سَتَرا َ
نهج البلغة إلى قسمين ،والعبارةَ» :وا ْ
جانب الصمت والتقية تجاه بعض الفتن في زمان معين حتى يحين موعد القيام ،والعبارةَ» :لْم َيُمّنوا «...معطوفة
عليها.
وكما أشرنا سابقًا فقد اختلف شّراح نهج البلغة بشأن هؤلء القوم ومن هم ُاولئك الفراد ومتى ينهضون ومن هو
زعيمهم وفي أي وقت يظهر.
ن ذلك هو زمان بني ُامية الذين يتسلطون بادىء المر على كافة البلد السلمية ويطردونذهب البعض إلى أ ّ
الخيار الصالحين من الساحة ويختفون أصوات المظلومين ،ولكن ل تمّر مّدة حتى تقوم طائفة ضدهم وتطيح
بسلطانهم وتقذف بهم في مزبلة التاريخ.
ويرى البعض الخر أّنهم أنصار المام المهدي )عليه السلم( الذين ينهضون بالمر بعد كل ذلك الفساد والظلم
ن تمل ظلمًا وجورًا ،ولكن بالنظر
ل بعد أ ّ
والبتعاد عن ال سبحانه بأمر من إمامهم فيملون الرض قسطًا وعد ً
إلى ما سيرد في المقطع الخر يبدو أّنها إشارة إلى ناس يعيشون في الجاهلية وقد سلكوا سبيل الفساد ،ثم نهض
عليهم ثلة من الصالحين التي تهب لنصرة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( فتصحي بما لها ونفسها حتى ينتشر
السلم في كل مكان.
—–
] [ 469
القسم الثالث
ج،
لِئ ِ
عَلى اْلَو َ
لَ ،واّتَكُلوا َ سُب ُ
غاَلْتُهُم ال ّ
بَ ،و َ
عَقا ِلْ عَلى ا َْ جَع َقْوٌم َعَلْيِه َوآِلِهَ ،ر َ
ل َ
صّلى ا ّسوَلُه َ ل َر ُ ضا ّحّتى ِإَذا َقَب َ »َ
ضِعِه.
غْيِر َمْو ِ سِهَ ،فَبَنْوُه ِفي َسا ِ
ص َأ َ
ن َر ّ عْب اّلِذي ُأِمُروا ِبَمَوّدِتِهَ ،وَنَقُلوا اْلِبَناَء َسَب َ
جُروا ال ّ حِمَ ،وَه َ غْيَر الّر ِ صُلوا َ َوَو َ
نآِ
ل سّنة ِم ْ
عَلى ُسْكَرِة َ حْيَرِةَ ،وَذَهُلوا ِفي ال ّ غْمَرةَ .قْد َماُروا ِفي اْل َ ضاِرب ِفي َ ل َ ب ُك ّطيَئةَ ،وَأْبَوا ُ خِ ل َ ن ُك ّ
َمَعاِد ُ
ن ُمَباِين«. طع ِإَلى الّدْنَيا َراِكنَ ،أْو ُمَفاِرق ِللّدي ِ ن ُمْنَق ِنِ :م ْ عْو َ
ِفْر َ
—–
الشرح والتفسير
واصل المام )عليه السلم( بحثه السابق عن العصر الجاهلي ومن ثم زمان قيام رسول ال )صلى ال عليه
وآله(وإنبثاق الدعوة السلمية ،ليتحدث هنا عن العصر الذي يعقب النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( حيث رسم
جَع
عَلْيِه َوآِلِهَ ،ر َ
ل َ
صّلى ا ّسوَلُه َل َر ُ ضا ّ
حّتى ِإَذا َقَب َ
صورة واضحة عنه وأزاح الستار ليكشف الحقائق فقالَ » :
ب اّلِذي
سَب َ جُروا ال ّحِمَ ،وَه َ
غْيَر الّر ِ
صُلوا َ
ج)َ ،(2وَو َ لِئ ِ
عَلى اْلَو َ
لَ ،واّتَكُلوا َ
سُب ُ
غاَلْتُهُم) (1ال ّ
بَ ،و َ
عَقا ِ
لْعَلى ا َْ َقْوٌم َ
ُأِمُروا ِبَمَوّدِتِه«.
ب« ،العودة إلى الجاهلية وإحياء سنن ذلك الزمان والذي ظهر للسف
عَقا ِ
لْعَلى ا َْ
جَع َقْوٌم َ
المراد من العبارةَ» :ر َ
في المجتمع السلمي بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله( ،فقد استحوذ الطالحون على
» .1غالتهم« :من مادة »غول« على وزن قول تعني في الصل الفساد الذي ينفذ في الشيء بصورة خفية ،ومن هنا يقال غيلة
للغتيال والقتل السري ،ووردت هذه المفردة بمعنى الهلكة والتضاد بعوامل خفية ،ولما كانت الضللة بمعنى الهلكة المعنوية فقد
جاءت بهذا المعنى وهو المراد في العبارة.
» .2ولئج« :جمع »وليجة« بمعنى نظير ومثيل وشبه وخاصة الرجل من أهله.
] [ 470
ب اّلِذي ُأِمُروا ِبَمَوّدِتِه« ،تأكيد آخر على هذا المعنى في أّنهم مأمورون بمودة أهل
سَب َ
جُروا ال ّ
والعبارةَ» :وَه َ
ل أّنهم تركوهم واتبعوا غيرهم. البيت)عليهم السلم(واّتباع منهجهم ،وإ ّ
ص)(2
ن َر ّ
عْ
ثم خاض المام )عليه السلم( بصراحة أبعد بشأن الخلفة وتغيير أساسها فقالَ» :وَنَقُلوا اْلِبَناَء َ
ن النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( عين خليفته مرارًا صراحة وكناية ضِعِه« ،رغم أ ّ
غْيِر َمْو ِ
سِهَ ،فَبَنْوُه ِفي َ
سا ِ
َأ َ
فقال ،تمسكوا بالقرآن والعترة ،لكّنهم هّدموا هذا البنيان ونقلوه إلى موضع هش آخر.
ن ُكلّ ثم تطرق المام )عليه السلم( في ختام الخطبة إلى صفات العامل الصلي وراء ذلك التغيير فقالَ» :مَعاِد ُ
ن:
عْو َل ِفْر َنآِ سّنة ِم ْ
عَلى ُ
سْكَرةِ َ
حْيَرِةَ ،وَذَهُلوا ِفي ال ّ
غْمَرة)َ .(3قْد َماُروا)ِ (4في اْل َ ضاِرب ِفي َ ل َ ب ُك ّ طيَئةَ ،وَأْبَوا ُ خَِ
ن ُمَباِين«.طع ِإَلى الّدْنَيا َراِكنَ ،أْو ُمَفاِرق ِللّدي ِ ن ُمْنَق ِ
ِم ْ
فقد بّين المام )عليه السلم( هذه الصفات الخمس لهم ليشير إلى انحراف أفكارهم وأعمالهم من
» .2رص« :بمعنى الصاق شيء بآخر ويطلق المرصوص على كل بناء محكم ،ورص العبارة المذكورة بمعنى مرصوص ،وعبارة
المام رص أساسه من قبيل إضافة الصفة على الموصوف يعني الساس المحكم للولية.
» .3غمزة« :من مادة غمز على وزن أمر بمعنى إزالة آثار الشيء ،ثم اطلق على الماء الوفير الذي يغطي شيئًا ويزيل آثاره ،وفي
الخطبة إشارة إلى الفراد الذين غطوا في الغفلة والضللة.
» .4ماروا« :من مادة »مور« على وزن فور بمعنى الحركة السريعة والضطراب.
] [ 471
الجذور ،فهم أفراد فاسدون ومفسدون ومغرورون وغافلون وغارقون في الدنيا ومجانبون لدين الحق ،وقد شّبههم
المام )عليه السلم( بآل فرعون ،وأحدى صفات آل فرعون أّنهم قسموا المجتمع إلى قسمين :القباط والسباط،
أو بعبارة أخرى آل فرعون وبني اسرائيل ،وقد تمتع الفريق الول بكافة المتيازات في البلد )مصر( ومرغوا
ل ِفي
عَن َ
عْو َن ِفْر َُانوف الفريق الثاني بالتراب ،فكانوا يقتلون رجالهم ويسبون نسائهم وملوا الرض فسادًاِ) :إ ّ
ن().(1 سِدي َ
ن اْلُمْف ِ
ن ِم ْ
ساَءُهْم ِإّنُه َكا َ
ى ِن َ
حِ
سَت ْ
ح َأْبَناَءُهْم َوَي ْ
طاِئَفًة ِمْنُهْم ُيَذّب ُ
ف َ
ضِع ُ
سَت ْ
شَيعًا َي ْ
ل َأْهَلَها ِ
جَع َ
ض َو َ
لْر ِ
ا َْ
فقد اعتمد خط النفاق الجاهلي بعد رسول ال )صلى ال عليه وآله( ذات السنة الفرعونية ،فقد اقتصرت كافة
إمتيازات البلد السلمية على بني ُامية ولم يكن نصيب شيعة علي )عليه السلم( سوى القتل »تحت كل حجر
ومدر« والتشريد والحبس والتعذيب ،وقد ملؤا العالم السلمي بالفساد.
—–
تأّمل
تعّد هذه الخطبة من أقوى الخطب التي تدافع عن ولية أهل البيت)عليهم السلم( وإن مّر عليها بعض شّراح نهج
البلغة مرور الكرام ،فقد أعلن المام )عليه السلم( صراحة وجود حركة رجعية بعد رحيل رسول ال )صلى
ال عليه وآله( ،وأساسها إسقاط ولية أهل البيت)عليهم السلم(وضرب الوصايا المؤكدة للنبي
] [ 472
الكرم )صلى ال عليه وآله( بهذا الخصوص ،وأفضل محمل لها يتمثل بـ »الجتهاد مقابل النص« وعدم
ن مؤججي نيران اعتبارهم وصايا النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( لمصلحة المسلمين ،ولكن على كل حال فا ّ
تلك المعركة هى العناصر المعروفة في الجاهلية وخصوم الدعوة كأبي سفيان وأعوانه الذين نفذوا تدريجيًا إلى
الخلفة السلمية وتقدموا إلى الصفوف المامية بعد أن كانوا من المؤخرين ،فسيطروا على كل شيء وإرتكبوا
من المفضائع ما ليس له مثيل في التاريخ أو قل مثيله ،لكن الخطبة تشير بصورة دقيقة إلى نهجهم ومسارهم
وبالتالي عاقبتهم.
ن ابن أبي الحديد المعروف بتعصبه في مسألة خلفة النبي الكرم )صلى ال عليه وآله(والخلفاء والجدير بالذكر أ ّ
ن المام )عليه السلم( قصد بهذه الخطبة مسألة الخلفة والمامة غير أّنه الوائل قد اعترض صراحة ليقول بأ ّ
عَلْيِه َوآِلِه«
ل َصّلى ا ّسوَلُه َ ل َر ُ ضا ّحّتى ِإَذا َقَب َسعى بتكلف ليراها مختصة بزمان بني ُامية ،ثم يفصل العبارةَ » :
سرها لما بعد أربعين سنة) ،(1وهو الضعف الذي ل يخفى على أحد ،وذلك ب« ،ويف ّ عَقا ِ
لْعَلى ا َْ جَع َقْوٌم َعن »َر َ
ن هذه الحركة على العقاب قد بدأت مباشرة بعد رحيل النبي الكرم ن صريح كلم المام )عليه السلم( هو أ ّ لّ
ن هذه ن الجنايات بني ُامية جذور في عصر الخلفاء والطريف في المر أ ّ )صلى ال عليه وآله( ،والتاريخ يشهد بأ ّ
ن النبي الشارة وردت في »صحيح البخاري« الذي يعتبر من المصادر الروائية المعتبرة لدى العاّمة في أ ّ
ن
ل ِم ْ جا ٌ
ض ِر َ
حو َ ي ال َ عَل ّ
الكرم)صلى ال عليه وآله(أخبر عن الحوادث الليمة من بعده ،حيث قالَ» :يِرُد َ
عَلى َأدَباِرِهم ك ِإّنُهم ِإرَتّدوا َ
ك ِبمـا َأحَدُثوا َبعَد َ
علَم َل َ
كل ِ
لِ ،إّن َ
حاِبيَ ،فَيُقو ُب َأص َلَ :يا َر ّ
عْنُه َفَأُقو ُ
حّللَو َ
حاِبي َفُي َ
َأص َ
الَقهَقرى«) .(2والعبارة إرتدوا جديرة بالتأمل.
ل جميعاً
والجدير بالذكر أّنه وردت عّدة روايات بهذا الخصوص وفي هذا الباب في صحيح البخاري والتي تد ّ
على قلق النبي الكرم )صلى ال عليه وآله( بعد رحيله من أعمال طائفة من أصحابه ،وهذا شاهد بّين على ما
ن النبي الكرمورد في هذه الخطبة بشأن الحداث الليمة بعد رحيل النبي )صلى ال عليه وآله( ،والواقع هو أ ّ
)صلى ال عليه وآله( أراد بهذا البيان تحذير أصحابه في أن يراقبوا أنفسهم وأّنهم
.1يمكن الوقوف على شرح كلم ابن أبي الحديد واعترافاته وتوجيهاته الضعيفة في شرح نهج البلغة .9/134
] [ 473
مؤاخذون يوم القيامة على أي خلف يصدر منهم فيسعوا لن ل يكونوا من تلك الطائفة.
—–
حسن الختام
انتهى المجلد الخامس من هذا الكتاب بالخطبة المأة والخمسين وهى نهاية رائعة حيث تتحدث عن ولية أهل
البيت)عليهم السلم(في أّيام الولية ،الولية بفضلها الصراط المستقيم وسبيل النجاة والمانعة من كل انحراف
وزلل.
الّلهم ثبتنا على وليتهم ،واحشرنا بوليتهم ،واجعلنا من أتباع منهجهم ،إّنك حميد مجيد ،وبالجابة جدير وعلى كل
شيء قدير.