You are on page 1of 26

‫دولة المرابطين بالندلس‬

‫دولة المرابطين‬
‫المرابطون‪ ،‬اللمتونيون‪ ،‬الملثمون‪ :‬سللة بربرية أمازيغية حكمت في المغرب‪ ،‬موريتانيا‪ ،‬غرب الجزائر و الندلس مابين أعوام ‪1060-1056‬‬
‫و حتى ‪ 1147‬م‪.‬‬

‫المقر‪ :‬فاس ‪ 1086-1056‬م‪ ،‬مراكش منذ ‪ 1086‬م‪.‬‬

‫يرجع أصل المرابطين إلى قبيلة لمتونة البربرية كما أن أصل التسمية يرجع إلى أتباع الحركة الصلحية التي أسسها عبد ال بن ياسين و الذي‬
‫قاد حركة جهادية لنشر الدين و كان رجالها يلزمون الرباط بعد كل حملة من حملتهم الجهادية‪ ،‬بدأت الحركة بنشر الدعوة في الجنوب ‪-‬إنطلقاً‬
‫من موريتانيا‪ -‬و أفلحوا في حمل بلد غانه على السلم و من ثمة باقي مناطق الصحراء الغربية‪ ،‬في عهد يوسف بن تاشفين (‪ 1106-1060‬م)‬
‫تم غزو المغرب و غرب الجزائر ثم بناء مدينة مراكش ‪ 1062‬م‪.‬‬

‫قاد عام ‪ 1086‬م أولى حملته في الندلس و إنتصر على النصارى في معركة الزلقة الشهيرة‪ .‬بين أعوام ‪ 1094-1089‬م عاد يوسف بن‬
‫تاشفين مرة أخرى إلى الندلس و لكن هذه المرة للقضاء على ملوك الطوائف‪ .‬في عهد علي بن يوسف (‪ )1143-1106‬تعرض إلى هزائم على‬
‫أيدي النصارى في الندلس ثم إستولى الموحدون على مملكته في غرب إقريقية ‪-‬منذ ‪ 1030‬م‪ . -‬إلى أن قضى هؤلء على آخر المراء بعد‬
‫إستيلئهم على مراكش عام ‪ 1147‬م‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫قائمة المراء‪:‬‬

‫الحكم‬ ‫الحياة‬ ‫الحاكم‬


‫‪1062-‬‬ ‫‪1107-....‬‬ ‫يوسف بن تاشفين بن تالكاكين‬
‫‪1‬‬
‫‪1107‬‬
‫‪1107-‬‬ ‫‪1143-....‬‬ ‫علي بن يوسف‬
‫‪2‬‬
‫‪1143‬‬
‫‪1143-‬‬ ‫‪1146-....‬‬ ‫تاشفين بن علي‬
‫‪3‬‬
‫‪1146‬‬
‫‪1146-‬‬ ‫‪....-....‬‬ ‫إبراهيم بن تاشفين‬
‫‪4‬‬
‫‪1146‬‬
‫‪1146-‬‬ ‫‪1147-....‬‬ ‫إسحق بن علي بن يوسف بن تاشفين‬
‫‪5‬‬
‫‪1147‬‬
‫‪1062-‬‬ ‫‪....-....‬‬ ‫يوسف بن تاشفين بن تالكاكين (حكم في فاس فقط)‬
‫‪1063‬‬

‫الملثمون في ليبيا‬

‫خامسا ‪" :‬دولة المرابطين" أشهر دولهم بعد السلم ‪ :‬الخبر عن دولة المرابطين من لمتونة وما كان لهم بالعدوتين من الملك وأولية ذلك‬
‫ومصايره ‪ .‬كان هؤلء الملثمون في صحاريهم كما قلناه ‪ ،‬وكانوا على دين المجوسية إلى أن ظهر فيهم‬
‫السلم لعهد المائة الثالثة ‪ .‬وجاهدوا جيرانهم من السودان عليه ؛ فدانوا لهم واستوثق لهم الملك‪ .‬ثم افترقوا‬
‫وكانت رياسة كل بطن منهم في بيت مخصوص‪ .‬فكانت رياسة لمتونة في بني ورتانطق بن منصور بن‬
‫مصالة بن المنصور بن مزالت بن أميت بن رتمال بن تلميت وهو لمتونة‪ .‬ولما أفضت الرياسة إلى يحيى بن‬
‫إبراهيم الكندالي ‪ ،‬وكان له صهر في بني ورتانطق هؤلء وتظاهروا على أمرهم ‪ ،‬وخرج يحيى بن إبراهيم‬
‫لقضائه الحج في رؤساء من قومه في سنة أربعين وأربعمائة (‪440‬هـ) ‪ ،‬فلقوا في منصرفهم بالقيروان شيخ‬
‫المذهب المالكي أبو عمران الفاسي ‪ ،‬واغتنموا ما متعوا به من هديه وما شافههم به من فروض أعيانهم من‬
‫فتاويه‪ .‬وسأله المير يحيى أن يصحبهم من تلميذه من يرجعون إليه في نوازلهم وقضايا دينهم‪ .‬فندب تلميذه‬
‫إلى ذلك حرصاً على إيصال الخير إليهم ‪ ،‬لما رأى من رغتهم فيه فاستوعبوا مسغبة بلدهم‪ .‬وكتب لهم الفقيه‬
‫أبو عمران إلى الفقيه محمد وكاك بن زلوا اللمطي بسجلماسة من الخذين عنه ‪ ،‬وعهد إليه أن يلتمس لهم من يثق بدينه وفقهه ويروض نفسه على‬
‫مسغبة أرضهم في معاشه ‪ .‬فبعث معهم عبد ال بن ياسين بن مكو الجزولي ‪ ،‬ووصل معهم يعلمهم القرآن ويقيم لهم الدين‪ .‬ثم هلك يحيى بن‬
‫إبراهيم وافترق أمرهم واطرحوا عبد ال بن ياسين ‪ ،‬واستصعبوا علمه وتركوا الخذ عنه لما تجشموا فيه من مشاق التكليف ؛ فأعرض عنهم‬
‫وترهب‪ .‬وتنسك معه يحيى بن عمر بن تلكاكين من رؤساء لمتونة وأخوه أبو بكر فنبذوا عن الناس في ربوة يحيط بحر النيل من جهاتها‬
‫ضحضاحاً في المصيف وغمراً في الشتاء ‪ ،‬فتعود جزراً منقطعة‪.‬‬

‫سبب تسميتهم بالمرابطين ‪ :‬فدخلوا في غياضها منفردين للعبادة وتسامع بهم من في قلبه مثقال حبة من خير فتسايلوا إليهم ودخلوا ولما كمل‬
‫معهم ألف من الرجالت ‪ ،‬قال لهم شيخهم عبد ال بن ياسين ‪ :‬إن ألفاً لن تغلب من قلة وقد تعين علينا القيام بالحق والدعاء إليه وحمل الكافة عليه‬
‫؛ فأخرجوا بنا لذلك فخرجوا وقتلوا من استعصى عليهم من قبائل لمتونة وكدالة ومسوفة حتى أنابوا إلى الحق واستقاموا على الطريقة وأذن لهم‬
‫في أخذ الصدقات من أموال المسلمين وسماهم بالمرابطين ‪ ،‬وجعل أمرهم في العرب إلى المير يحيى بن عمر ؛ فتخطوا الرمال الصحراوبة إلى‬
‫بلد درعة وسجلماسة فأعطوهم صدقاتهم وانقلبوا‪ .‬ثم كتب إليهم وكاك اللمطي بما نال المسلمين فيما إليه من العسف والجور من بني وانودين‬
‫أمراء سجلماسة من مغراوة‪ ،‬وحرضهم على تغيير أمرهم فخرجوا من الصحراء سنة خمس وأربعين وأربعمائة (‪445‬هـ) ‪ ،‬في عدد ضخم‬
‫ركباناً على المهارى أكثرهم وعمدوا إلى درعة ؛ل بل كانت هنالك بالحمى وكانت تناهز خمسين ألفًا ونحوها‪ .‬ونهض إليهم مسعود بن وانودين‬
‫أمير مغراوة وصاحب سجلماسة ودرعة لمدافعتهم عنها وعن بلده فتواقعوا وانهزم ابن وانودين وقتل واستلحم عسكره مع أموالهم واستلحمهم‬
‫ودوابهم وإبل الحمى ‪ ،‬التي كانت ببلد درعة‪ .‬وقصدوا سجلماسة فدخلوها غلباً وقتلوا من كان بها من فل مغراوة وأصلحوا من أحوالها وغيروا‬
‫المنكرات وأسقطوا المغارم والمكوس واقتضوا الصدقات واستعملوا عليها منهم وعادوا إلى صحرائهم‪.‬‬

‫وهلك يحيى بن عمر سنة سبع وأربعين (‪447‬هـ) وقدم وافتتح ماسة وتارودانت وجميع معاقله‪ .‬ثم افتتح مدينة أغمات سنة تسع وأربعين (‬
‫‪449‬هـ) ‪ ،‬وفر أميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوي إلى قادل واستضاف إلى بني يفرن بها ‪ ،‬ثم افتتح المرابطون بلد المصامدة بجبال‬
‫درن وجاسوا خللها سنة خمسين (‪450‬هـ) ‪ ،‬ثم أغزوا تادل فاستباحوها واستلحموا بني يفرن ملوكها وقتل معهم لقوط بن يوسف المغراوي‬
‫صاحب أغمات‪ .‬وتزوج امرأته زينب بنت إسحق النفراوية ‪ ،‬وكانت مشهورة بالجمال والرئاسة وكانت قبل لقوط عند يوسف بن علي بن عبد‬

‫‪2‬‬
‫الرحمن بن واطاس وكان شيخاً على وريكة وهزرجة بزمن هيلنة في دولة أمغارن في بلد المصامدة وهم الشيوخ‪ .‬وتغلب بنو يفرن على‬
‫وريكة وملكوا أغمات فتزوج لقوط زينب هذه ثم تزوجها بعده أبو بكر بن عمر كما ذكرنا‪.‬‬

‫ثم دعا المرابطين إلى جهاد برغواطة الذين كانوا بتامستا وإنفا وجهات الريف الغربي ‪ ،‬فكانت لهم فيهم وقائع وأيام واستشهد عبد ال بن ياسين‬
‫في بعضها سنة خمسين (‪450‬هـ) ‪ .‬وقدم المرابطون بعده سليمان بن عدو ليرجعوا إليه في قضايا دينهم‪ .‬واستمر أبو بكر بن عمر في إمارة قومه‬
‫على جهادهم ثم استأصل شأفتهم ومحا أثر دعوتهم من المغرب ‪ ،‬وهلك في جهادهم سليمان بن عدو سنة إحدى وخمسين (‪451‬هـ) لسنة من وفاة‬
‫عبد ال بن ياسين‪ .‬ثم نازل أبو بكر بن عمر مدينة لواتة وافتتحها عنوة وقتل من كان بها من زناتة سنة اثنتين وخمسين (‪452‬هـ)‪ .‬وبلغه وهو لم‬
‫يستتم فتح المغرب بعدما وقع من الخلف بين لمتونة ومسوفة ببلد الصحراء حيث أصل أعياصهم ووشائج أعراقهم ومنيع عددهم ؛ فخشي‬
‫افتراق الكلمة وانقطاع الوصلة وتلفى أمره بالرحلة‪.‬‬

‫ظهور يوسف بن تاشفين ‪ :‬أكد ذلك زحف بلكين بن محمد بن حماد صاحب القلعة إلى المغرب سنة ثلث وخمسين (‪453‬هـ) لقتالهم فارتحل أبو‬
‫بكر إلى الصحراء واستعمل على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين‪ ،‬ونزل له عن زوجه زينب بنت إسحق ولحق بقومه‪ .‬ورفع ما كان بينهم‬
‫من خرق الفتنة وفتح بابًا من جهاد السودان فاستولى على نحو تسعين مرحلة من بلدهم‪ .‬وأقام يوسف بن تاشفين بأطراف المغرب ونزك بلكين‬
‫صاحب القلعة فاس وأخذ رهنها على الطاعة وانكفأ راجعاً‪ .‬فحينئذ سار يوسف بن تاشفين في عسكره من المرابطين ودوخ أقطار المغرب‪ .‬ثم‬
‫رجع أبو بكر إلى المغرب فوجد يوسف بن تاشفين قد استبد عليه‪ .‬وأشارت عليه زينب أن يريه الستبداد في أحواله وأن يعد له متاع الصحراء‬
‫وماعونها ‪ ،‬ففطن لذلك المير أبو بكر وتجافى عن المنازعة وسلم له المر ورجع إلى أرضه ؛ فهلك لمرجعه سنة ثمانين وأربعمائة (‪480‬هـ) ‪.‬‬

‫يوسف بن تاشفين يتوج ملكا على المغرب ‪ :‬اجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين وملكوه عليهم ولقبوه أمير المسلمين ‪ .‬واختط‬
‫يوسف مدينة مراكش ‪ ،‬وكانت تحت بلد المصامدة ‪ ،‬الذين هم أشد أهل المغرب قوة وأمنعهم معقل ‪ ،‬ونزلها بالخيام وأدار سورها على مسجد‬
‫وقصبة صغيرة لختزان أمواله وسلحه وكمل تشييدها وأسوارها ابنه من بعده سنة ست وعشرين وخمسمائة (‪526‬هـ)‪ .‬وجعل يوسف مدينة‬
‫مراكش لنزله لعسكره وللتمرس بقبائل المصامدة المصيفة بمواطنهم بها في جبل درن فلم يكن في قبائل المغرب أشد منهم ول أكثر جمعاً‪ .‬ثم‬
‫صرف عزمه إلى مطالبة مغراوة وبني يفرن وقبائل زناتة بالمغرب وجذب الحبل من أيديهم وكشف ما نزل بالرعايا من جورهم وعسفهم ‪ .‬فقد‬
‫كانوا من ذلك على ألم‪.‬‬

‫ل قلعة فازاز وبها مهدي بن توالي من بني يحفش‪ .‬قال صاحب نظم‬ ‫حدث المؤرخون في أخبار مدينة فاس ودولتهم فيها بكثير منه؛ فنازل أو ً‬
‫الجواهر‪ :‬وهم بطن من زناتة وكان أبو توالي صاحب تلك القلعة ووليها هو من بعده فنازله يوسف بن تاشفين‪ .‬ثم استجاش به على فاس مهدي بن‬
‫يوسف الكزنابي صاحب مكناسة بما كان عدواً لصاحب فاس ؛ فزحف في عساكر المرابطين إلى فاس وجمع إليه معنصر ففض جموعه وارتحل‬
‫يوسف إلى فاس وتقرى منازلها وافتتح جميع الحصون المحيطة بها ‪ ،‬وأقام عليها أياماً قلئل وظفر بعاملها بكار بن إبراهيم فقتله‪ .‬ثم نهض إلى‬
‫صفروي فافتتحها وقتل من كان بها من أولد وانودين المغراوي ورجع إلى فاس فافتتحها صلحاً ‪ ،‬ثم خرج إلى غمارة ونازلهم وفتح كثيرًا من‬
‫بلدهم‪ .‬وأشرف على طنجة وبها سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة وبقية المراء من موالي الحمودية وأهل دعوتهما‪ .‬ثم رجع إلى‬
‫منازلة قلعة فازاز وخالفه معنصر إلى فاس فاستولى عليها وقتل واستدعى يوسف بن تاشفين مهدي بن يوسف صاحب مكناسة ؛ ليستجيش به‬
‫على فاس فاستعرضه معنصر في طريقه قبل أن تتصل بأيديهما وناجزه الحرب ففض جموعه وقتله وبعث برأسه إلى وليه ومساهمه في شدته‬
‫الحاجب سكوت البرغواطي‪ .‬واستصرخ أهل مكناسة بالمير يوسف بن تاشفين فسرح عساكر لمتونة إلى حصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا‬
‫المرافق عنها وألحوا بالقتال عليها فمسهم الجهد‪ .‬وبرز معنصر إلى مناجزة عدوه لحدى الراحتين فكانت الدائرة عليه وهلك‪ .‬واجتمع زناتة من‬
‫بعده على القاسم بن محمد بن عبد الرحمن من ولد موسى بن أبي العافية كانوا ملوكاً بتازا وتسول فزحفوا إلى عساكر المرابطين والتقوا بوادي‬
‫صفير فكان الظهور لزناتة‪.‬‬

‫واستلحم كثير من المرابطين واتصل خبرهم بيوسف بن تاشفين وهو محاصر لقلعة مهدي من بلد فازاز فارتحل سنة ست وخمسين ونزل عليها‬
‫عسكر من المرابطين وصار يتنقل في بلد المغرب فافتتح بني مراسن ثم فنزلوة ثم بلد ورغة سنة ثمان وخمسين‪ .‬ثم افتتح بلد غمارة سنة‬
‫ستين‪ .‬وفي سنة اثنتين وستين نازل فاس فحاصرها مدة ثم افتتحها عنوة وقتل بها زهاء ثلثة آلف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زناتة‬
‫حتى أعوزت مدافنهم فرادى فاتخذت لهم الخاديد وقبروا جماعات وخلص من نجا منهم من القتل إلى بلد تلمسان وأمر بهدم السوار التي كانت‬
‫فاصلة بين القرويين والندلسيين من عدوتيها وصيرها مصراً واحداً‪ .‬وأدار عليها السوار وحمل أهلها على الستكثار من المساجد ورتب‬
‫بناءها‪ .‬وارتحل سنة ثلث وستين إلى وادي ملوية فافتتح بلدها وحصون وطاط من نواحيها‪ .‬ثم نهض سنة خمس وستين إلى مدينة الدمنة‬
‫فافتتحها عنوة ثم افتتح حصن علودان من حصون غمارة‪ .‬ثم نهض سنة سبع وستين إلى جبال غياثة وبني مكود من أحواز تازا فافتتحها ودوخها‪.‬‬
‫ثم قسم المغرب عمالت على بنيه وأمراء قومه وذويه ثم استدعاه المعتمد بن عباد إلى الجهاد فاعتذر له بمكان الحاجب سكوت البرغواطي‬
‫وقومه من أولياء الدولة الحمودية بسبتة فأعاد إليه ابن عباد الرسل بالمشايعة إليهم فجهز إليهم قائده صالح بن عمران في عساكر لمتونة فلقيه‬
‫سكوت الحاجب بظاهر طنجة في قومه ومعه ابنه ضياء الدولة فانكشف وقتل الحاجب سكوت ولحق ابنه العزيز ضياء الدولة‪ .‬وكتب صالح بن‬
‫عمران بالفتح إلى يوسف بن تاشفين‪.‬‬

‫يوسف بن تاشفين في وسط المغرب ‪ :‬ثم أغزى المير يوسف بن تاشفين إلى المغرب الوسط سنة اثنتين وسبعين قائده مزدلي بن تبلكان بن‬
‫محمد بن وركوت في عساكر لمتونة ؛ لمحاربة مغراوة ملوك تلمسان يومئذ المير العباس ين يختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير بن محمد بن‬
‫خزر ‪ ،‬فدوخوا المغرب الوسط وصاروا في بلد زناتة وظفروا بيعلى بن المير العباسي فقتلوه وانكفأوا راجعين من غزاتهم‪ .‬ثم نهض يوسف‬
‫بن تاشفين سنة ثلث بعدها إلى الريف وافتتح كرسيف ومليلة وسائر بلد الريف وخرب مدينة نكور فلم تعمر بعد ثم نهض في عساكره‬
‫المرابطين إلى بلد المغرب الوسط ‪ ،‬فافتتح مدينة وجدة وبلد بني يزتاسن‪ .‬ثم افتتح مدينة تلمسان واستلحم من كان بها من مغراوة وقتل العباس‬
‫‪3‬‬
‫بن بختي أمير تلمسان وأنزل محمد بن المستوفى بها في عساكر المرابطين فصارت ثغرًا لملكه‪ .‬ونزل بعساكره واختط بها مدينة تاكرارت بمكان‬
‫محلته وهو اسم المحلة بلسان البربر‪.‬‬

‫ابن تاشفين في الجزائر ‪ :‬ثم افتتح مدينة تنس ووهران وجبل وانشريس إلى الجزائر ‪ ،‬وانكفأ راجعاً إلى المغرب فاحتل مراكش سنة خمس‬
‫وسبعين‪ .‬ولم يزل محمد بن تينعمر واليًا بتلمسان إلى أن هلك وولي بعده أخوه ‪.‬‬

‫الندلسيون يستنجدون بابن تاشفين ‪ :‬ثم إن الطاغية تكالب على بلد المسلمين ‪ ،‬وانتهز الفرصة فيها بما كان من الفرقة بين ملوك الطوائف‬
‫فحاصر طليطلة وبها القادر بن يحيى بن ذي النون ‪ ،‬حتى نالهم الجهد وتسلمها منه صلحاً سنة ثمان وسبعين على أن يملكه بلنسية فبعث معه‬
‫عسكرًا من النصرانية ‪ ،‬فدخل بلنسية وتملكها على حين مهلك صاحبها أبي بكر بن العزيز بين يدي حصار طليلة‪ .‬وسار الطاغية في بلد‬
‫الندلس حتى وقف بفرضة المجاز من صريف وأعيا أمره أهل الندلس واقتضى منهم الجزية فأعطوها‪ .‬ثم نازل سرقسطة وضيق على ابن هود‬
‫بها وطال مقامه وامتد أمله إلى تملكها فخاطب المعتمد بن عباد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين منتجزًا وكاتبه أهل الندلس في كافة من العلماء‬
‫والخاصة ؛ فاهتز للجهاد وبعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فرضة المجاز فنازلها براً‪ .‬وأحاطت بها أساطيل ابن عباد بحراً‬
‫فاقتحموها عنوة في ربيع الخر سنة ست وسبعين ‪ ،‬وتقبض على ضياء الدولة وقيد إلى المغرب فقتله صبراً وكتب إلى أبيه بالفتح‪ .‬ثم أجاز ابن‬
‫عباد البحر في جماعته والمرابطين ولقيه بفاس مستنفراً للجهاد‪ .‬وأنزل له ابنه الراضي عن الجزيرة الخضراء لتكون رباطاً لجهاده فأجاز البحر‬
‫في عساكر المرابطين وقبائل المغرب ونزل الجزيرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة ‪ ،‬ولقيه المعتمد ابن عباد وابن الفطس صاحب بطليوس‪.‬‬
‫وجمع ابن أدفونش ملك الجللقة أمم النصرانية لقتاله ولقي المرابطين بالزلقة من نواحي بطليوس فكان للمسلمين عليه اليوم المشهور سنة إحدى‬
‫وثمانين‪ .‬ثم رجع إلى مراكش وخلف عسكرًا بالشبيلية لنظر محمد ومجون بن سيمونن بن محمد بن وركوت من عشيره ويعرف أبوه بالحاج‬
‫وكان محمد من بطانته وأعاظم قواد تكاليب الطاغية على شرق الندلس ولم يغن فيه أمراء الطوائف شيئاً ‪ ،‬فزحف إليه من سبتة ابن الحاج قائد‬
‫يوسمف بن تاشفين في عساكر المرابطين فهزموا جميع النصارى هزيمة شنيعة‪ .‬وخلع ابن رشيق صاحب مرسية وتمادى إلى دانية ففر علي بن‬
‫مجاهد أمامه إلى بجاية ونزل على الناصر بن علناس فأكرمه ووصل ابن جحاف قاضي بلنسية إلى محمد بن الحاج مغريًا بالقادر بن ذي النون‬
‫فأنفذ معه عسكرًا وملك بلنسية وقتل ابن ذي النون وذلك سنة خمس وثمانين ‪.‬‬

‫وانتهى الخبر إلى الطاغية فنازل بلنسية واتصل حصاره إياها إلى أن ملكها سنة خمس وثمانين ثم استخلصتها عساكر المرابطين وولى عليها‬
‫يوسف بن تاشفين المير مزدلي وأجاز يوسف بن تاشفين ثانية سنة ست وثمانين وتثاقل أمراء الطوائف عن لقائه لما أحسوا من نكيره عليهم لما‬
‫يسمون به عليهم من الظلمات والمكوس وتلحق المغارم فوجد عليهم وعهد برفع المكوس وتحرى المعدلة فلما أجاز انقبضوا عنه إل ابن عباد‬
‫فإنه بادر إلى لقائه وأغراه بالكثير منهم فتقبض على ابن رشيق فأمكن ابن عباد منه العداوة التي بينهما‪ .‬وبعث جيشاً إلى المرية ففر عنها ابن‬
‫صمادح ونزلى على المنصور بن الناصر ببجاية وتوافق ملوك الطوائف على قطع المدد عن عساكره ومحلته ‪.‬‬

‫ابن تاشفين يحصل على فتاوى الفقهاء بخلع أمراء الطوائف ‪ :‬أفتاه الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والندلس بخلعهم وانتزاع المر من‬
‫أيديهم ‪ ،‬وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق العلم مثل الغزالي والطرطوشي فعهد إلى غرناطة واستنزل صاحبها عبيد ال بن بلكين بن‬
‫باديس وأخاه تميمًا من مالقة بعد أن كان منهما مداخلة الطاغية في عداوة يوسف بن تاشفين‪ .‬وبعث بهما إلى المغرب فخاف ابن عباد عند ذلك منه‬
‫وانقبض عن لقائه وفشت السعايات بينهما‪ .‬ونهض يوسف بن تاشفين إلى سبتة فاستقر بها وعقد للمير سير بن أبي بكر بن محمد وركوت على‬
‫الندلس وأجازه فقدم عليها وقعد ابن عباد عن تلقيه ومبرته فأحفظه ذلك وطالبه بالطاعة للمير يوسف والنزول عن المر ففسد ذات بينهما‬
‫وغلبه على جميع عمله‪ .‬واستنزل أولد المأمون من قرطبة ويزيد الراضي من رندة وقرمونة واستولى على جميعها وقتلهم‪ .‬وصمد إلى إشبيلية‬
‫فحاصر المعتمد بها وضيق عليه واستنجد الطاغية فعمد إلى إستنقاذه من هذا الحصار فلم يغن عنه شيئًا وكان دفاع لمتونة مما فت في عضده ‪.‬‬

‫المرابطون يقتحمون إشبيلية ويقبضون على المعتمد بن عباد ‪ :‬واقتحم المرابطون إشبيلية عليه عنوة سنة أربع وثمانين‪ .‬وتقبض على المعتمد‬
‫وقاده أسيراً إلى مراكش ‪ ،‬فلم يزل في اعتقال يوسف بن تاشفين إلى أن هلك في محبسه بأغمات سنة سبعين وأربعمائة ‪ .‬ثم عمد إلى بطليوس‬
‫وتقبض على صاحبها عمر بن الفطس فقتله وابنيه يوم الضحى سنة تسع وثمانين بما صح عنده من مداخلتهم الطاغية وأن يملكوه مدينة‬
‫بطليوس ‪ ،‬ثم أجاز يوسف بن تاشفين الجواز الثالث سنة تسعين وزحف إليه الطاغية فبعث عساكر المرابطين لنظر محمد بن الحاج فانهزم‬
‫النصارى أمامه وكان الظهور للمسلمين‪ .‬ثم أجاز المير يحيى بن أبي بكر بن يوسف بن تاشفين سنة ثلث وتسعين وانضم إليه محمد بن الحاج‬
‫وسير بن أبي بكر واقتحموا عامة الندلس من أيدي ملوك الطوائف ولم يبق منها إل سرقسطة في يد المستعين بن هود معتصماً بالنصارى‪ .‬وغزا‬
‫المير مزدلي صاحب بلنسية إلى بلد برشلونة فأثخن بها وبلغ إلى حيث لم يبلغ أحد قبله ورجع‪.‬‬

‫سقوط ملوك الطوائف وصعود نجم ابن تاشفين ‪ :‬وانتظمت بلد الندلس في ملكة يوسف بن تاشفين وانقرض ملك الطوائف منها أجمع كأن لم‬
‫يكن ‪ ،‬واستولى على العدوتين واتصلت هزائم النصارى على يد المرابطين مراراً وتسمى بأمير المسلمين وخاطب المستنصر العباسي الخليفة‬
‫لعهده ببغداد وبعث إليه عبد ال بن محمد بن العرب المعافري الشبيلي وولده القاضي أبا بكر ‪ ،‬فتلطفا في القول وأحسنا في البلغ وطلبا من‬
‫الخليفة أن يعقد له على المغرب والندلس فعقد له وتضمن ذلك مكتوب الخليفة بذلك منقولً في أيدي الناس وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على‬
‫ما إلى نظره من القطار والقاليم‪.‬‬

‫وخاطبه المام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف بحكم ال‪ .‬ثم أجاز‬
‫يوسف بن تاشفين الجواز الرابع إلى الندلس سنة سبع وتسعين وقد كان ما قدمناه في أخبار بني حماد من زحف المنصور بن الناصر إلى تلمسان‬
‫سنة سبع وتسعين للفتنة التي وقعت بينه وبين تاشفين بن يتنعمر وافتتاحه أكثر بلدهم فصالحه يوسف بن تاشفين واسترضاه بعدول تاشفين عن‬
‫تلمسان سنة سبع وتسعين وبعث إليهما مزدلي من بلنسية وولي بلنسية عوضًا عنه أبا محمد ابن فاطمة وكثرت غزواته في بلد النصرانية‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫هلك يوسف بن تاشفين وتولي ابنه بعده ‪ :‬هلك يوسف على رأس المائة الخامسة ‪ ،‬وقام بالمر من بعده ابنه علي بن يوسف فكان خير ملك‬
‫وكانت أيامه صدرًا منها وادعة ودولته على الكفر وأهله ظهور وعزة وأجاز إلى العدوة ؛ فأثخن في بلد العدو قتلً وسبياً وولى على الندلس‬
‫المير تميم ‪ .‬وجمع الطاغية للمير تميم فهزمه تميم ثم أجاز علي بن يوسف سنة ثلث ونازل طليطلة‪ .‬وأثخن في بلد النصارى ورجع وعلى‬
‫أثر ذلك قصد ابن ردمير سرقسطة وخرج ابن هود للقائه فانهزم المسلمون ومات ابن هود شهيداً وحاصر ابن ردمير البلد حتى نزلوا على حكمه‪.‬‬
‫ثم كانت سنة تسع شأن برقة وتغلب أهل جنوة عليها وخلؤها‪ .‬ثم رجع العمران إليها على يد ابن تامرظست من قواد المرابطين كما مر في‬
‫ذكرها عند ذكر الطوائف ثم استمرت حال علي بن يوسف في ملكه وعظم شأنه وعقد لولده تاشفين على غرب الندلس سنة ست وعشرين وأنزله‬
‫قرطبة وإشبيلية وأجاز معه الزبير بن عمر وحشد قومه وعقد لبي بكر بن إبراهيم المسوفي على شرق الندس وأنزله بلنسية وهو ممدوح بن‬
‫خفاجة ومخدوم أبي بكر بن باجة الحكيم المعروف بابن الصائغ‪ .‬وعقد لبن غانية المسوفي على الجزائر الشرقية دانية وميورقة واستقامت أيامه‬
‫ولربع عشرة سنة من دولته ‪.‬‬

‫ظهور المهدي صاحب دعوة الموحدين ‪ :‬كان ظهور المام المهدي صاحب دعوة الموحدين فقيهًا منتحلً للعلم والفتيا والتدريس آمرًا بالمعروف‬
‫ناهيًا عن المنكر متعرضًا بذلك للمكروه في نفسه‪ .‬ونالته ببجاية وتلمسان ومكناسة اذايات من الفسقة ومن الظالمين ‪ ،‬وأحضره المير علي بن‬
‫يوسف للمناظرة ففلج علي خصومه من الفقهاء بمجلسه ولحق بقومه هرغة من المصامدة‪ .‬واستدرك علي بن يوسف رأيه فتفقده وطالب هرغة‬
‫بإحضاره فأبوا عليه فسرح إليهم البعث فأوقعوا به وتقاسم معهم هنتاتة وتينملل على إجارته والوفاء بما عاهدهم عليه من القيام بالحق والدعاء‬
‫إليه حسبما يذكر ذلك كله بعد دولتهم‪ .‬وهلك المهدي في سنة أربع وعشرين وقام بأمرهم عبد المؤمن بن علي الكومي كبير أصحابه بعهده إليه‬
‫وانتظمت كلمة المصامدة وأغزوا مراكش مراراً‪ .‬وفشل ريح لمتونة بالعدوة الندلسية وظهر أمر الموحدين وفشت كلمتهم في برابرة المغرب‪.‬‬
‫وهلك علي بن يوسف سنة سبع وثلثين وقام بالمر من بعده ولده تاشفين وولي عهده وأخذ بطاعته وبيعته أهل العدوتين كما كانوا على حين‬
‫استغلظ أمر الموحدين واستفحل شأنهم وألحوا في طلبه‪.‬‬

‫سقوط المرابطين في المغرب على يد الموحدين ‪ :‬وغزا عبد المؤمن غزوته المجرى إلى جبال المغرب ونهض تاشفين بعساكره بالبسائط إلى أن‬
‫نزل تلمسان‪ .‬ونازله عبد المؤمن والموحدون بكهف الضحاك بين الصخرتين من جبل تيطري المطل عليها ووصله هنالك مدد صنهاجة من قبل‬
‫يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية مع قائده طاهر بن كباب وشرهوا إلى مدافعة الموحدين فغلبوهم‪ .‬وهلك طاهر واستلحم الصنهاجيون وفر‬
‫تاشفين إلى وهران في موادعة لب بن ميمون قائد البحر بأساطيله‪ .‬واتبعه الموحدون واقتحموا عليه البلد فهلك يقال سنة إحدى وأربعين‪ .‬واستولى‬
‫الموحدون على المغرب الوسط واستلحموا لمتونة‪ .‬ثم بويع بمراكش ابنه إبراهيم وألفوه مضعفاً عاجزاً فخلع وبويع عمه إسحق بن علي بن‬
‫يوسف بن تاشفين‪ .‬وعلى هيئة ذلك وصل الموحدون إليها وقد ملكوا جميع بلد المغرب عليه فخرج إليهم في خاصته فقتلهم الموحدون‪ .‬وأجاز‬
‫عبد المؤمن والموحدون إلى الندلس سنة إحدى وخمسين وملكوا واستحلموا أمراء لمتونة وكافتهم وفروا في كل وجه ولحق فلهم بالجزائر‬
‫الشرقية ميورقة ومنورقة ويابسة إلى أن جددوا من بعده للملك بناحية إفريقية ‪.‬‬

‫المراجع ‪ :‬ديوان المبتدأ والخبر ‪ ،‬التذكار ‪ ،‬تاريخ الفتح العربي‬

‫‪..‬‬
‫(في ذكرى وفاة مؤسسها‪ 10 :‬من جمادى الخرة ‪558‬هـ)‬

‫أحمد تمام‬

‫‪5‬‬
‫حدود دولة الموحدين بالمغرب والندلس‬
‫ظهر المهدي بن تومرت في القرن السادس الهجري‪ ،‬وبدأ دعوته الصلحية في المغرب؛ فدعا الناس إلى التوحيد الخالص‪ ،‬ولهذا أُطلق على‬
‫أنصاره اسم "الموحدين"‪ ،‬وسُميت الدولة التي قامت على دعوته دولة "الموحدين"‪ ،‬وجهر بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ودعا لنفسه‬
‫على أنه المهدي المنتظر والمام المعصوم الذي يحكم بين الناس بالعدل‪ ،‬واتخذ منهجا في الفقه يقوم على الدراسة المباشرة للقرآن والسنة‬
‫دون دراسة فروع المسائل الفقهية التي كانت سائدة في المغرب على المذهب المالكي‪.‬‬

‫وكان المهدي بن تومرت يطوف بمدن المغرب يدعو الناس إلى الصلح واللتزام بالشرع ومحاربة البدع والمنكرات‪ ،‬وقد لقت‬
‫دعوته قبول بين الناس‪ ،‬فالتفوا حوله أينما نزل‪ .‬وفي إحدى جولته التقى بعبد المؤمن علي الكومي‪ ،‬وكان اللقاء في "مللة" بجانب ميناء‬
‫"بجاية" شرقي الجزائر‪.‬‬

‫نشأة عبد المؤمن علي الكومي‬

‫وأبو محمد بن علي الكومي من أصل بربري‪ ،‬ولد في قرية "تاجرا" الجزائرية التي تبعد نحو ثلثة أميال عن مرسى "هنين" على‬
‫ساحل البحر المتوسط‪ ،‬ول يُعرف على سبيل اليقين تاريخ مولده‪ .‬وفي قريته حفظ القرآن الكريم‪ ،‬وتعلم مبادئ القراءة والكتابة‪ ،‬ودرس شيئا‬
‫من الفقه والسيرة النبوية‪ ،‬ثم رحل إلى تلمسان‪ ،‬وكانت من حواضر العلم‪ ،‬وتلقى العلم على عدد من كبار العلماء‪ ،‬في مقدمتهم الشيخ "عبد‬
‫السلم التونسي" إمام عصره في الفقه والحديث والتفسير‪ ،‬ثم استعد للرحلة إلى المشرق؛ طلبا للمزيد من المعرفة‪ .‬وقبل الرحيل سمع بوجود‬
‫فقيه جليل يتحدث الناس عن علمه الغزير‪ ،‬فاشتاق إلى رؤيته‪ ،‬فاتجه إليه حيث يقيم في بلدة "مللة" القريبة من "بجاية" بمسافة قليلة‪.‬‬

‫وفي هذا اللقاء أُعجب عبد المؤمن بشخصية "ابن تومرت" وغزارة علمه وقدرته على حشد النصار والتباع‪ ،‬وتخلى عن فكرة السفر‬
‫إلى المشرق‪ ،‬ولزم ابن تومرت‪ ،‬ودرس على يديْه‪ ،‬وكان عالما كبيرا وفقيها متبّحرا‪ ،‬ودرس في المغرب‪ ،‬ورحل إلى المشرق‪ ،‬وقابل‬
‫العلماء‪ ،‬وأخذ عنهم‪ ،‬ثم توثقت الصلة بين الرجلين‪ ،‬ثم غادرا "مللة"‪ ،‬واتجها إلى "فاس"‪ ،‬وفي أثناء الرحلة لم يكف المهدى عن المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وكسر آلت اللهو‪ ،‬وإراقة الخمر حتى وصل إلى مدينة فاس‪ ،‬فأقام بها يدرّس العلم إلى سنة (‪514‬هـ=‬
‫‪1120‬م)‪ ،‬ثم ارتحل ومعه عبد المؤمن بن علي الكومي إلى مراكش عاصمة دولة المرابطين‪ ،‬فأقاما بها في (ربيع الول ‪515‬هـ =‬
‫‪1221‬م)‪.‬‬

‫بداية الصدام مع دولة المرابطين‬

‫أقام المهدي بن تومرت في مراكش وأخذ في الدعوة إلى المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬واعترض على سياسة الدولة في بعض‬
‫المور التي رآها مخالفة للشرع‪ ،‬ووعظ السلطان حين قابله في المسجد وطالبه بتغيير المنكر‪ ،‬فلما استفحل أمره وتجمع الناس حوله دعا‬
‫المير "علي بن يوسف" العلماء إلى مناظرته فغلبهم بقوة لسانه وحدّة ذكائه وسعة علمه‪ ،‬ولم يجد المير مفرًا من طرده من عاصمته‪ ،‬معتقدا‬
‫ف لزوال خطره على سلطانه‪ ،‬واتجه المهدى بأتباعه إلى "تينملل" وبدأ في تنظيمهم وإعدادهم‪ ،‬وجعلهم في طبقات على رأسها‬ ‫أن ذلك كا ٍ‬
‫الجماعة التي تمثل أعلى سلطة في حكومته‪ ،‬وهي تتألف من عشرة رجال‪ ،‬كان من بينهم عبد المؤمن بن علي الكومي‪ ،‬ثم أخذ البيعة لنفسه‬
‫في (غرة المحرم ‪516‬هـ= ‪ 12‬من مارس ‪1122‬م)‪ ،‬واستعد لمواجهة المرابطين بجذب التباع والنصار وتجهيز الحملت العسكرية التي‬
‫حققت بعض النتصارات‪ ،‬وشارك المهدي في تسع غزوات منها‪ ،‬ولكنها لم تكن كافية لتقويض الحكم المرابطي‪ ،‬وشجعت هذه النتصارات‬
‫زعيم الموحدين فأرسل حملة كبيرة بلغت ‪ 40‬ألف جندي لمهاجمة مراكش عاصمة المرابطين والستيلء عليها‪ ،‬ولكنها لقيت هزيمة ساحقة‬
‫سنة (‪ 524‬هـ= ‪1130‬م) في معركة سميت بمعركة "البحيرة"‪ ،‬على مقربة من أسوار مراكش‪ ،‬وقُتل معظم الجيش الموحدي‪ ،‬ولم ينج من‬
‫القتل سوى عدد قليل‪ ،‬تسلل تحت جنح الظلم إلى "تينملل"‪ ،‬ولما وصلت أنباء الهزيمة إلى المهدي الذي كان مريضا ساءت صحته وخاب‬
‫‪6‬‬
‫أمله ثم لم يلبث أن توفي في (‪ 13‬رمضان ‪524‬هـ= ‪ 20‬من أغسطس ‪1130‬م)‪.‬‬

‫الكومي زعيمًا للموحدين‬

‫تحمل عبد المؤمن علي الكومي أعباء الدعوة عقب وفاة أستاذه‪ ،‬وكانت المسئولية جسيمة بعد الهزيمة المدوّية التي لحقت بالموحدين‪،‬‬
‫واستطاع في صبر وأناة أن يعيد تنظيم شئون دعوته ويجند أنصارا جددا‪ ،‬واستغرق منه ذلك نحو عام ونصف حتى إذا آنس في نفسه قوة‬
‫وثقة بدأ في الستعداد لمناوشة المرابطين‪ ،‬وظل يناوشهم دون الدخول في معارك حاسمة‪ ،‬واستمر هذا الوضع حتى سنة (‪534‬هـ=‬
‫‪1130‬م)‪ ،‬وكان عبد المؤمن في أثناء هذه الفترة يعمل على زيادة نشر الدعوة الموحدية وجذب قبائل جديدة للدخول في طاعته وتوسيع رقعة‬
‫دولته كلما سمحت له الظروف‪ ،‬وبخاصة في الجهات الجنوبية والشرقية من المغرب‪.‬‬

‫سقوط دولة المرابطين‬

‫رأى عبد المؤمن أن الفرصة قد سنحت للقضاء على المرابطين‪ ،‬فآثر أن يسرع في ذلك‪ ،‬وأن يبدأ بمهاجمتهم في قلب دولتهم‪ ،‬فجهز‬
‫جيشًا عظيمًا لهذا الغرض‪ ،‬وخرج به من قاعدته "تينملل" سنة (‪ 534‬هـ = ‪1140‬م)‪ ،‬واتجه إلى شرق المغرب وجنوبه الشرقي؛ لخضاع‬
‫القبائل لدعوته‪ ،‬بعيدًا عن مراكش مركز جيش المرابطين القوي‪ ،‬وأنفق عبد المؤمن في غزوته الكبرى أكثر من سبع سنوات متصلة‪ ،‬أبدى‬
‫فيها ضروبًا من الحيل الحربية والمهارة العسكرية؛ وهو ما جعل الجيش المرابطي يحل به الوهن دون أن يلتقي معه في لقاءات حاسمة‬
‫ومعارك فاصلة‪ .‬وفي أثناء هذه الغزوة توفي علي بن يوسف سلطان دولة المرابطين سنة (‪537‬هـ = ‪1142‬م) وخلفه ابنه تاشفين‪ ،‬لكنه لم‬
‫يتمكن من مقاومة جيش عبد المؤمن‪ ،‬الذي تمكن من دخول تلمسان سنة (‪539‬هـ=‪ ،)1144‬فتراجع تاشفين‪ ،‬إلى مدينة "وهران"‪ ،‬فلحقه‬
‫جيش الموحدين‪ ،‬وحاصروا المدينة وأشعلوا النيران على باب حصنها‪ ،‬ولما حاول تاشفين الهروب من الحصن سقط من على فرسه ميتًا في‬
‫(‪ 27‬من رمضان ‪ 539‬هـ = ‪ 23‬من مارس ‪1145‬م)‪ ،‬ودخل الموحدون مدينة وهران‪ ،‬وقتلوا من كان بها من المرابطين‪ .‬بعد وهران‬
‫تطلع عبد المؤمن إلى فتح مدينة فاس‪ ،‬فاتجه إليها‪ ،‬وضرب حولها حصارًا شديدًا‪ ،‬ظل سبعة أشهر‪ ،‬وعانى أهلها من قسوة الحصار‪ ،‬واضطر‬
‫واليها إلى التسليم فدخلها الموحدون في (‪ 14‬من ذي القعدة ‪ 540‬هـ = ‪ 5‬من مايو ‪1145‬م) ثم دخلت كل من مدينتي سبتة وسل في طاعة‬
‫الموحدين قبل أن يتجهوا إلى تراشك لفتحها‪ ،‬وكان يعتصم بها إسحاق بن علي بن تاشفين‪ ،‬وضرب الموحدون حصارًا حول المدينة دام أكثر‬
‫من تسعة أشهر‪ ،‬أبدى المدافعون عن المدينة ضروبًا من الشجاعة والبسالة‪ ،‬لكنها لم تغن عنهم شيئًا‪ ،‬واستولى الموحدون على المدينة في (‬
‫‪18‬من شوال ‪541‬هـ = ‪ 24‬من مارس ‪1147‬م)‪ ،‬وقتلوا إسحاق بن علي آخر أمراء المرابطين بعد أن وقع أسيرًا‪ ،‬وبذلك سقطت دولة‬
‫المرابطين‪ ،‬وقامت دولة جديدة تحت سلطان عبد المؤمن بن علي الكومي الذي تلقب بلقب "خليفة"‪.‬‬

‫استكمال الفتح‬

‫انتهز جماعة من الزعماء الندلسيين فرصة انشغال المرابطين بحرب الموحدين بالمغرب‪ ،‬فثاروا على ولتهم التابعين لدولة‬
‫المرابطين‪ ،‬وأعلنوا أنفسهم حكامًا واستبدوا بالمر‪ ،‬وتنازعوا فيما بينهم يحارب بعضهم بعضًا‪.‬‬

‫فلما تمكن عبد المؤمن بن علي من بسط نفوذه على المغرب بدأ في إرسال جيش إلى الندلس سنة (‪541‬هـ = ‪1146‬م)‪ ،‬فاستعاد‬
‫إشبيلية واتخذها الموحدون حاضرة لهم في الندلس‪ ،‬ونجح يوسف بن علي قائد جيش الموحدين من بسط نفوذه على بطليوس وشمنترية‪،‬‬
‫وقادس‪ ،‬وشلب‪ ،‬ثم دخلت قرطبة وجيان في طاعة الموحدين سنة (‪543‬هـ= ‪1148‬م)‪ ،‬واستعادوا "المرية" سنة (‪552‬هـ = ‪1157‬م) من يد‬
‫السبان المسيحيين‪ ،‬وبذلك توحدت بقية الندلس السلمية تحت سلطانهم‪ ،‬وعين عبد المؤمن ابنه "أبا سعيد عثمان" واليًا عليها‪.‬‬

‫سمّي بجبل الفتح –ول تزال‬


‫وفي سنة (‪ 555‬هـ = ‪1160‬م) أمر عبد المؤمن ابنه ببناء حصن ومدينة على سفح جبل طارق الذي ُ‬
‫قطعة من هذا البناء باقية إلى اليوم في جبل طارق وتعرف بالحصن العربي‪ -‬وعلى إثر ذلك عبر عبد المؤمن من طنجة إلى الندلس ونزل‬
‫بجبل الفتح‪ ،‬وأقام شهرين أشرف خللهما على أحوال الندلس ثم عاد إلى مراكش‪.‬‬

‫وقبل أن يعبر عبد المؤمن إلى الندلس كان قد تمكن في سنة (‪ 547‬هـ = ‪1152‬م) من فتح المغرب الوسط وضم إلى دولته الجزائر‬
‫وبجاية وقلعة بني حماد‪ ،‬وجعل ابنه عبد ال واليًا على المغرب الوسط‪ ،‬وعهد إليه بمواصلة الفتوح شرقًا‪ ،‬فنجح فيما عُهد إليه‪ ،‬كما نجح في‬
‫القضاء على النورمانديين الصليبيين وطردهم من تونس التي كانوا قد احتلوها‪ .‬وفي أواخر أيام عبد المؤمن حدث تمرد في شرق الندلس‪،‬‬
‫فأسرع إلى هناك وقمع الثائرين وقضى على الفتنة‪ ،‬ثم عاد إلى المغرب‪ ،‬وعندما وصل إلى "سل" نزل به المرض‪ ،‬ولم يلبث أن توفي في (‬
‫‪ 10‬من جمادى الخرة ‪ 16 = 558‬من مايو ‪1162‬م) ودفن في "تينملل" بجوار قبر المهدي بن تومرت‪.‬‬

‫عبد المؤمن بن علي في التاريخ‬

‫حكم عبد المؤمن بن علي أربعًا وثلثين سنة تعد من أزهى عصور المغرب‪ ،‬ورث عن ابن تومرت حركة ثائرة فحولها إلى دولة‪،‬‬
‫ومد سلطانها حتى شلمت المغرب كله وما بقي من الندلس ووضع لها القواعد والنظم الدارية التي تمكن من تسيير أمور الدولة وإدارة‬
‫شئونها‪ .‬ويحفظ التاريخ رسالة طويلة بعث بها عبد المؤمن إلى أهل الندلس‪ ،‬تعد دستورًا لنظم الحكم الموحدية‪ ،‬أكد فيها على اتصال الولة‬
‫بالناس دون وساطة‪ ،‬ودعا إلى أن تكون العقوبة على قدر الجريمة‪ ،‬ول يطبق العدام على أي شخص دون الرجوع إلى الخليفة ورفع‬
‫‪7‬‬
‫تفاصيل جريمته إليه‪ ،‬وحث الولة على محاربة صنع الخمر‪ ،‬وأل يفرضوا غرامات أو مكوس على رعيتهم إل بإذن منه‪.‬‬

‫ونظم عبد المؤمن أمور دولته وجعل لها مؤسسات‪ ،‬فللعدل والنظر في الشكايات وزير‪ ،‬ولعمال الحرب والجهاد وزير يسمى‬
‫"صاحب السيف"‪ ،‬وللثغور وزير‪ ،‬وللشرطة رئيس يسمى "الحاكم"‪ ،‬وجعل للكتابة والمراسلت وزيرًا من أهل الرأي والبلغة‪ ،‬وكان لعبد‬
‫المؤمن مجلس خاص للنظر والمشاورة يحضره الفقهاء ونواب القبائل وكبار رجال الدولة‪.‬‬

‫وعني عبد المؤمن بن علي بالجيش حتى صار من أعظم الجيوش في وقته‪ ،‬وكان هو نفسه قائًدا عظيمًا وجنديًا ممتازًا‪ ،‬يشاطر جنوده‬
‫مشقة الطريق وتقشف الحياة العسكرية‪ ،‬واجتمع له من الجيوش الجرارة ما لم يجتمع لملوك المغرب مثله‪ ،‬حيث حقق به انتصارات رائعة‪.‬‬

‫وشهد عصره حركة إصلح اجتماعي‪ ،‬فحارب المنكرات بل هوادة‪ ،‬واشتد في محاربة الخمر وإنزال العقوبة على شاربيها‪ ،‬وكان‬
‫حريصًا على أن تقام الصلوات في مواقيتها‪ ،‬وأن تجمع الزكاة وتصرف في مصارفها الشرعية‪.‬‬

‫وكان عبد المؤمن إلى جانب براعته الدارية والعسكرية‪ ،‬فقيهًا حافظًا لحاديث رسول ال‪ ،‬له بصر بالنحو واللغة والدب‪ ،‬محبًا لهل‬
‫العلم‪ ،‬ل يُعرف عنه ميل إلى اللهو‪ ،‬بل كان جادًا وافر العقل‪ ،‬مسلمًا شديد الغيرة على الدين‪ ،‬متحمسًا لكل ما يصلحه‪.‬‬

‫من مصادر الدراسة‪:‬‬

‫•ابن خلدون‪ :‬تاريخ ابن خلدون – دار الكتاب اللبناني – بيروت – ‪1981‬م‪.‬‬

‫•محمد عبد ال عنان‪ :‬عصر المرابطين والموحدين في المغرب والندلس – مكتبة الخانجي – القاهرة ‪1411‬هـ = ‪1990‬م‪.‬‬

‫•حسين مؤنس‪ :‬تاريخ المغرب وحضارته – العصر الحديث للنشر والتوزيع – بيروت – ‪ 1412‬هـ = ‪1992‬م‪.‬‬

‫•السيد عبد العزيز سالم‪ :‬المغرب الكبير (العصر السلمي)‪ -‬الدار القومية للطباعة والنسر – القاهرة – ‪1966‬م‪.‬‬

‫•عبد ال علي علم‪ :‬الدولة الموحدية بالمغرب في عهد عبد المؤمن بن علي – دار المعارف – القاهرة – ‪1971‬م‪.‬‬

‫•إبراهيم علي حسن‪ :‬عبد المؤمن بن علي الكومي – دار الثقافة – الغرب – ‪1406‬هـ ‪1986‬م‪.‬‬

‫الفاطميون‬

‫‪8‬‬
‫الفاطميون أو العبيديون‪ :‬سللة شيعية حكمت في تونس‪ ،‬مصر‪ ،‬الشام وعلى فترات في الجزائر‪ ،‬المغرب و الجزيرة العربية‪ ،‬سنوات ‪-909‬‬
‫‪ 1171‬م‪.‬‬

‫المقر‪ :‬القيروان‪ 920-909 :‬م‪ ،‬المهدية‪ 973-820 :‬م‪ ،‬القاهرة‪ :‬منذ ‪ 973‬م‪.‬‬

‫يستمد الفاطميون لقبهم من فاطمة بنت محمد بن عبد ال رسول السلم‪ ،‬كما يدعون انتسابهم لهل البيت عن طريق المام السابع اسماعيل بن‬
‫جعفر الصادق‪ ،‬ومنه جاءت الطائفة السماعلية‪ .‬يرى أغلب المؤرخين اليوم أن نسبهم كان منحولً‪ .‬يفضل أغلب علماء السنة أن يطلقَ عليهم لقب‬
‫"العبيديون" نسبة إلى جدهم عبيد ال‪.‬‬

‫مؤسس السللة عبيد ال المهدي (‪ 934-909‬م) اعتمد في دعوته الجديدة على أبو عبد ال الشيعي‪ ،‬كان يدعي أنه المهدي المنتظر‪ .‬نجح صاحب‬
‫دعوته في القضاء على دولة الغالبة و حمله إلى السلطة‪ .‬استولى الفاطميون على تونس‪ ،‬ليبيا و شرق الجزائر ثم صقلية التي بقيت في حكمهم‬
‫حتى ‪ 1061‬م‪ .‬سنة ‪ 969‬م يستولى المعز (‪ 975-953‬م) على مصر و يبنى القاهرة‪ .‬دخل الفاطميون في صراع مع العباسيين للسيطرة على‬
‫الشام‪ .‬كما تنازعوا السيطرة على شمال إفريقية مع المويين حكام الندلس‪ .‬تمكنوا من إخضاع الحجاز و الحرمين مابين سنوات ‪ 1070-965‬م‪.‬‬
‫ازدهرت التجارة و نما اقتصاد البلد و نشطت حركة العمران أثناء عهد العزيز (‪ 996-965‬م) ثم الحاكم (‪ 1021-996‬م) والذي كان متهورا و‬
‫متطرفا في أفكاره إلى أقصى حد‪ ،‬عرفت البلد في عهده اضطرابات كثيرة‪ .‬بعد مماته انشقت عن السماعلية طائفة من الشيعة عرفت باسم‬
‫الدروز‪ .‬بعد حكم المستنصر (‪ 1094-1036‬م) الطويل انشق السماعليون مرة أخرى إلى طائفتين النزارية و المستعلية‪ .‬تولى الحكم من بعده‬
‫خلفاء أطفال‪ .‬مع حكم الحافظ (‪ 1149-1131‬م) تقلصت حدود الدولة إلى مصر فقط‪.‬‬

‫آخر الخلفاء وقع تحت سيطرة القادة العسكريين اليوبيين‪ .‬قام صلح الدين اليوبي و الذي تولى الوزارة منذ ‪ 1169‬م‪ ،‬بالقضاء على الدولة‬
‫الفاطمية نهائيا سنة ‪ 1171‬م‪ .‬تحولت مصر بعدها إلى المذهب السني‪.‬‬

‫قائمة المراء‬

‫الحكم‬ ‫الحياة‬ ‫الحاكم‬


‫‪910-934‬‬ ‫‪934-....‬‬ ‫المهدي عبيد ال‬ ‫‪1‬‬

‫‪934-946‬‬ ‫‪894-946‬‬ ‫القائم بأمر ال أبو القاسم‬ ‫‪2‬‬

‫‪946-953‬‬ ‫‪915-953‬‬ ‫المنصور إسماعيل‬ ‫‪3‬‬

‫‪953-976‬‬ ‫‪931-976‬‬ ‫المعز لدين ال أبو تميم‬ ‫‪4‬‬

‫‪976-996‬‬ ‫‪956-996‬‬ ‫العزيز بال نزار‬ ‫‪5‬‬

‫‪996-1021‬‬ ‫‪....-986‬‬ ‫الحاكم بأمر ال منصور‬ ‫‪6‬‬

‫‪1021-1036 1005-1036‬‬ ‫الظاهر علي‬ ‫‪7‬‬

‫‪1036-1094 1029-1094‬‬ ‫المستنصر بال سعد‬ ‫‪8‬‬

‫‪1094-1102‬‬ ‫‪1102-....‬‬ ‫المستعلي بال أ حمد‬ ‫‪9‬‬

‫‪1102-1131‬‬ ‫‪1131-....‬‬ ‫المر بأحكام ال المنصور‬ ‫‪10‬‬

‫‪1131-1150 1105-1150‬‬ ‫الحافظ لدين ال عبد المجيد‬ ‫‪11‬‬

‫‪1150-1154‬‬ ‫‪1154-....‬‬ ‫الظافر بأمر ال إسماعيل‬ ‫‪12‬‬

‫‪1154-1160 1150-1160‬‬ ‫الفائز بنصر ال عيسى‬ ‫‪13‬‬

‫‪1160-1171‬‬ ‫‪1172-....‬‬ ‫العاضد لدين ال عبد ال‬ ‫‪14‬‬

‫الدولة الفاطمية‬
‫الدولة الفاطمية‬
‫(‪358-567‬هـ‪1172-969 /‬م)‬
‫مَنْ الفاطميون؟ وإلى مَنْ ينتسبون؟ وكيف نشأت دولتهم؟ ومتي كان ذلك؟ وهل تنتسب هذه الدولة إلى دول السلم؟‬
‫حب آل البيت‪:‬‬
‫لقد ملك حب آل البيت النبوي قلوب المسلمين جميعًا‪ ،‬أما هؤلء المعروفون بالشيعة والذين خرجوا علينا في التاريخ السلمي يغيرون في‬
‫المفاهيم الواضحة لديننا الحنيف‪ ،‬ويسبون أئمة الهدي من الخلفاء الراشدين بدعوي أنهم سلبوا الخلفة من علي كرم ال وجهه‪ ،‬هؤلء هم‬
‫المتشيعون الذين يزعمون حب علي وهو منهم براء‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫لقد كان علي ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬على العكس مما زعموا‪ ،‬فقد كان مستشارًا أمينًا‪ ،‬ووزير صدق للخلفاء جميعًا‪ ،‬ولما قامت الدولة الموية لم يتقبلها‬
‫بعض المسلمين والهاشميين؛ رفضًا لمبدأ توريث الخلفة‪.‬‬
‫ولما قامت دولة بني العباس لم ُتمَكّن لبناء علي بن أبي طالب أن يكون لهم شيء في الحكم والخلفة‪ ،‬ونشط المتشيعون يشعلون الثورات في كل‬
‫مكان‪ ،‬لكن الدولة العباسية كانت في بدايتها قوية‪ ،‬فتمكنت من القضاء عليها جميعًا‪ ،‬وسحقتها في عنف وشدة‪.‬‬
‫دعاة الشيعة‪:‬‬
‫فهل انقطعت حركة الشيعة أو توقفت أمام تلك المطاردة؟!‬
‫ل‪ ..‬لم تنقطع حركات المتشيعين ولم تتوقف‪ ،‬فقد كانوا متعصبين لرائهم‪ ،‬مؤمنين بفكرتهم‪ ،‬يزعمون أن أحق الناس بالخلفة أبناء علي من نسل‬
‫ل بالمسلمين يجب أن يزال‪ .‬ونشط دعاة الشيعة‬ ‫السيدة فاطمة الزهراء‪ ،‬فإن نالها غيرهم فما ذاك إل أمر باطل يجب أن يمحي‪ ،‬وما هو إل شرّح ّ‬
‫في الدعوة إلى مذهبهم‪ ،‬وبخاصة في الجهات البعيدة عن مركز الخلفة‪ ،‬مثل أطراف فارس واليمن وبلد المغرب‪.‬‬
‫أبو عبدال الشيعي‪:‬‬
‫وكان من هؤلء الدعاة "أبو عبدال الشيعي" وهو رجل من صنعاء اتجه إلى المغرب بعد أن رأى دويلت "الغالبة” و"الدارسة" وغيرهما تنشأ‬
‫وتقام بعيدًا عن يد الدولة العباسية وسلطانها‪ ،‬وركز "أبو عبد ال" دعايته بين البربر‪ ،‬وسرعان ما انضموا إليه في آلف عديدة‪ ،‬فأرسل إلى‬
‫زعيمه الفاطمي الكبير "عبيد ال بن محمد”‪.‬‬
‫عبيد ال‪:‬‬
‫وقال "عبيد" هذا بأنه شريف علوي فاطمي‪ ،‬ولكن الخليفة العباسي علم بالمر فطارد "عبيد ال" هذا‪ ،‬وأمر بالقبض عليه‪ ،‬فاضطر حين وصل‬
‫مصر إلى أن يتنكر في زي التجار‪ ،‬ثم حاول أن يفلت من دويلت شمال إفريقيا‪ ،‬ولكنه سقط أخيرًا في يد أمير "سجلماسة”‪.‬‬
‫الستيلء على القيروان‪:‬‬
‫كان "أبو عبد ال" الراعية الشيعي في هذا الوقت قد جمع قواته من البحر‪ ،‬وهاجم بها "دولة الغالبة" التي ما لبثت أن سقطت في يده سنة‬
‫‪297‬هـ‪909 /‬م‪ ،‬ودخل عاصمتها‪ ،‬وأخذ من الناس البيعة لعبيد ال المير السير‪.‬‬
‫ل له‬ ‫وما لبث "أبو عبد ال الشيعي" أن سار على رأس جيوش ضخمة نحو "سجلماسة" لينقذ عبيد ال‪ ،‬ولما أدرك صاحب "سجلماسة" أن ل قِب َ‬
‫بمواجهة الجيش المغير هرب من عاصمته بعد أن أطلق أسيره "عبيد ال الفاطمي”‪.‬‬
‫دخل عبيد ال القيروان التي اتخذها عاصمة للدولة الفاطمية‪ ،‬وهناك بايعه الناس ولقب "المهدي أمير المؤمنين"‪ ،‬وصار خليفة للمسلمين تأكيدًا‬
‫لفكرة الشيعة عن أحقية أبناء علي ‪-‬رضي ال عنه‪ -‬بالخلفة‪ ،‬ولقد اعتبر نفسه المهدي المنتظر الذي سيمل الرض عدل بعد أن مُلئت جورًا‬
‫وظلمًا‪.‬‬
‫الستيلء على دولة الدراسة‪:‬‬
‫وتوالى الخلفاء من نسل المهدي عبيد ال‪ ،‬وكان منهم "المعز لدين ال الفاطمي" الذي أرسل قائده الشهير "جوهر الصقلي" ففتح “دولة‬
‫الدارسة"‪ ،‬ووصل إلى المحيط الطلسي‪ ،‬ثم مد حدوده إلى مصر وفتحها عام ‪359‬هـ‪969 /‬م‪.‬‬
‫فكيف استولى عليها الفاطميون؟ وماذا كان موقف الخلفة العباسية منهم؟‬
‫الستيلء على مصر‪:‬‬
‫لقد أرسل "المعز لدين ال الفاطمي" قائده الكبير “جوهر الصقلي" ليفتح مصر‪ ،‬فسار في جيش ضخم بعد أن مهد الطرق لمسير الجيش‪ ،‬وحفر‬
‫البار على طول الطريق‪ ،‬وأقام "استراحات" على مسافات معقولة في الطريق‪ ،‬وأحسن تدريب الجيش وتنظيمه وتموينه بعد أن جمع الموال‬
‫اللزمة لهذا كله‪.‬‬
‫وسار الجيش إلى السكندرية‪ ،‬وما لبث أن دخلها دون قتال‪ ،‬وأحسن معاملة المصريين‪ ،‬و َكفّ جنوده عنهم‪ ،‬ثم سار إلى "الفسطاط" فسلّم له أهلها‬
‫على أن يكفل لهم حرية العقيدة‪ ،‬وينشر المن والعدل والمساواة‪.‬‬
‫وطار الخبر بالستيلء على مصر إلى "المعز" فسر سرورًا عظيمًا‪ ،‬وأقام الحتفالت والولئم‪ ،‬وحوله الشعراء ينشدون‪.‬‬
‫لقد ساعد علي نجاح هذا الغزو ضعف واضطراب الحوال في مصر‪ ،‬وكثرة الشيعة الذين عاونوا الغزاة كل المعاونة آنذاك‪.‬‬
‫وهكذا سُلخت مصر عن الخلفة العباسية‪ ،‬وأصبحت ولية فاطمية عام ‪969 /359‬م‪.‬‬
‫بناء القاهرة‪:‬‬
‫وهنا بدأ "جوهر" يعد العدة لنقل مركز الدولة الفاطمية إلى مصر ؛ فبنى للخليفة قصرًا فخمًا شمال الفسطاط‪ ،‬وبنى معه منازل الوزراء والجند‪،‬‬
‫وكانت هذه بداية مدينة القاهرة‪.‬‬
‫لقد كانت "الفسطاط" هي العاصمة بعد دخول عمرو بن العاص وبعدها "العسكر" في عهد العباسيين‪ ،‬ثم "القطائع" في عهد الطولونيين‪ ،‬ثم‬
‫أصبحت "قاهرة المعز" هي العاصمة حتى الن‪.‬‬
‫وبعد أن تم إنشاؤها دعا "جوهر” “المعز" أن ينتقل إليها‪ ،‬وأصبحت القاهرة عاصمة الخلفة الفاطمية (‪362‬هـ‪973 /‬م)‪ ،‬أي بعد أربع سنوات‬
‫من فتحها‪ ،‬وأمر المعز بمنع صلة التراويح في رمضان‪ ،‬وأمر بصيام يومين مثله‪ ،‬وقنت في صلة الجمعة قبل الركوع‪ ،‬وأسقط من أذان صلة‬
‫الصبح "الصلة خير من النوم" وزاد "حي على خير العمل‪ ..‬محمد وعلي خير البشر”‪.‬‬
‫الستيلء على الحجاز‪:‬‬
‫وما لبثت جيوش المعز أن سارت نحو الحجاز ففتحته‪ ،‬وأصبحت المدينتان‪ :‬مكة والمدينة تحت سلطان الفاطميين لالعباسيين‪ ،‬كما فتحت‬
‫جيوشهم بلد الشام‪ ،‬وفلسطين‪ ،‬وجزيرة صقلية‪ .‬وهكذا أصبحت دولة الفاطميين تضم الحجاز‪ ،‬والشام‪ ،‬وفلسطين‪ ،‬ومصر‪ ،‬وشمال إفريقية حتى‬
‫المحيط الطلسي‪.‬‬
‫بناء الجامع الزهر‪:‬‬
‫ومن أعمال الدولة الفاطمية‪ :‬إنشاؤها "الجامع الزهر" الذي كان أول أمره مسجدًا عاديا‪ ،‬ثم أقيمت فيه حلقات الدراسة‪ ،‬وقد اهتم بهذه الدراسات‬
‫خلفاء الفاطميين لنها كانت مقتصرة على الفقه الشيعي‪ ،‬ثم تطورت بعد الفاطميين لما تولى صلح الدين حكم مصر‪ ،‬فأصبحت تدرس الفقه على‬
‫كل المذاهب والعلوم الدينية دون تمييز‪ ،‬وعلى غير ما أراد الفاطميون‪ ،‬فقد صار الزهر أول جامعة في العالم لنشر الثقافة العربية السلمية‪،‬‬

‫‪10‬‬
‫وما زال منارة يهتدي بها أبناء العروبة والسلم‪ ،‬وحصنًا يحمي البلد من المذاهب الهدامة والعقائد الفاسدة‪.‬‬
‫نهاية‪:‬‬
‫لكل شيء نهاية‪ ،‬ففي آخر عهد الدولة الفاطمية حكمها عدد من الخلفاء الذين كانوا ضعاف الشخصية وصغار السن‪ ،‬فكان من نتيجة ذلك أن‬
‫سيطر الوزراء على الدولة وأداروها لمكاسبهم الخاصة مهملين شئون الدولة إهمال تامّا‪.‬‬
‫لقد كانت ظاهرة العتماد على أعداء السلم من اليهود والنصارى واضحة في هذه الدولة‪ ،‬فمن هؤلء كان كثير من الوزراء وجباة الضرائب‬
‫والزكاة والمستشارين في شئون السياسة والقتصاد والعلم والطب‪ ،‬ولقد ترك الخليفة العزيز الفاطمي لوزيره اليهودي "يعقوب بن كلس" أمر‬
‫تعليم الناس "فقه الطائفة السماعيلية" التي ينتمي إليها الفاطميون وهي من أشد فرق الشيعة تطرفًا وبعدًا عن حقيقة السلم‪.‬‬
‫وقد ألّف يعقوب نفسه كتابًا في فقه هذه الطائفة‪.‬‬
‫فل عجب إذن أن شهدت الدولة كثيرًا من المؤامرات والفتن والدسائس والقلقل‪ ،‬فقامت ثورات داخلية‪ ،‬وانتفاضات‪ ،‬وراح الناس يستجيرون من‬
‫تسلط اليهود والنصارى فل يجارون‪ ،‬وزادت الحال سوءًا بظهور أفكار دينية شاذة كالعتقاد بحلول روح ال في الخليفة‪ ،‬وأن الخليفة أعلى من‬
‫بني النسان‪ ،‬وأن الخلفاء إلى ال أقرب ؛ كما حدث للحاكم بأمر ال‪ ،‬الذي كان له كثير من البدع والخرافات التي أدخلها في دين ال تعالي‪،‬‬
‫وألّهه بعض الناس وراح البعض ينتظر عودته بعد اختفائه‪ ،‬وعرف هؤلء بالدروز الذين يوجد أسلفهم ببلد الشام‪ .‬وكثرت المراض‪ ،‬وهلك‬
‫عدد كبير من الناس‪ ،‬في حين كان المراء والحكام الفاطميون ينعمون بالثروات ويعيشون في ترف وبذخ‪.‬‬
‫وأسهمت المجاعات والوبئة نتيجة انخفاض ماء النيل عدة مرات في اختلل المن‪ ،‬وكثرة الضطرابات‪ ،‬وسوء الحوال في البلد‪ ،‬ولم تر‬
‫البلد صلحًا ول استقام لها أمر‪ ،‬ولم يستقر عليها وزير تحمد طريقته‪.‬‬
‫تفكك الدولة‪:‬‬
‫أما في الخارج فقد خرج بعض الولة على الخلفاء الفاطميين خصوصًا في شمال إفريقية؛ مما أدى إلى استقلل تونس والجزائر‪ ،‬واستولت‬
‫سنّية التي قامت بفارس والعراق على معظم بلد الشام التابعة للفاطميين‪ ،‬وإلى جانب هذا كله عمل الصليبيون في الستيلء‬ ‫الدولة السلجوقية ال ّ‬
‫على الراضي المقدسة فاستولوا على بيت المقدس من أيدي الفاطميين سنة ‪492‬هـ‪1099 /‬م‪ ،‬ثم أخذوا يغيرون على أطراف الدولة المصرية‪.‬‬
‫وهكذا أخذت الدولة في الضعف حتى جاء صلح الدين اليوبي‪ ،‬وقضى على الخلفة الفاطمية وذلك في سنة ‪567‬هـ‪1172/‬م‪.‬‬
‫وانقض الصليبيون فهاجموا عدة مرات هذه الدولة التي طالما أعانتهم في بداية أمرهم على ضرب المسلمين من أهل السنة‪.‬‬

‫دولة الدارسة‬
‫(‪172-364‬هـ‪975-789/‬م)‬
‫ذُكِ َر أنه فى أيام الخليفة الهادى قامت ثورة "علوية" فى الحجاز‪ ،‬وهى من تلك الثورات التى كان العلويون يشعلون نارها طوال خلفة العباسيين‪.‬‬
‫وقامت قوات "الهادي" بالقضاء على هذه الثورة فى موقعة "فخ”‪ .‬ولكن بعض رءوس هذه الثورة وقادتها قد أفلتوا من أيدى العباسيين وهربوا‬
‫إلى أماكن نائية بعيدًا عن أيديهم‪.‬‬
‫وكان ممن هربوا عَلَوِى يسمى "إدريس" بن عبد ال بن الحسن ابن على ‪-‬رضى ال عنه‪ .-‬وراحت قوات العباسيين تطارده‪ ،‬عيونهم‬
‫وجواسيسهم تبحث عنه‪ ،‬فظل ينتقل من قطر إلى قطر آخر حتى وصل إلى مصر‪ .‬وفى مصر التقى بصاحب البريد‪ ،‬وكان قلبه مع العلويين‪،‬‬
‫فدبر لخفائه‪ ،‬واحتال حتى أرسله إلى أبعد أجزاء الدولة حتى يكون فى مأمن من سطوة الخليفة‪.‬‬
‫وكان له ما أراد فوصل إلى أقصى المغرب‪.‬‬
‫وهناك أعلن أنه من سللة النبى (‪ ،‬فأسرع البربر باللتفاف حوله غير أن جيش أنصار الخليفة العباسى تمكن من هزيمته‪ ،‬ولكن ابنه إدريس بن‬
‫إدريس بن عبد ال بن الحسن بن على تمكن من جمع أهل المغرب من حوله‪ ،‬وما أسرع ما بايعوه‪ ،‬ولم يجد صعوبة فى قيادتهم والستيلء على‬
‫القليم جميعه‪ ،‬والقضاء على أى أثر للنفوذ العباسى فيه‪ ،‬واتخذ عاصمته فى فاس‪ ،‬وأقام دولة هناك نُسبت إليه فعُرفت بدولة الدارسة‪ ،‬وهى‬
‫شّيعَها لم يكن يتجاوز حب آل بيت رسول ال >‬ ‫نموذج للدولة المعادية للدولة العباسية‪ ،‬وهى أول دولة شيعية تظهر فى التاريخ‪ ،‬على أنّ تَ َ‬
‫والولء لهم‪ ،‬وهى صفة يشترك فيها السنة والشيعة معًا‪ ،‬وإن بالغ فيها أهل التشيع‪.‬‬
‫فلم يكن تشيع هذه الدولة ينال من حقيقة السلم الصافية شيئًا‪ .‬ولهذا أحبها أهل السنة وانتصرت بهم‪ ،‬وكانت القبائل البربرية السنية فى المغرب‬
‫حاميتهم وعماد دولتهم‪ ،‬ولهذا أيضًا عاشت دولة الدارسة نحوًا من قرنين من الزمان‪.‬‬
‫لقد كانت "دولة الدارسة" ضعيفة نسبيّا وذلك لسببين‪:‬‬
‫أولهما‪ :‬أنها كانت محصورة بين الصحراء والمحيط والمويين فى الندلس ثم الغالبة فى إفريقية‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬هو أنها كانت تعتمد على البربر وهم متقلبون يؤيدونها اليوم بينما يثورون عليها غدًا‪.‬‬
‫وكانت سياسة الدولة نفسها متقلبة تميل مع مصالحها لتضمن البقاء والستمرار‪ ،‬فهى يومًا تميل مع الفاطمين‪ ،‬فتدعو لهم‪ ،‬وتعتمد عليهم‪ ،‬وعندما‬
‫يهددها المويون فى الندلس تميل معهم وتدعو لهم‪ ،‬وهذا يفسر لنا بوضوح سر ضعف دولة "الدارسة”‪.‬‬
‫وأراك تسألنى عن نهايتها‪ ،‬وأقول‪ :‬لقد كانت نهايتها كنهاية دولة "الغالبة" فى تونس ‪-‬التى سيأتى ذكرها‪ -‬على يد الفاطميين سنة ‪364‬هـ‪/‬‬
‫‪975‬م بعد أن عاشت ما يقرب من قرنين‪ ،‬وأدت دورًا حضاريّا رائعًا فى المغرب السلمي‪ ،‬إذ انتشر بهم السلم فى المغرب بين البربر‪،‬‬
‫وأسّسوا جامع القرويين الذى كان منارة للثقافة السلمية‪ ،‬وكانت فى المغرب كالزهر فى المشرق‪.‬‬
‫***‬

‫إدريس (الول)‬

‫‪11‬‬
‫منذ أن تولى العباسيون الخلفة سنة ‪ 132‬هـ ‪ 750 /‬م‪ ،‬أصبح أبناء عمهم العلويون في نزاع شديد معهم‪ ،‬لنهم اعتبروهم غاصبين للمنصب العلى في الدولة السلمية‬
‫وأن الحق في توليه يرجع إليهم بالسبقية‪ .‬فصاروا يتحينون الفرصة للثورة عليهم‪.‬‬

‫كان أول من تزعم الحركة محمد بن عبد ال بن الحسن‪ ،‬المدعو النفس الزكية الذي ثار بالمدينة‪ ،‬لكن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور قضى‬
‫على ثورته سنة ‪ 145‬هـ‪ 762 /‬كما قضى على الثورة الموازية لها التي قادها أخوه إبراهيم بالبصرة في نفس السنة‪ ،‬وكان محمد النفس الزكية‬
‫فكر في تبليغ الدعوة إلى كل القاليم السلمية شرقا وغربا‪ ،‬آمل في كسب المزيد من النصار للقضية‪ ،‬فوجه بعض إخوته‪ ،‬ولعل منهم إدريس‪،‬‬
‫إلى بلدان إسلمية مختلفة‪.‬‬

‫وبعد مرور أربع وعشرين سنة على هاته الثورة أي في سنة ‪ 169‬هـ‪ ،786 /‬قامت ثورة أخرى بقيادة الحسين بن علي بن الحسن المثلث في‬
‫ناحية مكة بمكان اسمه فخ‪ .‬ولم تنجح هاته الثورة بدورها حيث قضى عليها الخليفة الهادي ابن المهدي في معركة كانت شديدة وقتل فيها كثير من‬
‫العلويين‪.‬‬

‫واستطاع إدريس‪ ،‬عم الحسين‪ ،‬وأخو محمد النفس الزكية‪ .‬أن ينجو من القتل ويفر من المكان باحثا عن ملجأ يأوي إليه‪ .‬فكم يكون سنه يومئذ ؟ ل‬
‫تسعفنا المصادر بجواب واضح عن هذا السؤال‪ .‬ولكن إذا صدقنا ما أشار إليه البعض منها من كونه ساعد أخاه محمد النفس الزكية ‪ ،‬فيمكننا أن‬
‫نقدر سنه بين الربعين والخمسين عند نشوب معركة فخ‪.‬‬

‫وأما نسبه‪ ،‬فهو إدريس بن عبد ال الكامل بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء‪ ،‬بنت الرسول عليه‬
‫السلم‪ .‬وأمه عاتكة بنت الحارث بن خالد بن العاص بن هاشم بن المغيرة المخزومي‪ .‬فهو إذن‪ ،‬قرشي من البوين‪ ،‬ومنزلته وجيهة في السرة‬
‫العلوية‪.‬‬

‫كانت أنظار العلويين‪ ،‬وهم في حالة المراقبة والضطهاد التي يعانون منها‪ ،‬تتجه بالخصوص إلى المغرب‪ ،‬لبعده عن مركز الخلفة العباسية‬
‫ولشتهاره برفع راية العصيان والمعارضة لتلك الخلفة‪ .‬وقبل العلويين اتجهت أنظار الخوارج لنفس المنطقة‪ .‬وأمكنهم أن يؤسسوا بها دولتين‬
‫مشهورتين في تاهرت وسجلماسة‪ ،‬مما يدل على أن البلد كانت مرشحة لتكون مركزا لثورة مضادة وربما لقيام خلفة مناهضة للخلفة العباسية‪.‬‬

‫فالتجاء إدريس إلى المغرب صحبة موله راشد بعد أن حصل على مساعدة والي مصر وأفلت من مراقبة الشرطة العباسية‪ ،‬يفسره عزمه على‬
‫الخذ بثأر العلويين‪ ،‬من جهة‪ ،‬وطموحه إلى تأسيس دولة قادرة على مناوأة الخلفة العباسية والقضاء عليها إذا ما ساعدت الظروف على ذلك‪،‬‬
‫من جهة أخرى‪.‬‬

‫حينما وصل إدريس إلى المغرب توجه ‪ ،‬أول‪ ،‬إلى طنجة التي كانت تعتبر آنذاك حاضرة المغرب الكبرى‪ .‬وكان ل بد له‪ ،‬ول شك‪ ،‬من وقت‬
‫للطلع على أحوال البلد وسكانها وجس نبض أهلها‪ ،‬على المستوى السياسي‪ .‬فأخذ يتصل بنفسه أو بواسطة موله راشد ببعض رؤساء القبائل‬
‫الكبرى في المغرب لسماع كلمته ونشر دعوته‪ .‬وقد احتفظت لنا بعض المصادر بوثيقة مهمة‪ ،‬يرجع الفضل في نشرها إلى علل الفاسي الذي‬
‫نقلها عن مخطوط يمني‪ .‬وهي عبارة عن نداء وجهه إدريس إلى المغاربة‪ .‬وهو نص طويل نكتفي هنا بإيراد فقرة منه‪:‬‬

‫"وقد خانت جبابرة في الفاق شرقا وغربا‪ ،‬وأظهروا الفساد وامتلت الرض ظلماً وجوراً‪ .‬فليس للناس ملجأ ول لهم عند أعدائهم حسن رجاء‪.‬‬
‫فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر اليد الحاصدة للظلم والجور‪ ،‬وأنصار الكتاب والسنة‪ ،‬القائمين بحق المظلومين من ذرية النبيين‪.‬‬
‫فكونوا عند ال بمنزلة من جاهد مع المرسلين ونصر ال مع النبيين‪ .‬واعلموا معاشر البربر أني أتيتكم‪ ،‬وأنا المظلوم الملهوف‪ ،‬الطريد الشريد‪،‬‬
‫الخائف الموتور الذي كثر واتره وقل ناصره‪ ،‬وقتل إخوته وأبوه وجده وأهلوه فأجيبوا داعي ال‪ .‬فقد دعاكم إلى ال‪".‬‬

‫(الوثائق ‪ :‬المجموعة الولى ص ‪.).43‬‬

‫وأدت الدعوة والتصالت إلى نتائج إيجابية في أمد قصير‪ ،‬مما يدل على ذكاء‪ ،‬إدريس ودهاء موله راشد وهكذا لبت جملة من قبائل البربر‬
‫الدعوة وقبلت أن تلتف حول إدريس ‪ .‬ول شك أن انتماءه للسرة النبوية كان له أثر قوي في هذا القبال ‪ ،‬سيما والعلويون يومئذ كانوا يمثلون‬
‫العنصر الثائر والمعارض‪ .‬فالرتباط بدعوة إدريس معناه التحرر من كل تبعية للخلفة العباسية وضمان الستقلل السياسي للمغرب‪.‬‬

‫وترتب عن هذا الموقف الجماعي لقبائل البربر أن حصل اتفاق بين إدريس بن عبد ال وزعيم أوربة القبيلة ذات الشوكة في المنطقة ‪ ،‬إسحاق‬
‫محمد بن عبد الحميد الوربي‪ .‬وتحول إدريس إلى مدينة وليلي‪ ،‬حيث تمت بيعته يوم الجمعة ‪ 4‬رمضان سنة ‪ 172‬هـ الموافق ‪ 6‬فبراير ‪ 789‬م ‪.‬‬
‫وكانت قبيلة أوربة أول من بايعه من قبائل المغرب‪ ،‬نظراً لمنزلتها الكبرى في المنطقة‪ .‬ثم تلتها قبائل زناتة وأصناف من قبائل أخرى مثل زواغة‬
‫وزواوة ولماية وسدراته وغياثة ونفزة ومكناسة وغمارة الخ‪ .‬وكان للقبائل في ذلك العصر أهمية أكبر من اليوم ‪ ،‬نظرا لكون البادية كانت أكثر‬
‫سكانا من المدن ولكون ظاهرة العصبية كانت ذات تأثير خطير‪ ،‬على المستوى السياسي‪.‬‬

‫ويحدد القرطاس شروط البيعة ‪ ،‬إذ يقول‪ " :‬بايعوه على المارة والقيام بأمرهم وصلواتهم وغزوهم وأحكامهم " (ص ‪ . )20‬وكان الحدث في حد‬
‫ذاته ذا أهمية قصوى في تاريخ المغرب لنه يرمز إلى قيام الدولة المغربية المستقلة لول مرة في حياة البلد ‪ ،‬بحيث كانت الدولة الدريسية بما‬
‫خلقته من تقاليد ونظم لتسيير البلد أول صورة لدولة حقيقية في المغرب تكيف المعطيات البشرية المحلية مع تعاليم السلم وتراثه السياسي‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وما أن بويع إدريس حتى كون جيشا من قبائل زناتة وأوربة وصنهاجة وهوارة وقاده لفتح أقاليم مغربية أخرى وتوسيع مملكته‪ .‬فاستولى على‬
‫شالة‪ ،‬ثم على سائر بلد تامسنا وتادل‪ .‬وعمل على نشر السلم بها‪ .‬ثم عاد بجيشه إلى وليلي في آخر ذي الحجة من سنة ‪ 172‬هـ‪ .‬وتوقف مدة‬
‫قصيرة بقصد إراحة الجنود‪.‬‬

‫ثم خرج في سنة ‪ 173‬هـ لمواصلة نشر السلم بالمعاقل والجبال والحصون المنيعة ‪ ،‬مثل حصون فندلوة وحصون مديونة وبهلولة وقلع‬
‫غياثة وبلد فازاز أي الطلس المتوسط ‪ .‬وتوصل إلى نتائج إيجابية عند قيامه بتبليغ الدعوة ‪ ،‬حيث استجاب السكان لدعوته بالقبول ‪ .‬ثم عاد من‬
‫حملته العسكرية تلك في جمادى الخيرة سنة ‪ 173‬إلى مدينة وليلي بقصد إراحة جيشه ‪.‬‬

‫وفي نصف رجب من السنة ذاتها (‪ 8‬دجنبر ‪ ،)789‬توجه إدريس بجيشه صوب الجهة الشرقية من المغرب القصى‪ ،‬فوصل إلى مدينة تلمسان‬
‫وخيم قبالتها‪ .‬فخرج إليه أميرها محمد بن خزر بن صولت المغراوي فطلب منه المان‪ ،‬فأمنه إدريس‪ ،‬فقدم له محمد بن خزر بيعته‪ ،‬ودخل‬
‫إدريس إلى تلمسان بعد أن بايعته قبائل زناتة بتلك الجهات‪.‬‬

‫هكذا حصل إدريس على نتائج كبيرة في أقل من سنتين ‪ ،‬بفضل جده ومثابرته وشجاعته‪ ،‬وأصبح يضم تحت سلطته مملكة تمتد من تامسنا غربا‬
‫إلى تلمسان شرقا‪ ،‬مارة بتادل والطلس المتوسط ‪ .‬كل هذا أثار مخاوف الخليفة هارون الرشيد‪ ،‬سيما وهو يلحظ أن إدريس في تحركاته‬
‫العسكرية الخيرة أخذ يتجه نحو الشرق وبات يشكل خطرا وشيكا على وليتها المامية في المغرب‪ :‬أفريقية ‪ ،‬التي كانت يومئذ في وضع قلق‬
‫وتعاني من اضطرابات مختلفة ‪ .‬فلم ير الرشيد بدا من التخلص من إدريس بأية وسيلة‪.‬‬

‫ول فائدة من الدخول في تفاصيل الرواية المتداولة عن اغتيال إدريس عن طريق السم التي وقع فيها بعض الختلف والزيادات القصصية‪.‬‬
‫والمهم في ذلك هو أن الرشيد لما رأى صعوبة توجيه جيش من العراق إلى المغرب وأدرك أنه ل يستطيع أن يعتمد كثيرا على جيشه بأفريقية‪،‬‬
‫قرر اللجوء إلى أسلوب الغتيال على يد رجل ماهر في الكذب والتلبيس والجاسوسية‪ .‬كما يحدث إلى يومنا هذا في قضايا الغتيال السياسي‪.‬‬
‫وبمساعدة إبراهيم بن الغلب الذي كان من الرجال الثقاة عند الرشيد على الصعيد المحلي وكان مرشحا لتولي منصب الولية على أفريقية‪ .‬هل‬
‫الشخص المكلف بهاته المهمة كان هو الشماخ أو سليمان بن جرير ؟ سؤال يستحيل الجواب عليه‪ .‬وكل ما يمكن تأكيده هو أن ذلك الشخص تمكن‬
‫من اغتيال إدريس عن طريق السم سنة ‪ 177‬هـ‪.793 /‬‬

‫تلك‪ ،‬على وجه الجمال‪ ،‬هي ترجمة إدريس الول الذي أصبح شخصا مقدسا عند المغاربة له ضريح كبير في مدينة زرهون‪ ،‬يقام له فيه موسم‬
‫كبير في كل سنة‪.‬‬

‫الدارسة‬

‫‪ .1‬اختلف في تاريخ قدوم إدريس إلى المغرب ؟ هناك رواية تقول إن مجيء إدريس إلى المغرب حدث في عهد أبي جعفر المنصور أي إثر‬
‫ثورة محمد النفس الزكية في سنة ‪ 145‬هـ‪ .‬ولكن أغلب الروايات تقول إنه جاء بعد موقعة فخ سنة ‪ 169‬هـ‪ .‬وهو التاريخ المعتمد عند جل‬
‫المؤرخين القدماء والمحدثين‪.‬‬

‫‪ .2‬ورد في بعض المصادر الزيدية أن إدريس قصد المغرب داعيا لخيه يحيى بن عبد ال الذي فر إلي الديلم ‪ .‬فلما بلغه موت أخيه في سجن‬
‫الرشيد‪ ،‬دعا إلى نفسه‪ .‬وهي رواية يصعب البت فيها‪ .‬وهي‪ ،‬على أي حال ‪ ،‬ل تتنافى مع ما حدث من بعد‪.‬‬

‫‪ .3‬مذهب إدريس ‪ :‬الرائج عند بعض الباحثين المغاربة المعاصرين أن إدريس كان سنيا ومالكيا ‪ ،‬وهو قول ل يثبت أمام النقد التاريخي‪ .‬فالسنة‬
‫كانت ‪ ،‬في عهد إدريس ‪ ،‬موجودة كممارسة ل كمذهب ‪ .‬فالمذهب السني لم تكن وقعت بعد صياغته النهائية وحررت مبادئه وجمعت نصوصه‬
‫كاملة‪ .‬ويجب انتظار عصر الشعري وتلمذته‪ ،‬ابتداء من القرن الثالث الهجري ليظهر المذهب بقواعده وأحكامه‪ .‬كما أن دخول المذهب المالكي‬
‫إلى المغرب مع إدريس بعيد الحتمال‪ ،‬إذا اعتبرنا القنوات التي مر بها المذهب المالكي ليصل إلى أفريقية ثم إلى الندلس‪ ،‬واعتبرنا شخصية‬
‫العلماء الولين الذين تذكر المصادر الموثوق بها أنهم كانوا أول من أدخل المذهب إلى المغرب‪ .‬فهنالك أزيد من قرن بين هؤلء وإدريس‪ .‬ول‬
‫ننس ‪ ،‬في الخير‪ ،‬أن إدريس نشأ في بيئة زيدية وأنه بسلوكه وثورته على العباسيين طبق أحد مبادئ الزيدية الذي يقول بأن المامة هي حق لمن‬
‫قدر عليها من العلويين‪ .‬وقد ثبت من مصدر معروف هو مقاتل الطالبيين لبي الفرج الصبهاني أن عبد ال بن الحسن‪ ،‬أبا إدريس وكذلك أخوه‬
‫الحسن بن الحسن قد اعتنقا مذهب الزيدية في المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وعن هذه المدرسة تخرج أولد عبد ال الذين ثاروا على‬
‫العباسيين‪ ،‬مثل محمد النفس الزكية وإبراهيم ويحيى وإدريس وسليمان‪ .‬ومن المعلوم أن المذهب الزيدي ل يختلف كثيرا عن المذهب السني‬
‫ويلتقي في بعض الفكار مع المعتزلة‪ ،‬الشيء الذي ربما يفسر التعاطف الذي حصل بين إدريس وإسحاق الوربي الذي قيل عنه إنه كان معتزليا‪.‬‬
‫ومهما يكن‪ ،‬فلم يرد في المصادر التاريخية التي نعتمد عليها أي إشارة بأن إدريس كان سنيا أو مالكيا‪ ،‬وإنما هو تخمين واجتهاد من بعض‬
‫الباحثين المعاصرين‪ .‬والمصادر التي نعتمد عليها تتحدث عن التردد الذي وقع بين المذاهب بالمغرب والندلس في الفترة الولى من دخول‬
‫السلم قبل أن يقع الختيار النهائي على السنة والمذهب المالكي‪.‬‬

‫‪ .4‬تأسيس فاس ‪ :‬كانت الرواية المتداولة والمنقولة عن القرطاس هي أن إدريس الثاني هو المؤسس الول لمدينة فاس ‪ .‬لكن‪ ،‬بعد العثور على‬
‫قطع نقدية إدريسية والطلع على نصوص الرازي والبكري وابن سعيد وغيرهم ‪ ،‬وبعد الدراسة المهمة التي قدمها المستشرق ليفي بروفنصال‬
‫في هذا الصدد‪ ،‬يتضح أن المؤسس الول لمدينة فاس كان هو إدريس بن عبد ال‪ ،‬أي إدريس الول وأن إدريس الثاني أضاف إليها عدوة‬
‫القرويين بعد مرور عشرين سنة على البناء الول‪ .‬وكانت المدينة الثانية تحمل اسم "العالية" حسب شهادة النقود‬
‫‪13‬‬
‫الأدارسة‬

‫الدولتين الدريسية والرستمية والدويلت المجاورة‬

‫الدولة الدريسية بعد وفاة إدريس الثاني‬

‫الدارسة‪ :‬أولى السللت السلمية المستقلة في المغرب ‪ 974-788‬م‪.‬‬

‫المقر‪ :‬وليلى‪ 807-788 :‬م‪ ،‬فاس‪ :‬منذ ‪ 807‬م‪.‬‬

‫مؤسس السللة إدريس بن عبد ال الكامل (‪ 793-788‬م) من أحفاد الرسول محمد (ص)‪ ،‬نجا بنفسه من مذبحة فخ‪ ،‬التي أقامها العباسيون‬
‫للعلويين سنة ‪ 786‬م‪ .‬فر إلى وليلى (بالمغرب)‪ .‬تمت مباعيته قائدا و أميرا و إماما من طرف قبائل البربر في المنطقة‪ .‬و سع حدود مملكته حتى‬
‫بلغ تلمسان (‪ 789‬م)‪ .‬ثم بدأ في بناء فاس‪ .‬قام الخليفة العباسي هارون الرشيد بتدبير اغتياله سنة ‪ 793‬م‪ .‬لدريس الول (مولي إدريس في‬
‫المغرب) مكانة كبيرة بين المغربيين‪ .‬و يعتبر قبره في وليلى (مولي إدريس اليوم) مزارا مشهورا‪ .‬قام ابنه إدريس الثاني (‪ 828-793‬م) و الذي‬
‫تولى المامة منذ ‪ 804‬م‪ ،‬قام بجلب العديد من الحرفيين من الندلس و تونس‪ ،‬بنى فاس و جعلها عاصمة الدولة‪ ،‬كما دعم وطائد الدولة‪ .‬قام ابنه‬
‫محمد (‪ 836-828‬م) عام ‪ 836‬م بتقسيم المملكة بين إخوته الثمانية (أو أكثر)‪ .‬كانت لهذه الحركة تأثير سلبي على وحدة البلد‪ .‬بدأ بعدها مرحلة‬
‫الحروب الداخلية بين الخوة‪ .‬منذ ‪ 932‬م وقع الدارسة تحت سلطة المويين حكام الندلس والذين قاموا لمرات عدة بشن حملت في المغرب‬
‫لبعاد الدارسة عن السلطة‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫بعد معارك و مفاوضات شاقة تمكنت جيوش المويين من القبض على آخر الدارسة (الحسن الحجام) والذي استطاع لبعض الوقت من أن‬
‫يستولى على منطقة الريف و شمال المغرب‪ ،‬تقبض عليه سنة ‪ 974‬م‪ ،‬ثم اقتياده أسيرا إلى قرطبة‪ .‬توفي هناك سنة ‪ 985‬م‪.‬‬

‫تفرعت عن الدارسة سللت عديدة حكمت بلدان إسلمية عدة‪ .‬أولها كان بنو حمود العلويون الذين حكمو في الجزيرة ومالقة (الندلس)‪ .‬كما‬
‫تولوا لبعض الوقت أمور الخلفة في قرطبة‪ .‬فرع آخر من الدارسة حكم جزءا من منطقة عسير في السعودية بين سنوات ‪ 1943-1830‬م‪.‬‬
‫المير عبد القادر الجزائري و الذي حكم في الجزائر سنوات ‪ 1847-1834‬م ينحدر من هذه السرة أيضا‪ .‬آخر فروعهم كان السنوسيين حكام‬
‫ليبيا و الجبل الخضر ‪ 1969-1950‬م‪.‬‬

‫[تحرير]‬

‫قائمة المراء‪:‬‬
‫الحكم‬ ‫الحياة‬ ‫الحاكم‬
‫‪788-793‬‬ ‫‪793-....‬‬ ‫إدريس بن عبد ال‬ ‫‪1‬‬

‫‪807-828‬‬ ‫‪793-828‬‬ ‫إدريس الثاني‬ ‫‪2‬‬

‫‪828-836‬‬ ‫‪836-....‬‬ ‫محمد بن إدريس‬ ‫‪3‬‬

‫‪836-848‬‬ ‫‪849-....‬‬ ‫علي بن محمد‬ ‫‪4‬‬

‫‪848-864‬‬ ‫‪848-....‬‬ ‫يحي بن محمد‬ ‫‪5‬‬

‫‪864-874‬‬ ‫‪874-....‬‬ ‫يحي بن يحي‬ ‫‪6‬‬

‫‪874-883‬‬ ‫‪....-....‬‬ ‫علي بن عمر بن إدريس‬ ‫‪7‬‬

‫‪883-904‬‬ ‫‪904-....‬‬ ‫يحي بن القاسم بن إدريس‬ ‫‪8‬‬

‫‪904-917‬‬ ‫‪934-....‬‬ ‫يحي بن إدريس بن عمر‬ ‫‪9‬‬

‫في منطقة الريف‬


‫‪905-922‬‬ ‫‪....-....‬‬ ‫الحسن الحجام بن محمد بن القاسم‬ ‫‪9‬‬

‫‪937-925‬‬ ‫‪....-....‬‬ ‫القاسم كنون بن أبراهيم‬ ‫‪10‬‬

‫‪948-959‬‬ ‫‪....-....‬‬ ‫أبو العيش أحمد بن كنون‬ ‫‪11‬‬

‫‪959-985‬‬ ‫‪....-....‬‬ ‫الحسن بن كنون‬ ‫‪12‬‬

‫المصادر و الروابط‬

‫•‪Islam: Kunst und Architektur‬‬


‫•الدارسة‬

‫إدريس (الثاني) إدريس الزهر بن إدريس (الول) بن عبد ال الكامل إدريس الزهر‪،‬‬

‫ل شك أن هارون الرشيد بات مطمئنا من جهة العلويين بعد تدبير اغتيال إدريس الول سنة ‪ ،793 / 177‬لعتقاده بأن نسل الدارسة انقطع من‬
‫المغرب ‪ .‬ولكن إدريس ما توفي حتى ترك جارية له اسمها كنزة حامل‪ .‬وتربص راشد موله ومن حوله من البربر حتى يروا المولود المنتظر‬
‫فإن كان ذكرا ولوه مكان أبيه وإل اختاروا لنفسهم ما يليق بهم ‪.‬‬

‫وحالف الحظ السرة العلوية ‪ ،‬إذ وضعت كنزة ولدا ذكرا يوم الثنين ‪ 3‬رجب ‪ 14( 177‬أكتوبر ‪ )793‬ضمن للسرة الدريسية استمرارها ‪،‬‬
‫وهي السرة الكبيرة التي سيلمس وجودها في كثير من منعطفات تاريخ المغرب ‪ ،‬قديمه وحديثه ‪.‬‬

‫ويُفيض القرطاس في ذكر تربية إدريس وتكوينه ‪ ،‬فيصفه بأنه كان "عارفا بالفقه والسنة والحلل والحرام وفصول الحكام "‪ .‬ول شك أن راشدا‬
‫موله سهر على ذلك التكوين ‪ ،‬لن ترشيحه لمنصب المامة كان يقتضي معرفة مدققة بالعلوم الدينية واللغة العربية حتى يكون منافسا عن جدارة‬
‫واستحقاق للخلفاء العباسيين المعاصرين ‪ .‬وهو ما يؤكده نفس المصدر متحدثا عن دور راشد ‪" :‬وأقرأه القرآن فحفظه وله من السنين ثمانية‬
‫أعوام ‪ ،‬وعلمه السنة والفقه والنحو والحديث والشعر وأمثال العرب وحكمها وسير الملوك وسياستها وعرفه أيام الناس ودربه مع ذلك على‬
‫ركوب الخيل والرمي بالسهام ومكايد الحرب " (ص ‪. )25‬‬

‫‪15‬‬
‫وهذا التكوين جدير بأن يثير اهتمام المؤرخ للسبب الذي ذكرنا ولسبب آخر هو أن إدريس نشأ بين قوم كانوا ما زالوا حديثي عهد بالسلم وكانت‬
‫بضاعتهم من العربية قليلة ‪ .‬فكان الحفاظ على الدين يتطلب أن يكون المام ذا علم وثقافة متينة ‪ .‬كما أن شعوره بهويته كفرد من آل البيت كان‬
‫يقتضي مثل ذلك التكوين ‪.‬‬

‫ولم يتول إدريس الثاني‪ ،‬بالطبع ‪ ،‬مهام المامة أثناء هاته الفترة من طفولته ‪ ،‬بل ظل تحت وصاية موله راشد الذي اغتيل سنة ‪ .188‬فتولى‬
‫حينئذ مهمة الوصاية أبو خالد يزيد بن إلياس العبدي‪ .‬فسارع بأخذ البيعة من جميع قبائل البربر في ‪ 1‬ربيع الول سنة ‪ 16( 188‬فبراير ‪ 804‬م )‬
‫لدريس وهو ابن إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر‪ .‬وقد اعتمدنا أشهر الروايات في ذكر هاته التواريخ لن هنالك اختلفات بين المصادر‪.‬‬

‫والظاهر أن إدريس لم يبتدئ بمباشرة شؤون الدولة بنفسه إل بعد سنة ‪ .190‬فالمصادر ل تذكر له أي عمل َبيّن قبل ذلك التاريخ الذي بدأ يعمل‬
‫فيه من أجل نقل عاصمة دولته من وليلي إلى فاس ‪ .‬وكل ما يمكن الشارة إليه هو أن صمود الدولة الفتية للمكايد والصدمات أكسبها سمعة في‬
‫جهات متعددة من بلد السلم ‪ .‬فاتجهت إليها النظار وقصدتها الوفود والمهاجرة من أفريقية والندلس بالخصوص فيذكر القرطاس هجرة‬
‫خمسمائة فارس من القيسية والزد ومدلج وبني يحصب والصدف وغيرهم ‪ .‬وترتب عن تلك الهجرة نتيجتان ‪:‬‬

‫‪ .1‬إدخال العنصر العربي للدائرة المحيطة بإدريس لنه ´´كان فريدا بين البربر ليس معه عربي´´‪ .‬حسب تعبير القرطاس ‪.‬‬

‫‪ .2‬تضخم عدد السكان بمدينة وليلي الشيء الذي دفع بإدريس ومستشاريه إلى التفكير في النتقال إلى فاس ‪.‬‬

‫هل كان إدريس الثاني هو المؤسس لمدينة فاس كما تؤكد ذلك رواية القرطاس أم الذي بدأ بتأسيسها هو إدريس الول كما تؤكده حجج تاريخية‬
‫أخرى ل سبيل لتجاهلها ؟ الظاهر من البحث التاريخي الحديث أن إدريس الثاني إنما كان مؤسسا لمدينة ثانية تحاذي المدينة الولى وهي عدوة‬
‫القرويين التي استقر بها مهاجرة أفريقية من مدينة القيروان وهي المدينة المدعوة العالية في مجموعة من الدراهم حدث سكها بعد بيعة إدريس‬
‫الثاني‪ .‬وقد شرع في بناء عدوة القرويين في ‪ 1‬ربيع الول ‪ 22( 193‬يناير ‪ 809‬م )‪ .‬وعن تفاصيل هذا الموضوع التاريخي الهام من الفضل‬
‫الرجوع إلى مادة فاس في معلمة المغرب‪.‬‬

‫ولعل القالب الجديد الذي دخلت فيه الدولة الدريسية بتوافد عدد كبير من العرب إليها وخروجها شيئا فشيئا من الروابط القبلية الولى التي‬
‫شاهدت ميلدها أحدث نوعا من الستياء لدى قبيلة أوربة القوية ‪ .‬فإذا أضفنا إلى ذلك الدسائس التي كان يدبرها ابن الغلب لضعاف الدولة‬
‫الدريسية إن لم يكن للقضاء عليها ‪ ،‬والتي منها إثارة التنافر بين إدريس والبربر لسباب عرقية ‪ ،‬فهمنا كيف تعرضت الدولة آنذاك لبعض‬
‫المشاكل التي لم يمكن حسمها إل بالقوة ‪ .‬وقد ربط ابن الغلب خيط التصال مع إسحاق الوربي الذي كان من المؤسسين الوائل للدولة ‪،‬‬
‫وحرضه على إدريس الثاني‪ ،‬متذرعا بميل هذا الخير إلى الوافدين العرب الجدد‪ .‬فأثار حفيظة إسحاق وقومه ‪ ،‬الذين أخذوا يتآمرون عليه ‪ .‬فما‬
‫كان من إدريس إل أن تصدى للمتآمرين بقمعهم وقتل زعيمهم إسحاق سنة ‪192‬هـ‪.‬‬

‫والظاهر أن إدريس لم يكن يريد استبعاد أوربة أو الستغناء عنهم ‪ ،‬كما يفهم من تأويل القرطاس لنه رغب من بعد في استمالتهم من جديد‪ .‬وإنما‬
‫كان قصده أن يحول دولته من الطار القبلي إلى الطار السلمي بالعتماد على مساعدين لهم علم وخبرة بالنظم السلمية وتقاليدها‪ .‬ولذلك ‪،‬‬
‫فإنه اتخذ من عمير بن مصعب الزدي وزيرا له ‪ ،‬ويذكر عنه القرطاس أنه ينتمي لسرة عريقة في خدمة الدولة السلمية ‪ .‬كما عين عامر بن‬
‫محمد القيسي‪ ،‬قاضيا "وكان رجل صالحا ورعا فقيها سمع من مالك وسفيان الثوري وروى عنهما كثيرا" (ص ‪ )20‬واتخذ من عبد ال بن مالك‬
‫الخزرجي النصاري كاتبا له ‪ .‬ول شك أن هناك أسماء أخرى غفلت عن ذكرها المصادر‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن الدارسة قاموا بمناوأة الخلفة العباسية ‪ .‬فكان ل بد لهم من أن ينظموا دولتهم على غرارها وأن يتخدوا لنفسهم دواوين يضعون‬
‫على رأسها رجال ذوي خبرة وسمعة في المجتمع السلمي المعاصر‪ .‬وطبيعي أن ل تروق هذه السياسة أنصار الدولة الولين من أوربة‬
‫وغيرهم وأن تحدث من جراء ذلك مصاعب وأن يحاول ابن الغلب استغلل التناقضات التي برزت في صفوفهم ‪ .‬وليس من المستعبد أن يكون‬
‫القيروانيون الذين غادروا أفريقية وقصدوا إدريس من العناصر المعارضة للخلفة العباسية ولولتها الغالبة ‪ ،‬وهذا ما زاد في حنق إبراهيم على‬
‫إدريس ودفعه إلى الكيد به ‪.‬‬

‫وتجلى ذلك في خطة ل تخلو من أسلوب الجاسوسية ‪ ،‬إذ أخذ يتصل سرا بأقرب رجل إلى إدريس بهلول بن عبد الواحد المدغري‪ ،‬الذي كان‬
‫وزيره المخصوص بثقته و"االقائم بأمره" فأخذ يوغر صدره على إدريس ويزين له الثورة عليه ويغريه بالمال ويحثه على "ترك طاعة إدريس‬
‫إلى طاعة هارون"‪ .‬وعلى إثر مراسلت عديدة بين الرجلين ‪ ،‬تخلى بهلول عن إدريس والتحق بالقيروان عند ابن الغلب الذي عد الحدث‬
‫انتصارا وطير به الخبر إلى الرشيد في بغداد‪.‬‬

‫حاول إدريس عبثا أن يستعيد ولء بهلول إليه ‪ ،‬فتضايق من دسائس ابن الغلب وكتب إليه يستعطفه ويرجوه أن يكف عنه ‪ .‬والظاهر أن حاشية‬
‫ابن الغلب كانت تضم عناصر يعطفون على آل البيت وينصحون أميرهم بالعتدال والكف عن إذاية إدريس ‪.‬‬

‫وفي نفس السياق ‪ ،‬يمكننا أن نتساءل عن مصير شخص آخر مهم وهو أبو خالد يزيد العبدي الذي رأيناه يحل محل راشد في الوصاية على عرش‬
‫إدريس ‪ .‬والظاهر أن أيامه لم تطل في الوفاق مع هذا الخير بعد أن تسلم مقاليد المور‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫كل هاته المشاكل ل يصح إلقاء المسؤولية فيها كاملة على الشخاص ‪ ،‬بل هي ناشئة ‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬عن مشروع مهم وجديد‪ ،‬أل وهو المحاولة‬
‫الجريئة التي تصدى لها كل من إدريس الول وإدريس الثاني أل وهو بناء دولة كبيرة بالمغرب على النسق السلمي‪ .‬وطبيعي أن يصطدم‬
‫مشروع كهذا بنظام اجتماعي متقادم مبني على القبلية وبعادات وأعراف وعقليات مختلفة عن التصور الجديد الذي أتى به السلم ‪.‬‬

‫ومع ذلك ‪ ،‬فقد نجح المشروع إلى حد كبير إذا اعتبرنا أن نموذج الدولة السلمية بالمغرب انطلق من تلك التجربة الولى وأن المغاربة‬
‫سيستوعبون درسها جيدا بعد أن خرجوا من طور المفاجأة الولى‪.‬‬

‫وتشير الروايات التاريخية ‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬إلى أن إدريس تحرك هو‪ ،‬أيضا ‪ ،‬بجيشه لتوطيد نفوذ دولته بالمغرب ‪ ،‬وتجاوز الحدود التي كان قد‬
‫وصل إليها والده ‪ .‬فتقدم نحو الطلس الكبير‪ ،‬واستولى على مدينتي نفيس وأغمات وأقام نفوذ الدولة في بلد مصامدة الجنوب ‪ ،‬وكان ذلك فى‬
‫سنة ‪ .812 / 197‬ثم اتجه بعد ذلك إلى الشرق نحو نفزة وتلمسان التي دخل إليها وأنجز فيها بعض البناءات وأقام بها ثلث سنين ‪.‬‬

‫وتؤكد لنا دراسة البقايا من النقود الدريسية الماكن التي بلغ إليها نفوذ الدولة في عهد إدريس الثاني‪ ،‬وهي الماكن التي وجدت بها دور السكة ‪.‬‬
‫إذ نجد عددها يبلغ ستة عشر وفيها مدن مثل أصيل والبصرة وتدغة وتلمسان وتهليت وسبو وطنجة والعالية (فاس) ومريرة (مريرت الحالية) ‪.‬‬
‫وورغة ووازقور (ناحية أم الربيع ) وطيط ووليلي وايكم ‪ .‬هذه السماء تدلنا ‪ ،‬ولو نسينا ‪ ،‬على مدى اتساع المملكة التي كان يحكمها إدريس‬
‫الثاني‪ ،‬وتبين لنا أن هذا المير كان يسير بخطى وئيدة في تنفيذ خطة أبيه الذي كان يهدف إلى تأسيس دولة كبيرة ينافس بها دولة العباسيين ‪.‬‬

‫إل أن هؤلء كانوا واعين بخطر الدارسة وحذرين منه أشد حذر‪ ،‬ولذلك ‪ ،‬فإنهم ظلوا يحرضون الغالبة على الكيد لهم ‪ .‬وهكذا مات إدريس‬
‫فجأة في ‪ 10‬جمادى الخر سنة ‪ 29( 213‬غشت ‪ )828‬في العهد الذي كان فيه زيادة ال بن الغلب واليا على أفريقية ‪ ،‬وكان سن إدريس عند‬
‫وفاته ستا وثلثين سنة ‪.‬‬

‫ولئن ذكر القرطاس أن سبب موته هو أنه شرق بحبة عنب ‪ ،‬فإن مصادر أخرى مثل البكري وابن عذاري تذكر أنه مات مسموما ‪ .‬بل إن ابن‬
‫البار يؤكد أن "زيادة ال احتال عليه حتى اغتاله " الحلة السيراء ‪.‬‬

‫وبموت إدريس ينتهي طموح الدارسة إلى تأسيس دولة قوية موحدة ‪ ،‬ويدب إليهم النقسام والتشتت شيئا فشيئا ‪ .‬فتبدأ صفحة غير وضيئة في‬
‫تاريخهم ‪.‬‬

‫المراجع ‪ :‬أ‪ .‬البكري‪ ،‬المغرب ‪ ،‬الجزائر ‪ 1985‬؛ ا‪ .‬ابن عذاري‪ ،‬البيان ج ‪ ،1‬بيروت ‪ 1948‬؛ ع‪ .‬ابن أبي زرع‪ ،‬القرطاس ‪ ،‬الرباط ‪ 1973‬؛ أ‪.‬‬
‫ابن البار‪ ،‬الحلة السيراء‪ ،‬القاهرة ء ‪ 1963‬؛ أ‪ .‬الجزنائي‪ ،‬زهرة الس ‪ ،‬الرباط ؛ ل ‪ ،‬ابن الخطيب ‪ ،‬أعمال العلم ‪ ،‬الدار البيضاء ‪ 1964‬؛ ع‪.‬‬
‫ابن خلدون ‪ ،‬العبر‪ ،‬بيروت ‪ 1959‬؛ النويري‪ ،‬تاريخ المغرب السلمي‪ ،‬الدار البيضاء ‪ 1984‬؛ م ‪ .‬إسماعيل ‪ ،‬الغالبة ‪ ،‬فاس ‪ 1978‬؛ إ‪.‬‬
‫العربي‪ ،‬دولة الدارسة ‪ ،‬بيروت ‪.1983‬‬

‫‪E.I., 2e éd. ; D. Eustache, Le corpus des dirhams Idrissides, Bulletin de la Société d’histoire du Maroc n° 2,‬‬
‫‪ 1969‬محمد زنيبر‬

‫الدارسة‪:‬‬
‫يطيب لي أن أتابع الحديث عن سللة الدارسة الشرفاء بالمغرب بنقل ترجمة بعض مشاهيرهم بتسلسل حسب ما ورد في عمود نسب الشرفاء‬
‫العلميين الذين أنتسب إليهم‪ .‬ويفسر هذا مدى اهتمامي الخاص بسيرة الجداد منهم والتنقيب عن أخبارهم‪ .‬وبعد ترجمة إدريس الول بن عبد ال‬
‫الكامل بن الحسن المثنى ‪ ،‬يأتي الحديث على المولى إدريس الزهر (الثاني) بن إدريس الول بن عبد ال الكامل نقل عن "معلمة المغرب" ص‬
‫‪ 261 – 259‬من ج ‪ 1‬مادة ‪ :‬إدريس الزهر‪ ،‬بقلم محمد زنيبر‪.‬‬

‫أسرة كبيرة من آل البيت جدها العلى هو إدريس بن عبد ال الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء‬
‫بنت الرسول ‪ .‬التجأ إدريس‪ ،‬كما هو معلوم‪ ،‬إلى المغرب فرارا من بطش العباسيين وأسس دولته لكنه اغتيل فتولى بعده ابنه إدريس الذي كان قد‬
‫تركه جنينا في بطن أمه‪ .‬وعن إدريس الثاني تنحدر فروع السرة الدريسية المنتشرة بسائر أنحاء المغرب وبجهات أخرى من الجزائر‪ .‬ونركز‬
‫اهتمامنا هنا على الدارسة كأسرة حاكمة أي كدولة‪ .‬وجودها يقترن بالفترة ‪ .990.785 /375 .172‬لكن لبد من التمييز داخل هاته الفترة بين‬
‫أطوار مختلفة ‪:‬‬

‫طور التأسيس الذي اقترن بعهد إدريس الول (‪ ) 793 .788 / 177 . 172‬أي قيام الدولة بالتفاف فريق مهم من سكان المغرب حول‬ ‫‪.1‬‬
‫إدريس تضمهم قبائل كبرى ومبايعتهم له ‪ ،‬حسب التقاليد السلمية‪.‬‬
‫طور الهيكلة والتنظيم ويقترن بعهد إدريس الثاني (‪ )828 .793 /.213 .177‬حيث جرى تدعيم الدولة الناشئة باستحداث عدد من‬ ‫‪.2‬‬
‫البنيات والمؤسسات كان من أهمها ‪ :‬بنا ء فاس واتخاذها كعاصمة للدولة ؛ واتخاذ بعض النظم السلمية كالوزارة والكتابة والقضاء والمامة‬
‫؛ وتجريد العاصمة الجديدة من تأثير العصبيات والطابع القبلي‪ ،‬وذلك باحتضانها لفئات مهمة من السكان الوافدين من القيروان والندلس ‪،‬‬
‫مما جعل العناصر المختلفة من سكان المدينة تنصهر في وحدة بشرية تمثل ‪ ،‬بوجه عام ‪ ،‬التركيب السكاني الجديد الذي بدأ يعم الغرب‬
‫‪17‬‬
‫السلمي انطلقا من عهد الفتح ‪ .‬إضافة إلى بداية إشعاع اللغة العربية من فاس كلغة دين وثقافة ؟ ونمو رقعة المملكة بحيث أصبحت أهم‬
‫كيان سياسي بالمغرب القصى وكان لها اتصال مباشر بسائر النواحي في البلد ‪.‬‬
‫طور التقسيم ‪ :‬ترك إدريس الثاني غداة وفاته عدة أولد منهم الكبار والصغار وتولى أكبرهم محمد خلفته ‪ ،‬إل أنه اعتبر المملكة التي‬ ‫‪.3‬‬
‫تركها له أبوه إرثا ل بد من توزيعه على الورثة‪ .‬هل استند في ذلك إلى المبادئ الشرعية ؟ أم هل استمع إلى نصيحة جدته كنزة كما تذكر‬
‫بعض المصادر؟ أم هل كان المقصود من ذلك التوزيع هو حضور الدولة الدريسية بصورة مباشرة في أقاليم مختلفة ؟ ليست لدينا عناصر‬
‫كافية للجواب على هذا السؤال ‪ .‬والذي نستطيع تأكيده هو أن التقسيم كانت له سلبيات وايجابيات‪ .‬فتقسيم المملكة إلى عدة وليات أدى إلى‬
‫إضعاف السلطة المركزية ونشوء إمارات إقليمية تنزع بطبيعتها إلى الستقلل الذاتي على أوسع مدى‪ .‬وقبل إعطاء مثال على المشاكل التي‬
‫ترتبت عن ذلك التوزيع ‪ ،‬من الضروري إعطاء صورة إجمالية عن التوزيع‪.‬‬

‫قسم محمد بن إدريس المملكة إلى ما ل يقل عن تسع وليات‪ ،‬نذكرها الن حسب رواية القرطاس ‪ ،‬منبهين إلى وجود اختلفات طفيفة بين‬
‫المصادر التي تناولت الموضوع ‪.‬‬

‫‪.1‬محمد بن إدريس فاس وناحيتها ‪.‬‬


‫‪.2‬القاسم بن إدريس طنجة وسبتة وقلعة حجر النسر وتطوان وبلد مصمودة وما والها‪.‬‬
‫‪.3‬داود بن إدريس هوارة وتسول ومكناس وجبال غياثة وتازة ‪.‬‬
‫‪.4‬عيسى بن إدريس شالة وسل وأزمور وتامسنا ‪.‬‬
‫‪.5‬يحيى بن إدريس البصرة وأصيل والعرائش إلى بلد ورغة ‪.‬‬
‫‪.6‬عمر بن إدريس مدينة تيكساس ومدينة ترغة وبلد صنهاجة وغمارة ‪.‬‬
‫‪.7‬أحمد بن إدريمس مدينة مكناسة وبلد فازاز ومدينة تادل‪.‬‬
‫‪.8‬عبد ال بن إدريس أغمات وبلد نفيس وبلد المصامدة وسوس ‪.‬‬
‫‪.9‬حمزة بن إدريس تلمسان وأعمالها ‪.‬‬

‫تلك هي الوليات التسع التي تدل على مدى امتداد الدولة الدريسية شمال وجنوبا وشرقا وغربا ‪ ،‬وهي معلومات تؤكدها كل المصادر التاريخية‬
‫كما تؤكدها البحاث الخاصة بتاريخ النقود الدريسية ‪ .‬فالدراسة المهمة التي قام بها "دانييل اوستاش" في هذا الصدد تقدم لنا قائمة بدور السكة‬
‫تعنى الماكن التالية ‪ :‬أصيل‪ ،‬البصرة ‪ ،‬تدغة ‪ ،‬تلمسان ‪ ،‬تهليت ‪ ،‬سبو‪ ،‬طنجة ‪ ،‬العالية ‪ ،‬مريرة ‪ ،‬ورغة ‪ ،‬وازقور‪ ،‬واطيط ‪ ،‬وليلي‪ ،‬إيكم ‪.‬‬

‫لم يكن توزيع الوليات على هاته الصورة ‪ ،‬في نية محمد بن إدريس ‪ ،‬يهدف إلى تجريد السلطة المركزية بفاس من حقها في مراقبة الولة‬
‫القليميين والمحافظة على وحدة المملكة الدريسية ‪ .‬لكن الخلف ما لبث أن نشب بين الخوة ‪ ،‬إذ ثار عيسى بن إدريس ‪ ،‬على أخيه محمد‪،‬‬
‫فكلف هذا الخير أخاه القاسم الوالي على طنجة بالذهاب لمعاقبة الثائر‪ .‬لكن القاسم رفض القيام بالمهمة ‪ .‬فكلف محمد عمر بها ‪ .‬فتوجه هذا‬
‫الخير الذي كان واليا على غمارة وعزل عيسى عن وليته كما تصدى للقاسم الذي التجأ إلى أصيل‪.‬‬

‫لم تذكر المصادر المكتوبة أسباب الخلف ‪ .‬ولكن يظهر حسب التحريات التي قام بها "أوستاش" أن أسباب الثورة راجع لكون محمد سحب عن‬
‫الولة رخصة سك النقود ‪ .‬وكان عيسى حاكما على منطقة وازقور التي يوجد بها معدن مهم للفضة ‪ .‬فلم يرضخ لهذا القرار الذي يحرمه من‬
‫مورد مالي مهم ‪ ،‬عن طريق سك الدراهم ‪ .‬وترتب عن ذلك قراره بقطع إمداد دار السكة بفاس بمعدن الفضة ‪.‬‬

‫وهكذا نشب الخلف ‪ ،‬إل أنه لم يؤد ‪ ،‬مع ذلك ‪ ،‬إلى تقاطع ‪ .‬والظاهر أن الصلح وقع بعد ذلك بين الخوة ‪ .‬والجدير بالذكر هو حصول نوع من‬
‫الستقرار السياسي داخل المارات الدريسية المنتشرة بأنحاء المغرب ‪ .‬فلم تسجل ثورات للسكان ول معارضة للقبائل ‪ .‬هل يرجع ذلك إلى‬
‫التقديس الذي حظيت به السرة في أعين المغاربة المعاصرين أم إلى أسباب أخرى ؟‬

‫الملحظ هو اندماج السرة الدريسية في المجتمع المغربي عن طريق المصاهرة والتطبع بأخلق أهل البلد مما جعل السكان في مختلف القاليم‬
‫ل يتعاملون معهم كأجانب ودخلء‪ ،‬بل يعتبرونهم منهم ويحترمونهم ويضعونهم في الصدارة لشرف نسبهم ‪ .‬ويمكننا أن نعتبر أن احترام الشرفاء‬
‫كسلوك شعبي بدأ منذ ذلك العهد يتحول إلى مبدإ سياسي بعد ذلك بعدة قرون ‪ .‬ومع تكون عدة إمارات إدريسية ‪ ،‬يصبح تاريخ الدارسة متشعبا ‪.‬‬
‫وسنقتصر هنا على ذكر أهم الحداث والشخاص ‪.‬‬

‫‪ . 4‬الدارسة بفاس ‪ :‬ظلت فاس هي الحاضرة المركزية للدولة وتولى فيها عدد من المراء نذكرهم بالتتابع ‪:‬‬

‫أ ‪ .‬علي بن محمد بن إدريس (‪ 234 . 221‬هـ) تذكر المصادر أنه سار بسيرة أبيه وجده وأن أيامه كانت أيام سلم ورخا ء‪.‬‬

‫ب ‪ .‬يحيى بن محمد ‪ :‬أخو السابق (‪249 ..234‬هـ) في أيامه كثرت العمارة بفاس وتوافد إليها المهاجرون من جميع جهات الغرب السلمي‪ ،‬مما‬
‫دعا إلى توسيع المدينة والبناء في أرباضها ‪ .‬وفي عهده بني المسجدان المشهوران ‪ :‬جامع الندلس وجامع القرويين ‪.‬‬

‫ج ‪ .‬يحيى بن يحيى (‪252 .249‬هـ) في عهده حدثت أزمة بسبب سوء سيرته وثار عليه عبد الرحمن بن أبي سهل الجذامي واستولى على عدوة‬
‫القرويين ومات يحيى في تلك الثناء وجاء صهره علي بن عمر فاستولى على المدينة وتولى المارة ‪ .‬د ‪ .‬علي بن عمر ‪ :‬ل تحدد المصادر‬

‫‪18‬‬
‫تاريخ وليته بعد فترة من الستقرار‪ ،‬اصطدم بثورة عبد الرزاق الفهري الخارجي وهزمه واضطر لللتجاء إلى أوربة ‪ ،‬بينما دخل عبد الرزاق‬
‫إلى عدوة الندلس فاستولى عليها إل أنه صادف مقاومة من لدن عدوة القرويين التي نادى أهلها على يحيى بن القاسم بن إدريس ‪.‬‬

‫هـ ‪ .‬يحيى بن القاسم بن إدريس (المتوفى سنة ‪292‬هـ) استطاع أن يحافظ على وجود الدولة الدريسية بفاس حيث طرد عبد الرزاق الخارجي من‬
‫عدوة الندلس وخرج لمقاتلة الصفرية ‪ .‬والظاهر أنه قضى عهده في مباشرة الحروب إذ نجده يسقط صريعا في ساحة الوغى وهو يقاتل ربيع بن‬
‫سليمان سنة ‪.292‬‬

‫و ‪ .‬يحيى بن إدريس بن عمر ( ‪ 309 . .292‬هـ) تطنب المصادر في الثناء عليه ‪ .‬فابن خلدون ينعته أنه ´´كان أعلى بني إدريس ملكا´´ بينما‬
‫يصفه روض القرطاس بقوله ‪´´ :‬كان يحيى هذا أعلى بني إدريس قدرا وصيتا وأطيبهم ذكرا وأقواهم سلطانا ( ‪ ) . . .‬وكان فقيها حافظا للحديث‬
‫ذا فصاحة وبيان ولسان ومع ذلك كان بطل شجاعا حازما"‪.‬‬

‫إل أن المصادر ل تذكر شينا عن أعماله ‪ ،‬وذلك ‪ ،‬ول شك ‪ ،‬لن أحداثا خطيرة جاءت لتهدد الدولة الدريسية في وجودها ‪ .‬فقد قامت الدولة‬
‫الفاطمية بأفريقية في أواخر القرن الهجري الثالث وسعت لن تبسط سيطرتها على مجموع بلد المغرب ‪.‬‬

‫وهكذا جاء‪ ،‬مصالة بن حبوس المكناسي‪ ،‬عامل الفاطميين على المغرب الوسط ‪ ،‬على رأس جيش لمحاربة الدارسة ‪ ،‬وجرت بينه وبين يحيى‬
‫معركة قرب مكناس انتهت بهزيمة المير الدريسي‪ .‬وبعد ما ضرب عليه مصالة الحصار بفاس ‪ ،‬اضطر إلى الستسلم وتوصل مع خصمه‬
‫إلى صلح ‪ ،‬أمكنه بمقتضاه أن يحتفظ بإمارته مقابل إعلنه الخضوع والتبعية للخليفة الفاطمي‪.‬‬

‫إل أن مصالة أسند في نفس الوقت رئاسة قبيلة مكناسة بالمغرب إلى ابن عمه موسي بن أبي العافية ‪ .‬فاجتهد هذا الخير منذ ذلك الوقت في‬
‫القضاء على الدارسة ‪ .‬وأخذ يحرض مصالة على يحيى ويوغر صدره عليه ‪ .‬وهكذا تمكن بدسائسه من أن يحمل مصالة على اعتقال يحيى‬
‫وأنصاره ثم نفاه إلى أصيلة ‪ .‬وانتهت حياة يحيى بمأساة إذ سجن عشرين سنة ثم مات جوعا وهو في طريقه إلى إفريقية سنة ‪ 332‬هـ‪.‬‬

‫ومنذ انهزام يحيى قام صراع مرير بين موسى ابن أبي العافية والدارسة ‪ .‬فقد حاول الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس المعروف بالحجام أن‬
‫يسترجع سلطة الدارسة ‪ ،‬فاستولى على فاس وخرج لمحاربة موسى وانتصر عليه في جولة أولى‪ .‬لكن موسى أعاد الكرة عليه وطارده إلى فاس‬
‫حيث غدر به عاملها ومات الحسن في تلك الثناء‪.‬‬

‫خل الجو بعد ذلك لموس ابن أبي العافية واستطاع أن يستولي على ما كان بيد الدارسة من أراض في شمال المغرب وطاردهم وضيق عليهم‬
‫الخناق حتى اضطروا إلى العتصام بحصن منيع في حجر النسر بجبال الريف‪ .‬والواقع أن المأساة التي عاشها الدارسة في تلك الونة راجعة‬
‫إلى الصراع الكبير الذي نشب بين الخلفتين الفاطمية بإفريقية والموية بالندلس ‪ ،‬وكان مسرح هذا الصراع بلد المغرب ‪ ،‬وبخاصة المغرب‬
‫القصى‪.‬‬

‫وحاول الدارسة أن يحافظوا على استقللهم وحيادهم في الحرب الضروس الدائرة بين الطرفين ‪ .‬لكنهم ‪ ،‬بسبب ضعفهم وبسبب الضغوط‬
‫العسكرية القوية التي تعرضوا لها ‪ ،‬تارة من جهة الفاطميين ‪ ،‬وطورا من جهة المويين ‪ ،‬لم يجدوا بدا من الخضوع ‪ ،‬حسب الظروف ‪ ،‬تارة‬
‫لولئك وتارة لهؤلء‪ .‬ولعل ارتباطهم بالمويين كان أقوى‪ ،‬نظرا لقصر المسافة بين المغرب والندلس ‪ ،‬ولكون الخلفاء المويين ربما عاملوا‬
‫زعماء الدارسة بشيء من التقدير والحترام ‪ .‬والوضع الذي عرفه الدارسة في تلك الونة هو نفس الوضع الذي عاشه غيرهم من زعماء‬
‫البربر مثل موس بن أبي العافية المكناسي وأولده‪.‬‬

‫وبرغم الضطهاد والمضايقات التي تعرض لها الدارسة طوال مدة لم تكن بالقصيرة أثناء القرن الرابع ‪ ،‬فقد برهنوا على أن وجودهم أصبح‬
‫متجذرا في عدة أنحاء من المغرب ‪ ،‬وأنهم ظلوا يكونون قوة سياسية متمثلة في زعامات محلية نستطيع أن نذكر منها ‪:‬‬

‫أ ‪ .‬بني عمر ‪ :‬الذين كان مقر نفوذهم في صدينة ببلد صنهاجة جنوبي الريف ‪ .‬واليهم ينتسب الحموديون ‪ ،‬الذين تولوا الخلفة بقرطبة ‪ ،‬ثم كانوا‬
‫من جملة ملوك الطوائف بالندلس ‪.‬‬

‫ب ‪ .‬بنى داود ‪ :‬الذين امتد نفوذهم في جهة وادي سبو‪ ،‬ومن أمرائهم حمزة بن داود ‪.‬‬

‫ج ‪ .‬بني القاسم ‪ :‬ويمثلون فرعا مهما من السرة إذ امتد نفوذها في الهبط ‪ .‬فكان لها مركز بالبصرة وآخر بأصيل‪ .‬ومن أبرز أمرائهم إبراهيم بن‬
‫القاسم ‪.‬‬

‫د ‪ .‬بني عيسى ‪ :‬الذين كان مقرهم بوازقور في جهة الطلس المتوسط ‪ .‬وكانوا يتوفرون على معدن الفضة بجبل عوام ‪.‬‬

‫هـ ‪ .‬بني عبيد ال ‪ :‬الذي سيحل بجنوب المغرب ‪ ،‬حيث ستنتشر ذريته ‪ .‬واليه يعزى تأسيس مدينتين مهمتين ‪ :‬تامدولت ‪ ،‬الواقعة في قدم السفح‬
‫الجنوبي للطلس الصغير وبها معدن الفضة ‪ ،‬وإگلي التي جعل منها عاصمته بعد استيلئه على سوس ‪ .‬وسيمتد نفوذه إلى لمطة ومشارف‬
‫الصحراء جنوبا وإلى أغمات ونفيس شمال‪ .‬ويمكن القول إن هاته السرة كان لها نفوذ روحي قبل كل شيء في المنطقة المذكورة ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫و‪ .‬ومن فروع العلويين المتصلين بالدارسة ‪ ،‬نذكر بني سليمان بن عبد ال وهو أخو إدريس الول ‪ .‬وتختلف الروايات في شأنه هل قتل في‬
‫معركة فخ أم هل تمكن من الفرار ونجح في الوصول إلى تلمسان‪ .‬ومهما يكن ‪ ،‬فإن ولده محمد تتفق المصادر على ذكر اسمه كأمير على تلمسان‬
‫وما حولها من أقاليم في المغرب الوسط ‪ .‬وهو الذي قدم عليه إدريس الثاني ليستلحق إمارة تلمسان بمملكة الدارسة ‪ ،‬وتركه على رأسها ‪ .‬وعن‬
‫محمد بن سليمان تفرعت عدة فروع انتشرت بجهات مختلفة من المغرب الوسط ‪ .‬إل أن المصادر تشح كثيرا ‪ ،‬بالخبار عن هاته السرة‬
‫المرتبطة بالدارسة ‪.‬‬

‫[تحرير]‬

‫نهاية الدارسة بالمغرب‬

‫برغم المصائب التي توالت على الدارسة منذ تصدى لهم موسى ابن أبي العافية ‪ ،‬فقد أمكنهم أن يصمدوا وأن يحافظوا على وجودهم السياسي‬
‫على يد بني القاسم بن إدريس‪ .‬فقد اتفق الدارسة على تولية القاسم بن محمد بن القاسم ابن إدريس واستمر في إمارته إلى أن توفي سنة ‪ 337‬هـ‪.‬‬
‫فتولى بعده ولده أبو العيش أحمد‪ .‬وتميز بالعلم والفقه والورع ‪ .‬وكان مواليا لبني أمية الذين ازداد نفوذهم توطدا بالمغرب ‪ .‬وفضل أبو العيش أن‬
‫ينهي حياته مجاهدا ‪ ،‬إذ توجه للندلس حيث استشهد في ساحة القتال سنة ‪ 343‬هـ‪ .‬فكان الذي خلفه بعد انصرافه إلى الجهاد أخوه الحسن بن‬
‫گنون‪ .‬وفي عهده وقع هجوم جديد للفاطميين على المغرب كان الهدف منه استرجاع سطوتهم على البلد ‪ .‬فاضطر الحسن أمام قوة الهاجمين إلى‬
‫التحول بولئه إلى جهة المهاجمين ‪ .‬لكنه لم يتخذ ذلك الموقف إل تقية ‪ ،‬إذ رجع بولئه إلى المويين بمجرد انصراف جيوش الفاطميين عن‬
‫المغرب ‪.‬‬

‫وبعد مدة ‪ ،‬جاء جيش فاطمي آخر بقيادة بلكين بن زيري‪ .‬فاضطر الحسن ‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬إلى نفض يده من بيعة المويين وتجديد بيعته للفاطميين ‪.‬‬
‫وفي هذه المرة انضم إلى معسكر الفاطميين بصورة فعالة وساهم في التنكيل بأنصار المويين في البلد مما أحقد عليه الخليفة المرواني الحكم‬
‫المستنصر الذي وجه جيشا كبيرا إلى المغرب للنتقام منه وبعد معارك ضارية ‪ ،‬اضطر الحسن لللتجاء إلى حجر النسر ثم للستسلم والذهاب‬
‫مع ذويه إلى قرطبة ( ‪ 363‬هـ ‪ ) 974 /‬لكن ‪ ،‬ما لبث أن حدثت نفرة بينه وبين الحكم بعد سنتين من إقامته بقرطبة ‪ .‬فنفاه الخليفة الموي هو‬
‫وذويه عن الندلس فالتجأوا إلى الفاطميين بمصر‪ ،‬حيث وجدوا استقبال حسنا وظلوا هنالك إلى غاية ‪ .373‬وحينئذ أمر الخليفة الفاطمي بتجهيز‬
‫الحسن بجيش ليذهب إلى المغرب ويستعيد إمارته باسم الفاطميين ‪ .‬لكن المنصور بن أبي عامر بعث لقتاله جيشا قويا ‪ .‬فاضطر إلى طلب المان‬
‫‪ .‬لكن المنصور لم يف له وأمر باغتياله وهو في الطريق إلى قرطبة (‪ . )985 / 375‬وبذلك ´´انقرضت أيام الدارسة بالمغرب بموت الحسن بن‬
‫كنون آخر ملوكهم ´´‪( .‬القرطاس ص ‪. )94‬‬

‫بالرغم على التدهور الذي حصل للدارسة طوال أزيد من قرن ‪ ،‬يمكن القول أنهم قاموا بدور أساسي في تاريخ المغرب ‪:‬‬

‫‪ ..1‬على أيديهم تم تحويل المغرب ‪ ،‬بصورة فعالة إلى عهد السلم الذي عملوا على نشره في أنحاء مختلفة من البلد‪.‬‬
‫‪ ..2‬بمبادرتهم جرت أول محاولة لتجاوز القبلية وذلك بتأسيس دولة على النمط السلمي لها حاضرتها فاس ‪ .‬فكان عملهم أول‬
‫انطلقة فعلية للدولة المغربية في التاريخ‪.‬‬
‫‪ ..3‬مجهودهم على المستوى العمراني باستحداث مدن جديدة أو انعاش القديمة مع تنشيط الحركة التجارية وإنشاء عدد مهم من دور‬
‫السكة في جهات مختلفة من المغرب ‪.‬‬

‫المراجع‬

‫•ابن حزم ‪ ،‬جمهرة النساب ؛‬


‫•ابن حيان ‪ ،‬المقتبس ‪ ،‬ج ‪ 4‬و ‪ 5‬؛‬
‫•البكري‪ ،‬المغرب ؛‬
‫•الدريسي ‪ ،‬نزهة المشتاق ؛‬
‫•ابن عذاري‪ ،‬البيان المغرب ج ‪ 1‬؛‬
‫•ابن أبي زرع‪ ،‬القرطاس ؛‬
‫•ابن خلدون ‪ ،‬العبر ؛‬
‫•ابن الخطيب ‪ ،‬أعمال العلم ؛‬
‫•الجزنائي‪ ،‬زهرة الس ؛‬
‫•أ‪ .‬الناصري‪ ،‬الستقصا ؛‬
‫•ا‪ .‬العربي‪ ،‬دولة الدارسة‪.‬‬
‫•معلمة المغرب ج ‪ 1‬ص ‪( 219-217‬بقلم محمد زنيبر)‬

‫‪Encyclopédie de l’Islam, article Idrissides ; Le Tourneau, Fès avant le Protectorat ; H. Terrasse, Histoire du‬‬
‫‪.Maroc ; D. Eustache, Le corpus des dirhams Idrissides : J. Brignon et autres, Histoire du Maroc‬‬
‫‪20‬‬
‫معركة فخ‪ ..‬ميلد الدارسة‬
‫(في ذكرى نشوبها‪ 8 :‬من ذي الحجة ‪169‬هـ)‬
‫أحمد تمام‬

‫دولة الدارسة‬
‫لم تنقطع ثورات آل البيت منذ أن استشهد الحسين بن علي في معركة كربلء‪ ،‬في العاشر من المحرم سنة ‪61‬هـ‪ ،‬وكانت‬
‫ت قلوب المسلمين حزنًا على الحسين‪ ،‬ريحانة رسول ال –صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬وبعد أكثر‬ ‫نتيجة هذه المعركة مأساة أد َم ْ‬
‫من نصف قرن من مقتل الحسين أعلن حفيده زيد بن علي بن الحسين الثورة على الخليفة الموي سنة ‪121‬هـ‪ ،‬وتكررت‬
‫المأساة نفسها؛ فلم يكن معه من القوة والرجال ما يضمن له النجاح والظفر‪ ،‬لكنه انخدع ببيعة أهل الكوفة‪ ،‬حتى إذا جدّ الجدّ‬
‫وظهرت معادن الرجال انفضوا عنه وتركوه يلقى مصيره المحتوم أمام يوسف بن عمر الثقفي والي الكوفة الذي نجح في‬
‫القضاء على تلك الثورة‪ ،‬وقتل مفجرها زيد بن علي‪.‬‬

‫ولم تنقطع ثورات العلويين بعد تولي أبناء عمومتهم العباسيين الخلفة‪ ،‬وإعلنهم أنهم أحق بها منهم‪ ،‬وقابل العباسيون‬
‫ثورات أبناء العمومة بكل شدة وقسوة‪ ،‬ونجح أبو جعفر المنصور في القضاء على ثورة "محمد النفس الزكية"‪ ،‬الذي كان‬
‫معروفًا بالتقوى والفضل وفي مقدمة سادات بني هاشم خلقًا وعلمًا وورعًا‪ ،‬وانتهت ثورته باستشهاده سنة (‪145‬هـ =‬
‫‪762‬م)‪ ،‬ولم تكن ثورة أخيه إبراهيم أفضل حالً من ثورته‪ ،‬فلقي مصرعه في السنة نفسها‪ ،‬واطمأن أبو جعفر المنصور‬
‫على سلطانه‪ ،‬واستتب له المر‪.‬‬

‫معركة فخ بالقرب من مكة‬

‫وبعد فشل هاتين الثورتين قامت حركات لبعض العلويين في اليمن وخراسان‪ ،‬لكنها لم تلقَ نجاحًا‪ ،‬وأصابها مثل ما‬
‫أصاب ما قبلها من ثورات‪ ،‬وعاش من بقي من آل البيت العلوي في هدوء‪ ،‬وربما استخفوا حتى يتمكنوا من إعداد العدة‬
‫للخروج وهم مكتملو القوة والعدد‪ ،‬وظلت المور على هذا النحو من التربص والنتظار حتى حدث نزاع صغير بين والي‬
‫المدينة المنورة وبعض رجال من آل البيت أساء التعامل معهم‪ ،‬وأهانهم وأغلظ القول لهم‪ ،‬فحرك ذلك مكامن الثورة في‬
‫نفوسهم‪ ،‬وأشعل الحمية في قلوبهم‪ ،‬فثار العلويون في المدينة بقيادة الحسين بن علي بن الحسن‪ ،‬وانتقلت الثورة إلى مكة‬
‫بعد أن أعلن الحسين البيعة لنفسه‪ ،‬وأقبل الناس عليه يبايعونه‪.‬‬

‫ولما انتهى خبر هذه الثورة إلى الخليفة العباسي موسى الهادي‪ ،‬أرسل جيشًا على وجه السرعة للقضاء على الثورة‪،‬‬
‫قبل أن يمتد لهيبها إلى مناطق أخرى؛ فيعجز عن إيقافها‪ ،‬فتحرك الجيش العباسي إلى مكة‪ ،‬والتقى بالثائرين في (‪ 8‬من ذي‬
‫الحجة ‪169‬هـ = ‪ 11‬من يونيو ‪786‬م) في معركة عند مكان يسمى "فخ" يبعد عن مكة بثلثة أميال‪ ،‬وانتهت المعركة‬
‫بهزيمة جيش الحسين‪ ،‬ومقتله هو وجماعة من أصحابه‪.‬‬

‫نجاة إدريس بن عبد ال‬

‫‪21‬‬
‫وكان ممن نجا من قادة الثائرين في هذه المعركة "إدريس بن عبد ال بن الحسن"‪ ،‬واتجه‬
‫إلى مصر ومعه خادمه راشد‪ ،‬وكان شجاعًا عاقلً وفيًا لسيده‪ ،‬وظل أمرهما مجهولً حتى‬
‫بلغا مصر مستخفيْن في موكب الحجيج‪ ،‬ولم يكن اختفاؤهما أمرًا سهلً؛ فعيون الخلفة‬
‫العباسية تتبعهما وتقتفي أثرهما‪ ،‬ولم تكن لتهدأ وتطمئن قبل أن تعثر على إدريس بن عبد‬
‫ال حيًا أو ميتًا‪ ،‬لكنهما نجحا في التحرك والتخفي؛ ل لمهارتهما في ذلك‪ ،‬ولكن لحب‬
‫الناس آل البيت‪ ،‬وتقديم يد العون والمساعدة لهما‪.‬‬ ‫زاوية إدريس بن عبد ال‬

‫ي الصل‪ ،‬وساعدهما‬ ‫ومن مصر خرج إدريس وخادمه "راشد" إلى بلد المغرب‪ ،‬ويقال‪ :‬إن هذا الخادم كان بربر ّ‬
‫على الخروج من مصر عامل البريد بها؛ فقد كان متشيعًا لل البيت‪ ،‬فلما علم بوجودهما في مصر قدم إليهما في الموضع‬
‫الذي يستخفيان به‪ ،‬وحملهما على البريد المتجه إلى المغرب‪ .‬وتذهب روايات تاريخية إلى أن الذي أعان إدريس على‬
‫الفرار من مصر هو "علي بن سليمان الهاشمي" والي مصر‪ ،‬وأيًا ما كان المر فإن إدريس لقي دعمًا ومساعدة لتمكينه من‬
‫الخروج من مصر‪ ،‬سواءً كان ذلك بعون من والي مصر أو من عامل البريد‪.‬‬

‫رحلة شاقة‬

‫وبعد أن وصل إدريس بن عبد ال إلى برقة تخفى في زي خشن‪ ،‬يظهر فيه بمظهر غلم يخدم سيده "راشد"‪ ،‬ثم سلكا‬
‫طريقًا بعيدًا عن طريق إفريقية إمعانًا في التخفّي‪ ،‬وخوفًا من أن يلتقي بهما أحد من عيون الدولة العباسية التي اشتدت في‬
‫طلبهما‪ ،‬حتى وصل إلى تلمسان سنة (‪170‬هـ = ‪786‬م)‪ ،‬وأقاما بها عدة أيام طلبًا للراحة‪ ،‬ثم استأنفا سيرهما نحو الغرب‪،‬‬
‫فعبرا "وادي ملوية"‪ ،‬ودخل بلد السوس الدنى‪ ،‬حيث أقاما بعض الوقت في "طنجة" التي كانت يومئذ أعظم مدن المغرب‬
‫القصى‪ ،‬ثم واصل سيرهما إلى مدينة "وليلى"‪ ،‬وهي بالقرب من مدينة مكناس المغربية‪ ،‬واستقرا بها بعد رحلة شاقة‬
‫استغرقت حوالي عامين‪.‬‬

‫في وليلى‬

‫وبعد أن استقر إدريس في وليلى (قصر فرعون حاليًا) اتصل بإسحاق بن محمد بن عبد الحميد زعيم قبيلة "أوربة"‬
‫البربرية‪ ،‬صاحبة النفوذ والسيطرة في "وليلى"‪ ،‬فلما اطمأن إليه إدريس عرفه بنسبه‪ ،‬وأعلمه بسبب فراره من موطنه؛ نجاة‬
‫بنفسه من بطش العباسيين‪ ،‬وقد رحب إسحاق بضيفه الكبير‪ ،‬وأنزله معه داره‪ ،‬وتولى خدمته والقيام بشأنه شهورًا عديدة‪،‬‬
‫حتى إذا حل شهر رمضان من السنة نفسها جمع إسحاق بن محمد إخوته وزعماء قبيلة أوربة‪ ،‬وعرفهم بنسب إدريس‬
‫وبفضله وقرابته من النبي ‪-‬صلى ال عليه وسلم‪ ،-‬وكرمه وأخلقه وعلمه؛ فرحبوا جميعًا به‪ ،‬وأعربوا عن تقديرهم له‪،‬‬
‫وبايعوه بالخلفة في (‪ 14‬من رمضان ‪172‬هـ = ‪ 15‬من فبراير ‪788‬م)‪ ،‬وبعد ذلك خلع "إسحاق بن عبد الحميد" طاعة‬
‫بني العباس حيث كان من ولتهم‪ ،‬وتنازل لدريس عن الحكم‪.‬‬

‫وتبع ذلك دعوة لدريس بين القبائل المحيطة‪ ،‬فدخلت في دعوته قبائل‪ :‬زناتة‪ ،‬وزواغة‪ ،‬وزوارة‪ ،‬ولماية‪ ،‬وسراته‪،‬‬
‫وغياشة‪ ،‬ومكناسة‪ ،‬وغمارة‪ ،‬وباعيته على السمع والطاعة‪ ،‬واعترفت بسلطانه‪ ،‬وقصده الناس من كل مكان‪.‬‬

‫استقرت المور لدريس بن عبد ال‪ ،‬ورسخت أقدامه بانضمام كل هذه القبائل إلى دعوته‪ ،‬ودانت له معظم قبائل‬
‫البربر‪ ،‬وبدأ يطمح في مدّ نفوذه وسلطانه إلى القبائل التي تعترف بحكمه‪ ،‬ونشر السلم بين القبائل التي ل تزال على‬
‫المجوسية أو اليهودية أو المسيحية‪ ،‬فأعد جيشًا كبيرًا زحف به نحو مدينة "شالة" قبالة مدينة الرباط‪ ،‬ففتحها‪ ،‬ثم تحول في‬
‫كل بلد "تامسنا" فأخضعها‪ ،‬وأتبع ذلك بإخضاع إقليم "تاول"‪ ،‬وفتح حصونه وقلعه‪ ،‬وأدخل كثير من أهل هذه البلد‬
‫السلم‪ ،‬ثم عاد إلى "وليلى" للراحة والستجمام في (آخر ذي الحجة ‪172‬هـ = مايو ‪789‬م)‪ ،‬ثم عاود حملته الظافرة‬
‫عازمًا على دعوة من بقي من قبائل البربر إلى السلم‪ ،‬ونجح في إخضاع قبائل‪ :‬قندلوة ومديونة وبهلولة وغيرها من‬
‫القبائل البربرية التي كانت متحصنة بالجبال والحصون المنيعة‪ ،‬ثم رجع إلى وليلى في (‪ 15‬من جمادى الخرة ‪173‬هـ =‬
‫‪ 10‬من أكتوبر ‪789‬م)‪.‬‬

‫فتح تلمسان‪ ..‬وبناء مسجدها‬

‫‪22‬‬
‫أقام إدريس بن عبد ال شهرًا في وليلى‪ ،‬ثم عاود الفتح‪ ،‬واتجه ناحية الشرق هذه المرة‪ ،‬عازمًا على توسيع ملكه في‬
‫المغرب الوسط على حساب الدولة العباسية‪ ،‬فخرج في منتصف رجب ‪173‬هـ = نوفمبر ‪789‬م متجهًا نحو تلمسان‪ ،‬وفي‬
‫أثناء زحفه استولى على مدينة "سبتة"‪ ،‬ولم يكد يصل إلى "تلمسان" حتى خرج إليه صاحبها "محمد بن خرز"‪ ،‬وأعلن‬
‫خضوعه له دون قتال‪ ،‬وبايع إدريس بن عبد ال‪ ،‬وتبعته قبائل‪ :‬مغراوة وبني يفرده‪.‬‬

‫ولما دخل المام إدريس تلمسان أقام بها مسجدًا للمدينة جامعًا‪ ،‬وصنع منبرًا جميلً كان يحمل نقشًا يحدد تاريخ‬
‫إنشائه‪ ،‬ونصه‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم‪ ..‬هذا ما أمر به إدريس بن عبد ال بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي ال‬
‫عنهم‪ ،‬وذلك في شهر صفر ‪174‬هـ‪ ،‬وهذا يعني أن إدريس أقام في تلمسان حتى هذا التاريخ‪ ،‬ثم كرّ راجعًا إلى عاصمة‬
‫ملكه‪.‬‬

‫نهاية المام إدريس‬

‫ولم تكد تصل هذه الفتوحات إلى عاصمة الخلفة العباسية حتى فزع الخليفة هارون‬
‫الرشيد‪ ،‬وشعر بالقلق والذعر من النجاح الذي يحققه إدريس بن عبد ال‪ ،‬الذي نجح فيما‬
‫فشل فيه غيره من أبناء البيت العلوي؛ فلول مرة ينجحون في إقامة دولة لهم بعد إخفاقات‬
‫عديدة ومآسٍ دامية‪ ،‬ثم اشتد خوف الخليفة العباسي حين جاءته الخبار بعزم إدريس بن‬
‫عبد ال على غزو أفريقية (تونس)‪ ،‬ففكر في إرسال جيش لمحاربة هذا العلوي المظفر‪،‬‬
‫وبينما الرشيد على هذه الحال من القلق والضطراب تدخلت القدار‪ ،‬وأراحته مما كان‬
‫يفكر فيه‪ ،‬فتوفي إدريس بن عبد ال في (سنة ‪177‬هـ = ‪793‬م) على أرجح الروايات‪،‬‬ ‫ضريح إدريس بن عبد ال‬
‫بعد أن نجح في تحدي الصعوبات‪ ،‬وأقام دولة عُرفت باسمه "دولة الدارسة" بعيدًا عن وطنه بين قبائل متطاحنة تعتز‬
‫بعنصريتها‪ ،‬وتتخذ من قوتها وسيلة لفرض سيطرتها على من حولها‪ ،‬وهذه تُحسب له‪ ،‬وتجعله واحدًا من كبار رجال‬
‫التاريخ‪ .‬ويضاف إليه أن المغرب مدين له في نشر السلم في أماكن لم يكن قد وصل إليها من قبل‪.‬‬

‫من مصادر الدراسة‪:‬‬


‫•ابن جرير الطبري‪ :‬تاريخ الرسل والملوك – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – دار المعارف – القاهرة –‬
‫‪1977‬م‪.‬‬
‫•إسماعيل العربي‪ :‬دولة الدارسة – دار المغرب السلمي – بيروت – ‪1403‬هـ = ‪1983‬م‪.‬‬
‫•سعد زغلول عبد الحميد‪ :‬تاريخ المغرب العربي – منشأة المعارف – السكندرية – ‪1995‬م‪.‬‬
‫•حسين مؤنس‪ :‬تاريخ المغرب وحضارته – العصر الحديث للنشر والتوزيع – بيروت – ‪1412‬هـ =‬
‫‪1992‬م‪.‬‬
‫•السيد عبد العزيز سالم‪ :‬المغرب الكبير (العصر السلمي) – الدار القومية للطباعة والنشر – القاهرة –‬
‫‪1966‬م‪.‬‬

‫"الزلقة" معركة الوجود السلمي ف الندلس‬


‫(في ذكرى المعركة‪ 12 :‬رجب ‪ 479‬هـ)‬

‫مصطفى عاشور‬

‫‪23‬‬
‫سقطت الخلفة الموية في الندلس إثر سقوط الدولة العامرية سنة (‪399‬هـ = ‪1009‬م) وتفككت الدولة الندلسية الكبرى‬
‫إلى عشرين دويلة صغيرة يحكمها ملوك الطوائف‪ ،‬ومن أشهرهم‪ :‬بنو عباد في أشبيلية‪ ،‬وبنو ذي النون في طليطلة‪ ،‬وبنو‬
‫هود في سرقسطة‪ ،‬وزعمت كل طائفة من هذه الطوائف لنفسها الستقلل والسيادة‪ ،‬ولم تربطها بجارتها إل المنافسة والكيد‬
‫والمنازعات والحروب المستمرة‪ ،‬وهو ما أدى إلى ضعف‪ ،‬وأعطى الفرصة للنصارى المتربصين في الشمال أن يتوسعوا‬
‫على حسابهم‪.‬‬

‫وفي مقابل التجزئة والفرقة الندلسية في عصر الطوائف كان النصارى يقيمون اتحادًا بين مملكتي ليون وقشتالة على‬
‫يد فرديناد الول الذي بدأ حرب السترداد التي تعني إرجاع الندلس إلى النصرانية بدلً من السلم‪.‬‬

‫وواصل هذه الحرب من بعده ابنه ألفونس السادس‪ ،‬حيث بلغت ذروتها مع استيلء ألفونس على مدينة "طليطلة" سنة‬
‫(‪478‬هـ = ‪1085‬م) أهم المدن الندلسية وأكبر قواعد المسلمين هناك‪ ،‬وكان سقوطها نذيرًا بأسوأ العواقب لبقية الندلس؛‬
‫ذلك أن ألفونس قال صراحة‪ :‬إنه لن يهدأ له بال حتى يسترد بقية الندلس ويُخضع قرطبة لسلطانه؛ وينقل عاصمة ملكه‬
‫إلى طليطلة‪.‬‬

‫وكان أسوأ ما في هذه الكارثة المروعة أن ملوك الطوائف المسلمين لم يهبّوا لنجدة طليطلة أو مساعدتها‪ ،‬بل على‬
‫العكس وقفوا موقفًا مخزيًا حتى إن بعضهم عرض على ألفونس تقديم العون والمساعدة‪ ،‬ورأى البعض الخر أنه لكي‬
‫يستمر في حكم مملكته آمنًا يجب أن يوثق أواصر الصلة والمودة مع ألفونس ويحالفه ويقدم له الجزية السنوية‪ ،‬بل شاركت‬
‫بعض قوات أمراء الطوائف في غزوة طليطلة‪ ،‬وقدم أحد هؤلء المراء ابنته لتكون زوجة أو حظية للفونس!!‬

‫ورأى ألفونس حالة الضعف والجبن التي يعاني منها أمراء الطوائف‪ ،‬والتي تعود في الساس إلى ترفهم وخواء‬
‫نفوسهم‪ ،‬وكرههم للحرب والجهد حتى إن كان ذلك هو السبيل الوحيد للكرامة والحفاظ على البقية الباقية من الدين‬
‫والمروءة؛ لذا رأى ألفونس السادس ضرورة إضعاف ملوك الطوائف قبل القضاء عليهم نهائيًا؛ وكانت خطته في ذلك تقوم‬
‫أولً على تصفية أموالهم باقتضاء وفرض الجزية عليهم جميعًا‪ ،‬ثم تخريب أراضيهم وزروعهم ومحاصيلهم بالغارات‬
‫المتتابعة‪ ،‬وأخيرًا اقتطاع حصونهم وأراضيهم كلما سنحت الفرصة‪.‬‬

‫ونجحت خطة ألفونس في ذلك كل النجاح‪ ،‬وبدا ضعف ملوك الطوائف أمامه واضحًا ملموسًا؛ فاستهان بهم‬
‫واحتقرهم‪ ،‬وقال عنهم‪" :‬كيف أترك قومًا مجانين تسمّى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم‪ ،‬وكل واحد منهم ل يسِل‬
‫للدفاع عن نفسه سيفًا‪ ،‬ول يرفع عن رعيته ضيمًا ول حيفًا"‪ ،‬وعاملهم معاملة التباع‪.‬‬

‫أصبح ألفونس بعد استيلئه على طليطلة مجاورًا لمملكة إشبيلية وصاحبها المعتمد بن عباد‪ ،‬وعندها أدرك المعتمد‬
‫فداحة خطئه في مصانعة ألفونس ومحالفته واستعدائه على أمراء الطوائف الخرين‪ ،‬ولحت له طوالع المصير المروع‬
‫الذي سينحدر إليه إذا لم تتداركه يد العناية اللهية بعون أو نجدة غير منتظرة؛ لذا كان من الطبيعي أن تتجه أنظار ابن‬
‫عباد إلى دولة المرابطين القوية الفتية بقيادة أميرها الباسل "يوسف بن تاشفين" ليستنجد به وتطلب منه النصرة ضد هؤلء‬

‫‪24‬‬
‫النصارى الذين تجمعوا من شمالي إسبانيا‪ ،‬فضلً عن المتطوعين الذين قدموا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا‪.‬‬

‫النزاع بين ألفونس السادس والمعتمد‬

‫بدأ النزاع بين الملكين سنة (‪ 475‬هـ = ‪1082‬م) عندما وجه ألفونس سفارته المعتادة إلى المعتمد يطلب فيها الجزية‬
‫السنوية‪ ،‬وكان على رأس السفارة يهودي يُدعى "ابن شاليب"‪ ،‬رفض تسلم الجزية بحجة أنها من عيار ناقص‪ ،‬وهدد بأنه إذا‬
‫لم يقدم له المال من عيار حسن فسوف تُحتل مدائن إشبيلية‪.‬‬

‫ولمّا علم المعتمد بما صدر عن اليهودي أمر بصلبه‪ ،‬وزج بأصحابه في السجن من القشتاليين‪ ،‬وعندما استشار الفقهاء‬
‫استحسنوا ذلك المر؛ مخافة أن يتراجع المعتمد عن قراره بالصمود في وجه النصارى؛ أما ألفونس فقد استشاط غضبًا‪،‬‬
‫وبعث سراياه وجنوده للنتقام والسلب والنهب‪ ،‬وأغار هو بجيشه على حدود إشبيلية وحاصرها ثلثة أيام ثم تركها‪،‬‬
‫والمعتمد يلتزم الدفاع طيلة هذه العاصفة الهوجاء من الغضب الصليبي‪.‬‬

‫الستنجاد بالمرابطين‬

‫حشد المعتمد رجاله‪ ،‬وقوّى جيشه‪ ،‬وأصلح حصونه‪ ،‬واتخذ كل وسيلة للدفاع عن أرضه بعدما أيقن أن ألفونس يعتزم‬
‫العمل على إبادتهم جميعًا‪ ،‬وأن المسلمين بقدراتهم ومواردهم المحدودة لن يستطيعوا له دفعًا؛ لذا قرر المعتمد أن يستنصر‬
‫بالمرابطين في المغرب لمقاتلة هؤلء النصارى‪ ،‬وكانت دولة المرابطين دولة جهاد وحرب‪ ،‬غير أن هذا الرأي واجه‬
‫معارضة من بعض المراء الذين رأوا في المفاوضات والصلح والمهادنة والسلم وسيلة للمن والستقرار‪ ،‬ورأوا في‬
‫المرابطين عدوًا جديدًا قد يسلب ملكهم‪ ،‬وقال الرشيد لبيه المعتمد‪" :‬يا أبت أتُدخِل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا‪ ،‬ويبدد‬
‫شملنا"‪ ،‬فرد عليه المعتمد‪" :‬أي بني‪ ،‬وال ل يسمع عني أبدًا أني أعدت الندلس دار كفر‪ ،‬ول تركتها للنصارى‪ ،‬فتقوم اللعنة‬
‫عليّ في السلم‪ ،‬مثلما قامت على غيري‪ ،‬رعي الجمال عندي‪ -‬وال‪ -‬خير من رعي الخنازير"‪.‬‬

‫وناشد ملوك الطوائف وعلى رأسهم المعتمد بن عباد المرابطين وأميرهم يوسف بن تاشفين لنجدتهم‪ ،‬بل إن المعتمد‬
‫عبر إلى المغرب والتقى بابن تاشفين الذي وعده خيرًا‪ ،‬وأجابه إلى ما طلب واشترط لجابة الدعوة والعبور إلى الندلس‬
‫أن يسلم إليه المعتمد ثغر الجزيرة الخضراء ليكون قاعدة للمرابطين في الذهاب والياب‪ ،‬فوافق المعتمد على ذلك‪.‬‬

‫العبور إلى الندلس‬

‫حشد يوسف بن تاشفين جنده وعتاده‪ ،‬ثم بعث بقوة من فرسانه بقيادة داود بن عائشة فعبرت البحر‪ ،‬واحتلت ثغر‬
‫الجزيرة الخضراء‪ ،‬وفي (ربيع الخر ‪479‬هـ = أغسطس ‪1086‬م) بدأت جيوش المرابطين تعبر من سبتة إلى الندلس‪،‬‬
‫وما كادت السفن تتوسط ماء مضيق جبل طارق حتى اضطرب البحر وتعالت المواج‪ ،‬فنهض "ابن تاشفين" ورفع يديه إلى‬
‫السماء وقال‪" :‬اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيرًا وصلحًا للمسلمين فسهّل علي جواز هذا البحر‪ ،‬وإن كان غير‬
‫ذلك فصعبه علي حتى ل أجوزه"؛ فهدأت ثائرة البحر‪ ،‬وسارت السفن في ريح طيبة حتى رست على الشاطئ‪ ،‬وهبط منها‬
‫يوسف‪ ،‬وخرّ ل ساجدًا‪.‬‬

‫قوبل بحفاوة بالغة هو وجنوده‪ ،‬وأمر قائده "داود بن عائشة" بالتقدم أمامه إلى بطليوس‪ ،‬كما أمر بأن توضع القوات‬
‫الندلسية كلها تحت قيادة المعتمد‪ ،‬وأن يكون لجند الندلس محلتهم وللمرابطين محلتهم‪ ،‬وكان يوسف في تحركه شديد‬
‫الحذر؛ لنه لم يسبق له أن حارب جيشًا نصرانيًا‪ ،‬كما أنه لم يكن واثقًا من حلفائه الندلسيين؛ لذا رأى أن تكون المعركة‬
‫في ناحية بطليوس‪ ،‬وأل يتوغل كثيرًا في أرض الندلس‪.‬‬

‫الزلقة والنصر المبين‬

‫ولما بلغ ألفونس نبأ تقدم المسلمين لملقاته‪ ،‬فك الحصار الذي كان يضربه حول مدينة سرقسطة‪ ،‬واستدعى قائده‬
‫البرهانس من بلنسية‪ ،‬وبعث مستغيثًا بجميع النصارى في شمال إسبانيا وما وراء جبال البرانيس‪ ،‬فتقاطرت عليه فرسان‬
‫النصارى من إيطاليا وفرنسا‪ ،‬واعتزم أن يلقى المسلمين في أرضهم حتى ل تخرب بلده‪ ،‬وكانت قواته تفوق المسلمين‬
‫عددًا وعدة‪ ،‬وقد استقرت هذه الجيوش النصرانية على بعد ثلثة أميال من المعسكر السلمي ول يفصل بينهم إل نهر‬
‫‪25‬‬
‫صغير يسمى "جريرو"‪ ،‬وانضم إلى قوات النصارى الرهبان والقسس يحملون أناجيلهم وصلبانهم‪ ،‬محفزين بذلك جنود‬
‫النصارى‪.‬‬

‫كانت قوات المسلمين تقدر بحوالي ثمانية وأربعين ألف مقاتل‪ ،‬تنقسم في وحدتين كبيرتين من قوات الندلس‪ ،‬وتحتل‬
‫المقدمة بقيادة المعتمد‪ ،‬أما القوات المرابطية فتحتل المؤخرة وتنقسم إلى قسمين‪ ،‬يضم الول فرسان البربر بقيادة داود بن‬
‫عائشة‪ ،‬والقسم الثاني احتياطي‪ ،‬يقوده يوسف بن تاشفين‪.‬‬

‫ولبث الجيشان كل منهما في اتجاه الخر ثلثة أيام‪ ،‬وفشلت محاولة ألفونس خديعة المسلمين في تحديد يوم المعركة‪،‬‬
‫وانتهى المر بنشوب المعركة مع أول ضوء من صباح يوم الجمعة (‪ 12‬رجب ‪479‬هـ = ‪ 23‬أكتوبر ‪1086‬م) بهجوم‬
‫خاطف شنّه فرسان النصارى على مقدمة المسلمين المؤلفة من القوات الندلسية‪ ،‬فاختل توازن المسلمين وارتد فرسانهم‬
‫نحو بطليوس‪ ،‬ولم يثبت إل المعتمد بن عباد في مجموعة قليلة من الفرسان‪ ،‬وقاتلوا بشدة‪ ،‬وأُثخن المعتمد بالجراح وكثر‬
‫القتل في جند الندلس‪ ،‬وكادت تحل بهم الهزيمة‪ ،‬وفي الوقت نفسه هاجم ألفونس مقدمة المرابطين وردها عن مواقعها‪.‬‬

‫وأمام هذه المحنة التي تعرضت لها القوات المسلمة دفع يوسف بقوات البربر التي يقودها أبرع قواده وهو "سير بن‬
‫أبي بكر اللمتوني"؛ فتغير سير المعركة‪ ،‬واسترد المسلمون ثباتهم‪ ،‬وأثخنوا النصارى قتلً‪ ،‬وفي تلك الثناء لجأ ابن تاشفين‬
‫إلى خطة مبتكرة؛ إذ استطاع أن يشق صفوف النصارى‪ ،‬ويصل إلى معسكرهم‪ ،‬ويقضي على حاميته‪ ،‬ويشعل فيه النار؛‬
‫فلما رأى ألفونس هذه الفاجعة‪ ،‬رجع بسرعة شديدة‪ ،‬واصطدم الفريقان في قتال شرس‪ ،‬ودويّ طبول المرابطين يصم‬
‫الذان‪ ،‬وكثر القتل في الجانبين‪ ،‬خاصة في صفوف القشتاليين‪ ،‬ثم وجه "ابن تاشفين" ضربته الخيرة إلى النصارى؛ إذ أمر‬
‫حرسه السود‪ ،‬وقوامه أربعة آلف مقاتل من ذوي البأس الشديد والرغبة في الجهاد بالنزول إلى أرض المعركة‪ ،‬فأكثروا‬
‫القتل في القشتاليين واستطاع أحدهم أن يطعن ألفونس في فخذه طعنة نافذة كادت تودي بحياته‪.‬‬

‫وأدرك ألفونس أنه وقواته يواجهون الموت إذا استمروا في المعركة‪ ،‬فبادر بالهروب مع قلة من فرسانه تحت جنح‬
‫الظلم‪ ،‬لم يتجاوزوا الربعمائة‪ ،‬معظمهم جرحى‪ ،‬ماتوا في الطريق‪ ،‬ولم ينج منهم إل مائة فارس فقط‪.‬‬

‫كان انتصار المسلمين في الزلقة نصرًا عظيمًا ذاعت أنباؤه في الندلس والمغرب‪ ،‬واستبشر المسلمون به خيرًا‬
‫عظيمًا‪ ،‬غير أن المسلمين لم يحاولوا استغلل نصرهم بمطاردة فلول النصارى المتبقية والزحف إلى أراضي قشتالة‪ ،‬بل لم‬
‫يحاولوا السير إلى طليطلة لستردادها‪ ،‬وهي التي كانت السبب الرئيسي في الستعانة بالمرابطين‪ ،‬ويقال إن ابن تاشفين‬
‫اعتذر عن مطاردة القشتاليين لوصول أنباء إليه بوفاة أكبر أبنائه‪.‬‬

‫ونتج عن هذا المعركة الحاسمة توقّف ملوك الطوائف عن دفع الجزية للفونس السادس‪ ،‬وأنقذ هذا النصر غرب‬
‫الندلس من غارات المدمرة‪ ،‬وأفقدهم عددًا كبيرًا من قواتهم‪ ،‬وأنعش آمال الندلسيين وحطم خوفهم من النصارى‪ ،‬ورفع‬
‫الحصار عن سرقسطة التي كادت تسقط في يد ألفونس‪ ،‬وحالت هذه المعركة دون سقوط الندلس كلها في يد النصارى‪،‬‬
‫ومدت في عمر السلم بالندلس حوالي القرنين ونصف القرن‪.‬‬

‫المصادر‪:‬‬

‫•محمد عبد ال عنان‪ :‬دولة السلم في الندلس‪ -‬دولة الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي– مكتبة الخانجي– القاهرة– الطبعة الولى (‪.)1960 – 1380‬‬

‫•أمين توفيق الطيب‪ :‬دراسات وبحوث في تاريخ المغرب والندلس– الدار العربية للكتاب– تونس (‪.)1984‬‬

‫•محمد عبد الحميد عيسى‪ :‬الزلقة‪ -‬مجلة المة‪ -‬رئاسة المحاكم الشرعية بقطر‪ -‬عدد (‪ )23‬ذو القعدة ‪1402‬هـ‪ -‬سبتمبر ‪1982‬م‪.‬‬

‫‪26‬‬

You might also like