You are on page 1of 707

‫صفحات من التاريخ السلمي في الشمال الفريقي‬

‫( ‪)6‬‬

‫الدولة العثمانية‬
‫عوامل النهوض وأسباب السقوط‬

‫تأليف‬
‫علي محمد محمد الصلبي‬

‫‪-1-‬‬
‫الهداء‬
‫الى العلماء العاملين ‪ ،‬والدعاة المخلصين‪،‬‬
‫وطلب العلم المجتهدين ‪ ،‬وأبناء المة‬
‫الغيورين‪:‬‬
‫أهدي هذا الكتاب سائلً المولى عز وجل بأسمائه‬
‫الحسنى وصفاته العُل أن يكون خالصا‬
‫لوجهه الكريم‬
‫عمَلً صالِحا وَل يُشرِك ِب ِعبَادَةِ‬
‫قال تعالى‪َ ................ :‬فمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ َربِهِ فَ ْليَعمَل َ‬
‫َربِه أَحَدَا‪.‬‬
‫(سورة الكهف‪ ،‬آية ‪)110‬‬

‫إن الحمدل‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بال من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪.‬‬
‫من يهده ال فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪ .‬وأشهد أن ل إله إل ال وحده لشريك له‪.‬‬
‫وأشهد أن محمدا عبده ورسوله { ياأيها الذين آمنوا اتقوا ال حَق تقاتِهِ ولتموتن إل وأنتم‬
‫مسلمون} (سورة آل عمران ‪ :‬آية ‪.)102‬‬
‫{ ياأيها الذين آمنوا اتقوا ال وقولوا قولً سديدا يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن‬
‫يطعِ ال ورسوله فقد فازا فوزا عظيما} (سورة النساء‪ ،‬الية ‪.)1‬‬
‫أما بعد؛‬
‫يارب لك الحمد كما ينبغي لجلل وجهك وعظيم سلطانك‪ ،‬لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد‬
‫إذا رضيت‪.‬‬
‫هذا الكتاب السادس (صفحات من التاريخ السلمي) يتحدث عن الدولة العثمانية (عوامل‬

‫‪-2-‬‬
‫النهوض وأسباب السقوط)؛ فيعطي صورة واضحة عن أصول التراك‪ ،‬ومتى دخلوا في‬
‫السلم وعن اعمالهم المجيدة عبر التاريخ‪ ،‬ويستل من بطون المصادر والمراجع بعض التراجم‬
‫لشخصيات تركية صهرها القرآن الكريم وساهمت في بناء الحضارة السلمية‪ ،‬ونصرت‬
‫مذهب أهل السنة أمثال‪ ،‬السلطان سلجوق‪ ،‬وألب أرسلن‪ ،‬ونظام الملك‪ ،‬وملكشاه‪ ،‬ويتحدث‬
‫الكتاب عن جهادهم ودعوتهم وحبهم للعلم والعدل‪ ،‬ويبين أن التراك الذين قاموا ببناء الدولة‬
‫العثمانية امتدادا للسلجقة ويتحدث حديثا منصفا عن زعماء الدولة العثمانية كعثمان الول ‪،‬‬
‫وأورخان ‪ ،‬ومراد الول‪ ،‬وبايزيد الول‪ ،‬ومحمد جلبي ‪ ،‬ومراد الثاني ومحمد الفاتح‪ ،‬ويبين‬
‫صفاتهم والمنهج الذي ساروا عليه‪ ،‬وكيف تعاملوا مع سنن ال في بناء الدولة كسنة التدرج‪،‬‬
‫وسنة الخذ بالسباب ‪ ،‬وسنة تغيير النفوس ‪ ،‬وسنة التدافع‪ ،‬وسنة البتلء‪ ،‬وكيف حقق القادة‬
‫الوائل شروط التمكين ‪ ،‬وكيف أخذوا بأسبابه المادية والمعنوية؟ وماهي المراحل التي مرت‬
‫بها؟ وكيف كان فتح القسطنطينية نتيجة لجهود تراكمية شارك فيها العلماء والفقهاء والجنود‬
‫والقادة على مر العصور وكر الدهور وتوالي الزمان؟‬
‫ويبين للقارئ الكريم أن النهوض العثماني كان شاملً في كافة المجالت العلمية والسياسية‬
‫والقتصادية والعلمية والحربية‪ ،‬وأن للتمكين صفات‪ ،‬لبد من توفرها في القادة‪ ،‬والمة‪،‬‬
‫وبفقدها يفقد التمكين‪.‬‬
‫ويوضح للقارئ حقيقة الدولة العثمانية والسس التي قامت عليها والعمال الجليلة التي‬
‫قدمتها للمة؛ كحماية الماكن المقدسة السلمية من مخططات الصليبية البرتغالية‪ ،‬ومناصرة‬
‫أهالي الشمال الفريقي ضد الحملت الصليبية السبانية وغيرها‪ ،‬وإيجاد وحدة طبيعية بين‬
‫الوليات العربية ‪ ،‬وإبعاد الزحف الستعماري عن ديار الشام ومصر‪ ،‬وغيرها من الراضي‬
‫السلمية‪ ،‬ومنع انتشار المذهب الثنى عشري الشيعي الرافضي الى الوليات السلمية التابعة‬
‫للدولة العثمانية ومنع اليهود من استيطان فلسطين‪ ،‬ودورها في نشر السلم في أوروبا ويتحدث‬
‫هذا البحث عن سلبيات الخلفة العثمانية ‪ ،‬والتي كان لها الثر في إضعاف الحكم‪ ،‬كأهمال اللغة‬
‫‪-3-‬‬
‫العربية التي هي لغة القرآن الكريم والحديث الشريف في أخر عهدها‪ ،‬وعدم الوعي السلمي‬
‫الصحيح‪ ،‬وانحرافها عن شرع ال تعالى وتأثرها بالدعوات التغريبية‪،‬‬
‫ويتكلم عن حقيقة الصراع بين الحركة الوهابية والدولة العثمانية‪ ،‬وعن الدور المشبوه الذي‬
‫قام به محمد علي لصالح بريطانيا وفرنسا في ضربه للتيار السلمي في مصر‪ ،‬والحجاز ‪،‬‬
‫والشام‪ ،‬وعن حركته التغريبية التي كانت خطوة نحو النسلخ عن المبادئ السلمية الصيلة‬
‫ويتحدث عن الدعم الماسوني الذي كان خلف سياسات محمد علي المدمرة للمة السلمية‬
‫ويوضح الكتاب أن محمد علي كان مخلبا وخنجرا مسموما استعمله العداء في تنفيذ مخططاتهم‬
‫ولذلك وقفوا معه في نهضته العلمية ‪ ،‬والقتصادية والعسكرية بعد أن أيقنوا بضعف الجانب‬
‫العقدي والسلمي لديه ولدى أعوانه وجنوده‪ ،‬وكيف ترتب على دور محمد علي في المنطقة‬
‫بأسرها أن تنبهت الدول الوروبية الى مدى الضعف الذي أصبحت عليه الدولة العثمانية‪،‬‬
‫وبالتالي استعدادها لتقسيم أراضيها حينما تتهيأ الظروف السياسية‪.‬‬
‫ويتكلم عن السلطان محمود الثاني الذي ترسم خطى الحضارة الغربية في حركته‬
‫الصلحية‪ ،‬ويتحدث عن أبنه عبدالمجيد الذي تولى السلطنة من بعده والذي كان خاضعا لتأثير‬
‫وزيره رشيد باشا الذي وجد مثله وفلسفته في الماسونية‪ ،‬وكيف ساهم هذا الوزير مع أنصاره‬
‫في دفع عجلة التغريب التي كانت تدور حول نقاط ثلثة هامة‪ :‬القتباس من الغرب فيما يتعلق‬
‫بتنظيم الجيش‪ ،‬والتجاه بالمجتمع نحو التشكيل العلماني‪ ،‬والتجاه نحو مركزية السلطة في‬
‫استانبول والوليات‪ ،‬وكيف كانت الخطوات الجرية التي اتخذها الماسون التراك نحو علمنة‬
‫الدولة وإظهار خطى كلخانة وهمايون والوصول الى دستور مدحت باشا عام ‪1876‬م وكان‬
‫ذلك الحدث أول مرة في تاريخ السلم ودوله يجري العمل بدستور مأخوذ عن الدستور‬
‫الفرنسي والبلجيكي والسويسري وهي دساتير وضعية علمانية‪.‬‬
‫ويوضح للقارئ كيف وضعت حركة التنظيمات الدولة العثمانية رسميا على طريق نهايتها‬
‫كدولة اسلمية ‪ ،‬فعلمنة القوانين ووضعت مؤسسات تعمل بقوانين وضعية‪ ،‬وابتعدت الدولة عن‬
‫‪-4-‬‬
‫التشريع السلمي في مجالت التجارة والسياسة والقتصاد‪ ،‬وبذلك سحب من الدولة العثمانية‬
‫شرعيتها من أنظار المسلمين‪.‬‬
‫ويبين للقارئ الكريم كيف هيمن رجال التغريب على الدولة العثمانية في زمن السلطان‬
‫عبدالعزيز وعندما تعرض لكثير من مخططاتهم عزلوه ثم قتلوه‪.‬‬
‫ويتحدث عن الجهود العظيمة التي قام بها السلطان عبدالحميد خدمة للسلم ‪ ،‬ودفاعا عن‬
‫دولته ‪ ،‬وتوحيدا لجهود المة تحت رايته‪ ،‬وكيف ظهرت فكرة الجامعة السلمية في معترك‬
‫السياسة الدولية في زمن السلطان عبدالحميد؟ ويفصل الكتاب في الوسائل التي اتخذها السلطان‬
‫عبدالحميد في تنفيذ مخططه للوصول الى الجامعة السلمية‪ ،‬كالتصال بالدعاة‪ ،‬وتنظيم الطرق‬
‫الصوفية‪ ،‬والعمل على تعريب الدولة‪ ،‬وإقامة مدرسة العشائر ‪ ،‬وإقامة خط سكة حديد الحجاز‪،‬‬
‫وإبطال مخططات العداء‪ ،‬ويركز الكتاب على جهود الصهيونية العالمية في دعم أعداء‬
‫السلطان عبدالحميد كالمتمردين الرمن‪ ،‬والقوميين البلقان‪ ،‬وحركة حزب التحاد والترقي ‪،‬‬
‫والوقوف مع الحركات النفصالية عن الدولة العثمانية وكيف استطاع أعداء السلم عزل‬
‫السلطان عبدالحميد؟ وماهي الخطوات التي اتخذت للقضاء على الخلفة العثمانية؟ وكيف صنع‬
‫البطل المزيف مصطفى كمال؟ الذي عمل على سلخ تركيا من عقيدتها واسلمها‪ ،‬وحارب‬
‫التدين ‪ ،‬وضيق على الدعاة‪ ،‬ودعا الى السفور والختلط‪ ،‬ولم يترك الكتاب الحديث عن بشائر‬
‫السلم في تركيا ويشير الى الجهود العظيمة التي قامت بها الحركة السلمية في تركيا‬
‫بفصائلها المتعددة وتترك القارئ المسلم ينظر بنور اليمان الى مستقبل السلم في تركيا‬
‫والعالم أجمع‪.‬‬
‫وفي نهاية الكتاب يهتم الباحث بإبراز أسباب السقوط من المنظور القرآني ‪ ،‬ليبين للقارئ أن‬
‫اسباب السقوط عديدة منها؛ انحراف المة عن مفاهيم دينها‪ ،‬كعقيدة الولء والبراء‪ ،‬ومفهوم‬
‫العبادة‪ ،‬وانتشار مظاهر الشرك والبدع‪ ،‬وانحرافات وظهور الصوفية المنحرفة كقوة منظمة في‬
‫‪ ،‬وينبه‬ ‫المجتمع السلمي تحمل عقائد وأفكار وعبادات بعيدة عن كتاب ال وسنة رسوله‬
‫‪-5-‬‬
‫القارئ المسلم عن خطورة الفرق المنحرفة في إضعاف المة كالفرقة الثنى عشرية الشيعية‬
‫الرافضية‪ ،‬والدروز والنصيرية والسماعيلية‪ ،‬والقاديانية‪ ،‬والبهائية وغيرها من الفرق الضالة‬
‫المحسوبة على السلم‪ ،‬ويتحدث الكتاب عن غياب القيادة الربانية كسبب في ضياع المة‬
‫وخصوصا عندما يصبح علمائها ألعوبة بيد الحكام الجائرين‪ ،‬ويتسابقون على الوظائف‬
‫والمراتب وغاب دورهم المطلوب منهم‪ ،‬وكيف اصيبت العلوم الدينية في نهاية الدولة العثمانية‬
‫بالجمود والتحجر؟ وكيف اهتم العلماء بالمختصرات والشروح والحواشي والتقريرات؟‬
‫‪ ،‬ورفض كثير من‬ ‫وتباعدوا عن روح السلم الحقيقة المستمدة من كتاب ال وسنة رسوله‬
‫العلماء فتح باب الجتهاد‪ ،‬وأصبحت الدعوة لفتح بابه تهمة كبيرة تصل الى الرمي بالكبائر‪،‬‬
‫وتصل عند بعض المقلدين والجامدين الى حد الكفر ‪ ،‬وتعرض الكتاب للظلم الذي انتشر في‬
‫الدولة وما أصابها من الترف والنغماس في الشهوات وشدة الختلف والتفرق وماترتب عن‬
‫البتعاد عن شرع ال من آثار خطيرة‪ ،‬كالضعف السياسي ‪،‬والحربي‪ ،‬والقتصادي‪ ،‬والعلمي‪،‬‬
‫والخلقي‪ ،‬والجتماعي‪ ،‬وكيف فقدت المة قدرتها على المقاومة ‪ ،‬والقضاء على أعدائها؟‬
‫وكيف استعمرت وغزيت فكريا ‪ ،‬نتيجة لفقدها لشروط التمكين وابتعادهاعن اسبابه المادية‬
‫والمعنوية ‪ ،‬وجهلها بسنن ال في نهوض المم وسقوطها‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ولو أن أهل القرى آمنوا‬
‫واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض‪ ،‬ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}‬
‫(سورة العراف‪ :‬آية ‪.)196‬‬
‫إن هذا الجهد المتواضع قابل للنقد والتوجيه وفي حقيقته محاولة جادة للجمع والترتيب‬
‫والتفسير والتحليل للحداث التاريخية التي وقعت في زمن الدولة العثمانية والتي تأثرت بحركة‬
‫الشعوب في صراعها العنيف فيما بينها نتيجة للختلف في العقائد والمناهج والهداف والقيم‬
‫والمثل؛ فإن كان خيرا فمن ال وحده وإن أخطأت السبيل فأنا عنه راجع إن تبين لي ذلك‪،‬‬
‫والمجال مفتوح للنقد والرد والتوجيه وهدفي من الكتاب‪:‬‬
‫‪.1‬تسليط الضواء على زعماء الدولة العثمانية‪ ،‬كعثمان الول‪ ،‬وأورخان ومحمد الفاتح‬
‫‪-6-‬‬
‫وغيرهم‪.‬‬
‫‪.2‬بيان المنهج الذي سارت عليه الدولة العثمانية في مسيرتها الطويلة‪.‬‬
‫‪.3‬التركيز على العوامل التي ساهمت في بناء الدولة العثمانية والسباب التي نخرتها‬
‫وساهمت في إضعافها ثم سقوطها وزوالها‪.‬‬
‫‪.4‬تسهيل مبدأ العتبار والتعاظ بمعرفة أحوال الدول‪ ،‬والنظر في سنن ال في الفاق وفي‬
‫النفس والمجتمعات‪.‬‬
‫‪.5‬بيان الكيد العظيم الذي تعرضت له الدولة العثمانية من قبل النصارى واليهود والعلمانيين‬
‫التراك‪ ....‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪.6‬كشف الزور والبهتان الذي تعرضت له الدولة العثمانية من القلم المسمومة وبيان‬
‫بطلن من سمّى الحكم العثماني استعمارا وقرنه بالستعمار الغربي‪ ،‬كالستعمار الفرنسي‪،‬‬
‫والنكليزي ‪.‬‬
‫‪.7‬الدفاع عن أخواننا في العقيدة (العثمانيين) الذين تعرضوا للظلم ونسب الى تاريخهم‬
‫أباطيل وأكاذيب من قبل اليهود والنصارى والعلمانيين العرب والتراك وترشيد الجيال‬
‫لمعرفة حقيقة العثمانيين ‪.‬‬
‫‪.8‬إظهار صفحات الجهاد العظيم الذي قام به العثمانيون‪ ،‬ومساهماتهم في الدعوة الى ال‬
‫والتي حاول أعداء المة طمسها والتشكيك فيها‪ ،‬والطعن في حقيقتها‪.‬‬
‫‪.9‬أثراء المكتبة السلمية التاريخية بالبحاث المنبثقة عن عقيدة صحيحة وتصور سليم‬
‫بعيدة عن سموم المستشرقين‪ ،‬وأفكار العلمانيين الذين يسعون لقلب الحقائق التاريخية من أجل‬
‫خدمة أهدافهم‪.‬‬
‫‪.10‬بيان أن حركات الصلح التي تستحق التقدير والحترام في المة هي التي سارت‬
‫في العقائد والعبادات والخلق‬ ‫وتسير على منهج القرآن الكريم‪ ،‬وسنة سيد المرسلين‬
‫والمعاملت وكافة شؤون الحياة‪.‬‬
‫‪-7-‬‬
‫‪ .11‬التعريف ببعض العلماء العاملين والفقهاء الراسخين الذين ساهموا في بناء الدولة‬
‫العثمانية وتربية المة ‪ ،‬كالشيخ أحمد الكوراني ‪ ،‬وشمس الدين آق (محمد بن حمزة) وغيرهم‪.‬‬
‫هذا وقد قمت بتقسيم الكتاب الى مدخل وسبعة فصول ونتائج البحث‪:‬‬
‫المدخل‪ :‬المناهج المعاصرة في كتابة تاريخ الدولة العثمانية‪.‬‬
‫الفصل الول‪ :‬جذور التراك وأصولهم ويشتمل على ثلثة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬أصل التراك وموطنهم‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬قيام الدولة السلجوقية‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬نهاية الدولة السلجوقية‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬قيام الدولة العثمانية وفتوحاتها‪ :‬ويشتمل على ستة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول ‪ :‬عثمان مؤسس الدولة العثمانية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬السلطان أورخان بن عثمان‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬السلطان مراد الول‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬السلطان بايزيد الول‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬السلطان محمد الول‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬السلطان مراد الثاني‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬محمد الفاتح وفتح القسطنطينية ويشتمل على سبعة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الفاتح المعنوي للقسطنطينية (الشيخ آق شمس الدين)‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬آثر فتح القسطنطينية على العالم الوروبي والسلمي‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬أسباب فتح القسطنطينية‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬أهم صفات محمد الفاتح‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬شيء من أعماله الحضارية‪.‬‬
‫‪-8-‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬وصية السلطان محمد الفاتح لبنه‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬السلطين القوياء بعد محمد الفاتح ويشتمل على تسعة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬السلطان بايزيد الثاني‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬السلطان سليم الول‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬السلطان سليمان القانوني‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الدولة العثمانية وشمال أفريقيا‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬المجاهد الكبير حسن آغا الطوشي‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬المجاهد حسن خير الدين بربروسة‪.‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬سياسة صالح الرايس‪.‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬سياسة حسن بن خير الدين في التضيق على السبان‪.‬‬
‫المبحث التاسع‪ :‬المتوكل على ال ابن عبدال الغالب السعدي‪.‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬بداية اضمحلل الدولة العثمانية ويشتمل على ‪ 11‬مبحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬السلطان سليم الثاني‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬السلطان مراد الثالث‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬السلطان محمد خان الثالث‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬السلطان أحمد الول‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬بعض السلطين الضعاف‪.‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬السلطان سليم الثالث‪.‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬جذور الحملة الفرنسية الصليبية‪.‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬السلطان محمود الثاني‪.‬‬
‫المبحث التاسع‪ :‬السلطان عبدالمجيد الول‪.‬‬
‫المبحث العاشر‪ :‬السلطان عبدالعزيز‪.‬‬
‫‪-9-‬‬
‫المبحث الحادي عشر‪ :‬السلطان مراد الخامس‪.‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬عصر السلطان عبدالحميد ويشتمل على ثمانية مباحث ‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬السلطان عبدالحميد‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الجامعة السلمية‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬السلطان عبدالحميد واليهود‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬السلطان عبدالحميد وجمعية التحاد والترقي‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الطاحة بحكم السلطان عبدالحميد الثاني‪.‬‬
‫المبحث السادس ‪ :‬حكم التحاديين ونهاية الدولة العثمانية‪.‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬بشائر إسلمية في تركيا العلمانية‪.‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬أسباب السقوط‪.‬‬
‫ثم نتائج البحث‪.‬‬
‫وأخيرا‪ :‬أرجو من ال تعالى أن يكون عملً خالصا لوجهه الكريم وأن يثيبني على كل حرف‬
‫كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة مايملكون من أجل إتمام‬
‫هذا الكتاب ‪.‬‬
‫((سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن ل إله إل أنت أستغفرك وأتوب إليك‪ ،‬وآخر دعوانا أن‬
‫الحمدل رب العالمين))‪.‬‬
‫الفقير الى عفو ربه ومغفرته‬
‫علي محمد حمد الصّلبي‬

‫المدخل‬
‫المناهج المعاصرة في كتابة تاريخ الدولة العثمانية‬

‫‪-10-‬‬
‫لم يتورع المؤرخون الوروبيون واليهود والنصارى والعلمانيون الحاقدون بالهجوم على‬
‫تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬فأستخدموا أساليب‪ ،‬الطعن والتشويه والتشكييك فيما قام به العثمانيون من‬
‫خدمة للعقيدة والسلم‪ ،‬وسار على هذا النهج الباطل أغلب المؤرخين العرب بشتى انتماءاتهم‬
‫واتجاهاتهم‪ ،‬القومية ‪ ،‬والعلمانية‪ ،‬وكذلك المؤرخون التراك الذين تأثروا بالتوجه العلماني الذي‬
‫تزعمه مصطفى كمال‪ ،‬فكان من الطبيعي أن يقوموا بإدانة فترة الخلفة العثمانية‪ ،‬فوجدوا فيما‬
‫كتبه النصارى واليهود ثروة ضخمة لدعم تحولهم القومي العلماني في تركيا بعد الحرب العالمية‬
‫الولى‪.‬‬
‫كان الموقف من التاريخ العثماني بالنسبة للمؤرخ الوربي بسبب تأثره بالفتوحات العظيمة‬
‫التي حققها العثمانيون‪ ،‬وخصوصا بعد أن سقطت عاصمة الدولة البيزنطية (القسطنطينية)‬
‫وحولها العثمانيون دار إسلم واطلقوا عليها اسلم بول (أي دار السلم) ‪ ،‬فتأثرت نفوس‬
‫الوربيين بنزعة الحقد والحقد والمرارة المورثة ضد السلم فأنعكست تلك الحقاد في كلمهم‬
‫وافعالهم ‪ ،‬وكتابتهم وحاول العثمانيون مواصلة السير لضم روما الى الدولة السلمية ومواصلة‬
‫الجهاد حتى يخترقوا وسط اوروبا ويصلوا الى الندلس لنقاذ المسلمين فيها‪ ،‬وعاشت أوروبا‬
‫في خوف وفزع وهلع ولم تهدأ قلوبهم إل بوفاة السلطان محمد الفاتح‪.‬‬
‫وكان زعماء الدين المسيحي من قساوسة ورهبان وملوك يغذون الشارع الوروبي بالحقاد‬
‫والضغائن ضد السلم والمسلمين ‪ ،‬وعمل رجال الدين المسيحي على حشد الموال‬
‫والمتطوعين لمهاجمة المسلمين (الكفرة على حد زعمهم) البرابرة‪ ،‬وكلما انتصر العثمانيون‬
‫على هذه الحشود ازدادت موجة الكره والحقد على السلم وأهله‪ ،‬فأتهم زعماء المسيحيين‬
‫العثمانيين بالقرصنة‪ ،‬والوحشية والهمجية‪ ،‬وعلقت تلك التهم في ذاكرة الوروبيين‪.‬‬
‫لقد كانت الهجمات العلمية المركزة من زعماء المسيحية بسبب الحفاظ على مكاسبهم‬
‫السياسية والمادية‪ ،‬وكرههم للسلم وأهله‪ ،‬وبالفعل استطاعت بعض السر الحاكمة في أوروبا‬
‫أن يتربعوا على صدور المجتمعات الوروبية في الحكم فترة زمنية طويلة‪ ،‬وحققوا مكاسب‬
‫‪-11-‬‬
‫ضخمة فأثروا ثراء كبير ونصبوا حول أنفسهم هالة كبيرة اعتمدت في مجملها على الضلل‬
‫والتضليل ‪.‬‬
‫ومع أن المجتمعات الوروبية ثارت على هذه الفئات‪ ،‬بعد أن اكتشفت ضللها وتضليلها‪ ،‬مع‬
‫بداية عصر النهضة ‪ ،‬وبداية مرحلة جديدة في التاريخ الوروبي‪ ،‬إل أنه لم يستطع وجدان‬
‫المجتمع الوروبي أن يتخلص من تلك الرواسب الموروثة من هذه الفئات تجاه العالم السلمي‬
‫بشكل عام وتجاه الدولة العثمانية بشكل خاص‪ .‬ولذلك اندفعت قواتهم العسكرية المدعومة‬
‫بحضارته المادية للنتقام من السلم والمسلمين‪ ،‬ونزع خيراتهم بدوافع دينية واقتصادية‬
‫وسياسية وثقافية ‪ ،‬وساندهم كتابهم ومؤرخوهم‪ ،‬للطعن والتشويه والتشكيك في السلم وعقيدته‬
‫وتاريخه‪ ،‬فكان نصيب الدولة العثمانية من هذه الهجمة الشرسة كبير‪.‬‬
‫وشارك اليهود الوروبيون بأقلمهم المسمومة‪ ،‬وأفكارهم المحمومة في هذه الهجمات‬
‫المتواصلة ضد الدولة العثمانية خصوصا والسلم عموما‪ ،‬وازداد عداء اليهود للدولة العثمانية‬
‫بعد أن فشلت كافة مخططاتهم في اغتصاب أي شبر من أراضي هذه الدولة لقامة كيان سياسي‬
‫لهم طوال أربعة قرون هي عمر الدولة العثمانية السنية‪ ،‬استطاع اليهود بمعاونة الصليبية‬
‫والدول الستعمارية الغربية ومن خلل محافلهم الماسونية أن يحققوا أهدافهم على حساب‬
‫النظمة القومية التي قامت في العالم الغربي والسلمي والتي وصفت نفسها بالتقدمية‬
‫والتحضر واتهمت الخلفة العثمانية على طول تاريخها بالتخلف والرجعية والجمود والنحطاط‬
‫وغير ذلك واعتبرت المحافل الماسونية ‪ ،‬والمنظمات الخفية التابعة لليهود والقوى العالمية‬
‫المعادية للسلم والمسلمين أن مسألة تشويه الفترة التاريخية للدولة العلية العثمانية من أهم‬
‫أهدافها‪.‬‬
‫أما المؤرخون العرب في العالم السلمي فقد ساروا في ركب التجاه المهاجم لفترة الخلفة‬
‫العثمانية مدفوعين الى ذلك بعدة أسباب يأتي في مقدمتها إقدام التراك بزعامة "مصطفى‬
‫آتاتورك" على إلغاء الخلفة السلمية في عام ‪1924‬م‪ ،‬وأعقب ذلك إقدام الحكومة العلمانية‬
‫‪-12-‬‬
‫التركية بالتحول الكامل الى المنهج العلماني في الجوانب الجتماعية والقتصادية والسياسية‬
‫على حساب الشريعة السلمية التي ظلت سائدة في تركيا منذ قيام الدولة العثمانية ‪ ،‬وتحالفت‬
‫هذه الحكومة مع السياسة الوروبية المعادية للدول السلمية والعربية‪ ،‬واشتركت سلسلة‬
‫الحلف العسكرية الوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية‪ ،‬والتي رفضتها الشعوب العربية‬
‫السلمية وبعض حكوماتها ‪ ،‬وقد كانت تركيا من أوائل الدول التي اعترفت بقيام الكيان‬
‫السياسي السرائيلي في فلسطين عام ‪1948‬م مما جعل الشعوب العربية السلمية تندفع خلف‬
‫حكوماتها القومية‪ ،‬بعد غياب الدولة العثمانية التي كانت تجاهد كل من تسول له نفسه بالعتداء‬
‫على شبر من أراضي المسلمين‪.‬‬
‫ويأتي سبب التبعية البحثية لمدرسة التاريخ العربي لتاريخ المنهجية الغربية كعامل هام في‬
‫التجاه نحو مهاجمة الخلفة العثمانية ‪ ،‬خصوصا بعد التقاء وجهات النظر بين المؤرخين‬
‫الوروبيين المؤرخين العرب حول تشويه الخلفة السلمية العثمانية‪.‬‬
‫ولقد تأثر كثير من مؤرخين العرب بالحضارة الوروبية المادية‪ ،‬ولذلك اسندوا كل ماهو‬
‫مضيء في تاريخ بلدهم الى بداية الحتكاك بهذه الحضارة البعيدة كل البعد عن المنهج‬
‫الرباني‪ ،‬واعتبروا بداية تاريخهم الحديث من وصول الحملة الفرنسية على مصر والشام وما‬
‫أنجزته من تحطيم جدار العزلة بين الشرق والغرب‪ ،‬وما ترتب عليه بعد ذلك من قيام الدولة‬
‫القومية في عهد محمد علي في مصر‪ ،‬وصحب ذلك اتجاهم لدانة الدولة العثمانية التي قامت‬
‫بالدفاع عن عقيدة الشعوب السلمية ودينها واسلمها من الهجمات الوحشية التي قام بها‬
‫الوروبيون النصارى‪.‬‬
‫لقد احتضنت القوى الوروبية التجاه المناهض للخلفة السلمية وقامت بدعم المؤرخين‬
‫والمفكرين في مصر والشام الى تأصيل الطار القومي وتعميقه من أمثال البستاني واليازجي‬
‫وجورج زيدان وأديب اسحاق وسليم نقاش وفرح انطوان وشبلي شميل وسلمة موسى وهنري‬
‫كورييل وهليل شفارتز وغيرهم‪ ،‬ويلحظ ان معظمهم من النصارى واليهود‪ ،‬كما أنهم في‬
‫‪-13-‬‬
‫أغلبهم إن لم يكونوا جميعا من المنتمين الى الحركة الماسونية التي تغلغلت في الشرق السلمي‬
‫منذ عصر محمد علي والتي كانت بذورها الولى مع قدوم نابليون في حملته الفرنسية‪.‬‬
‫لقد رأى اعداء المة السلمية أن دعم التوجه القومي والوقوف مع دعاته كفيل بتضعيف‬
‫المة السلمية والقضاء على الدولة العثمانية‪.‬‬
‫واستطاعت المحافل الماسونية أن تهيمن على عقول زعماء التوجه القومي في داخل الشعوب‬
‫السلمية‪ ،‬وخضع أولئك الزعماء لتوجيه المحافل الماسونية أكثر من خضوعهم لمطالب‬
‫شعوبهم وبخاصة موقفها من الدين السلمي الذي يشكل الطار الحقيقي لحضارة المسلم‬
‫وثقافته وعلومه ولم يتغير هذا المنهج المنحرف لدى المؤرخين العرب بشكل عام بعد قيام‬
‫النقلب العسكري في مصر سنة ‪1952‬م‪ ،‬حيث اتجهت الحكومة العسكرية في مصر منذ‬
‫البداية‪ ،‬والتفت حولها أغلب الحكومات العسكرية الى دعم التوجه القومي‪ ،‬كما أن معظم هذه‬
‫الحكومات ارتكزت على أسس اكثر علمانية في كافة الجوانب بما في ذلك الجانب الثقافي‬
‫والفكري‪ ،‬فنظروا الى الخلفة العثمانية والحكم العثماني للشعوب السلمية والعربية بأنه كان‬
‫غزوا واحتللً‪ ،‬واسندوا إليه كافة عوامل التخلف والضعف والجمود والنحطاط التي ألمت‬
‫بالعالم العربي السلمي‪ ،‬واعتبروا حركات النشقاق والتمرد التي قامت ابان الفترة العثمانية‪،‬‬
‫والتي كان دافعها الطماع الشخصية‪ ،‬أو مدفوعة من القوى الخارجية المعادية للخلفة‬
‫السلمية ‪ ،‬اعتبروها حركات استقللية ذات طابع قومي كحركة علي بك الكبير في مصر‪،‬‬
‫والقرمانليين في ليبيا‪ ،‬وظاهر العمر في فلسطين‪ ،‬والحسينيين في تونس‪ ،‬والمعنيين والشهابيين‬
‫في لبنان‪ ،‬وغير ذلك من أجل تأصيل التجاه القومي الذي طرحوه‪ .‬بل زعموا أن محمد علي‬
‫كان زعيما قوميا حاول توحيد العالم العربي ‪ ،‬وأنه فشل بسبب أنه لم يكن عربي الجنس‪،‬‬
‫وتناسوا أن محمد علي كان ذا أطماع شخصية‪ ،‬جعلته يرتبط بالسياسة الستعمارية التي دعمت‬
‫وجوده‪ ،‬وحققت به أهدافها الشريرة من ضرب الدولة السعودية السلفية ‪ ،‬واضعاف الخلفة‬
‫العثمانية ‪ ،‬ومساندته المحافل الماسونية في ضرب القوى السلمية في المنطقة وتهيئتها بعد‬
‫‪-14-‬‬
‫ذلك للحتلل الغربي المسيحي الحاقد لقد تحالفت المحافل اليهودية الماسونية مع القوى‬
‫الستعمارية الغربية والقوى المحلية العميلة التي أمكن تطويعها من خلل أطماعها‪ ،‬والتقوا‬
‫جميعا في تدمير القوة السلمية ومصادرة حريات شعوبها وسلب خيراتها وإقامت حكم‬
‫ديكتاتوري مدعوم بالسلح الغربي الحديث وهو ما مثله محمد علي وقد شارك بعض المؤرخين‬
‫السلفيين في المشرق العربي في الهجوم على الفترة العثمانية مدفوعين إلى ذلك بالرصيد‬
‫العدائي الذي خلّفه دور الخلفة العثمانية ضد الدعوة السلفية في عديد من مراحلها بسبب‬
‫مؤامرات الدول الغربية الستعمارية التي دفعت السلطين العثمانيين بالصدام بالقوة السلمية‬
‫في نجد قلب الدعوة السلفية وكذلك لمساندة الخلفة للتجاه الصوفي وبما يصاحبه من مظاهر‬
‫تخل بالجوانب الساسية للشريعة السلمية‪ ،‬فضل عن أن دولة الخلفة في سنواتها الخيرة قد‬
‫سيطر عليها دعاة القومية التركية الذين ابتعدوا بها عن اللتزام بالمنهج السلمي الذي تميزت‬
‫به الدولة العثمانية لفترات طويلة في تاريخها وشجع كافة المسلمين بالرتباط بها وتأييدها‬
‫والوقوف معها‪.‬‬
‫وأما المؤرخون الماركسيون فقد شنوا حربا لهوادة فيها على الدولة العثمانية واعتبروا فترة‬
‫حكمها تكريسا لسيادة النظام القطاعي الذي هيمن على تاريخ العصور الوسطى السابقة‪ ،‬وأن‬
‫العثمانيين لم يُحدثوا أي تطور في وسائل أو قوى النتاج‪ ،‬وأن التاريخ الحديث يبدأ بظهور‬
‫الطبقة البورجوازية ثم الرأسمالية التي أسهمت في إحداث تغيير في الجوانب القتصادية‬
‫والجتماعية في بداية القرن التاسع عشر‪ ،‬والتقوا في ذلك مع المؤرخين الوربيين من أصحاب‬
‫التجاه الليبرالي وكذلك مع أصحاب المنظور القومي وقام بعض المؤرخين والمفكرين من‬
‫النصارى واليهود بترويج للتجاهين الغربي والماركسي بواسطة التأليف والترجمة لمؤلفاتهم‪،‬‬
‫والذي ساندته المحافل الماسونية‪ ،‬حيث أنهم حاولوا أن يبتعدوا عن أي من الطر السلمية‬
‫الوحدوية مفضلين عليها الدعوة القومية بمفهومها المحلي أو العربي‪ ،‬كمشروع الهلل الخصيب‬
‫في الشام أو مشروع وحدة وادي النيل بين مصر والسودان فضلً عن نشاطهم في ترويج‬
‫‪-15-‬‬
‫التجاهات القومية المحدودة كالدعوة إلى الفرعونية في مصر‪ ،‬والشورية في العراق‪ ،‬والفينيقية‬
‫في الشام‪..‬الخ‪.‬‬
‫وأما المؤرخون التراك الذين برزوا في فترة الدعوة القومية التركية فقد تحاملوا كثيرا على‬
‫فترة الخلفة العثمانية سواء لمجاراة التجاه السياسي والفكري الذي ساد بلدهم والذي حمّل‬
‫الفترة السابقة كافة جوانب الضعف والنهيار أو لتأثر التراك بالموقف المشين الذي بدت عليه‬
‫سلطة الخلفة والتي اصبحت شكلية بعد الطاحة بالسلطان عبدالحميد سنة ‪1909‬م حيث‬
‫انهزمت في معارك متعددة عندما دخلت الحرب العالمية الولى وترتب على تلك الخسائر‬
‫ضياع كثير من أراضيها وتسليمها بتوقيع معاهدة سيفر سنة ‪1918‬م ‪ ،‬والذي في حقيقته هزيمة‬
‫لرجال التحاد والترقي ‪ ،‬ونتيجة لسياستها‪ ،‬في حين استطاعت الحركة القومية بزعامة مصطفى‬
‫كمال أن تنقذ تركيا من هذه الهانة وتستعيد الكثير من الراضي التركية وتجبر اليونان والقوى‬
‫التي تساندها ‪ ،‬الى جانب تأثر المفكرين التراك بموقف بعض العرب الذين ساندو الحلفاء‬
‫الغربيين إبان الحرب الولى ضد دولة الخلفة وإعلن الثورة عليها سنة ‪1916‬م وبرغم تفاوت‬
‫السباب وتباينها أل أن كثير من المؤرخين ألتقوا على تشويه وتزوير تاريخ الخلفة السلمية‬
‫العثمانية‪ ،‬لقد اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشويه الدولة العثمانية على تزوير الحقائق‪،‬‬
‫والكذب والبهتان والتشكيك والدس ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد العمى‪،‬‬
‫والدوافع المنحرفة‪ ،‬بعيدة كل البعد عن الموضوعية‪ ،‬وأدى ذلك الى ظهور رد فعل اسلمي‬
‫للرد على التهامات والشبهات التي وجهت للدولة العثمانية ولعل من أهمها وأبرزها تلك الكتابة‬
‫المستفيضة التي قام بها الدكتور عبدالعزيز الشناوي في ثلثة مجلدات ضخمة تحت عنوان‬
‫"الدولة العثمانية دول اسلمية مفترى عليها" وبرغم الجهد الذي بذله ودافعه السلمي ‪،‬‬
‫والموضوعية التي اتسم بها هذا العمل في أغلبه‪ ،‬إل أنه لم يعالج كافة جوانب التاريخ العثماني‬
‫وعليه بعض الملحظات مثل حديثه عن حقيقة النكشارية والتي لتثبت أمام البحث العلمي‬
‫النزيه‪ ،‬ومن الجهود المشكورة في هذا الميدان ما قام به الباحث الكبير والستاذ الشهير‬
‫‪-16-‬‬
‫المتخصص في تاريخ الدولة العثمانية الدكتور محمد حرب الذي كتب للمة السلمية بعض‬
‫الكتب القيمة مثل؛ العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬السلطان محمد الفاتح فاتح القسطنطينية‬
‫وقاهر الروم‪ ،‬والسلطان عبدالحميد آخر السلطين العثمانيين الكبار‪ ،‬ومن العمال القيمة في‬
‫تاريخ الدولة العثمانية ماقدمه الدكتور موفق بني المرجة كرسالة علمية لنيل درجة الماجستير‬
‫تحت عنوان "صحوة الرجل المريض أو السلطان عبدالحميد" أو الخلفة السلمية واستطاع‬
‫هذا الكتاب أن يبين كثير من الحقائق المدعومة بالوثائق والحجج الدامغة وغير ذلك من الكتاب‬
‫المعاصرين إل أن هناك جوانب في تاريخ الخلفة العثمانية وفي تأريخنا السلمي في العصر‬
‫الحديث تحتاج الى إعادة النظر من منظور اسلمي يساهم في إبراز الحقائق‪ ،‬والتئام تلك‬
‫الشروخ التي نتجت عن صياغة تاريخنا من منظور قومي علماني خدم أعداءنا في المقام الول‬
‫واستخدموه كوسيلة من وسائلهم في تمزيق الشعوب السلمية‪.‬‬
‫وعلينا عندما نكتب التاريخ الحديث أن نبين ونظهر دور المحافل الماسونية والمخططات‬
‫الغربية في توجيه هذه الصياغة التاريخية الخبيثة والتي يقوم بها مجموعة من عملء اليهود‬
‫والنصارى من أدعياء المنهج الليبرالي والعلماني حيث يقومون بإبراز العناصر الماسونية على‬
‫الساحة التاريخية ووضعم في دور الحركة الماسونية في الوقوف مع حركات التحرر‪.‬‬
‫إن التاريخ السلمي القديم والحديث علم مستهدف من قبل كل القوى المعادية للسلم‬
‫()‬
‫بإعتباره الوعاء العقدي والفكري والتربوي في بناء وصياغة هوية الشعوب السلمية ‪. 1‬‬
‫وهذه محاولة متواضعة للبحث في التاريخ العثماني في عمومه وتهتم بدور الخلفة العثمانية‬
‫في الشمال الفريقي ‪ ،‬وتمتد هذه الدراسة الى الجذور القديمة التي قامت عليها الدولة العثمانية‬
‫الى أن سقطت الخلفة على يد العميل النجليز‪ ،‬والملحد الكبير مصطفى كمال وفي ثنايا هذه‬
‫الدراسة يتعرض الباحث لسباب القوة العثمانية وأسباب ضعفهم ‪ ،‬وصفات رجالهم وسلطينهم‬

‫() انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬د‪ .‬زكريا بيومي ‪ ،‬ص ‪ 7،8،9‬الى ‪.16،17‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪-17-‬‬
‫القوياء‪ ،‬واهتمامهم بالعلماء وتطبيق شرع ال وجهادهم العظيم لنشر السلم والدفاع عن دياره‬
‫ضد الحملت الصليبية التي ل تنتهي ‪ ،‬ويلتزم الكاتب بمنهج أهل السنة عند عرض الحداث‬
‫محاولً أن يتقيد بالعدل والنصاف عند الحكم على الحداث لعله يساهم في تصحيح الكثير من‬
‫الحكام والمفاهيم الخاطئة التي ألمت بالدولة السلمية العثمانية وال من وراء القصد وهو‬
‫الهادي الى الصراط المستقيم‪.‬‬

‫الفصل الول‬
‫جذور التراك وأصولهم‬
‫المبحث الول‬
‫أصل التراك ومواطنهم‬

‫في منطقة ماوراء النهر والتي نسميها اليوم (تركستان) والتي تمتد من هضبة منغوليا وشمال‬
‫الصين شرقا الى بحر الخزر (بحر قزوين) غربا‪ ،‬ومن السهول السيبرية شمالً الى شبه القارة‬
‫( ‪)1‬‬
‫وقبائلها الكبرى تلك المناطق وعرفوا بالترك‬ ‫الهندية وفارس جنوبا‪ ،‬استوطنت عشائر الغز‬
‫()‬
‫أو التراك ‪. 2‬‬
‫ثم تحركت هذه القبائل في النصف الثاني من القرن السادس الميلدي‪ ،‬في النتقال من‬
‫موطنها الصلي نحو آسيا الصغرى في هجرات ضخمة‪ .‬وذكر المؤرخون مجموعة من‬

‫() انظر‪ :‬تاريخ الترك في آسيا الوسطى‪ ،‬بارتولد ترجمة أحمد العيد ص ‪.106‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬أخبار المراء والملوك السلجوقية تحقيق د‪ .‬محمد نور الدين ص ‪.4-2‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-18-‬‬
‫السباب التي ساهمت في هجرتهم؛ فالبعض يرى أن ذلك بسبب عوامل اقتصادية ‪ ،‬فالجدب‬
‫الشديد وكثرة النسل‪ ،‬جعلت هذه القبائل تضيق ذرعا بمواطنها الصلية‪ ،‬فهاجرت بحثا عن‬
‫( ‪)1‬‬
‫والبعض الخر يعزوا تلك الهجرات لسباب سياسية حيث‬ ‫الكلء والمراعي والعيش الرغيد‬
‫تعرضت تلك القبائل لضغوط كبيرة من قبائل اخرى أكثر منها عددا وعدة وقوة وهي المغولية‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫بحثا عن نعمة المن‬ ‫فأجبرتها على الرحيل‪ ،‬لتبحث عن موطن آخر وتترك أراضيها‬
‫()‬
‫والستقرار وذهب الى هذا الرأي الدكتور عبداللطيف عبدال بن دهيش ‪. 3‬‬
‫واضطرت تلك القبائل المهاجرة أن تتجه غربا‪ ،‬ونزلت بالقرب من شواطئ نهر جيحون ‪ ،‬ثم‬
‫()‬
‫استقرت بعض الوقت في طبرستان‪ ،‬وجرجان ‪ ، 4‬فأصبحوا بالقرب من الراضي السلمية‬
‫والتي فتحها المسلمون بعد معركة نهاوند وسقوط الدولة الساسانية في بلد فارس سنة ‪21‬هـ‪/‬‬
‫()‬
‫‪641‬م ‪. 5‬‬

‫اتصالهم بالعالم السلمي‪:‬‬


‫في عام ‪22‬هـ‪642/‬م تحركت الجيوش السلمية الى بلد الباب لفتحها وكانت تلك‬
‫الراضي يسكنها التراك‪ ،‬وهناك ألتقى قائد الجيش السلمي عبدالرحمن بن ربيعة بملك الترك‬
‫شهربراز‪ ،‬فطلب من عبدالرحمن الصلح وأظهر استعداده للمشاركة في الجيش السلمي‬
‫لمحاربة الرمن ‪ ،‬فأرسله عبدالرحمن الى القائد العام سراقة بن عمرو‪ ،‬وقد قام شهر براز‬
‫يعلمه بالمر‪ ،‬فوافق على‬ ‫بمقابلة سراقة فقبل منه ذلك‪ ،‬وكتب للخليفة عمر بن الخطاب‬
‫مافعل‪ ،‬وعلى إثر ذلك عقد الصلح‪ ،‬ولم يقع بين الترك والمسلمين أي قتال‪ ،‬بل سار الجميع الى‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬كتاب السلوك‪ ،‬أحمد المقريزي‪ ،‬ج ‪ ،1‬قسم ‪ ، 1‬ص ‪.3‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية للدكتور عبداللطيف دهيش‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬الكامل في التاريخ (‪.)8/22‬‬ ‫‪4‬‬
‫() انظر‪ :‬شوقي أبوخليل‪ :‬نهاوند ‪ ،‬ص ‪.70-55‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-19-‬‬
‫()‬
‫بلد الرمن لفتحها ونشر السلم فيها ‪. 1‬‬
‫وتقدمت الجيوش السلمية لفتح البلدان في شمال شرق بلد فارس حتى تنتشر دعوة ال‬
‫فيها‪ ،‬بعد سقوط دولة الفرس أمام الجيوش السلمية والتي كانت تقف حاجزا منيعا أمام‬
‫الجيوش السلمية في تلك البلدان‪ ،‬وبزوال تلك العوائق‪ ،‬ونتيجة للفتوحات السلمية ‪ ،‬أصبح‬
‫الباب مفتوحا أمام تحركات شعوب تلك البلدان والقاليم ومنهم التراك فتم التصال بالشعوب‬
‫السلمية‪ ،‬واعتنق التراك السلم‪ ،‬وانضموا الى صفوف المجاهدين لنشر السلم وإعلء‬
‫()‬
‫كلمة ال ‪. 2‬‬
‫تم فتح بلد طبرستان‪ ،‬ثم عبر المسلمون نهر‬ ‫وفي عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان‬
‫جيحون سنة ‪31‬هـ‪ ،‬ونزلوا بلد ماوراء النهر‪ ،‬فدخل كثير من الترك في دين السلم‪،‬‬
‫()‬
‫وأصبحوا من المدافعين عنه والمشتركين في الجهاد لنشر دعوة ال بين العالمين ‪. 3‬‬
‫وواصلت الجيوش السلمية تقدمها في تلك القاليم فتم فتح بلد بخارى في عهد معاوية بن‬
‫وتوغلت تلك الجيوش المضفرة حتى وصلت سمرقند‪ ،‬وما أن ظهر عهد الدولة‬ ‫أبي سفيان‬
‫السلمية حتى صارت بلد مارواء النهر جميعها تحت عدالة الحكم السلمي وعاشت تلك‬
‫()‬
‫الشعوب حضارة إسلمية عريقة ‪. 4‬‬
‫وازداد عدد التراك في بلط الخلفاء والمراء العباسيين وشرعوا في تولي المناصب القيادية‬
‫والدارية في الدولة؛ فكان منهم الجند والقادة والكتاب‪ .‬وقد ألتزموا بالهدوء والطاعة حتى نالوا‬
‫أعلى المراتب‪.‬‬
‫ولما تولى المعتصم العباسي الخلفة فتح البواب أمام النفوذ التركي وأسند إليهم مناصب‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ المم والملوك محمد بن جرير الطبري (‪.)3/256،257‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية والشرق العربي ‪ ،‬محمد انيس ‪ ،‬ص ‪.12،13‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬فتوح البلدان ‪ ،‬احمد بن يحيى البلذري ‪ ،‬ص ‪.405،409‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬خراسان لمحمود شاكر ‪ ،‬ص ‪.35-20‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-20-‬‬
‫الدولة القيادية وأصبحوا بذلك يشاركون في تصريف شؤون الدولة‪ ،‬وكانت سياسة المعتصم‬
‫تهدف الى تقليص النفوذ الفارسي ‪ ،‬الذي كان له اليد المطلقة في إدارة الدولة العباسية منذ عهد‬
‫()‬
‫الخليفة المأمون ‪. 1‬‬
‫وقد تسبب اهتمام المعتصم بالعنصر التركي الى حالة سخط شديدة بين الناس والجند‪ ،‬فخشي‬
‫المعتصم من نقمة الناس عليه‪ ،‬فأسس مدينة جديدة هي (سامراء) ‪ ،‬تبعد عن بغداد حوالي‬
‫‪125‬كم وسكنها هو وجنده وأنصاره‪.‬‬
‫وهكذا بدأ التراك منذ ذلك التاريخ في الظهور في أدوار هامة على مسرح التاريخ السلمي‬
‫حتى أسسوا لهم دولة إسلمية كبيرة كانت على صلة قوية بخلفاء الدولة العباسية عرفت بالدولة‬
‫()‬
‫السلجوقية ‪. 2‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫قيام الدولة السلجوقية‬

‫كان لظهور السلجقة على مسرح الحداث في المشرق العربي السلمي‪ ،‬أثر كبير في تغير‬
‫الوضاع السياسية في تلك المنطقة التي كانت تتنازعها الخلفة العباسية السنيّة من جهة‪،‬‬
‫والخلفة الفاطمية الشيعية من جهة ثانية‪.‬‬
‫وقد أسس السلجقة دولة تركية كبرى ظهرت في القرن الخامس للهجرة (الحادي عشر‬
‫الميلدي) ‪ ،‬لتشمل خراسان وماوراء النهر وإيران والعراق وبلد الشام وآسيا الصغرى‪.‬‬
‫وكانت الري في إيران ثم بغداد في العراق مقر السلطنة السلجوقية‪ ،‬بينما قامت دويلت‬

‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.12‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.12‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-21-‬‬
‫سلجوقية في خراسان ومارواء النهر (كرمان) وبلد الشام (سلجقة الشام) وآسيا الصغرى‬
‫سلجقة الروم‪ ،‬وكانت تتبع السلطان السلجوقي في إيران والعراق‪.‬‬
‫وقد ساند السلجقة الخلفة العباسية في بغداد ونصروا مذهبها السنّي بعد أن أوشكت على‬
‫النهيار بين النفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق‪ ،‬والنفوذ العبيدي (الفاطمي) في مصر‬
‫()‬
‫والشام‪ .‬فقضى السلجقة على النفوذ البويهي تماما وتصدوا للخلفة العبيدية (الفاطمية) ‪. 1‬‬
‫لقد استطاع طغرل بك الزعيم السلجوقي أن يسقط الدولة البويهية في عام ‪447‬هـ في بغداد‬
‫وأن يقضي على الفتن وأزال من على أبواب المساجد سب الصحابة‪ ،‬وقتل شيخ الروافض أبي‬
‫()‬
‫عبدال الجلب لغلوه في الرفض ‪. 2‬‬
‫لقد كان النفوذ البويهي الشيعي مسيطرا على بغداد والخليفة العباسي ‪ ،‬فبعد أن أزال‬
‫السلجقة الدولة البويهية من بغداد ودخل سلطانهم طغرل بك الى عاصمة الخلفة العباسية‬
‫استقبله الخليفة العباسي القائم بأمر ال استقبالً عظيما‪ ،‬وخلع عليه خلعة سنية‪ ،‬وأجلسه الى‬
‫جواره‪ ،‬وأغدق عليه ألقاب التعظيم ‪ ،‬ومن جملتها أنه لقبه بالسلطان ركن الدين طغرل بك‪ ،‬كما‬
‫أصدر الخليفة العباسي أمره بأن ينقش اسم السلطان طغرلبك على العملة‪ ،‬ويذكر اسمه في‬
‫الخطبة في مساجد بغداد وغيرها‪ ،‬مما زاد من شأن السلجقة‪ .‬ومنذ ذلك الحين حل السلجقة‬
‫()‬
‫محل البويهيين في السيطرة على المر في بغداد‪ ،‬وتسيير الخليفة العباسي حسب إرادتهم ‪. 3‬‬
‫كان طغرلبك يتمتع بشخصية قوية ‪ ،‬وذكاء حاد‪ ،‬وشجاعة‪ ،‬فائقة ‪ ،‬كما كان متدينا ورعا‬
‫عادلً‪ ،‬ولذلك وجد تأييدا كبيرا ومناصرة عظيمة من شعبه‪ ،‬وقد أعد جيشا قويا‪ ،‬وسعى لتوحيد‬
‫()‬
‫كلمة السلجقة التراك في دولة قوية ‪. 4‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين في المشرق العربي ‪ ،‬د‪ .‬عصام محمد شبارو‪ ،‬ص ‪.171‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬أيعيد التاريخ نفسه ‪ ،‬محمد العبده ‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-22-‬‬
‫وتوطيدا للروابط بين الخليفة العباسي القائم بأمر ال‪ ،‬وبين زعيم الدولة السلجوقية طغرلبك‪،‬‬
‫فإن الخليفة تزوج من أبنة جفري بك الخ الكبر لطغربك‪ ،‬وذلك في عام ‪448‬هـ‪1059/‬م ثم‬
‫في شعبان عام ‪454‬هـ‪1062/‬م تزوج طغربك من أبنة الخليفة العباسي القائم بال‪ .‬لكن طغربك‬
‫لم يعش طويلً بعد ذلك‪ ،‬حيث أنه توفى ليه الجمعة لليوم الثامن من شهر رمضان عام‬
‫‪455‬هـ‪1062 /‬م ‪ ،‬وكان عمره إذ ذاك سبعين عاما‪ ،‬بعد أن تمت على يده الغلبة للسلجقة في‬
‫()‬
‫مناطق خراسان وإيران وشمال وشرق العراق ‪. 1‬‬

‫أولً‪ :‬السلطان (محمد) الملقب ألب أرسلن أي السد الشجاع‪:‬‬


‫تولى ألب أرسلن زمام السلطة في البلد بعد وفاة عمه طغرلبك‪ ،‬وكانت قد حدثت بعض‬
‫المنازعات حول تولي السلطة في البلد‪ ،‬لكن ألب أرسلن استطاع أن يتغلب عليها‪ .‬وكان ألب‬
‫أرسلن ‪-‬كعمه طغرل بك‪ -‬قائدا ماهرا مقداما‪ ،‬وقد اتخذ سياسة خاصة تعتمد على تثبيت‬
‫أركان حكمه في البلد الخاضعة لنفوذ السلجقة ‪ ،‬قبل التطلع الى أخضاع أقاليم جديدة‪ ،‬وضمها‬
‫الى دولته‪ .‬كما كان متلهفا للجهاد في سبيل ال ‪ ،‬ونشر دعوة السلم في داخل الدولة المسيحية‬
‫المجاورة له‪ ،‬كبلد الرمن وبلد الروم‪ ،‬وكانت روح الجهاد السلمي هي المحركة لحركات‬
‫الفتوحات التي قام بها ألب أرسلن وأكسبتها صبغة دينية‪ ،‬وأصبح قائد السلجقة زعيما للجهاد‪،‬‬
‫وحريصا على نصرة السلم ونشره في تلك الديار‪ ،‬ورفع راية السلم خفاقة على مناطق‬
‫()‬
‫كثيرة من أراضي الدولة البيزنطية ‪. 2‬‬
‫لقد بقي سبع سنوات يتفقد أجزاء دولته المترامية الطراف‪ ،‬قبل أن يقوم باي توسع خارجي‪.‬‬
‫وعندما أطمئن على استباب المن‪ ،‬وتمكن حكم السلجقة في جميع القاليم والبلدان الخاضعة‬
‫له‪ ،‬أخذ يخطط لتحقيق أهدافه البعيدة‪ ،‬وهي فتح البلد المسيحية المجاورة لدولته‪ ،‬وإسقاط‬

‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬محمد فريد بك ‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-23-‬‬
‫الخلفة الفاطمية (العبيدية في مصر‪ ،‬وتوحيد العالم السلمي تحت راية الخلفة العباسية السنيّة‬
‫ونفوذ السلجقة‪ ،‬فأعد جيشا كبيرا أتجه به نحو بلد الرمن وجورجيا‪ ،‬فافتتحها وضمها الى‬
‫()‬
‫مملكته‪ ،‬كما عمل على نشر السلم في تلك المناطق ‪ . 1‬وأغار ألب أرسلن على شمال الشام‬
‫وحاصر الدولة المرداسية في حلب‪ ،‬والتي أسسها صالح بن مرداس على المذهب الشيعي سنة‬
‫‪414‬هـ‪1023/‬م وأجبر أميرها محمود بن صالح بن مرداس على إقامة الدعوة للخليفة العباسي‬
‫()‬
‫بدلً من الخليفة (الفاطمي‪ /‬العبيدي سنة ‪462‬هـ‪1070/‬م) ‪ . 2‬ثم أرسل قائده الترك أتنسز بن‬
‫أوق الخوارزمي في حملة الى جنوب الشام فأنتزع الرملة وبيت المقدس من يد (الفاطميين)‬
‫العبيديين ولم يستطيع الستيلء على عسقلن التي تعتبر بوابة الدخول الى مصر‪ ،‬وبذلك‬
‫أضحى السلجقة على مقربة من قاعدة الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي داخل بيت‬
‫()‬
‫المقدس ‪. 3‬‬
‫وفي سنة ‪462‬هـ ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم الى السلطان يخبره بإقامة‬
‫الخطبة للخليفة القائم وللسلطان وإسقاط خطبة صاحب مصر (العبيدي) وترك الذان بـ (حي‬
‫على العمل) فأعطاه السطان ثلثين ألف دينار وقال له ‪ :‬إذا فعل أمير المدينة كذلك أعطيناه‬
‫()‬
‫عشرين ألف دينار ‪. 4‬‬
‫لقد أغضبت فتوحات ألب أرسلن دومانوس ديوجينس امبراطور الروم‪ ،‬فصمم على القيام‬
‫بحركة مضادة للدفاع عن امبراطوريته‪ .‬ودخلت قواته في مناوشات ومعارك عديدة مع قوات‬
‫( ‪)5‬‬
‫السلجقة‪ ،‬وكان أهمها معركة (ملذكرد) في عام ‪463‬هـ الموافق أغسطس عام ‪1070‬م‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين في المشرق العربي ‪ ،‬د‪.‬عصام محمد ‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬مرآة الزمان لسبط بن الجوزي‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬أيعيد التاريخ نفسه‪ ،‬محمد العبده ‪ ،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-24-‬‬
‫قال ابن كثير‪( :‬وفيها أقبل ملك الروم ارمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والرخ‬
‫والفرنج‪ ،‬وعدد عظيم وعُدد ‪ ،‬ومعه خمسة وثلثون ألفا من البطارقة‪ ،‬مع كل بطريق مائتا ألف‬
‫فارس‪ ،‬ومعه من الفرنج خمسة وثلثون ألفا‪ ،‬ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة‬
‫()‬
‫عشر ألفا ‪ ،‬ومعه مائة ألف نقّاب وخفار ‪ ، 1‬وألف روزجاري‪ ،‬ومعه أربعمائة عجلة تحمل‬
‫النعال والمسامير‪ ،‬وألفا عجلة تحمل السلح والسروج والغرادات والمناجيق‪ ،‬منها منجنيق عدة‬
‫ألف ومائتا رجل‪ ،‬ومن عزمه قبحه ال أن يبيد السلم وأهله‪ ،‬وقد أقطع بطارقته البلد حتى‬
‫بغداد‪ ،‬واستوصى نائبها بالخليفة خيرا‪ ،‬فقال له ‪ :‬ارفق بذلك الشيخ فانه صاحبنا‪ ،‬ثم إذا‬
‫استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة‪ ،‬فاستعادوه من أيدي‬
‫المسلمين ‪ ،‬والقدر يقول ‪{ :‬لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} (سورة الحجر‪ :‬الية ‪.)72 :‬‬
‫فالتقاه السلطان ألب أرسلن في جيشه وهم قريب من عشرين ألفا‪ ،‬بمكان يقال له الزهوة‪ ،‬في‬
‫يوم الربعاء لخمس بقين من ذي القعدة‪ ،‬وخاف السلطان من كثرة جند الروم‪ ،‬فأشار عليه الفقيه‬
‫ابونصر محمد بن عبدالملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون‬
‫الخطباء يدعون للمجاهدين ‪ ،‬فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفئتان ‪ ،‬نزل‬
‫السطان عن فرسه وسجد ل عزوجل ‪ ،‬ومرغ وجهه في التراب ودعا ال واستنصره‪ ،‬فأنزل‬
‫نصره على المسلمين ومنحهم اكتافهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا‪ ،‬وأسر ملكهم ارمانوس‪ ،‬أسره غلم‬
‫رومي‪ ،‬فلما أوقف بين يدي الملك ألب أرسلن ضربه بيده ثلثة مقارع وقال ‪ :‬لو كُنت أنا‬
‫السير بين يديك ماكنت تفعل؟ قال ‪ :‬كل قبيح‪ ،‬قال فما ظنك بي؟ فقال‪ :‬إما أن تقتل وتشهرني‬
‫في بلدك‪ ،‬وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني‪ .‬قال ‪ :‬ماعزمت على غير العفو والفداء‪ .‬فأفتدى‬
‫منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار‪ .‬فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء وقبل‬
‫الرض بين يديه‪ ،‬وقبل الرض الى جهة الخليفة إجللً وإكراما‪ ،‬وأطلق له الملك عشرة ألف‬

‫() النقاب والخفار‪ :‬من ينقب ومن يحفر‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪-25-‬‬
‫دينار ليتجهز بها‪ ،‬وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيعه فرسخا‪ ،‬وأرسل معه جيشا يحفظونه‬
‫()‬
‫الى بلده‪ ،‬ومعهم راية مكتوب عليها ل إله إل ال محمد رسول ال‪. 1 )....،‬‬
‫لقد كان نصر ألب أرسلن بجيشه الذي لم يتجاوز خمسة عشر ألف محارب على جيش‬
‫المبراطور دومانوس الذي بلغ مائتي ألف‪ ،‬حدثا كبيرا‪ ،‬ونقطة تحول في التاريخ السلمي‬
‫لنها سهلت على اضعاف نفوذ الروم في معظم أقاليم آسيا الصغرى‪ ،‬وهي المناطق المهمة التي‬
‫كانت من ركائز وأعمدة المبراطورية البيزنطية‪ .‬وهذا ساعد تدريجيا للقضاء على الدولة‬
‫البيزنطية على يد العثمانيين‪.‬‬
‫ل صالحا أخذ بأسباب النصر المعنوية والمادية‪ ،‬فكان يقرب العلماء‬
‫لقد كان ألب أرسلن رج ً‬
‫ويأخذ بنصحهم وما أروع نصيحة العالم الرباني أبي نصر محمد بن عبدالملك البخاري الحنفي‪،‬‬
‫في معركة ملذكرد عندما قال للسلطان ألب أرسلن‪ :‬إنك تقاتل عن دين وعدال بنصره‬
‫واظهاره على سائر الديان‪ .‬وأرجو أن يكون ال قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة‬
‫في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر‪ ،‬فإنهم يدعون للمجاهدين‪.‬‬
‫فلما كان تلك الساعة صلى بهم‪ ،‬وبكى السلطان ‪ ،‬فبكى الناس لبكائه‪ ،‬ودعا فأمنوا‪ ،‬فقال لهم‬
‫من أراد النصراف فلينصرف‪ ،‬فما ههُنا سلطان يأمر ول ينهى‪ .‬وألقى القوس والنشاب ‪ ،‬واخذ‬
‫السيف‪ ،‬وعقد ذنب فرسه بيده‪ ،‬وفعل عسكره مثله‪ ،‬ولبس البياض وتحنط وقال‪ :‬إن قتلت فهذا‬
‫( ‪)2‬‬
‫ال أكبر على مثل هؤلء ينزل نصر ال‪.‬‬ ‫كفني‬
‫وقتل هذا السلطان على يد أحد الثائرين واسمه يوسف الخوارزمي وذلك يوم العاشر من‬
‫ربيع الول عام ‪465‬هـ الموافق ‪1072‬م ودفن في مدينة مرو بجوار قبر أبيه فخلفه أبنه‬
‫()‬
‫ملكشاه ‪. 3‬‬
‫() البداية والنهاية (‪.)12/108‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر ‪ :‬تاريخ السلم للذهبي ‪ ،‬حوادث ووفيات ‪ ،461،470‬ص ‪.2‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-26-‬‬
‫شيء من أخلق السلطان ألب أرسلن‪:‬‬
‫(كان رحيم القلب‪ ،‬رفيقا بالفقراء وكثير الدعاء بدوام ما أنعم ال عليه‪ ،‬اجتاز يوما بمرو على‬
‫فقراء الخرائسين ‪ ،‬فبكى‪ ،‬وسأل ال تعالى أن يغنيه من فضله وكان يكثر الصدقة ‪ ،‬فيتصدق في‬
‫رمضان بخمسة عشر الف دينار‪ ،‬وكان في ديوانه اسماء خلق كثير من الفقراء في جميع‬
‫ممالكه‪ ،‬عليهم الدرارات والصلت‪ ،‬ولم يكن في جميع بلده جناية ول مصادرة‪ ،‬قد قنع من‬
‫()‬
‫الرعايا بالخراج الصلي يؤخذ منهم كل سنة دفعتين رفقا بهم) ‪. 1‬‬
‫كتب إليه بعض السعاة في شأن وزيره نظام الملك وذكروا ماله في ممالكه فاستدعاه فقال ‪:‬‬
‫خذ إن كان هذا صحيحا فهذب أخلقك وأصلح أحوالك‪ ،‬وإن كان كذبوا فأغفر له زلته‪ ،‬الحرص‬
‫على حفظ مال الرعايا‪ ،‬بلغ أن غلما من غلمانه أخذ إزارا لبعض أصحابه فصلبه فارتدع سائر‬
‫()‬
‫المماليك خوفا من سطوته ‪. 2‬‬
‫وكان كثيرا مايُقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم‪ ،‬وأحكام الشريعة‪ ،‬ولمّا اشتهر بين الملوك‬
‫حُسن سيرته‪ ،‬ومحافظته على عهوده‪ ،‬أذعنوا له بالطاعة والموافقة بعد المتناع‪ ،‬وحضروا عنده‬
‫()‬
‫من أقاصي ماوراء النهر الى أقاصي الشام ‪. 3‬‬

‫ثانيا‪ :‬ملكشاه وفشله في توحيد الخلفة والسلطنة‪:‬‬


‫تولى السلطنة بعد ألب أرسلن ابنه ملكشاه وعارضه عمه قاورد بن جفري حاكم سلجقة‬
‫كرمان وطالب بالسلطنة ووقع الصدام بينهما قرب همذان حيث انهزم قارود وقتل وبذلك سيطر‬
‫ملكشاه على دولة سلجقة كرمان عين عليها سلطان شاه بن ألب أرسلن سنة ‪465‬هـ‪/‬‬
‫‪1073‬م‪.‬‬

‫() الكامل لبن الثير (‪.)6/252‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر ‪ :‬البداية والنهاية (‪.)12/114‬‬ ‫‪2‬‬
‫() الكامل لبن الثير (‪.)6/253‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-27-‬‬
‫واتسعت الدولة السلجوقية في عهد السلطان ملكشاه لتبلغ أقصى أمتداد لها من أفغانستان‬
‫شرقا الى آسيا الصغرى غربا وبلد الشام جنوبا‪ ،‬وذلك بعد أن سقطت دمشق على يد قائده‬
‫أتسز سنة ‪468‬هـ‪1075/‬م‪ ،‬وأقيمت الدعوة للخليفة العباسي‪.‬‬
‫وأسند ملكشاه المناطق التي سيطر عليها في بلد الشام‪ ،‬لخيه تاج الدولة تتمش سنة‬
‫‪470‬هـ‪1077/‬م‪ ،‬وذلك من أجل متابعة الفتح‪ .‬فاسس هذا الخير دولة سلجقة الشام كما عين‬
‫ملكشاه أحد أقاربه ويدعى سليمان بن قتلمش بن اسرائيل واليا على آسيا الصغرى التي كانت‬
‫( ‪)1‬‬
‫تتبع بلد الروم‪ ،‬لمتابعة الفتح سنة ‪470‬هـ‪1077/‬م ‪ ،‬فأسس هذا أيضا دولة سلجقة الروم‬
‫وقد استمرت هذه الدولة ‪ 224‬سنة ‪ ،‬ليتعاقب على حكمها أربعة عشر من سليلة أبي الفوارس‬
‫( ‪)2‬‬
‫وقد تمكن‬ ‫قتلمش بن اسرائيل‪ ،‬وكان أولهم سليمان بن قتلمش الذي يعتبر مؤسس هذه الدولة‬
‫من فتح انطاكية سنة ‪477‬هـ‪1084/‬م ‪ ،‬كما تمكن أبنه داود من السيطرة على قونية سنة‬
‫‪480‬هـ‪1087/‬م ليتخذها عاصمة له‪ .‬وكانت قونية من أغنى وأجمل المدن البيزنطية في آسيا‬
‫الصغرى؛ وقد حولها السلجقة من مدينة بيزنطية مسيحية الى مدينة سلجوقية اسلمية‪ .‬وقد‬
‫( ‪)3‬‬
‫وأصبحت فيما بعد من أملك‬ ‫سقطت هذه الدولة على يد المغول سنة ‪700‬هـ‪1300/‬م‬
‫الدولة العثمانية‪.‬‬
‫لقد كان سلجقة الروم حريصين على تتريك آسيا الصغرى ونشر السلم فيها على المذهب‬
‫السنّي وكانوا سببا في نقل الحضارة السلمية الى تلك القاليم‪ ،‬واسقطوا الخط الدفاعي الذي‬
‫()‬
‫كان يحمي المسيحية من أوروبا ضد السلم في الشرق ‪. 4‬‬
‫ورغم هذه السلطنة القوية زمن ملكشاه‪ ،‬لم يفلح قائده أتسز في توحيد بلد الشام ومصر‪ ،‬بعد‬
‫() انظر‪ :‬السلطين في المشرق العربي ‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر ‪ :‬السلطين في المشرق العربي‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-28-‬‬
‫أن شكل السلجقة تهديدا فعليا للدولة العبيدية (الفاطمية) داخل مصر‪.‬‬
‫وعندما أراد أتسز غزو مصر‪ ،‬حلت به الهزيمة على يد قوة من العرب‪ ،‬قبل مواجهة الجيش‬
‫الكبير الذي أعده الوزير بدر الجمالي في رجب ‪469‬هـ‪1076/‬م‪ ،‬وقد أدى فشل أتسز الى‬
‫مزيد من التشرذم‪ ،‬والتمزق السياسي والصراع الدامي‪ ،‬لينتهي المر بمقتله سنة ‪471‬هـ‪/‬‬
‫()‬
‫‪1078‬م ‪. 1‬‬
‫كذلك لم يفلح ملكشاه في جعل الخلفة العباسية تتحول الى أسرته السلجوقية ‪ ،‬عندما زوج‬
‫ابنته الى الخليفة العباسي المقتدي بأمر ال سنة ‪480‬هـ‪1087/‬م‪ ،‬فرزقت منه بولد‪ ،‬كما زوج‬
‫أبنته الخرى الى المستظهر العباسي ‪ .‬ولم يتمكن من حصر الخلفة والسلطنة في شخص‬
‫()‬
‫حفيده ‪. 2‬‬

‫وفاته‪:‬‬
‫توفى السلطان ملكشاه وانتهى دور القوة والمجد (‪485-447‬هـ‪1092-1055/‬م) الذي‬
‫عرفته الدولة السلجوقية في عهد السلطين الثلثة ‪ ،‬طغرل بك‪ ،‬وألب أرسلن‪ ،‬وملكشاه‪ ،‬لتبدأ‬
‫مرحلة الضعف والصراع ولقد ظهر في زمن ألب أرسلن وملكشاه الوزير نظام الملك الذي‬
‫يهمنا معرفة سيرته ودروه في قوة الدولة السلجوقية‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬نظام الملك‪:‬‬
‫قال عنه الذهبي ‪( :‬الوزير الكبير‪ ،‬نظام الملك‪ ،‬قوام الدين ‪ ،‬أبو علي الحسن بن علي ابن‬
‫إسحاق الطوسي‪ ،‬عاقل‪ ،‬سائس‪ ،‬خبير ‪ ،‬سعيد‪ ،‬متدين‪ ،‬محتشم‪ ،‬عامر المجلس بالقرّاء والفقهاء‪.‬‬
‫أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد وأخرى بنيسابور ‪ ،‬وأخرى بطوس‪ ،‬ورغب في العلم‪ ،‬وأدرّ‬

‫() انظر‪ :‬مرآة الزمان‪ ،‬سبط ابن الجوزي‪ ،‬ص ‪.182‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين في المشرق العربي‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-29-‬‬
‫()‬
‫على الطلبة الصلت‪ ،‬وأملى الحديث‪ ،‬وبعد صيته) ‪. 1‬‬
‫تنقلت به الحوال الى أن وزر للسلطان ألب أرسلن‪ ،‬ثم لبنه ملكشاه‪ ،‬فدبر ممالكه على أتم‬
‫()‬
‫ماينبغي‪ ،‬وخفف المظالم‪ ،‬ورفق بالرعايا‪ ،‬وبني الوقوف‪ ،‬وهاجرت الكبار الى جانبه ‪. 2‬‬
‫واشار على ملكشاه بتعيين القواد والمراء الذين فيهم خلق ودين وشجاعة وظهرت آثار تلك‬
‫السياسة فيما بعد ومن هؤلء القواد الذين وقع عليهم الختيار آق سنقر جد نورالدين محمود‪،‬‬
‫الذي ولي على حلب وديار بكر والجزيرة قال عنه ابن كثير‪( :‬من أحسن الملوك سيرة‬
‫( ‪)3‬‬
‫وقام ولده عمادالدين زنكي ببداية الجهاد ضد الصليبيين‪ ،‬ثم قام من بعده‬ ‫وأجودهم سريرة)‬
‫نور الدين محمود ‪ ،‬هذه السرة هي التي وضعت الساس لنتصارات صلح الدين والظاهر‬
‫()‬
‫بيبرس وقلوون ضد الصليبيين‪ ،‬وافتتحت عهد التوحيد والوحدة في العالم السلمي ‪. 4‬‬
‫وكذلك كان آق سنقر البرسقي من قواد السلطان محمود السلجوقي‪ ،‬وكان أميرا للموصل‪،‬‬
‫واشتغل بجهاد الصليبيين‪ ،‬وفي سنة ‪520‬هـ قتله الباطنيون‪ ،‬وهو يصلي في الجامع الكبير في‬
‫الموصل‪ .‬قال عنه ابن الثير‪" :‬وكان مملوكا تركيا خيرا‪ ،‬يحب أهل العلم والصالحين ويرى‬
‫العدل ويفعله‪ ،‬وكان خير الولة‪ ،‬يحافظ على الصلوات في أوقاتها‪ ،‬ويصلي من الليل‬
‫()‬
‫متهجدا" ‪. 5‬‬
‫ويحدثنا المؤرخ ابوشامة من آثار السلجقة لسيما في زمن نظام الملك‪( :‬فلما ملك السلجوقية‬
‫جددوا من هيبة الخلفة ماكان قد درس لسيما في وزارة النظام الملك‪ ،‬فإنه أعاد الناموس‬
‫()‬
‫والهيبة الى أحسن حالتها) ‪. 6‬‬
‫() سير أعلم النبلء (‪.)19/94‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق (‪.)19/95‬‬ ‫‪2‬‬
‫() البداية والنهاية (‪.)12/157‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬أيعيد التاريخ نفسه‪ ،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪4‬‬
‫() الكامل (‪ )10/633‬نقلً عن أيعيد التاريخ نفسه‪ ،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪5‬‬
‫() الروضتين في أخبار الدولتين (‪ )1/31‬نقلً عن أيعيد التاريخ نفسه‪.‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪-30-‬‬
‫ضبطه لمور الدولة‪:‬‬
‫لما تولى ملكشاه أمور الدولة انفلت أمر العسكر وبسطوا أيديهم في أموال النّاس‪ ،‬وقالوا‬
‫مايمنع السلطان أن يعيطنا الموال إل نظام الملك‪ ،‬وتعرض الناس لذى شديد‪ ،‬فذكر ذلك نظام‬
‫الملك للسلطان‪ ،‬فبين له ما في هذا الفعل من الضعف‪ ،‬وسقوط الهيبة‪ ،‬والوهن ‪ ،‬ودمار البلد‪،‬‬
‫وذهاب السياسة ‪ ،‬فقال له‪ :‬أفعل في هذا ماتراه مصلحة! فقال له نظام الملك‪ :‬مايمكنني أن افعل‬
‫إل بأمرك فقال السلطان‪ :‬قد رددت المور كلها كبيرها وصغيرها إليك‪ ،‬فأنت الوالد؛ وحلف له‪،‬‬
‫وأقطعه إقطاعا زائدا على ماكان ‪ ،‬وخلع عليه ‪ ،‬ولقبه ألقابا من جملتها ‪ :‬أتابك‪ ،‬ومعناه المير‬
‫الوالد‪ ،‬فظهرت من كفايته‪ ،‬وشجاعته‪ ،‬وحسن سيرته ما أثلج صدور الناس‪ ،‬فمن ذلك أن امرأة‬
‫ضعيفة استغاثت به‪ ،‬فوقف يكلمها وتكلمه‪ ،‬فدفعها بعض حجّابه ‪ ،‬فأنكر ذلك عليه وقال ‪ :‬إنما‬
‫()‬
‫استخدمتك لمثال هذه‪ ،‬فإن المراء والعيان لحاجة لهم إليك‪ ،‬ثم صرفه عن حجابته ‪. 1‬‬

‫حبه للعلم واحترامه للعلماء وتواضعه‪:‬‬


‫كان يحب العلم وخصوصا الحديث‪ ،‬شغوفا به وكان يقول ‪ :‬إني أعلم بأني لست أهلً للرواية‬
‫()‬ ‫()‬
‫ولكني أحب أن أربط في قطار ‪ 2‬نقلة حديث رسول ال ‪ ، 3‬فسمع من القشيري ‪ ،‬أبي مسلم‬
‫()‬
‫بن مهر بزد‪ ،‬وأبي حامد الزهري ‪. 4‬‬
‫وكان حريصا على أن تؤدي المدارس التي بناها رسالتها المنوطة بها فعندما أرسل إليه أبو‬
‫الحسن محمد بن علي الواسطي الفقيه الشافعي أبيات من الشعر يستحثه على المساعة للقضاء‬
‫على الفتن التي حدثت بين الحنابلة والشاعرة قام نظام الملك وقضى على الفتنة ومما قاله ابو‬
‫الحسن الواسطي من الشعر ‪:‬‬
‫ببغداد النظــــــام‬ ‫يانظام الملك قد حــلّ‬
‫() انظر‪ :‬الكامل لبن الثير (‪.)2/256‬‬ ‫‪1‬‬
‫() قطار‪ :‬قافلة‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬البداية والنهاية (‪.)12/150‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬سير أعلم النبلء للذهبي (‪.)19/95‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-31-‬‬
‫مستهان مستضام‬ ‫وابنك القاطن فيهــــا‬
‫غلم‪ ،‬وغــــــلم‬ ‫وبها أودى له قتلــــى‬
‫سالما فيه سهــــام‬ ‫والذي منهم تبقــــــي‬
‫يبقى ببغدا مقـــام‬ ‫ياقوام الدين لـــــــــم‬
‫اتصـــــال ودوام‬ ‫عظُم الخطبُ وللحرب‬
‫أياديك الحســــام‬ ‫فمتى لم تحسم الــــداء‬
‫بغداد قتل وانتقام‬ ‫ويكف القوم فـــــــي‬
‫ومن فيها السلم‬ ‫فعلى مدرسة فيهــــــا‬
‫( ‪)1‬‬
‫لك من بعدُ حرام‬ ‫واعتصام بحَريـــــــــم‬
‫لقد كان مجلسه عامرا بالفقهاء والعلماء‪ ،‬حيث يقضي معهم جُلّ نهاره‪ ،‬فقيل له‪( :‬إن هؤلء‬
‫شغلوك عن كثير من المصالح‪ ،‬فقال‪ :‬هؤلء جمال الدنيا والخرة‪ ،‬ولو أجلستهم على رأسي لما‬
‫استكثرت ذلك‪ ،‬وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبوالمعالي الجويني قام لهم وأجلسهما‬
‫معه في المقعد‪ ،‬فإن دخل أبو علي الفارندي قام وأجلسه مكانه‪ ،‬وجلس بين يديه‪ ،‬فعوتب في‬
‫ذلك فقال ‪ :‬إنهما إذا دخل عليّ قال‪ :‬أنت وأنت‪ ،‬يطروني ويعظموني‪ ،‬ويقولوا فيّ مال فيّ‪،‬‬
‫فأزداد بهما ماهو مركوز في نفس البشر‪ ،‬وإذا دخل عليّ أبوعلي الفارندي ذكرني عيوبي‬
‫()‬
‫وظلمي ‪ ،‬فأنكسر فأرجع عن كثير مما أنا فيه‪. 2 )...‬‬
‫قال عنه ابن الثير‪( :‬وأما أخباره‪ ،‬فإنه كان عالما‪ ،‬دينا‪ ،‬جوادا‪ ،‬عادلً‪ ،‬حليما‪ ،‬كثير الصفح‬
‫عن المذنبيين ‪ ،‬طويل الصمت‪ ،‬كان مجلسه عامرا بالقرّاء‪ ،‬والفقهاء‪ ،‬وأئمة المسلمين‪ ،‬وأهل‬

‫() انظر‪ :‬الكامل (‪.)6/276‬‬ ‫‪1‬‬


‫() البداية والنهاية (‪.)12/150‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-32-‬‬
‫()‬
‫الخير والصلح‪. 1 )...‬‬
‫كان من حفظة القرآن ‪ ،‬ختمه وله إحدى عشرة‪ ،‬واشتغل بمذهب الشافعي‪ ،‬وكان ليجلس إل‬
‫()‬
‫على وضوء‪ ،‬وما توضأ إل تنفّل ‪ ، 2‬واذا سمع المؤذن أمسك عن كل ماهو فيه وتجنبه‪ ،‬فإذا‬
‫فرغ ليبدأ بشيء قبل الصلة وكان‪ ،‬إذا غفل المؤذن ودخل الوقت فأمره بالذان ‪ ،‬وهذا قمة‬
‫()‬
‫حال المنقطعين للعبادة في حفظ الوقات‪ ،‬ولزوم الصلوات ‪ ، 3‬وكانت له صلة بال عظيمة وقال‬
‫ذات مرة‪ :‬رأيت ليلة في المنام إبليس فقلت له ‪ :‬ويحك خلقك ال وأمرك بالسجود له مشافهة‬
‫فأبيت‪ ،‬وأنا لم يأمرني بالسجودله مشافهة وأنا أسجد له في كل يوم مرات‪ ،‬وأنشأ يقول‪:‬‬
‫من لم يكن للوصال أهلً‬
‫( ‪)4‬‬
‫فكلّ إحسانه ذنوب‬
‫وكان يتمنى أن يكون له مسجد يعبد ال فيه‪ ،‬ومكفول الرزق قال في هذا المعنى ‪ :‬كنت‬
‫أتمنىأن يكون لي قرية خالصة‪ ،‬ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي‪ ،‬ثم تمنيت بعد ذلك أن يكون لي‬
‫()‬
‫رغيف كل يوم‪ ،‬ومسجد أعبد ال فيه ‪. 5‬‬
‫ومن تواضعه انه كان ليلة يأكل الطعام‪ ،‬وبجانبه أخوه أبو القاسم‪ ،‬وبالجانب الخر عميد‬
‫خُراسان‪ ،‬والى جانب العميد إنسان فقير‪ ،‬مقطوع اليد‪ ،‬فنظر نظام الملك فرأى العميد يتجنب‬
‫الكل مع المقطوع‪ ،‬فأمره بالنتقال الى الجانب الخر‪ ،‬وقرّب المقطوع إليه فأكل معه‪.‬‬

‫() الكامل (‪.)6/337‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬سير أعلم النبلء (‪.)19/96‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬الكامل (‪.)6/337‬‬ ‫‪3‬‬
‫() البداية والنهاية (‪.)12/150‬‬ ‫‪4‬‬
‫() انظر‪ :‬الكامل (‪.)6/338‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-33-‬‬
‫()‬
‫وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه ويقربهم إليه‪ ،‬ويدنيهم ‪. 6‬‬
‫ومن شعره‪:‬‬
‫بعد الثمانين ليس قُوة‬
‫قد ذهبت شهوة الصّبوة‬
‫كأنني والعصا بكّفي‬
‫( ‪)2‬‬
‫موسى ولكن بل ُنُبوّة‬
‫وينسب إليه أيضا‪:‬‬
‫تقوس بعد طول العُمر ظهري‬
‫وداستني الليالي أيّ دَوْسِ‬
‫فأمسي والعصا تمشي أمامي‬
‫كأن قوامها وتر بقوسِ‬
‫وكان يتأثر بسماع الشعر فعندما دخل عليه أبوعلي القومَسَاني في مرضةٍ مرضها‪ ،‬يعوده‬
‫فأنشأ يقول‪:‬‬
‫إذا مرضنا نوَينا كل صالحةٍ‬
‫فإن شفينا فمنا الزيغ وال ّزلَلُ‬
‫نرجو الله اذا خفنا ونسخطه‬
‫إذا أمنا فما يزكو لنا عمل‬
‫()‬
‫فبكى نظام الملك وقال ‪ :‬هو كما يقول ‪. 3‬‬

‫() نفس المصدر السابق‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫() تاريخ السلم حوادث ووفيات ‪ /490-481‬ص ‪.147‬‬ ‫‪2‬‬
‫() طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (‪.)4/328‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-34-‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫في عام ‪485‬هـ من يوم الخميس‪ ،‬في العاشر من شهر رمضان وحان وقت الفطار‪ ،‬صلىّ‬
‫نظام الملك المغرب‪ ،‬وجلس على الّسماط‪ ،‬وعنده خلق كثير من الفقهاء‪ ،‬والقرّاء‪ ،‬والصوفية‪،‬‬
‫وأصحاب الحوائج‪ ،‬فجعل يذكر شرف المكان الذي نزلوه من أراضي نهاوند‪ ،‬وأخبار الوقعة‬
‫‪ ،‬ومن استشهد‬ ‫التي كانت بين الفرس والمسلمين‪ ،‬في زمان أمير المؤمنين‪ ،‬عمر بن الخطاب‬
‫هناك من العيان ‪ ،‬ويقول ‪ :‬طوبى لمن لحق بهم‪.‬‬
‫فلما فرغ من إفطاره ‪ ،‬خرج من مكانه قاصدا مَضْرِب حَرَمه فبدر إليه حدث ديلميّ‪ ،‬كأنه‬
‫مُستميح‪ ،‬أو مستغيث‪ ،‬فعلق به ‪ ،‬وضربه‪ ،‬وحمل الى مضرب الحرم‪.‬‬
‫فيقال ‪ :‬إنه أول مقتول قتلته السماعيلية (الباطنية)‪ ،‬فأنبث الخبر في الجيش‪ ،‬وصاحت‬
‫الصوات‪ ،‬وجاء السلطان ملكشاه حين بلغه الخبر‪ ،‬مظهرا الحزن‪ ،‬والنحيب والبكاء وجلس عند‬
‫()‬
‫نظام الملك ساعة‪ ،‬وهو يجُود بنفسه‪ ،‬حتى مات‪ ،‬فعاش سعيدا ‪ ،‬ومات شهيدا فقيدا حميدا ‪. 1‬‬
‫وكان قاتله قد تعثر بأطناب الخيمة‪ ،‬فلحقه مماليك نظام الملك وقتلوه‪.‬‬
‫وقال بعض خدامه‪ :‬كان آخر كلم نظام الملك أن قال ‪ :‬لتقتلوا قاتلي‪ ،‬فإني قد عفوت عنه‬
‫()‬
‫وتشهد ومات ‪. 2‬‬
‫ولما بلغ أهل بغداد موت نظام الملك حزنوا عليه‪ ،‬وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلثة أيام‬
‫ورثاه الشعراء بقصائد‪ ،‬منهم مقاتل بن عطية حيث قال‪:‬‬
‫كان الوزير نظا ُم الملكِ لؤلؤة‬
‫يتيمة صاغها الرحمن من شرفٍ‬
‫عزّت فلم تعرفِ اليامُ قيمتها‬

‫() انظر‪ :‬طبقات الشافعية الكبرى (‪.)4/322،323‬‬ ‫‪1‬‬


‫() نفس المصدر السابق (‪.)4/323‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-35-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫فرّدها غيره منه الى الصــــدف‬
‫قال عنه ابن عقيل‪ :‬بهر العقول سيرة النظام جودا وكرما وعدلً‪ ،‬وإحياءً لمعالم الدين‪ ،‬كانت‬
‫أيامه دولة أهل العالم‪ ،‬ثم ختم له بالقتل وهو مارّ الى الحج في رمضان فمات ملكا في الدنيا‪،‬‬
‫()‬
‫ملكا في الخرة ‪ ،‬رحمه ال ‪. 2‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫نهاية الدولة السلجوقية‬

‫كان للسلطان ملكشاه عند وفاته أربعة أبناء هم بركيارق ومحمد وسنجر ومحمود‪ .‬وكان‬
‫محمود‪ ،‬والذي عرف فيما بعد بناصر الدين محمود‪ ،‬طفلً فبايعوه على تولي السلطة لن أمه‬
‫تركان خاتون‪ ،‬كانت ذات شأن كبير ايام ملكشاه‪ .‬وقد استمر حكمه حوالي العامين من ‪485‬هـ‪/‬‬
‫‪1092‬م والى عام ‪487‬هـ‪1094/‬م‪ ،‬حيث توفي هو وأمه‪ .‬ثم جاء من بعده ركن الدين‬
‫أبوالمظفر بركيارق بن ملكشاه‪ ،‬واستمر حكمه حتى عام ‪498‬هـ‪1105/‬م‪ ،‬ثم تله ركن الدين‬
‫مكلشاه الثاني وفي نفس العام تولى السلطة غياث الدين أبو شجاع محمد‪ ،‬واستمر حكمه حتى‬
‫عام ‪511‬هـ‪1128/‬م وكان آخر حكام الدولة السلجوقية العظمى فيما وراء النهر والتي كانت‬
‫لها السيطرة على خراسان وإيران والعراق‪ .‬وقد انقرضت دولتهم عام ‪522‬هـ‪1128/‬م وذلك‬
‫()‬
‫على يد شاهنات خوارزم ‪ . 3‬وبسقوط الدولة السلجوقية العظمى فيما وراء النهر انفرط عقد‬
‫السلجقة وتمزقت وحدتهم‪ ،‬وضعفت قوتهم‪ ،‬حتى أصبح السلجقة شيعا وأحزابا ومعسكرات‬
‫متباينة‪ ،‬تتصارع فيما بينها‪ ،‬حول الظفر بالعرش‪ ،‬وانقسمت على ضوء ذلك الدولة السلجوقية‬
‫() البداية والنهاية (‪.)12/151‬‬ ‫‪1‬‬
‫() نظر‪ :‬سير أعلم النبلء (‪.)19/96‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ دولة آل سلجوق لمحمد الصبهاني ص ‪.154-81‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-36-‬‬
‫العظمى الى عدة دول وإمارات صغيرة‪ .‬ولم تكن هذه الدولة والمارات الصغيرة تخضع لحكم‬
‫سلطان واحد كما كان الحال في عهد كل من السلطان طغرلبك الول والسلطان ألب أرسلن‬
‫والسلطان ملكشاه وأسلفهم‪ .‬بل كان كل جزء من أجزاء الدولة السلجوقية مستقلً تحت قيادة‬
‫()‬
‫منفصلة‪ ،‬ليوجد بينها أي تعاون يذكر ‪. 1‬‬
‫ونتيجة لذلك خرجت الدولة الخوارزمية فيما وراء النهر وهي تلك الدولة التي وقفت ردحا‬
‫من الزمن أمام الهجمات المغولية وقد قامت معها إمارات سلجوقية في شمال العراق والشام‬
‫عرفت بالتابكيات‪ ،‬وأثناء ذلك برزت سلطنة سلجقة الروم‪ ،‬وهي السلطنة التي قاومت‬
‫الحملت الصليبية ‪ ،‬واستطاعت أن تحصرها في الركن الشمالي الغربي من آسيا الصغرى‪ .‬أما‬
‫سلطنة سلجقة الروم فقد دمرتها الغارات المغولية المتلحقة‪.‬‬
‫لقد تضافرت عوامل عديدة في سقوط السلطنة السلجوقية التي مهدت بدورها لسقوط الخلفة‬
‫العباسية‪.‬‬
‫ومن هذه العوامل‪:‬‬
‫‪.1‬الصراع داخل البيت السلجوقي بين الخوة والعمام والبناء والحفاد‪.‬‬
‫‪.2‬تدخل النساء في شؤون الحكم‪.‬‬
‫‪.3‬اذكاء نار الفتنة بين الحكام السلجقة من قبل بعض المراء والوزراء والتابك‬
‫‪.4‬ضعف الخلفاء العباسيين الذين تميزوا بالضعف أمام القوة العسكرية السلجوقية‪ ،‬فلم‬
‫يتورعوا عن العتراف بشرعية كل من يجلس على عرش السلطنة السلجوقية والخطبة لكل‬
‫()‬
‫منتصر قوي ‪. 2‬‬
‫‪.5‬عجز الدولة السلجوقية عن توحيد بلد الشام ومصر والعراق تحت راية الخلفة‬

‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ص ‪.23‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬السلطين في المشرق العربي ص ‪.50‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-37-‬‬
‫العباسية‪.‬‬
‫‪.6‬النقسام الداخلي بين السلجقة والذي وصل الى حد المواجهة العسكرية المستمرة‪ ،‬وهذا‬
‫ما أنهك قوة السلجقة حتى انهارت سلطنتهم في العراق‪.‬‬
‫‪.7‬المكر الباطني الخبيث بالدولة السلجوقية وتمثل ذلك في حملة التصفيات والمحاولت‬
‫المستمرة لغتيال سلطين السلجقة وزعمائهم وقاداتهم‪.‬‬
‫‪.8‬الغزو الصليبي القادم من وراء البحار وصراع الدولة السلجوقية مع جحافل الغزو‬
‫الوحشية القادمة من أوروبا وغير ذلك من السباب والعوامل إل أن السلجقة كانت لهم أعمال‬
‫جليلة من أهمها‪:‬‬
‫‪.1‬كان لهم دور في تأخير زوال الخلفة العباسية‪ ،‬حوالي قرنين من الزمان‪ ،‬حيث أوشكت‬
‫قبل مجيئهم على النقراض في ظل سيطرة البويهين الشيعة الروافض‪.‬‬
‫‪ .2‬منعت الدولة السلجوقية الدولة العبيدية في مصر من تحقيق اغراضها الهادفة الى توحيد‬
‫المشرق العربي السلمي تحت الراية الباطنية العبيدية الرافضية‪.‬‬
‫‪ .3‬كانت الجهود التي بذلتها الدولة السلجوقية تمهيدا لتوحيد المشرق السلمي والذي تم‬
‫()‬
‫على يد صلح الدين اليوبي وتحت راية الخلفة العباسية السنيّة ‪. 1‬‬
‫‪ .4‬قام السلجقة بدور ملموس في النهوض بالمنطقة الخاضعة لهم علميا وإداريا ونشروا‬
‫المن والستقرار فيها‪.‬‬
‫‪ .5‬وقفوا في وجه التحركات الصليبيبة من جانب المبراطورية البيزنطية‪ ،‬وحاولوا صد‬
‫الخطر المغولي الى حد كبير ‪.‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪ .6‬رفعوا من شأن المذهب السني وعلمائه في تلك المناطق‬

‫() انظر‪ :‬السلطين في المشرق العربي ص ‪.51‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ص ‪.24‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-38-‬‬
‫هذه نبذة موجزة عن السلجقة السنيين ودورهم في نصرة السلم‪ ،‬وإن من الظلم والزور‬
‫والبهتان أن نطلق على أولئك الشجعان كلمة الشراذم كما فعل الستاذ نجيب زبيب في‬
‫()‬
‫الموسوعة العامة في لتاريخ المغرب والندلس ‪. 1‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫قيام الدولة العثمانية وفتوحاتها‬

‫ينتسب العثمانيون الى قبيلة تركمانية كانت عند بداية القرن السابع الهجري الموافق الثالث‬
‫عشر الميلدي تعيش في كردستان‪ ،‬وتزاول حرفة الرعي‪ ،‬ونتيجة للغزو المغولي بقيادة‬
‫جنكيزخان على العراق ومناطق شرق آسيا الصغرى‪ ،‬فإن سليمان جد عثمان هاجر في عام‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪617‬هـ الموافق ‪1220‬م مع قبيلته من كردستان الى بلد الناضول فأستقر في مدينة اخلط‬
‫ثم بعد وفاته في عام ‪628‬هـ الموافق ‪1230‬م خلفه ابنه الوسط أرطغرل‪ ،‬والذي واصل‬
‫تحركه نحو الشمال الغربي من الناضول ‪ ،‬وكان معه حوالي مائة أسرة وأكثر من أربعمائة‬
‫( ‪)3‬‬
‫وحين كان ارطغرل والد عثمان فارا بعشيرته التي لم يتجاوز تعدادها اربعمائة عائلة‪،‬‬ ‫فارس‬
‫من ويلت الهجمة المغولية‪ ،‬فاذا به يسمع عن بعد جلبة وضوضاء‪ ،‬فلما دنا منها وجد قتالً‬

‫() انظر‪ :‬الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والندلس (‪.)3/10‬‬ ‫‪1‬‬


‫() أخلط مدينة في شرق تركيا الحالية قريبة من بحيرة وآن في ارمينيا‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ص ‪.26‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-39-‬‬
‫حاميا بين مسلمين ونصارى وكانت كفة الغلبة للجيش البيزنطي‪ ،‬فما كان من أرطغرل إل أن‬
‫تقدم بكل حماس وثبات لنجدة اخوانه في الدين والعقيدة‪ ،‬فكان ذلك التقدم سببا في نصر‬
‫( ‪)1‬‬
‫وبعد انتهاء المعركة قدر قائد الجيش السلمي السلجوقي هذا‬ ‫المسلمين على النصارى‬
‫الموقف لرطغرل ومجموعته‪ ،‬فأقطعهم ارضا في الحدود الغربية للناضول بجوار الثغور في‬
‫()‬
‫الروم ‪ ، 2‬وأتاحوا لهم بذلك فرصة توسيعها على حساب الروم‪ ،‬وحقق السلجقة بذلك حليفا قويا‬
‫ومشاركا في الجهاد ضد الروم‪ ،‬وقد قامت بين هذه الدولة الناشئة وبين سلجقة الروم علقة‬
‫حميمة نتيجة وجود عدو مشترك لهم في العقيدة والدين‪ ،‬وقد استمرت هذه العلقة طيلة حياة‬
‫( ‪)3‬‬
‫خلفه من بعده في الحكم ابنه عثمان الذي‬ ‫أرطغرل‪ ،‬حتى إذا توفي سنة ‪699‬هـ‪1299-‬م‬
‫()‬
‫سار على سياسة أبيه السابقة في التوسع في أراضي الروم ‪. 4‬‬

‫المبحث الول‬
‫عثمان مؤسس الدولة العثمانية‬

‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬زياد أبو غنيمة ص ‪.36‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور د‪ .‬عبدالعزيز العمري ص ‪.353‬‬ ‫‪2‬‬
‫() تاريخ سلطين آل عثمان تحقيق بسام الجابي للقرماني ص ‪.10‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية ص ‪ 115‬محمد فريد‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-40-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وهي‬ ‫في عام ‪656‬هـ‪1258/‬م ولد لرطغرل ابنه عثمان الذي تنتسب إليه الدولة العثمانية‬
‫السنة التي غزا فيها المغول بقيادة هولكو بغداد عاصمة الخلفة العثمانية‪ ،‬وكانت الحداث‬
‫عظيمة‪ ،‬والمصائب جسيمة‪ ،‬يقول ابن كثير‪ " :‬ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من‬
‫الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان‪ ،‬ودخل كثير من الناس في البار وأماكن‬
‫الحشوش‪ ،‬وقني الوسخ‪ ،‬وكمنوا كذلك أياما ليظهرون وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى‬
‫الحانات ويغلقون عليهم البواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار‪ ،‬ثم يدخلون عليهم‬
‫فيهربون منهم إلى أعالي المكنة فيقتلونهم بالسطحة‪ ،‬حتى تجري الميازيب من الدماء في‬
‫الزقة‪ ،‬فإنا ل وإنا إليه راجعون‪ .‬وكذلك في المساجد والجوامع والربط‪ ،‬ولم ينج منهم أحد‬
‫()‬
‫سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم ‪. 2‬‬
‫لقد كان الخطب عظيم والحدث جلل‪ ،‬والمة ضعفت ووهنت بسبب ذنوبها ومعاصيها ولذلك‬
‫سلط عليها المغول‪ ،‬فهتكوا العراض‪ ،‬وسفكوا الدماء‪ ،‬وقتلوا النفس‪ ،‬ونهبوا الموال‪ ،‬وخربوا‬
‫الديار‪ ،‬في تلك الظروف الصعبة والوهن المستشري في مفاصل المة ولد عثمان مؤسس الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬وهنا معنى لطيف أل وهو بداية المة في التمكين هي أقصى نقطة من الضعف‬
‫والنحطاط تلك هي بداية الصعود نحو العزة والنصر والتمكين‪ ،‬إنها حكمة ال وإرادته ومشيئته‬
‫النافذة‪.‬‬
‫قال تعالى‪ {:‬إن فرعون عل في الرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم‬
‫ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين } (سورة القصص‪.)3:‬‬
‫وقال سبحانه وتعالى ‪ { :‬ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الرض ونجعلهم أئمة‬
‫ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الرض } (القصص‪ ،‬آية‪.) 5،6 :‬‬

‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح ص ‪ 12‬عبدالسلم عبدالعزيز ص ‪.12‬‬ ‫‪1‬‬


‫() البداية والنهاية (‪.)13/192،193‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-41-‬‬
‫ولشك أن ال تعالى قادر على أن يمكن لعباده المستضعفين في عشية أو ضحاها‪ ،‬بل في‬
‫طرفة عين قال تعالى‪ { :‬إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ‪ ( } ..‬النحل‪.)40 :‬‬
‫فل يستعجل أهل الحق موعود ال عزوجل لهم بالنصر والتمكين‪ ،‬فلبد من مراعاة السنن‬
‫الشرعية والسنن الكونية‪ ،‬ولبد من الصبر على دين ال عزوجل‪ { :‬ولو شاء ال لنتصر منهم‬
‫ولكن ليبلو بعضكم ببعض } ( سورة محمد‪.)4 :‬‬
‫وال إذا أراد شيئا هيأ له أسبابه وأتى به شيئا فشيئا بالتدرج لدفعة واحدة‪.‬‬
‫وبدأت قصة التمكين للدولة العثمانية مع ظهور القائد عثمان الذي ولد في عام سقوط الخلفة‬
‫العباسية في بغداد‪.‬‬

‫أولً‪ :‬أهم الصفات القيادية في عثمان الول‪:‬‬


‫عندما نتأمل في سيرة عثمان الول تبرز لنا بعض الصفات المتأصلة في شخصيته كقائد‬
‫عسكري‪ ،‬ورجل سياسي‪ ،‬ومن أهم هذه الصفات‪:‬‬
‫‪ .1‬الشجاعة‪ :‬عندما تنادى أمراء النصارى في بورصة ومادانوس وأدره نوس وكته وكستله‬
‫البيزنطيون في عام ‪700‬هـ‪1301/‬م لتشكيل حلف صليبي لمحاربة عثمان بن أرطغرل‬
‫مؤسس الدولة العثمانية واستجابت النصارى لهذا النداء وتحالفوا للقضاء على الدولة الناشئة‬
‫تقدم عثمان بجنوده وخاض الحروب بنفسه وشتت الجيوش الصليبية وظهرت منه بسالة‬
‫()‬
‫وشجاعة أصبحت مضرب المثل عند العثمانيين ‪. 1‬‬
‫‪ .2‬الحكمة‪ :‬بعد ما تولى رئاسة قومه رأى من الحكمة أن يقف مع السلطان علء الدين ضد‬
‫النصارى‪ ،‬وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة ‪ ،‬وعدة قلع حصينة‪ ،‬ولذلك نال رتبة‬
‫المارة من السلطان السلجوقي علء الدين صاحب دولة سلجقة الروم‪ .‬وسمح له سك‬

‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين التراك ص ‪.197‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪-42-‬‬
‫()‬
‫العملة باسمه‪ ،‬مع الدعاء له في خطبة الجمعة في المناطق التي تحته ‪. 1‬‬
‫‪ .3‬الخلص‪ :‬عندما لمس سكان الراضي القريبة من إمارة عثمان أخلصه للدين تحركوا‬
‫لمساندته والوقوف معه لتوطيد دعائم دولة اسلمية تقف سدا منيعا أمام الدولة المعادية‬
‫()‬
‫للسلم والمسلمين ‪. 2‬‬
‫‪ .4‬الصبر‪ :‬وظهرت هذه الصفة في شخصيته عندما شرع في فتح الحصون والبلدان‪ ،‬ففتح في‬
‫سنة ‪707‬هـ حصن كته‪ ،‬وحصن لفكه‪ ،‬وحصن آق حصار‪ ،‬وحصن قوج حصار‪ .‬وفي‬
‫سنة ‪712‬هـ فتح حصن كبوه وحصن يكيجه طرا قلوا‪ ،‬وحصن تكرر بيكارى وغيرها وقد‬
‫توج فتوحاته هذه بفتح مدينة بروسة في عام ‪717‬هـ‪1317/‬م‪ ،‬وذلك بعد حصار شديد دام‬
‫عدة سنوات‪ ،‬ولم يكن فتح بروسة من المور السهلة بل كان من أصعب ما واجهه عثمان‬
‫في فتوحاته‪ ،‬حيث حدثت بينه وبين قائد حاميتها اقرينوس صراع شديد استمر عدة سنوات‬
‫حتى استسلم وسلم المدينة لعثمان‪ .‬قال تعالى ‪ {:‬يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا‬
‫ورابطوا واتقوا ال لعلكم تفلحون} (سورة آل عمران‪.)200:‬‬

‫‪ .5‬الجاذبية اليمانية‪ :‬وتظهر هذه الصفة عندما احتك به اقرينوس قائد بروسه واعتنق السلم‬
‫أعطاه السلطان عثمان لقب (بك) وأصبح من قادة الدولة العثمانية البارزين فيما بعد‪ ،‬وقد‬
‫تأثر كثير من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه الذي سار عليه حتى امتلت‬
‫()‬
‫صفوف العثمانيين منهم ‪ ، 3‬بل أن كثيرا من الجماعات السلمية انخرطت تحت لواء‬
‫الدولة العثمانية كجماعة (غزياروم) أي غزاة الروم‪ ،‬وهي جماعة اسلمية كانت ترابط‬
‫على حدود الروم وتصد هجماتهم عن المسلمين منذ العصر العباسي‪ ،‬وقد أعطتها هذه‬

‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ص ‪.25‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-43-‬‬
‫المرابطة خبرات في جهاد الروم عمقت فيها انتماءها للسلم والتزامها بكل ماجاء به‬
‫السلم من نظام‪ ،‬وجماعة (الخيان) (اي الخوان) وهم جماعة من أهل الخير يعينون‬
‫المسلمين ويستضيفونهم ويصاحبون جيوشهم لخدمة الغزاة وكان معظم أعضاء هذه‬
‫الجماعة من كبار التجار الذي سخروا أموالهم للخدمات السلمية مثل ‪ :‬إقامة المساجد‬
‫والتكايا و"الخانات" الفنادق‪ ،‬وكانت لهم في الدولة مكانة عالية‪ ،‬ومن هذه الجماعة علماء‬
‫ممتازون عملوا في نشر الثقافة السلمية وحببوا الناس في التمسك بالدين‪ ،‬وجماعة‬
‫(حاجيات روم) أي حجاج أرض الروم‪ ،‬وكانت جماعة على فقه بالسلم‪ ،‬ومعرفة دقيقة‬
‫لتشريعاته‪ ،‬وكان هدفها معاونة المسلمين عموما والمجاهدين خصوصا وغير ذلك من‬
‫()‬
‫الجماعات ‪. 1‬‬
‫‪ .6‬عدله‪ :‬تروي معظم المراجع التركية التي أرّخت للعثمانيين أن أرطغرل عهد لبنه عثمان‬
‫مؤسس الدولة العثمانية بولية القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الستيلء عليها من‬
‫البيزنطيين في عام ‪684‬هـ‪1285/‬م وأن عثمان حكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي‪،‬‬
‫فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان‪ :‬كيف تحكم لصالحي وانا على غير دينك‪ ،‬فأجابه عثمان‪:‬‬
‫بل كيف ل أحكم لصالحك‪ ،‬وال الذي نعبده ‪ ،‬يقول لنا ‪ { :‬إن ال يأمركم أن تؤدوا المانات‬
‫الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (سورة النساء‪ ) ،‬وكان هذا العدل‬
‫()‬
‫الكريم سببا في اهتداء الرجل وقومه الى السلم ‪. 2‬‬
‫إن عثمان الول استخدم العدل مع رعيته وفي البلد التي فتحها‪ ،‬فلم يعامل القوم المغلوبين‬
‫بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر‪ ،‬أو الطغيان‪ ،‬أو البطش وإنما عاملهم بهذا الدستور‬
‫وأما من آمن‬ ‫الرباني‪ { :‬أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذابا نكرا‬
‫وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا} (سورة الكهف‪ :‬آية‪87،8 :‬‬
‫‪ .)8‬والعمل بهذا الدستور الرباني يدل على إيمان وتقوى وفطنة وذكاء وعلى عدل وبر‬
‫() انظر‪ :‬التراجع الحضاري في العالم السلمي د‪ .‬علي عبدالحليم ص ‪.331،332‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة ص ‪.32‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-44-‬‬
‫ورحمة‪.‬‬

‫‪ .7‬الوفاء‪ :‬كان شديد الهتمام بالوفاء بالعهود‪ ،‬فعندما اشترط أمير قلعة اولوباد البيزنطية حين‬
‫استسلم للجيش العثماني‪ ،‬أن ليمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم الى داخل القلعة التزم‬
‫()‬
‫بذلك وكذلك من جاء بعده ‪ . 1‬قال تعالى {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤل} (سورة‬
‫السراء‪:‬آية )‬

‫‪ .8‬التجرد ل في فتوحاته‪ :‬فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو‬
‫غير ذلك ‪ ،‬بل كان فرصة تبليغ دعوة ال ونشر دينه ولذلك وصفه المؤرخ احمد رفيق في‬
‫موسوعته (التاريخ العام الكبير) بأنه (كان عثمان متدينا للغاية‪ ،‬وكان يعلم أن نشر السلم‬
‫وتعميمه واجب مقدس وكان مالكا لفكر سياسي واسع متين ‪ ،‬ولم يؤسس عثمان دولته حبا‬
‫()‬
‫في السلطة وإنما حبا في نشر السلم) ‪. 2‬‬
‫ويقول مصر اوغلو‪" :‬لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيمانا عميقا بأن وظيفته الوحيدة‬
‫في الحياة هي الجهاد في سبيل ال لعلء كلمة ال‪ ،‬وقد كان مندفعا بكل حواسه وقواه‬
‫()‬
‫نحو تحقيق هذا الهدف" ‪. 3‬‬
‫هذه بعض صفات عثمان الول والتي كانت ثمرات طبيعية ليمانه بال تعالى والستعداد‬
‫لليوم الخر ‪ ،‬وحبه لهل اليمان وبغضه لهل الكفر والعصيان وحبه العميق للجهاد في سبيل‬
‫ال والدعوة إليه ولذلك كان عثمان في فتوحاته يطلب من أمراء الروم في منطقة آسيا الصغرى‬
‫أن يختاروا أحد ثلثة أمور هي الدخول في السلم‪ ،‬أو دفع الجزية‪ ،‬أو الحرب‪ ،‬وبذلك أسلم‬
‫بعضهم‪ ،‬وانضم إليه البعض الخر وقبلوا دفع الجزية‪ .‬أما ماعداهم فقد شن عليهم جهادا‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.33‬‬


‫‪ )( 2‬انظر‪ :‬جوانب مضيئة ص ‪.33‬‬
‫‪ )( 3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪-45-‬‬
‫لهوادة فيه فانتصر عليهم‪ ،‬وتمكن من ضم مناطق كبيرة لدولته‪.‬‬
‫لقد كانت شخصية عثمان متزنة وخلبة بسبب إيمانه العظيم بال تعالى واليوم الخر ‪ ،‬ولذلك‬
‫لم تطغ قوته على عدالته‪ ،‬ول سلطانه على رحمته‪ ،‬ول غناه على تواضعه‪ ،‬وأصبح مستحقا‬
‫لتأييد ال وعونه‪ ،‬ولذلك أكرمه ال تعالى بالخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من ال‬
‫تعالى على عبده عثمان‪ ،‬فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى من حيث‬
‫التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار‪ ،‬لقد كانت رعاية ال له عظيمة ولذلك فتح له باب‬
‫التوفيق وحقق ماتطلع إليه من أهداف وغاية سامية لقد كانت أعماله عظيمة بسبب حبه للدعوة‬
‫الى ال‪ ،‬فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف‪ ،‬وفتوحات القلوب باليمان والحسان‪،‬‬
‫فكان إذا ظفر بقوم دعاهم الى الحق واليمان بال تعالى وكان حريصا على العمال الصلحية‬
‫في كافة القاليم والبلدان التي فتحها‪ ،‬فسعى في بسط سلطان الحق والعدالة ‪ ،‬وكان صاحب‬
‫ولء ومحبة لهل اليمان‪ ،‬مثلما كان معاديا لهل الكفران‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الدستور الذي سار عليه العثمانيون‪:‬‬


‫كانت حياة المير عثمان مؤسس الدولة العثمانية‪ ،‬جهادا ودعوة في سبيل ال وكان علماء‬
‫الدين يحيطون بالمير ويشرفون على التخطيط الداري والتنفيذ الشرعي في المارة ولقد حفظ‬
‫لنا التاريخ وصية عثمان لبنه أورخان وهو على فراش الموت وكانت تلك الوصية فيها دللة‬
‫حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعد يقول عثمان في وصيته‪:‬‬
‫( يابني‪ :‬اياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به ال رب العالمين وإذا واجهتك في الحكم معضلة‬
‫فاتخذ من مشورة علماء الدين مؤئلً‪.‬‬
‫يابني‪ :‬أحط من أطاعك بالعزاز‪ .‬وأنعم على الجنود‪ ،‬ول يغرنك الشيطان بجندك وبمالك‪،‬‬
‫وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة‪.‬‬
‫يابني‪ :‬إنك تعلم أن غايتنا هي أرضاء ال رب العالمين‪ ،‬وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل‬

‫‪-46-‬‬
‫الفاق‪ ،‬فتحدث مرضات ال جل جلله‪.‬‬
‫يابني ‪ :‬لسنا من هؤلء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد‪ ،‬فنحن بالسلم‬
‫()‬
‫نحيا وللسلم نموت‪ ،‬وهذا ياولدي ما أنت له أهل) ‪. 1‬‬
‫وفي كتاب (التاريخ السياسي للدولة العلية العثمانية) تجد رواية آخرى للوصية‪( :‬اعلم يابني ‪،‬‬
‫أن نشر السلم ‪ ،‬وهداية الناس إليه‪ ،‬وحماية أعراض المسلمين وأموالهم‪ ،‬أمانة في عنقك‬
‫()‬
‫سيسألك ال عز وجل عنها) ‪. 2‬‬
‫وفي كتاب مأساة بني عثمان نجد عبارات أخرى من وصية عثمان لبنه أورخان تقول‪:‬‬
‫(يابني ‪ ،‬أنني أنتقل الى جوار ربي ‪ ،‬وأنا فخور بك بأنك ستكون عادلً في الرعية‪ ،‬مجاهدا في‬
‫سبيل ال‪ ،‬لنشر دين السلم‪.‬‬
‫يابني ‪ ،‬أوصيك بعلماء المة‪ ،‬أدم رعايتهم‪ ،‬وأكثر من تبجيلهم‪ ،‬وانزل على مشورتهم‪ ،‬فانهم‬
‫ليأمرون إل بخير‪.‬‬
‫يابني ‪ ،‬اياك أن تفعل أمرا ل يرضى ال عز وجل ‪ ،‬واذا صعب عليك أمر فاسأل علماء‬
‫الشريعة‪ ،‬فانهم سيدلونك على الخير‪.‬‬
‫واعلم يابني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق ال‪ ،‬وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين‬
‫()‬
‫ال‪ ،‬وأننا لسنا طلب جاه ول دنيا) ‪. 3‬‬
‫وفي التاريخ العثماني المصور‪ ،‬عبارات اخرى من وصية عثمان تقول‪( :‬وصيتي لبنائي‬
‫واصدقائي ‪ ،‬اديموا علوا الدين السلمي الجليل بادامة الجهاد في سبيل ال‪ .‬أمسكوا راية‬
‫السلم الشريفة في العلى باكمل جهاد‪ .‬أخدموا السلم دائما؛ لن ال عز وجل قد وظف عبدا‬
‫ضعيفا مثلي لفتح البلدان‪ .‬اذهبوا بكلمة التوحيد الى اقصى البلدان بجهادكم في سبيل ال ومن‬
‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬د‪.‬محمد حرب‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة ‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪2‬‬
‫()انظر‪ :‬جوانب مضيئة‪ ،‬ص ‪.3‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-47-‬‬
‫انحرف من سللتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول العظم يوم المحشر‪.‬‬
‫يابني‪ :‬ليس في الدنيا أحد ل يخضع رقبته للموت وقد اقترب اجلي بأمر ال جل جلله اسلمك‬
‫()‬
‫هذه الدولة واستودعك المولى عز وجل‪ .‬اعدل في جميع شؤونك‪. 1 )....‬‬
‫لقد كانت هذه الوصية منهجا سار عليه العثمانيون‪ ،‬فأهتموا بالعلم وبالمؤسسات العلمية‬
‫وبالجيش‪ ،‬وبالمؤسسات العسكرية ‪ ،‬وبالعلماء واحترامهم‪ ،‬وبالجهاد الذي أوصل فتوحا الى‬
‫()‬
‫اقصى مكان وصلت إليه رايته جيش مسلم وبالمارة وبالحضارة) ‪. 2‬‬
‫ونستطيع أن نستخرج الدعائم والقواعد والسس التي قامت الدولة العثمانية من خلل تلك‬
‫الوصية‪:‬‬
‫‪( -1‬يابني اياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به ال رب العالمين)‪:‬‬
‫إنها دعوة الى اللتزام بشرع ال في كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬وبحيث يكون حكم ال وأمره‬
‫مهيمنا على كل شيء قال تعالى ‪{ :‬إن الحكم إل ل ‪ ،‬أمر أل تعبدوا إل إياه ذلك الدين القيم ‪،‬‬
‫ولكن أكثر الناس ليعلمون} (سورة يوسف‪ :‬آية ‪.)40‬‬
‫يعني ‪( :‬ما الحكم الحق في الربوبية والعقائد والمعاملت إل ل وحده يوحيه لمن اصطفاه من‬
‫رسله‪ ،‬ليمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه‪ ،‬ول بعقله واستدلله ول باجتهاده واستحسانه‪،‬‬
‫فهذه القاعدة هي أساس دين ال تعالى على ألسنة جميع رسله ل تختلف باختلف الزمنة‬
‫( ‪)3‬‬
‫لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية ل تعالى قال سبحانه ‪:‬‬ ‫والمكنة)‬
‫{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ال} (سورة النساء‪ :‬آية ‪ )105‬فكما أن‬
‫()‬
‫تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله ‪. 4‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين العثمانيون ‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬
‫() تفسير المنار (‪.)12/309‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)1/433‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-48-‬‬
‫إن عثمان يوصي إبنه كحاكم من بعده لدولة إسلمية أن يتقيد بحكم ال في أعماله‪ ،‬لنه يعلم‬
‫أن إقامة حكم ال من خلل الحاكم المسلم عهد وميثاق ذكره ال تعالى‪ { :‬واذكروا نعمة ال‬
‫عليكم وميثاقه الذي واثقكم به‪ ،‬إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا ال إن ال عليم بذات الصدور }‬
‫( سورة المائدة‪ .)7 :‬فهذا تذكير من ال تعالى لعباده المؤمنين بنعمته عليهم في الشرع الذي‬
‫شرعه لهم في هذا الدين العظيم‪ ،‬المرسل به الرسول الكريم‪ ،‬وأخذ للعهد والميثاق عليهم في‬
‫متابعته ونصرته وإبلغه والقيام به‪ ،‬وهذا مقتضى البيعة التي كان الصحابة يبايعون عليها‬
‫‪ ،‬على السمع والطاعة في المنشط والمكره‪ ،‬كما أن الخلل بعهد الحاكمية‬ ‫رسول ال‬
‫جاهلية قال تعالى ‪ { :‬أفحكم الجاهلية يبغون‪ ،‬ومن أحسن من ال حكما لقوم يوقنون } ( سورة‬
‫المائدة‪ .)50 :‬ففي الية الكريمة إنكار وتوبيخ وتعجب من حال من يتولى عن حكم ال وهو‬
‫يبغي حكم غيره والية تعبير لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التي‬
‫()‬
‫هي هوى وجهل ليصدر عن كتاب وليرجع إلى وحي ‪. 1‬‬
‫إن تحقيق الحاكمية‪ ،‬تمكين للعبودية‪ ،‬وقيام بالغاية التي من أجلها خلق النسان والجان‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪ { :‬وماخلقت الجن والنس إل ليعبدون } ( سورة الذاريات‪ .)56 :‬أي ليطيعوه وحده‬
‫()‬
‫لشريك له ‪. 2‬وإن المفهوم الواسع الرحيب للعبادة ليشمل علئق وأعمالً كثيرة‪ ،‬منها مايمكن أن‬
‫يقيمه الفراد ومنها ماليمكن تحقيقه على الوجه الكمل إل في ظل دولة السلم وهذه المعاني‬
‫الرفيعة كانت واضحة في ذهن المؤسس الول للدولة العثمانية ولذلك وصى المير أورخان‬
‫بهذه العبارة المنهجية المسددة ( يابني إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به ال رب العالمين ) وهذا‬
‫التوجيه من عثمان لبنه كفرد وكرئيس لدولة وفي طياته معنى كون العبادة لها أصلن‪:‬‬

‫() تفسير أبي السعود (‪.)2/71‬‬ ‫‪1‬‬


‫() تفسير ابن كثير (‪.)4/239‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-49-‬‬
‫()‬
‫احدهما‪ :‬أن ل يعبد إل ال‪ ،‬والثاني ‪ :‬أن يعبد بما أمر وشرع ‪ . 1‬فإنه مما لشك فيه كانت‬
‫الدولة العثمانية حريصة على حماية هذين الصلين بمحاربة الشرك في داخلها وعملت على‬
‫تقليص نفوذه خارجها وكانت حريصة على حماية الشرع ضد من يعاود العتداء عليه بابتداع‬
‫أو تحريف أو تغيير أو تبديل‪ ،‬وكل ذلك من حرص أميرها والعلماء الذين من حوله على تحقيق‬
‫العبودية ل على الوجه المرضي‪ ،‬وعلى حماية الدين من دخائل وانتحالت المضلين‪ ،‬وبهذا‬
‫تكون دولة بني عثمان أخذت الصبغة الشرعية‪( .‬لقد كانت نشأتها إسلمية ‪ ،‬خالصة‪ ،‬مشبوبة‬
‫()‬
‫بإيمان عميق‪ ،‬متوجهة الى أهداف عقائدية) ‪. 2‬‬

‫‪ -2‬إذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين مؤئلً‪:‬‬


‫إن ال تعالى قد شرع نظام الشورى لحكم بالغة‪ ،‬ومقاصد عظيمة‪ ،‬ولما فيها من المصالح‬
‫الكبيرة‪ ،‬والفوائد الجليلة التي تعود على المة والدولة والمجتمع بالخير والبركة ولذلك أمر‬
‫عثمان الول إبنه أن يجعل من العلماء مجلس شورى له في معضلت المور وفي هذا الرشاد‬
‫امتثال لمر ال واقتداء برسول ال ‪.‬‬
‫‪ -‬قال تعالى ‪ { :‬فبما رحمة من ال لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لنفضوا من حولك‬
‫فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في المر‪ ،‬فإذا عزمت فتوكل على ال إن ال يحب‬
‫المتوكلين} (سورة آل عمران‪ :‬آية‪.)159:‬‬
‫قال الستاذ سيد قطب ‪-‬رحمه ال‪( : -‬وبهذا النص الجازم {وشاورهم في المر} يقرر‬
‫هو الذي يتوله‪ ،‬وهو نص‬ ‫السلم هذا المبدأ في نظام الحكم ‪ -‬حتى ومحمد رسول ال‬
‫قاطع ل يدع للمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ اساسي ليقوم نظام السلم على أساس‬

‫() مجموع الفتاوي (‪.)10/173‬‬ ‫‪1‬‬


‫() المسألة الشرقية ‪ ،‬محمود ثابت الشاذلي ‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-50-‬‬
‫()‬
‫سواه) ‪. 1‬‬
‫‪ -‬وقال تعالى ‪{ :‬والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم‬
‫ينفقون} (سورة الشورى‪:‬آية‪.)38 :‬‬
‫يقول الستاذ عبدالقادر عودة ‪-‬رحمه ال‪( -‬الشورى من دعائم اليمان وصفة من الصفات‬
‫المميزة للمسلمين ‪ ،‬سوى ال بينها وبين الصلة والنفاق في قوله‪ { :‬والذين استجابوا لربهم‬
‫وأقاموا الصلة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}‪ .‬فجعل للستجابة ل نتائج بين لنا‬
‫أبرزها‪ ،‬وأظهرها‪ ،‬وهي إقامة الصلة والشورى والنفاق‪ ،‬واذا كانت الشورى من اليمان فإنه‬
‫ل يكمل إيمان قوم يتركون الشورى‪ ،‬ول يحسن إسلمهم إذا لم يقيموا الشورى إقامة صحيحة‪،‬‬
‫ومادامت الشورى صفة لزمة للمسلم ليكمل إيمانه إل بتوفرها‪ ،‬فهي إذن فريضة إسلمية‬
‫واجبة على الحاكمين والمحكومين‪ ،‬فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والدارة‬
‫والسياسة‪ ،‬والتشريع وكل مايتعلق بمصلحة الفراد أو المصلحة العامة‪ ،‬وعلى المحكومين أن‬
‫()‬
‫يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها‪ ،‬سواء استشارهم الحاكم أو لم يستشرهم ‪. 2‬‬
‫والحاديث القولية والسنة الفعلية الدّالة على وجوب الشورى كثيرة ونكتفي بما ذكرنا خوفا‬
‫من الطالة‪.‬‬
‫وفي رواية أن عثمان أمر ابنه بأن ينزل على رأي العلماء في قوله ‪ ( :‬وأنزل على مشورتهم‬
‫( ‪)3‬‬
‫وكأن عثمان ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬يرأى أن الشورى ملزمة للحاكم‬ ‫فإنهم ليأمرون إل بخير ‪) ..‬‬
‫وقد ذهب إلى هذا الرأي مجموعة من العلماء المعاصرين منهم العلمة أبو العلى المودودي ‪-‬‬
‫رحمه ال ‪ ( : -‬وخامسة قواعد الدولة السلمية حتمية تشاور قادة الدولة وحاكمها مع‬
‫المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم‪ ،‬وامضاء نظام الحكم بالشورى‪ .‬يقول تعالى‪ { :‬وأمرهم‬
‫() في ظلل القرآن الكريم (‪.)4/501‬‬ ‫‪1‬‬
‫() السلم وأوضاعنا السياسية ‪ ،‬ص ‪.193‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-51-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪.‬‬ ‫شورى بينهم }‪ { ،‬وشاورهم في المر }‬
‫( إن قاعدة‪ { :‬وأمرهم شورى بينهم } تتطلب بذاتها خمسة أمور‪ :‬خامسها التسليم بما يجمع‬
‫عليه أهل الشورى أو أكثريتهم‪ ،‬أما أن يستمع ولي المر إلى آراء جميع أهل الشورى ثم يختار‬
‫هو بنفسه بحرية تامة‪ ،‬فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها‪ ،‬فال لم يقل‪ ( :‬تؤخذ‬
‫آراؤهم ومشورتهم في أمرهم) وإنما قال ‪ { :‬وأمرهم شورى بينهم } يعني أن تسير المور‬
‫بتشاور فيما بينهم‪ ،‬وتطبيق هذا القول اللهي ليتم بأخذ الرأي فقط‪ ،‬وإنما من الضروري لتنفيذه‬
‫()‬
‫وتطبيقه أن تجري المور وفق ما يتقرر بالجماع أو الكثرية‪. 2 )..‬‬
‫وهكذا نرى المير عثمان يسبق كثير من العلماء والمفكرين المعاصرين في ذهابه إلى أن‬
‫الشورى ملزمة ويأمر بأنه بالنزول عند رأي العلماء ولكونهم ليأمرون إل بخير‪.‬‬
‫لقد ساهمت الشورى في بناء الدولة العثمانية وتماسك رعاياه وعززت السلطان السياسي‬
‫والجهادي والدعوي للدولة وكانت الراء تتقلب وفقا لجدارتها‪ ،‬وبمقدار انسجامها مع عقيدة‬
‫المة ودستور الدولة‪ ،‬لقد كان الحكام العثمانيون يريدون لحكمهم أن يستمر ولنظام دولتهم أن‬
‫يستقر ولذلك حرصوا على اللمام بحقيقة الوضاع ببلدهم وجعلوا من الشورى خير سبيل‬
‫لتحقيق هذه الغاية‪.‬‬
‫ولقد تطورت الشورى في الدولة العثمانية بل أصبح لكل أقليم حاكم يطلق عليه باشا وله‬
‫مجلس الديوان يتشاورون في شؤون الحكم والرعية‪ ،‬ولقد شكلت مجالس وعين نواب وممثلون‬
‫لكل جماعة واتيحت الفرصة للختيار وتتطور المر حتى وصل في عهد السلطان محمد الفاتح‬
‫إلى تشكيل مجلس استشاري لمور الدولة‪.‬‬
‫إن أشكال الشورى وأساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها وإجراءاتها كانت في زمن الدولة‬

‫() الخلفة والملك‪ ،‬ص ‪.42-41‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الحكومة السلمية ‪ ،‬ص ‪.94‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-52-‬‬
‫العثمانية عرضة للجتهاد والبحث والختيار‪ ،‬أما أصل الشورى في إدارة شؤون الدولة فكان‬
‫بالنسبة لهم من قبيل المحكم الثابت الذي ليجوز تجاهله أو إهماله وإن كان تاريخ الدولة‬
‫العثمانية ليخلو من ظهور بعض السلطين المتسلطين‪.‬‬

‫‪ -3‬يابني أوصيك بعلماء المة‪ ،‬أدم رعايتهم وأكثر من تبجيلهم‪:‬‬


‫كان عثمان على صلة متينة مع كبار العلماء والفقهاء وكبار الصالحين في عهده وكثيرا ما‬
‫يجلس الساعات الطوال بين أيديهم ويتلقى مواعظهم ويستفيد من علمهم ويشاورهم في أمور‬
‫الدولة وكان يتردد على المولى الشيخ ( إده بالي) القرماني المولد وقد زوجه ابنته بسبب رؤيا ‪:‬‬
‫( كان في أحد اليام يبيت عنده‪ ،‬فرأى في المنام قمرا خرج من حضن الشيخ ودخل حضنه‪،‬‬
‫وعند ذلك نبتت شجرة عظيمة سدت أغصانها الفاق‪ ،‬وتحتها جبال عظيمة تتفجر منها النهار‪،‬‬
‫والناس ينتفعون بتلك الشجار لنفسهم ودوابهم وبساتينهم‪ ،‬فقص هذه الرؤيا على الشيخ فقال‪:‬‬
‫لك البشرى‪ ،‬بما نلت مرتبة السلطنة‪ ،‬وينتفع بك وبأولدك المسلمون‪ ،‬وإني زوجت لك ابنتي‬
‫()‬
‫هذه ‪. 1 ..‬‬
‫لقد حاول بعض الكتاب أن يجعل من تلك الرؤيا اسطورة ل حقيقة لها مع أن هذه الرؤيا‬
‫ذكرت في كتاب مهم اسمه الشقائق النعمانية في تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬وهذا الكتاب أفاد وأجاد‬
‫في ذكر علماء وفقهاء الدولة لفترات زمنية ممتدة‪.‬‬
‫إن هذه الرؤيا لتخالف العقل ول النقل‪ ،‬لن عثمان الول رحمه ال كان رجلً تقيا ورعا‬
‫ومن ثمار التقوى الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم ‪ :‬قال تعالى‪ { :‬أل إنّ أولياء ال لخوف‬
‫عليهم ولهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البُشرى في الحياة الدنيا وفي الخرة ‪( } ...‬‬
‫يونس ‪.)64-62 :‬‬
‫‪:‬‬ ‫والبشرى في الدنيا ما بشر ال به المؤمنين المتقين‪ ،‬في غير مكان من كتابه وعن النبي‬
‫() الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية‪ ،‬تأليف طاش كبر زاده‪ ،‬ص ‪ 7‬نقلً عن تاريخ الدولة العثمانية ‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫د‪.‬علي حسون ‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪-53-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وعنه عليه الصلة والسلم ‪ " :‬لم يبق من النبوة إل المبشرات‬ ‫" الرؤيا الصالحة من ال ‪" ..‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪:‬‬ ‫وعن أبي ذر قال‪ :‬قلت لرسول ال‬ ‫قالوا‪ :‬وما المبشرات ؟ قال‪ " :‬الرؤيا الصالحة"‬
‫()‬
‫الرجل يعمل العمل ل ويحبه الناس "فقال تلك عاجل بشرى المؤمن" ‪. 3‬‬
‫إن عثمان الول ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬وضع ال له محبة في قلوب المسلمين لجهاده وتقواه‬
‫وصلحه‪.‬‬
‫إن وصية عثمان لبنه بإحترام العلماء اصبحت منهجا سار عليه حكام الدولة العثمانية وهذا‬
‫يدل على التزام العثمانيين بشرع ال تعالى‪ ،‬لن الشريعة أعطت اعتبارا للعلماء وبنته على‬
‫أمرين‪:‬‬
‫‪ ،‬فالتزام أمرهم واجب‪.‬‬ ‫‪ -‬أن طاعتهم طاعة ل ‪ -‬عزوجل ولرسوله‬
‫‪.‬‬ ‫‪ -‬أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها بل هي تبعٌ لطاعة ال ورسوله‬
‫والدلة على هذه المنزلة وهذا العتبار للعلماء في الشريعة كثيرة منها‪:‬‬
‫الدليل الول‪ :‬قوله تعالى‪ { :‬ياأيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم‬
‫} ( سورة النساء‪ ،‬الية‪.) 59 :‬‬
‫وقد اختلف المفسرون في أولي المر منكم على أقوال فقيل‪ :‬هم السلطين وذوو القدرة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هم أهل العلم‪.‬‬
‫قال ابن عباس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ " -‬يعني أهل الفقه والدين‪ ،‬وأهل طاعة ال الذين يعلمون‬
‫الناس معاني دينهم‪ ،‬ويأمرونهم بالمعروف‪ ،‬وينهونهم عن المنكر‪ ،‬فأوجب ال سبحانه طاعتهم‬
‫()‬
‫على عباده " ‪. 4‬‬
‫() البخاري ‪ ،‬كتاب الرؤيا‪ ،‬باب رؤيا الصالحين (‪ )8/88‬رقم ‪.6986‬‬ ‫‪1‬‬
‫() البخاري ‪ ،‬كتاب الرؤيا ‪ ،‬باب المبشرات (‪ )8/89‬رقم ‪.6990‬‬ ‫‪2‬‬
‫() مسلم ‪ ،‬كتاب الرؤيا‪ ،‬باب (‪.)4/2034‬‬ ‫‪3‬‬
‫() تفسير الطبري (‪.)5/149‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-54-‬‬
‫( والتحقيق أن المراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم‪ ،‬فطاعتهم تبعٌ لطاعة العلماء‪ ،‬فإن‬
‫الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم‪ ،‬فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول‪،‬‬
‫فطاعة المراء تبع لطاعة العلماء‪ ،‬فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم‪ ،‬فكما‬
‫أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول‪ ،‬فطاعة المراء تبع لطاعة العلماء ولما كان قيام السلم‬
‫بطائفتين‪ ،‬العلماء والمراء‪ ،‬وكان الناس لهم تبعا‪ ،‬كان صلح العالم بصلح هاتين الطائفتين‪،‬‬
‫()‬
‫وفساده بفسادهما ‪. 1‬‬
‫والدليل الثاني ‪ :‬أن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عما أشكل‪ :‬قال تعالى‪:‬‬
‫{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لتعلمون } ( سورة النبياء‪ ،‬الية‪.) 7 :‬‬
‫( وعموم هذه الية‪ ،‬فيها مدح أهل العلم‪ ،‬وأن أعلى أنواعه‪ ،‬العلم بالكتاب المنزل‪ ،‬فإن ال أمر‬
‫من ليعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث في ضمنه تعديل لهل العلم وتزكية لهم حيث أمر‬
‫()‬
‫بسؤالهم‪ ،‬وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة‪. 2 )..‬‬
‫إن اليات والحاديث التي تبين دور العلماء كثيرة ونكتفي بما ذكرنا‪.‬‬
‫لقد كان العلماء في مسير الدولة العثمانية مرجع للسلطين عند الفتن والملحم والمحن وكانت‬
‫لهم مقدرة عظيمة على حشد الناس تحت لواء الجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬وإقامة شرعه على‬
‫الرعية وكانوا ليسمحون للسلطان أن يتجاوز أحكام الشرع وإل ربما هيجوا عليه الناس‬
‫وعزلوه‪ ،‬وكانت أحكام العلماء والفقهاء تستنبط من‪:‬‬
‫‪ -1‬القرآن الكريم‪:‬‬
‫قال تعالى‪ { :‬إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ال } (سورة النساء‪:‬‬
‫‪.)105‬‬

‫() إعلم الموقعين (‪ )1/10‬بتحقيق عبدالروؤف سعد‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫() تفسير السعدي (‪.)4/206‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-55-‬‬
‫فهو المصدر الول الذي يشتمل على جميع الحكام الشرعية التي تتعلق بشؤون الحياة البشرية‪،‬‬
‫كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاما قاطعة لصلح كل شعبة من شعب الحياة‪ ،‬كما بين القرآن‬
‫الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم‪.‬‬
‫‪ -2‬السنة المطهرة‪:‬‬
‫هي المصدر الثاني الذي يستمد منه العلماء الحكام ومن خللها يعرفون الصيغ التنفيذية‬
‫للمة ومن خلل السنة يمكن التعرف على‬ ‫والتطبيقية لحكام القرآن ممثلة في قيادة الرسول‬
‫نوعية المجتمع المثالي الذي ينشده السلم‪.‬‬
‫‪ -3‬إجماع المة‪:‬‬
‫وخاصة الصحابة‪ ،‬وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدين قال تعالى‪ { :‬ومن يشاقق الرسول من بعد ما‬
‫تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } ( النساء‪:‬‬
‫‪.) 115‬‬

‫‪ -4‬مذهب العلماء والمجتهدين‪:‬‬


‫قال تعالى‪ { :‬وإذا جاءهم أمر من المن أو الخوف أذاعوا به‪ ،‬ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي‬
‫المر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ( سورة النساء‪،‬آية ‪.) 83 :‬‬
‫()‬
‫والية دليل على الخذ بالجتهاد إذا عُدم النص والجماع ‪ ، 1‬ولن العلماء في أمة محمد‬
‫كالنبياء في بني إسرائيل‪ ،‬فهم المؤتمون على نقل العلم‪ ،‬والمفوضون في استنباط الحكام‬
‫المتجددة في عمومات الشريعة‪ ،‬ل لعصمة اختصوا بها ‪ -‬فليس في السلم كهنوت ‪ -‬ولكن‬
‫لهليتهم في أن يُسموا ‪" -‬أهل الذكر " وال تعالى يقول ‪ { :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لتعلمون‬
‫} (سورة النحل‪ ،‬آية‪.) 43 :‬‬
‫لقد كان علماء الدولة العثمانية على فهم عميق لروح الشريعة وقواعدها ولهم المقدرة على‬
‫() انظر‪ :‬تفسير القرطبي (‪.)5/292‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪-56-‬‬
‫معالجة مايستجد من قضايا في ضوء هذا الفهم‪ ،‬وكانت لهم القدرة على فهم ضبط المناط في‬
‫الحكام وقياس الفروع على الصول فيها‪.‬‬
‫ولقد كان المذهب الحنفي له القدح المعلى عند علماء الدولة وإن كانوا ليستغنون عن بقية‬
‫المذاهب السنية التي كانت لها احترامها عند السلطين العثمانيين‪.‬‬
‫لقد حرص علماء الدولة العثمانية على أن يكون نظامها السياسي على عقيدة التوحيد‪ ،‬وتطبيق‬
‫شريعة ال‪ ،‬وتقوم على الشورى‪ ،‬وأن يقوم نظامها القتصادي على التعامل بالذهب والفضة‪،‬‬
‫وعدم التعامل بالربا‪ ،‬وعدم الستغلل والحتكار‪ ،‬وعدم التجار بما حرم ال‪ ،‬وأن يقوم نظامها‬
‫السلوكي والخلقي الجتماعي على أساس عقيدة السلم‪ ،‬وأن يقوم نظامها التعليمي والعلمي‬
‫على قاعدة من العلوم الشرعية‪ ،‬وأن تقوم علقتها الدولية على أساس عقيدة السلم التي‬
‫وضعها ال سبحانه وتعالى ‪ -‬حيث قال‪ { :‬لينهاكم ال عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم‬
‫يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن ال يحب المقسطين ‪ .‬إنما ينهاكم ال عن‬
‫الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم‬
‫فأولئك هم الظالمون } (آية‪ 8،9 :‬سورة الممتحنة )‪.‬‬
‫لقد كان العلماء والفقهاء في الدولة العثمانية يشرفون على تطبيق شرع ال‪ ،‬وإقامة الحدود‪،‬‬
‫()‬
‫وتحريم ماحرم ال‪ ،‬ول تستحل إل ما حرم ال ‪. 1‬‬
‫لقد كان معظم سلطين الدولة يحترمون العلماء ويجلونهم ‪.‬‬

‫‪ ( -4‬اعلم يابني ‪ ،‬أن نشر السلم وهداية الناس إليه وحماية أعراض المسلمين وأموالهم‪ ،‬أمانة‬
‫( ‪)2‬‬
‫في عنقك سيسألك ال عزوجل عنها )‬
‫لقد فهم عثمان الول ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬أن دين السلم‪ ،‬دين دعوة مستمرة‪ ،‬لتتوقف حتى تتوقف‬

‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة ‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-57-‬‬
‫الحياة البشرية من على وجه الرض وأن من أهداف الدولة السلمية دفع عجلة الدعوة إلى‬
‫المام ليصل نور السلم إلى كل إنسان‪ .‬إن الدولة العثمانية كانت ترى من مسؤلياتها القيام‬
‫بوظيفة الدعوة ونشرها في أرجاء الرض وربط السياسة الخارجية على السس الدعوية‬
‫‪ ،‬كان يقوم‬ ‫العقدية‪ ،‬قبل بنائها على السس المصلحية النفعية‪ ،‬وذلك كما كان يفعل رسول ال‬
‫بتبليغ الدعوة إلى الفاق امتثالً لقوله تعالى‪ { :‬يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‪ ،‬وإن‬
‫لم تفعل فما بلغت رسالته وال يعصمك من الناس إن ال ل يهدي القوم الكافرين } ( سورة‬
‫المائدة‪.) 67 ،‬‬
‫وقد امتثل عليه الصلة والسلم للمر وأرسل إلى ملوك الرض‪ ،‬فكتب إلى ملوك الروم‪ ،‬فقيل‬
‫له ‪ :‬إنهم ليقرءون كتابا إل إذا كان مختوما‪ ،‬فاتخذ خاتما من فضة وختم به الكتب إلى الملوك‪،‬‬
‫وبعث كتبا ورسلً إلى ملوك فارس والروم‪ ،‬والحبشة ومصر والبلقاء واليمامة في يوم واحد‪ ،‬ثم‬
‫()‬
‫بعث إلى حكام عمان والبحرين واليمن وغيرهم ‪. 1‬‬
‫في دعوته وسار أبناءه من بعده على هذا المنهج‬ ‫ولذلك اقتدى عثمان ‪ -‬رحمه ال ‪ -‬بالنبي‬
‫وظهرت في الدولة جماعة الدعوة وكان الحكام والسلطين يقفون معها ويدعمونها ماديا‬
‫ومعنويا‪ ،‬ولقد سلك العثمانيون دولة وشعبا سبلً متعددة من أجل إدخال النصارى في السلم‬
‫ومن هذه الطرق‪:‬‬
‫‪ -‬الحتفال بمن يعلن اعتناقه للسلم وإمداده بكل ما يعينه على الحياة والبتهال به في‬
‫المساجد‪.‬‬
‫‪ -‬حرص العثمانيون على التمسك بالدين‪ ،‬والتواضع في أداء الشعائر مما جعل بعض‬
‫المسيحيين يدخلون في السلم‪.‬‬
‫‪ -‬معاملة الرقيق من المسيحيين باللين حيث كانوا يعتقونهم إذا ثبت إخلصهم حتى ولو ظلوا‬

‫() انظر‪ :‬زاد المعاد (‪.)124-1/119‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪-58-‬‬
‫على دينهم ويتولون رعايتهم وبخاصة كبار السن منهم بعد العتق فضلً عن حسن معاملة من‬
‫()‬
‫يسلم منهم أو يظل على دينه مما كان دافعا لكثير منهم على اعتناق السلم ‪. 1‬‬
‫‪ -‬أقبل كثير من العثمانيين على الزواج من مسيحيات حرمت الكنيسة دخولهن فيها مما حدا‬
‫ببعضهن الى اتباع أزواجهن‪.‬‬
‫‪ -‬قام من دخل في السلم من النصارى بدعوة أقاربهم وذويهم لما رأو من سماحة السلم‬
‫وأنسجامه مع الفطرة‪ ،‬ومخاطبته للعقل‪ ،‬وأحياءه للقلب‪.‬‬
‫‪ -‬قامت الدولة العثمانية بنقل قبائل اسلمية تابعة لها الى قرى مسيحية ونقلت أعداد من‬
‫النصارى الى تجمعات اسلمية مما ساعد على انتشار السلم تدريجيا‪.‬‬
‫‪ -‬قام السلطان مراد باتباع سياسة الفراج عن السرى إذا هم اعتنقوا السلم وأسهم ذلك‬
‫السلوب في زيادة عدد المسلمين‪.‬‬
‫‪ -‬ومما ساعد على انتشار السلم في البلقان تعسف القطاعيين المحليين في فرض الضرائب‬
‫الباهظة أن كبار رجال الدين من القطاعيين قد باعوا أسرار الكنيسة ووظائفها من جهة وسعوا‬
‫في توثيق علقاتهم بالنظام العثماني بل بعضهم دخل في السلم‪.‬‬
‫‪ -‬توسع سلطين العثمانيين في المنح والعطايا والتقدير لزعماء النصارى الذي أقبلوا على‬
‫()‬
‫السلم وأظهر كثيرون منهم الخلص للدولة العثمانية ‪. 2‬‬
‫لقد أهتم العثمانيون بأمر الدعوة الى ال على مستوى الخارجي وادخال الناس في دين السلم‬
‫ولم يتركوا أمر الصلح الداخلي في الدولة واحياء فريضة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫‪.‬‬
‫لقد بين عثمان الول ‪-‬رحمه ال‪ -‬أن حماية أعراض المسلمين وأموالهم أمانة في عنق الحاكم‬

‫()انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬د‪.‬زكريا بيومي‪ ،‬ص ‪.53 ،52 ،51‬‬ ‫‪1‬‬
‫()انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-59-‬‬
‫المسلم وهذه المور تدخل تحت عبادة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتنفيذ الحدود‪،‬‬
‫والدعوة الى مكارم الخلق وتعليم المة أمر دينها‪ ،‬ويكون ذلك باشراف الحاكم المسلم‪،‬‬
‫فيترتب على تلك المور فوائد ومصالح عامة للمة والفراد‪ ،‬والحكام والمحكومين ومن أهم‬
‫هذه الفوائد‪:‬‬
‫‪ -‬إقامة المِـلّة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة ال هي العليا‪.‬‬
‫قال تعالى ‪{ :‬ولول دفع ال الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر‬
‫فيها اسم ال كثيرا} (سورة الحج‪ :‬آية ‪.)40‬‬
‫()‬
‫إن النسان لبد له من أمر ونهي ودعوة ‪ ،‬فمن لم يأمر بالخير ويدعو إليه أمر بالشر ‪. 1‬‬
‫‪ -‬رفع العقوبات العامة‪ :‬قال تعالى ‪{ :‬وما أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (سورة‬
‫الشورى‪ :‬آية ‪ .)30‬وقال أيضا في الجواب عن سبب مصابهم يوم أحد ‪{ :‬قل هو من عند‬
‫أنفسكم} (سورة آل عمران‪ :‬آية ‪ .)165‬فالكفر والمعاصي بأنواعها سبب للمصائب والمهالك قال‬
‫تعالى‪{ :‬فلول كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الرض إل قليلً مما‬
‫أنجينا منهم‪( }...‬سورة هود‪ :‬آية ‪ .)116‬وقال‪{ :‬وماكان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها‬
‫مصلحون} (سورة هود‪ :‬آية ‪" .)117‬وهذه اشارة تكشف عن سنة من سنن ال في المم‪ ،‬فإن‬
‫المة التي يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي أمم ناجية ليأخذها ال بالعذاب‬
‫()‬
‫والتدمير" ‪. 2‬‬
‫‪ -‬استنزال الرحمة من ال تعالى؛ لن الطاعة والمعروف سبب للنعمة قال تعالى ‪{ :‬وإذ تأذن‬
‫ربكم لئن شكرتم لزيدكم ‪( }..‬سورة ابراهيم‪ :‬آية ‪ )7‬والقيام بالمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر نوع من العبودية ل‪.‬‬

‫() انظر‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ ،‬خالد السبت‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪1‬‬
‫() في ظلل القرآن (‪.)4/1933‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-60-‬‬
‫‪ -‬تحقيق وصف الخيرية في هذه المة‪:‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون‬
‫بال}‪.‬‬
‫‪ -‬التجافي عن صفات المنافقين‪:‬‬
‫{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون‬
‫بال‪( }...‬سورة التوبة‪ :‬أية ‪.)7‬‬

‫( ‪)1‬‬
‫‪:‬‬ ‫‪( -5‬يابني أحط من أطاعك بالعزاز ‪ ،‬وأنعم على الجنود)‬
‫إن أمة السلم تحتاج لكي تقوم بمهمتها في هداية الناس للخير الى أن تكون صالحة في‬
‫نفسها‪ ،‬مصلحة لغيرها‪ ،‬فهي الشهيدة على المم لنها أمة الوسط‪.‬‬
‫قال سبحانه ‪{ :‬وكذلك جعناكم أمة وسطا لتكون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم‬
‫شهيدا} (سورة البقرة‪ :‬آية ‪.)143‬‬
‫وهناك حقوق متبادلة بين الراعي والرعية‪ ،‬والحاكم والمحكوم‪ ،‬ومن وصية عثمان ‪-‬رحمه‬
‫ال‪ -‬لبنه يبين له حق الرعية على الحاكم ولقد حرص العثمانيون كحكام على تنفيذ حقوق‬
‫الرعية ومن أهم هذه الحقوق التي قاموا بها‪:‬‬
‫‪.1‬العمل على البقاء على عقيدة المة صافية نقية‪.‬‬
‫‪.2‬بذل السباب المؤدية الى وحدة المة‪.‬‬
‫‪.3‬العمل على حماية المة من أعداء الخارج‪.‬‬
‫‪.4‬أن يعمل الولة على حماية المة من المفسدين والمحاربين‪.‬‬
‫‪.5‬إعداد المة إعدادا جهاديا‪.‬‬
‫‪.6‬حفظ ماوضعت الشريعة لجله‪.‬‬

‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪-61-‬‬
‫‪.7‬تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء وصرفها في مصارفها‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫‪.8‬تحري المانة في اختيار ارباب المناصب‪.‬‬
‫‪.9‬اعطاء حقوق الرعية وما يستحقونه في بيت المال من غير سرف ول‬
‫تقتير‪ ،‬ودفعه في وقت ل تقديم فيه ول تأخير ‪.‬‬
‫‪.10‬الشراف المباشر على سير المور بين الرعية في كل النواحي الدارية‬
‫()‬
‫التي تتعلق بما يصلح أحوالهم ‪. 1‬‬
‫ومن واجبات الرعية تجاه الحكام‪:‬‬
‫‪ -1‬قال تعالى‪{ :‬ياأيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم} (سورة‬
‫النساء‪ :‬آية ‪.)59‬‬
‫وكان المجتمع العثماني شديد السمع والطاعة لحكامه ماداموا ملتزمين بالشريعة؛ لنهم كانوا‬
‫‪" :‬ل طاعة في‬ ‫على علم بأن طاعة الحكام مقيدة دائما بطاعة ال ورسوله‪ ،‬كما قال‬
‫()‬
‫المعصية ‪ ،‬إنما الطاعة في المعروف" ‪. 2‬‬
‫‪ -2‬النصرة ‪:‬‬
‫كان المجتمع العثماني دائما يلتف حول حكامه الشرعيين ويلبي دعوة الجهاد ويبذل الغالي‬
‫والرخيص ويرى ذلك عبادة ل تعالى قال تعالى‪{ :‬وتعاونوا على البر والتقوى} (سورة المائدة‪:‬‬
‫آية ‪.)2‬‬
‫وكان من مفاهيم المجتمع العثماني السائدة عندهم ؛ من نصرة الحاكم أل يهان‪ ،‬ومن‬
‫معاضدته أن يحترم‪ ،‬وأن يكرّم ‪ ،‬فقوامته على المة وقيادته لها لعلء كلمة ال‪ ،‬تستوجب‬
‫تبجيله وإجلله وإكرامه تبجيلً وإجللً وإكراما لشرع ال سبحانه الذي ينافح ويدافع عنه‪ .‬يقول‬
‫() انظر‪ :‬الحاكم والمحكوم في خطاب الوحي (‪ 2/315‬الى ‪.)323‬‬ ‫‪1‬‬
‫() مسلم‪ ،‬كتاب المارة‪ ،‬باب حكم من فرق أمر المسلمين (‪ )3/1480‬رقم ‪.1852‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-62-‬‬
‫رسول ال ‪" :‬إن من إجلل ال تعالى‪ :‬إكرام ذي الشيبة المسلم‪ ،‬وحامل القرآن غير الغالي‬
‫()‬
‫فيه والجافي عنه‪ ،‬وإكرام ذي السلطان المقسط" ‪. 1‬‬

‫‪ -3‬النصح‪:‬‬
‫‪:‬‬ ‫إن المجمتع العثماني كان يناصح ولة أمره ويرى ذلك من صميم الدين لقول رسول ال‬
‫"الدين النصحية ‪-‬ثلثا‪ -‬قال الصحابة ك لمن يارسول ال؟ قال ‪ :‬ل ‪-‬عز وجل‪ -‬ولكتابه‬
‫()‬
‫ولرسوله ولئمة المسلمين وعامتهم" ‪. 2‬‬

‫‪ -4‬التقويم‪:‬‬
‫لقد استقر في مفهموم المجتمع العثماني أن بقاء المة على الستقامة رهن استقامة ولتها‪،‬‬
‫ولذلك نجد في التاريخ العثماني صور مشرفة في تقويم الحكام وأرشادهم ونصحهم ‪ ،‬فهذا‬
‫المولى علء الدين علي بن أحمد الجمالي المتوفى سنة ‪932‬هـ ‪ ،‬فقد كان عالما عاملً يمضي‬
‫وقته في التلوة والعبادة والدرس والفتوى‪ ،‬محافظا على الصلوات الخمس مع الجماعة‪ ،‬وكان‬
‫كريم النفس ‪ ،‬طيب الخلق‪ ،‬عظيم المهابة ‪ ،‬صدّاعا بالحق‪ ،‬عفيف اللسان ليذكر أحد بسوء‬
‫ولعلء الدين احتساب عظيم مع السلطان سليم خان المتوفى عام ‪926‬هـ ومن ذلك‪ :‬أن‬
‫السلطان سليم أمر بقتل مائة وخمسين من موظفيه‪ ،‬فلما سمع المولى علء الدين بالمر ذهب‬
‫الى الديوان‪ ،‬ولم تكن عادته الحضور الى السلطان إل لمر عظيم‪ ،‬فلم يشعر الوزراء وأهل‬
‫الديوان إل بدخول الشيخ المفتي عليهم‪ ،‬فوثبوا يستقبلونه حتى أقعدوه في صدر المجلس وقالوا‬
‫له ‪ :‬أي شيء دعا المولى الى المجيء الى الديوان العالي؟ قال‪ :‬أريد أن أدخل على السلطان‬
‫ولي معه كلم‪ ،‬فأستأذنوا له على السلطان‪ ،‬فأذن له وحده فدخل عليه وجلس‪ ،‬وقال ‪ :‬وظيفة‬
‫أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان‪ ،‬وقد سمعت بأنك أمرت بقتل مائة وخمسين‬

‫() ابو داود ‪ ،‬كتاب الدب‪ ،‬باب تنزيل الناس منازلهم رقم الحديث ‪.4822‬‬ ‫‪1‬‬
‫() مسلم‪ ،‬كتاب اليمان ‪ ،‬باب بيان أن الدين النصيحة‪ )1/74( ،‬رقم ‪.55‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-63-‬‬
‫رجلً من أرباب الديوان ليجوز قتلهم شرعا‪ ،‬فغضب السلطان وكان صاحب حدة‪ ،‬وقال له‪ :‬ل‬
‫تتعرض لمر السلطنة وليس ذلك من وظفيتك‪ ،‬فقال الشيخ‪ :‬بل أعترض لمر آخرتك‪ ،‬وإنه من‬
‫وظيفتي ‪ ،‬ومهما عشت فإنك ميت ومعروض على ال‪ ،‬وواقف بين يديه للحساب‪ ،‬فإن عفوت‬
‫فلك النجاة‪ ،‬وإل فإن أمامك جهنم وعليك عقاب عظيم ‪ ،‬ول يعصمك ملكك ول ينجيك سلطانك‪،‬‬
‫فما كان من السلطان إل الذعان والتسليم أمام نداء الحق من هذا المحتسب‪ ،‬وخضع للحق‪،‬‬
‫وعفا عنهم جميعا ‪ ،‬ثم إن المحتسب لم يكتف بذلك بل طالبه أن يعيد الجميع الى وظائفهم ففعل‪.‬‬
‫رحم ال المولى علء الدين الذي كان عظيما باحتسابه جريئا في الحق ليخشى فيه لومة لئم‬
‫ولقد تأثر السلطان سليم بهذا العالم وأرسل إليه بعد ذلك وطلب منه أن يكون قاضي العسكر‬
‫وقال له جمعت لك بين الطرفين لني تحققت أنك تتكلم بالحق‪ ،‬فكتب إليه وصل اليّ كتابك‬
‫سلمك ال تعالى وأبقاك وأمرتني بالقضاء وأني أمتثل أمرك إل أن لي مع ال تعالى عهدا أن‬
‫()‬
‫لتصدر عني لفظة حكمت فأحبه السلطان محبة عظيمة ‪. 1‬‬
‫وهكذا سار العثمانيون على المنهج الذي وضعه لهم المؤسس الول‪.‬‬

‫()‬
‫‪( -6‬وليغرنك الشيطان بجندك ومالك) ‪: 2‬‬
‫وهذه المعاني يعيشها من فهم القرآن الكريم وتأثر به‪ ،‬وتأمل في سير النبياء والمرسلين‬
‫والمصلحين‪ ،‬لنه يعلم أن التوفيق من ال تعالى وليس بالجند ول بالمال وهكذا كان موقف‬
‫يوسف عليه السلم قال تعالى‪{ :‬رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الحاديث فاطر‬
‫السموات والرض أنت ولي في الدنيا والخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} (سورة‬
‫يوسف‪:‬آية ‪ .)110‬وهكذا يناجي يوسف عليه السلم ربه؛ فيقول أصبحت ممكنا في الرض تشد‬
‫الي الرحال‪ ،‬وتنصاع لكلمتي الرجال‪ ،‬ورزقتني الفهم وصواب تأويل الرؤى ‪ ،‬وتفسير‬

‫() انظر‪ :‬شذرات الذهب (‪.)8/185‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-64-‬‬
‫الحاديث ويرجع الفضل الى صاحب المن والفضل يقول ابن القيم‪" :‬جمعت هذه الدعوة القرار‬
‫بالتوحيد والستسلم للرب وإظهار الفتقار إليه‪ ،‬والبراءة من موالة غيره سبحانه‪ ،‬وكون الوفاة‬
‫على السلم أجل غايات العبد‪ ،‬وأن ذلك بيد ال ل بيد العبد‪ ،‬والعتراف بالمعاد وطلب مرافقة‬
‫()‬
‫السعداء" ‪. 1‬‬
‫وهذا ذو القرنين عندما تمّ بناء سدّه العظيم وكان يملك الجنود والمال ويتحكم في الشعوب‬
‫بالعدل قال‪{ :‬هذا رحمة من ربي} (سورة الكهف‪ :‬آية ‪ .)97‬إنها عبارة جميلة مباركة تشير الى‬
‫عدة معاني‪:‬‬
‫‪ -1‬قال سيد قطب ‪( :‬ونظر ذو القرنين الى العمل العظيم الذي قام به؛ فلم يأخذه البطر‬
‫والغرور‪ ،‬ولم تسكره نشوة القوة والعلم‪ ،‬ولكنه ذكر ال فشكره‪ ،‬ورد إليه العمل الصالح الذي‬
‫()‬
‫وفقه إليه‪. 2 )...‬‬
‫إن من أعظم صور الذكر أن يتذكر العبد فضل ال عليه ‪ ،‬فيستشعر أن فضل ال عليه عظيم‬
‫؛ فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر‪.‬‬
‫وهكذا كانت وصية عثمان لبنه يحذره فيه من الشيطان ومسالكه ومداخله ويدعوه الى‬
‫الحتراز من كيده‪.‬‬

‫( ‪)3‬‬
‫‪( -7‬وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الفاق‪ ،‬فتحدث مرضات ال جل جلله)‬
‫إن عثمان الول ‪-‬رحمه ال تعالى‪ -‬كان يرى أن نشر دين ال في كل الفاق من وسائله‬
‫الجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬وأن الغاية العليا للجهاد في سبيل ال هي إعلء كلمة ال لتحقيق‬
‫عبادته وحدة ل شريك له كما قال تعالى‪{ :‬وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون ‪ ‬ماأريد منهم من‬

‫() الفوائد لبن القيم ‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الظلل (‪.)4/2293‬‬ ‫‪2‬‬
‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-65-‬‬
‫رزق وما أريد أن يطعمون‪ ‬إن ال هو الرزاق ذو القوة المتين} (سورة الذاريات‪ :‬آية ‪.)56،58‬‬
‫ومفهوم العبادة شامل لنشاط السلم كله ويفسر ذلك قوله تعالى‪{ :‬قل إن صلتي ونسكي‬
‫ومحياي ومماتي ل رب العالمين ل شريك له‪ ‬وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (سورة النعام‪:‬‬
‫آية )‪.‬‬
‫ومن أجل هذه الغاية انطلق عثمان الول بجنوده وشعبه مجاهدا في سبيل ال ولسان حاله‬
‫يقول ابتعثنا ال لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة ال ومن ضيق الدنيا الى سعتها ومن‬
‫جور الديان الى عدل السلم‪ ،‬لقد كانت وسيلة العثمانيين من أجل إقامة حكم ال ونظام‬
‫السلم في الرض الجهاد في سبيل ال‪.‬‬
‫وعندما حاولت دول النصارى أن تعمل على منع توسع الدولة العثمانية وباشروا في شن‬
‫هجموهم عليها كانت وسيلة الجهاد كالصخرة العظيمة التي تتحطم عليه محاولتهم المتكررة‬
‫وامام قادة العثمانيين قول ال تعالى ‪{ :‬وقاتلوا في سبيل ال الذين يقاتلونكم ول تعتدوا إن ال ل‬
‫واقتلوهم حيث ثقفتموهم‪ ،‬وأخرجوهم من حيث أخرجوكم‪ ،‬والفتنة أشد من‬ ‫يحب المعتدين‬
‫القتل} (سورة البقرة‪ :‬آية ‪.)192-190‬‬
‫ولقد عمل العثمانيون بهذه النصيحة والوصية‪ ،‬فعملوا على إزالة كل العوائق التي تمنع الناس‬
‫من سماع دعوة ال تعالى التي جاءت لتعطي الناس أكمل تصور للوجود والحياة وبأرقى نظام‬
‫لتطويرها‪.‬‬
‫ولقد جاهدت الدولة العثمانية في سبيل ال تعالى وفتح ال على يديها دول وشعوب لزال‬
‫السلم باقيا فيها حتى الن مثل دول البلقان وعملت على حماية شعوب المسلمين من هجمات‬
‫النصارى الغاشمة ‪ ،‬فكانت سببا في بقاء الشمال الفريقي على اسلمه ودينه وعقيدته ‪ ،‬وكانت‬
‫عاملً مهما في حماية الراضي المقدسة من البرتغاليين ومن دخل تحت لوائهم من النصارى‬
‫الى غير ذلك من العمال الجليلة التي سنفصلها في بحثنا هذا بإذن ال تعالى‪.‬‬
‫‪-66-‬‬
‫العظم يوم‬ ‫‪( -8‬من انحرف عن سللتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول‬
‫()‬
‫المحشر) ‪: 1‬‬
‫إن عثمان ‪-‬رحمه ال تعالى ‪ -‬يتبرأ من ممن ينحرف عن الحق والعدل من ذريته ويدعوا‬
‫من جاء بعده بالتمسك بالحق وإقامة العدل‪.‬‬
‫إن العدل هو الدعامة الرئيسية في اقامة المجتمع السلمي والحكم الرباني؛ فل وجود‬
‫للسلم في مجتمع يسوده الظلم ول يعرف العدل ولذلك اهتم السلم بتقرير هذه القاعدة‬
‫وتأسيسها وتدعيمها؛ فأكثر الحديث عنها في اليات القرآنية الكريمة والحاديث النبوية ومن هذه‬
‫النصوص‪:‬‬
‫• قال تعالى ‪{ :‬إن ال يأمر بالعدل والحسان} (سورة النحل‪ :‬آية ‪ )9‬وأمر ال بفعل كما هو‬
‫معلوم يقتضي وجوبه‪.‬‬
‫• قال تعالى ‪{ :‬إن ال يأمركم أن تؤدوا المانات الى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا‬
‫بالعدل‪( }..‬سورة النساء ‪ :‬آية ‪. )58‬‬
‫• وقال تعالى ‪{ :‬يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ل ولو على انفسكم أو‬
‫الوالدين والقربين ان يكن غنيا أو فقيرا فال أولى بهما فل تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلوا او‬
‫تعرضوا فإن ال كان بما تعملون خبيرا} (سورة النساء‪ :‬آية ‪.)135‬‬
‫ثم إن ترك العدل يعد ظلما‪ ،‬وال سبحانه وتعالى حرم الظلم وذم أهله وتوعدهم بالعذاب‬
‫()‬
‫الشديد يوم القيامة والهلك في الدنيا ‪ . 2‬قال تعالى ‪{ :‬ولتحسبن ال غافلً عما يعمل الظالمون}‬
‫(سورة ابراهيم‪ :‬آية ‪.)42‬‬
‫ومن خلل هذه التوجيهات الربانية حرص عثمان على إقامة العدل بين الناس وعمل أن‬

‫() السلطين العثمانيون ‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬النظام السياسي في السلم ‪،‬د‪.‬محمد ابوفارس‪ ،‬ص ‪.49‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-67-‬‬
‫يكون هذا المبدأ واقعا تعيشه المة العثمانية من بعده حيث وكان يتحرك بجيوشه ويوظف كل‬
‫إمكاناته من أجل نشر التوحيد وتعريف الناس بخالقهم‪ ،‬ولقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد‬
‫السيف وفتوحات القلوب باليمان والحسان وكان دستوره في التعامل مع الناس قول ال تعالى‪:‬‬
‫وأما من آمن وعمل صالحا‬ ‫{ أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذابا نكرا‬
‫فله جزاء الحسنى ‪ ،‬وسنقول له من أمرنا يسرا‪ (}...‬سورة الكهف‪ :‬آية ‪.)87،88‬‬
‫ولذلك حرص في وصيته على أن يحكم من بعده بالحق والعدل وفي رواية يقول لبنه في‬
‫()‬
‫الوصية‪( :‬اعدل في جميع شؤونك‪. 1 )...‬‬
‫‪( -9‬يابني لسنا من هؤلء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد‪ ،‬فنحن‬
‫( ‪)2‬‬
‫بالسلم نحيا وبالسلم نموت)‬
‫إن هذه الفقرة من الوصية تبين طبيعة تكوين الدولة العثمانية عن غيرها من الدول‪ ،‬فالغاية‬
‫التي قامت من أجلها إنما هي الدفاع عن السلم ورفع رايته في مشارق آسيا الصغرى‬
‫والقضاء على الدولة البيزنطية التي كانت تهدد المسلمين في ديارهم ومن ثم أطلق على زعيم‬
‫هذه الدولة الناشئة لقب الغازي‪ ،‬أي المجهاد في سبيل ال‪ ،‬وكان يتلقى هذا اللقب في حفل‬
‫( ‪)3‬‬
‫وأن الغازي عثمان ‪-‬رحمه ال‪ -‬دعا المسلمين‬ ‫مشهود بتسليم يه راية الجهاد من عالم كبير‬
‫من الترك وغيرهم لينضموا تحت راية الجهاد في سبيل ال فاستجاب له الكثير من المؤمنين‬
‫()‬
‫الصابرين تحدوهم جميعا رغبة شديدة في النتصار لدين ال بالقضاء على الدولة البيزنطية ‪. 4‬‬
‫هذه الوصية الخالدة هي التي سار عليها الحكام العثمانيون في زمن قوتهم ومجدهم وعزتهم‬
‫وتمكينهم‪.‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين العثمانيون ‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬المسألة الشرقية ‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬تركيا والسياسة العربية‪ ،‬ص ‪.13‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-68-‬‬
‫ترك عثمان الول الدولة العثمانية وكانت مساحتها تبلغ ‪ 16.000‬كيلومتر مربع واستطاع أن‬
‫يجد لدولته الناشئة منفذ على بحر مرمرة واستطاع بجيشه أن يهدد أهم مدينتين بيزنطيتين في‬
‫()‬
‫ذلك الزمان وهي ‪ :‬ازنيق وبورصة ‪. 1‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫السلطان اورخان بن عثمان‬
‫‪726-761‬هـ‪1360-1327/‬م‬

‫بعد وفاة عثمان تولى الحكم ابنه أورخان‪ ،‬وسار على نفس سياسة والده في الحكم‬
‫والفتوحات‪ ،‬وفي عام ‪727‬هـ الموافق ‪1327‬هـ سقطت في يده نيقوميديا‪ ،‬وتقع في شمال‬
‫غرب آسيا الصغرى قرب مدينة اسطنبول وهي مدينة أزميت الحالية‪ ،‬فأنشأ بها أول جامعة‬
‫( ‪)2‬‬
‫عثمانية‪ ،‬وعهد بإدارتها إلى داود القيصري‪ ،‬أحد العلماء العثمانيين الذين درسوا في مصر‬

‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.15‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر ‪ :‬قيام الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-69-‬‬
‫()‬
‫واهتم ببناء الجيش على أسس عصرية وجعله جيشا نظاميا ‪. 1‬‬
‫في فتح القسطنطينية ووضع‬ ‫وحرص السلطان أورخان على تحقيق بشارة رسول ال‬
‫خطة استراتيجية تستهدف إلى محاصرت العاصمة البيزنطية من الغرب والشرق في آن واحد‪،‬‬
‫ولتحقيق ذلك أرسل ابنه وولي عهده "سليمان " لعبور مضيق " الدردنيل " والستيلء على‬
‫بعض المواقع في الناحية الغربية‪.‬‬
‫وفي عام ( ‪758‬هـ ) اجتاز سليمان مضيق " الدردنيل " ليلً مع أربعين رجلً من فرسان‬
‫السلم ولمّا أدركوا الضفة الغربية‪ ،‬استولوا على الزوارق الرومية الراسية هناك‪ ،‬وعادوا بها‬
‫إلى الضفة الشرقية‪ ،‬إذ لم يكن للعثمانيين أسطول حينذاك حيث لتزال دولتهم في بداية تأسيسها‪،‬‬
‫وفي الضفة الشرقية أمر " سليمان " جنوده‪ ،‬أن يركبوا في الزوارق حيث تنقلهم إلى الشاطئ‬
‫الوربي حيث فتحوا ميناء قلعة " ترنب "‪ " ،‬وغاليبولي " التي فيها قلعة " جنا قلعة " و "أبسال "‬
‫" ورودستو " وكلها تقع على مضيق " الدردنيل " من الجنوب إلى الشمال‪ ،‬وبهذا خطا هذا‬
‫()‬
‫السلطان خطوة كبيرة استفاد بها من جاء بعده في فتح " القسطنطينية " ‪. 2‬‬

‫أولً ‪ :‬تأسيس الجيش الجديد ديني تتارى ‪:‬‬


‫إن من أهم العمال التي ترتبط بحياة السلطان أورخان‪ ،‬تأسيسه للجيش السلمي وحرص‬
‫على إدخال نظاما خاصا للجيش‪ ،‬فقسمه إلى وحدات تتكون كل وحدة من عشرة أشخاص‪ ،‬أو‬
‫مائة شخص‪ ،‬أو ألف شخص‪ ،‬وخصص خمس الغنائم للنفاق منها على الجيش‪ ،‬وجعله جيشا‬
‫()‬
‫دائما بعد أن كان ليجتمع إل وقت الحرب‪ ،‬وأنشأ له مراكز خاصة يتم تدريبه فيها ‪. 3‬‬

‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬الى الدولة العثمانية ‪ ،‬الدكتور جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.32‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-70-‬‬
‫()‬
‫كما أنه أضاف جيشا آخر عرف بالنكشارية ‪ ، 4‬شكله من المسلمين الجدد الذين ازداد‬
‫عددهم بعد اتساع رقعة الدولة وانتصاراتها الكبيرة في حروبها مع أعدائها من غير المسلمين‪،‬‬
‫ودخول أعداد كبيرة من أبناء تلك البلد المفتوحة في السلم‪ ،‬ثم انضمامهم إلى صفوف‬
‫المجاهدين في سبيل نشر السلم‪ ،‬فبعد أن يعتنقوا السلم ويتم تربيتهم تربية إسلمية فكريا‬
‫وحربيا يعينون في مراكز الجيش المختلفة‪ ،‬وقد قام العلماء والفقهاء مع سلطانهم أورخان بغرس‬
‫حب الجهاد والذود عن الدين والشوق إلى نصرته أو الشهادة في سبيله وأصبح شعارهم‬
‫()‬
‫( غازيا أو شهيدا ) عندما يذهبون إلى ساحة الوغى ‪. 5‬‬
‫ولقد زعم معظم المؤرخين الجانب أن جيش النكشارية تكون من انتزاع أطفال النصارى‬
‫من بين أهاليهم ويجبرونهم على اعتناق السلم‪ ،‬بموجب نظام أو قانون زعموا أنه كان يدعى‬
‫بنظام ( الدفشرية )‪ ،‬وزعموا أن هذا النظام كان يستند إلى ضريبة إسلمية شرعية أطلقوا عليها‬
‫اسم " ضريبة الغلمان " وأسموها أحيانا " ضريبة البناء " ‪ ،‬وهي ضريبة زعموا أنها تبيح‬
‫للمسلمين العثمانيين أن ينتزعوا خمس عدد أطفال كل مدينة أو قرية نصرانية ‪ ،‬باعتبارهم‬
‫خمس الغنائم التي هي حصة بيت مال المسلمين ومن هؤلء المؤرخين الجانب الذين افتروا‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪ ،‬إن الحقيقة تقول أن نظام الدثرمة المزعوم‬ ‫على الحقيقة‪ ،‬كارل بروكلمان‪ ،‬وجيبونز‪ ،‬وجب‬
‫ليس سوى كذبة دُسّت على تاريخ أورخان بن عثمان ومراد بن أورخان وانسحبت من بعده‬
‫على العثمانيين قاطبة‪ ،‬فلم يكن نظام الدثرمة هذا إل اهتماما من الدولة العثمانية بالمشردين من‬
‫الطفال النصارى الذين تركتهم الحروب المستمرة أيتاما أو مشردين‪ ،‬فالسلم الذي تدين الدولة‬
‫العثمانية به يرفض رفضا قاطعا ما يسمى بضريبة الغلمان التي نسبها المغرضون من‬
‫المؤرخين الجانب إليها‪.‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪302‬‬ ‫‪4‬‬
‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.302‬‬ ‫‪5‬‬
‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة ‪ ،‬ص ‪.122‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-71-‬‬
‫لقد كانت أعداد هائلة من الطفال فقدوا آبائهم وأمهاتهم بسبب الحروب والمعارك‪ ،‬فاندفع‬
‫المسلمون العثمانيون إلى احتضان أولئك الطفال الذين هاموا في طرقات المدن المفتوحة بعد‬
‫فقدانهم لبائهم وأمهاتهم وحرصوا على تأمين مستقبل كريم لهم وهل من مستقبل كريم وأمين‬
‫إل في السلم‪ ،‬أفاءن يحرص المسلمون على أن يعتنق الطفال المشردون التائهون السلم‪،‬‬
‫انبرى المفترون يزعمون أن المسلمين كانوا ينتزعونهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم ؟؟‬
‫ويكرهونهم على السلم‪.‬‬
‫ومن المؤسف أن هذه الفرية الحاقدة‪ ،‬وهذا الفك المبين‪ ،‬وهذا البهتان العظيم التقفه بعض‬
‫المؤرخين المسلمين يدرسونه في مدارسهم وجامعاتهم وكأنه أمر مسلم به ويطرح على الطلب‬
‫كأنه حقيقة من الحقائق ولقد تأثر بكتب المؤرخين الجانب مجموعة من المؤرخين المسلمين‬
‫ومن هؤلء من يشهد له بالغيرة على السلم‪ ،‬فأصبحوا يرددون هذا البهتان في كتبهم من‬
‫أمثال‪ ،‬المؤرخ محمد فريد بك المحامي في كتابه الدولة العلية العثمانية‪ ،‬والدكتور علي حسون‬
‫في كتابه‪ ،‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬والمؤرخ محمد كرد في كتابه خطط الشام‪ ،‬والدكتور عمر‬
‫عبدالعزيز في كتابه " محاضرات في تاريخ الشعوب السلمية " والدكتور عبدالكريم غرايبه‬
‫في كتاب العرب والتراك‪.‬‬
‫الحقيقة تقول كل من ذكر ضريبة الغلمان أو أخذهم بالقوة من ذويهم تحت قانون أخذ خمس‬
‫أطفال المدن والقرى ليس له دليل إل كتب المستشرقين‪ ،‬كجب‪ ،‬المؤرخ النصراني سوموفيل‪،‬‬
‫أو بركلمان وهؤلء ليطمئن إليهم في كتابة التاريخ السلمي ول إلى نواياهم تجاه السلم‬
‫وتاريخ السلم‪.‬‬
‫إن الذين يربون تربية خاصة على الجهاد لم يكونوا نصارى وإنما كانوا أبناء آباء مسلمين‬
‫انخلعوا عن النصرانية‪ ،‬واهتدوا إلى السلم‪ ،‬وشرعوا من أنفسهم وعن طواعية ل عن إكراه‪،‬‬
‫يقدمون أبناءهم للسلطان ليستكمل تربيتهم تربية إسلمية‪ ،‬أما باقي الطفال فقد كانوا من اليتام‬
‫والمشردين الذين أفرزتهم الحروب فاحتضنتهم الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪-72-‬‬
‫إن حقيقة الجيش الجديد الذي أنشأه أورخان بن عثمان هي تشكيل جيش نظامي يكون دائم‬
‫الستعداد والتواجد قريبا منه في حالة الحرب أو السلم على حد سواء‪ ،‬فشكل من فرسان‬
‫عشيرته ومن مجاهدي النفير الذين كانوا يسارعون لجابة داعي الجهاد ومن أمراء الروم‬
‫وعساكرهم الذين دخل السلم في قلوبهم‪ ،‬وحسن إسلمهم وما كاد أورخان ينتهي من تنظيم‬
‫هذا الجيش حتى سارع إلى حيث يقيم العالم المؤمن التقي الحاج بكتاش وطلب منه أن يدعو لهم‬
‫خيرا‪ ،‬فتلقاهم العالم المؤمن خير لقاء ووضع يده على رأس أحد الجنود‪ ،‬ودعا لهم ال أن‬
‫يبيض وجوههم‪ ،‬ويجعل سُيوفهم حادة قاطعة‪ ،‬وأن ينصرهم في كل معركة يخوضونها في سبيل‬
‫ال ثم مال تجاه أورخان فسأله‪ ،‬هل اتخذت لهذا الجيش اسما‪ ..‬؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فليكن اسمه "‬
‫يني جري " وتلفظ " يني تشري " أي الجيش الجديد‪.‬‬
‫وكانت راية الجيش الجديد من قماش أحمر وسطها هلل‪ ،‬وتحت الهلل صورة لسيف‬
‫()‬
‫أطلقوا عليه اسم " ذي الفقار " تيمنا بسيف المام علي رضي ال عنه ‪. 1‬‬
‫لقد كان علء الدين بن عثمان أخو أورخان صاحب الفكرة وكان عالما في الشريعة ومشهور‬
‫()‬
‫بالزهد والتصوف الصحيح ‪. 2‬‬
‫وعمل أورخان على زيادة عدد جيشه الجديد بعد أن ازدادت تبعات الجهاد ومناجزة‬
‫البيزنطيين‪ ،‬فاختار عددا من شباب التراك‪ ،‬وعددا من شباب البيزنطيين الذين أسلموا وحسن‬
‫إسلمهم‪ ،‬فضمهم إلى الجيش واهتم اهتماما كبيرا بتربيتهم تربية إسلمية جهادية‪.‬‬
‫ولم يلبث الجيش الجديد حتى تزايد عدده‪ ،‬وأصبح يضم آلفا من المجاهدين في سبيل ال‪.‬‬
‫لقد كان أورخان وعلء الدين متفقين على أن الهدف الرئيسي لتشكيل الجيش الجديد‪ ،‬هو‬
‫مواصلة الجهاد ضد البيزنطيين وفتح المزيد من أراضيهم بهدف نشر السلم فيها‪ ،‬والستفادة‬

‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة ‪ ،‬ص ‪.147‬‬ ‫‪1‬‬


‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.144‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-73-‬‬
‫من البيزنطيين الذين أسلموا في نشر السلم بعد أن يكونوا تلقوا تربية إسلمية جهادية‬
‫وترسخت في قلوبهم مبادئ السلم سلوكا وجهادا‪.‬‬
‫وخلصة القول‪ ،‬أن السلطان أورخان‪ ،‬لم ينتزع غلما نصرانيا واحدا من بيت أبيه‪ ،‬ولم‬
‫يكره غلما نصرانيا واحدا على اعتناق السلم‪ ،‬وأن كل ما زعمه بروكلمان وجيب وجببونز‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫إن من مقتضيات المانة‬ ‫كذب واختلق‪ ،‬ينبغي أن تزال آثاره من كتب تاريخنا السلمي‬
‫العلمية‪ ،‬والخوة السلمية‪ ،‬تضع في عنق كل مسلم غيور‪ ،‬وخاصة العلماء والمثقفين‬
‫والمفكرين‪ ،‬والمؤرخين والمدرسين‪ ،‬والباحثين‪ ،‬والعلميين‪ ،‬أمانة نسف هذه الفرية ودحض‬
‫هذه الشبهة التي ألصقت بالعثمانيين وأصبحت كأنها حقيقة لتقبل النقاش والمراجعة والحوار‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬سياسة أورخان الداخلية والخارجية‪:‬‬


‫كانت غزوات أورخان منصبة على الروم ولكن حدث في سنة‬
‫(‪736‬هـ‪1336-‬م) أن توفي أمير قره سي ‪ -‬وهي إحدى المارات التي قامت على أنقاض‬
‫دولة سلجقة الروم واختلف ولده من بعده وتنازعا المارة ‪ .‬واستفاد أورخان من هذه الفرصة‬
‫فتدخل في النزاع وانتهى بالستيلء على المارة وقد كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة‬
‫أن ترث دولة سلجقة الروم في آسيا الصغرى وترث ماكانت تملكه واستمر الصراع لذلك‬
‫بينها وبين المارات الخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه‪.‬‬
‫واهتم أورخان بتوطيد أركان دولته وإلى العمال الصلحية والعمرانية ونظم شؤون الدارة‬
‫( ‪)2‬‬
‫وأشرف عليها خيرة العلماء والمعلمون‬ ‫وقوى الجيش وبنى المساجد وانشأ المعاهد العلمية‬
‫وكانوا يحظون بقدر كبير من الحترام في الدولة‪ ،‬وكانت كل قرية بها مدارسها وكل مدينة بها‬
‫كليتها التي تعلم النحو والتراكيب اللغوية والمنطق والميتافزيقا وفقه اللغة وعلم البداع اللغوي‬

‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.155‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬الدكتور سالم الرشيدي ‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-74-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وبالطبع تحفيظ القرآن وتدريس علومه والسنة والفقه والعقائد‪.‬‬ ‫والبلغة والهندسة والفلك‬
‫وهكذا أمضى أورخان بعد استيلئه على إمارة قره سي عشرين سنة دون أن يقوم بأي‬
‫حروب‪ ،‬بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة‪ ،‬وفي تعزيز المن‬
‫الداخلي‪ ،‬وبناء المساجد ورصد الوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة الشاسعة‪ ،‬مما يشهد‬
‫بعظمة أورخان وتقواه‪ ،‬وحكمته وبعد نظره‪ ،‬فإنه لم يشن الحرب تلو الحرب طمعا في التوسع‬
‫وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الراضي التي يتاح له ضمها‪ .‬وحرص على طبع كل‬
‫أرض جديدة بطابع الدولة المدني والعسكري والتربوي والثقافي وبذلك تصبح جزءا ليتجزأ من‬
‫أملكهم‪ ،‬بحيث أصبحت أملك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرة‪.‬‬
‫وهذا يدل على فهم واستيعاب أورخان لسنة التدرج في بناء الدول وإقامة الحضارة‪ ،‬وإحياء‬
‫الشعوب‪.‬‬
‫وما أن تمّ أورخان البناء الداخلي حتىحدث صراع على الحكم داخل الدولة البيزنطية وطلب‬
‫المبراطور ( كونتاكوزينوس ) مساعده السلطان أورخان ضد خصمه‪ ،‬فأرسل قوات من‬
‫العثمانيين لتوطيد النفوذ العثماني في أوربا‪ .‬وفي عام ‪ 1358‬أصاب زلزال مدن تراقيا فانهارت‬
‫أسوار غاليبولي وهجرها أهلها مما سهل على العثمانيين دخولها‪ .‬وقد احتج المبراطور‬
‫البيزنطي على ذلك دون جدوى ‪ -‬وكان رد أورخان أن العناية اللهية قد فتحت أبواب المدينة‬
‫أمام قواته‪ .‬ومالبثت غاليبولي أن أصبحت أول قاعدة عثمانية في أوربا‪ ،‬ومنها انطلقت الحملت‬
‫الولى التي توجت في النهاية بالستيلء على كل شبه جزيرة البلقان‪ ..‬وحين انفرد حنا الخامس‬
‫باليولوجس بحكم بيزنطة أقر كل فتوح أورخان في أوروبا في مقابل تعهد السلطان بتسيهل‬
‫وصول الطعام والمؤن إلى القسطنطينية‪ .‬وأرسل أورخان أعدادا كبيرة من القبائل المسلمة بغية‬

‫() انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني ‪ ،‬محمد عبدالرحيم‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪-75-‬‬
‫()‬
‫الدعوة إلى السلم ومنع تمكن النصارى من طرد العثمانيين من أوربا ‪. 1‬‬

‫ثالثا‪ :‬العوامل التي ساعدت السلطان أورخان في تحقيق أهدافه ‪:‬‬


‫‪ -1‬المرحلية التي سار عليها أورخان واستفادته من جهود والده عثمان ووجود المكانيات‬
‫المادية والمعنوية التي ساعدتهم على فتح الراضي البيزنطية في الناضول وتدعيم سلطتهم فيها‬
‫ولقد تميزت جهود أورخان بالخطى الوئيدة والحاسمة في توسيع دولته ومد حدودها‪ ،‬ولم ينتبه‬
‫()‬
‫العالم المسيحي إلى خطورة الدولة العثمانية إل بعد أن عبروا البحر واستولوا على غاليبولي ‪. 2‬‬
‫‪ -2‬كان العثمانيون ‪ -‬يتميزون ‪ -‬في المواجهة الحربية التي تمت بينهم وبين الشعوب‬
‫البلقانية ‪ -‬بوحدة الصف ووحدة الهدف ووحدة المذهب الديني وهو المذهب السني‪.‬‬
‫‪ -3‬وصول الدولة البيزنطية إلى حالة من العياء الشديد وكان المجتمع البيزنطي قد أصابه‬
‫تفكك سياسي وانحلل ديني واجتماعي‪ ،‬فسهل على العثمانيين ضم أقاليم هذه الدولة‪.‬‬
‫‪ -4‬ضعف الجبهة المسيحية نتيجة لعدم الثقة بين السلطات الحاكمة في الدولة البيزنطية‬
‫وبلغاريا وبلد الصرب والمجر‪ ،‬ولذلك تعذر في معظم الحيان تنسيق الخطط السياسية‬
‫()‬
‫والعسكرية للوقوف في جبهة واحدة ضد العثمانيين ‪. 3‬‬
‫‪ -5‬الخلف الديني بين روما والقسطنطينية أي بين الكاثوليك والرثوذكسية الذي استحكمت‬
‫حلقاته وترك آثارا عميقة الجذور في نفوس الفريقين‪.‬‬
‫‪ -6‬ظهور النظام العسكري الجديد على أسس عقدية‪ ،‬ومنهجية تربوية وأهداف ربانية‬
‫وأشرف عليه خيرة قادة العثمانيين‪.‬‬

‫() انظر‪ :‬اصول التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث ‪ ،‬ص ‪.23‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-76-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫السلطان مراد الول‬
‫‪761-791‬هـ‪1389-1360/‬م‬

‫كان مراد الول شجاعا مجاهدا كريما متدينا‪ ،‬وكان محبا للنظام متمسكا به‪ ،‬عادلً مع رعاياه‬
‫وجنوده‪ ،‬شغوفا بالغزوات وبناء المساجد والمدارس والملجئ وكان بجانبه مجموعة من خيرة‬
‫القادة والخبراء والعسكريين‪ ،‬شكل منهم مجلسا لشورته‪ ،‬وتوسع في آسيا الصغرى وأوربا في‬
‫وقت واحد‪.‬‬
‫ففي أوربا هاجم الجيش العثماني أملك الدولة البيزنطية ثم استولى على مدينة أدرنه في عام‬
‫( ‪762‬هـ‪1360 /‬م ) وكانت لتلك المدينة أهمية استراتيجية في البلقان‪ ،‬وكانت ثاني مدينة في‬
‫المبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية‪ .‬واتخذ مراد من هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية‬
‫منذ عام (‪768‬هـ ‪1366 /‬م )‪ ،‬وبذلك انتقلت العاصمة إلى أوربا‪ ،‬وأصبحت أدرنه عاصمة‬
‫إسلمية‪ ،‬وكان هدف مراد من هذه النقلة‪:‬‬
‫‪ -1‬استغلل مناعة استحكامات أدرنة الحربية وقربها من مسرح العمليات الجهادية‪.‬‬
‫‪ -2‬رغبة مراد في ضم القاليم الوربية التي وصلوا إليها في جهادهم وثبتوا أقدامهم فيها‪.‬‬

‫‪-77-‬‬
‫‪ -3‬جمع مراد في هذه العاصمة كل مقومات النهوض بالدولة وأصول الحكم‪ ،‬فتكونت فيها‬
‫فئات الموظفين وفرق الجيش وطوائف رجال القانون وعلماء الدين‪ ،‬وأقيمت دور المحاكم‬
‫وشيدت المدارس المدنية والمعاهد العسكرية لتدريب النكشارية‪.‬‬
‫واستمرت أدرنة على هذا الوضع السياسي والعسكري والداري والثقافي والديني حتى فتح‬
‫()‬
‫العثمانيون القسطنطينية في عام ( ‪857‬هـ‪1453 -‬م )‪ ،‬فأصبحت عاصمة لدولتهم ‪. 1‬‬

‫أولً‪ :‬تحالف صليبي ضد مراد ‪:‬‬


‫مضى السلطان مراد في حركة الجهاد والدعوة وفتح القاليم في أوربا‪ ،‬وانطلق جيشه يفتح‬
‫مقدونيا‪ ،‬وكانت لنتصاراته أصداء بعيدة‪ ،‬فتكون تحالف أوربي بلقاني صليبي باركه البابا أوربا‬
‫الخامس‪ ،‬وضم الصربيين والبلغاريين والمجريين‪ ،‬وسكان إقليم والشيا‪ .‬وقد استطاعت الدول‬
‫العضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشا بلغ عدده ستين ألف جندي تصدى لهم القائد‬
‫العثماني " للشاهين " بقوة تقل عددا عن القوات المتحالفة‪ ،‬وقابلهم على مقربة من "تشيرمن"‬
‫على نهر مارتيزا‪ ،‬حيث وقعت معركة مروعة وانهزم الجيش المتحالف‪ ،‬وهرب الميران‬
‫الصربيان‪ ،‬ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا ‪ ،‬ونجا ملك المجر بأعجوبة من الموت أما السلطان‬
‫مراد فكان في هذه الثناء مشتغلً بالقتال في بلد آسيا الصغرى حيث فتح عدة مدن ثم عاد الى‬
‫()‬
‫مقر سلطنته لتنظيم ما فتحه من القاليم والبلدان كما هو شأن القائد الحكيم ‪. 2‬‬
‫وكان من نتائج انتصار العثمانيين على نهر مارتيزا أمور مهمة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬تم لهم فتح إقليم تراقيا ومقدونيا ووصلوا الى جنوبي بلغاريا والى شرقي صربيا‪.‬‬
‫‪ -2‬اصبحت مدن وأملك الدولة البيزنطية وبلغاريا وصربيا تتساقط في أيديهم كأوراق‬

‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬د‪.‬اسماعيل باغي‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية العلية‪ ،‬ص ‪.131‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-78-‬‬
‫()‬
‫الخريف ‪. 1‬‬

‫أول معاهدة بين الدولة العثمانية والمسيحية‪:‬‬


‫لما اشتد ساعد الدولة العثمانية خاف مجاوروها‪ ،‬خصوصا الضعفاء منهم‪ ،‬فبادرت جمهورية‬
‫( ‪)2‬‬
‫وارسلت الى السلطان مراد رسلً ليعقدوا مع السلطان مراد معاهدة ودية وتجارية‬ ‫(راجوزه)‬
‫تعاهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها ‪ 500‬دوكا ذهب وهذه أول معاهدة عقدت بين الدولة‬
‫()‬
‫العثمانية والدول المسيحية ‪. 3‬‬

‫معركة قوصره‪:‬‬
‫كان السلطان مراد قد توغل في بلد البلقان بنفسه وعن طريق قواده مما آثار الصرب‪،‬‬
‫فحاولوا في أكثر من مرة استغلل غياب السلطان عن أوروبا في الهجوم على الجيوش العثمانية‬
‫في البلقان وماجاورها ولكنهم فشلوا في تحقيق انتصارات تذكر على العثمانيين ‪ ،‬فتحالف‬
‫الصرب والبوسنيون والبلغار وأعدوا جيشا أوروبيا صليبيا كثيفا لحرب السلطان الذي كان قد‬
‫وصل بجيوشه بعد إعدادها إعدادا قويا الى منطقة كوسفو في البلقان ومن الموافقات التي تذكر‬
‫أن وزير السلطان مراد الذي كان يحمل معه مصحفا فتحه على غير قصد فوقع نظره على هذه‬
‫الية‪{ :‬يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‬
‫وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم ليفقهون} (سورة النفال‪ :‬الية ‪)65‬‬
‫فاستبثر بالنصر واستبشر معه المسلمون ولم يلبث أن نشب القتال بين الجمعين وحمي وطيسه‬
‫()‬
‫واشتدت المعركة وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصارا باهرا حاسما ‪. 4‬‬

‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث ‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪1‬‬
‫() تطل على البحر الدرياتيكي‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية ‪ ،‬د‪.‬محمد فريد‪ ،‬ص ‪.132‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪،‬د‪.‬سالم الرشيدي ‪ ،‬ص ‪ ،30‬الفتوح السلمية غبر العصور‪ ،‬ص ‪.389‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-79-‬‬
‫ثانيا ‪ :‬استشهاد السلطان مراد ‪:‬‬
‫بعد النتصار في قُوصُووَه‪ ،‬قام السلطان مراد يتفقد ساحة المعركة ويدور بنفسه بين صفوف‬
‫القتلى من المسلمين ويدعوا لهم‪ ،‬كما كان يتفقد الجرحى‪ ،‬وفي أثناء ذلك قام جندي من الصرب‬
‫كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان فتمكن الحراس من القبض عليه‪ ،‬ولكنه تظاهر بأنه‬
‫جاء يريد محادثة السلطان ويريد أن يعلن اسلمه على يديه‪ ،‬وعند ذلك أشار السلطان للحرس‬
‫بأن يطلقوه فتظاهر بأنه يريد تقبيل يد السلطان وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم‬
‫()‬
‫طعن به السلطان فاستشهد رحمه ال في ‪ 15‬شعبان ‪791‬هـ ‪. 1‬‬
‫أ‪ -‬الكلمات الخيرة للسلطان مراد‪:‬‬
‫" ليسعني حين رحيلي إل أن أشكر ال إنه علم الغيوب المتقبل دعاء الفقير‪ ،‬أشهد إن ل إله‬
‫إل ال ‪ ،‬وليس يستحق الشكر والثناء إل هو‪ ،‬لقد أوشكت حياتي على النهاية ورأيت نصر جند‬
‫السلم‪ .‬أطيعوا ابني يزيد‪ ،‬ولتعذبوا السرى ول تؤذونهم ول تسلبوهم وأودعكم منذ هذه‬
‫( ‪)2‬‬
‫لقد‬ ‫اللحظة وأودع جيشنا الظافر العظيم الى رحمة ال فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء"‬
‫استشهد هذا السلطان العظيم بعد أن بلغ من العمر ‪ 65‬عاما‪.‬‬

‫ب‪ -‬دعاء السلطان مراد قبل إندلع معركة قوصوه‪:‬‬


‫كان السلطان مراد يعلم أنه يقاتل في سبيل ال وأن النصر من عنده ولذلك كان كثير الدعاء‬
‫واللحاح على ال والتضرع إليه والتوكل عليه ومن دعاءه الخاشع نستدل على معرفة السلطان‬
‫مراد لربه وتحقيقه لمعاني العبودية ‪ ،‬يقول السلطان مراد في مناجاته لربه ‪" :‬يا ال يارحيم‬
‫يارب السموات يامن تتقبل الدعاء ل تخزني يارحمن يارحيم استجب دعاء عبدك الفقير هذه‬
‫المرة رسل السماء علينا مدرارا وبدد سحب الظلم فنرى عدونا وما نحن سوى عبيدك المذنبين‬

‫() انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان للقرماني ‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.391‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-80-‬‬
‫إنك الوهاب ونحن فقراؤك‪ .‬ما أنا سوى عبدك الفقير المتضرع‪ ،‬وأنت العليم ياعلم الغيوب‬
‫والسرار وما تخفي الصدور ليس لي من غاية لنفسي ول مصلحة ول يحملني طلب المغنم فأنا‬
‫( ‪)1‬‬
‫أفديك روحي فتقبل رجائي‬ ‫ل أطمع إل في رضاك ياال ياعليم ياموجود في كل الوجود‬
‫ولتجعل المسلمين يبؤ بهم الخذلن أمام العدو‪ .‬ياال ياأرحم الراحمين لتجعلني سببا في موتهم‪،‬‬
‫بل أجعلهم المنتصرين‪ ،‬إن روحي أبذلها فداءً لك يارب إني وددت ولزلت دوما إبغي‬
‫الستشهاد من أجل جند السلم‪ ،‬فل ترني ياإلهي محنتهم واسمح لي ياإلهي هذه المرة أن‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫أستشهد في سبيلك ومن أجل مرضاتك‪"...‬‬
‫وفي رواية ‪( :‬يا إلهي ‪ ،‬أنني أقسم بعزتك وجللك أننى ل أبتغي من جهادي هذه الدنيا‬
‫الفانية‪ ،‬ولكنني أبتغي رضاك‪ ،‬ول شيء غير رضاك ياإلهي‪ ،‬أنني أقسم بعزتك وجللك أنني في‬
‫()‬
‫سبيلك‪ ،‬فزدني تشريفا بالموت في سبيلك" ‪. 3‬‬
‫وفي رواية ‪" :‬ياإلهي ‪ ،‬ومولي ‪ ،‬تقبل دعائي وتضرعي ‪ ،‬وأنزل علينا برحمتك غيثا يطفئ‬
‫من حولنا غبار العواصف‪ ،‬وأغمرنا بضياء يبدد من حولنا الظلمات‪ ،‬حتى نتمكن من ابصار‬
‫مواقع عدونا فنقاتله في سبيل اعزاز دينك العزيز‪.‬‬
‫إلهي ومولي‪ ،‬ان الملك والقوة لك‪ ،‬تمنحها لمن تشاء من عبادك‪ ،‬وأنا عبدك العاجز الفقير‪،‬‬
‫تعلم سري ‪ ،‬وجهري‪ ،‬أقسم بعزتك وجللك انني ل أبتغي من جهادي حطام هذه الدنيا الفانية ‪،‬‬
‫ولكني أبتغي رضاك ول شيء غير رضاك‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬ومولي‪ ،‬أسألك بجاه وجهك الكريم‪ ،‬أن تجعلني فداء للمسلمين جميعا‪ ،‬ول تجعلني‬
‫سببا في هلك أحد من المسلمين في سبيل غير سبيلك القويم‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬ومولي ‪ ،‬ان كان في استشهادي نجاة لجند المسلمين فل تحرمني الشهادة في سبيلك ‪،‬‬
‫() أي موجود بعلمه في كل الوجود‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور ‪ ،‬ص ‪.390‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة ‪ ،‬ص ‪.190‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-81-‬‬
‫لنعم بجوارك ونعم الجوار جوارك‪.‬‬
‫إلهي‪ ،‬ومولي‪ ،‬لقد شرفتني بأن هديتني الى طريق الجهاد في سبيلك ‪ ،‬فزدني شرفا بالموت‬
‫()‬
‫في سبيلك" ‪. 1‬‬
‫إن هذا الدعاء الخاشع دليل على معرفة السلطان مراد ل عز وجل ‪ ،‬وعلى أنه حقق شروط‬
‫كلمة التوحيد (ل إله إل ال) ولقد اجتمعت شروطها في سلوكه وحياته فهو على ‪:‬‬
‫‪ -‬علم بمعناها المراد بها نفيا وإثباتا المنافي للجهل بذلك قال تعالى‪{ :‬فاعلم أنه ل إله إل ال}‬
‫(سورة محمد ‪ :‬آية ‪.)19‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬إل من شهد بالحق وهم يعلمون} (سورة الزخرف‪ :‬آية ‪ .)86‬أي بـ " ل إله إل‬
‫ال" وهم يعلمون "بقلوبهم مانطقوا به بألسنتهم ‪.‬‬
‫‪ -‬اليقين المنافي للشك‪ ،‬فقد كان السلطان مراد مستقينا بمدلول هذه الكلمة‪ ،‬يقينا جازما‪ ،‬فإن‬
‫()‬
‫اليمان ليغني فيه إل علم اليقين ل علم الظن ‪ . 2‬قال تعالى‪{ :‬إنما المؤمنون الذين آمنوا بال‬
‫ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل ال أولئك هم الصادقون} (سورة‬
‫الحجرات‪ :‬آية ‪.)15‬‬
‫‪ -‬قبوله لما أقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه‪ ،‬وانقياده لما دلت عليه من أوامر واجتناب‬
‫للنواهي قال تعالى‪{ :‬ومن يسلم وجهه الى ال وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} (سورة‬
‫لقمان‪ :‬آية ‪.)22‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬فل وربك ليؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم ليجدوا في أنفسهم حرجا‬
‫مما قضيت ويسلموا تسليما} (سورة‬
‫‪ -‬كان صادقا مع ربه‪ ،‬مخلصا اخلصا طهر به شوائب الشرك من نفسه قال تعالى‪{ :‬وما‬

‫() جوانب مضيئة ‪ ،‬ص ‪.40،41‬‬ ‫‪1‬‬


‫() معارج القبول (‪.)2/419‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-82-‬‬
‫أمروا إل ليعبدوا ال مخلصين له الدين حنفاء}(سورة البينة‪ :‬آية ‪.)5‬‬
‫‪ -‬كان مخلصا لخالقه مستعدا لبذل النفس والمال في سبيله قال تعالى‪{ :‬ومن الناس من يتخذ‬
‫من دون ال أندادا يحبونهم كحب ال والذين آمنوا أشدُ حبا ل‪( }...‬سورة البقرة‪ :‬آية ‪.)165‬‬
‫وقال تعالى ‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي ال بقوم يحبهم ويحبونه‬
‫أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل ال ول يخافون لومة لئم‪( }...‬سورة‬
‫المائدة‪ :‬آية ‪.)54‬‬
‫وفي الحديث الصحيح‪" :‬ثلث من كن فيه وجد بهن حلوة اليمان‪ :‬أن يكون ال ورسوله‬
‫أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ل يحبه إل ل‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن‬
‫()‬
‫أنقذه ال منه كما يكره أن يقذف في النار" ‪. 1‬‬
‫لقد فهم السلطان مراد حقيقة اليمان وكلمة التوحيد وذاق آثارها في حياته‪ ،‬فنشأت في نفسه‬
‫آنفة وعزة مستمدة من اليمان بال ‪ ،‬فايقن أنه ل نافع إل ال‪ ،‬فهو المحي والمميت‪ ،‬وهو‬
‫صاحب الحكم والسلطة والسيادة ومن ثم نزع من قلبه كل خوف إل منه سبحانه‪ ،‬فلم يطأطأ‬
‫راسه أمام احد من الخلق‪ ،‬ول يتضرع إليه‪ ،‬ول يرتع من كبريائه وعظمته‪ ،‬لنه على يقين بأن‬
‫ال هو القادر العظيم ‪ ،‬ولقد اكسبه اليمان بال قوة عظيمة من العزم والقدام والصبر والثبات‬
‫والتوكل والتطلع الى معالي المور ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى‪ ،‬فكان في المعارك التي‬
‫خاضها ثابتا كالجبال الراسية وكان على يقين راسخ بأن المالك الوحيد لنفسه وماله هو ال‬
‫سبحانه وتعالى ولذلك لم يبالي بأن يضحي في سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص‪.‬‬
‫أن السلطان مراد عاش حقيقة اليمان ولذلك اندفع الى ساحات الجهاد‪ ،‬وبذل مايملكه من أجل‬
‫دعوة السلم‪.‬‬
‫لقد قاد السلطان مراد الشعب العثماني ثلثين سنة بكل حكمة ومهارة ل يضاهيه فيها احد من‬

‫() البخاري‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب حلوة اليمان (‪ )1/11‬رقم ‪.16‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪-83-‬‬
‫ساسة عصره قال المؤرخ البيزنطي هالكو نديلس عن مراد الول ‪( :‬قام مراد بأعمال هامة‬
‫كثيرة‪ .‬دخل ‪ 37‬معركة سواء في الناضول أو في البلقان ‪ ،‬وخرج منها جميعا ظافرا‪ ،‬وكان‬
‫()‬
‫يعامل رعيته معاملة شفوقة دون النظر لفوارق العرق والدين) ‪. 1‬‬
‫ويقول عنه المؤرخ الفرنسي كرينارد‪( :‬كان مراد واحدا من اكبر رجالت آل عثمان ‪ ،‬وإذا‬
‫()‬
‫قوّمنا تقويما شخصيا ‪ ،‬نجده في مستوى أعلى من كل حكام أوروبا في عهده) ‪. 2‬‬
‫لقد ورث مراد الول عن والده إمارة كبيرة بلغت ‪95.000‬كيلومتر مربع وعند استشهاده ‪،‬‬
‫تسلم أبنه بايزيد هذه المارة العثمانية بعد أن بلغت ‪500.000‬كليومتر مربع بمعنى أنها زادت‬
‫()‬
‫في مدى حوالي ‪ 29‬سنة أكثر خمسة أمثال ماتركها له والده أوروخان ‪. 3‬‬
‫أما النتائج التي ترتبت على انتصار المسلمين في معركة قوصوه ما يلي‪:‬‬
‫‪.1‬انتشار السلم في منطقة البلقان وتحول عدد كبير من الشراف القدامى والشيوخ الى‬
‫السلم بمحض إرادتهم ‪.‬‬
‫‪.2‬اضطرت العديد من الدول الوروبية الى أن تخطب ود الدولة العثمانية ‪ ،‬فبادرت بعضها‬
‫بدفع الجزية لهم‪ ،‬وقام البعض الخر بإعلن ولئه للعثمانيين خشية قوتهم واتقاء غضبهم‪.‬‬
‫‪.3‬أمتدت سلطة العثمانيين على أمراء المجر ورومانيا والمناطق المجاورة للدرياتيك حتى‬
‫()‬
‫وصل نفوذهم الى ألبانيا ‪. 4‬‬

‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪1‬‬


‫()انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬د‪.‬عبدالعزيز العمري‪ ،‬ص ‪.388‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-84-‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫السلطان بايزيد الول‬
‫‪ 791-805‬هـ‪1402-1389/‬م‬

‫بعد استشهاد السلطان مراد تولى الحكم أبنه بايزيد‪ ،‬وكان شجاعا شهما كريما متحمسا‬
‫للفتوحات السلمية‪ ،‬ولذلك أهتم اهتماما كبيرا بالشؤون العسكرية فاستهدف المارات المسيحية‬
‫في الناضول وخلل عام اصبحت تابعة للدولة العثمانية ‪ ،‬وكان بايزيد كمثل البرق في تحركاته‬
‫()‬
‫بين الجبهتين البلقانية والناضولية ولذلك أطلق عليه لقب "الصاعقة" ‪. 1‬‬

‫أولً‪ :‬سياسته مع الصرب‪:‬‬


‫شرع بايزيد في إقامة علقات ودية مع الصرب مع أنهم كانوا السبب في قيام تحالف بلقاني‬
‫ضد الدولة العثمانية وكان غرض بايزيد من هذه العلقة اتخاذ دولة الصرب كحاجز بينه وبين‬
‫المجر‪ ،‬وكان يشعر بضرورة اتخاذ حليف له في سياسته العسكرية النشطة التي استهدفت‬
‫المارات السلجوقية التركية السلمية في آسيا الصغرى ولذلك وافق بايزيد على أن يحكم‬
‫الصرب ابنا الملك (لزار) الذي قتل في معركة قوصوة وفرض عليهما أن يكونا حاكمين على‬
‫صربيا‪ ،‬يحكمانها حسب قوانين بلد الصرب واعرافها وتقاليدها وعاداتها‪ ،‬وأن يدينان له‬
‫( ‪)2‬‬
‫بالولء ويقدمان له جزية وعددا معينا من الجنود يشتركون في فرقة خاصة بهم في حروية‬
‫وتزوج ابنة الملك لزار‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬اخضاع بلغاريا للسيادة العثمانية‪:‬‬


‫بعد أن تم التفاهم مع الصرب وجه بايزيد ضربه خاطفة في عام (‪797‬هـ‪1393/‬م) الى‬

‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الجديث ‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-85-‬‬
‫بلغاريا‪ ،‬فاستولى عليها وإخضع سكانها ‪ ،‬وبذلك فقدت البلد استقللها السياسي‪ .‬وكان لسقوط‬
‫بلغاريا في قبضة الدولة العثمانية صدى هائل في أوروبا وانتشر الرعب والفزع والخوف‬
‫()‬
‫أنحاءها وتحركت القوى المسيحية الصليبية للقضاء على الوجود العثماني في البلقان ‪. 1‬‬

‫ثالثا‪ :‬التكتل الدولي المسيحي الصليبي ضد الدولة العثمانية‪:‬‬


‫قام سيجسموند ملك المجر والبابا بونيفاس التاسع بالدعوة لتكتل اوروبي صليبي مسيحي ضد‬
‫الدولة العثمانية وكان ذلك التكتل من أكبر التكتلت التي واجهتها الدولة العثمانية في القرن‬
‫الرابع عشر‪ ،‬من حيث عدد الدول التي اشتركت فيه‪ ،‬ثم أسهمت فيه بالسلح والعتاد والموال‬
‫والقوات وبلغ العدد الجمالي لهذه الحملة الصليبية ‪ 120.000‬مقاتل من مختلف الجنسيات‬
‫(ألمانيا وفرنسا إنجلترا واسكتلندا وسويسرا ولوكسمبرج والراضي المنخفضة الجنوبية وبعض‬
‫()‬
‫المارات اليطالية) ‪. 2‬‬
‫وتحركت الحملة عام (‪800‬هـ‪1396/‬م) الى المجر‪ ،‬ولكن زعمائها وقادتها اختلفوا مع‬
‫سيجسموند قبل بدء المعركة‪ .‬فقد كان سيجسموند يؤثر النتظار حتى يبدأ العثمانيون الهجوم‪،‬‬
‫ولكن قواد الحملة شرعوا بالهجوم‪ ،‬وانحدروا مع نهر الدانوب حتى وصلوا الى نيكوبوليس‬
‫شمال البلقان وبدؤوا في حصارها وتغلبوا في أول المر على القوات العثمانية‪ ،‬إل أن بايزيد‬
‫ظهر فجأة ومعه حوالي مئة ألف جندي‪ ،‬وهو عدد يقل قليلً عن التكتل الوروبي الصليبي‪،‬‬
‫ولكنه يتفوق عليهم نظاما وسلحا ‪ ،‬فانهزم معظم النصارى ولذوا بالفرار والهروب وقتل‬
‫وأسر عدد من قادتهم‪ .‬وخرج العثمانيون من معركة نيكوبوليس بغنائم كثيرة وفيرة واستولوا‬
‫()‬
‫على ذخائر العدو ‪ . 3‬وفي نشوة النصر والظفر قال السلطان بايزيد انه سيفتح ايطاليا ويطعم‬

‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.24،25‬‬ ‫‪2‬‬
‫() الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.42‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-86-‬‬
‫()‬
‫حصانه الشعير في مذبح القديس بطرس برومة ‪. 1‬‬
‫لقد وقع كثير من اشراف فرنسا منهم الكونت دي نيفر نفسه في السر ‪ ،‬فقبل السلطان بايزيد‬
‫دفع الفدية وأطلق سراح السرى والكونت دي ينفر وكان قد ألزم بالقسم على أن ل يعود‬
‫لمحاربته قال له أني أجيز لك أن لتحفظ هذا اليمين فأنت في حل من الرجوع لمحاربتي إذ‬
‫()‬
‫لشيء أحب إليّ من محاربة جميع مسيحي أوروبا والنتصار عليهم ‪. 2‬‬
‫أما سجسموند ملك المجر كان قد بلغ به الغرور والعتداد بجيشه وقوته أن قال‪ :‬لو انقضت‬
‫السماء عليائها لمسكناها بحرابنا ‪ -‬فقد ولى هاربا ومعه رئيس فرسان رودس ولما بلغا في‬
‫فرارهما شاطئ البحر السود وجد هناك السطول النصراني فوثبا على احدى السفن وفرت‬
‫بهما مسرعة ل تلوي على شيء وتضاءلت مكانة المجر في عيون المجتمع الوروبي بعد‬
‫( ‪)3‬‬
‫لقد كان ذلك النصر المظفر له‬ ‫معركة نيكويوليس وتبخر ما كان يحيط بها من هيبة ورهبة‬
‫أثر على بايزيد والمجتمع السلمي‪ ،‬فقام بايزيد ببعث رسائل الى كبار حكام الشرق السلمي‬
‫يبشرهم بالنتصار العظيم على النصارى‪ ،‬واصطحب الرسل معهم الى بلطات ملوك المسلمين‬
‫مجموعة منتقاة من السرى المسيحين باعتبارهم هدايا من المنتصر ودليلً ماديا على انتصاره‪.‬‬
‫واتخذ بايزيد لقب (سلطان الروم) كدليل على وراثته لدولة السلجقة وسيطرته على كل شبه‬
‫جزيرة الناضول‪ .‬كما أرسل الى الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة يطلب منه أن يقر هذا اللقب‬
‫حتى يتسنى له بذلك أن يسبغ على السلطة التي مارسها هو وأجداده من قبل طابعا شرعيا‬
‫رسميا فتزداد هيبته في العالم السلمي‪ ،‬وبالطبع وافق السلطان المملوكي برقوق حامي الخليفة‬
‫العباسي على هذا الطلب لنه يرى بايزيد حليفه الوحيد ضد قوات تيمورلنك التي كانت تهدد‬
‫الدولة المملوكية والعثمانية وهاجر الى الناضول آلف المسلمين الذين قدموا لخدمة الدولة‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬د‪.‬سالم الرشيدي‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية ‪ ،‬محمد فريد بك‪ ،‬ص ‪.144‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬د‪.‬سالم الرشيدي‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-87-‬‬
‫العثمانية ‪ ،‬وكانت الهجرة مليئة بالجنود وممن أسهموا في الحياة القتصادية والعلمية والحكومية‬
‫في إيران والعراق ومارواء النهر‪ -‬هذا بالضافة الى الجموع التي فرت من أمام الزحف‬
‫()‬
‫التيمورلنكي على آسيا الوسطى ‪. 1‬‬

‫رابعا‪ :‬حصار القسطنطينية‪:‬‬


‫استطاع بايزيد قبل معركة نيكوبوليس أن يشدد النكير على المبراطورية البيزنطية وأن‬
‫يفرض على المبراطور أن يعين قاضيا في القسطنطينية للفصل في شؤون المسلمين وما لبث‬
‫أن حاصر العاصمة البيزنطية وقبل المبراطور إيجاد محكمة اسلمية وبناء مسجد وتخصيص‬
‫‪ 700‬منزل داخل المدينة للجالية السلمية‪ ،‬كما تنازل لبايزيد عن نصف حي غلطة الذي‬
‫وضعت فيه حامية عثمانية قوامها ‪ 6.000‬جندي وزيد الجزية المفروضة على الدولة‬
‫البيزنطية‪ ،‬وفرضت الخزانة العثمانية رسوما على الكروم ومزارع الخضروات الواقعة خارج‬
‫()‬
‫المدينة‪ .‬وأخذت المآذن تنقل الذان الى العاصمة البيزنطية ‪. 2‬‬
‫وبعد النتصار العظيم الذي حققه العثمانيون في معركة نيكوبوليس ثبت العثمانيون أقدامهم‬
‫في البلقان‪ ،‬حيث انتشر الخوف والرعب بين الشعوب البلقانية‪ ،‬وخضعت البوسنة وبلغاريا الى‬
‫الدولة العثمانية واستمر الجنود العثمانيون يتتبعون فلول النصارى في ارتدادهم ‪ .‬وعاقب‬
‫( ‪)3‬‬
‫السلطان بايزيد حكام شبه جزيرة المورة الذين قدموا مساعدة عسكرية للحلف الصليبي‬
‫وعقابا للمبراطور البيزنطي على موقفه المعادي طلب بايزيد منه أن يسلم القسطنطينية وإزاء‬
‫ذلك استنجد المبراطور مانويل بأوروبا دون جدوى‪ .‬والحق أن الستيلء على القسطنطينية‬
‫كان هدفا رئيسيا في البرنامج الجهادي للسلطان بايزيد الول‪ .‬ولذلك فقد تحرك على رأس‬

‫() أنظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني ‪ ،‬أحمد عبدالحليم‪ ،‬ص ‪.54،55‬‬ ‫‪1‬‬
‫() نفس المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.53‬‬ ‫‪2‬‬
‫() الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.42‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-88-‬‬
‫جيوشه وضرب حصارا محكما حول العاصمة البيزنطية وضغط عليها ضغطا لهوادة فيه‬
‫واستمر الحصار حتى اشرفت المدينة في نهايتها على السقوط‪ -‬بينما كانت أوروبا تنظر سقوط‬
‫العاصمة العتيدة بين يوم وآخر إذا السلطان ينصرف عن فتح القسطنطينية لظهور خطر جديد‬
‫()‬
‫على الدولة العثمانية ‪. 1‬‬

‫خامسا‪ :‬الصدام بين تيمورلنك وبايزيد‪:‬‬


‫ينتمي تيمورلنك الى السر النبيلة في بلد ماوراء النهر ‪ ،‬وفي عام ‪1369‬م جلس على‬
‫عرش خراسان وقاعدته سمرقند‪ .‬واستطاع أن يتوسع بجيوشه الرهيبة وأن يهيمن على القسم‬
‫الكبر من العالم السلمي؛ فقد انتشرت قواته الضخمة في آسيا من دلهي الى دمشق‪ ،‬ومن بحر‬
‫آرال الى الخليج العربي وأحتل فارس وأرمينيا وأعالي الفرات ودجلة والمناطق الواقعة بين‬
‫بحر قزوين الى البحر السود وفي روسيا سيطر على المناطق الممتدة بين أنهار الفولجا‬
‫والدون والدنيبر وأعلن بأنه سيسيطر على الرض المسكونة ويجعلها ملكا له وكان يردد‪" :‬أنه‬
‫( ‪)2‬‬
‫وقد‬ ‫يجب أل يوجد سوى سيد واحد على الرض طالما أنه ليوجد إل إله واحد في السماء"‬
‫اتصف تيمورلنك بالشجاعة والعبقرية الحربية والمهارة السياسية وكان قبل أن يقرر أمر أن‬
‫يجمع المعلومات ويرسل الجواسيس ثم يصدر أوامره بعد تروي وتأني بعيدة عن العجلة وكان‬
‫من الهيبة بحيث أن جنوده كانوا يطيعون أوامره أيا كانت‪.‬‬
‫وكان تيمور باعتباره مسلما يرعى العلماء ورجال الدين وبخاصة اتباع الطريقة‬
‫()‬
‫النقشبندية ‪. 3‬‬
‫وكانت هناك عوامل واسباب ساهمت في إيجاد صراع بين تيمورلنك وبايزيد منها‪:‬‬

‫() الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬اسماعيل احمد‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪1‬‬


‫() في اصول التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.56‬‬ ‫‪2‬‬
‫() في أصول التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.56‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-89-‬‬
‫‪.1‬لجأ أمراء العراق الذين استولى تيمور على بلدهم الى بايزيد‪ ،‬كما لجأ الى تيمور بعض‬
‫أمراء آسيا الصغرى ‪ -‬وفي كل الجانبين كان اللجئون يحرضون من استجاروا به على شن‬
‫الحرب ضد الطرف الخر ‪.‬‬
‫‪.2‬تشجيع النصارى لتيمورلنك ودفعه للقضاء على بايزيد ‪.‬‬
‫‪.3‬الرسائل النارية بين الطرفين ‪ ،‬ففي إحدى الرسائل التي بعث بها تيمور الى بايزيد أهانه‬
‫ضمنيا حين ذكّره بغموض أصل أسرته ‪ ،‬وعرض عليه العفو على أعتبار أن آل عثمان قد‬
‫قدموا خدمات جليلة الى السلم‪ ،‬ولو أنه اختتم رسالته ‪-‬بصفته زعيما للترك‪ -‬باستصغار‬
‫()‬
‫شأن بايزيد الذي قبل التحدي وصرح بأنه سيتعقب تيمور الى تبريز وسلطانية ‪. 1‬‬
‫وكان الزعيمان تيمور لنك وبايزيد يسعى كل منهما لتوسيع دولته ‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬انهيار الدولة العثمانية‪:‬‬


‫تقدم تيمورلنك بجيوشه واحتل سيواس‪ ،‬وأباد حاميتها التي كان يقودها المير أرطغرل بن‬
‫بايزيد والتقى الجيشان قرب أنقرة في عام ‪804‬هـ‪1402/‬م وكانت قوات بايزيد تبلغ‬
‫‪ 120.000‬مجاهد لملقاة خصمه وزحف تيمورلنك على رأس قوات جرارة في ‪ 20‬يوليو‬
‫‪804( 1402‬هـ) وانتصر المغول ووقع بايزيد في السر وظل يرسف في أغلله حتى وافاه‬
‫()‬
‫الجل في السنة التالية ‪. 2‬‬
‫وكانت الهزيمة بسبب اندفاع وعجلة بايزيد فلم يحسن اختيار المكان الذي نزل فيه بجيشه‬
‫الذي لم يكن يزيد عن مئة وعشرين ألف مقاتل بينما كان جيش خصمه ل يقل عن ثمانمائة‬
‫ألف‪ ،‬ومات كثير من جنود بايزيد عطشا لقلة الماء وكان الوقت صيفا شديد القيظ‪ .‬ولم يكد‬

‫() المصدر السابق نفسه ‪،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.2،3‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-90-‬‬
‫يلتقي الجيشان في انقرة حتى فر الجنود التتار الذين كانوا في جيش يزيد وجنود المارات‬
‫السيوية التي فتحها منذ عهد قريب وانضموا الى جيش تيمورلنك ولم يجد السلطان العثماني‬
‫()‬
‫بعد ذلك ما اظهره هو وبقية جيشه من الشجاعة والستماتة في القتال ‪. 1‬‬
‫لقد فرحت الدول النصرانية في الغرب بنصر تيمورلنك وهزها الطرب لمصرع بايزيد‬
‫وماآلت إليه دولته من التفكك والنحلل وبعث ملوك انجلترا وفرنسا وقشتالة وامبراطور‬
‫القسطنطينية الى تيمورلنك يهنئونه على ما احرزه من النصر العظيم والظفر المجيد واعتقدت‬
‫()‬
‫أوروبا انها قد تخلصت الى البد من الخطر العثماني الذي طالما روعها وهددها ‪. 2‬‬
‫واستولى تيمورلنك بعد هزيمة بايزيد على ازنيق وبروسة وغيرها من المدن والحصون ثم‬
‫( ‪)3‬‬
‫(فرسان القديس يوحنا) ‪ ،‬محاولً بذلك‬ ‫دك اسوار ازمير وخلصها من قبضة فرسان رودس‬
‫أن يبرر موقفه أمام الرأي العام السلمي الذي أتهمه بأنه وجه ضربة شديدة الى السلم‬
‫بقضائه على الدولة العثمانية وحاول تيمورلنك بقتاله لفرسان القديس يوحنا أن يضفي على‬
‫()‬
‫معارك الناضول طابع الجهاد ‪. 4‬‬
‫كما أعاد تيمورلنك أمراء آسيا الصغرى الى أملكهم السابقة‪ ،‬ومن ثم استرجاع المارات‬
‫التي ضمها بايزيد لستقللها كما بذر تيمور بذور الشقاق بين أبناء بايزيد المتنازعين على‬
‫()‬
‫العرش ‪. 5‬‬

‫سابعا‪ :‬الحروب الداخلية‪:‬‬


‫لقد تعرضت الدولة العثمانية لخطر داخلي تمثل في نشوب حرب أهلية في الدولة بين أبناء‬
‫() محمد الفاتح‪ ،‬د‪.‬سالم الرشيدي‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪1‬‬
‫() محمد الفاتح‪ ،‬د‪.‬سالم الرشيدي ‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.59‬‬ ‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.59‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-91-‬‬
‫()‬
‫بايزيد على العرش واستمرت هذه الحرب عشر سنوات (‪816-806‬هـ‪1413-1403/‬م) ‪. 1‬‬
‫كان لبايزيد خمسة أبناء اشتركوا معه في القتال ‪ ،‬أما مصطفى فقد ظن أنه قتل في المعركة‪،‬‬
‫أما موسى فقد أسر مع والده ونجح الثلثة الخرون في الفرار‪ .‬أما أكبرهم سليمان فقد ذهب‬
‫الى أدرنة وأعلن نفسه سلطانا هناك‪ ،‬وذهب عيسى الى بروسة وأعلن للناس أنه خليفة أبيه‪،‬‬
‫ونشبت الحرب بين هؤلء الخوة الثلثة يتنازعون بينهم اشلء الدولة الممزقة والعداء‬
‫يتربصون بهم من كل جانب‪ .‬ثم اطلق تيمورلنك المير موسى ليؤجج به نار الفتنة ويزيدها‬
‫()‬
‫ضراما وشدة واخذ يحرضهم على القتال ويغري بعضهم ببعض ‪. 2‬‬
‫وبعد عام ارتحل تيمورلنك بجيشه الخضر واليابس وترك وراءه البلد على اسوأ حال من‬
‫()‬
‫الدمار والخراب والفوضى ‪. 3‬‬
‫لقد كانت هذه المرحلة في تاريخ الدولة العثمانية مرحلة اختبار وابتلء سبقت التمكين الفعلي‬
‫المتمثل في فتح القسطنطينية‪ ،‬ولقد جرت سنة ال تعالى أل يمكن لمة إل بعد أن تمر بمراحل‬
‫الختبار المختلفة‪ ،‬وإل بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الحداث‪ ،‬فيميز ال الخبيث من الطيب‪،‬‬
‫وهي سنة جارية على المة السلمية ل تتخلف‪ .‬فقد شاء ال ‪-‬تعالى‪ -‬أن يبتلي المؤمنين‪،‬‬
‫ويختبرهم‪ ،‬ليمحص إيمانهم‪ ،‬ثم يكون لهم التمكين في الرض بعد ذلك‪.‬‬
‫وابتلء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص‪ ،‬ليقوم بنيانهم بعد ذلك على‬
‫تمكين ورسوخ قال تعالى‪{ :‬أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم ليفتنون ولقد فتنا الذين‬
‫من قبلهم فليعلمن ال الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (سورة العنكبوت‪ :‬آية ‪.)2،3‬‬
‫"الفتنة‪ :‬المتحان بشدائد التكليف من مفارقة الوطان‪ ،‬ومجاهدة العداء وسائر الطاعات‬
‫الشاقة‪ ،‬وهجر الشهوات وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في النفس والمور ‪ ،‬ومصابرة‬
‫() الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-92-‬‬
‫()‬
‫الكفار على أذاهم وكيدهم" ‪. 1‬‬
‫قال ابن كثير ‪-‬رحمه ال‪( : -‬والستفهام في قوله تعالى‪{ :‬أحسب الناس} إنكاري ومعناه‪ :‬أن‬
‫( ‪)2‬‬
‫كما جاء في الحديث‬ ‫ال سبحانه لبد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ماعندهم من اليمان)‬
‫الصحيح ‪" :‬أشد الناس بلء النبياء ثم الصالحون ثم المثل فالمثل‪ : ،‬يبتلي الرجل على حسب‬
‫()‬
‫دينه فإن كان في دينه صلبة زيد له في البلء ‪. 3‬‬
‫أن البتلء صفة لزمة للمؤمن ‪ ،‬حيث قال ‪" :‬مثل المؤمن كمثل‬ ‫ولقد بين رسول ال‬
‫الزرع لتزال الريح تميله وليزال المؤمن يصيبه البلء‪ ،‬ومثل المنافق كمثل شجرة الرز‬
‫()‬
‫لتهتز حتى تستحصد" ‪. 4‬‬
‫إن سنة البتلء جارية في المم والدول والشعوب والمجتمعات ولذلك جرت سنة ال‬
‫بالبتلء بالدولة العثمانية‪.‬‬
‫صمد العثمانيون لمحنة أنقرة بالرغم مما عانوه من خلفات داخلية‪ ،‬الى أن أنفرد محمد‬
‫الول بالحكم في عام ‪1413‬م‪ ،‬وأمكنه لم شتات الراضي التي سبق للدولة أن فقدتها‪ ،‬إن إفاقة‬
‫الدولة من كارثة أنقرة يرجع الى منهجها الرباني الذي سارت عليه حيث جعل من العثمانيين‬
‫أمة متفوقة في جانبها العقدي والديني والسلوكي والخلقي والجهادي وبفضل ال حافظ‬
‫( ‪)5‬‬
‫ثم بسبب المهارة النادرة التي نظم بها‬ ‫العثمانيون على حماستهم الدينية وأخلقهم الكريمة‬
‫أورخان وأخوه علء الدين دولتها الجديدة وإدارة القضاء المثيرة للعجاب والتعليم المتواصل‬
‫لبناء وشباب العثمانيين وغير ذلك من السباب التي جعلت في العثمانيين قوة حيوية كاملة ‪،‬‬
‫() تفسير النسفي (‪.)3/249‬‬ ‫‪1‬‬
‫() تفسير ابن كثير (‪.)3/405‬‬ ‫‪2‬‬
‫() سنن الترمذي (‪ )4/601‬حديث حسن صحيح‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫() مسلم شرح النووي‪ ،‬كتاب القيامة والجنة والنار (‪.)17/151‬‬ ‫‪4‬‬
‫() في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.61‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-93-‬‬
‫فما لبثت هذه الدولة بعد كارثة أنقرة إل انبعثت من جديد من بين النقاض والطلل وانتعشت‬
‫وسرى في عروقها ماء الحياة‪ ،‬وروح الشريعة‪ ،‬واستأنفت سيرها الى المام في عزم وإصرار‬
‫()‬
‫حير العداء والصدقاء ‪. 1‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫السلطان محمد الول‬

‫()‬
‫ولد السلطان محمد الول عام (‪781‬هـ‪1379/‬م) ‪ ، 2‬وتولى أمر المة بعد وفاة والده بايزيد‬
‫وعرف في التاريخ (بمحمد جلبي) ‪.‬‬
‫كان متوسط القامة ‪ ،‬مستدير الوجه‪ ،‬متلصق الحاجبين‪ ،‬ابيض البشرة ‪ ،‬أحمر الخدين‪ ،‬واسع‬
‫الصدر‪ ،‬صاحب بدن قوي‪ ،‬في غاية النشاط وجسورا ‪ ،‬يمارس المصارعة‪ ،‬ويسحب أقوى‬
‫( ‪)3‬‬
‫استطاع السلطان‬ ‫أوتار القواس‪ .‬اشترك اثناء حكمه في ‪ 24‬حربا واصيب بأربعين جرحا‬
‫محمد جلبي أن يقضي على الحرب الهلية بسبب ما أوتي من الحزم والكياسة وبعد النظر‬
‫وتغلب على أخوته واحدا واحدا حتى خلص له المر وتفرد بالسلطان وقضي سني حكمه‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬اخطاء يجب أن تصحح (الدولة العثمانية) ‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-94-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ويعتبره بعض المؤرخين المؤسس الثاني للدولة‬ ‫الثماني في إعادة بناء الدولة وتوطيد اركانها‬
‫()‬
‫العثمانية ‪. 2‬‬
‫ومما يؤثر عن هذا السلطان أنه استعمل الحزم مع الحلم في معاملة من قهرهم ممن شق‬
‫عصا طاعة الدولة فإنه لما قهر أمير بلد القرمان وكان قد استقل عفا عنه بعد أن أقسم له على‬
‫( ‪)3‬‬
‫وكانت‬ ‫القرآن الشريف بأن ل يخون الدولة فيما بعد وعفا عنه ثانية بعد أن حنث في يمينه‬
‫سياسته تهدف الى إعادة بناء الدولة وتقويتها من الداخل ولذلك سالم امبراطور القسطنطينية‬
‫وحالفه وأعاد إليه بعض المدن على شاطئ البحر السود وفي تساليا وصالح البندقية بعد هزيمة‬
‫اسطوله أمام كليتبولي وقمع الفتن والثورات في آسيا وأوروبا واخضع بعض المارات السيوية‬
‫()‬
‫التي أحياها تيمورلنك ودانت له بالطاعة والولء ‪. 4‬‬
‫وظهر في زمن السلطان محمد شخص يسمى بدرالدين انتحل صفة علماء الدين السلمي‬
‫وكان في جيش موسى اخو السلطان محمد وتولى منصب قاضي العسكر أعلى مناصب الدولة‬
‫العثمانية وقتئذ‪ ،‬وكان هذا القاضي قد احتضنه موسى بن بايزيد‪.‬‬
‫قال صاحب الشقائق النعمانية‪( :‬الشيخ بدر الدين محمود بن اسرائيل‪ ..‬المشهور بابن قاضي‬
‫سيماونه ولد في قلعة سيماونه في بلد الروم إحدى قرى أدرنة التي تقع في الجزء الوروبي‬
‫من تركيا‪ ،‬كان أبوه قاضيا لها وكان أيضا أمير على عسكر المسلمين (فيها) وكان فتح تلك‬
‫القلعة على يده أيضا ‪ ...‬ولدة الشيخ بدرالدين كانت في زمن السلطان الغازي خداوندكار‬
‫(مراد الول) من سلطين آل عثمان‪ ،‬ثم أخذ الشيخ العلم في صباه عن والده ‪...‬وحفظ القرآن‬
‫العظيم وقرأ على المولى المشتهر بالشاهدي‪ ،‬وتعلم الصرف والنحو عن مولنا يوسف‪ ،‬ثم‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين العثمانيون ‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪2‬‬
‫() تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬ص ‪.249‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-95-‬‬
‫ارتحل الى الديار المصرية‪.‬وقرأ هناك مع (اي مزمل) السيد الشريف الجرجاني ‪ ،‬على مولنا‬
‫مبارك شاه المنطقي المدرس بالقاهرة‪ ،‬ثم حج مع مبارك شاه وقرأ بمكة على الشيخ الزيعلي ‪،‬‬
‫ثم قدم القاهرة‪ ،‬وقرأ مع السيد الجرجاني على الشيخ أكمل الدين (البايبوري) وقرأ على الشيخ‬
‫المذكور (اي تعلم وتتلمذ على يد الشيخ بدر الدين) السلطان فرج ابن السلطان برقوق ملك‬
‫مصر (سلطان مصر المملوكي برقوق)‪.‬‬
‫ثم أدركته (اي الشيخ بدرالدين) الجذبة اللهية‪ ،‬والتجأ الى كنف الشيخ سعيد الخلطي‬
‫الساكن بمصر وقتئذ وحصل عنده ماحصل (اي اصبح مريده)‪ .‬وأرسله الشيخ اخلطي الى بلدة‬
‫تبريز للرشاد (الصوفي) حكى انه لما جاء تيمورلنك تبريز ‪...‬نال (اي بدر الدين) من المير‬
‫المذكور (تيمورلنك) مالً جزيلً بالغا الى نهايته‪ ،‬ثم ترك الشيخ الكل‪ ،‬ولحق ببدليس ثم سافر‬
‫الى مصر‪..‬ثم الى حلب ثم الى قونية ثم الى تبرة من بلد الروم ثم دعاه رئيس جزيرة ساقز‬
‫(وهو نصراني ) فأسلم على يدي الشيخ‪...‬ثم لما تسلطن موسى من أولد عثمان الغازي نصب‬
‫الشيخ (اي جعل من الشيخ بدر الدين) قاضيا لعسكره ثم أن أخا موسى (محمدا) قتل موسى‬
‫()‬
‫وحبس الشيخ مع أهله وعياله ببلدة أزنيق) ‪. 1‬‬
‫وفي أزنيق ‪ -‬وهي مدينة في تركيا‪ -‬بدأ الشيخ بدر الدين محمود بن اسرائيل يدعو الى‬
‫مذهبه الفاسد‪ ،‬فكان يدعو الى المساواة في الموال‪ ،‬والمتعة ‪ ،‬والديان‪ ،‬وليفرق بين المسلم‬
‫وغير المسلم في العقيدة‪ ،‬فالناس أخوة مهما اختلفت عقائدهم وأديانهم وهو ماتدعو إليه الماسونية‬
‫اليهودية ‪ ،‬وانضم الى هذه الدعوة الباطلة كثير من الغبياء والجهلة وأصحاب الغراض الدنيئة‬
‫وأصبح للمفسد بدرالدين تلميذ يدعون الى منهجه ومذهبه ومن أشهر هؤلء الدعاة شخص‬
‫يسمى (بير قليجة مصطفى) وآخر يقال إنه من أصل يهودي هو (طوره كمال) واليهود دائما‬
‫وحتى عصرنا هذا‪.‬‬ ‫خلف المؤامرات من زمن النبي‬

‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪ 133،134‬نقله عن الشقائق النعمانية مخطوط (ل له لي )‬ ‫‪1‬‬
‫بالسليمانية رقم ‪.2076‬‬
‫‪-96-‬‬
‫وشاع أمر هذا المذهب الفاسد وكثر أتباعه وتصدى السلطان محمد جلبي لهذا المذهب الباطل‬
‫وأرسل أحد قواده على رأس جيش كبير لمحاربة بدر الدين وللسف قتل القائد سيسمان الذي‬
‫ارسله محمد جلبي على يد الخائن (بير قليجة) وهزم جيشه وأعد السلطان محمد جلبي جيشا‬
‫آخر بقيادة وزيره الول (بايزيد باشا) ‪ ،‬فحارب (بير قليجة) وأنتصر عليه في موقعة (قره‬
‫( ‪)1‬‬
‫الذي يقول‪{ :‬إنما‬ ‫بورنو) وبعدها أقيم حد الحرابة على (بير قليجة مصطفى) امتثالً لمر ال‬
‫جزاء الذين يحاربون ال ورسوله ويسعون في الرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع‬
‫أيديهم وأرجلهم من خلف أو ينفوا من الرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الخرة عذاب‬
‫عظيم} (سورة المائدة‪ :‬آية ‪.)33‬‬
‫واستمر الشيخ بدرالدين في غيه وظن أنه سيتمكن من البلد بسبب ماتمر به من حالة تمزق‬
‫كامل وفوضى ضربت بأطنابها في كل ارجاء البلد وكان بدر الدين يقول ‪( :‬إني سأثور من‬
‫أجل أمتلك العالم‪ ،‬وباعتقاداتي ذات الشارات الغيبية سأقسم العالم بين مريدي بقوة العلم وسر‬
‫التوحيد‪ ،‬وسأبطل قوانين أهل التقليد ومذهبهم‪ ،‬وسأحلل ‪-‬باتساع مشاربي‪ -‬بعض‬
‫()‬
‫المحرمات) ‪. 2‬‬
‫وكان أمير الفلق ( في رومانيا ) يدعم هذا المنشق وهذا المبتدع وهذا الزنديق ماديا‬
‫وعسكريا وكان السلطان محمد جلبي لهذه الدعوة الفاسدة بالمرصاد وضيق عليها الخناق‪ ،‬حتى‬
‫()‬
‫اضطر بدر الدين أن يعبر إلى منطقة دلي أورمان ( في بلغاريا الن ‪ ) 3‬يقول محمد شرف‬
‫الدين في مسألة توجه الشيخ بدر الدين إلى دلي أورمان ‪ ( :‬إن هذه المنطقة وما يحيط بها من‬
‫مناطق هي مأوى الباطنية‪ ،‬وهي منطقة تعج بأتباع ثورة بابا إسحق التي قامت ضد الدولة‬
‫العثمانية في منتصف القرن السابع الهجري‪ ،‬وأن توجه الشيخ بدر الدين إلى هذا المكان وتمكنه‬
‫() انظر‪ :‬أخطاء يجب أن تصحح (الدولة العثمانية) ‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.140‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.140‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-97-‬‬
‫من جمع اللف المؤلفة من المؤيدين له ولحركته من هذه المناطق لفيه الدللة الكافية لختيار‬
‫()‬
‫الشيخ هذا المكان بالذات ) ‪. 1‬‬
‫وفي دلي أورمان بدأت المعونات الوربية تفد إلى الشيخ‪ ،‬واتسع نطاق الثورة ضد السلطان‬
‫العثماني محمد الول‪ ،‬ووصلت فلول المنشقين أعداء السلم الصحيح إلى مابين ‪ 8-7‬آلف‬
‫()‬
‫مقاتل ‪. 2‬‬
‫وكان السلطان محمد الول يتابع المور بحذر ويقظة ولم يكن غافلً عما يفعله الثوار وقام‬
‫السلطان بنفسه لحرب الشيخ بدر الدين وكان هذا على رأس جيش عظيم في دلي أورمان‪.‬‬
‫اتخذ السلطان محمد من سيروز ( في اليونان الن ) مركزا لقيادته‪ .‬أرسل السلطان قواته إلى‬
‫الثوار فهزمتهم‪ ،‬وتوارى زعيمهم بدر الدين الثائر بعد هزيمته‪ ،‬في منطقة دلي أورمان‪ ،‬فرارا‬
‫()‬
‫من السلطان ‪. 3‬‬
‫واستطاعت مخابرات السلطان محمد الول أن تخترق صفوف الثوار وأن تكيد مكيدة محكمة‬
‫()‬
‫وقع على أثرها زعيم الثوار المبتدع بدر الدين في السر ‪. 4‬‬
‫وعندما قابل السلطان محمد الول بدر الدين قال له ‪ :‬مالي أرى وجهك قد اصفر؟‬
‫أجابه بدر الدين‪ :‬إن الشمس يا مولي ‪ ،‬تصفر عندما تقترب من الغروب‪.‬‬
‫وقام علماء الدولة بمناظرة علمية حرة مع بدر الدين ثم أقيمت محكمة شرعية‪ ،‬وأصدر حكم‬
‫‪ " :‬من أتاكم وأمركم‬ ‫العدام بناء على فتوى العلماء التي استندت إلى توجيه رسول ال‬
‫()‬
‫جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه " ‪. 5‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.140‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.141‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.141‬‬ ‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.141،142‬‬ ‫‪4‬‬
‫() مسلم‪ ،‬كتاب المارة‪ ،‬باب إذا بويع لخليفتين (‪ )3/1480‬رقم ‪.1852‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-98-‬‬
‫إن المذهب الفاسد الذي كان يدعو إليه " بدر الدين " هو نفس مذهب الماسونية اليهودية‬
‫المعاصرة ( القرن الخامس عشر الهجري ‪ /‬العشرون الميلدي) وهو يقوم على إلغاء الحواجز‬
‫بين أصحاب العقيدة السلمية الصحيحة وأصحاب العقائد الفاسدة‪ ،‬إذ إنه يقول بالخوة بين‬
‫المسلمين واليهود والنصارى وعباد البقر والشيوعيين‪ ،‬وهذا يخالف عقيدة السلم التي تؤكد أنه‬
‫ل أخوة بين المسلمين وبين غيرهم من أصحاب العقائد الفاسدة‪ ،‬لنه كيف يكون هناك أخوة بين‬
‫()‬
‫من يحاربون ال ورسوله‪ ،‬وبين المؤمنين الموحدين ‪. 1‬‬
‫كان السلطان محمد الول محبا للشعر والدب والفنون وقيل هو أول سلطان عثماني أرسل‬
‫الهدية السنوية إلى أمير مكة التي يطلق عليها اسم الصرة‪ ،‬وهي عبارة على قدر معين من‬
‫()‬
‫النقود يرسل إلى المير لتوزيعه على فقراء مكة والمدينة ‪. 2‬‬
‫وقد أحب الشعب العثماني السلطان محمد الول وأطلقوا عليه لقب بهلوان ( ومعناها البطل )‬
‫وذلك بسبب نشاطه الجم وشجاعته كما أن أعماله العظيمة‪ ،‬وعبقريته الفذة التي قاد من خللها‬
‫الدولة العثمانية الى بر المان‪ ،‬كما أن جميل سجاياه وسلوكه وشهامته وحبه للعدل والحق جعل‬
‫شعبه يحبه ويطلق عليه لقب جلبي ايضا وهو لقب تشريف وتكريم فيه معنى الشهامة والرجولة‪.‬‬
‫حقيقة إن بعض حكام آل عثمان قد فاقوه شهرة ‪ ،‬إل أن بالمكان اعتباره من أنبل حكام‬
‫العثمانيين ‪-‬فقد اعترف المؤرخون الشرقيون واليونانيون بإنسانيته واعتبره المؤرخون‬
‫()‬
‫العثمانيون ‪ 3‬بمثابة القبطان الماهر الذي حافظ على قيادة سفينة الدولة العثمانية حين هددتها‬
‫طوفان الغزوات التترية‪ ،‬والحروب الداخلية‪ ،‬والفتن الباطنية‪.‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫بعد أن بذل السلطان محمد الول قصارى جهده في محو آثار الفتن التي مرت بها الدولة‬
‫العثمانية وشروعه في أجزاء ترتيبات داخلية تضمن عدم حدوث شغب في المستقبل وبينما كان‬
‫السلطان مشتغلً بهذه المهمام السليمة شعر بدنو أجله دعى الباشا بايزيد وقال له‪( :‬عينت ابني‬

‫() انظر‪ :‬أخطاء يجب ان تصحح في التاريخ (الدولة العثمانية) ‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬ص ‪.152‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-99-‬‬
‫مراد خليفة لي فأطعه وكن صادقا معه كما كنت معي ‪ .‬اريد منكم ان تأتونني بمراد الن لنني‬
‫ل استطيع أن أقوم من الفراش بعد‪ .‬فان وقع المر اللهي قبل مجيئه حذاري ان تعلنوا وفاتي‬
‫()‬
‫حتى يأتي) ‪. 1‬‬
‫وفاجأه الموت في سنة ‪824‬هـ (‪1421‬م) في مدينة أورنة واسلم روحه لخالقه وعمر‬
‫‪43‬سنة‪.‬‬
‫وخوفا من حصول مالتحمد عقباه لو عُلم موت السلطان محمد الول اتفق وزيراه ابراهيم‬
‫وبايزيد على أخفاء موته على الجند حتى يصل أبنه مراد الثاني فأشاعا أن السلطان مريض‬
‫()‬
‫وارسل لبنه فحضر بعد واحد وأربعين يوما واستلم مقاليد الحكم ‪. 2‬‬
‫ولقد كان السلطان محمد الول محبا للسلم والعلم والفقهاء ولذلك نقل عاصمة الدولة من أدرنة‬
‫()‬
‫(مدينة الغزاة) الى بروسة (مدينة الفقهاء) ‪ 3‬وكان على خلق رفيع‪ ،‬وحزم متين ‪ ،‬وحلم فريد ‪،‬‬
‫وسياسة فذة في معاملة العداء والصدقاء‪.‬‬
‫المبحث السادس‬
‫مراد الثاني‬

‫تولى السلطان مراد الثاني أمر الدولة بعد وفاة أبيه (محمد جلبي) عام (‪824‬هـ‪1421/‬م)‪،‬‬
‫وكان عمره ليزيد على ثماني عشرة سنة وكان محبا للجهاد في سبيل ال‪ ،‬والدعوة الى السلم‬
‫()‬
‫في ربوع أوروبا ‪. 4‬‬
‫()‬
‫كان معروفا لدى جميع رعيته بالتقوى‪ ،‬والعدالة والشفقة ‪ ، 5‬استطاع السلطان مراد أن‬
‫يقضي على حركات التمرد الداخلية التي قام بها عمه مصطفى والتي كانت تدعم من قبل أعداء‬
‫الدولة العثمانية وكان المبراطور البيزنطي مانويل الثاني خلف الدسائس والمؤامرات والمتاعب‬
‫() السلطين العثمانيون ‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية ‪ ،‬ص ‪.152‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.63‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬أخطاء يجب أن تصحح (الدولة العثمانية)‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪4‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-100-‬‬
‫التي تعرض لها السلطان مراد‪ ،‬فهو الذي دعم عم السلطان مراد الذي اسمه مصطفى‬
‫بالمساعدات حتى استطاع أن يحاصر مدينة غاليبولي ابتغاء انتزاعها من السلطان واتخاذها‬
‫قاعدة له إل ان السلطان مراد قبض على عمه وقدمه للمشنقة ومع ذلك ‪ ،‬فقد مضى المبراطور‬
‫مانويل الثاني يكيد للسلطان واحتضن شقيقا لمراد الثاني ‪ ،‬ووضعه على رأس قوة استولت على‬
‫مدينة نيقيافي الناضول‪ ،‬وسار إليه مراد واستطاع أن يقض على قواته واضطر خصمه‬
‫للستسلم ثم قتل ‪ .‬ومن ثم صمم السلطان مراد أن يلقن المبراطور درسا عمليا‪ ،‬فأسرع‬
‫بإحتلل سلولنيك‪ ،‬فهاجمها ودخلها عنوة في مارس ‪1431‬م (‪833‬هـ) ‪ ،‬واصبحت جزءً‬
‫ليتجزأ من الدولة العثمانية‪.‬‬
‫وكان السلطان مراد يوجه الضربات الموجعة لحركات التمرد في بلد البلقان‪ ،‬وحرص على‬
‫تدعيم الحكم العثماني في تلك الديار‪ ،‬واتجه الجيش العثماني نحو الشمال لخضاع إقليم ولشيا‬
‫وفرض عليه جزية سنوية‪ ،‬واضطر ملك الصرب الجديد (ستيف لزار ميتش) الى الخضوع‬
‫للعثمانيين والدخول تحت حكمهم وجدد ولءه للسلطان ‪ ،‬واتجه جيش عثماني نحو الجنوب‪،‬‬
‫حيث قام بتوطيد دعائم الحكم العثماني في بلد اليونان‪.‬‬
‫ولم يلبث السلطان أن واصل جهاده الدعوي وقام بالقضاء على العوائق في كل من ألبانيا‬
‫والمجر‪.‬‬
‫واستطاع العثمانيون أن يفتحوا ألبانيا عام (‪834‬هـ‪1431/‬م) وركزوا هجومهم على الجزء‬
‫الجنوبي من البلد‪ .‬أما شمالي ألبانيا ‪ ،‬فقد خاض العثمانيون فيه جهادا مريرا‪ ،‬وتمكن اللبانيون‬
‫الشماليون من القضاء على جيشين عثمانيين في جبال البانيا‪ ،‬كما ألحقوا الهزيمة بحملتين‬
‫عثمانيتين متعاقبتين كان يقودهما السلطان مراد بنفسه‪ ،‬وتكبد العثمانيون خسائر فادحة أثناء‬
‫عملية النسحاب‪ ،‬ووقفت الدول النصرانية خلف اللبان لدعمهم ضد العثمانيين وخصوصا من‬
‫حكومة البندقية التي كانت تدرك خطورة الفتح العثماني لهذا القليم الهام بشاطئيه وموانئه‬
‫البحرية التي تربط البندقية بحوض البحر المتوسط والعالم الخارجي ‪ ،‬وأنهم في استطاعتهم‬
‫‪-101-‬‬
‫حجز سفن البنادقة داخل بحر مغلق هو بحر الدرياتيك‪ .‬وهكذا لم يشهد السلطان مراد الثاني‬
‫()‬
‫استقرارا للحكم العثماني في ألبانيا ‪. 1‬‬
‫وأما ما يتعلق بجبهة المجر‪ ،‬فقد استطاع العثمانيون في عام (‪842‬هـ‪1438/‬م) أن يهزموا‬
‫المجريين ويأسروا منهم سبعين ألف جندي وأن يستولوا على بعض المواقع‪ ،‬ثم تقدم لفتح بلغراد‬
‫عاصمة الصرب‪ ،‬ولكنه أخفق في محاولته وسرعان ماتكون حلف صليبي كبير باركه البابا‬
‫واستهدف هذا الحلف طرد العثمانيين من أوربا كلية‪ .‬وشمل الحلف البابوية والمجر وبولندا‬
‫والصرب وبلد الفلق وجنوة والبندقية والمبراطورية البيزنطية ودوقية برجنديا‪ ،‬وانضمت‬
‫إلى الحلف أيضا كتائب من اللمان والتشيك‪ .‬وأعطيت قيادة قوات الحلف الصليبي إلى قائد‬
‫مجري قدير هو يوحنا هنيادي‪ .‬وقد قاد هنيادي القوات الصليبية البرية وزحف جنوبا واجتاز‬
‫الدانوب وأوقع بالعثمانيين هزيمتين فادحتين عام ( ‪846‬هـ‪442 /‬م )‪ ،‬واضطر العثمانيون إلى‬
‫( ‪)2‬‬
‫وأبرمت معاهدة صلح لمدة عشر سنوات في " سيزجادن " وذلك في شهر يوليو‬ ‫طلب الصلح‬
‫عام ‪1444‬م ‪848 /‬هـ تنازل فيها عن الصرب واعترف " بجورج برانكوفيتش" أميرا عليها‪.‬‬
‫كما تنازل السلطان مراد عن الفلق للمجر‪ ،‬وافتدى زوج ابنته " محمود شلبي " الذي كان قائدا‬
‫عاما للجيوش العثمانية‪ ،‬بمبلغ ‪ 60‬ألف دوقية‪ ..‬وقد حررت هذه المعاهدة باللغتين العثمانية‪،‬‬
‫والمجرية وأقسم "لديسلسي " ملك المجر على النجيل كما اقسم السلطان مراد بالقرآن على‬
‫أن تراعي شروط المعاهدة بذمة وشرف‪.‬‬
‫وحين فرغ مراد من عقد الهدنة مع أعدائه الوروبيين عاد إلى الناضول وفجع بموت ابنه‬
‫المير علء واشتد حزنه عليه وزهد في الدنيا والملك ونزل عن السلطنة لبنه محمد وكان إذ‬
‫ذاك في الرابعة عشرة من عمره‪ ،‬ولصغر سنه أحاطه والده ببعض أهل الرأي والنظر من‬

‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-102-‬‬
‫رجال دولته ثم ذهب إلى مغنيسيا في آسيا الصغرى ليقضي بقية حياته في عزلة وطمأنينة‬
‫ويتفرغ في هذه الخلوة إلى عبادة ال والتأمل في ملكوته بعد أن أطمأن إلى استتباب المن‬
‫( ‪)1‬‬
‫حيث قام الكاردينال‬ ‫والسلم في أرجاء دولته ولم يستمتع السلطان طويلً بهذه الخلوة والعبادة‬
‫سيزاريني وبعض أعوانه بالدعوة إلى نقض العهود مع العثمانيين وطردهم عن أوربا‪،‬‬
‫خصوصا وأن العرش العثماني قد تركه السلطان مراد لبنه الفتى الذي ل خبرة له ولخطر منه‬
‫( ‪)2‬‬
‫وطلب من النصارى‪ ،‬نقض العهد‪،‬‬ ‫وقد اقتنع البابا أوجين الرابع بهذه الفكرة الشيطانية‬
‫ومهاجمة المسلمين وبين للنصارى أن المعاهدة التي عقدت مع المسلمين باطلة لنها عقدت‬
‫بدون إذن البابا وكيل المسيح في الرض وكان الكاردينال سيزاريني عظيم النشاط دائم الحركة‬
‫ليكل عن العمل‪ ،‬يجد ويسعى للقضاء على العثمانيين ولذلك كان يزور ملوك النصارى‬
‫وزعمهم ويحرضهم على نقض المعاهدة مع المسلمين ويقنع كل من يعترض عليه نكث المعاهدة‬
‫ويقول له أنه باسم البابا يبرئ ذمتهم من نكثها ويبارك جنودهم وأسلحتهم‪ ،‬وعليهم أن يتبعوا‬
‫طريقه فان طريق المجد والخلص ومن نازعه ضميره بعد ذلك وخشي الثم فإنه يحمل عنه‬
‫()‬
‫وزره وإثمه ‪. 3‬‬
‫لقد نقض النصارى عهودهم‪ ،‬وحشدوا الجيوش لمحاربة المسلمين‪ ،‬وحاصروا مدينة " فارنا "‬
‫البلغارية الواقعة على ساحل البحر السود‪ ،‬والتي كانت قد تحررت على أيدي المسلمين‪،‬‬
‫سمْتُ ظاهر لعداء هذا الدين‪ ،‬ولذلك أوجب ال سبحانه وتعالى على‬
‫ونقض العهود هو َ‬
‫المسلمين قتالهم يقول سبحانه ‪{ :‬فقاتلوا أئمة الكفر إنهم ل أيمان لهم لعلهم ينتهون } ( التوبة‪:‬‬
‫‪.)12‬‬
‫لعهود‪ ،‬ول مواثيق يرعونها‪ ،‬كما هو طابعهم دائما ‪ .‬إنهم ل يتورعون عن مهاجمة أي أمة‪،‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.42،43‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.44‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-103-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وصدق ال القائل في تصويرهم ‪ { :‬ليرقبون‬ ‫أي إنسان يلمحون فيه ضعفا‪ ،‬يقتلون ويذبحون‬
‫في مؤمن إل ول ذمّة وأولئك هم المعتدون } (التوبة ‪.) 10 :‬‬
‫وعندما تحرك النصارى وزحفوا نحو الدولة العثمانية وسمع المسلمون في أدرنة بحركة‬
‫الصليبيين وزحفهم انتابهم الفزع والرعب وبعث رجال الدولة الى السلطان مراد يستعجلون‬
‫قدومه لمواجهة هذا الخطر وخرج السلطان المجاهد من خلوته ليقود جيوش العثمانيين ضد‬
‫الخطر الصليبي‪ .‬واستطاع مراد أن يتفق مع السطول الجنوي لينقل أربعين ألفا من الجيش‬
‫العثماني من آسيا إلى أوروبا تحت سمع السطول الصليبي وبصره في مقابل دينار لكل جندي‪.‬‬
‫وأسرع السلطان مراد في السير فوصل وارنه في نفس اليوم الذي وصل فيه الصليبيون‪.‬‬
‫وفي اليوم التالي نشبت المعركة بين الجيشين النصراني والسلمي وكانت عنيفة حامية وقد‬
‫وضع السلطان مراد المعاهدة التي نقضها أعداؤه على رأس رمح ليشهدهم ويشهد السماء‬
‫()‬
‫والرض على الغدر والعدوان وليزيد حماس جنده ‪ . 2‬واقتتل الفريقان‪ ،‬ودارت بينهما معركة‬
‫رهيبة كاد يكون فيها النصر للنصارى نتيجة حميتهم الدينية وحماسهم الزائد إل أن تلك الحماية‬
‫والحماس الزائد اصطدم بالروح الجهادية لدى العثمانيين‪ ،‬والتقى الملك "لديسلس " ناقض‬
‫العهود مع السلطان مراد الوفي بالعهود وجها لوجه واقتتل‪ ،‬ودارت بينهما معركة رهيبة‪ ،‬تمكن‬
‫السلطان المسلم من قتل الملك المجري النصراني‪ ،‬فقد عاجله بضربة قوية من رمحه اسقطته‬
‫من على ظهر جواده فأسرع بعض المجاهدين وجزوا رأسه ورفعوه على رمح مهللين مكبرين‬
‫( ‪)3‬‬
‫وصاح أحد المجاهدين في العدو " أيها الكفار هذا رأس ملككم " وكان لذلك المنظر‬ ‫وفرحين‬
‫أثر شديد على جموع النصارى‪ ،‬فاستحوذ عليهم الفزع والهلع‪ ،‬فحمل عليهم المسلمون حملة‬
‫قوية‪ ،‬بددت شملهم وهزموهم شر هزيمة‪ ،‬وولى النصارى مدبرين يدفع بعضهم ولم يطارد‬
‫() انظر‪ :‬أخطاء يجب ان تصحح (الدولة العثمانية) ‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬د‪ .‬سالم الرشيدي‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬د‪ .‬عبدالسلم عبدالعزيز‪ ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-104-‬‬
‫()‬
‫السلطان مراد عدوه واكتفى بهذا الحد من النصر وانه لنصر عظيم ‪. 1‬‬
‫كانت هذه المعركة في سهول قوصوه في ‪ 17‬أكتوبر ‪1448‬م ( ‪852‬هـ ) واستمرت‬
‫المعركة ثلثة أيام وانتهت بفوز ساحق للعثمانيين‪ .‬وقد أخرجت هذه المعركة بلد المجر لعشر‬
‫سنوات على القل من عداد الدول التي تستطيع النهوض بعمليات حربية هجومية ضد‬
‫()‬
‫العثمانيين ‪. 2‬‬
‫ولم تفارق السلطان مراد زهادته في الدنيا والملك فنزل على العرش مرة أخرى لبنه محمد‬
‫وعاد إلى عزلته في مغنيسيا كما يعود السد المنتصر إلى عرينه‪.‬‬
‫ولقد ذكر لنا التاريخ مجموعة من الملوك والحكام الذين نزلوا عن عروشهم وانقطعوا عن‬
‫الناس وأبهة الملك إلى العزلة‪ ،‬وأن بعض هؤلء الملوك قد عادوا إلى العرش ولكن لم يذكر لنا‬
‫أحد منهم نزل عن العرش مرتين غير السلطان مراد فإنه لم يكد يذهب إلى معتزله بآسيا‬
‫الصغرى حتى ثار النكشارية في أدرنة وشغبوا وهاجوا وماجوا وتمردوا وطغوا وأفسدوا وكان‬
‫السلطان محمد فتى يافعا حديث السن وخشي بعض رجال الدولة أن يستفحل المر ويعظم‬
‫( ‪)3‬‬
‫الخطر ويتفاقم الشر‪ ،‬وتسوء العاقبة فبعثوا إلى السلطان مراد يستقدمونه ليتولى المر بنفسه‬
‫وجاء السلطان مراد وقبض على زمام المر وخضع له النكشارية وأرسل ابنه محمد إلى‬
‫مغنيسيا حاكما عليها بالناضول‪ ،‬وبقى السلطان مراد الثاني على العرش العثماني إلى آخر يوم‬
‫()‬
‫في حياته‪ ،‬وقد قضاها في الغزو والفتح ‪. 4‬‬

‫أولً‪ :‬مراد الثاني وحبه للشعراء والعلماء وفعل الخير‪:‬‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪3‬‬
‫() السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.23‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-105-‬‬
‫يقول محمد حرب‪ ( :‬مراد الثاني وإن كان مقلً وكان مالدينا من شعره قليلً‪ ،‬لصاحب فضل‬
‫على الدب والشعر ل يجحد‪ ،‬لن نعمة حلّت على الشعراء الذين كان يدعوهم إلى مجلسه‬
‫يومين في كل أسبوع ليقولوا ماعندهم‪ ،‬ويأخذون بأطراف الحاديث والسمار بينهم وبين‬
‫السلطان‪ ،‬فيستحسن أو يستهجن‪ ،‬ويختار أو يطرح‪ ،‬وكثيرا ماكان يسدّ عوز المعوزين منهم‬
‫بنائلة الغمر أو بإيجاد حرفة لهم تدرّ الرزق عليهم حتى يفرغوا من هموم العيش ويتوفروا على‬
‫()‬
‫قول الشعر‪ ،‬وقد أنجب عصره كثيرا من الشعراء ‪. 1‬‬
‫لقد حوّل القصر الحاكم إلى نوع من الكاديمية العلمية ووصل به المر أن كان الشعراء‬
‫()‬
‫يرافقونه في جهاده ‪. 2‬‬
‫()‬
‫ومن أشعاره ‪ ( :‬تعالوا نذكر ال لننا لسنا بدائمين في الدنيا ) ‪ . 3‬كان سلطانا عالما عاقلً‬
‫عادلً شجاعا‪ ،‬وكان يرسل لهالي الحرمين الشريفين وبيت المقدس من خاصة ماله في كل عام‬
‫ثلثة آلف وخمس مئة دينار‪ ،‬وكان يعتني بشأن العلم والعلماء والمشايخ والصلحاء‪ ،‬مهد‬
‫( ‪)4‬‬
‫وقال عنه يوسف آصاف ‪:‬‬ ‫الممالك‪ ،‬وأمّن السبل‪ ،‬وأقام الشرع والدين وأذل الكفار والملحدين‬
‫()‬
‫ل صنديدا‪ ،‬محبا للخير‪ ،‬ميّالً للرأفة والحسان ) ‪. 5‬‬
‫( كان تقيا صالحا‪ ،‬وبط ً‬

‫ثانيا‪ :‬وفاته ووصيته‬


‫قال صاحب النجوم الزاهرة‪ :‬في وفيات عام ‪855‬هـ في مراد الثاني‪( :‬وكان خير ملوك‬
‫زمانه شرقا وغربا‪ ،‬مما اشتمل عليه من العقل والحزم والعزم والكرم والشجاعة والسؤدد‪،‬‬
‫وأفنى عمره في الجهاد في سبيل ال تعالى‪ ،‬وغزا عدّة غزوات‪ ،‬وفتح عدّة فتوحات‪ ،‬وملك‬
‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.246‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.246‬‬ ‫‪2‬‬
‫() السلطين العثمانيون الكتاب المصور‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ السلطين آل عثمان للقرماني‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪4‬‬
‫() تاريخ سلطين آل عثمان‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-106-‬‬
‫الحصون المنيعة‪ ،‬والقلع والمدن من العدوّ المخذول‪ .‬على أنه كان منهمكا في اللذات التي‬
‫تهواها النفوس‪ ،‬ولعل حاله كقول بعض الخيار ‪ -‬وقد سئل عن دينه ‪ -‬فقال‪ :‬أُمزقه بالمعاصي‬
‫وأُرقعه بالستغفار ‪ ، -‬فهو أحق بعفو ال وكرمه‪ ،‬فإن له المواقف المشهورة‪ ،‬وله اليد البيضاء‬
‫في السلم ونكاية العدوّ‪ ،‬حتى قيل عنه إنه كان سياجا للسلم والمسلمين ‪ -‬عفا ال عنه‪،‬‬
‫()‬
‫وعوّض شبابه الجنة ‪. 1 )...‬‬
‫توفي السلطان في قصر ادرنه عن عمر يناهز ‪ 47‬عاما وبناء على وصيته رحمه ال دفن‬
‫في جانب جامع مرادية في بورصة‪ .‬ووصى بان ليبنى على قبره شيء وأن يعمل أماكن في‬
‫جوانب القبر يجلس فيها الحفاظ لقراءة القرآن الكريم وأن يدفن في يوم الجمعة فنفذت‬
‫()‬
‫وصيته ‪. 2‬‬
‫وترك في وصيته شعرا‪ ،‬بعد أن كان قلقا يخشى أن يدفن في قبر ضخم‪ ،‬وكان يريد ألّ يبنى‬
‫()‬
‫شيء على مكان دفنه‪ ،‬فكتبها شعرا ليقول‪ :‬فليأتِ يوم يرى الناس فيه ترابي ‪. 3‬‬
‫لقد قام السلطان مراد ببناء جوامع ومدارس‪ ،‬وقصورا وقناطر فمنها جامع ادرنه ذو ثلثة‬
‫()‬
‫شرف وبنى بجانب هذا الجامع مدرسة وتكية يطعم فيها الفقراء والمساكين ‪. 4‬‬

‫() النجوم الزاهرة (‪ )16/3‬لجمال الدين ابي المحاسن يوسف بن تغري‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين العثمانيون ‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.246‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-107-‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫محمد الفاتح وفتح القسطنطينية‬

‫المبحث الول‬

‫السلطان محمد الفاتح‬

‫هو السلطان محمد الثاني ( ‪431‬هـ‪1481 -‬م )‪ ،‬يعتبر السلطان العثماني السابع في سلسلة‬
‫آل عثمان يلقب بالفاتح وأبي الخيرات‪ .‬حكم مايقرب من ثلثين عاما كانت خيرا وعزة‬
‫()‬
‫للمسلمين ‪ . 1‬تولى حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في ‪ 16‬محرم عام ‪855‬هـ الموافق ‪18‬‬
‫فبراير عام ‪1451‬م وكان عمره آنذاك ‪ 22‬سنة ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة‬
‫جمعت بين القوة والعدل كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في‬
‫مدرسة المراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ‪ ،‬مما‬
‫ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيرا في‬
‫التاريخ بلقب محمد الفاتح‪ ،‬لفتحه القسطنطينية‪ .‬وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده‬
‫في الفتوحات ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.253‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪-108-‬‬
‫المختلفة‪ ،‬واهتم كثيرا بالمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها‬
‫بشكل يمنع السراف والبذخ أو الترف‪ .‬وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها‬
‫ووضع سجلت خاصة بالجند‪ ،‬وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث السلحة المتوفرة في ذلك‬
‫العصر‪ .‬وعمل على تطوير إدارة القاليم وأقر بعض الولة السابقين في أقاليمهم وعزل من‬
‫ظهر منه تقصيرا أو إهمال وطور البلط السلطاني وأمدهم بالخبرات الدارية والعسكرية‬
‫الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى المام وبعد أن قطع أشواطا مثمرة في الصلح‬
‫الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر السلم فيها‪ ،‬ولقد ساعدته عوامل‬
‫عدة في تحقيق أهدافه‪ ،‬منها الضعف الذي وصلت إليه المبراطورية البيزنطية بسبب‬
‫المنازعات مع الدول الوروبية الخرى‪ ،‬وكذلك بسبب الخلفات الداخلية التي عمت جميع‬
‫مناطقها ومدنها ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل انه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته‬
‫بفتح القسطنطينية عاصمة المبراطورية البيزنطية‪ ،‬والمعقل الستراتيجي الهام للتحركات‬
‫الصليبية ضد العالم السلمي لفترة طويلة من الزمن‪ ،‬والتي طالما اعتزت بها المبراطورية‬
‫البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة‪ ،‬وجعلها عاصمة للدولة العثمانية وتحقيق ما‬
‫()‬
‫عجز عن تحقيقه أسلفه من قادة الجيوش السلمية ‪. 1‬‬

‫أولً‪ :‬فتح القسطنطينية‬


‫تعد القسطنطينية من أهم المدن العالمية‪ ،‬وقد أسست في عام ‪330‬م على يد المبراطور‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪ ،‬وقد كان لها موقع عالمي فريد حتى قيل عنها ‪ " :‬لو كانت الدنيا‬ ‫البيزنطي قسطنطين الول‬
‫()‬
‫مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها " ‪ ، 3‬ومنذ تأسيسها فقد اتخذها‬

‫() انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬اوروبا في العصور الوسطى‪ ،‬سعيد عاشور‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪2‬‬
‫() فتح القسطنطينية وسيرة السلطان محمد الفاتح‪ ،‬د‪.‬محمد مصطفى‪ ،‬ص ‪.46-36‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-109-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫عندما دخل المسلمون في‬ ‫البيزنطيون عاصمة لهم وهي من أكبر المدن في العالم وأهمها‬
‫جهاد مع الدولة البيزنطية كان لهذه المدينة مكانتها الخاصة من ذلك الصراع‪ ،‬ولذلك فقد بشر‬
‫()‬
‫أصحابه بفتحها في عدة مواقف‪ ،‬من ذلك‪ :‬ما حدث أثناء غزوة الخندق ‪ ، 2‬ولهذا‬ ‫الرسول‬
‫فقد تنافس خلفاء المسلمين وقادتهم على فتحها عبر العصور المختلفة طمعا في أن يتحقق فيهم‬
‫‪( :‬لتفتحن القسطنطينية على يد رجل‪ ،‬فلنعم المير أميرها ولنعم الجيش ذلك‬ ‫حديث الرسول‬
‫()‬
‫الجيش) ‪. 3‬‬
‫لذلك فقد امتدت إليها يد القوات المسلمة المجاهدة منذ أيام معاوية بن أبي سفيان في أولى‬
‫الحملت السلمية عليها سنة ‪44‬هـ ولم تنجح هذه الحملة‪ ،‬وقد تكررت حملت أخرى في‬
‫عهده حظيت بنفس النتيجة‪.‬‬
‫كما قامت الدولة الموية بمحاولة أخرى لفتح القسطنطينية وتعد هذه الحملة أقوى الحملت‬
‫()‬
‫الموية عليها‪ ،‬وهي تلك الحملة التي تمت في أيام سليمان بن عبدالملك سنة ‪98‬هـ ‪. 4‬‬
‫واستمرت المحاولة لفتح القسطنطينية حيث شهد العصر العباسي الول حملت جهادية مكثفة‬
‫ضد الدولة البيزنطية‪ ،‬ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى القسطنطينية نفسها وتهديدها مع أنها‬
‫( ‪)5‬‬
‫هزتها وأثرت على الحداث داخلها‪ ،‬وبخاصة تلك الحملة التي تمت في أيام هارون الرشيد‬
‫سنة ‪190‬هـ‪.‬‬
‫وقد قامت فيما بعد عدة دويلت إسلمية في آسيا الصغرى كان من أهمها دولة السلجقة‪،‬‬
‫التي امتدت سلطتها إلى آسيا الصغرى‪ .‬كما أن زعيمها ألب أرسلن ( ‪465 -455‬هـ ‪/‬‬
‫() المجتمع المدني (الجهاد ضد المشركين)‪ ،‬د‪ .‬أكرم ضياء العمري‪ ،‬ص ‪.115‬‬ ‫‪1‬‬
‫() احمد في مسنده (‪.)4/335‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه (‪.)4/335‬‬ ‫‪3‬‬
‫()ابن خلدون العبر (‪ ، )3/70‬تاريخ خليفة بن خياط‪ ،‬ص ‪.315‬‬ ‫‪4‬‬
‫() خليفة بن خياط‪ ،‬تاريخه‪ ،‬ص ‪ ،458‬تاريخ الطبري (‪ ،)10/69‬ابن الثير الكامل (‪.)6/185،186‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-110-‬‬
‫‪1072-1063‬م ) استطاع أن يهزم امبراطور الروم ديمونوس في موقعة ملذ كرد عام‬
‫‪464‬هـ‪1070/‬م ثم أسره وضربه وسجنه وبعد مدة أطلق سراحه بعد أن تعهد بدفع جزية‬
‫سنوية للسلطان السلجوقي‪ ،‬وهذا يمثل خضوع جزء كبير من امبراطورية الروم للدولة‬
‫السلمية السلجوقية وبعد ضعف دولة السلجقة الكبرى ظهرت عدة دول سلجوقية كان منها‬
‫دولة سلجقة الروم في آسيا الصغرى والتي استطاعت مد سلطتها إلى سواحل بحر إيجة غربا‬
‫وإضعاف المبراطورية الرومانية‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وفي مطلع القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلدي خلف العثمانيون سلجقة الروم‬
‫وتجددت المحاولت السلمية لفتح القسطنطينية وكانت البداية حين جرت محاولة لفتحها في‬
‫أيام السلطان بايزيد " الصاعقة " الذي تمكنت قواته من محاصرتها بقوة سنة ‪796‬هـ ‪-‬‬
‫()‬
‫‪1393‬م ‪ ، 2‬وأخذ السلطان يفاوض المبراطور البيزنطي لتسليم المدينة سلما إلى المسلمين‪،‬‬
‫ولكنه أخذ يراوغ ويماطل ويحاول طلب المساعدات الوربية لصد الهجوم السلمي عن‬
‫القسطنطينية ‪ ،‬وفي الوقت نفسه وصلت جيوش المغول يقودها تيمورلنك إلى داخل الراضي‬
‫العثمانية وأخذت تعيث فسادا ‪ ،‬فاضطر السلطان بايزيد لسحب قواته وفك الحصار عن‬
‫القسطنطينية لمواجهة المغول بنفسه ومعه بقية القوات العثمانية ‪ ،‬حيث دارت بين الطرفين‬
‫معركة أنقرة الشهيرة ‪ ،‬والتي أسر فيها بايزيد (الصاعقة) ثم مات بعد ذلك في السر سنة‬
‫( ‪)3‬‬
‫وكان نتيجة ذلك ان تفككت الدولة العثمانية مؤقتا ‪ ،‬وتوقف التفكير في فتح‬ ‫‪1402‬م‬
‫القسطنطينية إلى حين ‪.‬‬
‫وما أن استقرت الحوال في الدولة حتى عادت روح الجهاد من جديد ‪ ،‬ففي أيام السلطان‬
‫مراد الثاني الذي تولى الحكم في الفترة‬
‫() قيام الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪1‬‬
‫() تاريخ سلطين آل عثمان ‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور ‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز العمري‪ ،‬ص ‪.358‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-111-‬‬
‫‪824‬هـ‪863-‬هـ‪1451-1421 /‬م جرت عدة محاولت لفتح القسطنطينية وتمكنت جيوش‬
‫العثمانيين في أيامه من محاصرتها أكثرة من مرة ‪ ،‬وكان المبراطور البيزنطي في أثناء تلك‬
‫()‬
‫المحاولت يعمل على إيقاع الفتنة في صفوف العثمانيين بدعم الخارجين على السلطان ‪، 1‬‬
‫وبهذه الطريقة نجح في إشغاله في هدفه الذي حرص عليه ‪ ،‬فلم يتمكن العثمانيون من تحقيق ما‬
‫كانوا يطمحون إليه إل في زمن ابنه محمد الفاتح فيما بعد ‪.‬‬
‫كان محمد الفاتح يمارس العمال السلطانية في حياة ابيه ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع‬
‫الدولة البيزنطية في الظروف المختلفة ‪ ،‬كما كان على اطلع تام بالمحاولت العثمانية السابقة‬
‫لفتح القسطنطينية ‪ ،‬بل ويعلم بما سبقها من محاولت متكررة في العصور السلمية المختلفة ‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫كان يتطلع إلى‬ ‫وبالتالي فمنذ أن ولى السلطنة العثمانية سنة ‪855‬هـ الموافق ‪1451‬هـ م‬
‫فتح القسطنطينية ويفكر في فتحها ولقد ساهمت تربية العلماء على تنشئته على حب السلم‬
‫واليمان والعمل بالقرآن وسنة سيد النام ولذلك نشأ على حب اللتزام بالشريعة السلمية ‪،‬‬
‫واتصف بالتقى والورع ‪ ،‬ومحبا للعلم والعلماء ومشجعا على نشر العلوم ويعود تدينه الرفيع‬
‫للتربية السلمية الرشيدة التي تلقها منذ الصغر ‪ ،‬بتوجيهات من والده ‪ ،‬وجهود الشخصيات‬
‫العلمية القوية التي أشرفت على تربيته‪ ،‬وصفاء أولئك الساتذة الكبار وعزوفهم عن الدنيا‬
‫()‬
‫وابتعادهم عن الغرور ومجاهدتهم لنفسهم ‪ ،‬ممن أشرفوا على رعايته ‪. 3‬‬
‫لقد تأثر محمد الفاتح بالعلماء الربانيين منذ طفولته ومن أخصهم العالم الرباني "أحمد بن‬
‫اسماعيل الكوراني" مشهودا له بالفضيلة التامة ‪ ،‬وكان مدرسه في عهد السلطان "مراد الثاني"‬
‫والد "الفاتح" ‪ .‬وفي ذلك الوقت كان محمد الثاني‬
‫‪-‬الفاتح‪ ، -‬أميرا في بلدة "مغنيسيا" وقد أرسل إليه والده عددا من المعلمين ولم يمتثل أمرهم ‪،‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.358‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.359‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.42‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-112-‬‬
‫ولم يقرأ شيئا ‪ ،‬حتى أنه لم يختم القرآن الكريم ‪ ،‬فطلب السلطان المذكور ‪ ،‬رجل له مهابة‬
‫وحدّة ‪ ،‬فذكروا له المولى "الكوراني" ‪ ،‬فجعله معلما لولده وأعطاه قضيبا يضربه بذلك إذا خالف‬
‫أمره ‪ .‬فذهب إليه ‪ ،‬فدخل عليه والقضيب بيده ‪ ،‬فقال‪ :‬أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا‬
‫خالفت أمري‪ ،‬فضحك السلطان محمد خان من ذلك الكلم ‪ ،‬فضربه المولى الكوراني في ذلك‬
‫المجلس ضربا شديدا ‪ ،‬حتى خاف منه السلطان محمد خان ‪ ،‬وختم القرآن في مدة يسيرة ‪". . .‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪.‬‬
‫هذه التربية السلمية الصادقة‪ ،‬وهؤلء المربون الفاضل‪ ،‬ممن كان منهم بالخص هذا‬
‫العالم الفاضل‪ ،‬ممن يمزق المر السلطاني إذا وجد به مخالفة للشرع أو لينحني للسلطان ‪،‬‬
‫ويخاطبه باسم‪ ،‬ويصافحه وليقبل يده‪ ،‬بل السلطان يقبل يده‪ .‬من الطبيعي أن يتخرج من بين‬
‫جنباتها أناس عظماء كمحمد الفاتح ‪ ،‬وأن يكون مسلما مؤمنا ملتزما بحدود الشريعة‪ ،‬مقيد‬
‫بالوامر والنواهي معظما لها ومدافعا عن إجراءات تطبيقها على نفسه أولً ثم على رعيته‪ ،‬تقيا‬
‫()‬
‫صالحا يطلب الدعاء من العلماء العاملين الصالحين ‪. 2‬‬
‫وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح وبث فيه منذ صغره‬
‫أمرين هما‪:‬‬
‫‪ -1‬مضاعفة حركة الجهاد العثمانية‪.‬‬
‫‪ -2‬اليحاء دوما لمحمد منذ صغره بأنه المير المقصود بالحديث النبوي ‪( :‬لتفتحن‬
‫( ‪)3‬‬
‫لذلك كان الفاتح يطمع أن ينطبق‬ ‫القسطنطينية فلنعم المير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)‬
‫()‬
‫المذكور ‪. 4‬‬ ‫عليه حديث رسول ال‬
‫() كتاب الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪ 52‬نقلً عن تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪2‬‬
‫() رواه احمد في مسنده (‪.)4/335‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.359‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-113-‬‬
‫ثانيا‪ :‬العداد للفتح‪:‬‬
‫بذل السلطان محمد الثاني جهوده المختلفة للتخطيط والترتيب لفتح القسطنطينية‪ ،‬وبذل في‬
‫ذلك جهودا كبيرة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده الى قرابة ربع‬
‫( ‪)1‬‬
‫وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة‪ ،‬كما عني عناية خاصة‬ ‫مليون مجاهد‬
‫بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع السلحة التي تؤهلهم للعملية‬
‫الجهادية المنتظرة كما أعتنى الفاتح بإعدادهم إعدادا معنويا قويا وغرس روح الجهاد فيهم‪،‬‬
‫على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش‬ ‫وتذكيرهم بثناء الرسول‬
‫المقصود بذلك‪ ،‬مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير ‪ ،‬كما كان لنتشار العلماء بين‬
‫الجنود أثر كبير في تقوية عزائم الجنود وربطهم بالجهاد الحقيقي وفق أوامر ال‪.‬‬
‫وقد اعتنى السلطان بإقامة قلعة (روملي حصار) في الجانب الوروبي على مضيق البسفور‬
‫في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر السيوي ‪ ،‬وقد‬
‫حاول المبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد به‬
‫إل أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع‪ ،‬حتى اكتملت قلعة عالية‬
‫ومحصنة‪ ،‬وصل ارتفاعها الى ‪ 82‬مترا وأصبحت القلعتان متقابلتين ول يفصل بينهما سوى‬
‫‪660‬م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور الى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع‬
‫أي سفينة من الوصول الى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون‬
‫()‬
‫وغيرها من الماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة ‪. 2‬‬

‫أ‪ -‬اهتمام السلطان بجمع السلحة اللزمة‪:‬‬


‫اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع السلحة اللزمة لفتح القسطنطينية‪ ،‬ومن أهمها المدافع‬

‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬محمد فريد بك‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬سلطين آل عثمان‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-114-‬‬
‫التي أخذت اهتماما خاصا منه حيث أحضر مهندسا مجريا يدعى (أوربان) كان بارعا في‬
‫صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع المكانيات المالية والمادية والبشرية‪ ،‬وقد تمكن‬
‫هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني‬
‫المشهور‪ ،‬والذي ذكر أن وزنه كان يصل الى مئات الطنان وأنه يحتاج الى مئات الثيران‬
‫()‬
‫القوية لتحريكه‪ ،‬وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها ‪. 1‬‬

‫ب‪ -‬الهتمام بالسطول‪:‬‬


‫ويضاف الى هذا الستعداد مابذله الفاتح من عناية خاصة بالسطول العثماني حيث عمل‬
‫على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية ‪،‬‬
‫تلك المدينة البحرية التي ليكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة وقد ذكر أن‬
‫()‬
‫السفن التي أعدت لهذا المر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة ‪. 2‬‬

‫ج‪ -‬عقد معاهدات‪:‬‬


‫كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين‬
‫ليتفرغ لعدو واحد‪ ،‬فعقد معاهدة مع إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل‬
‫بيهما مضيق (القرن الذهبي) ‪ ،‬كما عقد معاهدات مع (المجد) و(البندقية) وهما من المارات‬
‫الوروبية المجاورة ‪ ،‬ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على‬
‫القسطنطينية‪ ،‬حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن‬
‫( ‪)3‬‬
‫مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين‪.‬‬ ‫القسطنطينية‬
‫في هذه الثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح استمات المبراطور البيزنطي في‬

‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.361‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪ ،90‬سالم الرشيدي ‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان ‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-115-‬‬
‫محاولته لثنيه عن هدفه‪ ،‬بتقديم الموال والهدايا المختلفة إليه‪ ،‬وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه‬
‫( ‪)1‬‬
‫ولكن السلطان كان عازما على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه المور عن‬ ‫ليؤثروا على قراره‬
‫هدفه‪ ،‬ولما رأى المبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد الى طلب‬
‫المساعدات من مختلف الدول والمدن الوروبية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي ‪،‬‬
‫في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة‬
‫الرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد وقد أضطر المبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه‬
‫ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي لم يكن الرثوذكس يرغبون في ذلك‪ ،‬وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب‬
‫منه الى القسطنطينية ‪ ،‬خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين‪ ،‬مما‬
‫أغضب جمهور الرثوذكس في المدينة‪ ،‬وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل‬
‫المبراطوري الكاثوليكي المشترك‪ ،‬حتى قال بعض زعماء الرثودكس ‪( :‬إنني افضل أن أشاهد‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللتينية)‬

‫ثانيا‪ :‬الهجوم‪:‬‬
‫كان القسطنطينية محاطة بالمياة البحرية في ثلث جبهات‪ ،‬مضيق البسفور ‪ ،‬وبحر مرمرة ‪،‬‬
‫والقرن الذهبي الذي كان محميا بسلسلة ضخمة جدا تتحكم في دخول السفن إليه‪ ،‬بالضافة الى‬
‫ذلك فإن خطين من السوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة الى القرن‬
‫الذهبي‪ ،‬يتخللها نهر ليكوس‪ ،‬وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه ‪ 60‬قدما ويرتفع السور‬
‫الداخلي منها ‪ 40‬قدما وعليه أبراج يصل ارتفاعها الى ‪ 60‬قدما ‪ ،‬وأما السور الخارجي فيبلغ‬

‫() انظر‪ :‬فتح القسطنطينية‪ ،‬محمد صفوت‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-116-‬‬
‫()‬
‫ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدما وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند ‪ ، 1‬وبالتالي فإن المدينة‬
‫من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصينا‪ ،‬لما عليها من السوار والقلع‬
‫والحصون إضافة الى التحصينات الطبيعية‪ ،‬وبالتالي فإنه يصعب اختراقها‪ ،‬ولذلك فقد‬
‫استعصت على عشرات المحاولت العسكرية لقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة اسلمية‬
‫سابقة كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط‬
‫اللزمة لحصارها‪ ،‬كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلعية يشاهد فيها استحكامات‬
‫()‬
‫القسطنطينية وأسوارها ‪ ، 2‬وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي‬
‫تكون صالحة لجر المدافع العملقة خللها الى القسطنطينية‪ ،‬وقد تحركت المدافع من أدرنة الى‬
‫قرب القسطنطينية‪ ،‬في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الجناد‬
‫العثمانية يقودها الفاتح بنفسه الى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس ‪ 26‬ربيع الول‬
‫‪857‬هـ الموافق ‪ 6‬أبريل ‪1453‬م ‪ ،‬فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي‪،‬‬
‫فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة ‪ ،‬وذكرهم فيها‬
‫بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء‪ ،‬وقرأ عليهم اليات القرآنية التي تحث على ذلك‪ ،‬كما ذكر‬
‫لهم الحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره‪ ،‬ومافي‬
‫()‬
‫فتحها من عز للسلم والمسلمين ‪ ،‬وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء ‪. 3‬‬
‫وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين معهم مما أثر في رفع معنوياتهم‬
‫()‬
‫حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب ‪. 4‬‬
‫وفي اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام السوار الخارجية للمدينة‪ ،‬مشكلً‬
‫() انظر‪ :‬سلطين آل عثمان‪ ،‬ص ‪2‬؛ محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.96‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬سالم الرشيدي‪ ،‬ص ‪82‬؛ فتح القسطنطينية محمد صفوت‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬سلطين آل عثمان‪ ،‬ص ‪.24،25‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوحات السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.364‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-117-‬‬
‫ثلثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات‪ ،‬كما أقام الفاتح‬
‫جيوشا احتياطية خلف الجيوش الرئيسية‪ ،‬وعمل على نصب المدافع أمام السوار‪ ،‬ومن أهمها‬
‫المدفع السلطاني العملق الذي أقيم أمام باب طب قابي ‪ ،‬كما وضع فرقا للمراقبة في مختلف‬
‫المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة‪ ،‬وفي نفس الوقت انتشرت السفن العثمانية في المياه‬
‫المحيطة بالمدينة‪ ،‬إل أنها لم تستطع الوصول الى القرن الذهبي بسبب وجود السلسلة الضخمة‬
‫التي منعت أي سفينة من دخوله بل وتدمر كل سفينة تحاول الدنو والقتراب‪ ،‬واستطاع‬
‫()‬
‫السطول العثماني أن تستولي على جزر المراء في بحر مرمرة ‪. 1‬‬
‫وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على‬
‫السوار‪ ،‬واحكموا التحصينات وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة‪ ،‬ولم يخلوا المر من‬
‫وقوع قتال بين العثمانيين المهاجمين والبيزنطيين المدافعين منذ اليام الولى للحصار‪ ،‬وفتحت‬
‫أبواب الشهادة وفاز عدد كبير من العثمانيين بها خصوصا من الفراد الموكلين بالقتراب من‬
‫البواب‪.‬‬
‫وكانت المدفعية العثمانية تطلق مدافعها من مواقع مختلفة نحو المدينة ‪ ،‬وكان لقذائفها‬
‫ولصوتها الرهيب دور كبير في إيقاع الرعب في قلوب البيزنطيين وقد تمكنت من تحطيم بعض‬
‫السوار حول المدينة‪ ،‬ولكن المدافعين كانوا سرعان مايعيدون بناء السوار وترميمها ‪.‬‬
‫ولم تنقطع المساعدات المسيحية من أوروبا ووصلت إمدادات من جنوة مكونة من خمس‬
‫سفن وكان يقودها القائد الجنوي جوستنيان يرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروبية‬
‫متعددة واستطاعت سفنهم أن تصل الى العاصمة البيزنطية العتيقة بعد مواجهة بحرية مع السفن‬
‫العثمانية المحاصرة للمدينة وكان لوصول هذه القوة أثر كبير في رفع معنويات البيزنطيين‪ ،‬وقد‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪98‬؛ العثمانيون والبلقان‪،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪-118-‬‬
‫()‬
‫عين قائدها جستيان قائدا للقوات المدافعة عن المدينة ‪. 1‬‬
‫وقد حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلسلة الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن‬
‫الذهبي والوصول بالسفن السلمية إليه‪ ،‬وأطلقوا سهامهم على السفن الوروبية والبيزنطية‬
‫()‬
‫ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم في البداية وارتفعت الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة ‪. 2‬‬
‫ولم يكل القس ورجال الدين النصارى‪ ،‬فكانوا يطوفون بشوارع المدينة‪ ،‬وأماكن التحصين‬
‫ويحرضون المسيحيين على الثبات والصبر‪ ،‬ويشجعون الناس على الذهاب الى الكنائس ودعاء‬
‫المسيح والسيدة العذراء أن يخلصوا المدينة‪ ،‬وأخذ المبراطور قسطنطين يتردد بنفسه على‬
‫()‬
‫كنيسة أيا صوفيا لهذا الهدف ‪. 3‬‬

‫ثالثا‪ :‬مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين‪:‬‬


‫استبسل العثمانيون المهاجمون على المدينة وعلى راسهم محمد الفاتح وصمد البيزنطيون‬
‫بقيادة قسطنطين صمودا بطوليا في الدفاع وحاول المبراطور البيزنطي أن يخلص مدينته‬
‫وشعبه بكل ما يستطيع من حيلة‪ ،‬فقدم عروضا مختلفة للسلطان ليغريه بالنسحاب مقابل‬
‫الموال أو الطاعة‪ ،‬أو غير ذلك من العروض التي قدمها ‪ ،‬ولكن الفاتح رحمه ال يرد بالمقابل‬
‫()‬
‫طالبا تسليم المدينة تسليما ‪ ، 4‬وأنه في هذه الحالة لن يتعرض أحد من أهلها ول كنائسها للذى‪،‬‬
‫وكان مضمون الرسالة‪( :‬فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن‬
‫يتعرض لحد في نفسه وماله وعرضه ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلم‬
‫()‬
‫ومن شاء رحل عنها حيث اراد في أمن وسلم أيضا) ‪. 5‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون والبلقاء‪ ،‬د‪.‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.92‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.120‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.100‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫‪4‬‬
‫() محمد الفاتح‪ ،‬عبدالسلم فهمي ‪ ،‬ص ‪.92‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-119-‬‬
‫كان الحصار ليزال ناقصا ببقاء مضيق القرن الذهبي في ايدي البحرية البيزنطية‪ ،‬ومع ذلك‬
‫فإن الهجوم العثماني كان مستمرا دون هوادة حيث أظهر جنود النكشارية شجاعة فائقة‪ ،‬وبسالة‬
‫نادرة‪ ،‬فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي‪ ،‬وفي يوم ‪18‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في السوار البيزنطية عند وادي ليكوس في‬ ‫أبريل‬
‫الجزء الغربي من السوار ‪ ،‬فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة‬
‫من الثغرة‪ ،‬كما حاولوا اقتحام السوار الخرى بالسللم التي ألقوها عليها‪ ،‬ولكن المدافعين عن‬
‫المدينة بقيادة جستنيان استماتوا في الدفاع عن الثغرة والسوار‪ ،‬واشتد القتال بين الطرفين ‪،‬‬
‫وكانت الثغرة ضيفة وكثرة السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين‪،‬ومع ضيق المكان‬
‫وشدة مقاومة العداء وحلول الظلم أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالنسحاب بعد أن أثاروا‬
‫()‬
‫الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة اخرى للهجوم ‪. 2‬‬
‫وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة‬
‫عنه‪ ،‬ولكن السفن البيزنطية والوروبية المشتركة‪ ،‬إضافة الى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف‬
‫السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج‪ ،‬استطاعوا جميعا من صد السفن السلمية‬
‫()‬
‫وتدمير بعضها‪ ،‬فاضطرت بقية السفن الى العودة بعد أن فشلت في تحقيق مهمتها ‪. 3‬‬

‫رابعا‪ :‬عزل قائد السطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح‪:‬‬


‫بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة اخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الوروبية‬
‫التي حاولت الوصول الى الخليج‪ ،‬حيث بذلت السفن السلمية جهودا كبيرة لمنعها ‪ ،‬وأشرف‬
‫الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل الى قائد السطول وقال له‪( :‬إما أن‬

‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.367‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬عبدالسلم فهمي‪ ،‬ص ‪.123‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.368‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-120-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫لكن‬ ‫تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها‪ ،‬واذا لم توفق في ذلك فل ترجع إلينا حيا)‬
‫السفن الوروبية نجحت في الوصول الى هدفها ولم تتمكن السفن العثمانية من منعها‪ ،‬رغم‬
‫الجهود العظيمة المبذولة لذلك وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضبا شديدا فعزل قائد‬
‫( ‪)2‬‬
‫بعد ما رجع الى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد السطول بالطه‬ ‫السطول‬
‫أوغلي وعنفه واتهمه بالجبن‪ ،‬وتأثر بالطة أوغلي لهذا وقال ‪( :‬إني استقبل الموت بجنان ثابت‪،‬‬
‫ولكن يؤلمني أن أموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة‪ .‬لقد قاتلت انا ورجالي بكل ماكان في وسعنا‬
‫()‬
‫من حيلة وقوة‪ ،‬ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة) ‪. 3‬‬
‫أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قد أعذر‪ ،‬فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه‪،‬‬
‫()‬
‫وجعل مكانه حمزة باشا ‪. 4‬‬
‫لقد ذكرت كتب التاريخ أن السلطان محمد الفاتح كان يراقب هذه المعارك البحرية وهو على‬
‫جواده وقد اندفع نحو البحر حتى غاص حصانه الى صدره وكانت السفن المتقاتلة على مرمى‬
‫حجر منه فأخذ يصيح لبطله أوغلي بأعلى صوته‪ :‬ياقبطان! ياقبطان! ويلوح له بيده‪ ،‬وضاعف‬
‫()‬
‫العثمانيون جهودهم في الهجوم دون أن يأثروا في السفن تأثيرا لينا ‪. 5‬‬
‫كانت الهزائم البحرية للسطول العثماني دور كبير في محاولة بعض مستشاري السلطان‬
‫وعلى رأسهم الوزير (خليل باشا) إقتناعه بالعدول عن الستيلء على القسطنطينية والرضا‬
‫بمصالحة أهلها دون السيطرة عليها وبالتالي رفع الحصار عنها‪ ،‬ولكن السلطان أصر على‬
‫محاولة الفتح واستمر في قصف دفاعات المدينة بالمدافع من كل جانب ‪ ،‬وفي الوقت نفسه كان‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.101‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬مواقف حاسمة‪ ،‬محمد عبدال عنان‪ ،‬ص ‪.180‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫‪4‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪-121-‬‬
‫يفكر بجدية في إدخال السفن السلمية الىالقرن الذهبي ‪ ،‬خصوصا وأن السوار من ناحية‬
‫القرن الذهبي متهاوية‪ ،‬وبالتالي سيضطر البيزنطيون الى سحب بعض قواتهم المدافعة عن‬
‫السوار الغربية من المدينة وبهذا التفريق للقوات المدافعة ستتهيأ فرصة أكبر في الهجوم على‬
‫()‬
‫تلك السوار بعد أن ينقص عدد المدافعين عنها ‪. 1‬‬

‫خامسا‪ :‬عبقرية حربية فذة‪:‬‬


‫لحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش الى القرن الذهبي‪،‬‬
‫وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعدا عن حي غلطة خوفا على سفنه من‬
‫الجنوبيين‪ ،‬وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلثة أميال‪ ،‬ولم تكن أرضا مبسوطة سهلة ولكنها‬
‫كانت وهادا وتللً غير ممهدة‪.‬‬
‫جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته‪ ،‬وحدد لهم مكان معركته القادمة‪ ،‬فتلقى‬
‫منهم كل تشجيع‪ ،‬واعربوا عن اعجابهم بها‪.‬‬
‫بدأ تنفيذ الخطة‪ ،‬وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الرض وسويت في ساعات قليلة وأتى‬
‫بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم‪ ،‬ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها‬
‫انزلج السفن وجرها‪ ،‬وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلل‬
‫()‬
‫المرتفعة‪ ،‬ال أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن ‪. 2‬‬
‫وجرت السفن من البسفور الىالبر حيث سحبت على تلك الخشاب المدهونة بالزيت مسافة‬
‫ثلثة أميال ‪ ،‬حتى وصلت الى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي‪ ،‬وتمكن العثمانيون في تلك‬
‫الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو‪،‬‬
‫بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك ‪ ،‬وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت‬

‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.369‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬عبدالسلم فهمي‪ ،‬ص ‪.100‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-122-‬‬
‫()‬
‫في الليل بعيدا عن أنظار العدو ومراقبته ‪. 1‬‬
‫كان هذا العمل عظيما بالنسبة للعصر الذي حدث فيه بل معجزة من المعجزات ‪ ،‬تجلى فيه‬
‫سرعة التفكير وسرعة التنفيذ‪ ،‬مما يدل على عقلية العثمانيين الممتازة‪ ،‬ومهارتهم الفائقة وهمتهم‬
‫العظيمة‪ .‬لقد دهش الروم دهشة كبرى عندما علموا بها‪ ،‬فما كان أحد ليستطيع تصديق ماتم‪.‬‬
‫لكن الواقع المشاهد جعلهم يذعنون لهذه الخطة الباهرة‪.‬‬
‫ولقد كان منظر هذه السفن بأشرعتها المرفوعة تسير وسط الحقول كما لو كانت تمخر عباب‬
‫البحر من أعجب المناظر وأكثرها اثارة ودهشة‪ .‬ويرجع الفضل في ذلك الى ال سبحانه وتعالى‬
‫ثم الىهمة السلطان وذكاءه المفرط‪ ،‬وعقليته الجبارة ‪ ،‬والى مقدرة المهندسين العثمانيين‪ ،‬وتوفر‬
‫اليدي العاملة التي قامت بتنفيذ ذلك المشروع الضخم بحماس ونشاط‪.‬‬
‫وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم ‪ 22‬أبريل على‬
‫()‬
‫تكبيرات العثمانيين المدوية‪ ،‬وهتافاتهم المتصاعدة‪ ،‬واناشيدهم اليمانية العالية ‪ ، 2‬في القرن‬
‫الذهبي‪ ،‬وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي‪ ،‬ولم يعد هناك حاجز‬
‫()‬
‫مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين ‪ ، 3‬ولقد عبر أحد المؤرخين‬
‫البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال‪( :‬ما رأينا ول سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء‬
‫الخارق‪ ،‬محمد الفاتح يحول الرض الى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلً من المواج‪،‬‬
‫()‬
‫لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل السكندر الكبر) ‪. 4‬‬
‫ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الشاعات والتنبؤات بينهم‪ ،‬وانتشرت شائعة تقول‪:‬‬

‫() الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.370‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬عبدالسلم فهمي‪،‬ص ‪.102‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.370‬‬ ‫‪3‬‬
‫() تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬يلماز أوزنتونا‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-123-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكان لوجود السفن السلمية في القرن‬ ‫ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة"‬
‫الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا‬
‫لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن السوار الخرى لكي يتولوا الدفاع عن السوار الواقعة‬
‫على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف السوار ‪ ،‬ولكنها في السابق تحميها المياه‪ ،‬مما أوقع‬
‫()‬
‫الخلل في الدفاع عن السوار الخرى ‪. 2‬‬
‫وقد حاول المبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير السطول العثماني في القرن‬
‫الذهبي إل أن محاولته المستميته كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط‬
‫والمحاولت‪.‬‬
‫واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع‪ ،‬وحاولوا تسلّق أسوارها‪،‬‬
‫وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم مايتهدم من أسوار مدينتهم ورد‬
‫المحاولت المكثفة لتسلق السوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتعبهم‬
‫()‬
‫وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس ‪. 3‬‬
‫كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي‪ ،‬مهمتها‬
‫تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل‬
‫()‬
‫حركة سفن العداء وأصابها بالشلل تماما ‪. 4‬‬

‫سادسا‪ :‬اجتماع بين الملك قسطنطين ومعاونيه‪:‬‬


‫عقد الملك قسطنطين ومعاونيه ومستشاريه ورجال النصرانية في المدينة اجتماعا‪ ،‬فأشاروا‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.106‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.106‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور ‪ ،‬ص ‪.371‬‬ ‫‪3‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.371‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-124-‬‬
‫عليه بالخروج بنفسه من المدينة والتوجه لطلب النجدات من المم المسيحية‪ ،‬والدول‬
‫الوروبية ‪ ،‬ولعل تأتي الجيوش النصرانية ‪ ،‬فيضطر محمد الفاتح لرفع الحصار عن مدينتهم‪،‬‬
‫ولكنه رفض هذا الرأي وأصر على أن يقاوم الى آخر لحظة ول يترك شعبه في المدينة حتى‬
‫يكون مصيره ومصيرهم واحدا‪ ،‬وأنه يعتبر هذا واجبه المقدس وأمرهم أن ل ينصحوه بالخروج‬
‫( ‪)1‬‬
‫ورجعت تلك‬ ‫أبدا وأكتفى بإرسال وفود تمثله الى مختلف أنحاء أوروبا لطلب المساعدة‬
‫الوفود تجر خلفها أذيال الخيبة وكانت الجهزة الستخباراتية للدولة العثمانية قد اخترقت‬
‫القسطنطينية وماحولها بحيث أصبحت القيادة العثمانية على علم تام بما يدور حولها‪.‬‬

‫سابعا‪ :‬الحرب النفسية العثمانية‪:‬‬


‫ضاعف السلطان محمد الثاني الهجوم على السوار وجعله مركزا وعنيفا‪ ،‬ضمن خطة أعدها‬
‫بنفسه أيضا لضعاف العدو‪ ،‬وكررت القوات العثمانية عملية الهجوم على السوار ومحاولة‬
‫تسلقها مرات عديدة بصورة بطولية بلغت غاية عظيمة من الشجاعة والتضحية والتفاني ‪ ،‬وكان‬
‫أكثر ما يرعب جنود المبراطور قسطنطين صيحاتهم وهي تشق عنان السماء وتقول‪( :‬ال أكبر‬
‫()‬
‫ال أكبر) فتنزل عليهم كالصواعق المدمرة ‪. 2‬‬
‫وشرع السلطان محمد الفاتح في نصب المدافع القوية على الهضاب الواقعة خلف غلطة‪،‬‬
‫وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحو الميناء وأصابت احدى القذائف سفينة تجارية‬
‫فأغرقتها في الحال‪ ،‬فخافت السفن الخرى واضطرت للفرار‪ ،‬واتخذت من أسوار غلطة ملجأ‬
‫لها‪ ،‬وظل الهجوم العثماني البري في موجات خاطفة وسريعة هجمة تلوى الخرى وكان‬
‫السلطان محمد الفاتح يوالي الهجمات واطلق القذائف في البر والبحر دون انقطاع ليلً ونهارا‬
‫من أجل انهاك قوى المحاصرين‪ ،‬وعدم تمكينهم من أن ينالوا أي قسط من راحة وهدوء بال‪،‬‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.116‬‬ ‫‪1‬‬


‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.106‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-125-‬‬
‫وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفة ونفوسهم مرهقة كليلة‪ ،‬وأعصابهم متوترة مجهودة تثور لي‬
‫سبب‪ ،‬واصبح كل واحد من الجنود ينظر الى صاحبه ويلحظ على وجهه علمات الذل‬
‫والهزيمة والفشل‪ ،‬وشرعوا يتحدثون علنا عن طرق النجاة والفلت بأرواحهم وما يتوقعونه من‬
‫العثمانيين اذا ما اقتحموا عليهم مدينتهم‪.‬‬
‫واضطر المبراطور قسطنطين الى عقد مؤتمر ثاني‪ ،‬اقترح فيه احد القادة مباغتة العثمانيين‬
‫بهجوم شديد عنيف لفتح ثغرة توصلهم بالعالم الخارجي وبينما هم في مجلسهم يتدارسون هذا‬
‫القتراح‪ ،‬قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم وأعلمهم بأن العثمانيين شنوا هجوما شديدا مكثفا‬
‫على وادي ليكونس‪ ،‬فترك قسطنطين الجتماع ووثب على فرسه‪ ،‬واستدعى الجند الحتياطي‬
‫()‬
‫ودفع بهم الى مكان القتال‪ ،‬واستمر القتال الى آخر الليل حتى انسحب العثمانيون ‪. 1‬‬
‫وكان السلطان محمد ‪-‬رحمه ال‪ -‬يفاجئ عدوه من حين لخر بفن جديد من فنون القتال‬
‫()‬
‫والحصار‪ ،‬وحرب العصاب وبأساليب جديدة وطرق حديثة مبتكرة غير معروفة للعدو ‪. 2‬‬
‫ففي المراحل المتقدمة من الحصار لجأ العثمانيون الى طريقة عجيبة في محاولة دخول‬
‫المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الرض من مناطق مختلفة الى داخل المدينة وسمع‬
‫سكانها ضربات شديدة تحت الرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريح‪ ،‬فأسرع‬
‫المبراطور بنفسه ومعه قواده ومستشاروه الى ناحية الصوت وأدركوا أن العثمانيين يقومون‬
‫بحفر أنفاق تحت الرض‪ ،‬للوصول الى داخل المدينة‪ ،‬فقرر المدافعون العداد لمواجهتها بحفر‬
‫أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين لمواجهتهم دون أن يعلموا‪ ،‬حتى إذا وصل العثمانيون الى‬
‫النفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا الى سراديب خاصة وسرية تؤدي الى داخل المدينة‬
‫ففرحوا بهذا‪ ،‬ولكن الفرحة لم تطل إذ فاجأهم الروم‪ ،‬فصبوا عليهم ألسنة النيران والنفط‬

‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.108‬‬ ‫‪1‬‬


‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.108‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-126-‬‬
‫المحترق والمواد الملتهبة ‪ ،‬فأختنق كثير منهم واحترق قسم آخر وعاد الناجون منهم أدراجهم‬
‫()‬
‫من حيث أتوا ‪. 1‬‬
‫لكن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين ‪ ،‬فعاودوا حفر انفاق اخرى ‪ ،‬وفي مواضع‬
‫مختلفة‪ ،‬من المنطقة الممتدة بين (أكرى فبو) وشاطئ القرن الذهبي وكانت مكانا ملئما للقيام‬
‫بمثل هذا العمل‪ ،‬وظلوا على ذلك حتى أواخر أيام الحصار وقد اصاب أهل القسطنطينية من‬
‫جراء ذلك خوف عظيم وفزع ليوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهم يمشون‬
‫ان هي أصوات خفية لحفر يقوم به العثمانيون‪ ،‬وكثيرا ماكان يخيل لهم ان الرض ستنشق‬
‫ويخرج منها الجند العثمانيون ويملئون المدينة ‪ ،‬فكانوا يتلفتون يمنة ويسرة‪ ،‬ويشيرون هنا‬
‫وهناك في فزع ويقولون ‪( :‬هذا تركي ‪،... ،‬هذا تركي) ويجرون هربا من أشباح يحسبونها انها‬
‫تطارهم ‪ ،‬وكثيرا ماكان يحدث أن تتناقل العامة الشاعة فتصبح كأنها حقيقة واقعة رأها احدهم‬
‫بعيني رأسه وهكذا داخل سكان القسطنطينية فزع شديد أذهب وعيهم‪ ،‬حتى لكأنهم (سكارى‬
‫وماهم بسكارى) ‪ ،‬فريق يجري‪ ،‬وفريق يتأمل السماء‪ ،‬ومجموعة تتفحص الرض‪ ،‬والبعض‬
‫ينظر في وجوه البعض الخر في عصبية زائدة وفشل ذريع‪.‬‬
‫ولم يكن عمل العثمايين هذا سهلً ‪ ،‬فان هذه النفاق التي حفروها قد أودت بحياة كثير منهم‪،‬‬
‫فماتوا اختناقا واحتراقا في باطن الرض‪ ،‬كما وقع الكثير منهم في بعض هذه المحاولت في‬
‫()‬
‫أسر الروم‪ ،‬فقطعت رؤوسهم وقذف بها الى معسكر العثمانيين ‪. 2‬‬

‫مفاجأة عسكرية عثمانية‪:‬‬


‫لجأ العثمانيون الى اسلوب جديد في محاولة القتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة‬
‫شامخة متحركة تتكون من ثلثة أدوار‪ ،‬وبارتفاع أعلى من السوار‪ ،‬وقد كسيت بالدروع‬

‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.372‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.110‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-127-‬‬
‫والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران‪ ،‬وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها ‪،‬‬
‫وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق السوار‪،‬‬
‫وقد وقع الرعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيون بهذه القلعة واقتربوا بها‬
‫من السوار عند باب رومانوس‪ ،‬فاتجه المبراطور بنفسه ومعه قواده ليتابع صد تلك القلعة‬
‫ودفعها عن السوار‪ ،‬وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالسوار ودار بين من فيها وبين‬
‫النصارى عند السوار قتل شديد واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق السوار‬
‫ونجحوا في ذلك‪ ،‬وقد ظن قسطنطين أن الهزيمة حلت به‪ ،‬إل أن المدافعين كثفوا من قذف‬
‫القلعة بالنيران حتى أثرت فيها وتمكنت منها النيران فاحترقت‪ ،‬ووقعت على البراج البيزنطية‬
‫()‬
‫المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين‪ ،‬وامتلء الخندق المجاور لها بالحجارة والتراب ‪. 1‬‬
‫ولم ييأس العثمانيون من المحاولة بل قال الفاتح وكان يشرف بنفسه على ماوقع‪ :‬غدا نصنع‬
‫()‬
‫أربعا أخرى ‪. 2‬‬
‫زاد الحصار وقوي واشتد حتى أرهق من بداخل المدينة من البيزنطيين‪ ،‬فعقد زعماء المدينة‬
‫اجتماعا ‪ 24‬مايو داخل قصر المبراطور وبحضوره شخصيا‪ ،‬وقد لح في الفق بوادر يأس‬
‫المجتمعين من إنقاذ المدينة حيث اقترح بعضهم على المبراطور الخروج بنفسه قبل سقوط‬
‫المدينة لكي يحاول جمع المساعدات والنجدات لنقاذها أو استعادتها بعد السقوط‪ ،‬ولكن‬
‫المبراطور رفض ذلك مرة اخرى وأصر على البقاء داخل المدينة والستمرار في قيادة شعبه‬
‫وخرج لتفقد السوار والتحصينات‪.‬‬
‫وأخذت الشاعات تهيمن على المدينة وتضعف من مقاومة المدافعين عنها‪ ،‬وكان من أقواها‬
‫عليهم ماحدث في يوم ‪ 16‬جمادىالولى الموافق ‪ 25‬مايو‪ ،‬حيث حمل أهل المدينة تمثالً للسيدة‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.144‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.122‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-128-‬‬
‫مريم العذراء (بزعمهم)‪ ،‬وأخذوا يتجولون به في ضواحي المدينة‪ ،‬يدعونه ويتضرعون الى‬
‫العذراء أن تنصرهم على أعدائهم‪ ،‬وفجأة سقط التمثال من أيديهم وتحطم‪ ،‬فرأوا في ذلك شؤم‬
‫ونذير بالخطر‪ ،‬وتأثر سكان المدينة وخصوصا المدافعين عنها‪ ،‬وحدث في اليوم التالي ‪ 26‬مايو‬
‫هطول أمطار غزيرة مصحوبة ببعض الصواعق‪ ،‬ونزلت إحدى الصواعق على كنيسة آيا‬
‫صوفيا‪ ،‬فتشأم البطريق ‪ ،‬وذهب الى المبراطور وأخبره أن ال تخلى عنهم وأن المدينة ستسقط‬
‫()‬
‫في يد المجاهدين العثمانيين‪ ،‬فتأثر المبراطور حتى أغمى عليه ‪. 1‬‬
‫وكانت المدفعية العثمانيةل تنفك عن عملها في دك السوار والتحصينات‪ ،‬وتهدمت أجزاء‬
‫كثيرة من السور والبراج وامتلئت الخنادق بالنقاض‪ ،‬التي يئس المدافعون من إزالتها‬
‫وأصبحت إمكانية اقتحام المدينة واردة في أي لحظة‪ ،‬إل أن اختيار موقع القتحام لم يحدد‬
‫()‬
‫بعد ‪. 2‬‬

‫ثامنا‪ :‬المفاوضات الخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين‪:‬‬


‫أيقن محمد الفاتح أن المدينة على وشك السقوط‪ ،‬ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلم؛‬
‫فكتب الى المبراطور رسالة دعاه فيه الى تسليم المدينة دون إراقة دماء‪ ،‬وعرض عليه تأمين‬
‫()‬
‫خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة الى حيث يشاؤون بأمان ‪ ، 3‬وأن‬
‫تحقن دماء الناس في المدينة ول يتعرضوا لي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو‬
‫الرحيل عنها‪ ،‬ولما وصلت الرسالة الى المبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم المر ‪،‬‬
‫فمال بعضهم الى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت‪ ،‬فمال‬
‫المبراطور الى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة‪ ،‬فرد المبراطور رسول الفاتح برسالة‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.118‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.375‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي ‪ ،‬ص ‪.119‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-129-‬‬
‫قال فيها‪( :‬إنه يشكر ال إذ جنح السلطان الى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما‬
‫القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها الى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه او يدفن‬
‫()‬
‫تحت أسوارها) ‪ ، 1‬فلما وصلت الرسالة الى الفاتح قال‪( :‬حسنا عن قريب سيكون لي في‬
‫()‬
‫القسطنطينية عرش او يكون لي فيها قبر) ‪. 2‬‬
‫وعمد السلطان بعد اليأس من تسليم المدينة صلحا الى تكثيف الهجوم وخصوصا القصف‬
‫المدفعي على المدينة‪ ،‬حتى أن المدفع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الستخدام‪ ،‬وقتل‬
‫المشتغلين له وعلى راسهم المهندس المجري أوربان الذي تولى الشراف على تصميم المدفع‪،‬‬
‫ومع ذلك فقد وجه السلطان بإجراء عمليات التبريد للمدافع بزيت الزيتون‪ ،‬وقد نجح الفنيون في‬
‫ذلك ‪ ،‬وواصلت المدافع قصفها للمدينة مرة أخرى‪ ،‬بل تمكنت من توجيه القذائف بحيث تسقط‬
‫()‬
‫وسط المدينة بالضافة الى ضربها للسوار والقلع ‪. 3‬‬

‫تاسعا‪ :‬السلطان محمد الفاتح يعقد اجتماع لمجلس الشوري‪:‬‬


‫عقد السلطان محمد الفاتح اجتماعا ضم مستشاريه وكبار قواده بالضافة الى الشيوخ‬
‫والعلماء‪ ،‬وقد طلب الفاتح من المجتمعين الدلء بآرائهم بكل صراحة دون تردد‪ ،‬فأشار بعضهم‬
‫بالنسحاب ومنهم الوزير خليل باشا الذي دعا الى النسحاب وعدم إراقة الدماء والتحذير من‬
‫غضب أوروبا النصرانية فيما لو استولى المسلمون على المدينة‪ ،‬الى غير ذلك من المبررات‬
‫()‬
‫التي طرحها‪ ،‬وكان متهما بمواطئة البيزنطيين ومحاولة التخذيل عنهم ‪ ، 4‬وقد قام بعض‬
‫الحضور بتشجيع السلطان على مواصلة الهجوم على المدينة حتى الفتح واستهان بأوروبا‬

‫() محمد الفاتح ‪ ،‬عبدالسلم فهمي ‪ ،‬ص ‪.116‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.376‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.376‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬فتح القسطنطينية ‪ ،‬محمد صفوت‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-130-‬‬
‫وقواتها‪ ،‬كما أشار الى تحمس الجند لتمام الفتح‪ ،‬وما في التراجع من تحطيم لمعنوياتهم‬
‫الجهادية‪ ،‬وكان من هؤلء أحد القواد الشجعان ويدعى (زوغنوش باشا) وهو من أصل ألباني‬
‫()‬
‫كان نصرانيا فأسلم حيث هون من شأن القوات الوروبية على السلطان ‪. 1‬‬
‫وذكرت كتب التاريخ موقف زوغنوش باشا فقالت‪( :‬ما أن سأله السلطان الفاتح عن رأيه‬
‫حتى استوفز في قعدته وصاح في لغة تركية تشوبها لكنة ارناؤوطية‪ :‬حاشا وكل أيها السلطان‪،‬‬
‫أنا ل أقبل أبدا ماقاله خليل باشا‪ ،‬فما أتينا هنا إل لنموت ل لنرجع‪ .‬وأحدث هذا الستهلل وقعا‬
‫عميقا في نفوس الحاضرين‪ ،‬وخيم السكون على المجلس لحظة ثم واصل زوغنوش باشا كلمه‬
‫فقال‪ :‬إن خليل باشا أراد بما قاله أن يخمد فيكم نار الحمية ويقتل الشجاعة ولكنه لن يبوء إل‬
‫بالخيبة والخسران‪ .‬ان جيش السكندر الكبير الذي قام من اليونان وزحف الى الهند وقهر‬
‫نصف آسيا الكبيرة الواسعة لم يكن اكبر من جيشنا فإن كان ذلك الجيش استطاع ان يستولي‬
‫على تلك الراضي العظيمة الواسعة أفل يستطيع جيشنا أن يتخطى هذه الكومة من الحجار‬
‫المتراكمة‪ ،‬وقد أعلن خليل باشا أن دول الغرب ستزحف إلينا وتنتقم ولكن مالدول الغربية هذه؟‬
‫وهل هي الدول اللتينية التي شغلها مابينها من خصام وتنافس‪ ،‬هل هي دول البحر المتوسط‬
‫التي لتقدر على شيء غير القرصنة واللصوصية؟ ولو أن تلك الدول أرادت نصرة بيزنطة‬
‫لفعلت وأرسلت إليها الجند والسفن‪ ،‬ولنفرض أن أهل الغرب بعد فتحنا القسطنطينية هبوا الى‬
‫الحرب وقاتلونا فهل سنقف منهم مكتوفي اليدي بغير حراك‪ ،‬أو ليس لنا جيش يدافع عن‬
‫كرامتنا وشرفنا؟‬
‫ياصاحب السلطنة ‪ ،‬أما وقد سالتني رأيي فلعلنها كلمة صريحة‪ ،‬يجب أن تكون قلوبنا‬
‫كالصخر ‪ ،‬ويجب ان نواصل الحرب دون أن يظهر علينا اقل ضعف أو خور‪ ،‬لقد بدأنا أمرا‬
‫فواجب علينا أن نتمه‪ ،‬ويجب أن نزيد هجماتنا قوة وشدة ونفتح ثغرات جديدة وننقض على‬

‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.377‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪-131-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪.‬‬ ‫العدو بشجاعة‪ .‬ل أعرف شيئا غير هذا‪ ،‬ول استطيع ان أقول شيئا غير هذا ‪)....‬‬
‫وبدأت على وجه الفاتح أمارات البشر والنشراح لسماع هذا القول‪ ،‬والتفت الى القائد‬
‫طرخان يسأله رأيه فأجاب على الفور ‪ :‬ان زوغنوش باشا قد اصاب فيما قال وانا على رأيه‬
‫ياسلطاني‪ .‬ثم سأل الشيخ آق شمس الدين والمولى الكوراني عن رأيهما‪ .‬وكان الفاتح يثق بهما‬
‫كل الثقة فأجابا أنهما على رأي زوغنوش باشا وقال‪( :‬يجب الستمرار في الحرب‪ ،‬وبالغاية‬
‫()‬
‫الصمدانية سيكون لنا النصر والظفر) ‪. 2‬‬
‫وسرت الحمية والحماس في جميع الحاضرين وابتهج السلطان الفاتح واستبشر بدعاء‬
‫()‬
‫الشيخين بالنصر والظفر ولم يملك نفسه من القول ‪ :‬من كان من اجدادي في مثل قوتي ‪ 3‬؟‬
‫لقد أيد العلماء الرأي القائل بمواصلة الجهاد كما فرح السلطان حيث كان يعبر عن رايه‬
‫ورغبته في مواصلة الهجوم حتى الفتح‪ ،‬وانتهى الجتماع بتعليمات من السلطان أن الهجوم العام‬
‫والتعليمات باقتحام المدينة باتت وشيكة وسيأمر بها فور ظهور الفرصة المناسبة وأن على‬
‫()‬
‫الجنود الستعداد لذلك ‪. 4‬‬

‫عاشرا ‪ :‬محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه‪:‬‬


‫في يوم الحد ‪ 18‬جمادى الولى ‪ 27‬من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى‬
‫الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى ال تعالى بالصلة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين‬
‫يديه ‪ ،‬لعل ال أن يسر لهم الفتح ‪ ،‬وانتشر هذا المر بين عامة المسلمين ‪ ،‬كما قام الفاتح بنفسه‬
‫ذلك اليوم بتفقد أسوار المدينة ومعرفة آخر احوالها ‪ ،‬وما وصلت إليه واوضاع المدافعين عنها‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح للرشيدي‪ ،‬ص ‪.122‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.122‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.122‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية ‪ ،‬محمد فريد‪ ،‬ص ‪.164‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-132-‬‬
‫في النقاط المختلفة ‪ ،‬وحدد مواقع معينة يتم فيها تركيز القصف العثماني ‪ ،‬تفقد فيها أحوالهم‬
‫وحثهم على الجد والتضحية في قتال العداء ‪ ،‬كما بعث إلى أل غلطة التي وقفت على الحياد‬
‫مؤكدا عليهم عدم التدخل فيما سيحدث ضامنا لهم الوفاء بعهده معهم ‪ ،‬وانه سيعوضهم عن كل‬
‫ما يخسرونه من جراء ما يحدث‪ .‬وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون نارا كثيفة حول‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬حتى خيل للروم أن النار قد‬ ‫معسكرهم وتعالت صيحاتهم وأصواتهم بالتهليل والتكبير‬
‫اندلعت في معسكر العثمانيين ‪ ،‬فإذا بهم يكتشفون أن العثمانيين يحتفلون بالنصر مقدما‪ ،‬مما‬
‫أوقع الرعب في قلوب الروم ‪ ،‬وفي اليوم التالي ‪ 28‬مايو كانت الستعدادات العثمانية على‬
‫أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها ‪ ،‬والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة‬
‫()‬
‫متفقدا وموجها ومذكرا بالخلص والدعاء والتضحية والجهاد ‪. 2‬‬
‫وكان الفاتح كلما مر بجمع من جنده خطبهم وأثار فيهم الحمية والحماس ‪ ،‬وأبان لهم أنهم‬
‫بفتح القسطنطينية سينالون الشرف العظيم والمجد الخالد ‪ ،‬والثواب الجزيل من ال تعالى وستسد‬
‫دسائس هذه المدينة التي طالما مالت عليهم العداء والمتآمرين وسيكون لول جندي ينصب‬
‫( ‪)3‬‬
‫على سور القسطنطينية الجزاء الوفى والقطاعات الواسعة‪.‬‬ ‫راية السلم‬
‫وكان علماء المسلمين وشيوخهم يتجولون بين الجنود ويقرأون على المجاهدين آيات الجهاد‬
‫والقتال وسورة النفال ‪ ،‬ويذكرونهم بفضل الشهادة في سبيل ال وبالشهداء السابقين حول‬
‫القسطنطينية وعلى رأسهم أبو أيوب النصاري ويقولون للمجاهدين ‪ :‬لقد نزل سيدنا محمد‬
‫عند هجرته إلى المدينة في دار أبي أيوب النصاري ‪ ،‬وقد قصد أبو أيوب إلى هذه البقعة‬
‫()‬
‫ونزل هنا ‪ ،‬وكان هذا القول يلهب الجند ويبعث في نفوسهم أشد الحماس والحمية ‪. 4‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان ‪ ،‬يوسف آصاف‪ ،‬ص ‪.60‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.378‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.125‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.126‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-133-‬‬
‫وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه اصدر إليهم التعليمات الخيرة ‪،‬‬
‫ثم ألقى عليهم الخطبة التالية‪" :‬إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول‬
‫ال ومعجزة من معجزاته وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا‬
‫أبناءنا العساكر فردا فردا ‪ ،‬أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد السلم قدرا وشرفا ‪ ،‬ويجب‬
‫على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه فل يصدر عن أحد منهم ما يجافي‬
‫هذه التعاليم ‪ ،‬وليتجنبوا الكنائس والمعابد ول يمسوها بأذى ‪ ،‬ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة‬
‫()‬
‫الذين ل يقاتلون ‪. 1 ). . .‬‬
‫وفي هذا الوقت كان المبراطور البيزنطي يجمع الناس في المدينة لقامة ابتهال عام دعا فيه‬
‫الرجال والنساء والصبيان للدعاء والتضرع والبكاء في الكنائس على طريقة النصارى لعله أن‬
‫يستجاب لهم فتنجوا المدينة من هذا الحصار ‪ ،‬وقد خطب فيهم المبراطور خطبة بليغة كانت‬
‫آخر خطبة خطبها ‪ ،‬حديث أكد عليهم بالدفاع عن المدينة حتى لو مات هو ‪ ،‬والستماتة في‬
‫حماية النصرانية أمام المسلمين العثمانيين ‪ ،‬وكانت خطبة رائعة كما يقول المؤرخون أبكت‬
‫الجميع من الحاضرين ‪ ،‬كما صلى المبراطور ومن معه من النصارى الصلة الخيرة في‬
‫( ‪)2‬‬
‫ثم قصد المبراطور قصره يزوره الزيارة الخيرة‬ ‫كنيسة آياصوفيا أقدس الكنائس عندهم‬
‫فودع جميع من فيه واستصفحهم وكان مشهدا مؤثرا وقد كتب مؤرخو النصارى عن هذا‬
‫المشهد ‪ ،‬فقال من حضره‪( ،‬لو أن شخصا قلبه من خشب أو صخر لفاضت عيناه بالدموع لهذا‬
‫()‬
‫المنظر) ‪. 3‬‬
‫وتوجه قسطنطين نحو صورة (يزعمون أنها صورة المسيح) معلقة في أحد الغرف فركع‬
‫تحتها وهمهم بعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر عند نحو‬
‫() المصدر السابق نفسه ‪ ،‬ص ‪.126‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.129‬‬ ‫‪2‬‬
‫() محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.129‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-134-‬‬
‫منتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ فرانتزتس ثم قاما برحلة تفقدية لقوات النصارى‬
‫المدافعة ولحظوا حركة الجيش العثماني النشطه المتوثبة للهجوم البري والبحري ‪ .‬وقبيل ذلك‬
‫الليل بقليل رذت السماء رذا خفيفا كأنما كانت ترش الرض رشا فخرج السلطان الفاتح من‬
‫خيمته ورفع بصره إلى السماء وقال‪( :‬لقد أولنا ال رحمته وعنايته فأنزل هذا المطر المبارك‬
‫()‬
‫في أوانه فإنه سيذهب بالغبار ويسهل لنا الحركة) ‪. 1‬‬

‫الحادي عشر‪" :‬فتح من ال ونصر قريب"‬


‫عند الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلثاء ‪ 20‬جمادى الولى سنة ‪857‬هـ الموافق ‪29‬‬
‫مايو ‪1435‬م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الوامر للمجاهدين الذين علت‬
‫أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو السوار ‪ ،‬وخاف البيزنطيون خوفا عظيما ‪ ،‬وشرعوا في دق‬
‫نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحريا في‬
‫وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام ‪ ،‬وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ولذلك‬
‫تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو العداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة ‪ ،‬وكان‬
‫الهجوم موزعا على كثير من المناطق ‪ ،‬ولكنه مركز بالدرجة الولى في منطقة وادي ليكوس ‪،‬‬
‫بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه ‪ ،‬وكانت الكتائب الولى من العثمانيين تمطر السوار‬
‫والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين ‪ ،‬ومع استبسال البيزنطيين‬
‫()‬
‫وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة ‪ ، 2‬وبعد أن انهكت الفرقة‬
‫الولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الولى ووجه الفرقة الثانية ‪ ،‬وكان‬
‫المدافعون قد أصابهم العياء ‪ ،‬وتمكنت الفرقة الجديدة ‪ ،‬من الوصول إلى السوار وأقاموا‬
‫عليها مئات السللم في محاولة جادة للقتحام ‪ ،‬ولكن النصارى استطاعوا قلب السللم‬

‫() المصدر السابق نفسه ‪،‬ص ‪.130‬‬ ‫‪1‬‬


‫() الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.380‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-135-‬‬
‫واستمرت تلك المحاولت المستمية من المهاجمين ‪ ،‬والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم‬
‫للتصدي لمحاولت التسلق ‪ ،‬وبعد ساعتين من تلك المحاولت أصدر الفاتح أوامره للجنود لخذ‬
‫قسط من الراحة ‪ ،‬بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة ‪ ،‬وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى‬
‫قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على السوار من نفس المنطقة وفوجئ المدافعون بتلك الموجة‬
‫الجديدة بعد أن ظنوا ان المر قد هدأ وكانوا ‪ ،‬قد أرهقوا ‪ ،‬في الوقت الذي كان المهاجمون‬
‫( ‪)1‬‬
‫كما كان القتال يجري‬ ‫دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لخذ نصيبهم من القتال‬
‫على قدم وساق في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في‬
‫وقت واحد‪ ،‬ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدو بدقة‬
‫أكثر ‪ ،‬وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين‬
‫على إنجاح الهجوم ‪ ،‬ومع ذلك أصدر السلطان محمد الوامر إلى جنوده بالنسحاب لكي يتيحوا‬
‫الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت السوار والمدافعين عنها بوابل من‬
‫القذائف ‪ ،‬واتعبتهم بعد سهرهم طوال الليل ‪ ،‬وبعد أن هدأت المدفعية جاء قسم جديد من شجعان‬
‫النكشارية يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي ل تنفك عن محاولة منع‬
‫المدافعين عنها وأظهر جنود النكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلثون‬
‫منهم تسلق السور أمام دهشة العداء ‪ ،‬ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد‬
‫()‬
‫تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند طوب قابي ورفعوا العلم العثمانية ‪. 2‬‬
‫مما زاد في حماس بقية الجيش للقحام كما فتّوا في عضد العداء ‪ ،‬وفي نفس الوقت أصيب‬
‫( ‪)3‬‬
‫مما أثر في بقية‬ ‫قائد المدافعين جستنيان بجراح بليغة دفعته إلى النسحاب من ساحة المعركة‬
‫المدافعين ‪ ،‬وقد تولى المبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور ‪ ،‬ص ‪.382‬‬ ‫‪2‬‬
‫() محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.137‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-136-‬‬
‫أحد السفن فارا من أرض المعركة ‪ ،‬وقد بذل المبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين‬
‫الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة‪ ،‬في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان‬
‫شخصيا على أشده‪ ،‬محاولً استغلل ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين‪.‬‬
‫وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية اخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام السوار‬
‫والستيلء على بعض البراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت العلم العثمانية‬
‫عليها‪ ،‬وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة‪ ،‬ولما رأى قسطنطين العلم‬
‫العثمانية ترفرف على البراج الشمالية للمدينة‪ ،‬أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملبسه حتى‬
‫()‬
‫ليعرف ‪ ،‬ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة ‪. 1‬‬
‫وكان لنتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم‬
‫النصارى المدافعين وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر‬
‫المدافعون بعد انتهاء قيادتهم‪ ،‬وهكذا تمكن المسلمون من الستيلء على المدينة وكان الفاتح‬
‫رحمه ال مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر‪ ،‬ولذة الفوز بالغلبة على العداء من‬
‫فوق صهوة جواده وكان قواده يهنئونه وهو يقول ‪( :‬الحمدل ليرحم ال الشهداء ويمنح‬
‫()‬
‫المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر) ‪. 2‬‬
‫كانت هناك بعض الجيوب الدفاعية داخل المدينة التي تسببت في استشهاد عدد من المجاهدين‬
‫‪ ،‬وقد هرب أغلب أهل المدينة الى الكنائس ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلثاء ‪ 20‬جمادي‬
‫الولى ‪857‬هـ الموافق ‪ 29‬من مايو ‪1453‬م‪ ،‬إل والسلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به‬
‫جنده وقواده وهم يرددون ‪ :‬ماشاء ال ‪ ،‬فالتفت إليهم وقال ‪ :‬لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية‬
‫وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل‪ ،‬وأمرهم بالرفق بالناس‬ ‫الذي أخبر عنهم رسول ال‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.139‬‬ ‫‪1‬‬


‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.131‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-137-‬‬
‫والحسان إليهم ‪ ،‬ثم ترجل عن فرسه وسجد ل على الرض شكرا وحمدا وتواضعا ل‬
‫()‬
‫تعالى) ‪. 1‬‬

‫الثاني عشر‪ :‬معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين‪:‬‬


‫توجه محمد الفاتح الى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس‬
‫والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم‪ ،‬وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى‬
‫داخلها خوفا عظيما‪ ،‬وقام أحد الرهبان بفتح البواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس‬
‫وطمأنتهم والعودة الى بيوتهم بأمان‪ ،‬فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب‬
‫الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلمهم‪ ،‬وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل‬
‫الكنيسة الى مسجد وأن يعد لهذا المر حتى تقام بها أول جمعة قادمة‪ ،‬وقد أخذ العمال يعدون‬
‫لهذا المر ‪ ،‬فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبرا‬
‫للخطيب‪ ،‬وقد يجوز تحويل الكنيسة الى المسجد لن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها في‬
‫الشريعة السلمية‪.‬‬
‫وقد اعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم‬
‫حق الحكم في القضايا المدنية‪ ،‬كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في القاليم الخرى ولكنه‬
‫()‬
‫في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع ‪. 2‬‬
‫لقد حاول المؤرخ النجليزي ادوارد شيبردكريسي في كتابة "تاريخ العثمانيين التراك أن‬
‫يشوه صوره الفتح العثماني للقسطنطينية ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقدا منه‬
‫( ‪)3‬‬
‫وسارت الموسوعة المريكية المطبوعة في عام ‪1980‬م في‬ ‫وبغضا للفتح السلمي المجيد‬

‫() الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.383‬‬ ‫‪1‬‬


‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.384‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة ‪ ،‬ص ‪.265‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-138-‬‬
‫حمأة الحقد الصليبي ضد السلم ‪ ،‬فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى‬
‫()‬
‫القسطنطينية‪ ،‬وساقهم الى اسواق الرقيق في مدينة ادرنة حيث تم بيعهم هناك ‪. 1‬‬
‫إن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول أن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة‬
‫رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة السرى والرفق بهم‪ ،‬وافتدى عددا كبيرا من السرى من‬
‫ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان‪ ،‬ورجال الدين ‪ ،‬واجتمع مع الساقفة وهدأ من روعهم ‪،‬‬
‫وطمأنهم الى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم‪ ،‬وأمرهم بتنصيب بطريرك‬
‫جديد فانتخبوا أجناديوس برطيركا‪ ،‬وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الساقفة الى‬
‫مقر السلطان‪ ،‬فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم‪ ،‬وتناول معه‬
‫الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى‪ ،‬دينية وسياسية واجتماعية وخرج البطريرك من لقاء‬
‫السلطان‪ ،‬وقد تغيرت فكرته تماما على السلطين العثمانيين وعن التراك‪ ،‬بل والمسلمين عامة‪،‬‬
‫وشعر انه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وانسانية رفيعة‪ ،‬ورجولة‬
‫مكتملة ‪ ،‬ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثرا ودهشة من بطريقهم‪ ،‬فقد كانوا يتصورون أن القتل‬
‫العام لبد لحقهم‪ ،‬فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في‬
‫()‬
‫اطمئنان وسلم ‪. 2‬‬
‫كان العثمانيون حريصون على اللتزام بقواعد السلم‪ ،‬ولذلك كان العدل بين الناس من أهم‬
‫المور التي حرصوا عليها‪ ،‬وكانت معاملتهم للنصارى خالية من أي شكل من أشكال التعصب‬
‫()‬
‫والظلم ‪ ،‬ولم يخطر ببال العثمانيين أن يضطهدوا النصارى بسبب دينهم ‪. 3‬‬
‫إن ملل النصارى تحت الحكم العثماني تحصلت على كافة حقوقها الدينية ‪ ،‬وأصبح لكل ملة‬
‫رئيس ديني ل يخاطب غير حكومة السلطان ذاتها مباشرة‪ ،‬ولكل ملة من هذه الملل مدارسها‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.267‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.134،135‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬جوانب مضيئة ‪ ،‬ص ‪.274‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-139-‬‬
‫الخاصة وأماكن للعبادة والديرة‪ ،‬كما أنه كان ليتدخل أحد في ماليتها وكانت تطلق لهم الحرية‬
‫()‬
‫في تكلم اللغة التي يريدونها ‪. 1‬‬
‫إن السلطان محمد الفاتح لم يظهر ما أظهره من التسامح مع نصارى القسطنطينية إل بدافع‬
‫‪ ،‬ثم بخلفائه الراشدين من بعده‪ ،‬الذين‬ ‫إلتزامه الصادق بالسلم العظيم‪ ،‬وتأسيا بالنبي الكريم‬
‫()‬
‫أمتلت صحائف تاريخهم بمواقف التسامح الكريم مع أعدائهم ‪. 2‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫الفاتح المعنوي للقسطنطينية‬
‫الشيخ آق شمس الدين‬

‫هو محمد بن حمزة الدمشقي الرومي ارتحل مع والده الى الروم‪ ،‬وطلب فنون العلوم وتبحر‬
‫فيها وأصبح علم من أعلم الحضارة السلمية في عهدها العثماني‪.‬‬
‫‪ ،‬كان مولوده في‬ ‫وهو معلم الفاتح ومربيه يتصل نسبه بالخليفة الراشد أبي بكر الصديق‬
‫دمشق عم ‪792‬هـ (‪1389‬م) حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره‪ ،‬ودرس في أماسيا‬
‫ثم في حلب ثم في انقرة وتوفي عام ‪1459‬هـ‪.‬‬
‫درّس الشيخ آق شمس الدين المير محمد الفاتح العلوم الساسية في ذلك الزمن وهي القرآن‬
‫الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم السلمية واللغات (العربية ‪ ،‬والفارسية والتركية) وكذلك‬
‫في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب وكان الشيخ آق ضمن العلماء‬
‫الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولى إمارة مغنيسا ليتدرب على ادارة الولية ‪،‬‬
‫وأصول الحكم ‪.‬‬

‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.283‬‬ ‫‪1‬‬


‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.287‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-140-‬‬
‫واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع المير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي‪:‬‬
‫()‬
‫(لتفتحن القسطنطينية فلنعم المير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) ‪. 1‬‬
‫وعندما أصبح المير محمد سلطانا على الدولة العثمانية‪ ،‬وكان شابا صغير السن وجّهه‬
‫شيخه فورا الى التحرك بجيوشه لتحقيق الحديث النبوي فحاصر العثمانيون القسطنطينية برا‬
‫وبحرا‪ .‬ودارت الحرب العنيفة ‪ 54‬يوما‪.‬‬
‫وعندما حقق البيزنطيون انتصارا مؤقتا وابتهج الشعب البيزنطي بدخول أربع سفن ارسلها‬
‫البابا إليهم وارتفعت روحهم المعنوية اجتمع المراء والوزراء العثمانيون وقابلوا السلطان محمد‬
‫الفاتح وقالوا له ‪( :‬إنك دفعت بهذا القدر الكبير من العساكر الى هذا الحصار جريا وراء كلم‬
‫أحد المشايخ ‪-‬يقصدون آق شمس الدين‪ -‬فهلكت الجنود وفسد كثير من العتاد ثم زاد المر على‬
‫()‬
‫هذا بأن عون من بلد الفرنج للكافرين داخل القلعة‪ ،‬ولم يعد هناك أمل في هذا الفتح‪. 2 )...‬‬
‫فأرسل السلطان محمد وزيره ولي الدين أحمد باشا الى الشيخ آق شمس الدين في خيمته يسأله‬
‫()‬
‫الحل فأجاب الشيخ‪( :‬لبد من أن يمنّ ال بالفتح) ‪. 3‬‬
‫ولم يقتنع السلطان بهذا الجواب‪ ،‬فأرسل وزيره مرة أخرى ليطلب من الشيخ أن يوضح له‬
‫أكثر‪ ،‬فكتب هذه الرسالة الى تلميذه محمد الفاتح يقول فيها‪( :‬هو المعزّ الناصر ‪ ...‬إن حادث‬
‫تلك السفن قد أحدث في القلوب التكسير والملمة وأحدث في الكفار الفرح والشماتة‪ .‬إن القضية‬
‫الثابتة هي ‪ :‬إن العبد يدبر وال يقدر والحكم ل‪ ...‬ولقد لجأنا الى ال وتلونا القرآن الكريم‬
‫وماهي إل سنة من النوم بعد إل وقد حدثت ألطاف ال تعالى فظهرت من البشارات مالم يحدث‬
‫()‬
‫مثلها من قبل) ‪. 4‬‬
‫() سبق تخريج الحديث‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬البطولة والفداء عند الصوفية‪ ،‬أسعد الخطيب‪ ،‬ص ‪.146‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.373‬‬ ‫‪3‬‬
‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.373‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-141-‬‬
‫أحدث هذا الخطاب راحة وطمأنينة في المراء والجنود‪ .‬وعلى الفور قرر مجلس الحرب‬
‫العثماني الستمرار في الحرب لفتح القسطنطينية‪ ،‬ثم توجه السلطان محمد الى خيمة الشيخ‬
‫شمس الدين فقبل يده‪ ،‬وقال ‪ :‬علمني ياسيدي دعاءً أدعو ال به ليوفقني ‪ ،‬فعلمه الشيخ دعاءً‪،‬‬
‫()‬
‫وخرج السلطان من خيمة شيخه ليأمر بالهجوم العام ‪. 1‬‬
‫اراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه لكن الشيخ كان قد‬
‫طلب أل يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول وغضب‬
‫محمد الفاتح وذهب بنفسه الى خيمة الشيخ ليستدعيه‪ ،‬فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة‬
‫بناءً على أمر الشيخ‪ ،‬فأخذ الفاتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر الى‬
‫الداخل فإذا شيخه ساجدا ل في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه‬
‫البيض يتدلى على الرض‪ ،‬ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور‪ ،‬ثم رأى السلطان شيخه‬
‫يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه‪ ،‬فقد كان يناجي ربه ويدعوه بأنزال النصر ويسأله‬
‫()‬
‫الفتح القريب ‪. 2‬‬
‫وعاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك الى مقر قيادته ونظر الى السوار المحاصرة فإذا‬
‫()‬
‫بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود الى القسطنطينية ‪. 3‬‬
‫ففرح السلطان بذلك وقال ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في‬
‫()‬
‫زمني ‪. 4‬‬
‫وقد ذكر الشوكاني في البدر الطالع أن الشيخ شمس الدين ظهرت بركته وظهر فضله وأنه‬

‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.373‬‬ ‫‪1‬‬


‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.374‬‬ ‫‪2‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.374‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬البدر الطالع (‪.)2/167‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-142-‬‬
‫()‬
‫حدد للسلطان الفاتح اليوم الذي تفتح فيه القسطنطينية على يديه ‪. 1‬‬
‫وعندما تدفقت الجيوش العثمانية الى المدينة بقوة وحماس‪ ،‬تقدم الشيخ الى السلطان الفاتح‬
‫()‬
‫ليذكره بشريعة ال في الحرب وبحقوق المم المفتوحة كما هي في الشريعة السلمية ‪. 2‬‬
‫وبعد أن أكرم السلطان محمد الفاتح جنود الفتح بالهدايا والعطايا وعمل لهم مأدبة حافلة‬
‫استمرت ثلثة أيام اقيمت خللها الزينات والمهرجانات‪ ،‬وكان السلطان يقوم بخدمة جنوده‬
‫بنفسه متمثلً بالقول السائد (سيد القوم خادمهم)‪ .‬ثم نهض ذلك الشيخ العالم الورع آق شمس‬
‫قال في شأنكم‪( :‬لتفتحن‬ ‫الدين وخطبهم‪ ،‬فقال‪ :‬ياجنود السلم‪ .‬اعلموا واذكروا أن النبي‬
‫()‬
‫القسطنطينية فلنعم المير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) ‪ . 3‬ونسأل ال سبحانه وتعالى أن‬
‫يوفقنا ويغفر لنا‪ .‬أل لتسرفوا في ما أصبتم من أموال الغنيمة ولتبذروا وأنفقوها في البر‬
‫والخير لهل هذه المدينة‪ ،‬واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه‪ .‬ثم التفت الى الفاتح وقال له ‪:‬‬
‫ياسلطاني ‪ ،‬لقد أصبحت قرة عين آل عثمان فكن على الدوام مجاهدا في سبيل ال‪ .‬ثم صاح‬
‫()‬
‫مكبرا بال في صوت جهوري جليد ‪. 4‬‬
‫وقد اهتدى الشيخ آق شمس الدين بعد فتح القسطنطينية الى قبر الصحابي الجليل أبي أيوب‬
‫()‬
‫النصاري بموضع قريب من سور القسطنطينية ‪. 5‬‬
‫()‬
‫وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقي خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا ‪. 6‬‬

‫الشيخ شمس الدين يخشى على السلطان من الغرور‪:‬‬


‫() المصدر السابق نفسه (‪.)166/2‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.374‬‬ ‫‪2‬‬
‫() سبق تخريج الحديث‪.‬‬ ‫‪3‬‬
‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.149‬‬ ‫‪4‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.149‬‬ ‫‪5‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.374‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪-143-‬‬
‫كان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حبا عظيما‪ ،‬وكانت له مكانة كبيرة في‬
‫نفسه وقد بين السلطان لمن حوله ‪-‬بعد الفتح‪( : -‬إنكم ترونني فرحا ‪ .‬فرحي ليس فقط لفتح هذه‬
‫القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب‪ ،‬في عهدي‪ ،‬هو مؤدبي الشيخ آق شمس‬
‫الدين‪.‬‬
‫وعبر الشيخ عن تهيبه لشيخه في حديث له مع وزيره محمود باشا‪ .‬قال السلطان الفاتح‪( :‬إن‬
‫احترامي للشيخ آق شمس الدين‪ ،‬احترام غير اختياري ‪ .‬إنني أشعر وأنا بجانبه بالنفعال‬
‫()‬
‫والرهبة) ‪. 1‬‬
‫ذكر صاحب البدر الطالع أن ‪ ...(:‬ثم بعد يوم جاء السلطان الى خيمة صاحب الترجمة ‪-‬‬
‫أي آق شمس الدين) ‪ -‬وهو مضطجع فلم يقم له فقبل السلطان يده وقال له جئتك لحاجة قال‪:‬‬
‫وماهي؟ قال‪ :‬ان ادخل الخلوة عندك فأبى فأبرم عليه السلطان مرارا وهو يقول‪ :‬ل‪ .‬فغضب‬
‫السلطان وقال أنه يأتي إليك واحد من التراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى عليّ فقال‬
‫الشيخ‪ :‬إنك اذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت ال‬
‫علينا ذلك والغرض من الخلوة تحصيل العدالة فعليك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئا من‬
‫النصائح ثم ارسل إليه ألف دينار فلم يقبل ولما خرج السلطان محمد خان قال لبعض من معه‪:‬‬
‫ماقام الشيخ لي‪ .‬فقال له‪ :‬لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله‬
‫()‬
‫للسلطين العظام فاراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو‪. 2 )....‬‬
‫هكذا كان هذا العالم الجليل الذي حرص على تربية محمد الفاتح على معاني اليمان والسلم‬
‫والحسان ولم يكن هذا الشيخ متبحرا في علوم الدين والتزكية فقط بل كان عالما في النبات‬
‫والطب والصيدلة‪ ،‬وكان مشهورا في عصره بالعلوم الدنيوية وبحوثه في علم النبات ومدى‬

‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.375‬‬ ‫‪1‬‬


‫() البدر الطالع (‪.)2/167‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-144-‬‬
‫مناسبتها للعلج من المراض‪ .‬وبلغت شهرته في ذلك أن أصبح مثلً بين الناس يقول‪( :‬إن‬
‫()‬
‫النبات ليحدث آق شمس الدين) ‪. 1‬‬
‫وقال الشوكاني عنه‪...( :‬وصار مع كونه طبيبا للقلوب طبيبا للبدان فإنه اشتهر أن الشجرة‬
‫()‬
‫كانت تناديه وتقول‪ :‬أنا شفاء من المرض الفلني ثم اشتهرت بركته وظهر فضله‪. 2 )...‬‬
‫وكان الشيخ يهتم بالمراض البدنية قدر عنايته بالمراض النفسية‪.‬‬
‫واهتم الشيخ آق شمس الدين اهتماما خاصا بالمراض المعدية‪ ،‬فقد كانت هذه المراض في‬
‫عصره تسبب في موت اللف‪ ،‬وألف في ذلك كتابا بالتركية بعنوان "مادة الحياة" قال فيه‪( :‬من‬
‫الخطأ تصور أن المراض تظهر على الشخاص تلقائيا‪ ،‬فالمراض تنتقل من شخص الى آخر‬
‫بطريق العدوى‪ .‬هذه العدوى صغيرة ودقيقة الى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة‪.‬‬
‫()‬
‫لكن هذا يحدث بواسطة بذور حيّة) ‪. 3‬‬
‫وبذلك وضع الشيخ آق شمس الدين تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلدي‪.‬‬
‫وهو أول من فعل ذلك ‪ ،‬ولم يكن الميكروسكوب قد خرج بعد‪ .‬وبعد أربعة قرون من حياة‬
‫الشيخ آق شمس الدين جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي لويس باستير ليقوم بأبحاثه وليصل‬
‫الى نفس النتيجة‪.‬‬
‫وأهتم الشيخ آق شمس الدين أيضا بالسرطان وكتب عنه وفي الطب ألف الشيخ كتابين هما‪:‬‬
‫(مادة الحياة) ‪ ،‬و(كتاب الطب) ‪ ،‬وهما باللغة التركية والعثمانية‪ .‬وللشيخ باللغة العربية سبع‬
‫كتب‪ ،‬هي ‪ :‬حل المشكلت‪ ،‬الرسالة النورية ‪ ،‬مقالت الولياء‪ ،‬رسالة في ذكر ال‪ ،‬تلخيص‬
‫()‬
‫المتائن‪ ،‬دفع المتائن‪ ،‬رسالة في شرح حاجي بايرام ولي ‪. 4‬‬
‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.375‬‬ ‫‪1‬‬
‫() البدر الطالع (‪.)2/166‬‬ ‫‪2‬‬
‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.376‬‬ ‫‪3‬‬
‫() العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.376‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪-145-‬‬
‫وفاته‪:‬‬
‫عاد الشيخ الى موطنه كونيوك بعد أن أحسس بالحاجة الى ذلك رغم إصرار السلطان على‬
‫()‬
‫بقائه في استنبول ومات عام ‪863‬هـ‪1459/‬م فعليه من ال الرحمة والمغفرة والرضوان ‪. 1‬‬
‫وهكذا سنة ال في خلقه ليخرج قائد رباني ‪ ،‬وفاتح مغوار إل كان حوله مجموعة من‬
‫العلماء الربانيين يساهمون في تعليمه وتربيته وترشيده والمثلة في ذلك كثيرة وقد ذكرنا دور‬
‫عبدال بن ياسين مع يحيى بن ابراهيم في دولة المرابطين‪ ،‬والقاضي الفاضل مع صلح الدين‬
‫في الدولة اليوبية ‪ ،‬وهذا آق شمس الدين مع محمد الفاتح في الدولة العثمانية فرحمة ال على‬
‫الجميع وتقبل ال جهودهم وأعمالهم وأعلى ذكرهم في المصلحين‪.‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫أثر فتح القسطنطينية على العالم الوروبي والسلمي‬

‫كانت القسطنطينية قبل فتحها عقبة كبيرة في وجه انتشار السلم في اوروبا ولذلك فإن‬
‫سقوطها يعني فتح السلم لدخول أوروبا بقوة وسلم لمعتنقيه أكثر من ذي قبل ‪ ،‬ويعتبر فتح‬
‫القسطنطينية من أهم أحداث التاريخ العالمي‪ ،‬وخصوصا تاريخ أوروبا وعلقتها بالسلم حتى‬
‫()‬
‫عده المؤرخون الوروبيون ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة ‪. 2‬‬
‫وقد قام السلطان بعد ذلك على ترتيب مختلف المور في المدينة‪ ،‬وإعادة تحصينها‪ ،‬واتخذها‬
‫()‬
‫عاصمة للدولة العثمانية وأطلق عليها لقب اسلم بول أي مدينة السلم ‪. 3‬‬

‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.376‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر ‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬يلماز أوزيونا‪ ،‬ص ‪.384‬‬ ‫‪2‬‬
‫() انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية‪ ،‬محمد فريد بك‪ ،‬ص ‪.164‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-146-‬‬
‫لقد تأثر الغرب النصراني بنبأ هذا الفتح‪ ،‬وانتاب النصارى شعور بالفزع واللم والخزي ‪،‬‬
‫وتجسم لهم خطر جيوش السلم القادمة من استنبول ‪ ،‬وبذل الشعراء والدباء ما في وسعهم‬
‫لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس النصارى ضد المسلمين ‪ ،‬وعقد المراء والملوك‬
‫اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادى النصارى الى نبذ الخلفات والحزازات وكان البابا نيقول‬
‫الخامس أشد الناس تأثرا بنبأ سقوط القسطنطينية‪ ،‬وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول‬
‫اليطالية وتشجيعها على قتال المسلمين‪ ،‬وترأس مؤتمرا عقد في روما أعلنت فيه الدول‬
‫المشتركة عن عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك‪.‬‬
‫وأوشك هذا الحلف أن يتم إل أن الموت عاجل البابا بسبب الصدمة العنيفة الناشئة عن سقوط‬
‫القسطنطينية في يد العثمانيين والتي تسببت في همه وحزنه فمات كمدا في ‪ 25‬مارس سنة‬
‫()‬
‫‪1455‬م ‪. 1‬‬
‫وتحمس المير فيليب الطيب دوق بورجونديا والتهب حماسا وحمية واستنفر ملوك النصارى‬
‫الى قتال المسلمين وحذ حذوه البارونات والفرسان والمتحمسون والمتعصبون للنصرانية‪،‬‬
‫وتحولت فكرة قتال المسلمين الى عقيدة مقدسة تدفعهم لغزو بلدهم ‪ ،‬وتزعمت البابوية في‬
‫روما حروب النصارى ضد المسلمين وكان السلطان محمد الفاتح بالمرصاد لكل تحركات‬
‫النصارى‪ ،‬وخطط ونفذ مارآه مناسبا لتقوية دولته وتدمير أعدائه‪ ،‬واضطر النصارى الذين‬
‫كانوا يجاورون السلطان محمد أو يتاخمون حدوده ففي آماسيا‪ ،‬وبلد المورة ‪ ،‬طرابيزون‬
‫وغيرهم أن يكتموا شعورهم الحقيقي‪ ،‬فتظاهروا بالفرح وبعثوا وفودهم الى السلطان في أدرنة‬
‫()‬
‫لتهنئته على انتصاره العظيم ‪. 2‬‬
‫وحاول البابا بيوس الثاني بكل ما أوتي من مقدرة خطابية ‪ ،‬وحنكة سياسية‪ ،‬تأجيج الحقد‬

‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.136،137‬‬ ‫‪1‬‬


‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.140‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-147-‬‬
‫الصليبي في نفوس النصارى شعوبا وملوكا‪ ،‬قادة وجنودا واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة‬
‫البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين ولما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها‬
‫الداخلية‪ ،‬فلقد انهكت حرب المائة عام انكلتر وفرنسا‪ ،‬كما أن بريطانيا كانت منهمكة في‬
‫مشاغلها الدستورية وحروبها الهلية‪ ،‬وأما أسبانيا فهي مشغولة بالقضاء على مسلمي الندلس‬
‫وأما الجمهوريات اليطالية فكانت تهتم بتوطيد علقاتها بالدولة العثمانية مكرهة وحبا في‬
‫المال ‪ ،‬فكانت تهتم بعلقتها مع الدولة العثمانية‪.‬‬
‫وانتهى مشروع الحملة الصليبية بموت زعيمها البابا واصبحت المجر والبندقية تواجه الدولة‬
‫العثمانية لوحدهما؛ أما البندقية فعقدت معاهدة صداقة وحسن جوار مع العثمانيين رعاية‬
‫لمصالحها وأما المجر فقد انهزمت أمام الجيوش العثمانية واستطاع العثمانيون أن يضموا الى‬
‫دولتهم بلد الصرب‪ ،‬واليونان والفلق والقرم والجزر الرئيسية في الرخبيل‪ .‬وقد تم ذلك في‬
‫()‬
‫فترة قصيرة ‪ ،‬حيث داهمهم السلطان الفاتح‪ ،‬وشتت شملهم ‪ ،‬واخذهم أخذا عظيما ‪. 1‬‬
‫وحاول البابا (بيوس الثاني) بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية تركيز جهوده في ناحيتين‬
‫اثنتين ‪ :‬حاول أولً أن يقنع التراك باعتناق الدين النصراني‪ ،‬ولم يقم بارسال بعثات تبشيرية‬
‫لذلك الغرض وانما اقتصر على ارسال خطاب الى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعضد‬
‫النصرانية‪ ،‬كما عضدها قبله قسطنطين وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه ان هو اعتنق‬
‫النصرانية مخلصا‪ ،‬ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكا بدخول الجنة‪ .‬ولما فشل البابا‬
‫في خطته هذه لجأ الى الخطة الثانية خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة‪ ،‬وكانت نتائج هذه‬
‫الخطة الثانية قد بدأ فشلها مسبقا بهزيمة الجيوش الصليبية والقضاء على الحملة التي قادها‬
‫()‬
‫هونياد المجري ‪. 2‬‬

‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.140‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.141‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-148-‬‬
‫وأما آثار هذا الفتح المبين في المشرق السلمي ‪ -‬فنقول لقد عم الفرح والبتهاج المسلمين‬
‫في ربوع آسيا وأفريقيا فقد كان هذا الفتح حلم الجداد وأمل الجيال ‪ ،‬ولقد تطلعت له طويلً‬
‫وهاقد تحقق وارسل السلطان محمد الفاتح رسائل الى حكام الديار السلمية في مصر والحجاز‬
‫وبلد فارس والهند وغيرها؛ يخبرهم بهذا النصر السلمي العظيم‪ -‬وأذيعت أنباء النتصار من‬
‫فوق المنابر‪ ،‬وأقيمت صلوات الشكر‪ ،‬وزينت المنازل والحوانيت وعلقت على الجدران‬
‫()‬
‫والحوائط والعلم والقمشة المزركشة بألوانها المختلفة ‪. 1‬‬
‫يقول ابن إياس صاحب كتاب (بدائع الزهور) في هذه الواقعة ‪( :‬فلما بلغ ذلك ‪ ،‬ووصل وفد‬
‫الفاتح‪ ،‬دقت البشائر بالقلعة‪ ،‬ونودي في القاهرة بالزينة‪ ،‬ثم أن السلطان عين برسباي أمير‬
‫()‬
‫آخور ثاني رسولً الى ابن عثمان يهنئه بهذا الفتح) ‪. 2‬‬
‫وندع المؤرخ أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور الناس وحالهم في القاهرة عندما‬
‫وصل إليها وفد الفاتح ومعهم الهدايا واسيران من عظماء الروم‪ ،‬قال ‪( :‬قلت ول الحمد والمنة‬
‫على هذا الفتح العظيم وجاء القاصد المذكور ومعه اسيران من عظماء اسطنبول وطلع بهما الى‬
‫السلطان (سلطان مصر إينال) وهما من أهل القسطنطينية وهي الكنيسة العظيمة باسطنبول فسر‬
‫السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم ودقت البشائر لذلك وزينت القاهرة بسبب ذلك أياما ثم‬
‫طلع القاصد المذكور وبين يديه السيران الى القلعة في يوم الثنين خامس وعشرين شوال بعد‬
‫أن اجتار القاصد المذكور ورفقته بشوارع القاهرة‪ .‬وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والماكن‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪.‬‬ ‫وأمعنوا في ذلك الى الغاية وعمل السلطان الخدمة بالحوش السلطاني من قلعة الجبل‪)..‬‬
‫وهذا الذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال الناس وأفراحهم في القاهرة بفتح‬
‫القسطنطينية ماهو إل صورة لنظائر لها قامت في البلد السلمية الخرى‪ .‬وقد بعث السلطان‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.142‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.142‬‬ ‫‪2‬‬
‫() النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (‪.)16/71‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-149-‬‬
‫محمد الفاتح برسائل الفتح الى سلطان مصر وشاه ايران وشريف مكة وأمير القرمان‪ ،‬كما بعث‬
‫بمثل هذه الرسائل الى المراء المسيحيين المجاورين له في المورة والفلق والمجر والبوسنة‬
‫()‬
‫وصربيا وألبانيا والى جميع أطراف مملكته ‪. 1‬‬

‫من رسالة الفاتح الى سلطان مصر‪:‬‬


‫واليك مقتطفات من رسالة الفاتح الى أخيه سلطان مصر الشرف اينال وهي من إنشاء الشيخ‬
‫أحمد الكوراني‪..( :‬إن من أحسن سنن أسلفنا رحمهم ال تعالى أنهم مجاهدون في سبيل ال‬
‫وليخافون لومة لئم ونحن على تلك السنة قائمون وعلى تيك المنية دائمون ممتثلين بقوله‬
‫تعالى ‪{ :‬قاتلوا الذين ليؤمنون بال}‪ ،‬ومستمسكين بقوله عليه السلم‪( :‬من أغبرت قدماه في‬
‫سبيل ال حرمه ال على النار) فهممنا في هذا العام عممه ال بالبركة والنعام معتصمين بحبل‬
‫ال ذي الجلل والكرام ومتمسكين بفضل الملك العلم الى أداء فرض الغزاء في السلم‬
‫مؤتمرين بأمره تعالى‪{:‬قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‪ }...‬وجهزنا عساكر الغزاة والمجاهدين من‬
‫البر والبحر لفتح مدينة ملئت فجورا وكفرا التي بقيت وسط الممالك السلمية تباهي بكفرها‬
‫فخرا ‪.‬‬
‫فكأنها حصف على الخد الغر‬
‫وكأنها كلف على وجه القمر‬
‫‪ .........‬هذه المدينة الواقع جانب منها في البحر وجانب منها في البر‪ ،‬فأعددنا لها كما‬
‫أمرنا ال بقوله ‪ { :‬وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ‪ } ..‬كل أهبة يعتد بها وجميع أسلحة يعتمد‬
‫عليها من البرق والرعد والمنجنيق والنقب والحجور وغيرها من جانب البر والفلك المشحون‬
‫والجوار المنشآت في البحر كالعلم من جانب البحر ونزلنا عليها في السادس والعشرين من‬
‫ربيع الول من شهور سنة سبع وخمسين وثمانمائة‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.142‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪-150-‬‬
‫فقلت للنفس جدي الن فاجتهدي‬
‫وساعديني فهذا ما تمنيت‬
‫فكلما دعوا إلى الحق أصروا واستكبروا وكانوا من الكافرين فأحطنا بها محاصرة وحاربناهم‬
‫وحاربونا وقاتلناهم وقاتلونا وجرى بيننا وبينهم القتال أربعة وخمسين يوما وليلة‬

‫إذا جاء نصر ال والفتح هين‬


‫على المرء معسور المور وصعبها‬
‫فمتى طلع الصبح الصادق من يوم الثلثاء يوم العشرين من جمادي الولى هجمنا مثل‬
‫النجوم رجوما لجنود الشياطين سخرها الحكم الصديقي ببركة العدل الفاروقي بالضرب‬
‫الحيدري لل عثمان قد من ال بالفتح قبل أن ظهرت الشمس من مشرقها { سيهزم الجمع‬
‫ويولون الدبر‪ ،‬بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }‪ ،‬وأول من قتل وقطع رأسه تكفورهم‬
‫اللعين الكنود فأهلكوا كقوم عاد وثمود فحفظهم ملئكة العذاب فأوردهم النار وبئس المآب فقتل‬
‫من قتل وأسر من به بقى وأغاروا على خزاينهم وأخرجوا كنوزهم ودفافينهم موفورا فأتى‬
‫عليهم حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد ل رب‬
‫العالمين فيومئذ يفرح المؤمنون بنصر ال‪ ،‬فلما ظهرنا على هؤلء الرجاس النجاس الحلوس‬
‫طهرنا القوس من القسوس وأخرجنا منه الصليب والناقوس وصيرنا معابد عبدة الصنام مساجد‬
‫أهل السلم وتشرفت تلك الخطة بشرف السكة والخطبة فوقع أمر ال وبطل ما كانوا‬
‫()‬
‫يعملون‪. 1 ......‬‬
‫وأرسل السلطان الفاتح رسالة إلى شريف مكة عن طريق سلطان مصر وقد رد سلطان‬
‫مصر على خطاب السلطان محمد وهداياه بمقطوعة من النثر الدبي الرفيع وجاءت فيها بعض‬
‫البيات الشعرية المعبرة مثل قول الشاعر‪:‬‬
‫() محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪ 163‬الى ‪.167‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪-151-‬‬
‫خطبتها بكرا وما أمهرتها‬
‫إل قنا وقواضبا وفوارسا‬
‫من كانت السمر العوالي مهره‬
‫جلبت له بيض الحصون عرايسا‬
‫ال أكبر ما جنيت ثمارها‬
‫( ‪)1‬‬
‫إل وكان أبوك قبلك غراسا‬
‫وقد جاء في رسالة سلطان مصر أيضا هذا البيت‪ :‬قال الشاعر‪:‬‬
‫ال أكبر هذا النصر والظفر‬
‫( ‪)2‬‬
‫هذا هو الفتح ل ما يزعم البشر‬
‫وقال شاعر سلطان مصر بمناسبة فتح القسطنطينية‪:‬‬
‫كذا فليكن في ال جل العزايم‬
‫وإل فل تجفو الجفون الصوارم‬
‫كتائبك البحر الخضم جيادها‬
‫إذا ما تهدت موجه المتلطم‬
‫تحيط بمنصور اللواء مظفر‬
‫له النصر والتأييد عبد وخادم‬
‫فيا ناصر السلم يا من بغزوه‬
‫على الكفر أيام الزمان مواسم‬
‫تهنّ بفتح سار في الرض ذكره‬
‫( ‪)3‬‬
‫سرى الغيث يحدوه الصبا والنعايم‬
‫() محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.175‬‬ ‫‪1‬‬
‫() المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.176‬‬ ‫‪2‬‬
‫() محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.177‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-152-‬‬
‫رسالة السلطان محمد الفاتح إلى شريف مكة ‪:‬‬
‫وجه السلطان محمد الفاتح رسالة إلى شريف مكة المكرمة بمناسبة فتح القسطنطينية بشره‬
‫فيها بالفتح‪ ،‬وطلب الدعاء‪ ،‬وأرسل له الهدايا من الغنائم‪ ،‬وهذه بعض فقراتها‪:‬‬
‫بعد مقدمة في المدح والثناء على شريف " مكة المكرمة " يقول ‪ " :‬فقد أرسلنا هذا الكتاب‬
‫مبشرا بما رزق ال لنا في هذه السنة من الفتوح التي ل عين رأت ول أذن سمعت‪ ،‬وهي‬
‫تسخير البلدة المشهورة بالقسطنطينية‪ ،‬فالمأمول من مقر عزكم الشريفة أن يبشر بقدوم هذه‬
‫المسرة العظمى والموهبة الكبرى‪ ،‬مع سكان الحرمين الشريفين‪ ،‬والعلماء والسادات المهتدين‪،‬‬
‫والزهاد والعباد الصالحين‪ ،‬والمشايخ‪ ،‬والمجاد الواصلين‪ ،‬والئمة الخيار المتقين‪ ،‬والصغار‬
‫والكبار أجمعين‪ ،‬والمتمسكين بأذيال سرادقات بيت ال الحرام‪ ،‬التي كالعروة الوثقى ل انفصام‬
‫لها والمشرفين بزمزم والمقام‪ ،‬والمعتكفين في قرب جوار رسول ال عليه التحية والسلم داعين‬
‫لدوام دولتنا في العرفات‪ ،‬متضرعين من ال نصرتنا‪ ،‬أفاض علينا بركاتهم ورفع درجاتهم‪،‬‬
‫وبعثنا مع المشار اليه هدية لكم خاصة ألفي فلوري من الذهب الخالص التام الوزن والعيار‬
‫المأخوذ من تلك الغنيمة‪ ،‬وسبعة آلف فلوري أخرى للفقراء‪ ،‬منها ألفان للسادات والنقباء‪ ،‬وألف‬
‫للخدام المخصوصين للحرمين‪ ،‬والباقي للمساكين المحتاجين في مكة والمدينة المنورة‪ ،‬زادهما‬
‫ال شرفا‪ ،‬فالمرجو منكم التقسيم بينهم بمقتضى احتياجهم وفقرهم‪ ،‬وإشعار كيفية السير إلينا‪،‬‬
‫وتحصيل الدعاء منهم لنا‪ ،‬دائما باللطف والحسان إن شاء ال تعالى‪ ،‬وال يحفظكم ويبقيكم‬
‫( ‪)1‬‬
‫بالسعادة البدية والسيادة السرمدية إلى يوم الدين‬
‫وقد رد شريف مكة على رسالة السلطان محمد الفاتح‪:‬‬
‫( وفتحناها بكمال الدب‪ ،‬وقرأناها مقابل الكعبة المعظمة بين أهل الحجاز وأبناء العرب‬
‫فرأينا فيها من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين‪ ،‬وشاهدنا من فحاويها ظهور معجزة رسول‬

‫() الدولة العثمانية ‪ ،‬الدكتور جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪-153-‬‬
‫ال خاتم النبيين وماهي إل فتح " القسطنطينية " العظمى وتوابعها التي متانة حصنها مشهورة‬
‫بين النام‪ ،‬وحصانة سورها معروفة عند الخواص والعوام وحمدنا ال بتيسير ذلك المر العسير‬
‫وتحصيل ذلك المهم الخطير‪ ،‬وبششنا ذلك غاية البشاشة‪ ،‬وابتهجنا من إحياء مراسم آبائكم‬
‫العظام والسلوك مسالك أجدادكم الكرام‪ ،‬روّح ال أرواحهم‪ ،‬وجعل أعلى غرف الجنان مكانهم‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫في إظهار المحبة لسكان الراضي المقدسة‬

‫المبحث الرابع‬
‫أسباب فتح القسطنطينية‬

‫إن فتح المسلمين للقسطنطينية لم يأتي من فراغ وإنما هو نتيجة لجهود تراكمية قام بها‬
‫المسلمون منذ العصور الولى للسلم رغبة من تلك الجيال في تحقيق بشارة رسول ال‬
‫وزاد الهتمام بفتح القسطنطينية مع ظهور دولة بني عثمان ونلحظ أن سلطين الدولة العثمانية‬
‫كانوا أصحاب فقه عميق لسنة الخذ بالسباب ومارس محمد الفاتح ذلك الفقه ويظهر ذلك من‬
‫خلل سيرته الجهادية وحرصه على العمل بقوله تعالى‪ { :‬وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن‬
‫رباط الخيل ‪ ( } ...‬سورة النفال‪ ،‬آية‪.)60 :‬‬
‫لقد فهم محمد الفاتح من هذه الية أن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى‪،‬‬
‫على اختلفها وتنوعها‪ ،‬ولقد قام بشرح هذه الية شرحا عمليا في جهاده الميمون فقام بحشد‬
‫جيش عظيم لحصار القسطنطينية ولم يتوانا في جلب كل سلح معروف في زمانه من مدافع‪،‬‬
‫وفرسان‪ ،‬ورماة ‪ ..‬الخ‬

‫() المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.48‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪-154-‬‬
‫ولقد كان الجيش الذي حاصر القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح قد أعد إعدادا ربانيا فتربى‬
‫على معاني اليمان والتقوى‪ ،‬وتحمل المانة وأداء الرسالة المنوطة به ولقد تربى على معاني‬
‫العقيدة الصحيحة وأشرف العلماء الربانيون على تلك التربية ولقد جعلوا من كتاب ال تعالى‬
‫وسنة نبيه منهجا لهم في تربية الفراد‪ ،‬فكانوا يربونهم على‪:‬‬
‫‪ -1‬إن ال تعالى واحد لشريك له‪ ،‬ولم يتخذ صاحبة ول ولدا وأنه منزه عن النقائص‪،‬‬
‫وموصوف بالكمالت التي لتتناهى‪.‬‬
‫‪ -2‬وأنه سبحانه خالق كل شيء‪ ،‬ومالكه‪ ،‬ومدبر أمره { أل له الخلق والمر} ( سورة‬
‫العراف‪.) 54 :‬‬
‫‪ -3‬وأنه سبحانه وتعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود‪ ،‬دقت أو عظمت‪ ،‬ظهرت أو خفيت‬
‫{ وما بكم من نعمة فمن ال } ( سورة النحل‪.) 53 :‬‬
‫‪ -4‬وأن علمه محيط بكل شيء‪ ،‬فل تخفى عليه خافية في الرض‪ ،‬ول في السماء‪ ،‬ومال‬
‫يخفى النسان ومال يعلن‪ { :‬وأن ال قد أحاط بكل شيء علما} ( سورة الطلق‪.)12 :‬‬
‫‪ -5‬وأنه سبحانه يقيد على النسان أعماله بواسطة ملئكته‪ ،‬في كتاب ليترك صغيرة ول‬
‫كبيرة إل أحصاها وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب { مايلفظ من قول إل لديه‬
‫رقيب عتيد } ( سورة ق‪.) 8 :‬‬
‫‪ -6‬وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف مايحبون‪ ،‬وما يهوون‪ ،‬ليعرف الناس معادنهم‪ ،‬من‬
‫منهم يرضى بقضاء ال وقدره‪ ،‬ويسلم له ظاهرا وباطنا‪ ،‬فيكون جديرا بالخلفة والمامة‬
‫والسيادة‪ ،‬ومن منهم يغضب ويسخط فل يساوي شيئا وليسند إليه شيء ‪ { :‬الذي خلق الموت‬
‫والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملً } ( سورة الملك‪.) 2 :‬‬
‫‪ -7‬وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه‪ ،‬ولذ بحماه ونزل على حكمه في كل ما‬
‫يأتي وما يذر ‪ { :‬إن وليّ ال الذي نزل الكتاب‪ ،‬وهو يتولى الصالحين } ( سورة العراف‪:‬‬
‫‪.) 196‬‬
‫‪-155-‬‬
‫‪ -8‬وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه‪ ،‬ويوحدوه‪ ،‬فل يشركوا به شيئا‪ { :‬بل ال‬
‫فاعبد وكن من الشاكرين } ( سورة الزمر‪.) 16 :‬‬
‫‪ -9‬وأنه سبحانه ‪ -‬حدد مضمون هذه العبودية‪ ،‬وهذا التوحيد في القرآن العظيم‪.‬‬
‫في تربية الفراد والجنود على حقيقة‬ ‫ولقد نهج علماء الدولة العثمانية منهج الرسول‬
‫المصير وسبيل النجاة وركزوا في البيان على الجوانب التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬إن هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال‪ ،‬وأن متاعها مهما عظم‪ ،‬فإنه قليل حقير ‪:‬‬
‫{ إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الرض‪ ،‬مما يأكل الناس‬
‫والنعام‪ ،‬حتى إذا أخذت الرض زخرفها وازينت‪ ،‬وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا‬
‫ليلً أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالمس‪ ،‬كذلك نفصل اليات لقوم يتفكرون } ( سورة‬
‫يونس‪{ .) 24 :‬قل متاع الدنيا قليل } ( النساء‪.) 77 :‬‬
‫‪ -2‬وأن كل الخلق إلى ال راجعون‪ ،‬وعن أعمالهم مسؤولون ومحاسبون وفي الجنة أو في‬
‫النار مستقرون‪ { :‬أيحسب النسان أن يترك سدى } (القيامة‪.)36:‬‬
‫‪ -3‬وأن نعيم الجنة ينسي كل تعب ومرارة في الدنيا‪ ،‬وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة‬
‫وحلوة في هذه الدنيا ‪ { :‬أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون‪ ،‬ما أغنى عنهم‬
‫ما كانوا يمتعون } ( سورة الشعراء‪:‬‬
‫‪.) 205-207‬‬
‫‪ -4‬وأن الناس مع زوال الدنيا‪ ،‬واستقرارهم في الجنة‪ ،‬أو في النار‪ ،‬سيمرون بسلسلة طويلة‬
‫من الهوال والشدائد‪ { :‬يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم‪ ،‬يوم ترونها‬
‫تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم‬
‫بسكارى‪ ،‬ولكن عذاب ال شديد‪ ( }..‬سورة الحج‪ .) 2-1 :‬وقال تعالى ‪ { :‬فكيف تتقون إن‬
‫كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا‪ ،‬السماء منفطر به كان وعده مفعول } ( سورة المزمل‪18-17 :‬‬
‫)‪.‬‬
‫‪-156-‬‬
‫‪ -5‬وسبيل النجاة من شر هذه الهوال‪ ،‬ومن تلك الشدائد‪ ،‬والظفر بالجنة والبعد عن‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬باليمان بال تعالى وعمل الصالحات ابتغاء مرضاته‪ { :‬إن الذين آمنوا وعملوا‬ ‫النار‬
‫الصالحات لهم جنات تجري من تحتها النهار ذلك الفوز الكبير} ( سورة البروج‪.) 11 :‬‬
‫في تبصير الفراد‬ ‫ومضى العلماء الربانيون في الدولة العثمانية على منهج الرسول‬
‫والجنود والقادة والشعب بدورهم ورسالتهم في الرض‪ ،‬ومنزلتهم ومكانتهم عند ال وظلوا على‬
‫هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم‪ ،‬مالهم عند ال‪ ،‬ومادورهم ورسالتهم في‬
‫الرض‪ ،‬وتأثرا بهذه التربية الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس الفراد والجنود والقادة‬
‫فهذا محمد الفاتح نفسه الذي تربى على هذا المنهج يفتخر بهذه المعاني والقيم في أشعاره فنجده‬
‫يقول‪:‬‬
‫وحماسي‪ :‬بذل الجهد لخدمة ديني‪ ،‬دين ال‬
‫عزمي‪ :‬أن أقهر أهل الكفر جميعا بجنودي‪ :‬جند ال‬
‫وتفكيري‪ :‬منصب على الفتح‪ ،‬على النصر على الفوز‪ ،‬بلطف ال‬
‫جهادي‪ :‬بالنفس وبالمال‪ ،‬فماذا في الدنيا بعد المتثال لمر ال‬
‫وأشواقي‪ :‬الغزو الغزو مئات اللف من المرات لوجه ال‬
‫()‬
‫رجائي‪ :‬في نصر ال‪ .‬وسمو الدولة على أعداء ال ‪. 2‬‬
‫وعندما أراد السلطان محمد فتح مدينة طرابزون وكان حاكمها نصراني وكان يريد أن‬
‫يباغتها على غرة‪ ،‬فأعد العدة‪ ،‬واستصحب معه عددا كبيرا من العمال المتخصصين في قطع‬
‫الشجار وتعبيد الطرق‪ .‬وقد صادف الفاتح في طريقه بعض الجبال العالية الوعرة فترجل عن‬
‫فرسه وتسلقها على يديه ورجيله كسائر الجند (وكانت معه والدة حسن اوزون زعيم التركمان‬

‫() انظر‪ :‬منهج الرسول في غرس الروح الجهادية ‪ ،‬ص ‪ 19‬الى ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬
‫() انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.258‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-157-‬‬
‫جاءت للصلح بين السلطان محمد وابنها) فقالت له‪( :‬فيم تشقى كل هذا الشقاء يابني وتتكبد‬
‫كل هذا العناء‪ ،‬هل تستحق طرابزون كل هذا؟ ) ‪ ..‬فأجاب الفاتح‪ :‬ياأماه ‪ ،‬إن ال قد وضع هذا‬
‫السيف في يدي لجاهد به في سبيله‪ ،‬فإذا أنا لم أتحمل هذه المتاعب وأؤد بهذا السيف حقه فلن‬
‫( ‪)1‬‬
‫وهكذا كان‬ ‫أكون جديرا بلقب الغازي الذي احمله وكيف القى ال بعد ذلك يوم القيامة؟‬
‫معظم الجنود والقادة بسبب تربيتهم اليمانية العميقة‪.‬‬
‫لقد كان جيش محمد الفاتح في حصار القسطنطينية على جانب عظيم من التمسك بالعقيدة‬
‫()‬
‫الصحيحة‪ ،‬والعبادات وإقامة شعائر الدين والخضوع ل رب العالمين ‪. 2‬‬
‫لقد ذكر المؤرخون أسباب كثيرة في فتح القسطنطنية‪ ،‬كضعف الدولة البيزنطية‪،‬‬
‫والصراعات العقدية بداخلها‪ ،‬والتآكل الداخلي للدول الوروبية بسبب القتال الذي نشأ بين الدول‬
‫الوروبية لعقود طويلة وغير ذلك من السباب‪.‬‬
‫أثر تحكيم شرع ال تعالى على الدولة العثمانية في زمن السلطان محمد الفاتح‪:‬‬
‫وفي حياة المم والشعوب تكسب العبد معرفة اصيلة‬ ‫إن التأمل في كتاب ال وسنة رسوله‬
‫بأثر سنن ال في النفس والكون والفاق‪ ،‬وكتاب ال تعالى مليء بسننه وقوانينه المبثوثة في‬
‫المجتمعات والدول والشعوب قال تعالى‪{ :‬يريد ال ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم‬
‫ويتوب عليكم وال عليم حكيم} (سورة النساء‪ :‬آية ‪.)26‬‬
‫يقتنص‬ ‫‪ ،‬فقد كان‬ ‫وسنن ال تتضح بالتدبر في كتاب ال وفميا صح عن رسول ال‬
‫الفرص ويستفيد من الحداث ليرشد أصحابه الى شيء من السنن ‪ ،‬ومن ذلك أن ناقته عليه‬
‫الصلة والسلم "العضباء" كانت ل تُسبق‪ ،‬فحدث مرة أن سبقها أعرابي على قعود له‪ ،‬فشق‬
‫فقال لهم عليه الصلة والسلم كاشفا عن سنة من سنن ال ‪( :‬حق‬ ‫ذلك على أصحاب النبي‬

‫() انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.263‬‬ ‫‪1‬‬


‫() انظر‪ :‬الحسبة في العصر المملوكي ‪ ،‬د‪ .‬حيدر الصافح‪ ،‬ص ‪.206‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪-158-‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪.‬‬ ‫على ال أن ل يرفع شيء من الدنيا إل وضعه)‬
‫سيْر‪ ،‬وفي الزمنة من‬
‫وقد أرشدنا كتاب ال الى تتبع آثار السنن في المكنة بالسعي وال َ‬
‫التاريخ والسير قال تعالى‪{ :‬قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الرض فانظروا كيف كان عاقبة‬
‫المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} (سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.)138-137‬‬
‫وأرشدنا القرآن الكريم الى معرفة السنن بالنظر والتفكر قال تعالى ‪{ :‬قل أنظروا ماذا في‬
‫السموات والرض وما تغني اليات والنذر عن قوم ليؤمنون‪ ،‬فهل ينظرون إل مثل أيام الذين‬
‫خلو من قبلهم‪ ،‬قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين} (سورة يونس‪ :‬اليات ‪.)102-101‬‬
‫ومن خلل آيات القرآن يظهر لنا أن السنن اللهية تختص بخصائص‪:‬‬
‫أولً‪ :‬إنها قدر سابق‪:‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬ماكان على النبي من حرج فيما فرض ال له سنة ال في الذين خلوا من قبل‬
‫وكان أمر ال قدرا مقدورا} (سورة الحزاب‪ :‬آية ‪.)38‬‬
‫أي أن حكم ال تعالى وأمره الذي يقدره كائن لمحالة‪ ،‬وواقع لحياد عنه‪ ،‬ول معدل فيما‬
‫شاء وكان ومالم يشأ لم يكن ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أنها لتتحول ولتتبدل ‪:‬‬
‫قال تعالى ‪{ :‬لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك‬
‫بهم‪ ،‬ثم ليجاورنك فيها إل قليلً‪ ،‬ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقيلً‪ ،‬سنة ال في الذين خلوا‬
‫من قبل ولن تجد لسنة ال تبديل} (سورة الحزاب‪ :‬اليات ‪.)62-60 ،23-22‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الدبار ثم ليجدون وليا ول نصيرا سنة ال التي‬
‫قد خلت من قبل ولن تجد لسنة ال تبديلً} (سورة الفتح‪ :‬الية ‪.)22،23‬‬

‫ثالثا‪ :‬إنها ماضية ل تتوقف‪:‬‬


‫() اخرجه البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد والسير ‪ ،‬باب ناقة رسول ال (‪.)6/86‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪-159-‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ماقد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة‬
‫الولين } ( سورة غافر‪ :‬اليات ‪.)85-82‬‬
‫رابعا‪ :‬أنها لتخالف ول تنفع مخالفتها‪:‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬أفلم يسيروا في الرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم‪ ،‬كانوا أكثر‬
‫منهم وأشد قوة وأثارا في الرض‪ ،‬فما أغنى عنهم ماكانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات‬
‫فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ماكانوا به يستهزئون‪ ،‬فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بال وحده‬
‫وكفرنا بما كنا به مشركين‪ ،‬فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت ال التي قد خلت في‬
‫عباده‪ ،‬وخسر هنالك الكافرون} (سورة غافر‪ :‬اليات ‪.)85-82‬‬
‫خامسا‪ :‬لينتفع بها المعاندون ولكن يتعظ بها المتقون ‪:‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‬
‫هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} (سورة آل عمران ‪ :‬اليات ‪.)138-137‬‬

‫سادسا‪ :‬إنها تسري على البر والفاجر‪:‬‬


‫فالمؤمنون والنبياء أعلهم قدرا تسري عليهم سنن ال ول سنن جارية تتعلق بالثار‬
‫المترتبة على من امتثل أمر ال أو أعرض عنه وبما أن العثمانيين ألتزموا بشرع ال في كافة‬
‫شؤونهم ومروا بمراحل طبيعية في حياة الدول فإن أثر حكم ال فيهم واضح بيّن‪:‬‬
‫وللحكم بما أنزل ال آثار دنيوية وآخرى أخروية أما الثار الدنيوية التي ظهرت لي من‬
‫خلل دراستي للدولة العثمانية فإنها‪:‬‬

‫أولً‪ :‬الستخلف والتمكين‪:‬‬


‫حيث نجد العثمانيين منذ زعيمهم الول عثمان حتى محمد الفاتح ومن بعده حرصوا على‬
‫إقامة شعائر ال على أنفسم وأهليهم وأخلصوا ل في تحاكمهم الى شرعه‪ ،‬فال سبحانه وتعالى‬
‫قواهم وشد أزرهم واستخلفهم في الرض وأقام العثمانيون شريعة ال في الرض التي‬

‫‪-160-‬‬
‫حكموها‪ ،‬فمكن لهم المولى عز وجل الملك ووطأ لهم السلطان‪.‬‬
‫وهذه سنة ربانية نافذة لتتبدل في الشعوب والمم التي تسعى جاهدة لقامة شرع ال‪.‬‬
‫وقد خاطب تعالى المؤمنين من هذه المة واعدا إياهم بما وعد به المؤمين قبلهم‪ ،‬فقال سبحانه‬
‫في سورة النور ‪{ :‬وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض (بدلً‬
‫()‬
‫من الكفار) كما استخلف الذين من قبلهم} من بني أسرائيل ‪. 1‬‬
‫ولقد حقق العثمانيون اليمان وتحاكموا الى شريعة الرحمن‪ ،‬فأتتهم ثمرة ذلك واثره الباقي‬
‫{وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} فحققوا التحاكم الى الدين‪ ،‬فتحقق لهم التمكين‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬المن والستقرار‪:‬‬


‫كانت بلد آسيا الصغرى مضطربة وكثرت فيها المارات المتنازعة ‪ ،‬وبعدأن أكرم ال‬
‫تعالى العثمانيين بتوحيد تلك المارات وتوجيهها نحو الجهاد في سبيل ال تعالى يسر ال للدولة‬
‫العثمانية المن والستقرار في تلك الربوع التي حكم فيها شرع ال‪.‬‬
‫حيث نجد أن الدولة العثمانية بعد أن استخلفت مكن ال لها وأعطاها دواعي المن وأسباب‬
‫الستقرار حتى تحافظ على مكانتها وهذه سنة جارية ماضية ضمن ال لهل اليمان والعمل‬
‫بشرعه وحكمه أن ييسر لهم المن الذي ينشدون في أنفسهم وواقعهم ‪ ،‬فبيده سبحانه مقاليد‬
‫المور‪ ،‬وتصريف القدار‪ ،‬وهو مقلب القلوب ‪ ،‬وال يهب المن المطلق لمن استقام على‬
‫التوحيد وتطهر من الشرك بأنواعه قال تعالى‪{ :‬الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم‬
‫المن وهم مهتدون} (سورة النعام‪ :‬آية ) فنفوسهم في أمن من المخاوف ومن العذاب والشقاء‬
‫إذا خلصت ل من الشرك‪ ،‬صغيره وكبيره ‪ ،‬إن تحكيم شرع ال فيه راحة للنفوس لكونها تمس‬
‫عدل ال ورحمته وحكمته‪.‬‬
‫إن ال تعالى بعد أن وعد المؤمنين بالستخلف ثم التمكين لم يحرمهم بعد ذلك من التأمين‪،‬‬

‫‪ )(1‬سورة النور ‪ ،‬الية‪:‬‬


‫‪-161-‬‬
‫والتطمين والبعد عن الخوف والفزع‪.‬‬
‫إن العثمانيين عندما حققوا العبودية ل ونبذوا الشرك بأنواعه حقق ال لهم المن في النفوس‬
‫على مستوى الشعب والدولة‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬النصر والفتح‪:‬‬


‫إن العثمانيين حرصوا على نصرة دين ال بكل مايملكون وتحققت فيهم سنة ال في نصرته‬
‫لمن ينصره لن ال ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته قال‬
‫الذين إن مكناهم في الرض أقاموا‬ ‫تعالى‪{ :‬ولينصرن ال من ينصره إن ال لقوي عزيز‬
‫الصلة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ول عاقبة المور} (سورة الحج‪ :‬آية‬
‫)‪.‬‬
‫(وما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى ال إل منحها القوة والمنعة‬
‫والسيادة في نهاية المطاف ‪ ...‬إن الكثيرين ليشفقونا من اتباع شريعة ال والسير على هداه‬
‫يشفقون من عداوة أعداء ال ومكرهم ويشفقون من تألب الخصوم عليهم ويشفقون من‬
‫المضايقات القتصادية وغير القتصادية ‪ ،‬وإن هي إل أوهام كأوهام قريش يوم قالت لرسل ال‬
‫‪{ :‬إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} (سورة القصص‪ :‬آية ‪ ،)57‬فلما اتبعت هدى ال‬
‫()‬
‫سيطرت على مشارق الرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان) ‪. 1‬‬
‫إن ال تعالى أيد العثمانيين على العداء ومنّ عليهم بالفتح‪ ،‬فتح الراضي وإخضاعها لحكم‬
‫ال تعالى‪ ،‬وفتح القلوب هدايتها لدين السلم‪.‬‬
‫إن العثمانيين عندما استجابوا وانقادوا لشريعة ال جلبت لهم الفتح‪ ،‬واستنـزلت عليهم نصر‬
‫ال‪.‬‬
‫إن الشعوب السلمية التي تبتعد عن شريعة ال تذل نفسها في الدنيا والخرة‪.‬‬

‫‪ )(1‬في ظلل القرآن (‪.)4/2704‬‬


‫‪-162-‬‬
‫إن مسؤولية الحكام والقضاة والعلماء والدعاة في الدعوة الى تحكيم شرع ال مسؤولية‬
‫عظيمة يسألون عنها يوم القيامة أمام ال‪( :‬إذا حكم ولة المر بغير ما أنزل ال‪ ،‬وقع بأسهم‬
‫بينهم‪..‬وهذا أعظم أسباب تغير الدول كما جرى هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا ومن‬
‫أراد ال سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره)‪ ،‬فيسلك مسلك من أيده ال ونصره ويجتنب مسلك‬
‫من خذله ال وأهانه؛ فإن ال يقول في كتابه ‪ { :‬ولينصرنّ ال من ينصره إن ال لقوي عزيز}‬
‫( ‪)1‬‬
‫فقد وعد ال بنصره من ينصره ونصره هو نصر كتابه‬ ‫الى قوله تعالى‪{ :‬ول عاقبة المور}‬
‫()‬
‫ودينه ورسوله‪ ،‬لنصر من يحكم بغير ماأنزل ال ويتكلم بما ل يعلم) ‪. 2‬‬

‫رابعا‪ :‬العز والشرف‪:‬‬


‫إن عز العثمانيين وشرفهم العظيم الذي سطر في كتب التاريخ يرجع الى تمسكهم بكتاب ال‬
‫الذي به تشرف المة وبه‬ ‫؛ إن من يعتز بالنتساب لكتاب ال وسنة رسوله‬ ‫وسنة رسوله‬
‫يعلو ذكرها ‪ ،‬وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة ال الجارية في إعزاز وتشريف‬
‫قال تعالى‪{ :‬لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفل تعقلون}‬ ‫من يتمسك بكتابه وسنة رسوله‬
‫(سورة النبياء ‪ :‬الية ‪.)10‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫إن العثمانيين‬ ‫قال ابن عباس ‪-‬رضي ال عنهما‪ -‬في تفسير هذه الية ‪( :‬فيه شرفكم)‬
‫‪( :‬إنا كنّا‬ ‫استمدوا شرفهم وعزهم من استمساكهم بأحكام السلم‪ ،‬كما قال عمر بن الخطاب‬
‫()‬
‫كشف‬ ‫أذل قوم ‪ ،‬فأعزنا ال بالسلم‪ ،‬فمهما نطلب العز بغير ماأعزنا ال أذلنا ال) ‪ ، 4‬فعمر‬
‫لنا بكلماته عن حقيقة الرتباط بين حال المة عزى وذُلً‪ ،‬مع موقفها من الشريعة إقبالً وإدبارا‪،‬‬

‫‪ )(1‬سورة الحج‪ ،‬اليات (‪.)41-40‬‬


‫‪ )(2‬مجموع الفتاوي لبن تيمية (‪.)35/388‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تفسير ابن كثير (‪.)3/170‬‬
‫‪ )(4‬اخرجه الحاكم في المستدرك ‪ ،‬كتاب اليمان (‪.)1/62‬‬
‫‪-163-‬‬
‫فما عزت في يوم بغير دين ال‪ ،‬ول ذلت في يومٍ إل بالنحراف عنه قال تعالى‪{ :‬من كان يريد‬
‫العزة فلله العزة جميعا} (سورة فاطر‪ :‬الية ‪ )10‬يعني من طلب العزة فيلعتز بطاعة ال عز‬
‫()‬
‫وجل ‪. 5‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬ول العزة ولرسوله وللمؤمنين‪ ،‬ولكن المنافقين ليعلمون} (سورة المنافقين‪:‬‬
‫الية ‪.)8‬‬
‫إن سيرة سلطين العثمانيين من أمثال عثمان الول‪ ،‬ومراد‪ ،‬ومحمد الفاتح تبين لنا أعتزازهم‬
‫بالسلم وحبهم للقرآن واستعدادهم للموت في سبيل ال‪ ،‬ولقد عاشوا في بركة من العيش ورغد‬
‫من الحياة الطيبة وما نالوا ذلك إل بإقامة دين ال قال تعالى ‪{ :‬ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا‬
‫لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض‪ ،‬ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (سورة‬
‫العراف‪ :‬آية ‪.)96‬‬

‫خامسا‪ :‬انتشار الفضائل وانزواء الرذائل‪:‬‬


‫لقد انتشرت الفضائل في زمن محمد الفاتح وانحسرت الرذائل؛ فخرج جيل فيه نبل وكرم‬
‫وشجاعة وعطاء وتضحية من أجل العقيدة والشريعة متطلعا الى ما عند ال من الثواب يخشى‬
‫من عقاب ال لقد استجاب ذلك المجتمع بشعبه ودولته وحكامه الى مايحبه الرحمن والى تعاليم‬
‫السلم‪.‬‬
‫إن آثار تحكيم شرع ال في الشعوب والدول التي نفذت أوامر ال ونواهيه ظاهرة بينة‬
‫لدارس التاريخ وإن تلك الثار الطيبة التي اصابت الدولة العثمانية لهي من سنن ال الجارية‬
‫والتي لتتبدل ول تتغير فأي شعب يسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم يصل إليه ولو بعد‬
‫حين ويرى آثار ذلك التحكيم على أفراده وحكامه ودولته‪.‬‬
‫إن الغرض من البحاث التاريخية السلمية الستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا باليمان‬

‫‪ )(5‬ابن كثير (‪.)2/526‬‬


‫‪-164-‬‬
‫في جهادهم وعلمهم وتربيتهم وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع ال وأخذهم بسنن التمكين وفقه‬
‫ومراعاة التدرج والمرحلية والنتقاء من أفراد الشعب والرتقاء بهم نحو الكمالت السلمية‬
‫المنشودة‪ .‬إن النتصارات العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها ال تعالى على يدي من أخلص لربه‬
‫ودينه وأقام شرعه وزكى نفسه ولهذا لم يأتي فتحا عظيما وفتحا مبينا إل لمن توفرت فيهم‬
‫صفات جيل التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم‪.‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫أهم صفات محمد الفاتح‬

‫لقد ظهرت بعض الصفات القيادية في شخصية محمد الفاتح عند البحث والدراسة ومن أهم‬
‫هذه الصفات‪:‬‬
‫‪ -1‬الحزم‪:‬‬
‫وظهر ذلك عندما غلب ظنه أن هناك تقصيرا أو تكاسلً من جانب قائد السطول العثماني‬
‫بالطه أوغلي عند حصاره للقسطنطينية‪ ،‬فأرسل إليه وقال‪( :‬إما تستولي على هذه السفن وإما أن‬

‫‪-165-‬‬
‫()‬
‫تغرقها وإذا لم توفق في ذلك فل ترجع إلينا حيا) ‪. 1‬‬
‫ولما لم يحقق بالطه أوغلي مهمته عزله‪ ،‬وجعل مكانه حمزة باشا‪.‬‬
‫‪ -2‬الشجاعة‪:‬‬
‫وكان رحمه ال يخوض المعارك بنفسه ويقاتل العداء بسيفه وفي احدى المعارك في بلد‬
‫البلقان تعرض الجيش العثماني لكمين من قبل زعيم البوغدان استفان حيث تخفى مع جيشه‬
‫خلف الشجار الكثيفة المتلصقة وبينما المسلمون بجانب تلك الشجار انهمرت عليهم نيران‬
‫المدافع الشديدة من بين الشجار وانبطح الجنود على وجوههم وكاد الضطراب يسود صفوف‬
‫الجيش لول أن سارع السلطان الفاتح وتباعد عن مرمى المدافع وعنّف رئيس النكشارية محمد‬
‫الطرابزوني على تخاذل جنده‪ ،‬ثم صاح فيهم‪( :‬أيها الغزاة المجاهدون كونوا جند ال ولتكن فيكم‬
‫( ‪)2‬‬
‫وأمسك بالترس واستل سيفه ركض بحصانه واندفع به الى المام ليلوي‬ ‫الحمية السلمية)‬
‫على شيء وألهب بذلك نار الحماس في جنده فانطلقوا وراءه واقتحموا الغابة على من فيها‬
‫ونشب بين الشجار قتال عنيف بالسيوف استمر من الضحى الى الصيل‪.‬‬
‫ومزق العثمانيون الجنود البوغدانية شر ممزق ووقع استفان من فوق ظهر جواده ولم ينج إل‬
‫()‬
‫بصعوبة وولى هاربا‪ ،‬وانتصر العثمانيون وغنموا غنائم وفيرة ‪. 3‬‬
‫‪ -3‬الذكاء‪:‬‬
‫ويظهر ذلك في فكرته البارعة وهي نقل السفن من مرساها في بشكطاش الى القرن الذهبي‪،‬‬
‫وذلك بجرها على الطريق البري الواقع بين الميناءين مبتعدا عن حي غلطة خوفا على سفنه من‬
‫الجنويـين ‪ ،‬وقد كانت المسافة بين الميناءين نحو ثلثة أميال‪ ،‬ولم تكن أرضا مبسوطة سهلة‬
‫ولكنها كانت وهادا وتللً غير ممهدة وشرع في تنفيذ الخطة؛ ومهدت الرض وسويت في‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.246‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.247‬‬
‫‪-166-‬‬
‫ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم‪ ،‬ثم وضعت على الطريق الممهد‬
‫بطريقة يسهل بها انزلج السفن وجرها‪ ،‬لقد كان هذا العمل عظيما بالنسبة للعصر الذي حدث‬
‫()‬
‫فيه بل تجلى فيه سرعة التفكير وسرعة التنفيذ‪ ،‬مما يدل على ذكاء محمد الفاتح الوقّاد ‪. 1‬‬
‫‪ -4‬العزيمة والصرار‪:‬‬
‫فعندما أرسل السلطان محمد الفاتح الى المبراطور قسطنطين يطلب منه تسليم‬
‫القسطنطينية حتى يحقن دماء الناس في المدينة ول يتعرضوا لي أذى ويكونوا بالخيار في‬
‫البقاء في المدينة أو الرحيل عنها‪ ،‬فعندما رفض قسطنطين تسليم المدينة قال السلطان محمد ‪:‬‬
‫()‬
‫(حسناعن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر) ‪. 2‬‬
‫وعندما استطاع البيزنطيون أن يحرقوا القلعة الخشبية الضخمة المتحركة كان رده (غدا‬
‫()‬
‫نصنع أربعا اخرى) ‪. 3‬‬
‫وهذه المواقف تدل على عزيمته وإصراره في الوصول الى هدفه‪.‬‬
‫‪ -5‬عدله‪:‬‬
‫حيث عامل أهل الكتاب وفق الشريعة السلمية وأعطاهم حقوقهم الدينية ولم يتعرض أحد‬
‫من النصارى للظلم أو التعدي بل أكرم زعمائهم وأحسن الى رؤسائهم وكان شعاره العدل‬
‫()‬
‫أساس الملك ‪. 4‬‬
‫‪ -6‬عدم الغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان‪:‬‬
‫نجد السلطان محمد عند دخول القسطنطينية يقول‪( :‬حمدا ل‪ ،‬ليرحم ال الشهداء ويمنح‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.102‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور ‪ ،‬ص ‪.376‬‬
‫‪ )(3‬السطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.152‬‬
‫‪-167-‬‬
‫()‬
‫المجاهدين الشرف والمجد‪ ،‬ولشعبي الفخر والشكر) ‪. 1‬‬
‫فهو أسند الفضل الى ال ولذلك لهج لسانه بالحمد والثناء والشكر لموله الذي نصره وأيده‬
‫وهذا يدل على عمق إيمان محمد الفاتح بال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ -7‬الخلص‪:‬‬
‫إن كثير من المواقف التي سجلت في تاريخ الفاتح تدلنا على عمق اخلصه لدينه وعقيدته في‬
‫اشعاره ومناجاته لربه سبحانه وتعالى حيث يقول‪:‬‬
‫نيّتي ‪ :‬امتثالي لمر ال (وجاهدوا في سبيل ال)‪.‬‬
‫وحماسي‪ :‬بذل الجهد لخدمة ديني‪ ،‬دين ال‪.‬‬
‫عزمي‪ :‬أن أقهر أهل الكفر جميعا بجنودي ‪ :‬جند ال‪.‬‬
‫وتفكيري‪ :‬منصب على الفتح‪ ،‬على النصر على الفوز‪ ،‬بلطف ال‪.‬‬
‫جهادي ‪ :‬بالنفس وبالمال‪ ،‬فماذا في الدنيا بعد المتثال لمر ال ‪.‬‬
‫وأشواقي ‪ :‬الغزو الغزو مئات اللف من المرات لوجه ال‪.‬‬
‫()‬
‫رجائي‪ :‬في نصر ال‪ .‬وسموا الدولة على أعداء ال ‪. 2‬‬
‫‪ -8‬علمه ‪:‬‬
‫أهتم والده به منذ الطفولة ولذلك خضع السلطان محمد الفاتح لنظام تربوي إشرف عليه‬
‫مجموعة من علماء عصره المعروفين ‪ ،‬فتعلم القرآن الكريم والحديث والفقه والعلوم العصرية‬
‫‪-‬آنذاك‪ -‬من رياضيات وفلك وتاريخ ودراسات عسكرية نظرية وتطبيقية‪ ،‬وكان من كرم ال‬
‫للسلطان محمد الفاتح أن أشرف على تعليمه مجموعة من آساطين العلماء في عصره وفي‬
‫مقدمتهم الشيخ آق شمس الدين والمل الكوراني (عالم الدين عند العثمانيين الوائل يكون‬

‫‪ )(1‬السلطان محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.131‬‬


‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬العثمانيون في التاريخ‬
‫‪-168-‬‬
‫موسوعيا في شتى العلوم المعروفة في عصره)‪ .‬ولقد تأثر محمد الفاتح بتربية شيوخه وظهرت‬
‫()‬
‫تلك التربية في اتجاهاته الثقافية والسياسية والعسكرية ‪. 1‬‬
‫ولقد تبحر السلطان محمد في اللغات السلمية الثلثة التي لم يكن يستغني عنها مثقف في‬
‫ذلك العصر وهي ‪ :‬العربية والفارسية والتركية ‪ ،‬ولقد كان السلطان محمد الفاتح شاعرا وترك‬
‫()‬
‫ديوانا باللغة التركية ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.131‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪ 254‬الى ‪.259‬‬
‫‪-169-‬‬
‫المبحث السادس‬
‫شيء من أعماله الحضارية‬

‫• اهتمامه بالمدارس والمعاهد‪:‬‬


‫كان السلطان محمد الفاتح محبا للعلم والعلماء ولذلك اهتم ببناء المدارس والمعاهد في جميع‬
‫أرجاء دولته‪ .‬وقد كان السلطان أورخان أول من أنشأ مدرسة نموذجية في الدولة العثمانية‬
‫وسار بعده سلطين الدولة على نهجه وانتشرت المدارس والمعاهد في بروسة وأدرنة وغيرها‬
‫من المدن‪.‬‬
‫ولقد فاق محمد الفاتح أجداده في هذا المضمار وبذل جهودا كبيرة في نشر العلم وإنشاء‬
‫المدارس والمعاهد وأدخل بعض الصلحات في التعليم واشرف على تهذيب المناهج وتطويرها‬
‫وحرص على نشر المدارس والمعاهد في كافة المدن الكبيرة والصغيرة وكذلك القرى وأوقف‬
‫عليها الوقاف العظيمة‪ .‬ونظم هذه المدارس ورتبها على درجات ومراحل ‪ ،‬ووضع لها‬
‫المناهج‪ ،‬وحدد العلوم والمواد التي تدرس في كل مرحلة ‪ ،‬ووضع لها نظام المتحانات فل‬
‫ينتقل طالب من مرحلة الى اخرى إل بعد اتقانه لعلوم المرحلة السابقة ويخضع لمتحان دقيق‬
‫وكان السلطان الفاتح يتابع هذه المور ويشرف عليها واحيانا يحضر امتحانات الطلبة ويزور‬
‫المدارس بين الحين والحين ول يأنف من استماع الدروس التي يلقيها الساتذة‪ ،‬وكان يوصي‬
‫الطلبة بالجد والجتهاد ول يبخل بالعطاء للنابغين من الساتذة والطلبة وجعل التعليم في كافة‬
‫مدارس الدولة بالمجان وكانت المواد التي تدرس في تلك المدارس ‪ :‬التفسير‪ ،‬والحديث‪ ،‬والفقه‪،‬‬
‫والدب‪ ،‬والبلغة ‪ ،‬وعلوم اللغة من المعاني والبيان والبديع‪ ،‬والهندسة‪...‬الخ‪.‬‬
‫وأنشأ بجانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثمان مدارس على كل جانب من جوانب المسجد‬
‫أربعة مساجد يتوسطها صحن فسيح وفيها يقضي الطالب المرحلة الخيرة من دراسته وألحقت‬
‫‪-170-‬‬
‫بهذه المدارس مساكن للطلبة ينامون فيها ويأكلون فيها طعامهم ووضعت لهم منحة مالية‬
‫شهرية‪ ،‬وكان الموسم الدراسي على طول السنة في هذه المدارس وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة‬
‫وكان يشترط في الرجل الذي يتولى امانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى متبحرا‬
‫في اسماء الكتب والمؤلفين وكان المشرف على المكتبة يعير الطلبة والمدرسين مايطلبونه من‬
‫الكتب بطريقة منظمة دقيقة ويسجل اسماء الكتب المستعارة في دفتر خاص وهذا المين مسؤول‬
‫( ‪)1‬‬
‫وتخضع هذه المكتبة للتفتيش كل‬ ‫عن الكتب التي في عهدته ومسؤول عن سلمة أوراقها‬
‫ثلثة أشهر على القل وكانت مناهج هذه المدارس يتضمن نظام التخصص‪ ،‬فكان للعلوم النقلية‬
‫والنظرية قسما خاصا وللعلوم التطبيقية قسما خاصا أيضا‪ ،‬وكان الوزراء والعلماء من أصحاب‬
‫()‬
‫الثروات يتنافسون في انشاء المعاهد والمدارس والمساجد والوقاف الخيرية ‪. 2‬‬

‫• اهتمام السلطان محمد الفاتح بالعلماء‪:‬‬


‫لقد كان للعلماء والدباء مكانة خاصة لدى محمد الفاتح‪ ،‬فقرب إليه العلماء ورفع قدرهم‬
‫وشجعهم على العمل والنتاج وبذل لهم الموال ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا ليتفرغوا‬
‫للعلم والتعليم ويكرمهم غاية الكرام ولو كانوا من خصومه ؛ فبعد أن ضم إمارة القرمان الى‬
‫الدولة أمر بنقل العمال والصناع الى القسطنطينية غير أن وزيره روم محمد باشا ظلم الناس‬
‫ومن بينهم بعض العلماء وأهل الفضل ومن بينهم العالم احمد جلبي بن السلطان امير علي فلما‬
‫علم السلطان محمد الفاتح بأمره اعتذر إليه واعاده الى وطنه مع رفقائه معززا مكرما‪.‬‬
‫وبعد أن هزم اوزون حسن زعيم التركمان وكان هذا الزعيم ل يلتزم بعهد ويناصر أعداء‬
‫العثمانيين من أي ملة كانت‪ ،‬فبعد أن هزمه محمد الفاتح وقع في يده عدد كبير من السرى‪،‬‬
‫فأمر السلطان الفاتح بقتلهم (إل من كان من العلماء واصحاب المعارف مثل القاضي محمد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.384،385‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.384‬‬
‫‪-171-‬‬
‫الشريحي وكان من فضلء الزمان‪ ،‬فأكرمه السلطان غاية الكرام‪.‬‬
‫وكان السلطان الفاتح يحترم العلماء وأهل الورع والتقى وقد تستبد به في بعض الحيان نزوة‬
‫جامعة او غضبة طارئة ولكنه ما يلبث إل أن يعود الى وقاره واحترامه لهم‪.‬‬
‫وتحدثنا كتب التاريخ أن السلطان محمد بعث مع احد خدامه بمرسوم الى الشيخ احمد‬
‫الكوراني ‪ -‬وكان حين ذاك يتولى قضاء العسكر‪ -‬فوجد فيه أمرا يخالف الشرع فمزقه وضرب‬
‫الخادم‪ .‬وشق ذلك على السلطان محمد وغضب من فعل الشيخ وعزله من منصبه‪ ،‬ووقع بينهما‬
‫نفور وجفوة ورحل الكوراني الى مصر حيث استقبله سلطانها قيتباي وأكرمه غاية الكرام‬
‫واقام عنده برهة من الزمن‪ .‬ومالبث الفاتح أن ندم على ماكان منه فكتب الى السلطان قيتباي‬
‫يطلب منه ان يرسل إليه الشيخ الكوراني (فحكى السلطان قيتباي كتاب السلطان محمد خان‬
‫للشيخ الكوراني ثم قال له ل تذهب إليه فاني اكرمك فوق مايكرمك هو‪ .‬قال‪ :‬نعم هو كذلك إل‬
‫أن بيني وبينه محبة عظيمة كما بين الوالد والولد‪ .‬وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر وهو يعرف‬
‫ذلك مني ويعرف أني أميل إليه بالطبع فاذا لم أذهب إليه يفهم ان المنع من جانبك فتقع بينكما‬
‫عداوة‪ .‬فاستحسن السلطان قيتباي هذا الكلم واعطاه مالً جزيلً وهيأ له مايحتاج إليه من حوائج‬
‫السفر وبعث معه هدايا عظيمة الى السلطان محمد خان‪ .‬واسند إليه الفاتح القضاء ثم الفتاء‬
‫()‬
‫واجزل له من العطاء واكرمه اكراما لمزيد عليه ‪. 1‬‬
‫قال عنه الشوكاني‪ ..( :‬وانتقل من قضاء العسكر الى منصب الفتوى وتردد إليه الكابر‬
‫وشرح (جمع الجوامع) وكثر تعقبه للمحلى (جلل الدين المحلي المفسر) وعمل تفسيرا ‪،‬‬
‫وشرحا للبخاري وقصيدة في علم العروض نحو ستمائة بيت‪ .‬وأنشأ بأسطنبول جامعا ومدرسة‬
‫سماها دار الحديث وانشالت عليه الدنيا وعمر الدور وانتشر علمه فأخذ عليه الكابر وحج في‬
‫سنة ‪761‬هـ احدى وستين وسبعمائة ولم يزل على جللته حتى (مات) في أواخر سنة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.389‬‬


‫‪-172-‬‬
‫‪793‬هـ ثلث وتسعين وسبعمائة وصلى عليه السلطان فمن دونه ومن مطالع قصائده في مدح‬
‫سلطانه‪:‬‬
‫هو الشمس إل أنه الليث باسل‬
‫هو البحر إل أنه مالك البر‬
‫وقد ترجمه صاحب (الشقائق النعمانية) ترجمة حافلة‪...‬وانه كان يخاطب السلطان بأسمه ول‬
‫ينحني له‪ ،‬ول يقبل يده بل يصافحه مصافحة ‪ ،‬وانه كان ل يأتي الى السلطان إل اذا أرسل إليه‬
‫وكان يقول له ‪ ،‬مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالحتياط‪ .‬وذكر له مناقب جمة تدل على‬
‫()‬
‫أنه من العلماء العاملين‪. 1 )...‬‬
‫وكان السلطان محمد الفاتح ل يسمع عن عالم في مكان اصابه عوزا وإملق إل بادر الى‬
‫مساعدته وبذل له ما يستعين به على أمور دنياه‪.‬‬
‫وكان من عادة الفاتح في شهر رمضان أن يأتي الى قصره بعد صلة الظهر بجماعة من‬
‫العلماء المتبحرين في تفسير القرآن فيقوم في كل مرة واحد منهم بتفسير آيات من القرآن الكريم‬
‫وتقريرها ويناقشه في ذلك سائر العلماء ويجادلونه‪ ،‬وكان الفاتح يشارك في هذه المناقشات‬
‫ويشجع هؤلء العلماء بالعطايا والهدايا والمكافآت المالية الجزيلة‪.‬‬
‫اهتمامه بالشعراء والدباء‪:‬‬
‫ذكر مؤرخ الدب العثماني أن السلطان محمد الفاتح ( راعٍ لنهضة أدبية‪ ،‬وشاعر مجيد حكم‬
‫ثلثين عاما كانت أعوام خصب ورخاء وبركة ونماء وعرف بأبي الفتح لنه غلب على‬
‫إمبراطوريتين‪ ،‬وفتح سبع ممالك واستولى على مائتي مدينة وشاد دور العلم ودور العبادة‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫فعرف كذلك بأبي الخيرات )‬

‫‪ )(1‬البدر الطالع (‪.)1/41‬‬


‫‪ )(2‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.247‬‬
‫‪-173-‬‬
‫وكان الفاتح مهتما بالدب عامة والشعر خاصة‪ ،‬وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم‪،‬‬
‫واستوزر الكثير منهم مثل أحمد باشا محمود ومحمود باشا وقاسم الجزري باشا‪ ،‬وهؤلء‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكان في بلط الفاتح ثلثون شاعرا يتناول كل منهم راتبا شهريا قدره ألف درهم‬ ‫شعراء‬
‫وكان طبيعيا بعد هذا الهتمام أن يتفنن الشعراء والدباء في مدح السلطان محمد لما قدمه الى‬
‫العلم والدب من كريم الرعاية وجميل التشجيع‪.‬‬
‫وكان محمد الفاتح ينكر على الشعراء التبذل والمجون والدعارة ويعاقب الذي يخرج عن‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫الداب بالسجن أو يطرده من بلطه‬

‫اهتمامه بالترجمة‪:‬‬
‫كان السلطان محمد الفاتح متقن للغة الرومية ومن أجل أن يبعث نهضة فكرية في شعبه أمر‬
‫بنقل كثير من الثار المكتوبة باليونانية واللتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية من ذلك‬
‫كتاب " مشاهير الرجال " لبلوتارك ونقل إلى التركية كتاب التصريف في الطب لبي القاسم‬
‫الزهراوي الطبيب الندلسي مع زيادات في صور آللت الجراحة وأوضاع المرضى أثناء‬
‫إجراء العمليات الجراحية‪.‬‬
‫وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له قام بمطالعته ودراسته مع العالم‬
‫الرومي جورج اميروتزوس ثم طلب اليه الفاتح والى ابنه ( ابن العالم الرومي ) الذي كان يجيد‬
‫اللغتين الرومية والعربية بترجمة الكتاب إلى العربية وإعادة رسم الخريطة مع التحقيق في‬
‫أسماء البلدان وكتابتها باللغتين العربية والرومية وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة جمة‬
‫وكان العلمة علي القوشجي وهو من أكبر علماء عصره في الرياضيات والفلك كلما ألف كتابا‬
‫بالفارسية نقله إلى العربية وأهداه إلى الفاتح‪.‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.247‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.393‬‬
‫‪-174-‬‬
‫وكان الفاتح مهتم باللغة العربية‪ ،‬لنها لغة القرآن الكريم كما أنها من اللغات العلمية المنتشرة‬
‫في ذلك العهد‪ .‬وليس أدل على اهتمام الفاتح باللغة العربية من انه طلب إلى " المدرسين‬
‫بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في علم اللغة كالصحاح والتكملة والقاموس‬
‫وأمثالها "‪ .‬ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالكثار من نشر‬
‫المكاتب العامة وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم وعين‬
‫الشيخ لطفي أمينا عليها‪ ،‬وكان بها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت عام ‪1465‬م وقد وصف‬
‫()‬
‫الستاذ ديزمان هذه المكتبة بأنها بمثابة نقطة تحول في العلم بين الشرق والغرب ‪. 1‬‬
‫اهتمامه بالعمران والبناء والمستشفيات‪:‬‬
‫كان السلطان محمد الفاتح مغرما ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات والخانات‬
‫والحمامات والسواق الكبيرة والحدائق العامة وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة‬
‫وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والغنياء والعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين‬
‫والحمامات وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءً ورونقا واهتم بالعاصمة ( استنبول )‬
‫اهتماما خاصا وكان حريصا على أن يجعلها ( أجمل عواصم العالم ) وحاضرة العلوم والفنون‪.‬‬
‫وكثر العمران في عهد الفاتح وانتشر واهتم بدور الشفاء ووضع لها نظاما مثاليا في غاية‬
‫الروعة والدقة والجمال‪ ،‬فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب ‪ -‬ثم زيد إلى اثنين ‪-‬‬
‫من حذاق الطباء من أي جنس كان‪ ،‬يعاونهما كحال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم‬
‫والبوابين ويشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة‬
‫والنسانية‪ ،‬ويجب على الطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم وأن لتصرف الدوية‬
‫للمرضى إل بعد التدقيق من إعدادها‪ ،‬وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفا بطهي‬
‫الطعمة والصناف التي توافق المرضى منها وكان العلج والدوية في هذه المستشفيات‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.396‬‬


‫‪-175-‬‬
‫()‬
‫بالمجان ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم ‪. 1‬‬
‫الهتمام بالتجارة والصناعة‪:‬‬
‫اهتم السلطان محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على انعاشهما بجميع الوسائل والعوامل‬
‫والسباب وكان بذلك مقتفيا خط آبائه وأجداده السلطين الذين ‪ ( :‬كانوا دائما على استعداد‬
‫لنعاش الصناعة والتجارة بين رعاياهم وأن كثيرا من المدن الكبرى قد ازدهرت ازدهارا كبيرا‬
‫عندما خلصها الفتح العثماني مما أصابها في عهد الدولة البيزنطية من طغيان الثروة الحكومية‬
‫التي عرقلت نهضتها وشلت حركتها‪ ،‬ومن هذه المدن نيقية وكان العثمانيون على دراية واسعة‬
‫بالسواق العالمية وبالطرق البحرية والبرية وطوروا الطرق القديمة وانشأوا الكباري الجديدة‬
‫مما سهل حركة التجارة في جميع أجزاء الدولة واضطرت الدول الجنبية من فتح موانيها‬
‫لرعايا الدولة العثمانية ليمارسوا حرفة التجارة في ظل الراية العثمانية وكان من أثر السياسة‬
‫العامة للدولة في مجال التجارة والصناعة أن عم الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء‬
‫( ‪)2‬‬
‫ولم تهمل الدولة إنشاء دور الصناعة‬ ‫الدولة وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة‬
‫ومصانع الذخيرة والسلحة وأقامت القلع والحصون في المواقع ذات الهمية العسكرية في‬
‫()‬
‫البلد ‪. 3‬‬

‫الهتمام بالتنظيمات الدارية‪:‬‬


‫عمل السلطان محمد الفاتح على تطوير دولته ولذلك قنن قوانين حتى يستطيع أن ينظم شؤون‬
‫الدارة المحلية في دولته وكانت تلك القوانين مستمدة من الشرع الحكيم وشكل السلطان محمد‬
‫لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع ( قانون نامه ) المستمد من الشريعة الغراء وجعله‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.413‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.414‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.410‬‬
‫‪-176-‬‬
‫أساسا لحكم دولته‪ ،‬وكان هذا القانون مكونا من ثلثة أبواب‪ ،‬يتعلق بمناصب الموظفين وببعض‬
‫التقاليد ومايجب أن يتخذ من التشريفات والحتفالت السلطانية وهو يقرر كذلك العقوبات‬
‫والغرامات‪ ،‬ونص صراحة على جعل الدولة حكومة إسلمية قائمة على تفوق العنصر‬
‫()‬
‫السلمي أيا كان أصله وجنسه ‪. 1‬‬
‫واهتم محمد الفاتح بوضع القوانين التي تنظم علقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع‬
‫جيرانهم من المسلمين‪ ،‬ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم‪ ،‬وأشاع العدل بين رعيته‪ ،‬وجد في‬
‫ملحقة اللصوص وقطاع الطرق‪ ،‬وأجرى عليهم أحكام السلم‪ ،‬فاستتب المن وسادت‬
‫الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية‪.‬‬
‫وأبقى السلطان محمد النظام الذي كان سائدا لحكم الوليات أيام أسلفه‪ ،‬وأدخل عليه بعض‬
‫التعديلت الطفيفة التي تناسب عصره ودولته‪ .‬وكانت الدولة تنقسم إلى وليات كبرى يحكمها‬
‫أمير المراء وكان يسمى " بكلربك " وإلى وليات صغرى ويحكمها أمير اللواء‪ ،‬وكان يسمى "‬
‫سنجق بك " وكل الحاكمان كان يقوم بأعمال مدنية وعسكرية في آن واحد‪ ،‬وترك لبعض‬
‫المارات الصقلبية في أول المر بعض مظاهر الستقلل الداخلي فكان يحكمها بعض أمراء‬
‫منها ولكنهم تابعون للدولة ينفذون أوامر السلطان بكل دقة وهو يعزلهم ويعاقبهم اذا خالفوا‬
‫أوامره أو فكروا في الثورة على الحكومة العثمانية‪.‬‬
‫وعندما تعلن الدولة الجهاد وتدعوا أمراء الوليات وأمراء اللوية‪ ،‬كان عليهم أن يلبوا‬
‫الدعوة ويشتركوا في الحرب بفرسان يجهزونهم تجهيزا تاما‪ ،‬وذلك حسب نسب مبينة‪ ،‬فكانوا‬
‫يجهزون فارسا كامل السلح قادرا على القتال عن كل خمسة آلف آقجه من إيراد اقطاعه‪ ،‬فإذا‬
‫كان إيراد اقطاعه خمسمائة ألف آقجة مثلً كان عليه أن يشترك بمائة فارس‪ ،‬وكان جنود‬
‫اليالت مؤلفة من مشاه وفرسان‪ ،‬وكان المشاة تحت قيادة وإدارة باشوات اليالت وبكوات‬

‫‪ )(1‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.154‬‬


‫‪-177-‬‬
‫()‬
‫اللوية ‪. 1‬‬
‫وقام محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الكفاء وجعل مكانهم‬
‫الكفاء‪ ،‬واتخذ الكفاية وحدها أساسا في اختيار رجاله ومعاونيه وولته‪ .‬واهتم بالنظام المالي‬
‫ووضع القواعد المحكمة الصارمة في جباية أموال الدولة وقضى على إهمال الجباة وتلعبهم‬
‫مما كان يضيع على الدولة ثروات هائلة‪.‬‬
‫لقد أظهر السلطان محمد في الناحية الدارية كفاية ومقدرة لتقلن عن كفايته ومقدرته في‬
‫()‬
‫الناحيتين السياسية والحربية ‪. 2‬‬

‫اهتمامه بالجيش والبحرية‪:‬‬


‫لقد أنشأ الجيش النظامي من زمن السلطان أورخان واهتم من جاء بعده من السلطين‬
‫بتطوير الجيش وخصوصا السلطان محمد الذي أولى الجيش رعاية خاصة‪ ،‬فالجيش في نظره‬
‫من أسس الدولة وأركانها المهمة‪ ،‬فأعاد تنظيمه وتربيته وجعل لكل فرقة ( آغا ) يقودها وجعل‬
‫لقيادة النكشارية حق التقدم على بقية القواد‪ ،‬فهو يتلقى أوامره من الصدر العظم الذي جعل له‬
‫السلطان القيادة العليا للجيش‪.‬‬
‫وقد تميز عصر السلطان محمد الفاتح بجانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي‪ ،‬بإنشاءات‬
‫عسكرية عديدة ومتنوعة‪ ،‬فأقام دور الصناعة العسكرية لسد احتياجات الجيش من الملبس‬
‫والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والسلحة‪ ،‬وأقام القلع والحصون في المواقع ذات‬
‫الهمية العسكرية‪ ،‬وكانت هناك تشكيلت عسكرية متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من‬
‫فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة‪ ،‬تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف‬
‫للحيوان واعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال‪ ،‬وكان هناك صنف من الجنود يسمى "‬

‫‪ )(1‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.155‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.406،407‬‬
‫‪-178-‬‬
‫لغمجية " وظيفته الحفر لللغام وحفر النفاق تحت الرض أثناء محاصرة القلعة المراد فتحها‬
‫وكذلك السقاؤون كان عليهم تزويد الجنود بالماء ولقد تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح‬
‫وأصبحت تخرج الدفعات المتتالية من المهندسين والطباء والبيطريين وعلماء الطبيعيات‬
‫والمساحات‪ ،‬وكانت تمد الجيش بالفنيين المتخصصين وقد أكسب هؤلء العثمانيين شهرة‬
‫()‬
‫عريضة في الدقة والنظام ‪. 1‬‬
‫لقد حرص السلطان محمد على تطوير الجيش البري والقوة البحرية وظهرت أهميتها منذ‬
‫فتح القسطنطينية‪ ،‬حيث كان للسطول البحري العثماني دور واضح في احكام حصارها‬
‫وتطويقها من البحر والبر جميعا وبعد فتح القسطنطينية ضوعفت العناية بالسلح البحري‪ ،‬فلم‬
‫تمضي إل مدة من الزمن حتى سيطر السطول العثماني على البحرين السود والبيض وعندما‬
‫نطالع كتاب ( حقائق الخبار عن دول البحار ) لمؤلفه اسماعيل سرهنك‪ ،‬نلحظ اهتمام‬
‫السلطان محمد الفاتح بالبحرية العثمانية‪ ،‬وانه كان اهتماما بالغا استحق معه أن يعده المؤرخون‬
‫مؤسس السطول البحري العثماني‪ ،‬ولقد استفاد من الدول التي وصلت إلى مستوى رفيع في‬
‫صناعة الساطيل مثل الجمهوريات اليطالية وبخاصة البندقية وجنوا أكبر الدول البحرية في‬
‫( ‪)2‬‬
‫وعندما وجد في سيئوب سفينة ضخمة نادرة المثال أمر السلطان محمد بأخذها‬ ‫ذلك الوقت‬
‫()‬
‫وبناء سفن على نمطها مع ادخال التحسينات عليها ‪. 3‬‬
‫وكان السطول العثماني تشرف الترسانة على إدارته وكانت احد فروع الخاصة وتسمى‬
‫بطافة العزب‪ ،‬ويبلغ عددهم نحو ثلثة آلف جندي بحري تتألف من‪ :‬القبطان‪ ،‬وقواد السفن‪،‬‬
‫()‬
‫والضباط‪ ،‬والبحارة ‪. 4‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.162‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪. 411‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.411‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.162‬‬
‫‪-179-‬‬
‫اهتمامه بالعدل‪:‬‬
‫إن إقامة العدل بين الناس كان من واجبات السلطين العثمانيين‪ ،‬وكان السلطان محمد شأنه‬
‫في ذلك شأن من سلف من آبائه ‪ -‬شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دولته ولكي‬
‫يتأكد من هذا المر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال‬
‫والتطواف في أنحاء الدولة ويمنحهم مرسوم مكتوب يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب‬
‫والتحري والستقصاء لكي يطلعوا كيف تساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين‬
‫الناس في المحاكم وقد أعطى هؤلء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل مايرون ثم‬
‫يرفعون ذلك كله إلى السلطان‪.‬‬
‫وقد كانت تقرير هؤلء المبعوثين النصارى تشيد دائما بحسن سير المحاكم وإجراء العدل‬
‫بالحق والدقة بين الناس بدون محاباة أو تمييز‪ ،‬وكان السلطان الفاتح عند خروجه إلى الغزوات‬
‫يتوقف في بعض القاليم وينصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم ويرفع إليه من شاء من الناس‬
‫شكواه ومظلمته‪.‬‬
‫وكان على إدراك تام بأن رجال الفقه والشريعة هم أعرف الناس بالعدالة وأبصرهم بمواقعها‬
‫وأشد الناس حرصا على أنفاذها وكان يرأى أن العلماء في الدولة بمنزلة القلب في البدن‪ ،‬إذا‬
‫صلحوا صلحت الدولة ولذلك اعتنى الفاتح بالعلم وأهله ويسر سبل العلم على طالبيه وكفاهم‬
‫مؤونة التعيش والتكسب ليتفرغوا للدرس والتحصيل‪ ،‬وأكرم العلماء ورفع منزلتهم‪ ،‬وقد اعتنى‬
‫الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس فل يكفي في‬
‫هؤلء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة والتصاف بالنزاهة والستقامة وحسب بل‬
‫لبد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس‪ ،‬وأن تتكفل الدولة بحوائجهم‬
‫المادية حتى تسد طرق الغراء والرشوة‪ ،‬فوسع لهم الفاتح في عيشهم كل التوسعة‪ ،‬وأحاط‬
‫()‬
‫منصبهم بحالة مهيبة من الحرمة والجللة والقداسة والحماية ‪. 1‬‬
‫وتحدثنا كتب التاريخ‪ :‬أن أحد غلمان محمد الفاتح ظهر منه بعض الفساد بأدرنة فأرسل إليه‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.409‬‬


‫‪-180-‬‬
‫القاضي بعض الخدم لمنعه فلم يمتنع‪ ،‬فركب إليه القاضي بنفسه فاعتدى عليه الغلم وضربه‬
‫ضربا شديدا فما أن سمع السلطان الفاتح بذلك حتى أخذه الغضب واستطار به " وأمر بقتل ذلك‬
‫الغلم لتحقيره نائب الشريعة‪ .‬وتشفع الوزراء للغلم لدى السلطان الفاتح فلم يقبل شفاعتهم‬
‫فالتمسوا من المولى محي الدين محمد أن يصلح هذا المر لدى السلطان‪ ،‬ولكن الفاتح أعرض‬
‫عنه ورد كلمه فقال له المولى محي الدين ‪ :‬إن النائب ( أي القاضي بقيامه عن مجلس القضاء‬
‫بسبب الغضب سقط عن رتبة القضاء فلم يكن هو عند الضرب قاضيا فلم يلزم تحقير الشرع‬
‫حتى يحل قتله ( قتل الغلم ) فسكت السلطان محمد خان‪ .‬ثم جاء الغلم إلى قسطنطينية فأتى به‬
‫الوزراء إلى السلطان محمد خان لتقبيل يده شكرا للعفو عنه‪ .‬فأحضر السلطان محمد خان عصا‬
‫كبيرة فضربه بنفسه ضربا شديدا حتى مرض الغلم أربعة أشهر فعالجوه فبرئ ثم صار ذلك‬
‫الغلم وزيرا للسلطان بايزيد خان واسمه داود باشا‪ .‬وكان يدعو للسلطان محمد خان ويقول‪ :‬إن‬
‫()‬
‫رشدي هذا ما حصل إل من ضربه ‪ . 1‬أما القاضي المرتشي فلم يكن له عند الفاتح من جزاء‬
‫غير القتل‪.‬‬
‫وكان السلطان الفاتح ‪ -‬برغم اشتغاله بالجهاد والفتوحات إل أنه كان يتتبع كل ما يجري في‬
‫أرجاء دولته بيقظة واهتمام وأعانه على ذلك ما حباه ال من ذكاء قوي وبصيرة نفاذة وذاكرة‬
‫حافظة وجسم قوي وكان كثيرا ما ينزل بالليل إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال‬
‫()‬
‫الناس بنفسه ويستمع إلى شكاواهم بنفسه ‪ 2‬كما ساعده على معرفة أحوال الناس جهاز أمن‬
‫الدولة الذي كان يجمع المعلومات والخبار التي لها علقة بالسلطنة وترفع إلى السلطان الذي‬
‫كان يحرص على دوام المباشرة لحوال الرعية‪ ،‬وتفقد أمورهان والتماس الحاطة بجوانب‬
‫الخلل في أفرادها وجماعاتها‪ ،‬وقد استنبط السلطان الفاتح هذه المعاني من حال سليمان عليه‬
‫السلم في قوله تعالى ‪ { :‬وتفقد الطير } وذلك بحسب ماتقتضيه أمور الملك‪ ،‬والهتمام بكل‬
‫()‬
‫جزء فيه‪ ،‬والرعاية بكل واحدة فيه وخاصة الضعفاء ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.409‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.410‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي (‪.)13/177‬‬
‫‪-181-‬‬
‫المبحث السابع‬
‫وصية السلطان محمد الفاتح لبنه‬

‫هذه وصية محمد الفاتح لبنه وهو على فراش الموت والتي تعبر اصدق التعبير عن منهجه‬
‫في الحياة‪ ،‬وقيمه ومبادئه التي آمن بها والتي يتمنى من خلفائه من بعده أن يسيروا عليها‪( :‬ها‬
‫أنذا أموت‪ ،‬ولكني غير آسف لني تارك خلفا مثلك‪ .‬كن عادلً صالحا رحيما ‪ ،‬وابسط على‬
‫الرعية حمايتك بدون تمييز‪ ،‬واعمل على نشر الدين السلمي‪ ،‬فإن هذا هو واجب الملوك على‬
‫الرض‪ ،‬قدم الهتمام بأمر الدين على كل شيء‪ ،‬ولتفتر في المواظبة عليه‪ ،‬ول تستخدم‬
‫الشخاص الذين ليهتمون بأمر الدين‪ ،‬وليجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش‪ ،‬وجانب البدع‬
‫المفسدة‪ ،‬وباعد الذين يحرضونك عليها وسع رقعة البلد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من‬
‫أن تتبدد‪ ،‬إياك أن تمد يدك الى مال أحد من رعيتك إل بحق السلم‪ ،‬واضمن للمعوزين قوتهم‪،‬‬
‫وابذل اكرامك للمستحقين ‪.‬‬
‫وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة‪ ،‬فعظم جانبهم وشجعهم ‪ ،‬واذا سمعت‬
‫بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال‪.‬‬
‫حذار حذار ل يغرنك المال ول الجند‪ ،‬وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك‪ ،‬وإياك أن تميل‬
‫الى أي عمل يخالف أحكام الشريعة‪ ،‬فان الدين غايتنا ‪ ،‬والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا‪.‬‬
‫خذ مني هذه العبرة‪ :‬حضرت هذه البلد كنملة صغيرة‪ ،‬فأعطاني ال تعالى هذه النعم الجليلة‪،‬‬

‫‪-182-‬‬
‫فالزم مسلكي‪ ،‬وأحذ حذوي ‪ ،‬واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير اهله ول تصرف أموال‬
‫()‬
‫الدولة في ترف أو لهو‪ ،‬واكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلك) ‪. 1‬‬

‫‪( -1‬كن عادلً صالحا رحيما)‪:‬‬


‫لقد قام محمد الفاتح بهذه المبادئ مع النصارى الذين اصبحوا من رعايا دولته وعندما دخل‬
‫القسطنطينية فاتحا كان يحارب حرب السلم (التي لتهتك فيها حرمة‪ ،‬وليقتل فيه صبي ول‬
‫شيخ ول امرأة‪ ،‬وليحرق فيها زرع‪ ،‬ول يتلف فيها ضرع‪ ،‬وليمثل فيها بإنسان‪ ،‬ولتصيب إل‬
‫()‬
‫المقاتلين الذين يحملون السلح في وجه المسلمين) ‪. 2‬‬
‫كان "محمد الفاتح" وهو يمثل اسلمه وعقيدته ومنهجه السلمي في الحرب على تعاليم‬
‫في معاملته للروم (لتخونوا‪ ،‬ولتغلوا ولتغدروا‪ ،‬ولتمثلوا ‪ ،‬ولتقتلوا‬ ‫الصديق (ابي بكر)‬
‫طفلً صغيرا‪ ،‬ول شيخا كبيرا‪ ،‬ول امرأة ‪ ،‬ول تعقروا نخلً ‪ ،‬ول تحرقوه‪ ،‬ولتقطعوا شجرة‬
‫مثمرة‪ ،‬ولتذبحوا شاة ول بعيرا إل لمأكله‪ ،‬وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في‬
‫()‬
‫الصوامع‪ ،‬فدعوهم ومافرّغوا أنفسهم له ‪ ...‬اندفعوا باسم ال) ‪. 3‬‬
‫لقد دخل محمد الفاتح الى قلب العاصمة البيزنطية وأعطى عالم الغرب النصراني دروس في‬
‫العدالة والرحمة وأصبحت معلما من معالم التاريخ العثماني‪.‬‬
‫إن الدولة العثمانية سارت على منهج السلم‪ ،‬فأخذت منه العدالة والرحمة بالرعايا الذين‬
‫حكموهم ولقد تحدث عبدالرحمن عزام عن رحمة العثمانيين وعدالتهم بالشعوب التي حكموها‬
‫فقال ‪( :‬وقد يظن بعض الناس بما يتناقلون من احاديث أو فكاهات عن بعض العهود للدولة‬
‫العثمانية أنها كانت دولة عظيمة‪ ،‬ولكن لم تكن صفة الرحمة مميزاتها‪ ،‬وهو خطأ شائع ل يقف‬

‫‪ )(1‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.171،172‬‬


‫‪ )(2‬المسألة الشرقية ‪ ،‬محمود ثابت الشاذلي‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪ )(3‬المسألة الشرقية ‪ ،‬محمود ثابت الشاذل‪ ،‬ص ‪.106‬‬
‫‪-183-‬‬
‫أمام البحث والتدقيق‪ ...‬ولقد سمعت بنفسي حديث هذه الرحمة في "بسرابيا" من رومانيا على‬
‫نهر "الدنيستز" وقيل لي ‪ :‬إن أمثلة الفلحين في هذه الطراف النائية للملك العثماني ل تزال‬
‫تعبر عن رحمة التركي وعدله‪ .‬ومنها مايشير الى أن العدل ينزع مع التراك من الرض‪ .‬وقد‬
‫لفت نظري في بولونيا ورومانيا وفي بلد البلقان في رحلتي المتعددة أمثلة وأساطير لتزال‬
‫تشير الى ما استقر في نفوس هذه المم المسيحية من احترام التركي المسلم كرحيم عادل‪.‬‬
‫وفي سنة ‪1917‬م كنت في فيينا فروي لي أن البوليونيين مستبشرون بوصول العساكر‬
‫()‬
‫العثمانية الى جاليسيا مددا للنمساويين) ‪. 1‬‬
‫(‪ ...‬بأن العدل والرحمة السلمية هما اللذان مكنا للعثمانيين في أوروبا‪ .‬وبالعدل والرحمة‬
‫خرجت هذه المم من همجيتها وقسوتها وعرفت المساواة والنصاف ‪ ،‬ويكفى أن تعلم أن‬
‫استرقاق الطوائف بأشنع صورة كان نظاما دوليا متعاهدا عليه في أوروبا الوسطى والجنوبية‬
‫الى أن قضى عليه العثمانيون‪ .‬وكانت هناك عهود دولية بين الملداف والبلونيين والمجر لتسليم‬
‫كل فلح يرحل من مزرعة سيده من "البويار" الى أحد هذه الوطان‪ ،‬وكانت المزارع تباع بما‬
‫عليها من الحيوانات والفلحين‪.‬‬
‫جاء العثمانيون الى أوروبا يحملون بين صدورهم عاطفة الرحمة كما أرادها صاحب الدعوة‬
‫‪ ،‬ولم يكن التراك أكثر عدة ول عددا من أية أمة من المم التي سادوها‪ ،‬فوصلوا على‬
‫رؤسهم جميعا الى فيينا‪ ،‬تمهد لهم الرحمة صعاب الجبال والبحار والوهاد‪ ،‬كما مهدت للعرب‬
‫()‬
‫قبلهم إفريقية وآسيا) ‪. 2‬‬
‫إن محمد الفاتح سار على منهج الرحمة والعدالة وأوصى أحفاده من بعده أن يلتزموا نفس‬
‫المنهج الذي يمثل حقيقة السلم‪.‬‬

‫‪ )(1‬الرسالة الخالدة ‪ ،‬ص ‪.22،24‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المسألة الشرقية ‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪-184-‬‬
‫‪( -2‬وابسط على رعيتك حمايتك دون تمييز)‪:‬‬
‫وهذا ما قام به السلطان محمد بنفسه حيث حرص على حماية كل رعايا الدولة سواء مسلمين‬
‫أو نصارى ومن القصص اللطيفة في هذا المعنى أنه كان على أهل جزيرة خيوس دين قدره‬
‫أربعون ألف دوقة لتاجر من تجار "غلطة" يدعى فرانسسكوا درا بيريو ولما عجز هذا الدائن‬
‫عن استرداد دينه من أهل الجزيرة رأى السلطان الفاتح أن يقوم هو بهذا المر بوصف أن هذا‬
‫التاجر من رعاياه الذين يجب على الدولة العثمانية حمايتهم واستيفاء حقوقهم وأرسل الى‬
‫الجزيرة عدة سفن بقيادة حمزة باشا إل أن أهالي جزيرة خيوس قتلوا بعض الجنود ورفضوا‬
‫النقياد ودفع الحقوق‪ .‬فقال محمد الفاتح للتاجر درالبيريو (أنا الذي سيتحمل دينك من أهل‬
‫()‬
‫الجزيرة وسأطلب به مضاعفا ثمنا لدم الجنود الذين هلكوا) ‪. 1‬‬
‫وسير السلطان الى هذه الجزيرة اسطولً وقام هو بقيادة الجيوش بنفسه الى الجزر القريبة‬
‫منها وفتح اينوس بغير حرب ول قتال وبادرت جزيرتا ايمبروس وساموتراس الى الستسلم‬
‫وفتحتا ابوابهما على مصاريعها للعثمانيين‪ ،‬فاضطرت جزيرة خيوس الى دفع ماعليها من دين‬
‫للتاجر الجنوي ودفعت للسلطان جزية سنوية قدرها ستة آلف دوقة‪ ،‬ودفعت له فوق ذلك‬
‫()‬
‫تعويضا للسفن العثمانية التي غرقت ‪. 2‬‬
‫إن حماية الرعية والحفاظ على حقوقهم من واجبات الدولة السلمية‪.‬‬

‫‪( -3‬واعمل على نشر الدين السلمي‪ ،‬فإن هذا هو واجب الملوك‬
‫على الرض)‬
‫كان السلطان محمد الفاتح في حروبه لينسى أنه داعية الى السلم ولذلك كان يشجع قواده‬
‫وجنوده على نشر الدين والعقيدة والسلم ويثنى على القادة الذين تفتح المدن على أيديهم ‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.217‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.218‬‬
‫‪-185-‬‬
‫فعندما أمر قائده عمر بن طرخان أن يزحف بجيشه الى أثينا واستولى عليها ويضمها الى الدولة‬
‫العثمانية وتحرك القائد عمر بجيشه واضطرت المدينة للتسليم وزار السلطان الفاتح المدينة بعد‬
‫عامين من فتحها وقال ‪( :‬ما أعظم مايدين به السلم لبن طرخان)‪.‬‬
‫لقد اهتمت الدولة العثمانية بالدعوة الى ال وتركت بصماتها قوية واضحة في مجال نشر‬
‫الدعوة في أوروبا؛ فعلى امتداد قرون وتعاقب عصور ودهور ظلت جماعات اسلمية تقاوم‬
‫شتى انواع الضغوط التي بذلت لتحويلها الى المسيحية ولزالت هذه القليات السلمية تعيش‬
‫الى يومنا هذا في بلغاريا ورومانيا وألبانيا واليونان ويوغسلفيا يصل أعدادها الى المليين من‬
‫( ‪)1‬‬
‫وهذا يرجع الى فضل ال على تلك الشعوب ثم الى سياسة السلطين العثمانيين الذين‬ ‫البشر‬
‫يحرصون على هداية الناس ودخولهم في السلم‪.‬‬

‫‪( -4‬قدم الهتمام بأمر الدين على كل شيء ول تفتر في المواظبة عليه)‪:‬‬
‫إن سلطين الدولة العثمانية قبل زمن محمد الفاتح وبعده نشأوا نشأة اسلمية‪ ،‬خالصة‪ ،‬مشوبة‬
‫بإيمان عميق‪ ،‬متوجهة الى أهداف عقائدية صريحة‪ ،‬خاضوا من أجلها حروبا دينية شديدة‪،‬‬
‫وكانت أجمل عبارة على ألسن العثمانيين عند التنادي للجهاد الزحف الى الفتوحات إما غاز‬
‫وإما شهيد‪ ،‬فمنذ بداية تأسيسها أطلق على زعيمها لقب الغازي ‪ -‬أي المجاهد في سبيل ال‪-‬‬
‫وظل هذا اللقب الرفيع يتقدم كل اللقاب والنعوت بالنسبة للسلطين العظام ‪ ،‬وكانت غاية الدولة‬
‫العثمانية (الدفاع عن السلم ورفع رايته على النام)‪.‬‬
‫لذلك صبغت الدولة شعبا وسلطانا ‪ ،‬حكومة وجيشا ثقافة وتشريعا ‪ ،‬نهجا وضميرا‪ ،‬هدفا‬
‫ورسالة‪ ،‬بصبغة اسلمية خالصة منذ النشأة وعلى مدى سبعة قرون لقد كان اهتمام السلطين‬
‫بأمر الدين عظيما وقدموه على كل شيء وواظبوا عليه الى أقصى حدود وأكدوا أنهم لينتسبون‬
‫إل للسلم وتراثه وحضارته وكان الوطن عندهم هو كل أرض يسكنها المسلمون‪ ،‬وكلمة الملة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز الشناوي (‪.)1/29،30‬‬


‫‪-186-‬‬
‫تعني المة والدين معا‪ ،‬وذلك كان هدف المنهج التربوي في جميع المدارس والجامعات‬
‫والمعاهد‪ ،‬تصاغ به نفوس الناشئة منذ بداية تعليمهم في الكتاتيب وجميع المسلمين كانوا يسجلون‬
‫في دوائر النفوس ‪ -‬سجلت المواليد‪ -‬وفي التذاكر العثمانية ‪-‬بطاقات الهوية‪ -‬كمسلمين‬
‫فحسب‪ ،‬دون أن يذكر الى جانب ذلك فيما إذا كانوا من التراك‪ ،‬أو من العرب أو من‬
‫الشراكسة أو اللبان أو الكراد إن مايهم الدولة كان ينحصر في ملتهم في ديانتهم ؛ إنهم‬
‫مسلمون وكفى‪ ،‬واعتبر العثمانيون أي مقاتل مسلم جاهد في سبيل ال ميراثهم البطولي وخلفيتهم‬
‫التاريخية‪ ،‬وإن تباينت النساب‪ ،‬وتباعدت الزمان؛ من ذلك المجاهد "عبدال البطال" الذي‬
‫استشهد في معركة أكرنيون في آسيا الصغرى عام ‪ 122‬للهجرة‪ ،‬زمن الدولة الموية والذي‬
‫يقول عنه الطبري وهو يعلق على حوادث سنة ‪122‬هـ ‪( :‬وفيها قتل عبدال البطال في جماعة‬
‫()‬
‫من المسلمين بأرض الروم) ‪. 1‬‬
‫يعتبره العثمانيون بطلهم القومي وبين "عبدال البطال" العربي وقيام الدولة العثمانية مايقرب‬
‫من سبعمائة عام‪ ،‬لقد كان تاريخ العثمانيين وأبطال العثمانيين‪ ،‬نسب السلم ‪ ،‬وتاريخ السلم‪،‬‬
‫()‬
‫ومجاهدي السلم ‪. 2‬‬
‫إن سلطين الدولة العثمانية كانوا يلقبون بكثير من اللقاب والنعوت التي تبين أن هدفهم‬
‫الكبر ومقصدهم السمى هو خدمة دين ال تعالى‪ ،‬فكانوا يلقبون بمثل سلطان الغزاة‪،‬‬
‫()‬
‫والمجاهدين ‪ ،‬وخادم الحرمين الشريفين‪ ،‬وخليفة المسلمين) ‪. 3‬‬

‫‪( -5‬ول تستخدم الشخاص الذي ليهتمون بأمر الدين ول يجتنبون الكبائر وينغمسون في‬
‫الفحش)‪:‬‬

‫‪ )(1‬تاريخ الطبري‪ ،‬الجزء الثاني حوادث سنة ‪122‬هـ‪.‬‬


‫‪ )(2‬المسألة الشرقية‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪)(3‬المسألة الشرقية‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪-187-‬‬
‫ولذلك أهتم سلطين الدولة العثمانية بإنشاء جامعات لتخريج قادة للجيش وللوظائف المهمة‬
‫في الدولة ووضعوا منهجا تربوبا لعداد القادة وخصوصا في داخل الجيوش وحرصوا على أن‬
‫يختاروا لمناصب الدولة المناء والكفاء أصحاب العقول والنهى والتقى وأسندوا إليهم الوليات‬
‫والقيادات في الجيوش ومناصب القضاة‪ ،‬وباعدوا عنهم كل من ليهتم بأمر الدين‪ ،‬ويجتنب‬
‫الكبائر والفواحش هكذا كان السلطين الوائل‪.‬‬

‫‪( -6‬جانب البدع المفسدة وباعد الذين يحرضونك عليها)‪:‬‬


‫إن السلطين العثمانيين الوائل ساروا على منهج أهل السنة والجماعة وعرفوا خطورة البدع‬
‫واجماع المة واجتهادات العلماء‬ ‫والقتراب من أصحابها واكتفوا بكتاب ال وسنة رسوله‬
‫الراسخين‪.‬‬
‫إن الشريعة السلمية الغراء التي سار عليها السلطين العثمانيون ذمت البدع‪.‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم‬
‫وصاكم به لعلكم تتقون} (سورة النعام‪ :‬الية ‪.)153‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم الى ال ثم‬
‫ينبئهم بما كانوا يفعلون} (سورة النعام ‪ :‬آية ‪.)159‬‬
‫قال ابن عطية ‪( :‬هذه الية تعمّ أهل الهواء والبدع والشذوذ في الفروع‪ ،‬وغير ذلك من أهل‬
‫()‬
‫التعمق في الجدال والخوض في الكلم‪ .‬هذه كلها عرضة للزّلل‪ ،‬ومظنة لسوء المعتقد) ‪. 1‬‬
‫()‬
‫‪( :‬من عمل عملً ليس عليه أمرنا فهو رد) ‪. 2‬‬ ‫وفي الحديث الشريف قال‬
‫وفي الصحيح عن حذيفة أنه قال ‪ :‬يارسول ال‪ :‬هل بعد هذا الخير شر؟‬
‫قال ‪( :‬نعم ؛ قوم يستنّون بغير سنتي ‪ ،‬ويهتدون بغير هديي)‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬بدر التمام في اختصار العتصام لمحمد الجزائري‪ ،‬ص ‪.32‬‬


‫‪ )(2‬مسلم (‪.)3/1344‬‬
‫‪-188-‬‬
‫قال ‪ :‬قلت ‪ :‬هل بعد ذلك الشرّ شرّ؟‬
‫قال ‪( :‬نعم؛ دعاة على نار جهنم ‪ ،‬من أجابهم قذفوه فيها)‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬يارسول ال ‪ :‬صِفْهم لنا‪.‬‬
‫قال ‪( :‬نعم ؛ هم من جلدتنا ‪ ،‬ويتكلمون بألسنتنا) ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تأمرني إن أدركت ذلك؟‬
‫قال ‪( :‬تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإن لم يكن إمام ول جماعة؟‬
‫قال ‪( :‬فاعتزل تلك الفرق كلها‪ ،‬ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على‬
‫()‬
‫ذلك) ‪. 1‬‬
‫يعمل به إل عملت به‪،‬‬ ‫قال ‪( :‬لست تاركا شيئا كان رسول ال‬ ‫وعن ابي بكر الصديق‬
‫()‬
‫إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ) ‪. 2‬‬
‫إن البتعاد عن المبتدعة ومحاربتهم من صميم الدين ‪ ،‬لن المبتدع‪:‬‬
‫‪ -‬ليقبل منه عمل‪ ،‬وينزع منه التوفيق‪ ،‬وملعون على لسان الشريعة ‪ ،‬ويزداد من ال بعدا‪،‬‬
‫يوم القيامة‪ ،‬مظنة العداوة والبغضاء بين أهل السلم‪ ،‬رافع‬ ‫مانعة من شفاعة الرسول‬
‫للسنن‪ ،‬يلقى عليه الذل في الدنيا والخرة‪ ،‬ويخاف عليه من سوء الخاتمة‪ ،‬ويسود وجهه في‬
‫()‬
‫الخرة‪ ،‬ويخشى عليه من الفتنة) ‪. 3‬‬
‫ولذلك كانت وصية السلطان محمد ‪-‬رحمه ال‪ -‬لمن بعده (جانب البدع المفسدة وباعد الذين‬
‫يحرضونك عليها)‪.‬‬

‫‪ )(1‬مسلم‪ ،‬كتاب المارة رقم ‪.1847‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬بدر التمام في اختصار العتصام لمحمد الجزائري‪ ،‬ص ‪.35‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪ 36‬الى ‪.38 ،37‬‬
‫‪-189-‬‬
‫‪ -7‬وسع رقعة البلد بالجهاد‪:‬‬
‫إن السلطين العثمانيين الوائل قاموا بتوسيع رقعة الدولة بالجهاد وبسطوا المن وقمعوا‬
‫الخطار التي هددت دولتهم‪ ،‬وعملوا على تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى ل‬
‫يستطيع العداء أن يظفروا بثغرة أو ينتهكوا محرما ويسفكوا دما مسلما أو معاهدا‪ ،‬وعمل‬
‫السلطان محمد ومن قبله على إعداد المة إعدادا جهاديا وقام بواجبه في جهاد الكفرة المعاندين‬
‫للسلم حتى يسلموا أو يدخلوا في ذمة المسلمين ولقد صبغ المجتمع العثماني بالصبغة‬
‫السلمية الجهادية الدعوية وكان أفراد الجيش يعدون للحياة الجهادية العنيفة‪ ،‬منذ نعومة‬
‫أظافرهم‪ ،‬إعدادا دقيقا‪ ،‬كاملً ولقد حققت الجيوش العثمانية انتصارات رفيعة في الساحات‬
‫()‬
‫الوروبية ‪ ، 1‬لقد (حققت الدولة العثمانية الى عهد سليمان القانوني آمالً عظيمة كان يستهدفها‬
‫المسلمون منذ تسعة قرون برفع الراية المحمدية على قلع كثير من العواصم الكبرى في‬
‫أوروبا وإخضاع كثير من المماليك والمارات للحكومة السلمية وأخذ ظل السلم يمتد حتى‬
‫()‬
‫أوشكت جيوش المسلمين في شرق أوروبا وغربها أن تلتقي في الرض الكبيرة) ‪. 2‬‬
‫ومن المؤتمر السابع لوزراء خارجية الدول السلمية في استنابول ألقي المجاهد البروفسور‬
‫المهندس نجم الدين أربكان خطابا استرجع فيه صدى الماضي السلمي الذي مثلته الدولة‬
‫العثمانية فقال‪ ...( :‬إن هذا القصر الذي شاء ال أن يعقد فيه هذا المؤتمر السلمي الكبير وقد‬
‫نقشت على بابه كلمة السلم الجامعة‪" :‬ل إله إل ال" ‪ ..‬هو قصر السلطان محمد الفاتح الذي‬
‫بناه عقب فتح استنبول‪ ..‬كيف ليكون هذا المكان تاريخيا ومنه كانت تدبر شؤون العالم‬
‫السلمي ردحا من الزمن؟ وكيف ليكون لتاريخنا ومنه كانت تنطلق جيوش المسلمين الى‬
‫جميع أنحاء الدنيا‪ ،‬مجاهدة في سبيل ال‪ ،‬تنشر النور والهداية والعدل أينما حلت وحيثما‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المسألة الشرقية‪ ،‬ص ‪.60‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪-190-‬‬
‫ضربت‪ ..‬كيف ليكون تاريخيا وفوق هذا الحجر الذي يرتكز عليه الميكرفون كانت تنصب‬
‫رايات الجيوش السلمية‪ ،‬المنطلقة للذب عن ديار المسلمين جميعا‪ ..‬وأذكر على سبيل المثال‬
‫ل الحصر ‪ :‬أن قرار إرسال السطول السلمي للحيلولة دون وقوع كل من أندونيسيا والفلبين‬
‫في براثن الستعمار الهولندي اتخذ من هذا المكان ‪ ،‬وفيه أيضا اتخذت قرارات إرسال الجيوش‬
‫والساطيل السلمية لحماية شمال أفريقيا من الغزاة الطامعين‪.‬‬
‫وبردته‬ ‫وفوق هذا كله فإن هذا البناء التاريخي يضم بين جدرانه لواء الرسول العظم‬
‫()‬
‫المباركة وسيوفه وكثيرا من آثاره الشريفة ‪. 1 )...‬‬
‫لقد كانت الدولة تعطي لمبدأ الجهاد أهمية قصوى ولذلك أعدت شعبها وجيشها لتحقيق هذا‬
‫المبدأ الرباني وحققت من خلله ثمرات مهمة السلم والمسلمين من أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬إعزاز المسلمين وإذلل الكافرين‪.‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪ -‬دخول الناس في دين ال فواجا ‪.‬‬
‫‪ -‬إسعاد الناس بنور السلم وعدله ورحمته‪.‬‬
‫لقد انصبغت الدولة العثمانية بالروح الجهادية ووضعت أهدافا لها من أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬إقامة حكم ال ونظام السلم في الرض‪.‬‬
‫‪ -‬دفع عدوان الكافرين‪.‬‬
‫‪ -‬إزاحة الظلم عن الناس‪.‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪ -‬نشر الدعوة السلمية بين البشر ‪.‬‬
‫‪( -8‬واحرس أموال بيت المال من أن تتبد)‪:‬‬
‫إن السلطين العثمانيين كانوا يرون أن الدولة هي الهيئة التنفيذية والمعبرة عن رأي المة‪،‬‬
‫والمكلفة بحماية مصالحها‪ ،‬فمسؤلية الدولة ليست خاصة بالمن والدفاع وإنما هي مسؤولة عن‬
‫رعاية المصالح الجتماعية وحماية بيت المال من السراف والتبذير والمحافظة على مصادر‬

‫‪ )(1‬المسألة الشرقية‪ ،‬ص ‪.63،64،65‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬فقه التمكين في القرآن الكريم‪ ،‬لعلي محمد الصلبي‪ ،‬ص ‪ 369‬الى ‪.375‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬فقه التمكين في القرآن الكريم‪ ،‬لعلي محمد الصلبي‪ ،‬ص ‪ 366‬الى ‪.367‬‬
‫‪-191-‬‬
‫وموارد بيت المال وأهم موارد بيت المال‪:‬‬
‫‪ -‬جمع الزكاة المفروضة وتوزيعها في مصارفها المشروعة ‪.‬‬
‫‪ -‬ترتيب الخراج على أملك الدولة المعمورة وتحصيل عائدته للنفاق العام على الجيش‬
‫وتنمية المرافق العامة‪.‬‬
‫‪ -‬جباية الجزية على المعاهدين مقابل إعفائهم من القتال مع المسلمين ‪.‬‬
‫‪ -‬تحصيل عشور التجارة على الواردات من خارج نطاق الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -‬التوظيف بقدر الحاجة على افراد المة سواء كان تطوعيا أو ألزاميا لنفاقها في دروب‬
‫الجهاد وسائر المصالح العامة طبقا لقاعدة المصالح المرسلة‪.‬‬
‫‪ -‬تشغيل الموارد وحمايتها كالحمى والمناجم وإحياء الموات‪ ،‬وتحصيل أنصبة الدولة منها‬
‫()‬
‫لستخدامها في مجالت النفاق الحكومي ‪. 1‬‬
‫وعلى الدولة أن تراقب النشاط القتصادي وتحرص على تطبيق أحكام الشريعة فيه‪ ،‬وتشمل‪:‬‬
‫‪ -‬ضبط المقاييس والمواصفات المعيارية التي يحتاجها الناس في أسواقهم مثل المكاييل‬
‫والموازيين‪ ،‬ومواصفات البضائع الجيدة‪.‬‬
‫‪ -‬منع الغش ‪ ،‬وإبطال العقود الفاسدة في البيع والعمل (الستضاع)‪.‬‬
‫‪ -‬المر بالمعروف في المعاملت كالصدق والعدل والوفاء في المعاملة كالبيع والشراء‬
‫والنهي عن المنكر في البيوع كالحلف الكاذب على السلعة ‪.‬‬
‫‪ -‬منع تلقي الركبان والمناجشة في البيع والتدليس والغبن الفاحش وغيره من الساليب التي‬
‫تؤدي الى العداوة والبغضاء بين الناس‪.‬‬
‫‪ -‬منع ترويج المحرمات كالخمر والخنزير وآلت القمار والميسر‪ ،‬ووسائل اللهو المؤدي‬
‫الى تمويت القلوب‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اقتصاديات الحرب في السلم‪ ،‬د‪ .‬غازي التمام ‪ ،‬ص ‪.137‬‬


‫‪-192-‬‬
‫()‬
‫‪ -‬منع مظاهر الترف والسراف ‪ ،‬والتشجيع على نبذها ‪. 1‬‬

‫‪( -9‬وإياك أن تمد يدك الى أحد من أموال رعيتك إل بحق السلم)‪:‬‬
‫إن وظيفة الدولة تنفيذ أوامر الشريعة والشريعة جاءت لحفظ أموال الناس التي هي قوام‬
‫حياتهم‪ .‬وقد حرم السلم كل وسيلة لخذ المال بغير حق شرعي‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ول تأكلوا‬
‫أموالكم بينكم بالباطل} (سورة البقرة‪ :‬آية ‪.)188‬‬
‫وحرم السرقة وأوجب الحد على من ثبتت عليه تلك الجريمة فقال تعالى ‪{ :‬والسارق‬
‫والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالً من ال‪( }...‬سورة المائدة‪ :‬آية ‪ .)38‬وكذلك حرم‬
‫السلم الربا الذي يهدد مصالح الفراد واقتصاد الدول‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ل‬
‫تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} (سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.)130‬‬
‫وحرم كذلك الغش والحتكار والنهب والختلس والغلول وغير ذلك من أشكال العتداء‬
‫على المال وكل ذلك داخل في أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه‪.‬‬
‫ووظيفة الحاكم حماية أموال الرعية من السرقة والنهب ل أن يمد يده بغير وجه حق ويعتدي‬
‫على أموال الناس ‪.‬‬

‫‪ ( -10‬واضمن للمعوزين قوتهم وابذل أكرامك للمستحقين)‪:‬‬


‫كان السلطين العثمانيون يتسابقون في الحسان للفقراء والمساكين وأبناء السبيل ‪..‬وكل من‬
‫هو محتاج الى البر والحسان وقامت الدولة بأعمال جليلة في هذا الباب بل أوقف السلطين‬
‫والوزراء أوقافا عظيمة على طلب العلم والفقراء والمساكين والرامل وغير ذلك وكان الوقف‬
‫ركنا اساسيا في اقتصاد الدولة يقول الستاذ محمد حرب ‪ ...( :‬نشطت الحركة العلمية في‬
‫()‬
‫جوامع استنبول ‪ ... 2‬وكان صقوللي محمد باشا ‪-‬على سبيل المثال‪ -‬ينفق على الحركة العلمية‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫‪ )(2‬الجامع في النظام العثماني معمارياً وإدارياً وحدة دينية وعلمية متكاملة فيها الجامع والمدرسة والمدارس القل من‬
‫المدرسة والجامعة ‪ -‬والمكتبة ومدينة الطلب والمطعم الخاص بهم والمطعم الخيري العام والحمام ومدرسة الطب‬
‫‪-193-‬‬
‫في استانبول من دخل وقف ‪ 2000‬قرية عثمانية في تشيكوسلوفاكيا (وكانت تابعة للدولة‬
‫العثمانية) وأسعد أفندي قاضي عسكر الروملي (يعني البلقان) أوقف وقفين كبيرين على تجهيز‬
‫الفتيات المعدمات اللتي يصلن الى سن الزواج‪ .‬وكان لدى العثمانيين أوقاف كثيرة ومتعددة ؛‬
‫مثل آخر كانت هناك أوقاف بصرف مرتبات للعائلت المعوزة ‪-‬غير الكل‪ -‬لن الكل‬
‫المجاني له أوقاف عامة أخرى تسمى (عمارت وقفي) أي وقف المطاعم الخيرية وكانت‬
‫الـ(عمارات) تقدم أكلً مجانيا لعدد يبلغ ‪ 20.000‬شخص يوميا مجانا‪ ،‬وكان مثل هذا في كل‬
‫()‬
‫الوليات‪. 1 )...‬‬
‫وكان المطعم الخيري بجامع السليمانية تبلغ ميزانيته عام ‪1586‬م ما يعادل (‪ )10‬عشرة‬
‫()‬
‫مليين دولر أمريكي إل قليلً ‪. 2‬‬
‫وهكذا كانت سياسة الدولة على مستوى السلطين والمراء والوزراء تضمن للمعوزين‬
‫قوتهم وتكرم المستحقين بالكرام‪.‬‬

‫‪( -11‬وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة فعظم جانبهم وشجعهم واذا‬
‫سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال‪:)...‬‬
‫لقد أهتم السلطان محمد الفاتح بترتيب وظائف العلماء في الجوامع الكبرى ووضع لها تقاليد‬
‫سابقة ونظمها بمرسوم خاص واهم الوظائف في المساجد الكبرى‪ :‬الخطيب والمام ‪ ،‬والقيم‬
‫والمؤذن ويقوم المرشحون لهذه الوظائف بطلب العلم في المدارس الدينية الكبيرة التي كثيرا ما‬
‫كان السلطين والوزراء يتنافسون على تشييدها تنافسا نبيلً ويخضع الموظفون الدينيون في‬
‫العاصمة لسلطة المفتي مباشرة ولكان ينوب عنه في الوليات الكبرى قضاة العسكر؛ أما في‬

‫والمستشفى‪.‬‬
‫‪ )(1‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.422‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.422‬‬
‫‪-194-‬‬
‫الوليات الصغرى فكان المام يقوم بكافة المهام الدينية وخاصة في الرياف‪.‬‬
‫وكانت المدارس التي تعد الموظفين الدينيين يوجد بها ثلثة فئات من طلبة العلم‪ :‬فا(الصوفتا)‬
‫وهي أدناها تليها فئة المعيدين الذي يحمل الطالب عند التخرج منها لقب (دانشمند) أو عالم‪ .‬أما‬
‫الفئة العلى فهي منصب المدرس‪ ،‬وبلغ عدد الصوفتا في عهد السلطان مراد الثاني ‪ 90‬ألفا‪.‬‬
‫()‬
‫وكانوا كثيرا ما يكون لهم أثر في شؤون الدولة ‪. 1‬‬
‫وقد استحدث محمد الفاتح لقب شيخ السلم وهو الذي يترأس الهيئة السلمية في الدولة‪،‬‬
‫وهو يلي السلطان في الهمية‪ .‬وكان التشريع والمحاكم والمدارس الملحقة بالمساجد وممتلكات‬
‫الوقاف الواسعة جميعها خاضعة له‪ ،‬كما كان خاضعا له القضاة الشرعيون والقضاة‬
‫العسكريون والمفتون‪ .‬وكانت الولوية في بداية نشأة الدولة العثمانية لقاضي عسكر الذي رافق‬
‫الجيش المحارب‪ ،‬ثم صارت للمفتي رئيس العلماء والفقهاء في عهد السلطان سليمان القانوني‬
‫وأصبح المفتي هو شيخ السلم نفسه‪ ،‬وحرص السلطين على تدعيم سلطة شيخ السلم فكانوا‬
‫يلجؤون الى استغلل سلطته والفادة منها كلما تعرضوا لزمة خطيرة‪ .‬وبلغ من ازدياد سلطة‬
‫()‬
‫شيخ السلم أنه كان يحق له إصدار فتوى بعزل السلطان نفسه ‪. 2‬‬
‫كما كانت الدولة لتقدم على حرب دون صدور فتوى منه يقرر فيها أن أهداف هذه الحرب‬
‫لتتعارض مع الدين وكانت أحكام المفتي نهائية لمعقب عليها وكان الجهاز السلمي المنبث‬
‫‪ ،‬وكان نقيب‬ ‫في جسم الدولة يضم الشراف وهم الذين ينحدرون من سللة الرسول‬
‫()‬
‫الشراف يحتل مكانة عالية في المجتمع ‪. 3‬‬
‫لقد قامت الدولة العثمانية بتأسيس جهاز للهيئة الدينية السلمية وحرصت على أن تمتد‬
‫جذورها في أوساط الشعب والجيش وكل رعايا الدولة المسلمين وقد أصبحت أفراد هذه الهيئة‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.405‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪-195-‬‬
‫يتولون مناصب القضاء والفتاء وتدريس علوم الدين واللغة والمشاركة على نحو مافي إدارة‬
‫الدينية والشراف على المساجد والمؤسسات الدينية والخيرية مثل‬ ‫الوقاف الخيرية وإقامة‬
‫التكايا والسبلة وغيرها وكان أفراد من الهيئة الدينية السلمية الحاكمة يصحبون شتى فرق‬
‫الجيش إلى ميادين القتال ويقومون قبل المعركة بتسخين الجنود روحيا ابتغاء رفع روحهم‬
‫المعنوية ويضربون للجنود أروع المثلة على استبسال الجنود المسلمين في صدر السلم حين‬
‫انطلقوا على موجات بشرية متلحقة من قلب شبه الجزيرة العربية واتجهوا شرقا إلى العراق‬
‫وفارس‪ ،‬وشمالً إلى بلد الشام‪ ،‬واتجهوا إلى مصر ثم شمال إفريقية‪ ،‬وعبروا البحر المتوسط‬
‫إلى الندلس‪ .‬ويذكرون لهم اليات القرآنية الكريمة والحاديث النبوية الشريفة التي تدور حول‬
‫الجهاد الديني والفوز بإحدى الحسنيين‪ :‬النصر أو الستشهاد‪ .‬ويشرحون لهم مواقف الصحابة‬
‫واسترخاصهم الموت حتى استطاعت الجيوش السلمية وقتذاك أن تدك معاقل دولة الفرس‬
‫والدولة البيزنطية‪ ،‬كما كان رجال الهيئة الدينية السلمية يؤمون الجنود في صلة الخوف وهم‬
‫()‬
‫في ساحات القتال‪. 1 ..‬‬
‫كان علماء الدولة الذين قادوا الهيئة الدينية ينظرون إلى السلطان على أنه يعتبر إماما‬
‫للمسلمين وتجب عليهم طاعة السلطان بصفته ولي المر كما يأمرهم سبحانه وتعالى في كتابه‬
‫العزيز ‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأولي المر منكم‪ ،‬فإن تنازعتم في‬
‫شيء فردوه إلى ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر‪ ،‬ذلك خير وأحسن تأويل ‪} ..‬‬
‫( سورة النساء‪ ،‬آية‪.) 59 :‬‬
‫وكانوا يعتقدون ليس لولي المر طاعة فيما وراء الشريعة لن الطاعة لهم تبعية‪ ،‬وليست‬
‫أصلية‪ ،‬إنها طاعة مستمدة من أصل‪ ،‬وليست هي بذاتها أصل‪ .‬وقد أشار إلى هذا المعنى أبو‬
‫بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين في أول خطبة عامة ألقاها بعد مبايعته بالخلفة أوضح فيها‬

‫‪ )(1‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪.)1/455،456‬‬


‫‪-196-‬‬
‫منهجه في الحكم وكان مما جاء في هذه الخطبة المشهورة قوله‪ " :‬أيها الناس إني وليت عليكم‪،‬‬
‫ولست بخيركم‪ ،‬فإن أحسنت فأعينوني‪ ،‬وإن أسأت فقوموني ‪ ...‬أطيعوني ما أطعت ال ورسوله‬
‫()‬
‫فإن عصيت ال ورسوله فل طاعة لي عليكم‪. 1 " ..‬‬
‫وهكذا طلب أبو بكر من جموع المسلمين طاعته طالما كان سائرا على هدى ال وسنة‬
‫رسوله‪ .‬لطاعة لمخلوق في معصية الخالق‪.‬‬
‫وكان العلماء وعلى رأسهم شيخ السلم يعتمدون على الشريعة عند الخلف مع السلطان أو‬
‫()‬
‫الصدر العظم وليسمحون لهم أن ينحرفوا عن مبادئ الشريعة ‪ 2‬وكان الشعب يقف معهم‬
‫ويلتحم معهم في القضايا المصيرية‪ ،‬لن العلماء كانوا يملكون القوتين الروحية والدبية اللتين‬
‫تمثلتا في ممارسة أعمال القضاء والفتاء والمامة والشراف على المساجد وإقامة الشعائر‬
‫الدينية وإدارة المؤسسات الخيرية‪ ،‬ونشاطهم في مجالت التعليم بشتى درجاته وعلى قمتها‬
‫الدراسات العليا في الكليات حيث كانوا يقومون بتدريس علوم الشريعة السلمية وأصول الدين‬
‫()‬
‫ولذلك كانوا أكثر التفافا برجل الشارع وأكثر تفاهما وتعاطفا وتجاوبا مع الهلين ‪. 3‬‬
‫‪ ( :12‬حذارِ حذارِ ليغرنك المال ول الجند وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك‪ ،‬وإياك أن‬
‫تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة فإن الدين غايتنا والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا)‪:‬‬
‫إن السلطان محمد الفاتح يحذر وليه من بعده أن ينغمر بالمال أو الجند ويبين له خطورة ابعاد‬
‫العلماء والفقهاء عن الحاكم‪ ،‬كما يحذره من أن يخالف أحكام الشريعة‪ ،‬لن ذلك يجلب للفراد‬
‫والمة تعاسة وضنكا في الدنيا وهلكا وعذابا في الخرة وإن آثار البتعاد عن شرع ال‬
‫وأحكامه تبدو على حياة المة في وجهتها الدينية والجتماعية والسياسية والقتصادية‪.‬‬
‫وإن الفتن تظل تتابع وتتوالى على الناس حتى تمس جميع شؤون حياتهم قال تعالى‪ { :‬فليحذر‬

‫‪)(1‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪.)1/460‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/460‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/466‬‬
‫‪-197-‬‬
‫الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} ( سورة النور‪ ،‬الية‪ .) 13 :‬إن‬
‫من الثار عن البتعاد عن أحكام الشريعة أن تصاب المة بالتبلد وفقد الحساس بالذات وموات‬
‫ضميرها الروحي فل أمر بمعروف تأمر به ول نهي عن منكر تنهى عنه ويحدث لها ماحدث‬
‫لبني إسرائيل عندما تركوا المر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى‪ { :‬لعن الذين كفروا‬
‫من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‪ ،‬كانوا‬
‫ليتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون‪ ( }..‬سورة المائدة‪ ،‬اليات ‪.) 79-78‬‬
‫فإن أي أمة لتعظم شرع ال أمرا ونهيا فإنها تسقط كما سقط بنو إسرائيل‪ :‬قال رسول ال‬
‫‪ ( :‬كل وال لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأْخُذْنّ ثم لتأْخُذْنّ على يد الظالم‬
‫ولتأطرنه على الحق اصرا‪ ،‬ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن ال على قلوب بعضكم‬
‫()‬
‫ببعض ثم ليلعنكم كما لعنهم ) ‪. 1‬‬
‫وعندما تتغير النفوس من الطاعة والنقياد لحكام ال إلى المخالفة والتمرد على أحكام ال‬
‫تتحقق فيهم سنة ال الماضية بسبب تغير النفوس ‪ { :‬ذلك بأن ال لم يك مغيرا نعمة أنعمها على‬
‫قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ( سورة النفال ‪ :‬آية ‪ )53‬كما يترتب على ذلك توقف حركة‬
‫الفتوح السلمية وتحرم شعوب كثيرة من سعادتها في الدنيا والخرة بسبب تضييع أحكام‬
‫الشريعة وارتكاب ما يخالفها من أفعال قبيحة وتحدث الحروب فيما بين المسلمين وتكثر‬
‫العتداءات على النفس والموال والعراض كما يقوى العداء وتشتد شوكتهم ويغيب نصر‬
‫ال على السلم والمسلمين ويحرموا من التمكين ويصبحوا في خوف وفزع وجوع‪ ،‬وتضيع‬
‫المدن والقرى ويتسلط عليها العداء وتتوالى المصائب وهذا ما حدث في تاريخ الدولة العثمانية‬
‫المتأخر‪.‬‬
‫إن من سنن ال تعالى المستنبطة من حقائق الدين وأحداث التاريخ أنه إذا عصي ال تعالى‬

‫‪ )(1‬سنن ابوداود ‪ ،‬كتاب الملحم ‪ ،‬باب المر بالمعروف رقم الحديث ‪.4670‬‬
‫‪-198-‬‬
‫ممن يعرفونه سلّط عليهم من ليعرفونه كما حدث في تسليط النصارى على المسلمين في‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكما فعل اليهود والنجليز والروس‪ ..‬في تفتيت الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫الندلس‬
‫إن السر في قوة العثمانيين وعزهم وشرفهم كامنة في طاعة ال وتنفيذ أحكامه‪ ،‬واللتزام‬
‫بشريعته والجهاد في سبيله والدعوة إليه ولذلك قال محمد الفاتح لبنه ( فإن الدين غايتنا والهداية‬
‫منهجنا وبذلك انتصرنا )‪.‬‬
‫‪ ( -13‬واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ) ‪:‬‬
‫إن تعزيز هذا الدين وإقامته في الرض يحقق نتائج طيبة في حياة المة والدولة‪ ،‬ومن هذه‬
‫النتائج تهذيب النفس من الشرور والثام وترويضها على الخير‪ ،‬لذا كان الوازع الديني ثمرة من‬
‫ثمار تعزيز هذا الدين ويكون مانعا من ارتكاب الجريمة ومحاسبة النفس عليها‪ ،‬ويكون ماثلً‬
‫أمام العين مما يجعل النفس تخشى ال وتتقيه دائما وأبدا كما أن تعزيز الدين وإقامة الشرع‬
‫يحقق المساواة بين الراعي والرعية في الحقوق والواجبات وتنشر العدالة في الدولة السلمية‬
‫لجميع ساكنيها‪ ،‬كما أن في تطبيق الشريعة نزول البركة‪ ،‬وتوالي النعم‪ ،‬إذ ليس هناك طريق‬
‫مستقل لحسن الجزاء في الخرة وطريق مستقل لصلح الحياة في الدنيا‪ ،‬إنما هو طريق واحد‬
‫تصلح به الدنيا والخرة‪ ،‬وفي تطبيقها بركات في النفوس وبركات في المشاعر وبركات في‬
‫طيبات الحياة‪ ،‬فالبركة قد تكون مع القليل إذا أحسن النتفاع به‪ ،‬ومن نتائج تطبيقها بناء مجتمع‬
‫إسلمي معتز بدينه وعقيدته بما التزمه من سلوك مصدره كتاب ال وسُنة رسوله ففيهما‬
‫المواد اللزمة لبناء الفرد المسلم والجماعة المسلمة والمة المسلمة والدولة المسلمة كما أن من‬
‫النتائج حفز الهمم‪ ،‬وبعث النفوس إلى الخذ بأسباب العلم والحضارة والرقي والتقدم لما تضمنته‬
‫تلك الشريعة من الدعوة إلى الحياة كما أنها تتضمن نبذ عفن الحياة الحضاري لمجتمعات الرذيلة‬
‫()‬
‫أيا كانت وأينما وجدت ‪. 2‬‬
‫إن الناس يحتاجون إلى العلماء الربانيين ليعلموهم دينهم ويربون نفوسهم على طاعة ال‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬فقه التمكين عند دولة المرابطين لعلي الصلبي ‪ ،‬ص ‪.167‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تطبيق الشريعة السلمية للطريقي ‪ ،‬ص ‪.60،61‬‬
‫‪-199-‬‬
‫ولذلك لبد من القيادة السلمية من احترامهم وتقديرهم وإكرامهم‪ ،‬فهم الذين يبينون للناس حكم‬
‫ال ورسوله وتفسير النصوص الشرعية وفق قواعد السلم الكلية قال تعالى‪ { :‬فاسألوا أهل‬
‫الذكر إن كنتم لتعلمون }‪.‬‬
‫‪( -14‬ول تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو أو أكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم‬
‫أسباب الهلك )‪:‬‬
‫إن هذه الوصية ترشد ولي عهد السلطان محمد الفاتح إلى العتدال والتوسط في الستهلك‬
‫وهذه الوصية فهم لمر ال ورسوله بالقصد والتوسط ولقد أنزل ال كثيرا من اليات التي تمتدح‬
‫في التفقه وذم ماسواه من البخل والشح والتبذير والسراف والترف قال تعالى‪ { :‬ول تجعل يدك‬
‫مغلولة إلى عنقك ولتبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا } ( السراء‪ .) 29 :‬وقال تعالى‬
‫يصف المؤمنين ‪ { :‬والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (سورة‬
‫الفرقان‪ ،‬الية‪.) 67 :‬‬
‫إن السلطان محمد الفاتح يرى وجوب ابتعاد الحاكم ودولته عن السراف لن فيه معصية ال‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫إن الدولة العثمانية كدولة مجاهدة كانت لها خطة اقتصادية لتدبير موارد المة في ظروف‬
‫الحرب لتأمين احتياجات جيشها‪ ،‬وتوفير الحاجات الضرورية لشعبها من السلع والخدمات‬
‫ولذلك كان السلطين الوائل في الدولة العثمانية يمنعون السراف والتبذير في القطاع الحكومي‬
‫والقطاع الخاص وكانت الدولة ترشد الستهلك العام والخاص حتى لتقع المة في أزمات‬
‫اقتصادية خلل الحرب التي تسبب في هزائم المم‪ ،‬فكانت الدولة بالتعاون مع قطاعات أخرى‬
‫حكومية وشعبية تقوم بما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬توفير الموال اللزمة للنفاق على الحرب‪ ،‬وعلى ضروريات المجتمع من الغذاء‬
‫والدواء والحماية‪.‬‬
‫‪ -2‬توفير المدادات اللزمة خلل الحروب والزمات‪.‬‬
‫‪-200-‬‬
‫‪ -3‬تعويض النقص من مخزون السلع والجهزة الحيوية من النتاج المحلي بقدر المكان‪.‬‬
‫‪ -4‬السيطرة على التضخم في السعار الذي يصاحب عادة حالت الحرب‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -5‬التوزيع العادل للسلع والخدمات الضرورية بما يؤمن حد الكفاية لكل فئات المجتمع ‪. 1‬‬
‫إن الدول التي تقع في الترف واللهو وتصرف أموالها‪ ،‬في غير محلها مآلها إلى الهلك‬
‫والدمار‪ .‬ولقد أدى الترف إلى انغماس بعض السلطين المتأخرين في حياة الفسق واللهو بحيث‬
‫يقضون أوقاتهم في الملذات وقضاء أوقاتهم بين الحريم وقد أدى ذلك إلى البتعاد عن أمور‬
‫الحكم وتركها للصدور العظام وللحريم‪ ،‬فانعكس ذلك على ضعف السلطين‪ ،‬وعدم قدرتهم على‬
‫تسيير أمور الدولة وقيادة الجيش‪ ،‬مما أثر على أوضاع الدول وأدى إلى ضعفها ثم اضمحللها‬
‫()‬
‫وضياعها فيما بعد ‪. 2‬‬

‫وفاة السلطان محمد الفاتح وأثرها على الغرب والشرق‬


‫في شهر الربيع من عام ‪886‬هـ ‪1481 -‬م غادر السلطان الفاتح القسطنطينية إلى آسيا‬
‫الصغرى حيث كان قد أُعد في اسكدار جيش آخر كبير‪ .‬وكان السلطان محمد الفاتح قبل‬
‫خروجه من استنبول قد أصابته وعكة صحية إل أنه لم يهتم بذلك لشدة حبه للجهاد وشوقه الدائم‬
‫للغزو وخرج بقيادة جيشه بنفسه‪ ،‬وقد كان من عادته أن يجد في خوض غمار المعارك شفاء‬
‫لما يلم به من أمراض إل أن المرض تضاعف عليه هذه المرة وثقلت وطأته بعد وصوله إلى‬
‫اسكدار فطلب أطباءه‪ .‬غير أن القضاء حم به فلم ينفع فيه تطبيب ول دواء‪ ،‬ومات السلطان‬
‫الفاتح وسط جيشه العرمرم يوم الخميس الرابع من ربيع الول ‪886‬هـ ( ‪ 3‬مايو ‪1481‬م )‬
‫()‬
‫وهو في الثانية والخمسين من عمره بعد أن حكم نيفا وثلثين عاما ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اقتصاديات الحرب في السلم‪ ،‬ص ‪.339‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬محمد الفاتح ‪ ،‬ص ‪.372‬‬
‫‪-201-‬‬
‫وبعد أن ذاع نبأ الوفاة في الشرق والغرب‪ ،‬أحدث دويا هائلً اهتزت له النصرانية والسلم‪،‬‬
‫أما النصرانية فقد غمرها الفرح والبتهاج والبشرى وأقام النصارى في رودس صلوات الشكر‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكانت جيوش الدولة العثمانية قد وصلت إلى جنوب‬ ‫على نجاتهم من هذا العدو المخيف‬
‫إيطاليا لفتح كل ايطاليا وضمها للدولة العثمانية إل أن خبر الوفاة وصلهم فانتاب الجنود هم‬
‫شديد وحزن عميق واضطر العثمانيون في الدخول لمفاوضات مع ملك نابولي لينسحبوا آمنين‬
‫على حياتهم وامتعتهم وعتادهم وتمّ التفاق على ذلك إل أن النصارى لم يفوا بما تعهدوا‬
‫()‬
‫واعتقلوا بعض الجنود الذين كانوا في المؤخرة وصفدوهم بالحديد ‪. 2‬‬
‫وعندما وصل خبر وفاة السلطان إلى روما ابتهج البابا وأمر بفتح الكنائس وأقيمت فيها‬
‫الصلوات والحتفالت‪ ،‬وسارت المواكب العامة تجوب الشوارع والطرقات وهي تنشد أناشيد‬
‫النصر والفرح بين طلقات المدافع وظلت هذه الحتفالت والمهرجانات قائمة في روما طيلة‬
‫()‬
‫ثلثة أيام‪ ،‬لقد تخلصت النصرانية بوفاة محمد الفاتح من أعظم خطر كان يهددها ‪. 3‬‬
‫لم يكن أحد يعلم شيئا عن الجهة التي كان سيذهب إليها السلطان الفاتح بجيشه‪ ،‬وذهبت ظنون‬
‫الناس في ذلك مذاهب شتى‪ .‬فهل كان يقصد رودس ليفتح هذه الجزيرة التي امتنعت على قائده‬
‫مسيح باشا؟ أم كان يتأهب للحاق بجيشه الظافر في جنوبي إيطاليا ويزحف بنفسه بعد ذلك إلى‬
‫روما وشمالي إيطاليا ففرنسا وإسبانيا ؟‬
‫()‬
‫لقد ظل ذلك سرا طواه الفاتح في صدره ولم يبح به لحد ثم طواه الموت بعد ذلك ‪. 4‬‬
‫لقد كان من عادة الفاتح أن يحتفظ بالجهة التي يقصدها ويتكتم أشد التكتم ويترك أعداءه في‬
‫غفلة وحيرة من أمرهم‪ ،‬ليدري أحدهم متى تنزل عليه الضربة القادمة ثم يتبع هذا التكتم‬
‫‪)(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.373‬‬
‫‪)(2‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.373‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.374‬‬
‫‪)(4‬انظر‪ :‬محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.377‬‬
‫‪-202-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وذات مرّة سأله‬ ‫الشديد بالسرعة الخاطفة في التنفيذ فل يدع لعدوه مجالً للتأهب والستعداد‬
‫أحد القضاة أين تقصد بجيوشك فأجابه الفاتح ‪ " :‬لو أن شعرة في لحيتي عرفت ذلك لنتفتها‬
‫()‬
‫وقذفت بها في النار ‪. 2 " ...‬‬
‫إن من أهداف الفاتح أن يمضي بفتوحات السلم من جنوب إيطاليا إلى أقصاها في الشمال‬
‫ويستمر في فتوحاته بعد ذلك إلى فرنسا وأسبانيا وماوراءها من الدول والشعوب والمم‪.‬‬
‫لقد تأثر المسلمون في العالم السلمي لوفاة محمد الفاتح وحزنوا عليه حزنا عميقا وبكاه‬
‫المسلمون في جميع أقطار المعمورة‪ ،‬لقد بهرتهم انتصاراته‪ ،‬واعاد إليهم سيرة المجاهدين‬
‫()‬
‫الوائل من السلف الصالح ‪. 3‬‬
‫قال عن وفاته عبدالحي بن العماد الحنبلي في وفيات سنة ست وثمانين وثمانمائة ‪ .. ( :‬كان‬
‫من أعظم سلطين بني عثمان وهو الملك الضليل الفاضل النبيل العظيم الجليل أعظم الملوك‬
‫جهادا وأقواهم اقداما واجتهادا وأثبتهم جأشا وقوادا وأكثرهم توكلً على ال واعتمادا وهو الذي‬
‫أسس ملك بني عثمان وقنن لهم قوانين صارت كالطواق في أجياد الزمان وله مناقب جميلة‬
‫ومزايا فاضلة جليلة وآثار باقية في صفحات الليالي واليام ومآثر ليمحوها تعاقب السنين‬
‫والعوام وغزوات كسر بها أصلب الصلبان والصنام من أعظمها أنه فتح القسطنطينية‬
‫الكبرى وساق إليها السفن تجري رخاءً برا وبحرا هجم عليها بجنوده وأبطاله وأقدم عليها‬
‫بخيوله ورجاله وحاصرها خمسين يوما أشد الحصار وضيق على من فيها من الكفار الفجار‬
‫وسل على أهلها سيف ال المسلول وتدرع بدرع ال الحصين المسبول ودق باب النصر والتأييد‬
‫ولج ومن قرع بابا ولج ولج وثبت على متن الصبر إلى أن أتاه ال تعالى بالفرج ونزلت عليه‬
‫ملئكة ال القريب الرقيب بالنصر العزيز من ال تعالى والفتح القريب ففتح استنبول في اليوم‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.259‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.260‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫‪-203-‬‬
‫الحادي والخمسين من أيام محاصرته وهو يوم الربعاء العشرين من جمادي الخرة سنة سبع‬
‫وخمسين وثمانمائة وصلى في أكبر كنائس النصارى صلة الجمعة وهي أيا صوفيا وهي قبة‬
‫تسامى قبة السماء وتحاكي في الستحكام قبب الهرام ول وهت ول وهت كبرا ولهرما وقد‬
‫أسس في استنبول للعلم أساسا راسخا ليخشى على شمسه الفول وبنى مدارس كالجفان لها‬
‫ثمانية أبواب سهلة الدخول وقنن بها قوانين تطابق المعقول والمنقول فجزاه ال خيرا عن‬
‫الطلب ومنحه بها أجرا وأكبر ثواب فإنه جعل لهم أيام الطلب مايسد فاقتهم ويكون به من‬
‫خمار الفقر افاقتهم وجعل بعد ذلك مراتب يترقون اليها ويصعدون بالتمكن والعتبار عليها إلى‬
‫أن يصلوا إلى سعادة الدنيا ويتوسلون بها أيضا إلى سعادة العقبى وأنه رحمه ال تعالى استجلب‬
‫العلماء الكبار من أقصى الديار وأنعم اليهم وعطف باحسانه اليهم كمولنا علي القوشجي‬
‫والفاضل الطوسي والعالم الكوراني وغيرهم من علماء السلم وفضلء النام فصارت استنبول‬
‫بهم أم الدنيا ومعدن الفخار والعليا واجتمع فيها أهل الكمال من كل فن‪ ،‬فعلماؤها إلى الن أعظم‬
‫علماء السلم وأهل حرفها أدق الفطناء في النام وأرباب دولتها هم أهل السعادة العظام‬
‫()‬
‫فللمرحوم المقدس قلدة منن لتحصى في أعناق المسلمين لسيما العلماء الكرمين ‪. 1‬‬
‫فرحمة ال ومغفرته ورضوانه على السلطان محمد الفاتح وأعلى ذكره في المصلحين ‪.‬‬

‫‪ )(1‬شذرات الذهب (‪.)7/345‬‬


‫‪-204-‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫السلطين القوياء بعد محمد الفاتح‬

‫المبحث الول‬
‫السلطان بايزيد الثاني‬

‫بعد وفاة السلطان محمد الفاتح تولى ابنه بايزيد الثاني ( ‪886‬هـ ‪918 -‬هـ) السلطة في‬
‫البلد وكان سلطانا وديعا‪ ،‬نشأ محبا للدب‪ ،‬متفقها في علوم الشريعة السلمية شغوفا بعلم‬
‫الفلك‪ .‬واستعان بالخبراء الفنيين اليونانيين والبلغاريين في تحسين شبكة الطرق والجسور لربط‬
‫()‬
‫أقاليم الدولة ببعضها ‪. 1‬‬

‫أولً‪ :‬الصراع على السلطة مع أخيه ‪:‬‬


‫كان المير جم عندما بلغه وفاة أبيه يقيم في بروسة‪ ،‬وقد استطاع أن يتحصل على اعتراف‬
‫السكان به سلطانا على الدولة العثمانية في المناطق الخاضعة له‪ ،‬وبعد أن استتب له المر في‬
‫بروسه وماحولها‪ ،‬أرسل إلى أخيه بايزيد يطلب منه عقد الصلح‪ ،‬ويقترح عليه التنازل‪ ،‬ورفض‬
‫السلطان بايزيد ذلك لن والده أوصى له بالحكم من بعده‪ ،‬لكن المير جم لم يقتنع بذلك فعاد‬
‫واقترح على أخيه بايزيد تقسيم الدولة العثمانية إلى قسمين‪ :‬القسم الوربي لبايزيد والقسم‬
‫السيوي له‪ ،‬ولكن بايزيد رفض أيضا مبدأ التقسيم من أساسه لن ذلك سوف يعمل على تفتيت‬
‫الدولة التي سهر أسلفه على بنائها وتوحيدها‪ ،‬وأصر على أن تبقى الدولة موحدة تحت سلطته‬
‫وأعد جيشا ضخما وسار به إلى بروسه وهاجمها وفر منها جم إلى سلطان المماليك قايتباي في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.50‬‬


‫‪-205-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫فرحب به وأكرمه وأمده بجميع ما احتاجه من أموال للسفر مع أسرته إلى الحجاز‬ ‫مصر‬
‫لداء فريضة الحج‪ .‬ولما عاد من الراضي المقدسة إلى مصر أرسل إليه السلطان بايزيد يقول‬
‫له ‪ ( :‬بما أنك اليوم قمت بواجباتك الدينية في الحج‪ ،‬فلماذا تسعى إلى المور الدنيوية‪ ،‬من حيث‬
‫أن الملك كان نصيبي بأمر ال‪ ،‬فلماذا تقاوم إرادة ال؟ فأجابه بقوله‪ :‬هل من العدل أن تضطجع‬
‫على مهد الراحة والنعيم وتقضي أيامك بالرغد واللذات‪ ،‬وأنا أحرم من اللذة والراحة وأضع‬
‫()‬
‫رأسي على الشوك ‪ 2‬؟ وقام جم بالتصال بكبار أتباعه في الناضول‪ ،‬وأثارهم ضد بايزيد‪،‬‬
‫وتقدم بأتباعه ليغتصب العرش‪ ،‬ولكنه هزم‪ ،‬واستأنف المحاولة فهزم أيضا‪.‬‬
‫والتجأ جم إلى رودس حيث يوجد بها فرسان القديس يوحنا‪ ،‬وعقد مع رئيس الفرسان اتفاقا‬
‫إل أنه نقضه تحت ضغط بايزيد وأصبح جم سجينا في جزيرة رودس‪ ،‬وكسب فرسان القديس‬
‫يوحنا بهذه الرهينة الخطيرة امتيازات طورا من بايزيد الثاني‪ ،‬ومرة أخرى من أنصار جم‬
‫بالقاهرة‪ ،‬فلما تحصل على أموال ضخمة باع رهينته للبابا أنوست الثامن‪ ،‬فلما مات هذا البابا‬
‫ترك جم لخلفه اسكندر السادس ولكن الخير لم يبق على جم كثير حيث قتل واتهم في ذلك‬
‫()‬
‫بايزيد الثاني الذي تخلص من خطر أخيه ‪. 3‬‬

‫ثانيا‪ :‬موقف السلطان بايزيد من المماليك ‪:‬‬


‫حدثت معارك بين العثمانيين والمماليك على الحدود الشامية إل أنها لم تحتدم إلى حد التهديد‬
‫بحدوث حرب شاملة بينهما‪ ،‬وإن كانت قد أسهمت في أن يخيم شعور بعدم الثقة بينهما المر‬
‫الذي أدى إلى تعثر مفاوضات الصلح سنة ‪1491‬م ومع أن السلطان المملوكي " قايتباي " قد‬
‫ساورته مخاوف من احتمال قيام حرب واسعة بينه وبين العثمانيين سواء لدراكه ما كان عليه‬

‫‪ )(1‬قيام الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.57‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان ‪ ،‬يوسف آصاف ‪ ،‬ص ‪ 63‬الى ‪.65‬‬
‫‪ )(3‬انظر ‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪-206-‬‬
‫العثمانيون من قوة أو لنشغال جزء هام من قواته في مواجهة البرتغاليين‪ ،‬إل أن السلطان‬
‫العثماني " بايزيد الثاني " قد بدّد له هذه المخاوف حيث قام بإرسال رسول من قبله إلى السلطان‬
‫المملوكي سنة ‪1491‬م ومعه مفاتيح القلع التي استولى عليها العثمانيون على الحدود وقد لقى‬
‫هذا المر ترحيبا لدى السلطان المملوكي فقام بإطلق سراح السرى العثمانيين‪ ،‬وأسهمت‬
‫سياسة بايزيد السلمية في عقد صلح بين العثمانيين والمماليك في نفس السنة (‪1491‬م) وظل هذ‬
‫الصلح ساريا حتى نهاية عهد السلطان بايزيد الثاني عام ‪1512‬م وأكد هذا الحدث على حرص‬
‫()‬
‫السلطان بايزيد في سياسة السلم مع المسلمين ‪. 1‬‬
‫ثالثا‪ :‬السلطان بايزيد الثاني والدبلوماسية الغربية ‪:‬‬
‫استمرت راية الجهاد مرفوعة طيلة عهد السلطان بايزيد وأدرك العداء‪ ،‬أنه ليستطيعون‬
‫مواجهة القوات الجهادية في حرب نظامية يحققون فيها أطماعهم لهذا لجأوا إلى أسلوب خبيث‬
‫تستروا به تحت مسمى العلقات الدبلوماسية لكي ينخروا في عظام المة ويدمروا المجتمع‬
‫المسلم من الداخل‪ ،‬ففي عهد السلطان بايزيد وصل أول سفير روسي إلى ( إسلمبول ) عام (‬
‫‪898‬هـ ‪1492 /‬م )‪.‬‬
‫إن وصول السفير الروسي عام ( ‪1492‬م ) على عهد دوق موسكو (إيفان) وما تابع ذلك‪،‬‬
‫وما أعطى له ولغيره من حصانة وامتيازات‪ ،‬فتح الباب أمام أعداء المة السلمية لكشف‬
‫ضعفها ومعرفة عوراتها‪ ،‬والعمل على إفسادها والتآمر عليها بعد تدميرها وإضعاف سلطان‬
‫العقيدة في نفوس أبنائها‪.‬‬
‫وفي عهد بايزيد الثاني في عام (‪886‬هـ) استطاع دوق موسكو ( إيفان الثالث ) أن ينتزع‬
‫إمارة ( موسكو ) من أيدي المسلمين العثمانيين‪ ،‬وبدأ التوسع على حساب الوليات‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.66‬‬


‫‪-207-‬‬
‫()‬
‫السلمية ‪. 1‬‬
‫وليعني ذلك أن السلطان ( بايزيد ) وقف موقفا ضعيفا أمام هذه الظروف ولكن الدولة كانت‬
‫تمر بظروف صعبة في محاربتها لعداء السلم على امتداد شبه جزيرة الناضول‪ ،‬وأوروبا‬
‫()‬
‫الشرقية كلها‪ ،‬فانشغلت بها ‪. 2‬‬
‫رابعا‪ :‬وقوفه مع مسلمي الندلس‪:‬‬
‫تطورت الحداث في شبه الجزيرة اليبرية في مطلع العصور الحديثة‪ ،‬فأصبح اهتمام‬
‫السبان ينحصر في توحيد أراضيهم‪ ،‬وانتزاع ماتبقى للمسلمين بها خصوصا بعد ما خضعت‬
‫لسلطة واحدة بعد زواج ايزابيل ملكة قشتالة وفريدناند ملك أراغوان‪ ،‬فاندفعت الممالك السبانية‬
‫المتحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود السلمي في كل اسبانيا‪ ،‬حتى يفرغوا أنفسهم‬
‫ويركزوا إهتمامهم على المملكة السلمية الوحيدة غرناطة‪ ،‬التي كانت رمز للمملكة السلمية‬
‫()‬
‫الذاهبة ‪. 3‬‬
‫وفرضت اسبانيا أقسى الجراءات التعسفية على المسلمين في محاولة لتنصيرهم وتضييق‬
‫الخناق عليهم حتى يرحلوا عن شبه الجزيرة اليبرية‪.‬‬
‫نتيجة لذلك لجأ المسلمون ‪ -‬المورسكيون ‪ -‬إلى القيام بثورات وانتفاضات في أغلب المدن‬
‫السبانية والتي يوجد بها أقلية مسلمة وخاصة غرناطة وبلنسية وأخمدت تلك الثورات بدون‬
‫رحمة ولشفقة من قبل السلطات السبانية التي اتخذت وسيلة لتعميق الكره والحقد للمسلمين‪،‬‬
‫ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرنوا المورسكيون بأنظارهم إلى ملوك المسلمين في‬
‫المشرق والمغرب لنقاذهم وتكررت دعوات وفودهم ورسائلهم إليهم للعمل على انقاذهم مما‬
‫يعانوه من ظلم‪ ،‬وخاصة من قبل رجال الكنيسة ودواوين التحقيق التي عاثت في الرض فساد‬
‫‪ )(1‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.49،50‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لنقاذ الندلس‪ ،‬د‪ .‬نبيل عبدالحي ‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪-208-‬‬
‫()‬
‫وأحلت لنفسها كل أنواع العقوبات وتسليطها عليهم ‪. 1‬‬
‫()‬
‫وكانت أخبار الندلس قد وصلت إلى المشرق فارتج لها العالم السلمي ‪ . 2‬وبعث الملك‬
‫الشرف بوفود إلى البابا وملوك النصرانية يذكرهم بأن النصارى الذين هم تحت حمايته‬
‫يتمتعون بالحرية‪ ،‬في حين أن أبناء دينه في المدن السبانية يعانون أشد أنواع الظلم‪ ،‬وقد هدد‬
‫باتباع سياسة التنكيل والقصاص تجاه رعايا المسيحيين‪ ،‬إذا لم يكف ملك قشتالة وأراغون عن‬
‫هذا العتداء وترحيل المسلمين عن أراضيهم وعدم التعرض لهم ورد ما أخذ من أراضيهم ولم‬
‫يستجيب البابا والملكان الكاثوليكيان لهذا التهديد من قبل الملك الشرف ومارسوا خطتهم في‬
‫تصفية الوجود السلمي في الندلس‪ ،‬وجددت رسائل الستنجاد لدى السلطان العثماني بايزيد‬
‫الثاني‪ ،‬فوصلته هذه الرسالة‪..( :‬الحضرة العلية‪ ،‬وصل ال سعادتها‪ ،‬وأعلى كلمتها‪ ،‬ومهد‬
‫أقطارها‪ ،‬وأعز أنصارها‪ ،‬وأذل عداتها‪ ،‬حضرة مولنا وعمدة ديننا ودنيانا‪ ،‬السلطان الملك‬
‫الناصر‪ ،‬ناصر الدنيا والدين‪ ،‬سلطان السلم والمسلمين‪ ،‬قامع أعداء ال الكافرين‪ ،‬كهف‬
‫السلم‪ ،‬وناصر دين نبينا محمد عليه السلم‪ ،‬محي العدل‪ ،‬ومنصف المظلوم ممن ظلم‪ ،‬ملك‬
‫العرب‪ ،‬والعجم‪ ،‬والترك والديلم‪ ،‬ظل ال في أرضه‪ ،‬القائم بسنته وفرضه‪ ،‬ملك البرين وسلطان‬
‫البحرين‪ ،‬حامي الذمار‪ ،‬وقامع الكفار‪ ،‬مولنا وعمدتنا‪ ،‬وكهفنا وغيثنا‪ ،‬لزال ملكه موفور‬
‫النصار‪ ،‬مقرونا بالنتصار‪ ،‬مخلد المآثر والثار مشهور المعالي والفخار‪ ،‬مستأثرا من‬
‫الحسنات بما يضاعف به الجر الجزيل‪ ،‬في الدار الخرة والثناء الجميل‪ ،‬والنصر في هذه‬
‫الدار‪ ،‬ول برحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد ومجرد على أعداء الدين من بأسها‪،‬‬
‫مايروي صدور السحر والصفاح‪ ،‬وألسنة السلح بأذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف‬
‫فيها الخاير مفارقة الرواح للجساد‪ ،‬سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا ال وطاعته يقوم‬

‫‪ )(1‬انظر‪:‬رسالة من مسلمي غرناطة للسلطان سليمان عبدالجليل التميمي‪ ،‬المجلة المغربية العدد ‪ ،3 -‬ص ‪.38‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬خلصة تاريخ الندلس ‪ ،‬شكيب ارسلن‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫‪-209-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكانت ضمن الرسالة أبيات القصيدة يمدح صاحبها فيها الدولة العثمانية والسلطان‬ ‫الشهاد‬
‫بايزيد‪ ،‬ويدعوا للدولة بدوام البقاء قائلً‪:‬‬
‫سلم كريم دائم متجدد‬
‫أخص به مولي خير خليفة‬
‫سلم على مولي ذي المجد والعل‬
‫ومن ألبس الكفار ثوب المذلة‬
‫سلم على من وسع ال ملكه‬
‫وأيده بالنصر في كل وجهة‬
‫سلم على مولي من دار ملكه‬
‫قسطنطينية أكرم بها من مدينة‬
‫سلم على من زين ال ملكه‬
‫بجند وأتراك من أهل الرعاية‬
‫سلم عليكم شرف ال قدركم‬
‫وزادكم ملكا على كل ملة‬
‫سلم على القاضي ومن كان مثله‬
‫من العلماء الكرمين الجلة‬
‫سلم على أهل الديانة والتقى‬
‫ومن كان ذا رأي من أهل المشورة‬
‫بعد ذلك وصفت القصيدة الحالة التي يعاني منها المسلمون وماتعرض له الشيوخ والنساء من‬
‫هتك للعراض ومايتعرض له المسلمين في دينهم حيث استطرد قائلً‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬ازهار الرياض في أخبار رياض للتلمساني (‪.)1/908،109‬‬


‫‪-210-‬‬
‫سلم عليكم من عبيد تخلفوا‬
‫بأندلس بالغرب في أرض غربة‬
‫أحاط بهم بحرٌ من الردم زاخر‬
‫وبحرٌ عميق ذو ظلم ولجة‬
‫سلم عليكم من عبيد أصابهم‬
‫مصاب عظيم يالها من مصيبة‬
‫سلم عليكم من شيوخ تمزقت‬
‫شيوخهم بالنتف من بعد عزة‬
‫سلم عليكم من وجوه تكشفت‬
‫على جملة العلج من بعدة سترة‬
‫سلم عليكم من بنات عوائق‬
‫يسوقهم اللباط قهرا لخلوة‬
‫سلم عليكم من عجائز أكرهت‬
‫على أكل خنزير ولحم جيفة‬
‫بعد ذلك الوصف‪ ،‬أخذت القصيدة تعالج شكلً آخر‪ ،‬إذ أخذت توضح شعور المسلمين نحو‬
‫الدولة العثمانية وتقدم الشكوى للسلطان قائلة‪:‬‬
‫نقبل نحن الكل أرض بساطكم‬
‫وندعوا لكم بالخير في كل ساعة‬

‫أدام الله ملككم وحياتكم‬


‫وعافاكم من كل سوءٍ ومحنة‬

‫‪-211-‬‬
‫وأيدكم بالنصر والظفر بالعدا‬
‫وأسكنكم دار الرضا والكرامة‬
‫شكونا لكم مولي ماقد أصابنا‬
‫من الضر والبلوى وعظم الرزية‬
‫ثم تعود القصيدة في شرح المأساة‪ ،‬وتغيير الدين ما إلى ذلك‪ ،‬فاستطردت بقولها‪:‬‬
‫غدرنا ونصرنا وبدل ديننا‬
‫ظلمنا وعوملنا بكل قبيحة‬
‫وكنا على دين النبي محمد‬
‫نُقاتل عمال الصليب بنية‬
‫وتلقي أمورا في الجهاد عظيمة‬
‫بقتل وأسر ثم جوع وقلة‬
‫فجاءت علينا الروم من كل جانب‬
‫بسيل عظيم جملة بعد جملة‬
‫ومالوا علينا كالجراد بجمعهم‬
‫بجد وعزم من خيول وعدة‬
‫فكنا بطول الدهر نلقي جموعهم‬
‫فنقتل فيها فرقة بعد فرقة‬
‫وفرسانها تزداد في كل ساعة‬
‫وفرساننا في حال نقص وقلة‬
‫فلما ضعفنا خيموا في بلدنا‬
‫ومالوا علينا بلدة بعد بلدة‬
‫وجاؤوا بأنفاظ عظام كثيرة‬
‫‪-212-‬‬
‫تهدم أسوار البلد المنيعة‬
‫وشدوا عليها الحصار بقوة‬
‫شهورا وأياما بجد وعزمة‬
‫غدرنا ونصرنا وبدل ديننا‬
‫ظلمنا وعوملنا بكل قبيحة‬
‫وكنا على دين النبي محمد‬
‫نقاتل عمال الصليب بنية‬
‫وتلقى أمورا في الجهاد عظيمة‬
‫بقتل وأسر ثم جوع وقلة‬
‫فجاءت علينا الروم من كل جانب‬
‫بسيل عظيم جملة بعد جملة‬
‫ومالوا علينا كالجراد بجمعهم‬
‫فنقتل فيها فرقة بعد فرقة‬
‫وفرسانها تزداد في كل ساعة‬
‫وفرساننا في حال نقص وقلة‬
‫فلما ضعفنا خيموا في بلدنا‬
‫ومالوا علينا بلدة بعد بلدة‬
‫وجاؤوا بأنفاظ عظام كثيرة‬
‫تهدم أسوار البلد المنيعة‬
‫وشدوا عليها الحصار بقوة‬
‫شهورا وأياما بجد وعزمة‬
‫فلما تفانت خيلنا ورجالنا‬
‫‪-213-‬‬
‫ولم نر من إخواننا من إغاثة‬
‫وقلت لنا القوات واشتد حالنا‬
‫أحطناهم بالكره خوف الفضيحة‬
‫وخوفا على أبنائنا وبناتنا‬
‫من أن يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة‬
‫على أن نكون مثل من كان قبلنا‬
‫من الدجن من أهل البلد القديمة‬
‫ثم تحدثت القصيدة عن الخيار في مثل هذه الحالة‪ ،‬فإما القبول بالوضع السابق أو الرتحال‪،‬‬
‫إذ استطردت قائلة‪:‬‬
‫ونبقى على آذاننا وصلتنا‬
‫ولنتركن شيئا من أمر الشريعة‬
‫ومن شاء منا الجر جاز مؤمنا‬
‫بما شاء من مال إلى أرض عدوة‬
‫إلى غير ذلك من شروطٍ كثيرة‬
‫تزيد على الخمسين شرطا بخمسة‬
‫فقال لنا سلطانهم وكبيرهم‬
‫لكم ماشرطتم كاملً بالزيادة‬
‫فكونوا على أموالكم ودياركم‬
‫كما كنتم من قبل دون أذية‬
‫إل أن الملكين الكاثوليكيين لم يفيا بتلك المواثيق إذ بدأ غدرهما على المسلمين فقال‪:‬‬
‫فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم‬
‫بدا غدرهم فينا بنقص العزيمة‬
‫‪-214-‬‬
‫وخان عهودا كان قد غرنا بها‬
‫ونصرنا كرها بعنف وسطوة‬
‫وأحرق ما كانت لنا من مصاحف‬
‫وخلطها بالزبل أو بالنجاسة‬
‫وكل كتاب كان في أمر ديننا‬
‫ففي النار ألقوه بهزءة وحقرة‬
‫ولم يتركوا فيها كتابا لمسلم‬
‫ول مصحفا يخلى به للقراءة‬
‫ومن صام أو صلى يعلم حاله‬
‫ففي النار يلقوه كل حالة‬
‫ومن لم يجئ منا لموضع كفرهم‬
‫يعاقبه اللباط شر العقوبة‬
‫ويلطم خديه ويأخذ ماله‬
‫ويجعله في السجن في سوء حالة‬
‫وفي رمضان يفسدون صيامنا‬
‫بأكل وشرب مرة بعد مرة‬
‫وهكذا مضت المسيحية في هتك السلم‪ ،‬وذل المسلمين‪ ،‬فمن تدخل في عبادة المسلم إلى‬
‫شتم السلم فقالت القصيدة في ذلك‪:‬‬
‫وقد أمرونا أن نسب نبينا‬
‫ولنذكرنه في رخاء وشدة‬
‫وقد سمعوا قوما يغنون باسمه‬
‫فأدركهم منهم أليم المضرة‬

‫‪-215-‬‬
‫وعاقبهم حكامهم وولتهم‬
‫بضرب وتغريم وسجن وذلة‬
‫ومن جاءه الموت ولم يحضر الذي‬
‫يذكرهم لم يدفنوه بحيلة‬
‫ويترك في زبل طريحا مجدلً‬
‫كمثل حمار ميت أو بهيمة‬
‫إلى غير هذا من أمور كثيرة‬
‫( ‪)1‬‬
‫قباح وأفعال غزار ردية‬
‫بعد ذلك أخذ الملوك الكاثوليك في إذابة المجتمع المسلم وذلك بتغيير الهوية السلمية إذ قالت‬
‫القصيدة‪:‬‬

‫وقد بدلت أسماءنا وتحولت‬


‫بغير رضا منا وغير إرادة‬
‫فآها على تبديل دين محمد‬
‫بدين كلب الروم شر البرية‬
‫وآها على أسمائنا حين بُدلت‬
‫بأسماء أعلج من أهل القيادة‬
‫وآها على أبنائنا وبناتنا‬
‫يروحون للباط في كل غدوة‬
‫يعلمهم كفرا وزورا وفرية‬
‫وليقدروا أن يمنعوهم بحيلة‬
‫وآها على تلك المساجد سورت‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لنقاذ الندلس‪ ،‬ص ‪.130‬‬


‫‪-216-‬‬
‫مزابل للكفار بعد الطهارة‬
‫وآها على تلك الصوامع علقت‬
‫نواقيسهم فيها نظير الشهادة‬
‫وآها على تلك البلد وحسنها‬
‫لقد أظلمت بالكفر أعظم ظلمة‬
‫وصارت لعباد الصليب معاقلً‬
‫وقد أمنوا فيها وقوع الغارة‬
‫وصرنا عبيدا ل أسارى فنفتدي‬
‫ول مسلمين منطقهم بالشهادة‬
‫ثم تتوجه القصيدة باستجداء السلطان لنجادهم‪ ،‬وإنقاذهم من تلك المحنة فتقول‪:‬‬
‫فلو أبصرت عيناك ماصار حالنا‬
‫إليه لجادت بالدموع الغزيرة‬
‫فيا ويلنا يابؤس ماقد أصابنا‬
‫من الضر والبلوى وثوب المذلة‬
‫سألناك يا مولي بال ربنا‬
‫وبالمصطفى المختار خير البرية‬
‫عسى تنظروا فينا وفيما أصابنا‬
‫لعل إله العرش يأتي برحمة‬
‫فقولك مسموع وأمرك نافذ‬
‫وما قلت من شيء يكون بسرعة‬
‫ودين النصارى أصله تحت حكمكم‬
‫ومن ثم يأتيهم إلى كل كورة‬
‫‪-217-‬‬
‫فبال يامولي منوا بفضلكم‬
‫علينا برأي أو كلم بحجة‬
‫فأنتم أولوا الفضال والمجد والعل‬
‫وغوث عباد ال في كل آفة‬
‫كما طلب المسلمون أن يتوسط السلطان بايزيد الثاني لدى البابا في روما وذلك لما للسلطان‬
‫من ثقل سياسي في أوروبا فقال‪:‬‬
‫فسل بابهم أعني المقيم برومة‬
‫بماذا أجازوا الغدر بعد المانة‬
‫ومالهم مالوا علينا بغدرهم‬
‫بغير أذىً منا وغير جريمة‬
‫وجنسهم المقلوب في حفظ ديننا‬
‫وأحسن ملوك ذي وفاء أجلة‬
‫ولم يخرجوا من دينهم وديارهم‬
‫ولنالهم غدر ولهتك حرمة‬
‫ومن يعط عهدا ثم يغدر بعهده‬
‫فذاك حرام الفعل في كل ملة‬
‫ولسيما عند الملوك فإنه‬
‫قبيح شنيع ليجوز بوجهة‬
‫وقد بلغ المكتوب منكم إليهم‬
‫فلم يعلموا منه جميعا بكلمة‬
‫ومازادهم إل أعتداء وجرأة‬
‫علينا وإقداما بكل مساءة‬
‫‪-218-‬‬
‫ويشير المسلمون أن توسط ملوك مصر لدى المسيحيين لم تجد شيئا‪ ،‬بل زادوا تعنتا فقالوا‪:‬‬
‫وقد بلغت ارسال مصر إليهم‬
‫ومانالهم غدر ولهتك حرمة‬
‫وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا‬
‫رضينا بدين الكفر من غير قهرة‬
‫وساقوا عقود الزور ممن أطاعهم‬
‫ووال مانرضى بتلك الشهادة‬
‫لقد كذبوا في قولهم وكلمهم‬
‫علينا بهذا القول أكبر فرية‬
‫ولكن خوف القتل والحرق رونا‬
‫نقول كما قالوه من غير نية‬
‫ودين رسول مازال عندنا‬
‫وتوحيدنا ل في كل لحظة‬
‫بعد ذلك أوضح المسلمون للسلطان بايزيد أنه مع كل ذلك فإنهم متمسكون بالدين السلمي‬
‫ويؤكدون ذلك بقولهم‪:‬‬
‫ووال مانرضى بتبديل ديننا‬
‫ول بالذي قالوا من أمر الثلثة‬
‫وإن زعموا أنا رضينا بدينهم‬
‫بغير أذى منهم لنا ومساءة‬
‫فسل وحرا عن أهلها كيف أصبحوا‬
‫أسارى وقتلى تحت ذل ومهنة‬
‫وسل بلفيقا عن قضية أمرها‬
‫‪-219-‬‬
‫لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة‬
‫وضيافة بالسيف مزق أهلها‬
‫كذا فعلوا أيضا بأهل البشرة‬
‫وأندرش بالنار أحرق أهلها‬
‫بجامعهم صاروا جميعا كفحمة‬
‫ويكرر المسلمون ويجددوا الستغاثة بالدولة العثمانية بعد تقديم هذه الشكوى‪:‬‬
‫فها نحن يامولي نشكو إليكم‬
‫فهذا الذي نلناه من شر فرقة‬
‫عسى ديننا يبقى لنا وصلتنا‬
‫كما عاهدونا قبل نقض العزيمة‬
‫وإل فيجلونا جميعا عن أرضهم‬
‫بأموالنا للغرب دار الحبة‬
‫فأجلؤنا خير لنا من مقامنا‬
‫على الكفر في عز على غير ملة‬
‫فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم‬
‫ومن عندكم تقضى لنا كل حاجة‬
‫ومن عندكم نرجو زوال كروبنا‬
‫وما نالنا من سوء حال وذلة‬
‫فأنتم بحمد ال خير ملوكنا‬
‫وعزتكم تعلو على كل عزة‬
‫فنسأل مولنا دوام حياتكم‬
‫بملك وعز في سرور ونعمة‬
‫‪-220-‬‬
‫وتهدين أوطان ونصر على العدا‬
‫وكثرة أجناد ومال وثروة‬
‫وثم سلم ال قلته ورحمة‬
‫( ‪)1‬‬
‫عليكم مدى اليام في كل ساعة‬
‫كانت هذه هي رسالة الستنصار التي بعث بها المسلمون في الندلس‪ ،‬لنقاذ الموقف هناك‪،‬‬
‫وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين‪ ،‬بالضافة إلى مشكلة‬
‫النزاع على العرش مع المير جم‪ ،‬وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول‬
‫الوروبية وهجوم البولنديين على مولدافيا والحروب في ترانسلفانيا والمجر والبندقية وتكوين‬
‫التحالف الصليبي الجديد ضد الدولة العثمانية من البابا جويلس الثاني وجمهورية البندقية والمجر‬
‫( ‪)2‬‬
‫من توجيه القوة العثمانية لتلك المناطق‪ ،‬ومع ذلك قام‬ ‫وفرنسا‪ ،‬وما أسفر عنه هذا التحالف‬
‫السلطان بايزيد بتقديم المساعدة وتهادن مع السلطان المملوكي الشرف لتوحيد الجهود من أجل‬
‫مساعدة غرناطة ووقعا اتفاقا بموجبه يرسل السلطان بايزيد اسطولً على سواحل صقلية‬
‫( ‪)3‬‬
‫بإعتبارها تابعة لمملكة اسبانيا‪ ،‬وأن يجهز السلطان المملوكي حملت أخرى من ناحية أفريقيا‬
‫وبالفعل أرسل السلطان بايزيد اسطولً عثمانيا تحول إلى الشواطئ السبانية‪ ،‬وقد أعطى قيادته‬
‫إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الساطيل النصرانية في أواخر القرن‬
‫( ‪)4‬‬
‫‪ ،‬كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامه وعطفه عليهم‪،‬‬ ‫الخامس عشر‬
‫وكان المجاهدون العثمانيون قد بدأوا في التحرك لنجدة اخوانهم المسلمين‪ ،‬وفي نفس الوقت‬

‫‪ )(1‬رسالة أهل الجزيرة بعد استيلء أهل الكفر على جميعها الى السلطان بايزيد المكتبة الوطنية بالجزائر برقم ‪.1620‬‬
‫وانظر‪ :‬اخبار عياض (‪ 1/109‬الى ‪ .)115‬نقلً عن جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)2/903‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬علقات بين الشرق والغرب‪ ،‬عبدالقادر أحمد ‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬خلصة تاريخ الندلس لشكيب ارسلن‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫‪-221-‬‬
‫كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى‪ ،‬كذلك وصل عددٌ كبير من‬
‫هؤلء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد السطول العثماني‪ ،‬ودخلوا في خدمته بعد ذلك أخذ‬
‫العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلء‬
‫( ‪)1‬‬
‫وهذا الذي كان في وسع السلطان بايزيد الثاني فعله‪.‬‬ ‫المجاهدين‬
‫لشك أن تصرفات جم المشينة كانت سببا أعاق حركة التوسع القليمي وعرقلت السلطان‬
‫بايزيد عن العمل الخلق‪ ،‬وأصبح اهتمام السلطان منصبا على تعقب أخبار أخيه والعمل على‬
‫()‬
‫التخلص منه بكافة الوسائل ‪. 2‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬فقد استطاع بايزيد أن يحرز نصرا بحريا على البنادقة في خليج لبانتوا ببلد‬
‫اليونان عام ‪499‬م‪905 /‬هـ وفي العام التالي استولى على مدينة لبانتو وباستيلء العثمانيين‬
‫على مواقع البنادقة في اليونان‪ ،‬أقام البابا ( إسكندر السادس ) بناء على طلب البنادقة ‪ -‬حلفا‬
‫ضد العثمانيين مكونا من فرنسا واسبانيا‪ .‬وتعرض العثمانيون لهجوم الساطيل الثلثة‪ :‬الفرنسي‬
‫()‬
‫والسباني والبابوي واستطاعت الدولة العثمانية أن تعقد صلحا مع البنادقة ‪. 3‬‬
‫وكان بايزيد ميالً للسلم‪ ،‬ونشطت العلقات الدبلوماسية بين الدولة العثمانية وأوروبا‪ ،‬وكانت‬
‫من قبل مقصورة على البلد الواقعة على حدودها‪ ،‬ولكنها أقيمت بينها وبين البابوية وفلورنسا‬
‫ونابلي وفرنسا وعقد صلحا مع البنادقة والمجر‪.‬‬
‫اهتم بايزيد بإنشاء المباني العامة وفعل الخيرات‪ ،‬فبنى الجوامع والمدارس والعمارات ودور‬
‫الضيافة والتكايا والزوايا والمستشفيات للمرضى والحمامات والجسور ورتب للمفتي ومن في‬
‫رتبته من العلماء في زمنه كل عام عشرة آلف عثماني ولكل واحد من مدرسي المدارس‬
‫السلطانية مابين سبعة آلف وألفين عثماني‪ ،‬وكذلك رتب لمشايخ الطرق الصوفية ومريديهم‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي ‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪)(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪-222-‬‬
‫ولهل الزوايا كل واحد على قدر رتبته‪ ،‬وصار ذلك أمرا جاريا ومستمرا‪ ،‬وكان يحب أهل‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪.‬‬ ‫الحرمين الشريفين مكة والمدينة‬
‫وحدثت في زمانه زلزل عظيمة في القسطنطينية فأخربت ألفا وسبعين بيتا ومئة وتسعة‬
‫جوامع‪ ،‬وجانبا عظيما من القصور وأسوار المدينة‪ ،‬وعطلت مجاري المياه‪ ،‬وصعد البحر إلى‬
‫البر‪ ،‬فكانت أمواجه تتدفق فوق السوار‪ ،‬ولبثت تلك الزلزلة تحدث يوميا مدة ‪ 45‬يوما‪ ،‬وما أن‬
‫()‬
‫سكنت المور كلف السلطان ‪ 15‬ألفا من العمال بإصلح ماتهدم ‪. 2‬‬
‫عاش سبعا وستين عاما‪ ،‬وكان قوي البنية‪ ،‬أحدب النف‪ ،‬أسود الشعر رقيق الطبع‪ ،‬محبا‬
‫للعلوم‪ ،‬مواظبا للدرس‪ ،‬وشاعرا أديبا‪ ،‬ورعا تقيا‪ ،‬يقضي العشرة الخيرة من شهر رمضان في‬
‫( ‪)3‬‬
‫وكان يجمع‬ ‫العبادة والذكر والطاعة‪ ،‬وكان بارعا في رمي السهام‪ ،‬ويباشر الحروب بنفسه‬
‫في كل منزل حلّ من غزواته ما على ثيابه من الغبار ويحفظه‪ ،‬ولما دنا أجل موته‪ ،‬أمر بذلك‬
‫الغبار فضرب منه لبنة صغيرة وأمر أن توضع معه في القبر تحت خدّه اليمن‪ ،‬ففعل ذلك‬
‫‪ " :‬من أغبرت قدماه في سبيل ال حرم ال عليه النار"‪ .‬وكان‬ ‫فكأنه أراد بذلك فحوى قوله‬
‫( ‪)4‬‬
‫مدة ملكه إحدى وثلثين سنة إل أياما‬
‫كان السلطان بايزيد الثاني عالما في العلوم العربية والسلمية‪ ،‬كما كان عالما في الفلك‪،‬‬
‫مهتما بالدب مكرما للشعراء والعلماء وقد خصص مرتبات لكثر من ثلثين شاعرا وعالما‪،‬‬
‫كما كان هو نفسه شاعرا يمتاز شعره بعمق الحساس بعظمة ال وقدرته وكانت له أشعار في‬
‫الحكمة توصي بالستيقاظ من نوم الغفلة والنظر في جمال الطبيعة التي أبدعها ال وفي ذلك‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪)(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان ‪ ،‬يوسف آصاف‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان للقرماني ‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪-223-‬‬
‫استيقظ من نوم الغفلة وانظر إلى الزينة في الشجار‬
‫انظر إلى قدرة ال الحق ‪ ..‬انظر إلى رونق الزهار‬
‫( ‪)1‬‬
‫وافتح عينيك لتشاهد حياة الرض بعد الممات‬
‫في ‪ 18‬صفر ‪918‬هـ الموافق ‪ 125‬ابريل ‪1512‬م ترك حكم الدولة لبنه سليم الول (‬
‫‪926 -918‬هـ ‪1519 -1512 /‬م ) وذلك بدعم من الجيش‪ ،‬الذي كان ينظر إليه على أنه‬
‫المل المرتجى في بعث النشاط الحربي للدولة العثمانية بصورة أوسع ودفع حركة الفتوحات‬
‫()‬
‫إلى المام‪ ،‬ولذلك بادر الجيش إلى معارضة والده وتولية ابنه سليم مكانه ‪. 2‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫فنقل نعشه إلى إسلمبول حيث دفن‬ ‫وتوفي السلطان بايزيد الثاني وهو ذاهب إلى ديمتوقة‬
‫()‬
‫بجوار جامعه الشريف ‪. 4‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.249‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قيام الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪ )(3‬ديمتوقة = ديموتيقا‪.‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان ‪ ،‬يوسف آصاف‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪-224-‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫السلطان سليم الول‬
‫( ‪926 -918‬هـ ‪1520 - 1512 /‬م )‬

‫تربع السلطان سليم الول على العرش العثماني في عام ‪918‬هـ‪ ،‬وقد أظهر سليم منذ بداية‬
‫حكمه ميلً إلى تصفية خصومه ولو كانوا من إخوته وأبنائهم‪ ،‬وكان يحب الدب والشعر‬
‫الفارسي والتاريخ ورغم قسوته فإنه كان يميل إلى صحبة رجال العلم وكان يصطحب‬
‫المؤرخين والشعراء إلى ميدان القتال ليسجلوا تطورات المعارك وينشدوا القصائد التي تحكي‬
‫()‬
‫أمجاد الماضي ‪. 1‬‬
‫عندما ارتقى السلطان سليم الول العرش العثماني‪ ،‬كانت الدولة العثمانية قد وصلت إلى‬
‫مفترق الطرق‪ ،‬هل تظل على هذا الوضع وهذا القدر من التساع دولة بلقانية أناضولية؟ أو‬
‫تستمر في التوسع القليمي في أوربا؟ أو تتجه نحو المشرق السلمي؟‬
‫والواقع أن السلطان سليم الول قد أحدث تغييرا جذريا في سياسة الدولة العثمانية الجهادية‬
‫فقد توقف في عهد الزحف العثماني نحو الغرب الوربي أو كاد أن يتوقف واتجهت الدولة‬
‫العثمانية اتجاها شرقيا نحو المشرق السلمي وقد ذكر بعض المؤرخين السباب التي أدت إلى‬
‫تغير السياسة العثمانية منها‪:‬‬
‫‪ -1‬التشبع العسكري العثماني في أوربا‪ ،‬إذ يرى أصحاب هذا الرأي أن الدولة العثمانية‬
‫كانت قد بلغت مرحلة التشبع في فتوحاتها الغربية بنهاية القرن الخامس عشر‪ ،‬وأنه كان عليها‬
‫في أوائل القرن السادس عشر أن تبحث عن ميادين جديدة للنشاط والتوسع وهذا الرأي يخالفه‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني ‪،‬ص ‪.76‬‬


‫‪-225-‬‬
‫الصواب لن الفتوحات العثمانية لم تنقطع تماما من الجبهة الغربية‪ ،‬ولكن لريب في أن مركز‬
‫( ‪)1‬‬
‫ليس بسبب التشبع كما تقول‬ ‫الثقل في التوسع العثماني قد انتقل نهائيا من الغرب إلى الشرق‬
‫بعض المصادر غير المدركة للواقع‪.‬‬
‫‪ -2‬كان تحرك الدولة العثمانية نحو المشرق من أجل إنقاذ العالم السلمي بصورة عامة‬
‫والمقدسات السلمية بصورة خاصة من التحرك الصليبي الجديد من جانب السبان في البحر‬
‫المتوسط والبرتغاليون في المحيط الهندي وبحر العرب والبحر الحمر‪ ،‬الذين أخذوا يطوقون‬
‫()‬
‫العالم السلمي‪ ،‬ويفرضون حصارا اقتصاديا حتى يسهل عليهم ابتلعه ‪. 2‬‬
‫‪ -3‬سياسة الدولة الصفوية في إيران والمتعلقة بمحاولة بسط المذهب الشيعي في العراق‬
‫وآسيا الصغرى‪ ،‬هي التي دفعت الدولة العثمانية إلى الخروج إلى المشرق العربي لحماية آسيا‬
‫()‬
‫الصغرى بصفة خاصة والعالم السني بصفة عامة ‪. 3‬‬
‫إن سياسة الدولة العثمانية في زمن السلطان سليم سارت على هذه السس أل وهي القضاء‬
‫على الدولة الصفوية الشيعية‪ ،‬وضم الدولة المملوكية ‪ ،‬وحماية الراضي المقدسة وملحقة‬
‫الساطيل البرتغالية ودعم حركة الجهاد البحري في الشمال الفريقي للقضاء على السبان‬
‫ومواصلة الدولة جهادها في شرق أوروبا‪.‬‬

‫أولً‪ :‬محاربة الدولة الصفوية الشيعية‪:‬‬


‫يعد نسب الصفويين الى الشيخ صفي الدين الردبيلي‬
‫‪650-735‬هـ‪1334-1252/‬م الجد الكبر للشاه اسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية‪.‬‬
‫وقد ألتف حول الشيخ صفي الدين الردبيلي عدد كبير من التباع المريدين نتيجة للدعوة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.26‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلم في آسيا منذ الغزو المغولي ‪ ،‬د‪ .‬محمد نصر‪ ،‬ص ‪.240‬‬
‫‪-226-‬‬
‫القوية او الدعاية المؤثرة التي قام بها هو وأتباعه من المتصوفة والدراويش الذين استطاعوا‬
‫نشر دعوتهم ل في إيران وحدها وإنما في بعض أقاليم الدولة العثمانية وفي العراق وبلد‬
‫()‬
‫الشام ‪. 1‬‬
‫استطاع الشيخ صفي الدين عن طريق احدى الفرق التي تزعمها أن يشق طريقه في المجتمع‬
‫اليراني كما استطاع أن يكسب تأييد ومساندة الكثيرين من اليرانيين مما أدى الى تحول هذه‬
‫الفرقة الى الدعوة للمذهب الشيعي حيث أشيع أن الشيخ صفي الدين وأولده ينتمون الى علي‬
‫ومن ثم لهم الحق في المطالبة بالحكم وكان صفي الدين قد لجأ الى التقية إذ‬ ‫بن أبي طالب‬
‫كان مظهره يوحي بأنه سني التجاه بل إنه من أتباع المذهب الشافعي ولما تمهدت السبل أمام‬
‫هذه الدعوة الشيعية أعلن أحد أحفاده الشاه اسماعيل الدعوة الشيعية‪ ،‬بل إن السلطان حيدر أكد‬
‫صلة نسبه بالمام موسى الكاظم ومن ثم أصبحت الدولة الصفوية في ايران تعد نفسها من آل‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫بيت رسول ال‬
‫صمم اسماعيل الصفوي فرض المذهب الشيعي على شعبه وأعلنه مذهبا رسميا للدولة في‬
‫ايران‪ ،‬وقضى بالقوة المسلحة على معارضيه واستطاع الصفويون أن يجمعوا حولهم أعدادا‬
‫غفيرة من التباع والمريدين‪ ،‬وتكاتفت الدعاية الشيعية القوية سواء في بقايا (العبيدين) الفاطميين‬
‫في مصر أو السماعيلية أو السرة الصفوية نفسها في اعلن المذهب الشيعي في ايران لتتحول‬
‫كلها من بعد ذلك من المذهب السني الى مذهب الدولة الجديدة وهو المذهب الشيعي‪.‬‬
‫وكانت ردود الفعل عنيفة خاصة وأن كثيرين من سكان المدن الرئيسية في ايران مثل تبريز‬
‫كانوا من السنة‪ ،‬بل أن علماء الشيعة أنفسهم كانوا يخشون على المذهب من رفض السنة له‬
‫وإعلن عصيانهم على الحاكم الصفوي شيعي المذهب‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلم في آسيا منذ الغزو المغولي‪ ،‬ص ‪.240‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلم في آسيا منذ الغزو المغولي ‪ ،‬د‪.‬محمد نصر‪ ،‬ص ‪.240‬‬
‫‪-227-‬‬
‫بذل الشاه اسماعيل الصفوي جهودا ضخمة في فرض المذهب الشيعي في ايران‪ ،‬فعلى‬
‫الرغم من التهيئة الروحية للدعوة الشيعية بين سكان ايران الذين كانوا في غالبيتهم من السنة فقد‬
‫لقى المذهب اسماعيل الصفوي ان يواجه هذا الموقف بتجنيد العناصر الشيعية للغرض هذا‬
‫ووجد منها تأييدا ومناصرة واستغل حميتهم لمناصرتهم فدفعهم لضرب معارضيه والتأكيد‬
‫لمذهبه في ايران‪.‬‬
‫لجأ السلطان اسماعيل الصفوي الى سياسة ماهرة في تأكيد دعوته السياسية والمذهبية فاعتمد‬
‫على قبائل الترلباش التركية الصل لتكون نواة لقوته العسكرية ذلك أن المجتمع اليراني في‬
‫ذلك الوقت كان يتكون من عناصر مختلفة نتيجة لموجات الغزو المتعاقبة على البلد مما كان‬
‫يصعب معه صهر كل هذه العناصر في بوتقة واحدة لقد استطاع اسماعيل الصفوي بهذه‬
‫السياسة أن يجند الطاقة المذهبية عند هذه العناصر لتكون المحور الذي تلتف حوله وتذوب فيها‬
‫()‬
‫الفوارق العرقية وتحل محلها وحدة مذهبية يمكن له أن يقيم عليها الكيان السياسي الجديد ‪. 1‬‬
‫لقد كان اسماعيل الصفوي شرسا في حروبه شديد الفتك بمعارضيه وخصوصا إن كانوا من‬
‫أهل السنة (‪ ...‬افتتح ممالك العجم جميعها وكان يقتل من ظفر به وما نهبه من الموال قسمه‬
‫بين أصحابه ول يأخذ منه شيئا ومن جملة ما ملك تبريز واذربيجان وبغداد وعراق العجم‬
‫وعراق العرب خراسان وكاد أن يدعي الربوبية وكان يسجد له عسكره ويأتمرون بأمره قال‬
‫قطب الدين الحنفي في العلم انه قتل زيادة على ألف ألف نفس قال بحيث ليعهد في الجاهلية‬
‫ول في السلم ول في المم السابقة من قبل في قتل النفوس ماقتله شاه اسماعيل وقتل عدة من‬
‫اعاظم العلماء بحيث لم يبق من أهل العلم أحد من بلد العجم واحرق جميع كتبهم ومصاحفهم‬
‫وكان شديد الرفض بخلف آبائه ومن جملة تعظيم أصحابه له أنه سقط مرة منديل من يده الى‬
‫البحر وكان على جبل شاهق مشرف على ذلك البحر فرمى بنفسه خلف المنديل فوق ألف نفس‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلم في آسيا منذ الغزو المغولي ‪ ،‬ص ‪.243 ،342‬‬


‫‪-228-‬‬
‫تحطموا وتكسروا وغرقوا وكانوا يعتقدون فيه اللوهية ذكر ذلك القطب المذكرو ولم تنهزم له‬
‫()‬
‫راية حتى حاربه السلطان سليم المتقدم ذكره فهزمه‪. 1 )...‬‬
‫لقد تزعم الشاه اسماعيل المذهب الشيعي وحرص على نشره ووصلت دعوته الى القاليم‬
‫التابعة للدولة العثمانية وكانت الفكار والعقائد التي تنشر في تلك القاليم يرفضها المجتمع‬
‫العثماني السني حيث كان من عقائدهم الفاسدة‪ ،‬تكفير الصحابة‪ ،‬لعن العصر الول‪ ،‬تحريف‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وغير ذلك من الفكار والعقائد فكان من الطبيعي أن يتصدى لتلك الدعوة‬
‫السلطان سليم زعيم الدولة السنية ‪ ،‬فأعلن في اجتماع لكبار رجال الدولة والقضاة ورجال‬
‫السياسة وهيئة العلماء في عام ‪920‬هـ‪1514/‬م أن ايران بحكوماتها الشيعية ومذهبها الشيعي‬
‫يمثلن خطرا جسيما ل على الدولة العثمانية بل على العالم السلمي كله وأنه لهذا يرى الجهاد‬
‫المقدس ضد الدولة الصفوية وكان رأي السلطان سليم هو رأي علماء أهل السنة في الدولة‪ ،‬لقد‬
‫قام الشاه اسماعيل عندما دخل العراق بذبح المسلمين السنيين على نطاق واسع ودمر مساجدهم‬
‫ومقابرهم وازداد الخطر الشيعي ضرواة في السنوات الخيرة من عهد السلطان بايزيد وعندما‬
‫تولى السلطان سليم السلطنة قامت اجهزت الدولة العثمانية المنية بحصر الشيعة التابعين للشاه‬
‫اسماعيل والمناوئين للدولة العثمانية ثم قام بتصفية اتباع الشاه اسماعيل‪ ،‬فسجن وأعدم عددا‬
‫كبيرا من انصار الشاه اسماعيل في الناضول ثم قام بمهاجمة اسماعيل نفسه‪ ،‬فتداولت الرسائل‬
‫الخشنة بينهما حسب المعتاد‪ ،‬وكتب السلطان سليم رسالة الى اسماعيل الصفوي قال فيها‪...( :‬‬
‫إن علمائنا ورجال القانون قد حكموا عليك بالقصاص ياأسماعيل‪ ،‬بصفتك مرتدا‪ ،‬وأوجبوا على‬
‫كل مسلم حقيقي أن يدافع عن دينه‪ ،‬وأن يحطم الهراطقة في شخصك‪ ،‬أنت وأتباعك البلهاء ‪،‬‬
‫ولكن قبل أن تبدأ الحرب معكم فاننا ندعوكم لحظيرة الدين الصحيح قبل أن نشهر سيوفنا وزيادة‬
‫على ذلك فإنه يجب عليك أن تتخلى عن القاليم التي اغتصبتها منا اغتصبا ‪ ،‬ونحن حينئذ على‬

‫‪ )(1‬البدر الطالع (‪.)1/271‬‬


‫‪-229-‬‬
‫()‬
‫استعداد لتأمين سلمتك‪. 1 )..‬‬
‫وكان رد اسماعيل الصفوي على هذا الخطاب ان بعث للسطان العثماني هدية من الفيون‬
‫()‬
‫قائلً انه اعتقد ان هذا الخطاب كتب تحت تأثير المخدر ‪. 2‬‬
‫كذلك جاء في خطاب آخر مشابه‪ ...( :‬أنا زعيم وسلطان آل عثمان ‪ ،‬أنا سيد فرسان هذا‬
‫الزمان‪ ،‬أنا الجامع بين شجاعة وبأس أفريدون الحائز لعز السكندر‪ ،‬والمتصف بعدل كسرى‪،‬‬
‫أنا كاسر الصنام ومبيد أعداء السلم أنا خوف الظالمين وفزع الجبارين المتكبرين‪ ،‬أنا الذي‬
‫تذل أمامه الملوك المتصفون بالكبر والجبروت‪ ،‬وتتحكم لدى قوتي صوالج العزة والعظموت‪،‬‬
‫أنا الملك الهمام السلطان سليم خان بن السلطان العظم مراد خان‪ ،‬أتنازل بتوجيه إليك أيها‬
‫المير اسماعيل‪ ،‬يازعيم الجنود الفارسية ‪ ..‬ولما كنت مسلما من خاصة المسلمين وسلطانا‬
‫لجماعة المؤمنين السنيين الموحدين‪ ..‬واذ قد افتى العلماء والفقهاء الذين بين ظهرانينا بوجب‬
‫()‬
‫قتلك ومقاتلة قومك فقد حق علينا أن ننشط لحربك وتخلص الناس من شَ ِركْ) ‪. 3‬‬
‫أعد السلطان سليم الول لمعركة فاصلة مع الدولة الصفوية حيث وصل الى استانبول وبدأ‬
‫في التحرك من استانبول تجاه الراضي اليرانية وبعد أن غادر اسكوتراي أرسل يهدد الشاه‬
‫اسماعيل الصفوي في رسالة يقول فيها‪( :‬بسم ال الرحمن الرحيم قال ال الملك العلم ان الدين‬
‫عند ال السلم ومن يتبع غير السلم دينا فلن يقبل منه وهو في الخرة من الخاسرين‪ ،‬ومن‬
‫جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ماسلف وأمره الى ال ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها‬
‫خالدون‪ ،‬اللهم اجعلنا من الهادين غير المضلين ول الضالين وصلي ال على سيد العالمين محمد‬
‫()‬
‫المصطفى النبي وصحبه أجمعين‪. 4 )...‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لنقاذ الندلس‪ ،‬ص ‪.435‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.435‬‬
‫‪ )(3‬فتح العثمانيين عدن‪ ،‬محمد عبداللطيف البحراوي‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬السلم في آسيا منذ الغزو المغولي‪ ،‬ص ‪.246‬‬
‫‪-230-‬‬
‫وفي نفس الوقت أرسل السلطان سليم الول الى أحد افراد أسرة آق قويونلو وهو محمد بن‬
‫فرج شاه بيك يحثه على الشتراك معه في قتال اسماعيل الصفوي‪ ،‬وبدأت حرب الستطلع‬
‫بين المعسكرين المتحاربين‪ ،‬إل أن سليم الول قد بدأ التحرك نحو الدخول في القتال حيث‬
‫عسكر في صحراء ياس جمن على مقربة من أذربيجان‪ ،‬ووصلت النباء التي أتت بها عيون‬
‫ياس جمن تقول أن الشاه اسماعيل الصفوي ل ينوي القتال وأنه يؤخره الى ان يحل فصل‬
‫()‬
‫الشتاء حتى يهلك العثمانيون بردا وجوعا ‪. 1‬‬
‫وبدأ سليم الول يسرع في تحريك الصراع بينه وبين الشاه اسماعيل فارسل إليه للمرة الثانية‬
‫وأرسل مع رسالته خرقة ومسبحة وكشكولً وعصا رمز فرق الدراويش وهو بهذا يقصد الى‬
‫أن يذكره بأصله‪ ،‬وبأهل السرة الصفوية التي لتستطيع الصمود في الحرب‪ ،‬ومع ذلك فقد رد‬
‫الشاه اسماعيل بطلب المهادنة وتجديد علقات السلم والصداقة بين الدولتين‪ ،‬ولم يقبل سليم‬
‫الول هذا من شاه الصفويين‪ ،‬وأهان رسوله وأمر بقتل رسول الشاه الصفوي وقد أدرك سليم‬
‫الول أن خطة أعدائه تتلخص في المهادنة والتباطؤ لتأجيل موعد اللقاء حتى يحين فصل الشتاء‬
‫‪ ،‬واستمر السلطان سليم في تحركه ووصلته الخبار أن اسماعيل الصفوي قد بدأ الستعداد‬
‫للقتال والحرب بل إنه على وشك الوصول الى صحراء جالديران‪ ،‬فبدأ سليم الول المسير‬
‫نحوها فوصلها في أغسطس عام ‪1514‬م واحتل المواقع الهامة بها واعتلى الماكن الهضبية‬
‫فيها مما مكنه من ايقاع الهزيمة باسماعيل الصفوي وجنوده وكانت هزيمة ساحقة حلت بالجيش‬
‫()‬
‫الصفوي الشيعي على ارضه ‪. 2‬‬
‫واضطر اسماعيل الى الفرار في نفس الوقت الذي كان سليم الول يستعد فيه للدخول الى‬
‫تبريز عاصمة الصفويين‪.‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.246‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلم في آسيا منذ الغزو المغولي ‪ ،‬ص ‪.248 ،247‬‬
‫‪-231-‬‬
‫ودخل سليم الول تبريز وحصر أموال الشاه الصفوي ورجال القلزباس واتخذها مركزا‬
‫()‬
‫لعملياته الحربية ‪. 1‬‬
‫لم ينته الصراع بين السنة في الدولة العثمانية والشيعة في ايران بانتهاء معركة جالديران‬
‫وانما ازداد العداء حدة وازداد الصراع ضراوة وظل الطرفان يتربص كل منهما بالخر‪.‬‬
‫لقد انتصر السلطان سليم بفضل ال تعالى وعقيدته السليمة ومنهجه الصافي‪ ،‬واسلحته‬
‫المتطورة وجيشه العقدي المتدرب‪ ،‬وعاد الى بلده بعد أن استولى على كردستان وديار بكر‪،‬‬
‫ومرغش وأبلسين وباقي أملك دلفاود‪ ،‬وبذلك صارت الناضول مأمونة من العتداء من‬
‫()‬
‫الشرق‪ ،‬وصارت الطرق الى أذربيجان والقوقاز مفتوحة للعثمانيين ‪. 2‬‬
‫وما أن هزمت فارس في موقعة جالديران السابقة أمام السلطان سليم حتى كان الفرس أنفسهم‬
‫اكثر استعدادا وتقبلً من قبل للتحالف مع البرتغاليين وبدأت تلك الستعدادات للرتباط بالبرتغال‬
‫عقب استيلء البوكرك على هرمز‪ ،‬عندها وصل سفير من لدى شاه اسماعيل وتم الدخول في‬
‫اتفاقية محدودة مابين البرتغاليين والصفويين نصت على مايلي‪ :‬أن يقدم البرتغال اسطوله‬
‫ليساعد الفرس في غزو البحرين والقطيف كما يقدم البرتغال المساعدة للشاه اسماعيل لقمع‬
‫الثورة في مكران وبلوجستان وأن يكوّن الشعبان البرتغالي والفارسي اتحادا ضد العثمانيين ‪ ،‬إل‬
‫()‬
‫أن وفاة البوكرك التي أتت بعد ذلك قد أعاق ذلك التحالف ‪. 3‬‬
‫لقد أظهر البرتغاليون توددا للشاه اسماعيل قبل معركة جالديران وكانوا يهدفون من وراء‬
‫توددهم للصفويين أن تتاح لهم فرصة تحقيق أهدافهم في إيجاد مراكز لهم في الخليج العربي‪،‬‬
‫وكانوا يدركون أنهم إذا لم يكسبوا ود الصفويين فإن تعاون قوتهم مع القوى المحلية في الخليج‬
‫قد يؤدي الى فشل البرتغاليين في تحقيق أهدافهم ولسيما أن مشروعاتهم في إيجاد مراكز نفوذ‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.247‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لنقاذ الندلس‪ ،‬ص ‪.436‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.437‬‬
‫‪-232-‬‬
‫()‬
‫في البحر الحمر منيت بالفشل الى حد كبير ‪. 1‬‬
‫وتبدو سياسة البرتغال الرامية الى التحالف مع الفرس في رسالة ارسلها "البوكيرك" الى الشاه‬
‫"اسماعيل الصفوي" جاء فيها‪:‬‬
‫(إني أقدر لك احترامك للمسيحيين في بلدك‪ ،‬وأعرض عليك السطول والجند والسلحة‬
‫لستخدامها ضد قلع الترك في الهند‪ ،‬وإذا أردت أن تنقض على بلد العرب أو تهاجم مكة‬
‫فستجدني بجانبك في البحر الحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة‪،‬‬
‫()‬
‫وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي وسأنفذ له كل مايريد) ‪. 2‬‬
‫لقد أدت هزيمة الشاه اسماعيل امام العثمانيين الى حرصه الشديد للتحالف مع النصارى‬
‫وأعداء الدولة العثمانية ولذلك تحالف مع البرتغاليين وأقرّ استيلءهم على هرمز في مقابل‬
‫مساعدته على غزو البحرين والقطيف الى جانب تعهدهم بمساندتهم ضد القوات العثمانية وقد‬
‫تضمن مشروع التحالف البرتغالي الصفوي تقسيم المشرق العربي الىمناطق نفوذ بينهما حيث‬
‫()‬
‫اقترح أن يحتل الصفويون مصر والبرتغاليون فلسطين ‪. 3‬‬
‫يقول الدكتور عبدالعزيز سليمان نواز‪ ... ( :‬إن الشاه لم يتوقف عن البحث عن حلفاء ضد‬
‫الدولة العثمانية التي أصبحت القوة الكبرى التي تحول بينه وبين الوصول الى البحر المتوسط‬
‫وكان مستعدا لن يتحالف حتى مع البرتغاليين أشد القوى خطرا على العالم السلمي حينذاك‪.‬‬
‫وهكذا بينما كان البرتغاليين يخشون من وجود جبهة اسلمية قوية ضدهم في المياه السلمية ‪،‬‬
‫وجدوا أن هناك من يريد أن يتعاون معهم‪.‬‬
‫ومع أن ملك هرموز ‪-‬الجزيرة الصغيرة التي أضيرت بشدة في اقتصادياتها التجارية بمجيء‬
‫البرتغاليين المريعة‪ ،‬إل أن الشاه وضع مصالحه الخاصة وحقده الشديد على التراك العثمانيين‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪-233-‬‬
‫في مقدمة اية تسوية او تحالف مع البرتغاليين‪ ،‬فل غرو أن وافق على أن تظل هرموز تحت‬
‫السيطرة البرتغالية في مقابل حصوله على الحساء ولكن حتى هذه الفرصة لم يتحها‬
‫البرتغاليون لحليفهم الشاه‪ .‬وكانت النتيجة أن ساعدت سياسة الشاه هذه على تقوية التسلط‬
‫()‬
‫البرتغالي على الخليج‪. 1 )..‬‬
‫اكتفى السطان العثماني بانتصاره في جالديران واضطر الى الرجوع الى بلده وترك‬
‫مطاردة الشاه اسماعيل لعدة أسباب‪:‬‬
‫‪ -1‬حدوث نوع من التمرد بين صفوف ضباط الجيش العثماني على متابعة الحرب في‬
‫فارس بعد أن حقق السلطان هدفه واضعف شوكة اسماعيل الصفوي‪.‬‬
‫‪ -2‬خوف السلطان سليم من أن يقع جيشه في كمائن للصفويين إذا توغل في بلدهم‪.‬‬
‫‪ -3‬رأى أن يهتم بالقضاء على المماليك لن جهاز أمن الدولة العثمانية ضبط رسائل بين‬
‫()‬
‫المماليك والصفويين تدل على وجود تعاون ضد الدولة العثمانية ‪. 2‬‬
‫وكانت نتيجة الصراع بين العثمانيين والصفويين‪:‬‬
‫‪ -1‬ضم شمالي العراق ‪ ،‬وديار بكر الى الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -2‬أمن العثمانيون حدود دولتهم الشرقية‪.‬‬
‫‪ -3‬سيطرة المذهب السني في آسيا الصغرى بعد أن قضى على اتباع وأعوان اسماعيل‬
‫الصفوي ثم هزيمة الشيعة في جالديران وهذا أشعر الدولة بمسؤوليتها تجاه العالم‬
‫()‬
‫السلمي ‪ ،‬وبخاصة بعد أن أعلن نفسه حاميا للمسلمين ‪. 3‬‬
‫()‬
‫‪ -4‬شعور الدولة العثمانية بضرورة القضاء على القوة الثانية أل وهي دولة المماليك ‪. 4‬‬
‫‪ )(1‬الشعوب السلمية‪ ،‬ص ‪.226‬‬
‫‪ )(2‬الشعوب السلمية ‪ ،‬ص ‪.225‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬علي حسوان ‪ ،‬ص ‪.56،57‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ العرب مجموعة من العلماء‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫‪-234-‬‬
‫‪ -5‬أثر الصدام المسلح بين الدولة العثمانية والصفويين على قيمة ايرادات جمارك الدولة‬
‫العثمانية من الطرق القديمة في الناضول‪ .‬لقد هبطت اليرادات بعد سنة ‪918‬هـ‪1512/‬م‬
‫نتيجة الحروب القائمة بين الصفويين والعثمانيين‪ ،‬إذ أقفلت معظم الطرق التجارية القديمة‪ ،‬كما‬
‫سادها الخطار ‪ ،‬وصار التبادل التجاري بين القاليم اليرانية والعثمانية محدودا‪ ،‬إذ انخفض‬
‫()‬
‫ايراد الدولة العثمانية من الحرير الفارسي ‪. 1‬‬
‫‪ -6‬استفاد البرتغاليون من صراع الصفويين مع الدولة العثمانية وحاولوا أن يفرضوا على‬
‫()‬
‫البحار الشرقية حصارا عاما على كل الطرق القديمة بين الشرق والغرب ‪. 2‬‬
‫‪ -7‬دخل السرور على الوروبين بسبب الحروب بين العثمانيين والصفويين وعمل‬
‫الوروبيون على الوقوف مع الشيعة الصفوية ضد الدولة العثمانية لرباكها حتى لتستطيع أن‬
‫()‬
‫تستمر في زحفها على أوروبا ‪. 3‬‬

‫ثانيا‪ :‬ضم دولة المماليك‪:‬‬


‫بعد أن تغلب السلطان سليم الول على الصفويين في شمال وغربي ايران بدأ السلطان‬
‫العثماني يستعد للقضاء على دولة المماليك ولقد ساهمت عدة أسباب في توجه العثمانيين لضم‬
‫الشام ومصر منها‪:‬‬
‫‪ -1‬موقف المماليك العدائي من الدولة العثمانية حيث قام السلطان قانصوه الغوري (‪-907‬‬
‫‪922‬هـ‪1516-1501/‬م) سلطان الدولة المملوكية بالوقوف مع بعض المراء العثمانيين‬
‫الفارين من وجه السلطان سليم وكان في مقدمتهم المير أحمد أخ السلطان سليم‪ ،‬وأرادت‬
‫السلطات المملوكية أن تتخذ من وجود هؤلء المراء لديها أداة لثارة مزيد من المتاعب في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪ ،‬ص ‪.437‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه ‪ ،‬ص ‪.438‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬القوة العثمانية بين البر والبحر ‪ ،‬د‪ .‬نبيل رضوان ‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪-235-‬‬
‫وجه السلطان سليم‪ ،‬كما كان الموقف السلبي للدولة المملوكية في وقوفها المعنوي مع الشاه‬
‫اسماعيل الصفوي فهي لم تلتزم الحيادة التامة بين العثمانيين والصفويين‪ ،‬وهي لم تتخذ موقفا‬
‫عدائيا صريحا من السلطان سليم‪.‬‬
‫‪ -2‬الخلف على الحدود بين الدولتين في طرسوس في المنطقة الواقعة بين الطرف الجنوبي‬
‫الشرقي لسيا الصغرى وبين شمالي الشام‪ .‬فقد تناثرت في هذه المنطقة إمارات وقبائل‬
‫تأرجحت في ولئها بين الدولة العثمانية ودولة المماليك‪ .‬وكان هذا التأرجح مبعث اضطراب‬
‫في العلقات بين الدولتين ومصدر نزاع مستمر‪ .‬وأراد السلطان سليم الول بادئ ذي بدء أن‬
‫يحسم مسألة الحدود بالسيطرة التامة على منطقتها وسكانها‪.‬‬
‫‪ -3‬تفشي ظلم الدولة المملوكية بين الناس ورغبة أهل الشام وعلماء مصر في التخلص من‬
‫الدولة المملوكية والنضمام الى الدولة العثمانية‪ ،‬فقد اجتمع العلماء والقضاة والعيان‬
‫والشراف وأهل الرأي مع الشعب‪ ،‬وتباحثوا في حالهم‪ ،‬ثم قرروا أن يتولى قضاة المذاهب‬
‫الربعة والشراف كتابة عريضة ‪ ،‬نيابة عن الجميع‪ ،‬يخاطبون فيها السلطان العثماني سليم‬
‫الول ويقولون أن الشعب السوري ضاق "بالظلم" المملوكي وإن حكام المماليك "يخالفون الشرع‬
‫الشريف"‪ ،‬وإن السلطان إذا قرر الزحف على السلطنة المملوكية‪ ،‬فإن الشعب سيرحب به‪،‬‬
‫وتعبيرا عن فرحته‪ ،‬سيخرج بجميع فئاته وطوائفه الى عينتاب‬
‫‪-‬البعيدة عن حلب‪ -‬ولن يكتفوا بالترحيب به في بلدهم فقط‪ ،‬ويطلبون من سليم الول أن يرسل‬
‫لهم رسولً من عنده‪ ،‬وزيرا ثقة‪ ،‬يقابلهم سرا ويعطيهم عهد المان‪ ،‬حتى تطمئن قلوب‬
‫()‬
‫الناس ‪. 1‬‬
‫ولقد ذكر الدكتور محمد حرب أن هذه الوثيقة موجودة في الرشيف العثماني في متحف‬
‫طوب كابي في استانبول‪ ،‬رقم ‪ )26( 11634‬وبين أن ترجمة الوثيقة من العثمانية الى العربية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬د‪ .‬محمد حرب ‪ ،‬ص ‪.170‬‬


‫‪-236-‬‬
‫كما يلي ‪( :‬يقدم جميع أهل حلب‪ :‬علماء ووجهاء وأعيان وأشراف وأهالي‪ ،‬بدون استثناء‬
‫طاعتهم وولءهم ‪-‬طواعية‪ -‬لمولنا السلطان عزنصره ‪-‬وبإذنهم جميعا‪ ،‬كتبنا هذه الورقة‬
‫لترسل الى الحضرة السلطانية العالية‪ .‬إن جميع أهل حلب‪ ،‬وهم الموالون لكم‪ ،‬يطلبون من‬
‫حضرة السلطان‪ ،‬عهد المان‪ ،‬وإذا تفضلتم بالتصريح فإننا نقبض على الشراكسة‪ ،‬ونسلمهم لكم‪،‬‬
‫أو نطردهم‪ ،‬وجميع أهل حلب مستعدون لمقابلتكم واستقابلكم‪ ،‬بمجرد أن تضع أقدامكم في‬
‫أرض عينتاب‪ ،‬خلصنّا أيها السلطان من يد الحكم الشركسي‪ ،‬احمنا أيضا من يد الكفار‪ ،‬قبل‬
‫حضور التركمان‪ ،‬وليعلم مولنا السلطان‪ ،‬إن الشريعة السلمية ‪ ،‬لتأخذ مجراها هنا‪ ،‬وهي‬
‫معطلة‪ ،‬إن المماليك إذا اعجبهم أي شيء ليس لهم‪ ،‬يستولون عليه‪ ،‬سواء كان هذا الشيء مالً‬
‫أو نساءً أو عيالً ‪ ،‬فالرحمة لتأخذهم بأحد‪ ،‬وكل منهم ظالم‪ ،‬وطلبوا منا رجلً من ثلثة بيوت‪،‬‬
‫فلم نستجب لطلبهم‪ ،‬فأظهروا لنا العداء‪ ،‬وتحكموا فينا ‪( ،‬ونريد) قبل أن يذهب التركمان أن يقدم‬
‫علينا وزيرا من عندكم أيها السلطان صاحب الدولة‪ ،‬مفوض بمنح المان لنا ولهلينا ولعيالنا‪،‬‬
‫أرسلوا لنا رجلً حائزا على ثقتكم يأتي سرا ويلتقي بنا ويعطينا عهد المان‪ ،‬حتى تطمئن قلوب‬
‫()‬
‫هؤلء الفقراء وصلى ال على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين) ‪. 1‬‬
‫أما علماء وفقهاء مصر فقد ذكر عبدال بن رضوان في كتابه‪ :‬تاريخ مصر (مخطوط رقم‬
‫‪ )4971‬بمكتبة بايزيد في استانبول ‪ ،‬إن علماء مصر (وهم نفس الشعب المصري وممثلوه)‬
‫يلتقون سرّا بكل سفير عثماني يأتي الى مصر‪ ،‬ويقصون عليه (شكواهم الشريف) و‬
‫(يستنهضون عدالة السلطان العثماني) لكي يأتي ويأخذ مصر)‪.‬‬
‫لقد كان علماء مصر يراسلون السلطان سليم الول لكي يقدم الى مصر على رأس جيشه ‪،‬‬
‫()‬
‫ليستولي عليها‪ ،‬ويطرد منها الجراكسة (المماليك) ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.170،171‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.169‬‬
‫‪-237-‬‬
‫‪ -4‬رأى علماء الدولة العثمانية بأن ضم مصر والشام يفيد المة في تحقيق أهدافها‬
‫الستراتيجية‪ ،‬فإن الخطر البرتغالي على البحر الحمر والمناطق المقدسة السلمية وكذلك‬
‫خطر فرسان القديس يوحنا في البحر المتوسط كان على رأس السباب التي دعت السلطان‬
‫العثماني لن يتوجه نحو الشرق‪ ،‬فتحالف مع القوات المملوكية لهذا الغرض في البداية‪ ،‬ثم‬
‫()‬
‫تحمل العبء الكامل في مقاومة هذه الخطار بعد سقوط الحكم المملوكي ‪. 1‬‬
‫ونستدل على ذلك بما قاله السلطان سليم الول العثماني لطومان باي آخر سلطين المماليك‬
‫بعد أن هزمه في معركة الريدانية (أنا ما جئت عليكم إل بفتوى علماء العصار والمصار ‪،‬‬
‫وأنا كنت متوجها الى جهاد الرافضة (ويعني الصفويين) والفجار (ويعني بهم البرتغاليين‬
‫وفرسان القديس يوحنا) ‪ ،‬فلما بغي أميركم الغوري وجاء بالعساكر الى حلب واتفق مع الرافضة‬
‫واختار أن يمشي الى مملكتي التي هي مورث آبائي وأجدادي‪ ،‬فلما تحققت تركت الرافضة‪،‬‬
‫()‬
‫ومشيت إليه) ‪. 2‬‬
‫أ‪ -‬وقوع الصدام‪:‬‬
‫بعد التطورات التي حدثت بين الدولة العثمانية والدولة الصفوية كان على السلطان المملوكي‬
‫قانصوه الغوري أن يتخذ أحدى المواقف تجاه الحدث اما‪:‬‬
‫‪ -1‬ان يأخذ جانب العثمانيين ضد الصفويين‪.‬‬
‫‪ -2‬ان يأخذ جانب الصفويين ضد العثمانيين‪.‬‬
‫‪ -3‬ان يقف على الحياد بين الطرفين‪.‬‬
‫وفضل الغوري ان يقف على الحياد في ظاهره إل أن المخابرات العثمانية عثرت على‬
‫خطاب تحالف سري يؤكد العلقة الخفية بين المماليك والفرس والخطاب محفوظ في أرشيف‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.70‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪-238-‬‬
‫متحف طوب قابو في إستانبول‪.‬‬
‫وكان السلطان سليم يريد الكرة على الشيعة الصفوية في بلد فارس ومع توتر الحداث رأي‬
‫السلطان سليم تأمين ظهره وذلك بضم الدولة المملوكية الى أملكه‪.‬‬
‫وألتقى الجمعان على مشارق حلب في مرج دابق عام ‪1517‬م وانتصر العثمانيون و ُقتِلَ‬
‫الغوري سلطان المماليك وأكرم العثمانيون الغوري بعد مماته وأقاموا عليه صلة الجنازة‬
‫سكَتْ النقود باسمه‬
‫ودفنوه في مشارف حلب ودخل سليم حلب ثم دمشق ودُعي له في الجوامع و ُ‬
‫( ‪)1‬‬
‫ومن الشام أرسل السلطان سليم الى زعيم المماليك في مصر طومان باي‬ ‫سلطان وخليفة‬
‫على أن يلتزم بالطاعة للدولة العثمانية وكان رد المماليك السخرية برسول السلطان ثم قتله‪.‬‬
‫وقرر السلطان سليم الحرب وتحرك نحو مصر وقطع صحراء فلسطين قاصدا مصر ونزلت‬
‫المطار على أماكن سير الحملة مما يسرت على الجيش العثماني قطع الصحراء الناعمة الرمال‬
‫بعد أن جعلتها المطار الغزيرة متماسكة يَسهل اجتيازها‪.‬‬
‫يروي المؤرخ سلحثور صاحب مخطوطة فتح نامه ديار العرب ‪-‬وكان مصاحبا لسليم‪ -‬أن‬
‫سليم الول كان يبكي في مسجد الصخرة بالقدس بكاءً حارا وصلى صلة الحاجة داعيا ال أن‬
‫()‬
‫يفتح عليه مصر ‪. 2‬‬
‫وحقق العثمانيون انتصارا ساحقا على المماليك في معركة غزة ثم معركة الريدانية‪.‬‬
‫وتعود السباب التي أدت الى هزيمة المماليك وانتهاء دولتهم وانتصار العثمانيين وعلو‬
‫نجمهم الى‪:‬‬
‫‪ -1‬التفوق العسكري لدى العثمانيين‪ :‬فسلح المدفعية المملوكي كان يعتمد على مدافع ضخمة‬
‫ثابتة لتتحرك‪ ،‬في حين كان سلح المدفعية العثماني يعتمد على مدافع خفيفة يمكن تحركيها في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.29‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪-239-‬‬
‫كل التجاهات‪.‬‬
‫‪ -2‬سلمة الخطط العسكرية العثمانية‪ :‬فرغم قطع العثمانيين لمسافات طويلة في سرعة‬
‫اضطروا إليها ومحاربتهم في ارض يسيطر عليها عدوهم ومباغتتهم للمماليك كل ذلك كان مما‬
‫يدخل في عوامل النصر‪ ،‬ومن سلمة التخطيط أيضا استدارة القوات العثمانية من خلف مدافع‬
‫المماليك الثقيلة الحركة ‪-‬إذا أريد تحريكها‪ -‬ودخول هذه القوات العثمانية القاهرة عن طريق‬
‫المقطم مما شل دور المدفعية المملوكية وأحدث بالتالي الضطراب في صفوف الجيش‬
‫المملوكي لتدافعهم بل انتظام خلف العثمانيين‪.‬‬
‫‪ -3‬معنويات الجيش العثماني العالية وتربيته الجهادية الرفيعة واقتناعه بأن حربه عادلة‬
‫بعكس القوات المملوكية التي فقدت تلك الصفات‪.‬‬
‫‪ -4‬حرص الدولة العثمانية على اللتزام بالشرع في جميع نواحي حياتها واهتمامها البالغ‬
‫بالعدل بين رعايا الدولة‪ ،‬بعكس الدولة المملوكية التي انحرفت عن الشريعة الغراء ومارست‬
‫()‬
‫الظلم على رعاياها ‪. 1‬‬
‫‪ -5‬قناعة مجموعة قيادية من أمراء المماليك بالنضمام لجيش السلطان سليم وكانوا‬
‫مستعدين للتعاون مع الدولة العثمانية وتحمل مسؤولية الحكم تحت إطار الحكم العثماني ومن‬
‫أمثال هؤلء‪ :‬فاير بك الذي اسند إليه سليم الول حكم مصر‪ ،‬وجان بردي الغزالي الذي تولى‬
‫()‬
‫حكم دمشق ‪. 2‬‬
‫لقد تلقى المماليك الهزيمة في سنة ‪1517 /1516‬م وهم في شيخوخة دولتهم ومن آخر‬
‫صفحة من صفحات تاريخهم كقوة اسلمية كبرى سواء في الشرق الوسط أو في العالم‪ ،‬فقد‬
‫كانوا فقدوا حيويتهم وقدرتهم على تجديد شبابهم ‪ ،‬فكان أن زالت دولتهم‪ ،‬وذهبت البلد التي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪.31 ،‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الشعوب السلمية ‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز نوار‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫‪-240-‬‬
‫()‬
‫كانت حكمهم للنفوذ العثماني ‪. 1‬‬
‫وقد نقل الدكتور علي حسون عن الجبرتي من كتابة تاريخ عجائب الثار في التراجم‬
‫والخبار في المجلد الول وصفا لفترة حكم العثمانيين في مصر إبان عهد سلطينهم العظماء‬
‫أقتطف بعضا منها‪:‬‬
‫( ‪...‬وعادت مصر الى النيابة كما كانت في صدر السلم ولما خلص له (أي السلطان سليم)‬
‫أمر مصر‪ ،‬عفا عمن بقي من الجراكسة وأبنائهم ولم يتعرض لوقاف السلطين المصرية بل‬
‫قرر مرتبات الوقاف والخيرات والعلوفات وغلل الحرمين والنبار ورتب لليتام والمشايخ‬
‫والمتقاعدين ومصارف القلع والمرابطين وأبطل المظالم والمكوث والمغارم ولما توفي تولى‬
‫ابنه الغازي السلطان سليمان عليه الرحمة والرضوان فأسس القواعد وأتم المقاصد ونظم‬
‫المماليك وانار الحوالك ورفع منار الدين وأخمد نيران الكافرين‪ ..‬لم تزل البلد منتظمة في‬
‫سلكهم ومنقادة تحت حكمهم ‪ ..‬وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور المة بعد الخلفاء‬
‫المهديين وأشد من ذبّ عن الدين وأعظم من جاهد في المشركين فلذلك أتسعت ممالكه بما فتحه‬
‫ال على أيديهم وأيدي نوابهم ‪ ..‬هذا مع عدم إغفالهم المر وحفظ النواحي والثغور وإقامة‬
‫()‬
‫الشعائر السلمية والسنن المحمدية وتعظيم العلماء وأهل الدين وخدمة الحرمين الشريفين) ‪. 2‬‬
‫ب‪ -‬مسألة انتقال الخلفة‪:‬‬
‫إن مسألة انتقال الخلفة الى آل عثمان ترتبط بالفتح العثماني لمصر وقد قيل أن آخر الخلفاء‬
‫العباسيين في القاهرة قد تنازل لسليم عن الخلفة‪ ،‬فالمؤرخ ابن إياس المعاصر لضم العثمانيين‬
‫لمصر لم يتطرق إليها‪ ،‬كما أن الرسائل التي أرسلها السلطان سليم الى أبنه سليمان لم ترد فيها‬
‫أية إشارة لتنازل الخليفة عن لقبه للسلطان‪ ،‬كما أن المصادر المعاصرة لتشير الى مسألة نقل‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.92‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪-241-‬‬
‫الخلفة الى آل عثمان الذين لينتسبون الى الرسول‪.‬‬
‫إن الواقع التاريخي يقول بأن السلطان سليم الول أطلق على نفسه لقب "خليفة ال في طول‬
‫الرض وعرضها" منذ عام ‪1514‬م (‪920‬هـ) أي قبل فتحه للشام ومصر وإعلن الحجاز‬
‫خضوعه لل عثمان‪.‬‬
‫فالسلطان سليم وأجداده كانوا قد كسبوا مكانة عظيمة تلئم استعمال لقب الخلفة في الوقت‬
‫الذي كان فيه مركز الخليفة في القاهرة ليعتد به‪ .‬كما أن فتوح سليم اكسبته قوة ونفوذا معنويا‬
‫وماديا وخصوصا بعد دخول الحرمين الشريفين تحت سلطانه وأصبح السلطان العثماني مقصدا‬
‫للمستضعفين المسلمين الذين يتطلعون الى مساعدته بعد أن هاجم البرتغاليين المواني السلمية‬
‫في آسيا وإفريقيا‪ .‬ملخص المبحث أن السلطان سليم لم يكن مهتما بلقب الخلفة‪ ،‬وكذلك‬
‫()‬
‫سلطين آل عثمان من بعده وأن الهتمام بهذا اللقب قد عاد بعد ضعف الدولة العثمانية ‪. 1‬‬
‫ج‪ -‬اسباب انهيار الدولة المملوكية‪:‬‬
‫هناك مجموعة من العوامل تجمعت وساعدت في وضع نهاية لدولة المماليك أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬عدم تطوير المماليك‪ ،‬اسلحتهم وفنونهم القتالية‪ ،‬فبينما كان المماليك يعتمدون على نظام‬
‫الفروسية الذي كان سائدا في العصور الوسطى كان العثمانيون يعتمدون على استخدام السلحة‬
‫النارية وبخاصة المدفعية‪.‬‬
‫‪ -2‬كثرة الفتن والقلقل والضطرابات بين المماليك حول ولية الحكم مما أدى الى عدم‬
‫استقرار الحكم في أحرج الوقات‪.‬‬
‫‪ -3‬كره الرعايا للسلطين المماليك الذين كانوا يشكلون طبقة استقراطية مترفعة منعزلة عن‬
‫الشعوب‪.‬‬
‫‪ -4‬وقوع بعض النشقاقات بين صفوف المماليك‪ ،‬كما فعل والي حلب "خاير بك وجانبرد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.61،62‬‬


‫‪-242-‬‬
‫الغزالي" مما أدى الى سرعة انهيار الدولة المملوكية‪.‬‬
‫‪ -5‬سوء الحوال القتصادية‪ ،‬وبخاصة عندما تغيرت طرق التجارة المارة بمصر واكتشاف‬
‫طريق رأس الرجاء الصالح ‪.‬‬
‫‪ -6‬العامل الجامع للسباب السابقة ضعف التزام المماليك بمنهج ال ويقابله قوة تمسك‬
‫()‬
‫العثمانيين بشرع ال ‪. 1‬‬
‫د‪ -‬خضوع الحجاز للعثمانيين‪:‬‬
‫كانت الحجاز تابعة للمماليك وعندما علم شريف مكة بمقتل السلطان الغوري ونائبه طومان‬
‫باي بادر شريف مكة "بركات بن محمد " الى تقديم السمع والطاعة الى السلطان سليم الول‬
‫وسلمه مفاتيح الكعبة وبعض الثار فأقر السلطان سليم شريف الحجاز بركات باعتباره أميرا‬
‫()‬
‫على مكة والحجاز‪ ،‬ومنحه صلحيات واسعة ‪. 2‬‬
‫وبذلك أصبح السلطان سليم خادما للحرمين الشريفين وأصبحت مكانته أقوى أمام الشعوب‬
‫السلمية وبخاصة أن الدولة أوقفت أوقافا كثيرة على الماكن المقدسة‪ ،‬وكانت ايراداتها تصب‬
‫في خزانة مستقلة بالقصر السلطاني وقد أدى ضم الحجاز الى العثمانيين الى بسط السيادة‬
‫العثمانية في البحر الحمر مما أدى الى دفع الخطر البرتغالي عن الحجاز والبحر الحمر‬
‫()‬
‫واستمر هذا حتى نهاية القرن الثامن عشر ‪. 3‬‬
‫س‪ -‬اليمن‪:‬‬
‫بعد انهزام المماليك قدّم حاكم اليمن المملوكي الجركسي (اسكندر) وفدا الى السلطان سليم‬
‫ليقدم فروض الولء والطاعة له فوافق السلطان العثماني على إبقائه في منصبه وكانت اليمن‬
‫تشكل بعدا استراتيجيا وتعتبر مفتاح البحر الحمر وفي سلمتها سلمة للماكن المقدسة في‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ العرب الحديث‪ ،‬مجموعة من العلماء ‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ العرب الحديث‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪-243-‬‬
‫الحجاز وكانت السيطرة العثمانية في بداية المر ضعيفة‪ ،‬بسبب الصراعات الداخلية بين القادة‬
‫والمماليك الى جانب نفوذ المامة الزيدية بين قبائل الجبال‪ ،‬هذا فضلً عن الخطر البرتغالي‬
‫الذي كان يهدد السواحل اليمنية وهذا دفع السلطان الى ارسال قوة بحرية إل أنها فشلت بسبب‬
‫النزاع الذي دب بين قائدها "حسين الرومي" متصرف جدة و"الريس سلمان" احد قادة البحر‬
‫()‬
‫العثمانيين ‪. 1‬‬
‫ثم ارسل السلطان سليمان حملة "سليمان باشا ارناؤطي" سنة ‪945‬هـ‪1538/‬م وقد ضمت‬
‫الحملة ‪ 74‬سفينة و ‪ 20.000‬شخص وكان هدف الحملة احتلل اليمن وبخاصة عدن ثم اغلق‬
‫مضيق باب المندب أمام السفن البرتغالية ودخل العثمانيون عدن عام ‪946‬هـ‪1539/‬م‪ ،‬وتعز‬
‫عام ‪952‬هـ‪1545/‬م وسقطت صنعاء في قبضتهم عام ‪954‬هـ‪1547/‬م وتحرك "سلمان باشا"‬
‫باسطوله ليستولي على بعض الموانئ العربية في حضرموت ومنها "الشحر ‪ ،‬والمكل" واجتاح‬
‫ساحل الحبشة‪ ،‬وسواكن ومصوع على الجانب الغربي من البحر الحمر ‪964‬هـ‪1557/‬م‪.‬‬
‫وقد ظلت اليمن في فترة خضوعها للحكم العثماني (‪1635-1538‬م) تنازعها قوى العثمانيين‬
‫والئمة الزيدية‪ ،‬فالعثمانيون لم يستطيعوا أن يضمنوا سيطرة حقيقية على البلد نتيجة لحركة‬
‫()‬
‫المقاومة التي تواجههم ‪. 2‬‬
‫وقد ظلت اليمن في فترة هيمنة الدولة العثمانية عليها (‪1635-1538‬م) تتنازعها قوى‬
‫العثمانيين والئمة الزيدية‪ ،‬فالعثمانيون لم يستطعوا أن يسيطروا كليا على البلد بسبب تمرد‬
‫()‬
‫بعض القبائل ‪. 3‬‬
‫واستفاد العثمانيون من وجدوهم في اليمن فقاموا بحملت بحرية الى الخليج بقصد تخليصه‬

‫‪ )(1‬نفس المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.41‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ العرب ‪ ،‬مجموعة من الساتذة‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪-244-‬‬
‫()‬
‫من الضغط البرتغالي ‪. 1‬‬

‫ثالثا‪ :‬الصراع العثماني البرتغالي‪:‬‬


‫قامت دولة البرتغال في عام ‪1514‬م بتحريك حملة على المغرب القصى يتزعمها المير‬
‫هنري الملح واستطاعت تلك الحملة أن تحتل ميناء سبتة المغربي‪ ،‬وكان ذلك بداية لسلسلة من‬
‫( ‪)2‬‬
‫ثم واصلت البرتغال حملتها على الشمال الفريقي حتى تمكنت‬ ‫العمال العدوانية المتتالية‬
‫()‬
‫من الستيلء على اصيل‪ ،‬والعرائش ثم طنجة في عام ‪ 1471‬للميلد ‪ . 3‬وواصلت بعد ذلك‬
‫()‬
‫أطماعها في مراكز هامة جدا مثل ميناء "أسفى وأغادير‪ ،‬وأزمورة‪ ،‬وماسة" ‪. 4‬‬
‫وأما عن توجه البرتغال الى المحيط الطلسي ومحاولتهم اللتفاف حول العالم السلمي فقد‬
‫كان العمل مدفوعا بالدرجة الولى بدوافع صليبية شرسة ضد المسلمين ‪ ،‬حيث اعتبرت‬
‫البرتغال انها نصيرة المسيحية وراعيتها ضد المسلمين ‪ ،‬حيث اعتبرت قتال المسلمين ضرورة‬
‫()‬
‫ماسة وصارمة ورأت السلم هو العدو اللدود الذي لبد من قتاله في كل مكان ‪. 5‬‬
‫وكان المير هنري الملح شديد التعصب للنصرانية عظيم الحقد على المسلمين وقد تحصل‬
‫هذا المير من البابا نيقول الخامس حقا في جميع كشوفه حتى بلد الهند‪ ،‬حيث قال ‪( :‬إن‬
‫سرورنا العظيم إذ نعلم أن ولدنا هنري أمير البرتغال‪ ،‬إذ يترسم خُطى والده العظيم الملك‬
‫يوحنا‪ ،‬وإذ تلهمه الغيرة التي تملك النفس كجندي باسل من جنود المسيح‪ ،‬قد دفع باسم ال الى‬
‫آقاصي البلد وأبعادها عن مجال علمنا كما أدخل بين أحضان الكاثوليكية الغادرين من أعداء‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.42‬‬


‫‪ )(2‬التاريخ الوروبي الحديث في عصر النهضة الى مؤتمر فينا ‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز نوار‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الكشوف الجغرافية‪ ،‬شوقي عبدال ‪ ،‬ص ‪.99،100‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.99،100‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬آسيا الوسطى الغربية‪ ،‬بانيكار ‪ ،‬ص ‪.24،25‬‬
‫‪-245-‬‬
‫()‬
‫ال وأعداء المسيح مثل العرب والكفرة‪. 1 )...‬‬
‫وقال البوكيرك في خطابه الذي ألقاه على جنده بعد وصوله الى "ملقا" مانصه‪( :‬إن ابعاد‬
‫العرب عن تجارة الفاوية هي الوسيلة التي يرجو بها البرتغاليون إضعاف قوة السلم)‪.‬‬
‫وفي نفس الخطبة قال ‪(:‬الخدمة الجليلة التي سنقدمها ل بطردنا العرب من هذه البلد‬
‫وبإطفاءنا شعلة شيعة محمد بحيث ل يندفع لها هنا بعد ذلك لهيب وذلك لني على يقين أننا لو‬
‫انتزعنا تجارة "ملقا" هذه من أيديهم (يقصد المسلمين) لصبحت كل من القاهرة ومكة أثرا بعد‬
‫عين ولمتنعت عن البندقية كل تجارة التوابل مالم يذهب تجارها الى البرتغال لشرائها من‬
‫()‬
‫هناك) ‪. 2‬‬
‫وقال في يومياته‪( :‬كان هدفنا الوصول الى الماكن المقدسة للمسلمين واقتحام المسجد النبوي‬
‫()‬
‫رهينة لنساوم عليها العرب من اجل استرداد القدس ‪. 3‬‬ ‫وأخذ رفاة النبي محمد‬
‫وقال ملك البرتغال عمانويل الول معلنا أهداف الحملت البرتغالية‪ :‬إن الغرض من اكتشاف‬
‫()‬
‫الطريق البحري الى الهند هو نشر النصرانية والحصول على ثروات الشرق ‪. 4‬‬
‫وهكذا يظهر للباحث المنصف أن الدافع الديني للكشوف البرتغالية كان من أهم العوامل التي‬
‫دفعت البرتغال لرتياد البحار واللتفاف حول العالم السلمي‪ ،‬فصدرت المراسيم والوامر‪،‬‬
‫ورسم الصليب والمدفع كشعار للحملت‪ ،‬وكان القصد من ذلك أن على المسلمين اعتناق‬
‫المسيحية وإل عليهم مواجهة المدفع‪.‬‬
‫وكان الدافع القتصادي في الدرجة الثانية كعامل مؤثر في سير الكشوف الجغرافية‬
‫البرتغالية‪ ،‬فقد سهل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في عام ‪904‬هـ‪1497/‬م بواسطة‬
‫‪ )(1‬دراسات متميزة في العلقات بين الشرق والغرب‪ ،‬يوسف الثقفي‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬دراسات متميزة‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)2/698‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬يوسف الثقفي‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪-246-‬‬
‫فاسكو دي جاما مهمة وصول منتجات الشرق القصى للسواق الوروبية دون الحاجة الى‬
‫مرورها عن طريق مصر‪ ،‬ولهذا ساعد تحويل الخط التجاري عن مناطق العبور العربية‬
‫والسلمية ‪-‬ساعد‪ -‬على تحقيق الهدف الديني وذلك لما للمجال القتصادي من اثر فعال في‬
‫إضعاف القوة السلمية التي كان لها ابلغ الثر في زعزعة أوروبا خلل عدة قرون‪ ،‬فضلً‬
‫()‬
‫عن الركود القتصادي الذي مُنيت به الدولة المملوكية بسبب هذا التحول المفاجئ ‪. 1‬‬
‫ومما يجدر ذكره أن البرتغاليين استعانوا في حملتهم باليهود الذين استخدموا كجواسيس ‪،‬‬
‫وقد ساعدهم في ذلك معرفتهم باللغة العربية‪ ،‬وعلى سبيل المثال فقد ارسل ملك البرتغال يوحنا‬
‫الثاني خادمه الخاص ومعه رفيق آخر يهودي الى مصر والهند والحبشة وكان من نتائج رحلتها‬
‫()‬
‫تقديمها تقرير يتضمن بعض الخرائط العربية عن المحيط الهندي ‪. 2‬‬
‫وذكر ابن اياس إنه في زمن الشريف بركات أمير مكة تسلل ثلثة أشخاص الى مكة وكانوا‬
‫يحومون حول المسجد الحرام وعليهم لباس عثماني ويتحدثون العربية والتركية‪ ،‬فأمر بالقبض‬
‫عليهم وبالكشف على اجسامهم اتضح أنهم مسيحيون لنهم كانوا بغير ختان‪ ،‬وبعد التحقيق معهم‬
‫ظهر أنهم جواسيس‪ ،‬ارسلوا للعمل كأدلء للجيش البرتغالي الصليبي عند دخوله لمكة‪ ،‬وتم بعد‬
‫()‬
‫ذلك إرسالهم الى السلطان قانصوه الغوري ‪. 3‬‬
‫ولتحقيق الهداف البرتغالية رأى رواد الكشوف وساستهم ضرورة التحكم في مضيقي‬
‫"هرمز" و "باب المندب" لكي يحكم أعداء السلم غزوهم للعالم السلمي من الخلف ودق‬
‫عصب القتصاد في المناطق العربية والسلمية ثم بالتالي نشر المسيحية في كل موقع يصلون‬
‫()‬
‫إليه ‪. 4‬‬
‫‪ )(1‬دراسات متميزة ‪ ،‬ص ‪.60،61‬‬
‫‪)(2‬انظر‪ :‬أوروبا في مطلع العصور الحديثة للشناوي‪.)1/123( ،‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬بدائع الزهور في وقائع الدهور (‪.)4/191‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪-247-‬‬
‫ونجح البرتغاليون في خططهم وتمكنوا من السيطرة على معابر التجارة في الساحل الفريقي‬
‫والخليج العربي وبحر العرب‪ ،‬وقاموا بمنع وصول المنتجات الشرقية الى أوروبا عن طريقها‪،‬‬
‫وقد ساعدهم في تحقيق ذلك عدم وجود منافس بحري لهم‪ ،‬مما سهل لهم السيطرة على المراكز‬
‫الهامة بيسر وسهولة‪ ،‬ثم لم يتورع البرتغاليون بعد ذلك عن استخدام العنف فشهدت المناطق‬
‫التي وصلوا إليها واحتلوها الكثير من المجازر وإشعال النيران والتدمير‪ ،‬والعتداء على‬
‫()‬
‫حرمات الناس ومنع المسلمين من الذهاب الى الحج وهدم المساجد عليهم ‪. 1‬‬
‫إما عن موقف المسلمين من هذا الغزو الغاشم فقد كان المماليك آنذاك في موقف ليحسدون‬
‫عليه حيث اصابهم الوهن القتصادي والسياسي وانشغل السلطين بمشاكلهم الداخلية ومجابهة‬
‫( ‪)2‬‬
‫ولهذا واجه‬ ‫الدولة العثمانية وقمع نشاط الفرسان السبارتية في شرق البحر البيض المتوسط‬
‫السكان في الساحل الفريقي والخليج واليمن مصيرهم بأنفسهم‪ ،‬فهاجموا الحاميات البرتغالية في‬
‫كل مكان‪ ،‬في شرق أفريقيا وفي مسقط والبحرين وقريات وعدن ‪ ،‬ولكن دون جدوى لختلف‬
‫()‬
‫ميزان القوى ‪. 3‬‬
‫ثم ان المماليك شعروا بالمسؤولية على الرغم من المشاكل التي كانت تعيشها دولتهم ‪ ،‬وبذلوا‬
‫مافي استطاعتهم للحد من وصول البرتغاليين الى الماكن المقدسة‪ ،‬فقام السلطان قانصوه‬
‫الغوري بإرسال حملة بحرية مكونة من ثلثة عشرة سفينة عليه ألف وخمسائة رجل بقيادة‬
‫حسين الكردي الذي وصل الى جزيرة "ديو" ثم "شول" وألتقى مع السطول البرتغالي بقيادة‬
‫()‬
‫"الونز دي الميدا" وذلك في عام ‪914‬هـ‪1508/‬م فكان النصر حليفه ‪ ، 4‬ثم ان البرتغال عززوا‬
‫قواتهم وأعادوا الكرة مرة أخرى مما أدى الى هزيمة السطول السلمي سنة ‪915‬هـ‪1509/‬م‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬علقة ساحل عمان ببريطانيا‪ ،‬عبدالعزيز عبدالحي ‪ ،‬ص ‪.19‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬دراسات في التاريخ المصري‪ ،‬أحمد سيد دراج ‪ ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬بدائع الزهور في وقائع الدهور (‪.)4/142‬‬
‫‪-248-‬‬
‫()‬
‫في معركة "ديو" المشهورة في التاريخ ‪. 1‬‬
‫أما عن الدولة العثمانية فكانت في البداية بعيدة عن ساحة المعركة ويفصل بينها وبين‬
‫البرتغال دولة المماليك والدولة الصفوية ومع ذلك لبى السلطان بايزيد الثاني طلب السلطان‬
‫الغوري مساعدته ضد البرتغال ‪ ،‬فأرسل في شهر شوال سنة ‪916‬هـ‪1511 /‬م عدة سفن‬
‫محملة بالمكاحل والسهم وأربعين قنطارا من البارود وغير ذلك من المستلزمات العسكرية‬
‫()‬
‫والموال اللزمة ‪ . 2‬ولكن هذه المساعدة لم يكتب لها الوصول سالمة بسبب تعرضها لقرصنة‬
‫()‬
‫فرسان القديس يوحنا ‪. 3‬‬
‫وبعد أن ضم العثمانيون بلد مصر والشام ودخلت البلد العربية تحت نطاق الحكم‬
‫العثماني ‪ ،‬واجهت الدولة العثمانية البرتغاليين بشجاعة نادرة‪ ،‬فتمكنت من استرداد بعض‬
‫الموانئ السلمية في البحر الحمر مثل‪ :‬مصوع وزيلع‪ ،‬كما تمكنت من إرسال قوة بحرية‬
‫بقيادة مير علي بك الى الساحل الفريقي فتم تحرير مقديشو وممبسة ومُنيت الجيوش البرتغالية‬
‫()‬
‫بخسائر عظيمة ‪. 4‬‬
‫وفي عهد السلطان سليمان القانوني ‪974-927‬هـ‪1566-1520/‬م تمكنت الدولة العثمانية‬
‫من إبعاد البرتغاليين عن البحر الحمر ومهاجمتهم في المراكز التي استقروا بها في الخليج‬
‫العربي‪.‬‬
‫لقد ادرك السلطان سليمان أن مسؤولية الدفاع عن الماكن المقدسة هي مسؤولية الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬فبادر بعقد اتفاق مع حاكمي "قاليقوط" و"كامباي" وهما الحاكمان الهنديان اللذان تأثرا‬
‫من الغزو البرتغالي وكان ذلك التفاق ينص على العمل المشترك ضد البرتغال‪ ،‬ثم أعقب ذلك‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النفوذ البرتغالي في الخليج العربي‪ ،‬نوال صيرفي‪ ،‬ص ‪.106‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المماليك الفرنج‪ ،‬أحمد سيد دراج‪ ،‬ص ‪.115‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ كشف أفريقيا واستعمارها‪ ،‬شوقي الجمل‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪-249-‬‬
‫التفاق إصداره مرسوما الى سليمان باشا الخادم والي مصر هذا نصه‪( :‬عليك يابيك البكوات‬
‫بمصر سليمان باشا‪ ،‬أن تقوم فور تسلمك أوامرنا هذه ‪ ،‬بتجهيز حقيبتك وحاجتك‪ ،‬وإعداد العدة‬
‫بالسويس للجهاد في سبيل ال‪ ،‬حتى إذا تهيأ لك إعداد أسطول وتزويده بالعتاد والميرة والذخيرة‬
‫وجمع جيش كافٍ‪ ،‬فعليك أن تخرج الى الهند وتستولي وتحافظ على تلك الجزاء‪ ،‬فإنك اذا‬
‫قطعت الطريق وحاصرت السبل المؤدية الى مكة المكرمة تجنبت سوء ما فعل البرتغاليون‬
‫()‬
‫وأزلت رايتهم من البحر) ‪. 1‬‬
‫وقام سليمان الخادم بتنفيذ أوامر السلطان العثماني ‪ ،‬ووصل بعد سبعة أيام الى جدة ثم اتجه‬
‫الى كمران وبعد ذلك سيطر على عدن وعيّن عليها أحد ضباطه وزودها بحامية بلغ عدد‬
‫جنودها ستمائة جندي ‪ ،‬ثم واصل سيره الى الهند‪ ،‬وعند وصوله الى ديو لم يتمكن من‬
‫الستيلء عليها وانسحب عائدا بعد ان فقد حوالي اربعمائة من رجاله‪ ،‬وحاول مرة اخرى‬
‫الستيلء على المامية حتى استسلمت إحداها وتم أسر ثمانيين برتغاليا ‪ ،‬ولول المدادات‬
‫الجديدة للجيش البرتغالي لستسلمت جميع القلع‪ ،‬وتمّ طرد البرتغاليين من الهند ولخضعت قلعة‬
‫()‬
‫ديو للعثمانيين خضوعا تاما ‪. 2‬‬
‫وهكذا تمكن العثمانيون من صد البرتغال وإيقافهم بعيدا عن المماليك السلمية والحد من‬
‫نشاطهم ‪ ،‬وهكذا نجحت الدولة العثمانية في تأمين البحر الحمر وحماية الماكن المقدسة من‬
‫التوسع البرتغالي المبني على أهداف استعمارية وغايات دنيئة ومحاولت للتأثير على السلم‬
‫والمسلمين بطرق مختلفة‪.‬‬
‫إن النجاح الذي حققته الدولة العثمانية في درء الخطر البرتغالي على العالم السلمي يستحق‬
‫كل تقدير وثناء‪ ،‬فدولة المماليك المتهالكة كانت على وشك النهيار‪ ،‬ولم تكن على مستوى من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موقف اوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.40‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صراع المسلمين مع البرتغاليين في البحر الحمر ‪ ،‬غسان الرمال‪ ،‬ص ‪.226‬‬
‫‪-250-‬‬
‫القوة يكفل لها الوقوف أمام الغزو البرتغالي فتحملت الدولة العثمانية أعباء الدفاع عن حقوق‬
‫المسلمين وممتلكاتهم‪ ،‬ونجحت أيما نجاح في الحد من مطامع الغزاة ووصولهم الى الماكن‬
‫()‬
‫المقدسة كما كانوا يرغبون ‪. 1‬‬
‫أما عن الدولة الصفوية فقد تخلت عن مساعدة سكان المناطق التي وصل إليها الغزو‬
‫البرتغالي‪ ،‬فتركت مدن الخليج العربي تواجه مصيرها بنفسها‪ ،‬وزادت على ذلك أن سارت‬
‫الدولة الصفوية في فلك العداء ولبت رغباتهم خاصة وأنها على عداء وخلف مذهبي مع‬
‫المماليك والدولة العثمانية ولذلك نجد البوكيرك القائد البرتغالي يستغل هذا الموقف ويرسل في‬
‫عام ‪915‬هـ‪1509/‬م مبعوثه "روى جومير" ومعه رسالة ذكر فيها‪( :‬اني أقدّر لك احترامك‬
‫للمسيحيين في بلدك‪ ،‬واعرض عليك السطول والجند والسلحة لستخدامها ضد قلع الترك‬
‫في الهند‪ ،‬وإذا أردت أن تنقض على بلد العرب أو أن تهاجم مكة فستجدني بجانبك في البحر‬
‫الحمر أمام جدة أو في عدن أو في البحرين أو في القطيف أو في البصرة ‪ ،‬وسيجدني الشاة‬
‫()‬
‫بجانبه على امتداد الساحل الفارسي ‪ ،‬وسأنفذ له كل مايريد" ‪. 2‬‬
‫وقد صادف هذا العرض أو هذا الموقف الفترة التي كانت القوات العثمانية تتوجه فيها‬
‫لمجابهة الصفويين على الحدود‪ ،‬حيث كانت بعد ذلك معركة جالديران سنة ‪920‬هـ‪1514/‬م‬
‫التي انهزم فيها الفرس هزيمة ساحقة أمام الجيش العثماني‪ ،‬مما جعلهم ‪ -‬أي الفرس‪ -‬أكثر‬
‫استعدادا للتحالف مع البرتغاليين ضد العثمانيين‪ ،‬فكانت فرصة البرتغال التي لتعوض لسيما‬
‫وأنهم يدركون مدى الخطر الذي يُهددهم ويقلق أمنهم من قبل الدولة العثمانية ‪ ،‬فاستغلوا‬
‫احتللهم لهرمز عام ‪921‬هـ‪1515/‬م وارتبطوا بعد ذلك مباشرة مع الصفويين بمعاهدة كان من‬
‫أهم بنودها؛ تقديم البرتغال أسطولها لمساعدة الشاة في حملته على البحرين والقطيف مقابل‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.40‬‬


‫‪ )(2‬التيارات السياسية في الخليج العربي ‪ ،‬صلح العقاد‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪-251-‬‬
‫اعتراف الشاة بالحماية البرتغالية على هرمز‪ ،‬وتوحيد القوتين وفي حالة المواجهة مع الدولة‬
‫()‬
‫العثمانية عدوهما المشترك ‪. 1‬‬
‫ويظهر أن البرتغال رأوا في تحالفهم مع الصفويين وسيلة تحقق عدم الوفاق بين الدول‬
‫السلمية التي فيما لو اتحدت ضدها لما تمكنت من السيطرة على مقدرات الشعوب في مناطق‬
‫الخليج والبحر الحمر وعدن وغير ذلك من الماكن التي خضعت للسيطرة البرتغالية؛ ومن‬
‫جهة اخرى فإن التحالف الصفوي البرتغالي والوضع السياسي والقتصادي المتدهور لدى دولة‬
‫المماليك‪ ،‬كل ذلك جعل الدولة العثمانية تتحمل المسؤولية كاملة في الدفاع عن الماكن‬
‫()‬
‫السلمية في كل موقع حاول البرتغاليون الوصول إليه والسيطرة عليه ‪. 2‬‬
‫لقد كان من نتائج الصراع العثماني البرتغالي‪:‬‬
‫‪ -1‬احتفظ العثمانيون بالماكن المقدسة وطريق الحج‪.‬‬
‫‪ -2‬حماية الحدود البرية من هجمات البرتغاليين طيلة القرن السادس عشر‪.‬‬
‫‪ -3‬استمرار الطرق التجارية التي تربط الهند واندونيسيا بالشرق الدنى عبر الخليج العربي‬
‫والبحر الحمر‪.‬‬
‫‪ -4‬استمرار عمليات تبادل البضائع الهندية مع تجار أوروبا في أسواق حلب‪ ،‬والقاهرة‬
‫واسطنبول ففي سنة ‪1554‬م اشترى البندقيون وحدهم ستة آلف قنطار من التوابل وفي الوقت‬
‫نفسه كانت تصل الى ميناء جدة عشرين سفينة محملة بالبضائع الهندية (توابل ‪ ،‬أصباغ‪،‬‬
‫()‬
‫أنسجة) ‪. 3‬‬

‫وفاة السلطان سليم‪:‬‬

‫‪ )(1‬التيارات السياسية في الخليج العربي‪ ،‬ص ‪.98‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ العرب الحديث ‪ ،‬مجموعة من العلماء ‪ ،‬ص ‪.45،46‬‬
‫‪-252-‬‬
‫في التاسع من شوال سنة ست وعشرين وتسعمائة‪ ،‬ليلة السبت توفي السلطان سليم ‪-‬رحمه‬
‫ال‪ ،-‬فأخفى موته الوزراء‪ ،‬وأرسلوا يعلمون ولده السلطان سليمان‪ ،‬فلما وصل الى‬
‫القسطنطينية أعلنوا موت السلطان سليم‪ ،‬وصلوا عليه في جامع السلطان محمد‪ ،‬ثم حملوه‬
‫ودفنوه في محل قبره‪ ،‬وأمر السلطان سليمان خان ببناء جامع عظيم ‪ ،‬وعمارة لطعام الفقراء‬
‫صدقة على والده‪.‬‬
‫وكان رحمه ال عالما فاضلً ذكيا‪ ،‬حسن الطبع‪ ،‬بعيد الغور‪ ،‬صاحب رأي وتدبير وحزم‪،‬‬
‫وكان يعرف اللسنة الثلثة‪ :‬العربية والتركية والفارسية‪ ،‬ونظم نظاما بارعا حسنا‪ ،‬وكان دائم‬
‫الفكر في أحوال الرعية والمملكة‪ ،‬و َقهَر الملوك وأبادهم‪ ،‬ولما كان بمصر كتب على رخام في‬
‫حائط القصر الذي سكن فيه بخطه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫الملك ل من يظفر بنيل مني‬
‫يردده قهرا ويضمن بعده الدركا‬
‫لو كان لي أو لغيري قدر أنملة‬
‫فوق التراب لكان المر مشتركا‬
‫توفي رحمه ال تعالى وله من العمر أربع وخمسون سنة‪ ،‬وكانت مدة ملكه تسعة أعوام‬
‫()‬
‫وثمانية أشهر ‪. 1‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ السلطين آل عثمان للقرماني‪ ،‬ص ‪.40‬‬


‫‪-253-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫السلطان سليمان القانوني‬

‫ولد سليمان القانوني في مدينة (طرابزون) كان والده آنذاك واليا عليها اهتم به والده اهتماما‬
‫عظيما‪ ،‬فنشأ محبا للعلم والدب والعلماء والدباء والفقهاء‪ ،‬واشتهر منذ شبابه بالجدية والوقار‪،‬‬
‫أرتقى عرش السلطنة في السادسة والعشرين من عمره وكان متأنيا في جميع شؤونه ول يتعجل‬
‫()‬
‫في العمال التي يريد تنفيذها بل كان يفكر بعمق ثم يقرر واذا اتخذ قرارا ليرجع عنه ‪. 1‬‬

‫أولً‪ :‬الفتن التي واجهته في بداية حكمه‪:‬‬


‫ابتلى سليمان في السنوات الولى في عهده بأربع تمردات شغلته عن حركة الجهاد‪ ،‬حيث‬
‫ظن الولة الطموحون أن فرصة الستقلل بأقاليمهم حان وقتها‪ ،‬فقام جان بردى الغزالي والى‬
‫الشام بتمرد على الدولة وأعلن العصيان عليها وحاول أن يستولي على حلب إل أنه فشل في‬
‫ذلك وأمر السلطان سليمان بقمع الفتنة فقمعت وقطع رأس المتمرد جان بردى وأرسل الى‬
‫استنبول دللة على انتهاء التمرد‪.‬‬
‫وأما التمرد الثاني فقد قام به أحمد شاه الخائن في مصر وكان هذا عام ‪930‬هـ‪1524/‬م‬
‫وكان هذا الباشا طامعا في منصب الصدر العظم ولم يفلح في تحقيق هدفه‪ ،‬وطلب من‬
‫السلطان أن يعينه واليا على مصر فعينه‪ .‬وما أن وصل الى مصر حتى حاول استمالة الناس‬
‫وأعلن نفسه سلطانا مستقلً إل أن أهل الشرع وجنود الدولة العثمانية من النكشارية قاموا ضد‬
‫الوالي المتمرد وقتلوه وظل اسمه في كتب التاريخ مقرونا باسم الخائن‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون الكتاب المصور‪ ،‬ص ‪.51‬‬


‫‪-254-‬‬
‫والتمرد الثالث ضد خليفة المسلمين هو تمرد شيعي رافضي قام به بابا ذو النون عام ‪1526‬م‬
‫في منطقة يوزغاد حيث جمع هذا البابا مابين ثلثة آلف وأربعة آلف ثائر وفرض الخراج‬
‫على المنطقة‪ ،‬وقويت حركته حتى أنه استطاع هزيمة بعض القواد العثمانيين الذين توجهوا لقمع‬
‫حركته‪ ،‬وانتهت فتنة الشيعة هذه بهزيمة بابا ذو النون وأرسل رأسه الى استانبول‪.‬‬
‫والتمرد الرابع ضد الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني كان تمردا شيعيا رافضيا أيضا‬
‫وكان على رأسه قلندر جلبي في منطقتي قونية ومرعش وكان عدد أتباعه ‪ 30.000‬شعيا قاموا‬
‫بقتل المسلمين السنيين في هاتين المنطقتين‪ .‬ويقول بعض المؤرخين أن قلندر جلبي جعل شعاره‬
‫أن من قتل مسلما سنيا ويعتدي على امرأة سنية يكون بهذا قد حاز أكبر الثواب‪.‬‬
‫توجه بهرام باشا لقمع هذا العصيان فقتله العصاة‪ ،‬ثم نجحت الحيلة معهم إذ أن الصدر‬
‫العظم إبراهيم باشا قد استمال بعض رجال قلندر جلبي ‪ ،‬فقلت قواته وهزم وقتل‪.‬‬
‫بعد هذا هدأت المور في الدولة العثمانية وبدأ السلطان في التخطيط لسياسة الجهاد في‬
‫()‬
‫أوروبا ‪. 1‬‬

‫ثانيا‪ :‬فتح رودس‪:‬‬


‫كانت رودس جزيرة مشاكسة إذ كانت حصن حصين لفرسان القديس يوحنا الذين كانوا‬
‫يقطعون طريق الحجاج المسلمين التراك الى الحجاز‪ ،‬فضلً عن اعمالهم العدوانية الموجهة‬
‫لخطوط المواصلت البحرية العثمانية‪ ،‬فأهتم السلطان سليمان بفتحها وأعد حملة عظيمة ساعده‬
‫على تحقيقها عدة أمور‪:‬‬
‫‪ -1‬انشغال اوروبا بالحرب الكبرى بين شارل الخامس (كنت) ‪-‬امبراطور الدولة الرومانية‬
‫المقدسة وفرانسوا ملك فرنسا‪.‬‬
‫‪ -2‬عقد الصلح بين الدولة العثمانية والبندقية‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬د‪ .‬محمج حرب‪ ،‬ص ‪.91‬‬


‫‪-255-‬‬
‫‪ -3‬نمو البحرية العثمانية على عهد سليم الول‪.‬‬
‫وشن سليمان القانوني حربا كبيرة ضد رودس ابتداء من منتصف عام ‪1522‬م‪ ،‬وفتحها‬
‫وأعطى للفرسان حق النتقال منها‪ ،‬فذهبوا الى (مالطة) وهناك أعطاهم (شارك كنت) حق حكم‬
‫()‬
‫هذه الجزيرة ‪. 1‬‬

‫ثالثا‪ :‬قتال المجر وحصار فينا‪:‬‬


‫كان ملك المجر (فيلد يسلف الثاني جاجليو) قد عزم على فك أي تعهدات كانت قد اعطيت‬
‫من قبل اسلفه لسلطين الدولة العثمانية‪ ،‬وذهب الى حد قتل مبعوث السلطان سليمان إليه‪.‬‬
‫وكان المبعوث يطالب بالجزية السنوية المفروضة على المجر‪ .‬ولهذا رد سليمان في عام‬
‫‪1521‬م بغزوة كبيرة ضد المجر‪ ،‬ولكن استمرت المعارك حتى أحرز التراك انتصارهم‬
‫الكبير‪ ،‬في موقعة موهاكس عام ‪1526‬م‪ ،‬ودخل سليمان القانوني (بودا) في ‪ 11‬سبتمبر (أيلول)‬
‫عام ‪1526‬م واستمرت المقاومة الهنغارية رغم هذا‪ ،‬وتابع السلطان ضغطه حتى بلغت جيوشه‬
‫أسوار فينا عاصمة المبراطورية الرومانية المقدسة عام ‪1529‬م‪ ،‬إل أن طول خطوط‬
‫المواصلت وتحول (شارل كنت) من قتال فرانسوا الى التصالح معه للتفرغ لحرب العثمانيين‬
‫ولنقاذ عاصمة الهايسبورج جعل من المستحيل على سليمان القانوني فتح هذه العاصمة‪،‬‬
‫وتراجع عنها بينما استمر الصراع بين سليمان والقوى الوروبية المؤيدة لملك المجر من أجل‬
‫السيطرة على هذه المملكة حتى وفاة سليمان‪.‬‬
‫على أن أبرز حدث تاريخي في السياسة الخارجية العثمانية على عهد سليمان القانوني هو‬
‫()‬
‫علقته مع فرانسوا‪ ،‬تلك العلقة التي تحولت الى محالفة ‪. 2‬‬

‫رابعا‪ :‬سياسة التقارب العثماني الفرنسي‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الشعوب السلمية ‪ ،‬د‪.‬عبدالعزيزنوار‪.‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الشعوب السلمية ‪ ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪-256-‬‬
‫كان عهد السطان سليمان القانوني بمثل رأس الهرم بالنسبة لقوة الدولة العثمانية ومكانتها بين‬
‫دول العالم آنذاك‪ .‬ويعتبر عصر السلطان سليمان هو العصر الذهبي للدولة العثمانية‪ ،‬حيث‬
‫شهدت سنوات حكمه من‬
‫‪926-972‬هـ‪ ،‬الموافق ‪1566-1520‬م توسعا عظيما لم يسبق له مثيل‪ ،‬وأصبحت أقاليم الدولة‬
‫العثمانية منتشرة في ثلث قارات عالمية‪.‬‬
‫وكان لهذا البروز أثره على دول العالم المعاصرة وبالخص على دول أوروبا التي كانت‬
‫تعيش انقسامات سياسية ودينية خطيرة‪ ،‬ولهذا تنوعت مواقف الدول الوروبية من الدولة‬
‫العثمانية حسب ظروف كل دولة‪ .‬وكان تشارلز الخامس ملك المبراطورية الرومانية المقدسة‬
‫ينافس فرانسوا الول ملك فرنسا على كرسي الحكم للمبراطورية الرومانية‪ ،‬وكان البابا ليو‬
‫()‬
‫العاشر منافسا للراهب اللماني مارتن لوثر زعيم المقاومة البروتستانتية ‪. 1‬‬
‫وكانت بلغراد تعاني من اضطرابات داخلية بسبب صغر سن ملكها لويس الثاني مما أدى الى‬
‫()‬
‫نشوب النزاع بين المراء ‪. 2‬‬
‫ولهذا رأى فرانسوا الول أن يستغل مكانه وقوة الدولة العثمانية ويكسبها صديقا له‪ ،‬فوقف‬
‫منه موقف التودد والرغبة في الوفاق معتقدا أن الدولة العثمانية هي التي ستحد من طموحات‬
‫تشارلز الخامس وتوقفه عند حده‪ ،‬ومما يثبت هذا التوجه الفرنسي ماذكره للسفير الفينسي عندما‬
‫قال ‪(:‬سعادة السفير ليمكنني أن أنكر أنني أرغب بشدة في أن أرى التراك أقوياء جدا‬
‫ومستعدون للحرب ‪ ،‬ليس فقط لمصلحة السلطان العثماني الذاتية بل لضعاف قوة المبراطور‬
‫تشارلز الخامس وتكليفه غاليا‪ ،‬وإعطاء جميع الحكومات المن والمان ضد عدو عظيم كهذا‬
‫()‬
‫"المبراطور تشارلز" ‪. 3‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دراسات متميزة ‪ ،‬يوسف الثقفي‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.47‬‬
‫‪-257-‬‬
‫بدأت مفاوضات فرنسا مع الدولة العثمانية بعد معركة "بافيا" التي أسر فيها ملك فرنسا‬
‫"فرانسوا الول" عام ‪1525‬م‪ ،‬فأرسلت والدته والوصية على العرش مبعوثها "جون فرانجيباني"‬
‫ومعه خطاب منها وخطاب من الملك السير يطلبان فيهما مهاجمة قوات عائلة الهابسبرج‬
‫()‬
‫وإطلق سراح السير ‪. 1‬‬
‫وعلى الرغم من أن السير أطلق بموجب معاهدة تم عقدها في مدريد بين فرنسا وأسرة‬
‫الهابسبرج سنة ‪1526‬م‪ ،‬إل أن فرنسوا‪ ،‬بعد إطلق سراحه أرسل في عام ‪941‬هـ‪1535/‬م‬
‫()‬
‫سكرتيره "جان دي لفوريه" الى السلطان سليمان بهدف عقد تحالف في شكل معاهدة ‪ ، 2‬سُميت‬
‫فيما بعد بـ "معاهدة المتيازات العثمانية الفرنسية"‪ ،‬ونظرا لما ستكون عليه هذه المعاهدة من‬
‫أهمية كبرى بعد ذلك نورد هنا أهم نصوصها‪:‬‬
‫‪.1‬حرية التنقل والملحة في سفن مسلحة وغير مسلحة بحرية تامة‪.‬‬
‫‪.2‬حق التجارة والمتاجرة في كل أجزاء الدولة العثمانية بالنسبة لرعايا ملك فرنسا‪.‬‬
‫‪.3‬تدفع الرسوم الجمركية وغيرها من الضرائب مرة واحدة في الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪.4‬الضرائب التي يدفعها الفرنسيون في الدولة العثمانية هي نفسها التي يدفها الرعايا‬
‫التراك‪.‬‬
‫‪.5‬حق التمثيل القنصلي‪ ،‬مع حصانة قنصلية ولقاربه وللعاملين معه‪.‬‬
‫‪.1‬من حق القنصل الفرنسي النظر في القضايا المدنية والجنائية التي يكون أطرافها من رعايا‬
‫ملك فرنسا‪ ،‬وان يحكم في هذه القضايا وإنما للقنصل الحق في الستعانة بالسلطات المحلية لتنفيذ‬
‫أحكامه‪.‬‬
‫‪.2‬في القضايا المختلفة التي يكون أحد أطرافها رعية من رعايا السلطان العثماني ‪ ،‬ل يستدعي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.47‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.47‬‬
‫‪-258-‬‬
‫ول يستجوب رعية الملك الفرنسي ول يحاكم إل بحضور ترجمان القنصلية الفرنسية‪.‬‬
‫‪.3‬افادات رعية الملك في القضايا مقبولة ويؤخذ بها عند اصدار الحكم‪.‬‬
‫‪.4‬حرية العبادة لرعايا الملك‪.‬‬
‫‪.5‬منع استعباد رعية الملك‪.‬‬
‫وكان من نتائج هذه المعاهدة زيادة التعاون بين السطولين الفرنسي والعثماني وشن‬
‫السطول العثماني هجمات قوية على شواطئ مملكة نابولي التي كانت تابعة لـ"شارل كنت"‬
‫وفي عام ‪1543‬م تجمعت وحدات السطولين العثماني والفرنسي وهاجمت نسير التابعة لدوق‬
‫()‬
‫سافوي حليف شارل كنت ‪. 1‬‬
‫واستفادت فرنسا من تقاربها مع الدولة العثمانية عسكريا واقتصاديا وسياسيا واتخذت من‬
‫المعاهدة السابقة وسيلة لفتح أبواب التجارة مع المشرق دون الخضوع للحتكار التجاري الذي‬
‫فرضته البرتغال بعد اكتشافها طريق رأس الرجاء الصالح‪ ،‬كما حصلت بموجبها على الحق‬
‫الكامل في الحماية تحت علمها رعيا الدول الغربية الخرى‪ ،‬مما جعل لها مكانة مرموقة بين‬
‫دول الغرب الوروبي‪.‬‬
‫هذه المعاهدة بكل أسف لم يستفد منها رعايا الدولة العثمانية وكأنها عقدت فقط لتلبية المطالب‬
‫الغربية ‪ ،‬وتحقيق مصالح العداء دون مقابل يذكر وقد كانت هذه المعاهدة الساس الذي بني‬
‫عليه وسار على نهجه الكثير من المعاهدات التي عقدت فيما بعد بين الدولة العثمانية والدول‬
‫()‬
‫الوروبية بصفة عامة ‪. 2‬‬
‫لم يستطع ملك فرنسا ان يلتزم بالعهود مع الدولة العثمانية بسبب الرأي العام النصراني‪،‬‬
‫فيضطر الى التراجع ونقض العهود ثم يعود من جديد فيستجدي عطف وتأييد العثمانيين من‬
‫جديد فيثور عليه الرأي العام والحقيقة التاريخية تقول أنه ل يمكن للصليبيين أعداء السلم أن‬
‫يتخلى بعضهم عن بعض أمام تحدّيه القوى لهم وإن كانوا مختلفين ظاهريا تبعا للمصالح‬
‫والهواء‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.47‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية’‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪-259-‬‬
‫وإن أعداء السلم من الصليبيين الحقادين ل أحلف ول مواثيق لهم في تعاملهم مع‬
‫المسلمين كما يبين لنا ال عز وجل في كتابه الكريم‪ .‬وحينما تتبين لهم بادرة ضعف عند‬
‫المسلمين فإنهم سرعان مايقوى ساعدهم كي يجهزوا عليهم وهم في الوقت نفسه ليسمحون‬
‫لحاكم منهم مهما كان اتجاهه او وضعه أن يتعاون مع المسلمين وأنه مهما اختلفت المصالح فهم‬
‫()‬
‫جميعا يتفقون في محاربة هذا الدين وتقتيل أهله في كل زمان ومكان ‪. 1‬‬
‫لقد كانت تلك المتيازات التي أعطيت للدولة الفرنسية أول إسفين يدق في نعش الدولة‬
‫العثمانية ظهرت آثاره البعيدة فيما بعد‪.‬‬
‫وفي أواخر أيام الدولة العثمانية صارت دول أوروبا النصرانية تتدخل في شؤونها تحت‬
‫حماية المتيازات وللدفاع عن نصارى الدولة الذين كانوا يعدون رعايا للدول الجنبية وخاصة‬
‫()‬
‫في بلد الشام ‪. 2‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫الدولة العثمانية وشمال أفريقيا‬

‫كان من آثار التهجير الجماعي للمسلمين من الندلس ونزوح أعدادا كبيرة منهم الى الشمال‬
‫الفريقي حدوث العديد من المشكلت الجتماعية والقتصادية في وليات الشمال الفريقي ولما‬
‫كان من بين المسلمين النازحين الى هذه المناطق أعدادا وفيرة من البحارة‪ ،‬فكان من الضروري‬
‫أن تبحث عن الوسائل الملئمة لستقرارها‪ ،‬إل أن بعض العوامل قد توافرت لتدفع بأعداد من‬
‫هؤلء البحارة الى طريق الجهاد ضد القوى المسيحية في البحر المتوسط‪ .‬ويأتي في مقدمة هذه‬
‫السباب الدافع الديني بسبب الصراع بين السلم والنصرانية وإخراج المسلمين من الندلس‬
‫ومتابعة السبان والبرتغال للمسلمين في الشمال الفريقي‪.‬‬
‫وقد ظلت حركات الجهاد السلمي ضد السبان والبرتغاليين غير منظمة حتى ظهور‬
‫الخَوان خير الدين وعروج بربروسا واستطاعا تجميع القوات السلمية في الجزائر وتوجيها‬
‫نحو الهدف المشترك لصد اعداء السلم عن التوسع في موانئ ومدن الشمال الفريقي‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬علي حسون ‪،‬ص ‪.75‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.78 ،77‬‬
‫‪-260-‬‬
‫وقد اعتمدت هذه القوة السلمية الجديدة في جهادها أسلوب الكر والفر في البحر بسبب عدم‬
‫قدرتها في الدخول في حرب نظامية ضد القوى المسيحية من السبان والبرتغاليين وفرسان‬
‫القديس يوحنا‪ ،‬وقد حقق هؤلء المجاهدين نجاحا أثار قلق القوى المعادية‪ ،‬ثم رآو بنظرهم‬
‫الثاقب أن يدخلوا تحت سيادة الدولة العثمانية لتوحيد جهود المسلمين ضد النصارى الحاقدين‪.‬‬
‫وقد حاول المؤرخون الوروبيون التشكيك في طبيعة الحركة الجهادية في البحر المتوسط‬
‫ووصفوا دورها بالقرصنة وكذلك شككوا في أصل أهم قادتها وهما خيرالدين وأخوه عروج‬
‫المر الذي يفرض ضرورة إلقاء الضوء على دور الخوين وأصلهما‪ ،‬وأثر هذه الحركة على‬
‫الدور الصليبي في البحر المتوسط في زمن السلطان سليم والسلطان سليمان القانوني‪.‬‬

‫أولً ‪ :‬أصل الخوين عروج وخير الدين‪:‬‬


‫يرجع أصل الخوين المجاهدين الى التراك المسلمين وكان والدهما يعقوب بن يوسف من‬
‫()‬
‫بقايا الفاتحين المسلمين التراك الذين استقروا في جزيرة مدللي إحدى جزر الرخبيل ‪ . 1‬وأمهم‬
‫سيدة مسلمة أندلسية كان لها الثر على أولدها في تحويل نشاطهم شطر بلد الندلس التي‬
‫()‬
‫كانت تئن في ذلك الوقت من بطش السبان والبرتغاليين ‪ . 2‬وكان لعروج وخير الدين أخوان‬
‫مجاهدان هما إسحاق ومحمد إلياس ولقد استند المؤرخون المسلمون الى أصلهم السلمي الى‬
‫الحجج التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬ماذكره المؤرخ الجزائري "أحمد توفيق مدني" مستندا على أثرين مازال موجودين في‬
‫الجزائر أولهما رخامة منقوشة كانت موضوعة على باب حصن شرشال‪ ،‬وثانيهما رخامة كانت‬
‫على باب مسجد الشواس بالعاصمة الجزائرية‪ ،‬وقد نقش على الرخامة الولى‪( :‬بسم ال‬
‫الرحمن الرحيم وصلى ال على سيدنا محمد وآله‪ ،‬هذا برج شرشال أنشأه القائد محمود بن‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المغرب في بداية العصور الحديثة ‪ ،‬د‪ .‬صلح العقاد‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة بين الجزائر وأسبانيا‪ ،‬ص ‪.160،161‬‬
‫‪-261-‬‬
‫فارس التركي في خلفة المير الحاكم بأمر ال المجاهد في سبيل ال "أورج بن يعقوب" بإذنه‬
‫بتاريخ أربعة وعشرين بعد تسعمائة (‪1518‬م) ونقش على الرخامة الثانية ‪( :‬إسم "أوروج"بن‬
‫أبي يوسف يعقوب التركي")‪ .‬وهناك ثالثة مسجل عليها بعض ماشيده خير الدين في الجزائر‬
‫()‬
‫سنة ‪1520‬م ‪. 1‬‬
‫‪ -2‬إن اسم "عروج" ‪" -‬أوروج" مأخوذ من حادثة السراء والمعراج التي يرجح أنه ولد‬
‫()‬
‫ليلتها‪ ،‬وأن الترك ينطقونه "أوروج" ثم عرب الى "عروج" ‪. 2‬‬
‫‪ -3‬إن ماذكر عن الدور الذي لعبه الخوان يؤكد حرصهما على الجهاد في سبيل ال‬
‫ومقاومة أطماع أسبانيا والبرتغال في الممالك السلمية في شمالي أفريقيا ولقد أبدع الخوان في‬
‫الجهاد البحري ضد النصارى وأصبحت لحركة الجهاد البحري في القرن السادس عشر مراكز‬
‫مهمة في شرشال ووهران والجزائر ودلي وبجاية وغيرها في أعقاب طرد المسلمين من‬
‫الندلس ‪ ،‬وقد قويت بفعل انضمام المسلمين الفارين من الندلس والعارفين بالملحة وفنونها‬
‫()‬
‫والمدربين على صناعة السفن ‪. 3‬‬

‫ثانيا‪ :‬دور الخوين في الجهاد ضد الغزو النصراني‪:‬‬


‫اتجه الخوان عروج وخير الدين الى الجهاد البحري منذ الصغر‪ ،‬ووجها نشاطهما في البداية‬
‫الى بحر الرخبيل المحيط بمسقط رأسهما حوالي سنة ‪1510‬م‪ ،‬لكن ضراوة الصراع بين‬
‫القوى المسيحية في بلد الندلس وفي شمالي افريقيا بين المسلمين هناك‪ ،‬والذي اشتد ضراوة‬
‫في مطلع القرن السادس عشر‪ ،‬قد استقطب الخوين لينقل نشاطهما الى هذه المناطق وبخاصة‬
‫بعد أن تمكن السبان والبرتغاليون من الستيلء على العديد من المراكز والموانئ البحرية في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة بين الجزائر واسبانيا‪ ،‬ص ‪.160،161‬‬


‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬الدولة العثمانية العلية ‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.79،80‬‬
‫‪-262-‬‬
‫()‬
‫شمالي افريقيا ‪. 1‬‬
‫وقد حقق الخوان العديد من النتصارات على القراصنة المسيحين المر الذي أثار أعجاب‬
‫القوى السلمية الضعيفة في هذه المناطق ‪ ،‬ويبدو ذلك من خلل منح السلطان "الحفصي" لهم‬
‫حق الستقرار في جزيرة جربة التونسية وهو أمر عرضه لهجوم أسباني متواصل اضطره‬
‫لقبول الحماية السبانية بالضغط والقوة‪ ،‬كما يبدو من خلل استنجاد أهالي هذه البلد بهما‪،‬‬
‫وتأثيرهم داخل بلدهم مما أسهم في وجود قاعدة شعبية لهما تمكنهما من حكم الجزائر وبعض‬
‫المناطق المجاورة ويرى بعض المؤرخين أن دخول "عروج" وأخيه الجزائر وحكمهما لها لم‬
‫يكن بناءً على رغبة السكان‪ ،‬ويستند هؤلء الى وجود بعض القوى التي ظلت تترقب الفرص‬
‫لطرد الخوين والتراك المؤيدين لهما‪ ،‬لكن البعض الخر يرون أن وصول "عروج" وأخيه‬
‫كان بناءً على استدعاء من سكانها لنجدتهم من الهجوم السباني الشرس‪ ،‬وأن القوى البسيطة‬
‫التي قاومت وجودهما كانت تتمثل في بعض الحكام الذين أبعدوا عن الحكم أمام محاولت‬
‫الخوين الجادة في توحيد البلد حيث كانت قبل وصولهما أشبه بدولة ملوك الطوائف في‬
‫الندلس‪ ،‬وقد ساند أغلب أهل البلد محاولت الخوين واشتركت أعدادا كبيرة منهم في هذه‬
‫الحملت‪ ،‬كما ساندهما العديد من الحكام المحليين الذين شعروا بخطورة الغزو الصليبي‬
‫()‬
‫السباني ‪. 2‬‬
‫ويظهر دور الخوين المجاهدين بمحاولة تحرير بجاية من الحكم السباني سنة ‪1512‬م‪ ،‬وقد‬
‫نقل ‪-‬لهذا الغرض‪ -‬قاعدة عملياتها ضد القوات السبانية في ميناء جيجل شرقي الجزائر بعد‬
‫أن تمكنا من دخولها وقتل حماتها الجنوبيين سنة ‪1514‬م لكي تكون محطة تقوية لتحرير بجاية‬
‫من جهة ولمحاولة مساعدة مسلمي الندلس من جهة أخرى ويبدو أن الخوين قد واجها تحالفا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬علي حسون ‪،‬ص ‪.53‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المغرب في بداية العصور الحديثة‪ ،‬ص ‪.37،38‬‬
‫‪-263-‬‬
‫قويا نتج عنه العديد من المعارك النظامية وهو أمر لم يتعودوه لكن أجبروا عليه بفعل الستقرار‬
‫في حكم الجزائر‪ ،‬وزاد من حرج الموقف قتل "عروج" في إحدى المعارك سنة ‪1518‬م مما‬
‫اضطر خير الدين للبحث عن تحالف يعينه على الستقرار والمقامة ومواصلة الجهاد وكانت‬
‫الدولة العثمانية هي أقوى القوى المرشحة لهذا التحالف سواء لدورها البارز في ساحة البحر‬
‫()‬
‫المتوسط أم لن القوى المحلية في الشمال الفريقي كانت متعاطفة معها ‪. 1‬‬
‫وتتابع انتصاراتها على الساحة الوروبية منذ فتح القسطنطينية وأن التجاه لمحالفتها سيكسب‬
‫دور خير الدين مزيدا من التأييد من قبل هذه القوى‪ ،‬والى جانب ذلك فإن الدولة العثمانية قد‬
‫أبدت استجابة للمساعدة حين طلب منها الخوان ذلك‪ ،‬كما أبدت رغبتها في مزيد من المساعدة‬
‫لدوره وكذلك لبقايا المسلمين في الندلس‪ ،‬ومن منظور ديني أسهم في إكساب دورها تأييدا‬
‫()‬
‫جماهيريا وجعل محاولة التقرب منهما أو التحالف معهما عملً مرغوبا ‪. 2‬‬
‫ومن جهة أخرى كانت الظروف في الدولة العثمانية على عهد السلطان سليم الول مهيأة‬
‫لقبول هذا التحالف وبخاصة بعد أن اتجهت القوات العثمانية الى الشرق العربي‪ ،‬وكان من أبرز‬
‫أهدافها في هذا التجاه ‪-‬كما سبق التوضيح‪ -‬هو التصدى لدور البرتغاليين والسبان وفرسان‬
‫القديس يوحنا في المنطقة ‪ ،‬وكان من المنطقي التحالف مع أي من القوى المحلية التي تعينها‬
‫()‬
‫على تحقيق هذه الهداف ‪. 3‬‬

‫ثالثا‪ :‬التحالف مع العثمانيين‪:‬‬


‫اختلف علماء التاريخ حول بداية التحالف بين العثمانيين والخوين عروج خيرالدين ‪ ،‬فتذكر‬
‫بعض المراجع أن السلطان سليم الول كان وراء إرسالهم الى الساحل الفريقي تلبية لطلب‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة إسلمية مفتر عليها (‪.)2/902‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة إسلمية (‪.)2/902‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪-264-‬‬
‫المساعدة من سكان الشمال الفريقي وعملً على تعطيل أهداف البرتغاليين والسبان في منطقة‬
‫البحر المتوسط‪ .‬وعلى الرغم من عدم تداول هذه الرواية بين المؤرخين إل أنها توضح أن‬
‫()‬
‫العثمانيين لم يكونوا بمعزل عن الحداث التي تدور على ساحة البحر المتوسط ‪. 1‬‬
‫ويرجع بعض المؤرخين التحالف بين الجانبين الى سنة ‪1514‬م في أعقاب فتح عروج وخير‬
‫لميناء "جيجل" حيث ارسل الخوان الى السلطان سليم الول مجموعة من النفائس التي استوليا‬
‫عليها بعد فتح المدينة‪ ،‬فقبلها السلطان ورد لهما الهدية بإرسال أربع عشر سفينة حربية مجهزة‬
‫( ‪)2‬‬
‫وكان هذا الرد من السلطان العثماني يعكس رغبته في استمرار نشاط دور‬ ‫بالعتاد والجنود‬
‫الخوين ودعمه‪ .‬على أن بعض المؤرخين يذكرون أن الدعم العثماني لهذه الحركة كان في‬
‫أعقاب وفاة "عروج" سنة ‪1518‬م وبعد عودة السلطان العثماني من مصر الى استانبول سنة‬
‫()‬
‫‪1519‬م ‪. 3‬‬
‫على أن الرأي الكثر ترجيحا أن التصالت بين العثمانيين وهذه الحركة كان سابقا لوفاة‬
‫عروج وقبل فتح العثمانيين للشام ومصر‪ ،‬وذلك يرجع الىأن الخوين كانا في أمس الحاجة‬
‫لدعم أو تحالف مع العثمانيين بعد فشلهما في فتح "بجاية" ‪ ،‬كما أنهما حوصروا في "جيجيل" بين‬
‫الحفصيين الذين أصبحوا من أتباع السبان وبين "سالم التومي" حاكم الجزائر الذي ارتكز حكمه‬
‫على دعم السبان له هو الخر‪ ،‬فضلً عن قوة السبان وفرسان القديس يوحنا التي تحاصرهم‬
‫في البحر؛ فكان لوصول الدعم العثماني أثره على دعم دورهما وشروعهما في دخول الجزائر‬
‫برغم هذه العوامل حيث اتفق العثمانيون مع الخوين على ضرورة السراع بدخولهما قبل‬
‫القوات السبانية لموقعها الممتاز من ناحية ولكي يسبقوا السبان إليها‪ ،‬لتخاذها قاعدة لتخريب‬
‫الموانئ السلمية الواقعة تحت الحتلل السباني كبجابة وغيرها من ناحية اخرى‪.‬‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪.)2/909‬‬
‫‪-265-‬‬
‫وقد تمكن عروج من دخول الجزائر بفضل هذا الدعم وقتل حاكمها بعد أن تأكد من مساعيه‬
‫للستعانة بالقوات السبانية‪ ،‬كما تمكن من دخول ميناء شرشال‪ ،‬واجتمع له المر في الجزائر‬
‫وبويع في نفس السنة التي هزمت فيها القوات المملوكية أمام القوات العثمانية في الشام سنة‬
‫()‬
‫‪1516‬م في موقعة مرج دابق ‪. 1‬‬
‫ولم يكن من الممكن للخوين أن يقوما بهذه الفتوحات لول تشجيع السلطان العثماني ودعمه‬
‫الى جانب دعم شعوب المنطقة وقد سبق أن فشل من دخول بجاية أمام نفس القوات‬
‫()‬
‫المعادية ‪. 2‬‬
‫بعد أن بويع "خير الدين" في الجزائر في أعقاب ماحققه من انتصارات على السبان‬
‫والزعماء المحليين المتحالفيين معهم أصبح محط آمال كثير من الوليات والموانئ التي كانت‬
‫مازالت خاضعة سواء للسبان أو لعملئهم ‪ ،‬وكان أول الذين طلبوا نصرته أهل تلمسان‪ .‬ومع‬
‫أن استنجاد الهالي كان من الممكن أن يكون كافيا لتدخل "خير الدين" إل أن موقع تلمسان‬
‫الستراتيجي الذي كان يجعل وجود "خير الدين" في الجزائر غير مستتب قد جعله يفكر في‬
‫()‬
‫التدخل قبل أن يطلب الهالي نجدته‪ ،‬وأن مطالبهم قد دعته للتعجيل بذلك ‪. 3‬‬
‫وأعد "خير الدين" جيشا كبيرا زحف به الى تلمسان سنة ‪1517‬م‪ ،‬وأمن الطريق إليها‪ .‬وبعد‬
‫أن نجح في السيطرة عليها تمكن السبان ‪ ،‬وعملؤهم من بني حمود‪ ،‬من استعادتها ولقي أحد‬
‫إخوة "خير الدين" حتفه وهو "اسحاق" ‪ ،‬كما قتل "عروج" وكثيرون من رجاله أثناء حصارهم‬
‫للمدينة ذلك الحصار الذي أمتد لستة أشهر أو يزيد أمتد حتى سنة ‪1518‬م‪.‬‬
‫وقد تركت هذه الحداث أثرا بالغا في نفس خير الدين مما دفعه الى التفكير في ترك الجزائر‬
‫لول أن أهلها ألحو عليه بالبقاء‪ .‬وكانت موافقته على البقاء تفرض عليه ضرورة بذلك المزيد‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة بين الجزائر واسبانيا‪ ،‬ص ‪.175 ،174‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫‪-266-‬‬
‫من الجهد خشية أن يهاجمه السبان ومؤيديهم‪ ،‬كما أن ذلك قد أدى الى أتجاهه الى مزيد من‬
‫الرتباط بالدولة العثمانية‪ ،‬وبخاصة بعد أن والت لها مصر والشام‪ ،‬فكان ذلك يؤكد احتياج‬
‫()‬
‫الجانبين الى مزيد من الرتباط بالخر ‪. 1‬‬

‫رابعا‪ :‬سكان مدينة الجزائر يرسلون رسالة استغاثة للسلطان سليم الول‪:‬‬
‫قام الستاذ الدكتور عبدالجليل التميمي بترجمة وثيقة تركية محفوظة في دار المحفوظات‬
‫التاريخية باستنبول ‪-‬طوب قابي سيراى‪ -‬تحت رقم ‪ ،4656‬وهذه الوثيقة عبارة عن رسالة‬
‫موجهة من سكان بلدة الجزائر على اختلف مستوياتهم ومؤرخة في أوائل شهر ذي القعدة عام‬
‫‪925‬هـ‪ ،‬في الفترة من ‪26‬من شهر اكتوبر (تشرين الول) الى ‪ 3‬من شهر نوفمبر (تشرين‬
‫الثاني) عام ‪1519‬م‪ ،‬وكتبت بأمر من خير الدين الى السلطان سليم بعد عودته من مصر والشام‬
‫الى استانبول وكان الغرض من تلك الرسالة ربط الجزائر بالدولة العثمانية‪ .‬وجاء في الرسالة‬
‫أن خير الدين كان شديد الرغبة في ان يذهب بنفسه الى استانبول ليعرض على السلطان سليم‬
‫الول شخصيا ابعاد قضية الجزائر‪ .‬ولكن زعماء مدينة الجزائر توسلوا إليه أن يبقى فيها كي‬
‫يستطيع مواجهة العداء إذا تحركوا‪ .‬وطلبوا منه أن يرسل سفارة تقوم بالنيابة عنه وكانت‬
‫الرسالة التي حملتها البعثة موجهة باسم القضاة والخطباء والفقهاء والئمة والتجار والعيان‬
‫وكافة سكان مدينة الجزائر العامرة‪ ،‬وهي تفيض بالولء العميق للدولة العثمانية وكان الذي‬
‫يتزعم السفارة "الفقيه العالم الستاذ أبو العباس احمد بن قاضي" وكان من أكبر علماء الجزائر ‪،‬‬
‫كما كان قائدا عسكريا وزعيما سياسيا وكان بمقدوره أن يصور أوضاع بلده والخطار التي‬
‫تحيط بها من كل جانب‪.‬‬
‫لقد أشاد الوفد بجهاد بابا عروج في مدافعة الكفار وكيف كان ناصرا للدين وحاميا للمسلمين‬
‫وتكلموا عن جهاده حتى وقع شهيدا في حصار السبانيين لمدينة تلمسان وكيف خلفه أخوه‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.86‬‬


‫‪-267-‬‬
‫"المجاهد في سبيل ال أبو التقى خير الدين‪ .‬وكان له خير خلف فقد دافع عنا ‪ ،‬ولم نعرف منه‬
‫إل العدل والنصاف واتباع الشرع النبوي الشريف‪ ،‬وهو ينظر الى مقامكم العالي بالتعظيم‬
‫والجلل‪ ،‬ويكرس نفسه وماله للجهاد لرضاء رب العباد وأعلء كلمة ال ومناط آماله سلطنتكم‬
‫العالية مظهرا إجللها وتعظيمها‪ .‬على أن محبتنا له خالصة ونحن معه ثابتون ونحن وأميرنا‬
‫خدام أعتابكم العالية‪ .‬وأهالي أقليم بجاية والغرب والشرق في خدمة مقامكم العالي وإن المذكور‬
‫حامل الرسالة المكتوبة سوف يعرض على جللتكم مايجري في هذه البلد من الحوادث‬
‫()‬
‫والسلم) ‪. 1‬‬
‫إن الرسالة السابقة تبين للباحث آراء الجزائريين تجاه الدولة العثمانية وكان من تلك الراء‪:‬‬
‫‪ -‬أن خير الدين يمثل الحاكم المسلم المثل في شمال افريقية‪ ،‬فهو يحترم وينفذ مبادئ‬
‫الشريعة السلمية ويتخذ من العدل شرعة ومنهاجا له في الحكم ‪.‬‬
‫‪ -‬أن نشاطه يتركز في قيادة عمليات الجهاد ضد النصارى‪.‬‬
‫‪ -‬أنه يكن للدولة العثمانية وسلطانها كل تقدير واحترام‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -‬تدل الرسالة على تماسك الجبهة الداخلية ووضوح الهدف أمام مسلمي الجزائر ‪. 2‬‬

‫خامسا‪ :‬استجابة السلطان سليم الول لهل الجزائر‪:‬‬


‫سارع السلطان سليم الى منح رتبة بكلر بك الى خير الدين بربروس وأصبح القائد العلى‬
‫للقوات المسلحة في اقليمه ممثلً للسلطان وبذلك أصبحت الجزائر تحت حكم الدولة العثمانية‬
‫وأصبح أي اعتداء خارجي على أراضيها يعتبر اعتداء على الدولة العثمانية ودعم السلطان‬
‫سليم هذا القرار بقرارات تنفيذية‪ ،‬إذ أرسل الى الجزائر قوة من سلح المدفعية‪ ،‬وألفين من‬
‫الجنود النكشارية ومنذ ذلك الوقت (‪1519‬م) بدأ النكشاريون يظهرون في الحياة السياسية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية ( ‪.)2/910‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)2/911‬‬
‫‪-268-‬‬
‫والعسكرية في القاليم العثمانية في شمال افريقيا وأصبحوا عنصرا بارزا ومؤثرا في سير‬
‫الحداث بعد أن كثر إرسالهم الى تلك القاليم‪ ،‬وأذن السلطان سليم لمن يشاء من رعاياه‬
‫المسلمين في السفر الى الجزائر والنخراط في صفوف المجاهدين وقرر منح المتطوعين الذين‬
‫يذهبون الى الجزائر المتيازات المقررة للفيالق النكشارية تشجيعا لهم على النضمام الى‬
‫كتائب المجاهدين ولقد هاجر سكان الناضول الى الجزائر شوقا الى عمليات الجهاد ضد‬
‫النصارى ولقد ترتب على القرارات التي اصدرها السلطان سليم الول عدة نتائج هامة كان من‬
‫بينها‪:‬‬
‫‪ -1‬دخول الجزائر رسميا تحت السيادة العثمانية اعتبارا من عام ‪1519‬م ودعي للسلطان‬
‫سليم على المنابر في المساجد وضربت العملة باسمه‪.‬‬
‫‪ -2‬إن إرسال القوات العثمانية جاء نتيجة استغاثة أهل بلدة الجزائر بالدولة العثمانية‬
‫واستجابة لرغبتهم فلم يكن دخول القوات العثمانية غزوا أو فتحا عسكريا ضد رغبة أهل البلد‪.‬‬
‫‪ -3‬إن إقليم الجزائر كان أول أقليم من أقاليم شمال أفريقيا يدخل تحت السيادة العثمانية ‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكانت حريصة‬ ‫وأصبحت الجزائر ركيزة لحركة جهاد الدولة العثمانية في البحر المتوسط‬
‫على امتداد نفوذها بعد ذلك الى كل اقاليم الشمال الفريقي لتوحيده تحت راية السلم والعمل‬
‫على تخليص مسلمي الندلس من العمال الوحشية التي كان يقوم بها السبان النصارى‪.‬‬
‫لقد كان زمن السلطان سليم البداية المتواضعة لمد النفوذ العثماني الى أقاليم شمال أفريقية من‬
‫أجل حماية السلم والمسلمين وواصل ابنه سليمان ذلك المشروع الجهادي‪.‬‬
‫لقد استجاب السلطان العثماني سليم لنداء الجهاد من أخوة الدين وشرعت الدولة العثمانية في‬
‫انشاء أسطول ثابت لهم في شواطئ شمال أفريقيا والذي ارتبط منذ البداية باسم الخوين عروج‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪.)2/912‬‬


‫‪-269-‬‬
‫()‬
‫وخير الدين بربروسة ‪. 1‬‬

‫سادسا‪ :‬التحديات التي أمام خير الدين‪:‬‬


‫كان أمام خير الدين بربروس في وضعه السياسي والعسكري الجديد أن يحارب على‬
‫جبهتين‪:‬‬
‫‪ -1‬الجبهة السبانية لطرد السبانيين من الجيوب التي أقاموها فضم إليه عنابة وقالة في‬
‫شرقي الجزائر وحقق انتصارا باهرا على السبانيين حين استولى عام ‪1529‬م على حض‬
‫بينون السباني على الجزيرة المواجهة لبلدة الجزائر وقد كان قد استمر يقصف الحصن بقذائف‬
‫مدافعه طوال عشرين يوما حتى تداعت جوانبه‪ ،‬ثم اقتحم الحصن مع قوات كثيفة العدد كانت‬
‫تحملها خمس وأربعون سفينة جاءت من الساحل وأسر قائد الحصن مع كبار ضباطه‪.‬‬
‫إن استيلء خير الدين على البينون سنة ‪1529‬م يعد بداية تأسيس ما عرف باسم نيابة‬
‫الجزائر ومنذ ذلك التاريخ أصبح ميناء الجزائر عاصمة كبرى للمغرب الوسط بل ولكل شمال‬
‫افريقية العثمانية فيما بعد‪ .‬وبدأ استخدام مصطلح الجزائر للدللة على إقليم الجزائر حتى نهاية‬
‫القرن الثامن عشر‪.‬‬
‫‪ -2‬الجبهة الداخلية وكانت تتمثل في محاولة توحيد المغرب الوسط التي لم تخلوا من‬
‫مؤامرات بني زيان والحفصيين ومن بعض القبائل الصغيرة ولكنه استطاع مد منطقة نفوذه‬
‫باسم الدولة العثمانية ودخلت المارات الصغيرة تحت السيادة العثمانية لكي تحتمي بهذه القوة‬
‫من الطماع الصليبية السبانية ومن قهرها على اعتناق النصرانية ومالبث أن مد خير الدين‬
‫()‬
‫النفوذ العثماني الى بعض المدن الداخلية الهامة مثل القسطنطينية ‪. 2‬‬
‫لقد نجح خيرالدين في وضع دعامات قوية لدولة فتية في الجزائر وكانت المساعدات‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المشرق العربي والمغرب العربي ‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز قائد‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪.)2/913‬‬
‫‪-270-‬‬
‫العثمانية تصله بإستمرار من السلطان سليمان القانوني واستطاع خير الدين أن يوجه ضرباته‬
‫القوية للسواحل السبانية وكانت جهوده مثمرة في انقاذ آلف المسلمين من اسبانيا فقد قام عام‬
‫‪936‬هـ‪1529/‬م بتوجيه ست وثلثون سفينة خلل سبع رحلت الى السواحل السبانية للدولة‬
‫العثمانية في الحوض الغربي للبحر المتوسط وبفضل ال ثم مساعدات الدولة العثمانية وموارد‬
‫خزينة الجزائر المتنوعة من ضرائب وسبي ومغانم وزكاة والعشر والجزية والفيء والخراج‬
‫ومايقوم به الحكام ورؤساء القبائل والعشائر من دفع العوائد وغيرها أصبحت دولة الجزائر لها‬
‫()‬
‫قاعدة اقتصادية قوية ‪. 1‬‬
‫لقد تضررت اسبانيا من نجاح خير الدين في الشمال الفريقي وكانت إسبانيا يتزعمها شارل‬
‫الخامس إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة والتي كانت تضم وقتذاك إسبانيا وبلجيكا وهولندا‬
‫وألمانيا والنمسا وإيطاليا وكانت الدولة الرومانية المقدسة تدافع عن أوربا المسيحية الخطر‬
‫العثماني نحو شرق ووسط أوربا‪ ،‬لذا يمكن القول بأن الصراع بين شارل الخامس وبين‬
‫ببليربكية الجزائر كان بمثابة فتح جبهة حربية جديدة ضد الدولة العثمانية في الشمال الفريقي‪،‬‬
‫لذلك لم يكتف شارل بالهجوم المفاجئ على سواحل الجزائر‪ ،‬بل أرسل مبعوثا للتجسس في‬
‫شمال افريقيا سنة ‪940‬هـ ‪1533 /‬م وهو الضابط ( أوشوا دوسل ) الذي طاف بأنحاء تونس‬
‫وهناك وجد استعداد الحفصيين للتعاون مع شارل الخامس‪ ،‬وحذر من امتداد النفوذ العثماني‬
‫على تونس‪ ،‬وذكر أن هذا الستيلء سيسهل على العثمانيين السيطرة على افريقيا‪ ،‬ثم يتجهون‬
‫بعد ذلك لسترداد الندلس‪ ،‬وهذا مايخشاه العالم المسيحي‪.‬‬
‫كانت سياسة المملكة الحفصية في تونس تسير نحو انحطاط مستمر‪ ،‬كان السلطان الحفصي‬
‫الحسن بن محمد قد أساء السيرة في البلد وقتل عددا من أخوته‪ ،‬فاضطربت الحوال في تونس‬
‫وخرج البعض عن طاعة السلطان الحفصي‪ ،‬وكان أخو الحسن المسمى بالمير الرشيد قد هرب‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لنقاذ الندلس‪ ،‬د‪ .‬نبيل عبدالحي‪ ،‬ص ‪.311‬‬
‫‪-271-‬‬
‫من أخيه خوفا من القتل ولجأ عند العرب في البادية‪ ،‬ثم ذهب إلى خير الدين في الجزائر‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬فمنحه ذلك خير الدين‪ ،‬الذي كان مركزا اهتمامه على‬ ‫وطلب منه الحماية والعون ضد أخيه‬
‫تونس بسبب ضعف الحفصيين والخلفات الداخلية التي مزقت السرة الحفصية‪ ،‬كما كان‬
‫لتونس في نظره أهمية استراتيجية كبيرة لشرافها على المضيق الصقلي بحيث تسمح له‬
‫السيطرة عليها في تحديد وقطع المواصلت بين حوضي المتوسط الشرقي والغربي بالضافة‬
‫إلى رغبة خير الدين في توحيد بلد المغرب تحت حكم الدولة العثمانية ليتمكنوا من استرداد‬
‫()‬
‫الندلس ‪. 2‬‬

‫سابعا‪ :‬سفر خير الدين إلى استنبول‬


‫عزم السلطان سليمان القانوني بعد أن استولى على بلغراد‪ ،‬السفر بسائر جنوده إلى اسبانيا‬
‫للستيلء عليها‪ ،‬وبدا للسلطان سليمان‪ ،‬أنه لبد له من رجل يعتمد عليه في دخول تلك البلد‬
‫على أن يكون عالما بأحوالها فوقع اختياره على خير الدين لما يعرفه عنه من شجاعة وإقدام‪،‬‬
‫وكثرة هجومه على تلك النواحي‪ ،‬وما فتحه من بلد العرب في الشمال الفريقي وكيف أقر‬
‫الحكم العثماني فيها‪ ،‬فوجه إليه خطابا يطلبه فيه إلى حضرته ويأمره باستنابة بعض من يأمنه‬
‫في الجزائر‪ ،‬وأن لم يجد من يصلح لذلك‪ ،‬يبعث إليه السلطان نائبا وبعث ذلك الخطاب مع رجل‬
‫يدعى سنان جاوشي‪ ،‬فوصل الجزائر‪ ،‬وأوصل خطاب السلطان إلى خير الدين فقبله ووضعه‬
‫فوق رأسه ولما قرأه وعلم ما فيه نصب ديوانا عظيما‪ ،‬وأحضر كافة العلماء والمشايخ وأعيان‬
‫البلد‪ ،‬وقرأ عليهم خطاب السلطان‪ ،‬الذي وجهه إليهم وأعلمهم أنه ليمكنه التخلف عن أمره‪،‬‬
‫وعندما سمع اندريا دوريا زعيم السطول النصراني في البحر المتوسط بما عزم السلطان عليه‬
‫من فتح اسبانيا واستقدام خير الدين من الجزائر لذلك‪ ،‬أراد أن يشغل خير الدين من سفره إلى‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لنقاذ الندلس ‪ ،‬د‪.‬نبيل عبدالحي ‪،‬ص ‪.311‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه ‪،‬ص ‪.315‬‬
‫‪-272-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬وأشاع بين السرى المسيحيين في الجزائر‪ ،‬عن عزم الحكومة السبانية‬ ‫حضرة السلطان‬
‫في الهجوم على الجزائر‪ ،‬وتخليصهم من السر‪ ،‬ففرح السرى السبان لذلك الخبر وتمردوا‬
‫على خير الدين‪ ،‬الذي رأى أن من المصلحة العامة اعدام اولئك السرى ليأمن غائلتهم‪ ،‬ثم قام‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫بتقوية الستحكامات في الجزائر وزاد من عدد القلع مظهرا أتم الطاعة للسلطان‬
‫عزم خير الدين على السفر الى استنابول ‪940‬هـ ‪1533 /‬م‪ ،‬وعين مكانه حسن آغا‬
‫()‬
‫الطوشي‪ ،‬وكان رجلً عاقلً وصالحا‪ ،‬صاحب علم واسع ‪. 3‬‬
‫أبحر خير الدين شرقا في البحر المتوسط وبرفقته أربع وأربعين سفينة وهزم في طريقه‬
‫( ‪)4‬‬
‫‪ ،‬واستمر خير الدين في رحلته ووصل‬ ‫فرقة من اسطول آل هابسبرج بالقرب من المورة‬
‫إلى مدينة بيروازن‪ ،‬وفرح أهالي المدينة لمقدمه وكانوا خائفين من هجوم اندريا دوريا‪ ،‬الذي‬
‫ابتعد عندما سمع بمقدم خير الدين‪ ،‬ثم واصل خير الدين سفره‪ ،‬ورست مراكبه في قلعة اوارين‬
‫" انا وارنيه " ‪ ،‬فصادف هنالك اسطولً للسلطان سليمان القانوني وفرحوا بذلك‪ ،‬ثم خرجوا‬
‫جميعا حتى وصلوا إلى قرون‪ ،‬ثم كتب خير الدين إلى السلطان يعلمه بوصوله ويستأذنه بالقدوم‬
‫( ‪)5‬‬
‫‪ ،‬اقلع خير الدين من قرون‬ ‫على حضرته‪ ،‬فوجه إليه السلطان خطابا يستحثه بالقدوم عليه‬
‫ولم يزل مسافرا حتى وصل إلى استانبول ورسا بها ورموا بالمدافع كما هي العادة في ذلك‪،‬‬
‫ومثل خير الدين بحضرة السلطان ووقف بين يديه‪ ،‬فأمر بأن يخلع عليه وعلى خواص أصحابه‬
‫( ‪)6‬‬
‫‪ ،‬ومنحه‬ ‫الجرايات الوافرة‪ ،‬وأنزلهم بقصر من قصوره وفوض إليه النظر في دار الصناعة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬سيرة خير الدين باشا‪ ،‬عبدالقادر عمر‪ ،‬ق ‪ 48‬أ ‪48‬ب‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حقائق الخبار عن دول البحار‪ ،‬اسماعيل سر هنك (‪.)1/361‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬فتوحات خير الدين ‪ ،‬محمد أمين ق ‪270‬أ‪.270 ،‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لنقاذ الندلس‪ ،‬ص ‪.316‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.316‬‬
‫‪ )(6‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.316‬‬
‫‪-273-‬‬
‫لقب قبودان باشا وزير بحرية ‪ -‬حتى تظل له السلطة الكاملة لمساندة النظام في الجزائر لتحقيق‬
‫هدف الدولة في استعادة الندلس‪.‬‬
‫كان الصدر العظم في ذلك الوقت بمدينة حلب‪ ،‬فسمع بقدوم خير الدين على السلطان وقد‬
‫كانت أنباء غزواته ونكايته بالمسيحيين تصل إليه‪ ،‬فاشتاق إلى لقاء خير الدين‪ ،‬فوجه خطابا‬
‫للسلطان يلتمس منه أن يوجه إليه خير الدين لمقابلته فأرسل السلطان إلى خير الدين مخبرا عن‬
‫رغبة الصدر العظم فأجابه خير الدين بالموافقة‪ ،‬وسافر خير الدين متوجها إلى حلب‪ ،‬واحتفل‬
‫الصدر العظم بمقدم خير الدين في حلب وأنزله في بعض القصور المهيبة‪ ،‬وفي اليوم الثاني‬
‫من وصول خير الدين‪ ،‬وصل مبعوث من قبل السلطان ومعه خلعة وأمر بمقتضاه أن خير الدين‬
‫من وزراء السلطان‪ ،‬ويلبس الخلعة فنصب الديوان العظم وألبسوه خلعة الوزارة واحتفل به‬
‫احتفالً مهيبا‪ ،‬وأكرم إكراما عظيما لما قدمه من خدمات للسلم والمسلمين في حوض البحر‬
‫المتوسط‪.‬‬
‫ثم رجع خير الدين إلى استنبول وأكرمه السلطان سليمان غاية الكرام وشرع خير الدين في‬
‫()‬
‫النظر في أمر دار الصناعة كما رسم له السلطان ‪. 1‬‬
‫وبعد أن تم إعداد السطول العثماني الجديد خرج خير الدين بربروسا بأسطوله القوي من‬
‫الدردنيل متجها نحو سواحل ايطاليا الجنوبية‪ ،‬فاستطاع أن يأسر الكثير منها‪ ،‬وأغار على مدنها‬
‫()‬
‫وسواحلها‪ ،‬ثم اتجه نحو جزيرة صقلية‪ ،‬فاسترجع كورون وليبانتو ‪ ، 2‬كان السلطان سليمان قد‬
‫تشاور مع خير الدين بربروسا بأهمية تونس وضرورة دخولها في إطار استراتيجية الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬لتحقيق هدفها نحو استرداد الندلس‪ ،‬وتأتي أهمية تونس بالنسبة للدولة من حيث‬
‫موقعها الجغرافي إذ تقع في منتصف الساحل الشمالي لفريقيا‪ ،‬وتوسطها بين الجزائر‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪ ،‬ص ‪.317‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬ليبيا بين الماضي والحاضر‪ ،‬حسن سليمان محمود‪ ،‬ص ‪.166‬‬
‫‪-274-‬‬
‫وطرابلس‪ ،‬ولقربها من إيطاليا التي تعتبر أحد جناحي المبراطورية الرومانية المقدسة‪ ،‬بينما‬
‫يمثل الجناح الخر اسبانيا‪ ،‬علوة على ذلك مجاورتها لجزيرة مالطة مقر فرسان القديس يوحنا‬
‫حلفاء المبراطور شارل الخامس‪ ،‬وأشد الطوائف المسيحية عداوة للمسلمين ثم المكانيات‬
‫الهائلة التي تتيحها موانئ تونس في التحكم في المواصلت البحرية في البحر المتوسط وهكذا‬
‫()‬
‫تضافرت تلك العوامل على اضفاء الهمية العسكرية على تونس ‪. 1‬‬
‫كانت المرحلة الثانية بالنسبة لخير الدين بعد هجومه على السواحل الجنوبية ليطاليا وجزيرة‬
‫صقلية هي تونس‪ ،‬وذلك لتنفيذ خطة الدولة‪ ،‬والتي تقتضي تطهير شمال افريقيا من السبان‬
‫كمقدمة لستعادة الندلس‪ ،‬إذ سبق وأن أشار خير الدين بربروسا على السلطان سليمان القانوني‬
‫في خطابه للسلطان الذي بعثه قبيل استدعاء السلطان له في ‪940‬هـ ‪1533 /‬م‪ ،‬إذ قال فيه "‬
‫‪ ...‬إن هدفي إذا قدر لي شرف الشتراك هو طرد السبان في أقصر وقت من أفريقيا‪ ،‬ومن‬
‫الممكن أن تسمع بعد ذلك أن المغاربة قد أغاروا على السبان من جديد ليستعيدوا مملكة‬
‫قرطاجة وأن تونس قد أصبحت تحت سلطانك أنني ل أبغي من وراء ذلك أن أحول بينك وبين‬
‫توجيه قواتك ناحية المشرق كل ‪ ...‬لن هذا لن يحتاج لكل ما تملك من قوات ولسيما أن‬
‫حروبك في آسيا أو أفريقيا تعتمد أكثر ما تعتمد على قوات برية‪ ،‬أما هذا الجزء الثالث من‬
‫العالم فإن كل ما أطلبه هو جزء من أسطولك وسيكون ذلك كافيا‪ ،‬لن هذا الجزء يجب أن‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫يخضع لسلطانك أيضا ‪...‬‬
‫وصل السطول العثماني تحت قيادة خير الدين إلى السواحل التونسية فعرج على مدينة‬
‫عنابة‪ ،‬وتزود ببعض المدادات‪ ،‬ثم تقدم نحو بنزرت ثم اتجه إلى حلق الواد‪ ،‬إذ تمكن منها‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪ ،‬واستقبل خير الدين من قبل الخطباء والعلماء‪ ،‬وأكرموه وتوجهوا إلى تونس‬ ‫بدون صعوبة‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)916-2/915‬‬
‫‪ )(2‬فتح العثمانيين عدن‪ ،‬محمد عبداللطيف البحراوي ‪ ،‬ص ‪.127‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.230‬‬
‫‪-275-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬ثم عين خير الدين‬ ‫في نفس الوقت وهرب السلطان الحفصي الحسن بن محمد إلى اسبانيا‬
‫الرشيد أخو الحسن بن محمد على تونس‪ ،‬وأعلن ضم تونس للملك العثمانية‪ ،‬في وقت بدت‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫فيه سيادة العثمانيين في حوض البحر المتوسط الغربي‬

‫ثامنا‪ :‬أثر جهاد خير الدين على المغرب القصى‬


‫استفاد السلطان أحمد العرج السعدي من الجهود التي بذلتها الدولة العثمانية والشعب‬
‫الجزائري بقيادة خير الدين بربروسا‪ ،‬فقام بمحاصرة مدينة آسفي بأزمور وذلك سنة ‪941‬هـ‪/‬‬
‫‪1534‬م‪ ،‬وكادت المدينة أن تقع بيد السعديين لول النجدات التي بعثها البرتغاليون للمدينة‬
‫المحاصرة‪ ،‬وقد بدا وكأن تعاونا قد حصل بين العثمانيين والقوى السلمية في المغرب ضد‬
‫المسيحيين ومراكزهم في الشمال الفريقي وعندما سمع الملك البرتغالي جان الثالث بوصول‬
‫السطول العثماني في ‪ 3‬ربيع الول ‪941‬هـ‪ 13 /‬سبتمبر؟ بقيادة خير الدين بربروسا إلى‬
‫الشمال الفريقي‪ ،‬فكر في الجلء عن بعض المراكز مثل سبته وطنجة باعتبارها مناطق حيوية‬
‫للدفاع عن مصالح المسيحيين في غرب البحر المتوسط‪ ،‬ولصد الهجوم العثماني عن شبه‬
‫الجزيرة اليبرية بعث الملك يوحنا الثالث استفتاء الى جميع الوجهاء والعيان والساقفة في‬
‫بلده يستشيرهم في موضوع الجلء عن بعض مراكز الوجود البرتغالي في جنوبي المغرب‪،‬‬
‫وكان المطلوب الجابة على السئلة التية‪ :‬هل ينبغي ترك آسفي وأزمور للمغاربة‪ ،‬هل ينبغي‬
‫الجلء عنهما أو عن بعضهما؟ وإذا كان ينبغي الحتفاظ بهما هل تحول إلى حصون للتقليل من‬
‫حجم المصروفات؟ ثم ماهي الضرار الناتجة عن ذلك؟ وكيف نتفاداها؟ ‪.‬‬
‫تلقى الملك البرتغالي أجوبة عديدة بين مؤيد في البقاء على المناطق الجنوبية في حوزة‬
‫البرتغاليين وبين معارض‪ ،‬وكانت أجوبة رجال الدين للملك جان الثالث موحدة تقريبا تضمنت‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪ ،‬ص ‪.319‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬فتح العثمانيين عدن‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪-276-‬‬
‫النصح بالتخلي عن المراكز الجنوبية‪ ،‬يحول الملك كل وسائل الدفاع الموجودة هناك إلى‬
‫المركز الشمالي لصد الخطر العثماني بقيادة خير الدين بربروسا فأسقف ينصح بإخلء‬
‫سانتاكروز وأسفي وأزمور لن أهميتها أقل بكثير من النفقات التي تصرف عليها‪ ،‬ويرى توجيه‬
‫القوى ضد فاس‪ ،‬كما ينصح بتحسين وسائل الدفاع عن سبتة خوفا من هجوم خير الدين‬
‫()‬
‫عليها ‪. 1‬‬
‫إن الوجود العثماني في الجزائر أثر على موقف الملك البرتغالي في المغرب إذ تراجع عن‬
‫القيام بعمليات عسكرية فيه‪ ،‬كما أدخل استيلء العثمانيين على تونس الحيرة لدى البابا‪،‬‬
‫والمبراطور شارل الخامس الذي اعتبر ذلك تهديدا مباشرا للمسيحية‪ ،‬ولخطوط مواصلته‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪ ،‬فوصل التهديد العثماني أقصاه فضلً عن أن الدولة العثمانية‬ ‫البحرية مع أطراف مملكته‬
‫()‬
‫ضمنت السيطرة على الممرات الضيقة بين صقلية وأفريقيا ‪. 3‬‬

‫تاسعا‪ :‬استيلء شارل الخامس على تونس‬


‫كان الموقف ملئما بالنسبة لسبانيا وذلك للقيام برد عنيف فقد انشغلت الدولة العثمانية‬
‫بالحرب مع الشيعة الروافض في بلد فارس‪ ،‬وطغى على الصراع في أوربا ووعد فرنسوا‬
‫الول ملك فرنسا شارل الخامس بالحياد ‪ -‬تردد شارل في اختيار المكان الذي سيوجه إليه‬
‫ضربته في شمال أفريقيا الجزائر أو تونس ولكن استنجاد السلطان الحفصي الحسن بن محمد‬
‫( ‪)4‬‬
‫قاد شارل الخامس‬ ‫والرغبة في عزل استانبول دفع شارل الخامس إلى اختيار تونس للهجوم‬
‫عملية بحرية شاقة تكونت من ثلثين ألف مقاتل اسباني وهولندي وألماني ونابولي وصقلي‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪ ،‬ص ‪.320‬‬


‫‪ )(2‬رسالة غرناطة الى السلطان سليمان ‪ ،‬عبدالجليل التميمي عدد(‪ )3‬تونس‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪ ،‬ص ‪.321‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬محمد خير فارس‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪-277-‬‬
‫على ظهر خمسمائة سفينة‪ ،‬وركب المبراطور البحر من ميناء برشلونة وعندما رست سفنه‬
‫()‬
‫أمام تونس قامت المعارك العنيفة بين الطرفين ‪ ، 1‬المر الذي أعاد السيطرة السبانية على‬
‫( ‪)2‬‬
‫إذ لم تكن قوة خير الدين بكافية للرد على ذلك الهجوم‪ ،‬فكان‬ ‫تونس في ‪942‬هـ‪1535/‬م‬
‫الجيش السلمي تعداده سبعة آلف جندي عثماني وصلوا مع خير الدين ونحو خمسة آلف‬
‫تونسي‪ ،‬كما تخلف العراب عن الجهاد فكانت النتيجة الحتمية أن استولى شارل على معقل‬
‫()‬
‫حلق الوادي مرسى تونس‪ ،‬تونس ‪ ، 3‬ونصب السبان الحسن بن محمد حاكما عليها‪ ،‬وعملً‬
‫بمنطوق المعاهدة كان الحسن بن محمد سيسلم بونه والمهدية الى شارل الخامس‪ ،‬فاستولى على‬
‫بونة‪ ،‬وبما أن المهدية كانت في حوزة العثمانيين ‪ ،‬فإن الحسن لم يستطع الوفاء بعهده فاشترط‬
‫()‬
‫السبان عليه أن يكون حليفا ومساعدا لفرسان القديس يوحنا بطرابلس ‪ ، 4‬وأن يقوم بمعاداة‬
‫العثمانيين وأن يتحمل نفقات ألفي اسباني على القل يتركون كحامية في قلعة حلق الواد وعاد‬
‫شارل الخامس الى اسبانيا واستقبل استقبال الغزاة الفاتحين في الوقت الذي كان فيه السلطان‬
‫()‬
‫يحارب فيه الدولة الصفوية الشيعية الرافضية لبلد فارس ‪. 5‬‬

‫عاشرا‪ :‬عودة خير الدين إلى الجزائر ‪:‬‬


‫عاد خير الدين إلى الجزائر بعد هزيمته في تونس‪ ،‬واستقر أول المر بمدينة قسطنطينية‪،‬‬
‫ومن هناك أخذ يستعد لستئناف الجهاد ضد السبان في الجبهات التي يحددها‪ ،‬وكان لزاما على‬
‫خير الدين وقد استقر مؤقتا بمدينة الجزائر نظرا للتزاماته التي تفرضها عليه خطته الجديدة‬
‫كقبودان باشا للسطول السلمي العثماني أن يشعر شارل الخامس بوجوده‪ ،‬وأن يرد على‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حقائق الخبار عن دول البحار (‪.)1/420‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪ ،‬ص ‪.321‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.321‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬التراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية‪ ،‬عزيز سامح‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬فتح العثمانيين عدن ‪،‬ص ‪.130‬‬
‫‪-278-‬‬
‫ضربة تونس بضربة مثلها فقام بالهجوم على جزر البليار السبانية وعلى سواحلها الجنوبية‪،‬‬
‫فاجتاز مضيق جبل طارق‪ ،‬وأطلق العنان لنفسه بالنقضاض على السفن السبانية والبرتغالية‬
‫العائدة من الراضي المريكية‪ ،‬والمحملة بالذهب والفضة‪ ،‬فاهتزت لتلك الحداث جميع‬
‫الوساط المسيحية‪ ،‬وأقلقت شارل الخامس الذي اعتقد أن خير الدين لن يقوى شأنه بعد حادثة‬
‫()‬
‫تونس السابقة في ‪942‬هـ ‪1935 /‬م ‪ ، 1‬من ناحية أخرى دخلت الدولة العثمانية في تحالف ر‬
‫سمي مع فرنسا في ‪943‬هـ‪1536/‬م‪ ،‬ويعتبر ذلك هو رد الفعل على الهجوم المضاد الذي قام‬
‫( ‪)2‬‬
‫وبدا وكأن المبراطورية الرومانية المقدسة قد طوقت من قبل‬ ‫به السبان على تونس‬
‫خصومها الفرنسيين والعثمانيين مما أدى إلى استئناف الحروب بينهما من جديد كما صارت‬
‫أهداف اسبانيا والبرتغال واحدة وذلك في احتلل مراكز في بلد المغرب بالضافة إلى خوفهم‬
‫من تقدم العثمانيين داخل شبه الجزيرة اليبيرية‪.‬‬
‫الدبلوماسية البرتغالية وتفتيت وحدة الصف في الشمال الفريقي ‪:‬‬
‫تلقى الملك أحمد الوطاس هزيمة ‪943‬هـ‪1536/‬م من السعديين في موقعة بير عقبة قرب‬
‫وادي العبيد‪ ،‬بسبب تخلي قبائل الخلوط التي كادت تكون القوة المامية للجيش الوطاسي‪،‬‬
‫ونشرت الفوضى في سائر الجيش وأثر هذه الهزيمة تقرب أحمد الوطاسي من البرتغال وذلك‬
‫نتيجة شعوره بانشغال العثمانيين في حروبهم ضد السبان ووقع معهم معاهدة لمدة أحد عشر‬
‫( ‪)3‬‬
‫تقضي بوضع المغاربة المقيمين في ضواحي أصيل وطنجة والقصر الصغير تحت‬ ‫عاما‬
‫السلطة القضائية لملك فاس‪ ،‬كما يجوز لرعايا الملك الوطاسي المتاجرة بحرية داخل تلك‬
‫المناطق باستثناء تجارة السلحة والبضائع المحظورة وإذا وصلت مراكب عثمانية أو فرنسية‬
‫أو تابعة لمسيحيين من غير السبان ول البرتغاليين إلى أراضي برتغالية‪ ،‬محملة بغنائم أخذت‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.242 ،227،236،241‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪ ،‬ص ‪.323‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين لسترداد الندلس‪ ،‬ص ‪.323‬‬
‫‪-279-‬‬
‫من المغاربة فلن يشتري منها شيء‪ ،‬وكذلك الحال بالنسبة للمغاربة لن يشتروا من العثمانيين‬
‫()‬
‫ويتم السيتلء على الغنائم وترد من طرف لخر مالم يسمح قوات العدو في مهاجمتها ‪. 1‬‬
‫حاول البرتغاليون كذلك عقد هدنة مع السعديين‪ ،‬فبعثوا وفدا إلى مراكش للتفاوض مع المولى‬
‫أحمد العرج الذي استجاب لذلك‪ ،‬لنه كان في حاجة إلى تنظيم أمور دولته الناشئة سيما بعد‬
‫النتصارات التي حققها ضد خصومه الوطاسيين في موقعة بير عقبة ‪943‬هـ‪1536/‬م‪ ،‬واتفق‬
‫البرتغاليون مع السعديين لعقد هدنة بينهما في ‪ 25‬ذي القعدة ‪944‬هـ‪25 /‬ابريل ‪1537‬م لمدة‬
‫( ‪)2‬‬
‫كان هدف البرتغاليين من التقرب‬ ‫ثلث سنوات‪ ،‬مع إقامة تبادل تجاري بين رعايا الطرفين‬
‫مع الوطاسيين والسعديين هو الحيلولة دون قيام تعاون حقيقي بين العثمانيين من ناحية‬
‫والوطاسيين والسعديين من ناحية أخرى‪ ،‬لن أي تعاون من هذا القبيل معناه تهديد لمصالح شبه‬
‫الجزيرة اليبرية في المغرب‪ ،‬والهم من ذلك خوف اسبانيا والبرتغال من تقدم الدولة العثمانية‬
‫()‬
‫داخل شبه الجزيرة اليبرية‪ ،‬وتحقيق هدفها في استرداد الندلس ‪. 3‬‬

‫المبحث الخامس‬
‫المجاهد الكبير حسن آغا الطوشي‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.323‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.324‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.324‬‬
‫‪-280-‬‬
‫اشتغل خير الدين بربروسا بحكم منصبه قبودان باشا بالعمل في السطول العثماني وبدأ‬
‫نشاطه في الحوض الشرقي للبحر المتوسط‪ ،‬بينما استمر حسن آغا الطوشي في منصبه‬
‫المستخلف عليه نائب البيلر بك يعمل على قهر القرصنة الوربية فأبلى في سبيل ذلك البلء‬
‫الحسن‪ ،‬وصار شخصه في الجزائر مثالً بارزا في البطولة والتضحية السلمية في سبيل‬
‫الدفاع عن بلد السلم في الشمال الفريقي فاكتسب الجزائر مهابة وجللً وجعلت المم‬
‫المسيحية تهرع على عاهلها الكبر المبراطور شارل الخامس مستنجدة بسلطانه منضوية تحت‬
‫لوائه‪ ،‬ومن بينها البابا بول الثالث‪ ،‬وقد حاول شارل الخامس ‪946‬هـ‪1539/‬م عقد هدنة مع‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬مثل ما خاب في محاولته السابقة عندما عرض على خير‬ ‫خير الدين إل أنه خاب أمله‬
‫الدين سرا العتراف به حاكما لشمال افريقيا مقابل جزية بسيطة‪ ،‬إذ كان شارل الخامس يأمل‬
‫في قيام تحالف اسباني جزائري يجابه به التحالف الفرنسي العثماني ويعمل على فصل شمال‬
‫افريقيا عن استنبول على أمل أنه إذا تحقق ذلك فلن تستطيع شمال افريقيا إبداء مقاومة قوية‬
‫()‬
‫يكون من السهل سقوطها ‪. 2‬‬
‫انهمك حسن آغا الطوشي في توطيد المن‪ ،‬ووضع السس للدارة المستقرة ومحاولة جمع‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪ ،‬فأخضع مدينة مستغانم لدولته ثم تقدم نحو‬ ‫أطراف البلد حول السلطة المركزية الجزائرية‬
‫الجنوب الشرقي فاستولى على عاصمة الزاب بكرة وملحقاتها‪ ،‬وشيد هناك حصنا وأقام به‬
‫حامية‪.‬‬
‫ركب الجيش العثماني في شهر جمادي الول ‪949‬هـ‪ /‬سبتمبر ‪1539‬م البحر‪ ،‬وكان قوامه‬
‫‪ 1300‬رجل ‪ ،‬على ظهر ثلث عشرة سفينة واندفعوا عنها من السبان نزل حسن آغا وجيشه‬
‫إلى البر فاحتل البلدة وتمكن منها‪ ،‬واستحوذ على مافيها من خيرات وأرزاق وغنائم للمسلمين‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر العام‪ ،‬عبدالرحمن الجيللي (‪.)3/62،63‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص ‪.35‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.279‬‬
‫‪-281-‬‬
‫وتوغل في جهات الساحل السباني الجنوبي‪ ،‬وغنم ماوقع تحت يده من أموال ومتاع السبان‬
‫ويختار من بينهم جماعات من السرى والسبايا يسوقهم للبيع في المدن المغربية الشمالية خاصة‬
‫تطوان ثم يعود للميدان وعندما أراد الرجوع إلى الجزائر اعترضت طريقه عمارة اسبانية‬
‫كبيرة العدد‪ ،‬وقامت المعركة بين القوتين وكانت عنيفة قاسية‪ ،‬أسفرت عن غرق عدد من سفن‬
‫()‬
‫الجانبين ومع ذلك كانت خسائر السبان في هذه المعركة عظيمة ‪. 1‬‬
‫عزم شارل الخامس على القيام بحملة عسكرية تستهدف القضاء على حركة الجهاد السلمي‬
‫في الحوض الغربي للبحر المتوسط وقبل أن يشرع في تنفيذها كان هدوءا نسبيا يسود القارة‬
‫الوربية إثر عقد هدنة نيس في محرم ‪945‬هـ‪ /‬يونيو ‪1538‬م مع فرنسا والتي كانت مدتها‬
‫( ‪)2‬‬
‫رسا شارل الخامس أمام مدينة الجزائر في يوم الثامن والعشرون من شهر‬ ‫عشر سنوات‬
‫جمادي الخيرة سنة ‪948‬هـ الموافق الخامس عشر من شهر اكتوبر ‪1541‬م وعندما شاهده‬
‫حسن آغا الطوشي‪ ،‬اجتمع في ديوانه مع أعيان الجزائر وكبار رجال الدولة‪ ،‬وحثهم على‬
‫الجهاد والدفاع عن السلم والوطن قائلً لهم " ‪ ...‬لقد وصل العدو عليكم ليسبي أبناءكم‬
‫وبناتكم‪ ،‬فاستشهدوا في سبيل الدين الحنيف‪ ...‬هذه الراضي فتحت بقوة السيف ويجب الحفاظ‬
‫عليها‪ ،‬وبعون ال النصر حليفنا‪ ،‬نحن أهل الحق‪ ،" ...‬فدعا له المسلمون وأيدوه في جهاد العدو‪،‬‬
‫()‬
‫ثم بدأ حسن آغا في إعداد جيوشه والستعداد للمعركة ‪. 3‬‬
‫من ناحية أخرى بدأ السبان في تحضير متاريسهم وتعجب شارل الخامس لستعدادات حسن‬
‫آغا وأراد أن يستهزئ به‪ ،‬فأمر كاتبه بإعداد خطاب لحسن آغا جاء فيه " ‪ ...‬أنت تعرفني أنا‬
‫سلطان ‪ ..‬كل ملة المسيحيين تحت يدي إذا رغبت في مقابلتي سلمني القلعة مباشرة‪ ..‬أنقد نفسك‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.280‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬محمد خير ‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.326‬‬
‫‪-282-‬‬
‫من يدي وإل أمرت بإنزال أحجار القلعة في البحار‪ ،‬ثم ل أبقي عليك ولسيدك ول التراك‪،‬‬
‫وأخرب كل البلد‪ " ...‬وصل ذلك الخطاب إلى حسن آغا وأجاب عليه "‪...‬أنا خادم السلطان‬
‫سليمان ‪ ...‬تعالى واستلم القلعة ولكن لهذه البلد عادة‪ ،‬أنه إذا جاءها العدو‪ ،‬ليعطي إل الموت‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬وفي رواية ‪ ( :‬غزت اسبانيا الجزائر في عهد عروج مرة‪ ،‬وفي عهد خير الدين مرة‪،‬‬ ‫"‬
‫ولم تحصل على طائل‪ ،‬بل انتهبت أموالها وفنيت جنودها‪ ،‬وستحصل المرة الثالثة كذلك إن شاء‬
‫()‬
‫ال " ‪. 2‬‬
‫وفي الليلة ذاتها‪ ،‬وصل إلى معسكر شارلكان رسول من قبل والي الجزائر يطلب إذنا للسماح‬
‫بحرية المرور لمن أراد من أهل الجزائر وخاصة نساءها وأطفالها مغادرة المدينة عبر ( باب‬
‫الواد ) وعرف ( شارلكان ) أن حامية الجزائر مصممة على الدفاع المستميت‪ ،‬وأنه من المحال‬
‫احتلل الجزائر إل إذا تم تدميرها تدميرا تاما‪ .‬ولم يكن المبراطور قد أنزل مدفعية الحصار‬
‫حتى تلك الساعة‪ ،‬فلم يتمكن بذلك من قصف الجزائر بالمدفعية‪ ،‬وفي الوقت نفسه كان‬
‫المجاهدون يوجهون ضرباتهم الموجعة إلى القوات السبانية‪ ،‬في كل مكان‪ ،‬حتى قال أحد‬
‫فرسان مالطة في تقريره عن المعركة‪ " :‬لقد أذهلتنا هذه الطريقة في الحرب‪ ،‬لننا لم نكن‬
‫()‬
‫نعرفها من قبل " ‪ . 3‬وكانت أعداد المجاهدين تتعاظم باستمرار بفضل تدفق مقاتليهم من كل‬
‫مكان بمجرد سماعهم بإنزال القوات السبانية وكان المجاهدون يستفيدون في توجيههم‬
‫لضرباتهم من معرفتهم الدقيقة بالرض واستخدامهم لمميزاتها بشكل رائع وسخر ال لجنود‬
‫السلم المطار والرياح والمواج ( وهبت ريح عاصف استمرت عدة أيام واقتلعت خيام جنود‬
‫الحملة وارتطمت السفن بعضها ببعض مما أدى إلى غرق كثير منها وقذفت المواج الصاخبة‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.326‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬خير الدين بربروس ‪ ،‬بسام العسلي ‪ ،‬ص ‪.108‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.153‬‬
‫‪-283-‬‬
‫ببعض السفن إلى الشاطئ وهجم عليها المدافعون المسلمون واستولوا على أدواتها وذخائرها‪،‬‬
‫أما المطار فقد أفسدت مفعول البارود‪ .‬وفي وسط هذه الكوارث حاول المبراطور مهاجمة‬
‫( ‪)1‬‬
‫وظهرت بطولت رائعة من القائد‬ ‫مدينة الجزائر‪ ،‬إل أن كل محاولته باءت بالفشل ‪) ..‬‬
‫( الحاج البشير ) الذي استطاع بجنوده أن يحصد رؤوس النصارى بشجاعة فائقة‪ ،‬وبسالة‬
‫نادرة‪ ،‬وبطولة رائعة لقد استطاعت القيادة العسكرية الجزائرية أن تستفيد من الوضع المحيط‬
‫بالنصارى‪ ،‬ووجهت جنودها بطريقة متميزة في الكر والفر أفنت جزءا كبيرا من العداء‬
‫واضطر المبراطور إلى النسحاب مع بقية جنوده على ما تبقى لهم من سفن واتجه بأسطوله‬
‫إلى إيطاليا بدلً من اسبانيا وكان من العوامل التي ساعدت على إلحاق هذه الهزيمة‬
‫بالمبراطور‪ ،‬القيادة الرشيدة والتفاف الشعب الجزائري حولها وتدفق رجال القبائل إلى ساحة‬
‫الوغى طلبا للشهادة في سبيل ال‪ ،‬ودفاعا عن السلم والمسلمين‪ ،‬وقد شبه أهل الجزائر هذه‬
‫الهزيمة بهزيمة أصحاب الفيل التي ورد ذكرها في القرآن الكريم فقالوا في رسالة وجهوها إلى‬
‫السلطان سليمان إن ال سبحانه وتعالى عاقب شارل الخامس وجنوده " بعقاب أصحاب الفيل‪،‬‬
‫وجعل كيدهم في تضليل‪ ،‬وأرسل عليهم ريحا عاصفا وموجا قاصفا‪ ،‬فجعلهم بسواحل البحر‬
‫()‬
‫مابين أسير وقتيل‪ ،‬ولنجا منهم من الغرق إل قليل " ‪. 2‬‬
‫لقد قام سكان الجزائر ‪ -‬سواء أهل القليم الصليين أو مسلمي الندلس الذين فروا بدينهم‬
‫إلى الجزائر ‪ -‬بعثوا برسالة في الشهر التالي لهزيمة شارل الخامس إلى السلطان سليمان وقد‬
‫أوضحت هذه الرسالة الحوال المؤلمة والمفجعة التي تحيط بالمسلمين الذين احتفظوا بدينهم في‬
‫إسبانيا بعد أن طويت صفحة الحكم السلمي في الندلس وتعرضهم لضطهاد السلطات‬
‫المسيحية ولمحاكمات ديوان التحقيق ‪ -‬محاكم التفتيش وإحراقهم‪ ،‬وأشادت الرسالة بالخدمات‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪.)2/919‬‬


‫‪ )(2‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)2/920‬‬
‫‪-284-‬‬
‫الجليلة التي أداها للسلم خير الدين باشا " المجاهد في سبيل ال‪ ،‬وناصر الدين‪ ،‬وسيف ال‬
‫على الكافرين "‪ .‬ومضت الرسالة تقول إن أهل الندلس قد سبق لهم أن استغاثوا به فأغاثهم "‬
‫وكان سببا في خلص كثير من المسلمين من أيدي الكفرة المتمردين ونقلهم إلى أرض السلم "‬
‫وأصبحوا من رعايا الدولة العثمانية المخلصين‪ .‬وحددت الرسالة مطلبين أساسيين‪:‬‬
‫‪ -1‬إرسال نجدات عسكرية " لنصرة الجزائر‪ ،‬لنها سياج لهل السلم‪ ،‬وعذاب وشغل‬
‫لهل الكفر والطغيان‪ ،‬وهي موسومة باسمكم الشريف‪ ،‬وتحت إيالة مقامكم المنيف‪ ،‬وقد‬
‫()‬
‫أصبحت القلوب المنكسرة بها عزيزة‪ ،‬والرعية المختلفة بها مؤتلفة أليفة " ‪. 1‬‬
‫‪ -2‬إعادة خير الدين باشا إلى منصبه السابق ‪ -‬بكلر بك الجزائر ‪ " -‬فهو المتمثل لوامر‬
‫مولنا‪ ،‬لنه أحيا هذا الوطن‪ ،‬وأرعب قلوب الكفار وخرب ديار المردة والفجار‪ .... ،‬وإنه لهذا‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫الوطن نعم ناصر‪ ،‬وجميع أهل الشرك منه خائف وحائر "‬
‫وصل خير الدين بربروسا إلى مدينة الجزائر للسهام في الدفاع عنها توفيق ال للمسلمين‬
‫وسواعدهم قد قضت على أسطول السبان فاكتفى بتفقد أمور البليربكية واطلع على سير المور‬
‫فيها‪ ،‬ثم انطلق بأسطوله نحو البلد السبانية يذيقها العذاب الليم‪ ،‬وأنعم السلطان سليمان على‬
‫حسن آغا الطوشي برتبة الباشوية‪ ،‬لدوره الفعال في النصر وخلى البحر المتوسط تقريبا من‬
‫الساطيل السبانية التي كانت تضمد جراحها وتحاول استرجاع قوتها‪ ،‬فانطلقت السفن العثمانية‬
‫نحو السواحل السبانية واليطالية وتوالت هنالك الغزوات وساد الرعب والفزع تلك النواحي‬
‫()‬
‫التي بقيت مفتوحة في وجه العثمانيين يتوغلون داخلها ويغنمون مافيها ‪ ، 3‬كما صارت الدولة‬
‫الوربية تعمل للعثمانيين حسابا‪ ،‬فاهتز بذلك مركز السبان في وهران وغيرها من مناطق‬

‫‪ )(1‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)2/921‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)2/921‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫‪-285-‬‬
‫()‬
‫نفوذهم في الشمال الفريقي ‪ ، 1‬وحقق السعديون على صعيد آخر نصرا كبيرا على البرتغاليين‬
‫وفتحوا حصن سانتاكروز‪ ،‬وما أن علم الملك البرتغالي جان الثالث بهذا الخبر حتى أمر‬
‫حاميات آسفي وأزمور بالجلء فورا عنها‪ ،‬وقد وجه الملك جان الثالث في هذا الشأن إلى سفيره‬
‫بمدريد رسالة مؤرخة في الثاني والعشرين رمضان ‪948‬هـ‪ /‬ديسمبر سنة ‪1541‬م‪ ،‬يطلع فيها‬
‫المبراطور السباني شارل الخامس‪ ،‬حيث جاء فيها ذكر للسباب التي اجبرت البرتغال على‬
‫اتخاذ قرار الجلء عن قاعدتي لسفي وأزمور فبالضافة إلى موقعها الحرج هناك تزايد قوات‬
‫السعديين بفضل المساعدات العثمانية‪ ،‬حيث صار الحاكم السعدي يملك المدفعية العثمانية‪،‬‬
‫واللت الحربية‪ ،‬وعلى جنود مدربين وظهرت تلك المدادات عند حصار سانتاكروز‪ ،‬مما‬
‫جعل الحتفاظ بهذين المركزين أمرا شاقا وصعبا‪ ،‬ثم أن الجلء عن أسفي وأزمور ليس معناه‬
‫التخلي عن المغرب‪ ،‬فقد أعطيت الوامر لتحصين مازكان لسهولة استغلل مينائها طوال أيام‬
‫()‬
‫السنة ‪ ، 2‬يظهر من ذلك مدى اهتمام الدولة العثمانية في تقديم المساعدة للقوى السلمية في‬
‫المغرب ضد المسيحيين المتواجدين فيها وذلك لن الدولة ترغب في تأمين ظهرها حتى يتسنى‬
‫لها الهجوم‪ ،‬فرغبت الدولة هنا في مساعدة السعديين لينهوا التواجد البرتغالي في المراكز‬
‫()‬
‫الجنوبية من المغرب‪ ،‬ثم ليعبروا للندلس‪ ،‬لن المغرب يمثل أقرب نقطة للعبور ‪. 3‬‬

‫مصير شارلكان ‪:‬‬


‫كان فشل شارلكان ( شارل الخامس ) في حملته على الجزائر‪ ،‬ذا أثر عميق ل على‬
‫المبراطورية السبانية‪ ،‬ول على ملكها شارلكان‪ ،‬وإنما على مستوى الحداث العالمية‪ .‬وقد‬
‫حفظ الشعر العربي هذا الحدث الذي قيل فيه‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المغرب العربي الكبير‪ ،‬شوقي عطا ال الجمل‪ ،‬ص ‪.9‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.328‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.328‬‬
‫‪-286-‬‬
‫سلوا شرلكان كم رأى من جنودنا‬
‫فليس له إل هُمُ من زواجر‬
‫فجهز اسطولً وجيشا عرمرما‬
‫ولكنه قد آب أوبة خاسر‬
‫ونزلت أنباء الهزيمة نزول الصاعقة على أوروبا وتطورت الحداث هناك هنالك بسرعة‪.‬‬
‫فلم يبقى حليف للمبراطور سوى هنري الثالث ملك إنكلترا‪ ،‬وانضم إلى ملك فرنسا الدوق‬
‫( دي كليف ) وملك الدانمارك وملك اسكندينافيا‪ .‬وكان فرح الفرنسيين عظيما لن سقوط‬
‫الجزائر كان يؤدي لمحالة إلى سقوط فرنسا‪ ،‬وبادر ملكها فرنسوا الول لبرام معاهدات مع‬
‫السلطان العثماني وكان لهذه الغارة أيضا نتائج معنوية داخل الشمال الفريقي وأما في أوربا‬
‫( بقى رعب المسلمين في قلوب أهل أوربا لمدة طويلة )‪ .‬ولم يعد شارل الخامس قادرا على‬
‫التفكير في حملة أخرى ضد الجزائر وطغى شبح خير الدين وحسن آغا على العامة والخاصة‬
‫حتى أصبح الناس إذا رأوا جفنا عن بعد نسبوه إلى خير الدين‪ ،‬فيتصاعد الصراخ ويكثر العويل‬
‫ويفر السكان من ديارهم ومن حقولهم ومتاجرهم‪ .‬وإذا حطمت الزوابع مركبا توهم الناس أن‬
‫خير الدين بربروسة هو الذي أثار البحر وهيجه وأغراه على اغراق سفنهم‪ .‬وبلغ الخوف من‬
‫قادة الجزائر أقصى درجة حتى أصبح أهل اسبانيا وإيطاليا إذا ما حدثت جريمة أو سرقة أو‬
‫( ‪)1‬‬
‫وقع فساد أو تخريب أو مرض أو وباء أو قحط قالوا خير الدين وأصحابه هم السبب في ذلك‬
‫‪ -‬وكانوا في نحيبهم يقولون‪:‬‬
‫بربروشة‬ ‫بربروشة‬
‫كل شر‬ ‫أنت صاحب‬
‫ألم أو عمل‬ ‫ما كان من‬
‫مدمر‬ ‫مؤذ وجهنمي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬خير الدين بربروس ‪ ،‬ص ‪.200‬‬


‫‪-287-‬‬
‫فيه‬ ‫إل والسبب‬
‫الذي‬ ‫هذا القرصان‬
‫( ‪)1‬‬
‫العالم‬ ‫لنظير له في‬
‫وفاة حسن آغا الطوشي ‪:‬‬
‫استمر حسن آغا في القيام بواجبه المقدس حتى وفاته ‪951‬هـ‪1544 /‬م فأجمع أهل الديوان‬
‫في الجزائر على تولية الحاج بكير مكانه‪ ،‬وريثما يعين الباب العالي باستانبول الحاكم الجديد‪،‬‬
‫()‬
‫الذي عين حسن ابن خير الدين وقدم في نفس السنة ‪. 2‬‬

‫المبحث السادس‬
‫المجاهد حسن خير الدين بربروسة‬

‫شرع حسن بن خير الدين حال وصوله‪ ،‬ليستعد للجهاد ومواجهة المسيحيين‪ ،‬فعمل على‬

‫‪ )(1‬مجلة تاريخ وحضارة المغرب في كلية الداب في الجزائر ‪1969‬م العدد ‪ 6‬ص ‪.5934‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ عام الجزائر‪ ،‬عبدالرحمن الجيللي (‪.)3/84‬‬
‫‪-288-‬‬
‫تحصين مدينة الجزائر‪ ،‬وذلك في المناطق التي أظهر هجوم شارل الخامس عن ضعفها‪ ،‬كما‬
‫أخذ يعمل على توطيد النظام في الجزائر وبين صفوف الجيش‪ ،‬ثم انصرف إلى حل مشكلة‬
‫()‬
‫تلمسان‪ ،‬إذ تبين له أن بقاء السرة الزيانية ووجود السبان في وهران يعيقان حل المشكلة ‪. 1‬‬
‫كان حاكم تلمسان ( أبو زيان ) أحمد الثاني قد تولى الحكم بدعم من العثمانيين‪ ،‬غير أنه‬
‫مالبث أن خضع لمؤامرات خارجية وانساق في تيارها وأخذ يتقرب من السبان‪ ،‬مما أدى إلى‬
‫كره الهالي له وقرروا خلعه عن العرش ومبايعة أحد أخوته ( الحسن ) فتوجه أبو زيان إلى‬
‫وهران طالبا للدعم من السبان‪ ،‬مقدما لهم التعهدات بأن يحفظ على ولئه لهم‪ ،‬فقرر حاكم‬
‫وهران انتهاز هذه الفرصة‪ ،‬فجهز جيشا‪ ،‬وانضم اليه جموع الخاضعين للسبان من بني عامر‬
‫وفليتة وبني راشد وعلى رأسهم القائد المنصور من بو غنام‪ ،‬وتقدموا إلى تلمسان لبعاد‬
‫الحسن‪ ،‬واعادة تنصيب أبو زيان على عرش المدينة‪ ،‬وما أن علم حسن بن خير الدين بتحرك‬
‫القوة السبانية‪ ،‬حتى قاد الجيش السلمي في تلمسان ليمنع السبان من الوصول إلى هدفهم‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪ ،‬الذي اعترف‬ ‫وتمكن حسن بن خير الدين من ذلك‪ ،‬ودعم حليفه الملك حسن في تلمسان‬
‫بسلطة الدولة العثمانية كما ترك الباشا حسن بن خير الدين حامية عثمانية بقيادة القائد محمد في‬
‫قلعة المشوار في تلمسان‪ ،‬إل أنه مع ذلك ظل نفوذ الدولة العثمانية مهتزا خارج تلمسان‪ ،‬بسبب‬
‫مضايقات بعض القبائل المجاورة بقيادة المزوار بن بوغنام‪ ،‬الذي يرغب في مساندة زوج ابنته‬
‫()‬
‫المير مولي أحمد‪ ،‬حليف السبان ‪ . 3‬قامت الدولة العثمانية بدعم السلطان الشريف السعدي‬
‫بنحو عشرين ألف مجاهد‪ ،‬فالتفوا حوله‪ ،‬ودفعوه إلى بناء مراكب حربية للستيلء على اسبانيا‪،‬‬
‫()‬
‫فوافق الشريف السعدي على ذلك وصرف لهم أجورهم ومكافآت لهم ‪. 4‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث لمحمد فارس‪ ،‬ص ‪.38،39‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الجزائر والحملت الصليبية‪ ،‬ص ‪.22-21‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.329‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.330‬‬
‫‪-289-‬‬
‫واستطاع الشريف السعدي أن ينهي الحكم الوطاسي وأصبح السبان متخوفين من هجوم‬
‫عثماني سعدي مشترك‪ ،‬فقاموا بإنهاء استحكامات مليلة‪ ،‬وفرضت عدة إجراءات أمنية على جبل‬
‫طارق وقادش وغير ذلك من الحتياطات‪.‬‬
‫لقد ظهر السعديون أول المر كمحررين للمغرب من الوجود المسيحي فأكسبهم ذلك تأييد‬
‫المسلمين‪ ،‬إذ اعتبروا ذلك نوعا من الجهاد فقدمت الدولة العثمانية مساعدات كبيرة لتحقيق ذلك‪،‬‬
‫ثم عرضت على السعديين مشروع استرداد الندلس‪ ،‬إل أنه بعد أن دانت بلد المغرب للشريف‬
‫السعدي وانتهاء الحكم الوطاسي‪ ،‬توجه الشريف بأنظاره نحو تلمسان‪ ،‬فأرسل جيوشا كبيرة‬
‫لنهاء الحكم العثماني فيها‪ ،‬وعندما شعر العثمانيون بتلك الطماع وانحراف الشريف السعدي‬
‫()‬
‫عن الهدف السلمي أرسلت له حملت ليعود إلى بلده ‪. 1‬‬
‫استمر المجاهدون في شمال افريقيا يهددون أمن غرب البحر المتوسط فقاموا بمناوشات‬
‫بحرية أزعجت التجارة والسفن المحملة بين اسبانيا وايطاليا وغض المجاهدون من أهالي‬
‫الشمال الفريقي الجزء من البحر المتوسط بين سردينيا والساحل الفريقي‪ ،‬وبذلك اضطرت‬
‫السفن المسيحية أن تطرق الطرق الكثر أمانا بالقرب من رأسي كورسيكا ولكن الحتلل‬
‫الفرنسي للرأس بمساعدة العثمانيين هددوا أيضا التصالت بين اسبانيا وايطاليا‪ ،‬ولم تكن هناك‬
‫مهلة لشارل الخامس في الدفاع عن الطرق البحرية ضد القسطنطينية التي كانت حلمه منذ‬
‫()‬
‫سنوات طفولته‪ ،‬كما أنه صار غير قادر على تقديم مصالح مباشرة لسبانيا ‪. 2‬‬

‫أولً‪ :‬أخر أيام خير الدين بربوسة‪:‬‬


‫استمر خير الدين في قيادة السطول العثماني وحقق انتصارات رائعة هزت أوروبا كلها‬
‫وبعد أن تحالفت الدولة العثمانية مع فرنسا جعل خير الدين من مدينة (مارسيليا) قاعدة لقيادته‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.334‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.356‬‬
‫‪-290-‬‬
‫ومقرا لسطوله وهناك ‪-‬في مارسيليا‪ -‬باع خير الدين ورجال اسطوله الغنائم التي حملوها‬
‫معهم من اسبانيا‪ ،‬كما باعوا فيها رقيق السبان من الرجال والنساء‪ .‬فتداولتهم أيدي القوم‪،‬‬
‫واشتراهم الفرنسيون بضاعة رابحة‪ ،‬ثم اخذوا يبيعونهم بأرباح طائلة الى يهود (ليفورنو)‬
‫اليطالية‪ ،‬وكان هؤلء بدورهم يعيدون بيع السرى الرقاء الى المبراطور (شارلكان) بأرباح‬
‫خيالية‪ .‬وأنضم السطول الفرنسي الى السطول العثماني بأمر من ملك فرنسا‪ .‬ووضع قائد‬
‫السطول الفرنسي (المير فرانسوا دبو بوربون) قواته تحت قيادة (خيرالدين) باعتباره القائد‬
‫العام للقوات المتحالفة (العثمانية‪-‬الفرنسية) وكان أول عمل قام به (خير الدين) هو قيادة القوات‬
‫لمهاجمة (نيس) وطرد حاكمها (دوق سافوا) وانتزاعها من الحكم السباني وإعادتها لملك‬
‫فرنسا‪ .‬ثم استقر خير الدين باسطوله في مدينة (طولون) وجعلها قاعدة للجيش السلمي‬
‫والسطول السلمي ‪ ،‬بعد أن غادرها معظم سكانها بأمر ملك فرنسا وتركوها في ايدي‬
‫المسلمين‪ .‬ثارت ثائرة المسيحية جمعاء ضد هذا التصرف الفرنسي ‪ ،‬وأخذت الدعاية المضادة‬
‫للمسلمين تجتاح أرجاء أوروبا ‪ ،‬يحملها السبان وغلة الصليبية‪ ،‬ويستثمرونها الى أقصى‬
‫الحدود‪ .‬ومن ذلك قولهم ‪( :‬ان خير الدين قد اقتلع أجراس الكنائس‪ ،‬فلم تعد تسمع في طولون‬
‫إل أذان المؤذنيين) وبقي خير الدين والجند السلمي بمدينة طولون حتى سنة ‪1544‬م‪.‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكان (شارلكان) أثناء ذلك قد هاجم شمال شرقي فرنسا وانهزم تحت جدران (شاتوتييري)‬
‫ثم اضطر للذهاب الى ألمانيا ‪ ،‬حيث كانت حركة التمرد البروتستانتي ضد الكاثوليكية بصفة‬
‫عامة‪ ،‬وضده بصورة خاصة ‪ ،‬قد أخذت أبعادا خطيرة‪ .‬وأرغمه ذلك بعد أن هوى نجمه وذبل‬
‫عوده بنتيجة نكبته أمام الجزائر ‪-‬الى عقد معاهدة مع ملك فرنسا يوم ‪ 18‬أيلول (سبتمبر)‬
‫‪1544‬م في مدينة (كريسبي دي فالوا)‪ .‬ونتج عن هذه المعاهدة جلء (خير الدين) وقواته عن‬
‫مدينة (طولون) ورجع الى العاصمة (استانبول)‪ .‬وبما أن الحرب لم تتوقف بين اسبانيا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬خير الدين بربروس للعسلي ‪ ،‬ص ‪.166‬‬


‫‪-291-‬‬
‫والمسلمين‪ ،‬فقد استمر (خير الدين) في ممارسة العمال القتالية أثناء طريق عودته‪ ،‬فتوقف أمام‬
‫مدينة جنوة‪ ،‬وارتاع مجلس شيوخها فأرسل له مجموعة من الهدايا الثمينة مقابل عدم التعرض‬
‫للمدينة بأذى‪ ،‬فتابع (خير الدين) طريقه حتى وصل جزيرة (البا) التي كانت تحت حكم اسبانيا‬
‫‪-‬والتي أصبحت منفى نابليون بونابرت فيما بعد‪ -‬فاحتلها‪ ،‬وغنم مابها‪ ،‬كما احتل عددا من‬
‫المدن الساحلية‪ ،‬من بينها مدينة (لبياري) ورجع الى العاصمة بسفنه مثقلة بالغنائم فاستقبل‬
‫كأحسن ماتستقبل به الم أبناءها البررة‪.‬‬
‫ولم يعمر خير الدين بعد ذلك طويلً‪ ،‬ومضى الى جوار ربه ‪ ،‬وكان قد سبقه رفيق جهاده‬
‫حسن باشا الطوشي سنة ‪1544‬م‪.‬‬
‫وغاب بوفاة (خير الدين) نجم طالما أضاءت له سماء المسلمين في البر والبحر ‪ ،‬وانطوت‬
‫بغيابه صفحة ناصعة من صفحات الجهاد في سبيل ال لتبدأ صفحة جديدة‪.‬‬
‫لقد قاد خير الدين حروب اليمان وحقق فوزا عظيما واتصف بالوفاء والخلص وإنكار‬
‫الذات والستعداد الدائم للتضحية والصدق والشجاعة بكل أشكالها ويحفظ لنا التاريخ رده على‬
‫شارلكان عندما قال له (يجب أل تنسى أن السبان لم يخذلوا في معركة‪ ،‬وأنهم قتلوا أخويه‬
‫الياس وعروج‪ ،‬وان تمادى فيما هو عليه وركب رأسه فإن عاقبته ستكون كعاقبة أخويه)‪.‬‬
‫فأجاب خير الدين‪( :‬سترى غدا‪ ،‬وإن غدا ليس ببعيد‪ ،‬أن جنودك ستتطاير أشلؤهم وإن مراكبك‬
‫ستغرق‪ ،‬وإن قوادك سيرجعون إليك مكللين بعار الهزيمة)‪ .‬وعندما حاصر شارلكان الجزائر‬
‫بعد وفاة عروج بربروسة خرج له خيرالدين ومعه حزم وعزم‪ ،‬وتل على جميع قواده وجنوده‬
‫قوله تعالى‪ { :‬إن تنصروا ال ينصركم ويثبت أقدامكم} وتقدم للميدان ومعه رجاله‪ ،‬وقال لهم ‪:‬‬
‫(إن المسلمين في المشرق والمغرب يدعون لكم بالتوفيق ‪ ،‬لن انتصاركم انتصار لهم‪ ،‬وإن‬
‫()‬
‫سحقكم لهؤلء الجنود الصليبيين سيرفع من شأن المسلمين وشأن السلم) ‪. 1‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬خير الدين بربروسه ‪ ،‬ص ‪.170،171‬‬


‫‪-292-‬‬
‫()‬
‫فصاحوا كلهم (ال أكبر) وهاجموا السبان فأبادوهم عن آخرهم) ‪. 1‬‬
‫إن هذه الصورة ل تختلف أبدا‪ ،‬ل في شكلها ول في مضمونها عن صور أولئك القادة‬
‫المجاهدين في سبيل ال ‪ ،‬والذين خرجوا من جزيرتهم فحملوا الى الدنيا رسالة السلم‪ .‬غير‬
‫أن الموقف العام لم يكن في عهد (خير الدين) مشابها لما كان عليه أيام الفتح‪ ،‬فقد أخذ الضعف‬
‫طريقه الى قلوب المسلمين وانظمتهم فقد كانوا من قبل تحت قيادة واحدة لتسمح لعداء الداخل‬
‫بالظهور أو بممارسة دروهم في التأثير على التيار العام‪.‬في حين أصبح لهؤلء دورهم في‬
‫توجيه الحداث وكان أخطر ما في المر أن هؤلء كانوا يحتلون مراكزا قيادية تسمح لهم‬
‫بممارسة دور خطير ضد مواطنيهم وإخوانهم في الدين‪.‬‬
‫لقد كان من المحال تحقيق النجاح في مثل هذه العمليات لو لم تتوافر كفاءة قيادية عالية‪،‬‬
‫تتولى إدارة المعركة في كل مرحلة من مراحلها الصعبة‪.‬‬
‫وقد توافرت العوامل الثلثة للنصر‪ :‬شعب مجاهد في سبيل ال ‪ ،‬وتطبيق رائع للعقيدة القتالية‬
‫السلمية وقيادة على درجة عالية من الكفاءة‪.‬‬
‫بذلك انتصر (شعب الجزائر) وبذلك انتصر خيرالدين ‪ ،‬فكتب شعب الجزائر مع خير الدين‬
‫تحت سيادة الدولة العثمانية قصته الرائعة في الجهاد والمجاهدين‪.‬‬
‫ولم يكن (خير الدين) قادرا على تحقيق مايريده لول ما قام به شعب الجزائر المجاهد‪ ،‬وما‬
‫كان شعب الجزائر ليصل الى هدفه لول توافر قيادة حازمة مارس (خير الدين) دوره في‬
‫تكوينها ووضعها لتصبح على مستوى الحداث‪.‬‬
‫لقد مضى خيرالدين الى جوار ربه راضيا مرضيا‪ ،‬وبقي وبقيت المة السلمية تردد على‬
‫()‬
‫مدى الدهر تلك المواقف البطولية التي صنعتها العقيدة ومبادئ الجهاد وقيمه في سبيل ال ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.171‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬خير الدين بربروسة للعسلي‪ ،‬ص ‪.176‬‬
‫‪-293-‬‬
‫ثانيا‪ :‬عزل حسن بن خير الدين عن الجزائر‪:‬‬
‫كان حسن بن خير الدين بربروسا بعد أن هزم السعديين في تلمسان ووطد دعائم الحكم‬
‫العثماني فيها ‪959‬هـ‪1151/‬م‪ ،‬انتهج سياسة مضادة لكل الدول الجنبية ‪ ،‬بما فيها فرنسا التي‬
‫كانت ترتبط بالدولة العثمانية بروابط رسمية جيدة‪ ،‬ساعدت الفرنسيين على الفادة من‬
‫المتيازات القتصادية التي منحت لها مع استانبول والتي شملت جميع أقاليم الدولة العثمانية‪،‬‬
‫غير أن حسن ابن خير الدين لم يلتزم بذلك ‪ ،‬وأعلن عداءه لفرنسا في مناسبات عديدة فما كان‬
‫من فرنسا إل أن أرسلت سفيرها المعتمد في استانبول الى الجزائر يهدف معرفة المدى الذي‬
‫سيصل إليه حسن بن خير الدين في عدائه لفرنسا ‪ ،‬وفيما إذا كان هذا العداء سيؤثر على‬
‫العلقة القتصادية مابين فرنسا وبيلربكة الجزائر‪.‬‬
‫اجتمع سفير فرنسا بالبيلربك حسن بن خير الدين ‪ ،‬وعرض عليه تقديم مساعدات‬
‫عسكرية ‪ ،‬لتنفيذ مشروع الدولة العثمانية في مهاجمة اسبانيا ‪ ،‬ونجدة مسلمي الندلس ‪ ،‬لكن‬
‫حسن رفض هذا العرض‪ ،‬لمعرفته بمواقف فرنسا السابقة من الدولة العثمانية نفسها‪ ،‬وأعلن‬
‫صراحة أن قضية الجهاد هي قضية خاصة بالمسلمين ‪ ،‬وبين بأنه لينتصر بكافر على كافر‬
‫ورجع السفير الفرنسي الى استانبول ‪ ،‬حتى أوغر صدر الباب العالي بقوله‪( :‬ان السلطة‬
‫الواسعة المطلقة التي يمارسها حسن بن خير الدين ومحاولته توسيع مملكته ستحطم وحدة الدولة‬
‫( ‪)1‬‬
‫خاصة وأن والدته من السر الجزائرية المعروفة‪.‬‬ ‫العثمانية وتهدد كيانها بالنقسام)‬
‫رأت الدولة العثمانية أنه لزاما عليها من تغيير سياستها في المنطقة خاصة بعد أن صار‬
‫المغرب حليفا قويا للسبان‪ ،‬مما أدى الى قلب الموازين الستراتيجية رأسا على عقب فأتخذ‬
‫السلطان عدة تدابير لمواجهة الحالة الجديدة‪ ،‬ومن ذلك عزل السلطان سليمان القانوني بيلر بك‬
‫الجزائر حسن بن خير الدين بدعوى الساءة الى حسن الجوار مع المغرب‪ ،‬كما دعا الى‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الجزائر والحملت الصليبية للعسيلي‪ ،‬ص ‪.32-30‬‬


‫‪-294-‬‬
‫()‬
‫الوحدة السلمية والى حسن الجوار ‪. 1‬‬
‫اسندت الدولة العثمانية بيلربيكيه الجزائر الى صالح رايس في صفر ‪960‬هـ‪/‬يناير ‪1552‬م‪،‬‬
‫()‬
‫بدلً من حسن بن خير الدين ‪. 2‬‬

‫ثالثا‪ :‬رسالة السلطان سليمان القانوني الى حاكم فاس محمد السعدي‪:‬‬
‫( ‪ ...‬هذا مثالنا الشريف العالي السلطاني وخطابنا المنيف السامي الخاقاني لزال نافذا‬
‫مطاعا بالعون الرباني والصون الصمداني اصدرناه الى الجناب العالي الميري الكبير الكرمي‬
‫الفخمي الكملي الرشدي‪ ،‬العدلي الهامي الماجد النصيري الذخيري الحسبي النسبي نسل‬
‫السللة الهاشمية فرع الشجرة الزكية النبوية طراز العصابة العلوية المحفوف بصنوف لطايف‬
‫عواطف الملك الصمد حاكم ولية فاس يومئذ الشرف محمد دام علوه وزاد سموه‪.‬‬
‫اصدرنا هذا المثال الشريف العالي الى جنابة العالي نخصه منا سلم بتكميل صلة‬
‫(الصلت) المحبة بالتحيات الطيبات وتتأكد بعطره صلت المودة بالتسليمات الزكيات وبعد فإن‬
‫ال جلت قدرته وعظمت مشيئته منذ أقامنا في دولة هائلة نركب خيولها‪ ،‬ونعمة طائلة نسحب‬
‫ذيولها وسيادة سائدة كالشمس وضحيها‪ ،‬وسعادة ساعيه كالقمر اذا تليها ‪ ،‬وخصنا خلفة جليلة‬
‫عضد اليمان بها منصور ومنحنا سلطة ساعد السلم بها مرفوع لجرم وجب علينا وتحتم‬
‫على ذمتنا اداء (شكر) هذا اللطف الجسيم والحسان العميم‪ ،‬ذلك فضل ال يؤتيه من يشاء وال‬
‫ذو الفضل العظيم ‪ ،‬وكان ابداد ابنا‪ ،‬ودائما عادتنا الهتمام باجراء الشرع المبين وانقاذ سيد‬
‫الولين عليه الصلوة وعلى آله اجمعين والقيام في اطفاء نايرة الكفر والطغيان وطي الظلم‬
‫والعدوان ونشر العدل والحسان ولما بلغ سمعنا الشريف ان أمير المراء بولية الجزائر سابقا‬
‫حسن باشا لم يحسن المجاورة مع جيرانه ومال الى جانب العنف والعتساف ونبذ وراء ظهره‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬بداية الحكم المغربي للسودان الغربي لمحمد الغربي ‪ ،‬ص ‪.91-90‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المغرب في عهد السعدية‪ ،‬عبدالكريم كريم ‪ ،‬ص ‪.79‬‬
‫‪-295-‬‬
‫طرق الوفاق والئتلف وسد باب التحاد مع المجاهدين حماة الدين‪ ،‬لذلك بدلناهم غيره‪ ،‬فأنعمنا‬
‫بولية الجزائر على مملوك حضرتنا العلية وخلصة خدام اعتابنا الجليلة امير المراء الكرام‬
‫كبير الكبراء الفخام ذي الجلل والكرام والحترام صاحب الفرد والحتشام المختص بمزيد‬
‫عناية الملك العلى صالح باشا دام اقباله لفرط شهامته وشجاعته وكمال دينه وديانته فوضنا إليه‬
‫تلك الديار وأمرنا باقامة الشراع (الشرع) الشريف المتين‪ ،‬واحياء تواقر سيد المرسلين وصون‬
‫الرعايا وحفظ البرايا الذين هم ودائع ال تعالى وان يكون مع الهالي السلم على أكمل اتحاد‬
‫واجمل اتفاق مجدا فيما يتعلق بالدولة والدين وقيام ناموس سلطاننا المتين مثابرا على دفع اعداء‬
‫الدين وقمع الكفرة الفجرة المتمردين على ان اقصى مراد حضرتنا العلية احياء مراسم السلم‬
‫واطفاء ثائرة الكفرة والمتمردين اللئام وذلك المرام يكون باتفاق امراء السلم واتحاد امناء‬
‫شرع سيد النام ويتم به النظام ولينفي لثارهم في الشهور والعوام‪.‬‬
‫وأمرناه أيضا أن ينظر الى احوال المسلمين بنظر الشفاق والمراحم وينظر بينهم بكمال‬
‫العدالة وحسن المكارم ليكونوا في ايام دولتهم العادلة أمنين مطمئنين ل خوف عليهم ول هم‬
‫يحزنون‪.‬‬
‫ولبد لكم ان تحسنوا المجاورة وتذهبوا طريق حسن المعاشرة مع كونكم أولد سيد النبياء ‪،‬‬
‫واحفاد سيد الصفياء سمعنا عدلكم وانصافكم وبكمال التقوى وصفات الكمال اتصافكم ‪ ،‬ولذلك‬
‫الشأن كتبنا اليكم منشورا يوجب مضمونة المصافات ويشفي مكنونة ان تكون المودة في اقصى‬
‫()‬
‫الغايات ولك ان تنبئوا باخباركم صحتكم الغالية الى اعتبانا العالية‪. 1 )...‬‬
‫تحريرا في أوائل شهر محرم سنة تسع وخمسين وتسعمائة‪ ،‬الموافق يناير ‪1552‬م بمقام‬
‫ادرنة كما بعث السلطان سليمان القانوني بخطاب آخر الى حاكم المغرب محمد الشيخ السعدي‪،‬‬
‫يمنحه بخلع‪ ،‬والخطاب عبارة عن مرسوم سلطاني قال فيه‪ ... ( :‬هذا مثالنا الشريف ‪..‬الخ‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.364‬‬


‫‪-296-‬‬
‫اصدرنا الى الجناب العالي حاكم فاس يومئذ الشريف محمد ‪ ...‬نخصه بسلم تتكمل به صلت‬
‫المحبة بالتحيات الطيبات وتتأكد بعطره صلت المودة بالتسليمات الزاكيات وبعد‪.‬‬
‫فان ال جلت قدرته وتعالت عظمته منذ اقامنا في دولة هايلة نركب خيولها‪ ،‬ونعمة طائلة‬
‫نسحب ذيولها وسيادة سايدة كالشمس وضحيها‪.‬‬
‫وامضاء سني سنن سيد الولين والخرين ومظاهرة حماة الدين ومجاهدين الكفرة المتمردين‬
‫وانت من اولد سيد المرسلين وقائد الغر المحجلين صلوات ال عليه وسلمه وقد سمع سيدتنا‬
‫العلية حسن اقدامك وكمال دينك وديانتك وخلوص طويتك وصفاء سيرتك وقيامك في الذب عن‬
‫المسلمين وقمع اعداء الدين ولذلك الشأن حباك احساننا الشريف العالي السلطاني ورعاك جزيل‬
‫فضلها السامي الخاقاني فأنعمنا عليك وعلى ولديك بثلث خلع سنية لتكون صلة للمحبة منا‬
‫وسببا لنسج المودة بيننا‪ ،‬على ان اقصى مراد حضرتنا العلية ان تكون اهالي السلم وحماة‬
‫دين النبي عليه السلم في ايام دولتنا العادلة في اكمل الراحة وأجمل الستراحة آمنين مطمئنين‬
‫()‬
‫ل خوف عليهم ولهم يحزنون ان شاء ال تعالى‪. 1 )....‬‬

‫رابعا ‪ :‬مرسوم السلطان العثماني بتقليد صالح رايس مقاليد الولية‪:‬‬


‫بعث السلطان العثماني مرسومه الى العلماء والفقهاء وسائر رعايا الجزائر يعلمهم فيه بتقليد‬
‫صالح رايس مقاليد الولية وقد جاء في ذلك المرسوم مايلي‪ ...( :‬هذا مرسومنا ‪ ..‬ارسلناه الى‬
‫العلماء والفضلء والفقهاء والئمة والخطباء وجميع العلماء والقواد والنقباء وسائر رعايانا‬
‫بولية الجزائر الغربية‪ ،‬زيد توفيقهم يتضمن اعلمهم ان صدقاتنا الشريفة العالية الخاقانية‬
‫وعوارضنا السنية السامية السلطانية قد انعمت على مملوك حضرتنا العالية ومعتمد دولتنا القانية‬
‫امير المراء الكرام‪ ...‬صالح باشا دام اقبالً ‪ ،‬بولية الجزائر لفرط شهامته وشجاعته وكمال‬
‫قوته وصلبته وحسن سيرته وصفاء سريرته فوضنا إليه تلك الرض وأمرناه باحياء السنن‬
‫والفروض والرعايا الذين هم ودائع ال تعالى وحفظ الثغور وسد خارق المور‪ ،‬لتكون رعايا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.365‬‬


‫‪-297-‬‬
‫أهل السلم ثمة في ايام دولتنا العادلة في اكمل الراحة‪ ،‬واجمل الستراحة آمنين مطمئنين‬
‫لخوف عليهم ول هم يحزنون‪ ،‬فليكونوا مع امير المراء المشار إليه على احسن حال واكمل‬
‫اتفاق مراد حضرتنا قيام قاموس الشرع القويم والصراط المستقيم واحيائه مراسم السلم‬
‫وطريقة سيد النام وحفظ العباد وصون البلد وقمع الكفرة الفجرة بكل ناد وتقبلوا ذلك‬
‫()‬
‫وتعتمدونه وال تعالى هو الموفق بمنه ويمنه والعلمة الشريف حجة بمضمونه) ‪. 1‬‬
‫تحريرا في أوائل محرم سنة تسع وخمسين وتسعمائة الموافق يناير ‪1552‬م‪.‬‬
‫المبحث السابع‬
‫سياسة صالح الرايس‬

‫عمل صالح رايس في سياسته الداخلية على تحقيق امرين‪:‬‬


‫‪ -1‬تحقيق الوحدة بصفة تامة مطلقة بين كل اجزاء الجزائر ‪.‬‬
‫‪ -2‬ادخال بقية اجزاء الصحراء الجزائرية ضمن هذه الوحدة حتى يتفرغ للندلس‪ ،‬اما‬
‫سياسته الحربية الخارجية فقد كانت ترمي الى ثلثة اهداف‪:‬‬
‫أولها‪ :‬ابعاد السبان نهائيا عن اراضي الجزائر‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬وضع حد فاصل للمشاغبات والمفاجأت التي تقوم بها الدولة المغربية السعدية‪.‬‬
‫وثالثها ‪:‬اعلن نفير الجهاد العام والسير برا وبحرا على رأس الجيوش السلمية الى بلد‬
‫()‬
‫الندلس ‪. 2‬‬
‫ابتدأ صالح رايس في مستهل وليته بتحقيق الوحدة الداخلية‪ ،‬واستطاع ان يخضع المارات‬
‫المستقلة لنفوذ الدولة العثمانية واصبح وضع العثمانيين في الجزائر أقوى مما كان عليه ثم بدأ‬
‫صالح رايس في مخططه نحو المغرب القصى واستفاد من الظروف التي تمر بها تلك الديار‬
‫ووقف مع احد افراد اسرة بني وطاس الذي فقد أمله في وقوف السبان والبرتغاليين معه‪.‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.366‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.366‬‬
‫‪-298-‬‬
‫وتحركت القوات العثمانية للوقوف مع ابي حسون الوطاسي وحصلت اصطدامات عسكرية‬
‫بين قوات محمد الشيخ والقوات العثمانية قرب بادس التي رسا بها السطول العثماني إل أن‬
‫الهزيمة لحقت بالقوات السعدية‪ ،‬مما أفسح المجال امام العثمانيين لكي يواصلوا زحفهم نحو‬
‫الداخل‪ ،‬وقبل أن تنتهي سنة ‪963‬هـ‪1553/‬م‪ ،‬سقطت مدينة تازة في يد العثمانيين الذين‬
‫اشتبكوا مع السعديين في معارك متواصلة اهمها بكدية المخالي في ساحة فاس‪ ،‬عند ذلك تقدمت‬
‫القوات العثمانية ومعها ابوحسون نحو فاس التي دخلتها في ‪ 3‬صفر سنة ‪964‬هـ‪ 8 /‬يناير‬
‫()‬
‫‪1554‬م ‪. 1‬‬
‫واعلن الباب العالي ضم المغرب الى الدولة العثمانية بعد ان خطب المام للسلطان‬
‫()‬
‫العثماني ‪. 2‬‬
‫ازداد فزع السبان والبرتغال لرؤية الساطيل العثمانية وهي تسيطر على بعض الموانئ‬
‫المغربية القريبة من مراكز احتللهم التي سيطر عليها العثمانيين ومن ثم التوجه للندلس‪ ،‬وقد‬
‫جاء في الرسالة التي بعثها الملك البرتغالي (جان الثالث) الى المبراطور شارل الخامس‪ ،‬مايدل‬
‫على هذا الفزع اذ كتب إليه يحثه على التدخل في المغرب للحيلولة دون توطيد العثمانيين‬
‫()‬
‫لقدامهم في هذه البلد‪ ،‬لن ذلك يشكل خطرا كبيرا على مصالح المتين ‪. 3‬‬
‫مكث صالح رايس بمدينة فاس اربعة اشهر ضمن خللها استقرار المور للدولة العثمانية‪،‬‬
‫وفي خلل تواجده في فاس لم يترك الجهاد ضد السبان فأرسل فرقة من جيشه الى الريف‬
‫()‬
‫المغربي استرجع من السبان معقلهم الكبير باديس او صخرة فالين كما يدعونها ‪ ، 4‬كما حاول‬
‫صالح رايس ان يستبدل الباشا العثماني ابا حسون بالشريف الدريسي الراشدي مولي بوبكر‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المغرب في عهد الدولة السعدية‪ ،‬ص ‪.81-80‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬بداية الحكم المغربي في السودان الغربي‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المغرب في عهد الدولة السعدية‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.342‬‬
‫‪-299-‬‬
‫بناء على اقتراح المرابطين الصوفيين للقيام على حكم فاس باسم السلطان العثماني‪ ،‬إل ان ثورة‬
‫الهالي اضطرت صالح رايس لعادة بوحسون الى حكم فاس‪ ،‬فأذعن بوحسون لشروط‬
‫العثمانيين بشأن الحفاظ على السيادة العثمانية من حيث الخطبة باسم السلطان العثماني واقامة‬
‫()‬
‫حامية عثمانية في مقر بلطة ‪. 1‬‬

‫تمهيده للعمل المشترك في استرداد الندلس‪:‬‬


‫لم يكن صالح رايس يهتم قبل كل شيء إل بمحاربة السبان‪ ،‬ول يهدف من وراء أي عمل‬
‫إل جمع القوى السلمية من أجل تطهير البلد من التواجد المسيحي‪ ،‬كان يرى قبل كل شيء‬
‫وجوب طرد السبان من وهران‪ ،‬من النزول الى الندلس‪ ،‬لكن كيف يتسنى له ذلك وسلطان‬
‫السعديين بالمغرب يترقب به الفرص وسلطان قلعة بني عباس ببلد مجانة يعلن انفصاله‬
‫واستقلله‪ ،‬ترامت لصالح رايس يومئذ النباء عن ضعف القوى السبانية بمدينة مجانة‪ ،‬علوة‬
‫عن معاناة الحامية بالضيق فرأى صالح أن يغتنم الفرصة وأن يبدأ بتطهير الشرق من السبان‬
‫قبل أن يطهر الغرب ولعل انقاذ بجاية سيكون له اثر في عودة ملك بجاية الى حظيرة الوحدة‬
‫السلمية تحت ضغط السكان سار صالح رايس في ربيع اول سنة ‪963‬هـ‪ /‬يناير ‪1555‬م‬
‫نحو مدينة بجاية على رأس قوة كبيرة بنحو ثلثين ألف رجل عززهم في الطريق بالمجاهدين‬
‫في امارة كوكو‪ ،‬فوطدت الجيوش العثمانية وحاصروا المدينة‪ ،‬بينما جاء السطول العثماني‬
‫( ‪)2‬‬
‫ودارت معركة‬ ‫يحمل السلحة والمدافع بجانب الجيش وصوب المسلمين قذائفهم على القلعة‬
‫عنيفة ونجح صالح رايس في انتزاع بجاية من السبان في ذو القعدة سنة ‪963‬هـ‪/‬سبتمبر‬
‫()‬
‫‪1555‬م‪ ،‬ولم يستطيع حاكم نابولي من نجدة حاكمها في الوقت المناسب ‪ ، 3‬كما استسلم الحاكم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اطوار العلقات المغربية العثمانية ‪ ،‬ابراهيم شحاتة‪ ،‬ص ‪.147‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.344-343‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث محمد خير فارس‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪-300-‬‬
‫()‬
‫السباني للقوات العثمانية ‪. 1‬‬

‫أولً ‪ :‬مقتل بوحسون الوطاسي‪:‬‬


‫واجه بوحسون منافسة محمد الشيخ السعدي الذي جمع قوات من السوس والحوز واتى‬
‫( ‪)2‬‬
‫وكان بوحسون بعد انسحاب العثمانيين قد‬ ‫بجنوده الى ان وصل رأس الماء من احواز فاس‬
‫اخذ في اعداد الجيوش وآلت الحرب الى ان قضت ثمانية شهور فأمر بالخروج لمواجهة‬
‫مولي محمد الشيخ والوصول الى مراكش ولما تقابل الجيشان قام بينهم قتال عظيم واستطاع‬
‫بوحسون أن ينزل بالسعديين هزيمة شنيعة حتى استطاع أن يردهم على أعقابهم‪ ،‬ثم أرسل‬
‫بوحسون لمولي محمد الشيخ وقال له‪ :‬أخرج أنت وأولدك الى لقائي وأنا أخرج إليكم بنفسي‬
‫ونترك المسلمين بدون قتال‪ ،‬فتظاهر محمد ورجع الى والده وأخوته الستة الذين اجتمعوا على‬
‫بوحسون فجعل يطاردهم حتى طمر به فرسه فسقط فطعنوه فأجتزوا رأسه وأتوا به جيشه‪،‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫وهكذا مات بوحسون بعد تسعة شهور من عودته‬ ‫فأنهزموا بل قتال‪ ،‬واخذ محمد الشيخ فاس‬
‫لحكم فاس‪ ،‬وان كانت قد ضاعت بموته الفرصة الولى لعلن السيادة العثمانية على فاس ‪ ،‬إل‬
‫ان احداث هذه الوقائع كانت تعني ان الفرصة مازالت واسعة امام العثمانيين لتطبيق غزوهم‬
‫المحلي للمغرب‪ ،‬لسيما وان محمد الشيخ السعدي باسم القضاء على الحزب العثماني بين‬
‫المغاربة أنزل القتل في اكثر من مائتين من كبار اعيان فاس فضلً عن الفقيهين المرينيين الى‬
‫()‬
‫محمد عبدالوهاب الزقاق قاضي فاس‪ ،‬والى الحسن علي حزوز خطيب فاس ‪. 4‬‬

‫ثانيا‪ :‬التعاون البرتغالي السباني السعدي ضد العثمانيين‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر العام (‪.)3/88‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ افريقيا الشمالية ‪ ،‬شارل جوليان (‪.)1/344‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية لمؤلف مجهول‪ ،‬ص ‪.20،21‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬اطوار العلقات المغربية‪ ،‬ص ‪.148‬‬
‫‪-301-‬‬
‫بعد عودة فاس للسعديين ظهر محمد الشيخ كخصم عنيد للعثمانيين‪ ،‬ومن المعارضين‬
‫لسياستهم التوسعية في بلد المغرب‪ ،‬بل والكثر من ذلك انه اعلن اثر دخوله فاس بأنه عازم‬
‫على الذهاب الى الجزائر لمنازلة العثمانيين هناك‪ ،‬فهذا التنافس السعدي العثماني على شمال‬
‫افريقيا‪ ،‬بل وعلى الخلفة السلمية كان في صالح السبان والبرتغال‪ ،‬ول عجب اذا رأينا بعد‬
‫()‬
‫ذلك تقاربا بين هؤلء جميعا ضد العثمانيين ‪. 1‬‬
‫بعث الملك جون الثالث رسالة الى حاكم مازكان البرتغالي الفارودي كالفولو ردا على الطلب‬
‫الذي تقدم به المولى محمد الشيخ الى كل من مدريد ولشبونة لتزويده بقوات عسكرية ضد‬
‫العثمانيين كما حددت الرسالة بعض الشروط التي يراها البرتغاليون لمساعدة السعديين كتسليم‬
‫بعض المراكز البحرية المغربية مثل بادس بنيون والعرائش‪ ،‬بالضافة الى تموين القوات‬
‫المسيحية التي سيرسلها لمساعدته ‪ ،‬وأخيرا يختتم الملك البرتغالي يوحنا الثالث بضرورة إخبار‬
‫المبراطور السباني بذلك للتنسيق في عمل مشترك ضد العثمانيين ‪ ،‬ونتيجة لهذا التقارب فقد‬
‫عقدت هدنة بين السعديين والبرتغال بواسطة حاكم مازكان لمدة ستة أشهر وذلك في مطلع‬
‫‪962‬هـ‪1555/‬م‪ ،‬وظل مفعول هذه الهدنة زمنا طويلً‪.‬‬
‫إذا كان حاكم مازكان هو الذي قام بدور الوساطة مع السعديين فإن المزوار بوغانم هو الذي‬
‫كلف من قبل المولى محمد الشيخ بالوساطة مع السبان وأول رسالة للمنصور في هذا الصدد‪،‬‬
‫تلك التي بعثها الى حاكم وهران السباني الكونت دي الكودين في مطلع ربيع أول‬
‫‪963‬هـ‪/‬يناير ‪1555‬م ‪ ،‬وقد أخبر المزوار الكونت السباني بوصول رسائله وأنه أعلم بها‬
‫المولى محمد الشيخ وابنه عبدال الذين أعربا عن سرورهما لقدوم وفد اسباني للتفاوض معه‪،‬‬
‫وقد ارسل حاكم وهران بالفعل الى فاس وفدا يتألف من ثلثة أشخاص جاؤوا للتفاق مع‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية‪ ،‬عبدالكريم كريم ‪ ،‬ص ‪.83‬‬


‫‪-302-‬‬
‫()‬
‫المولى محمد الشيخ حول إعداد حملة مشتركة اسبانية ‪ -‬مغربية ضد العثمانيين ‪. 1‬‬
‫وقد جاء في التقرير الذي رفعه الوفد للكونت حاكم وهران السباني الذي اشرف على سير‬
‫المحادثات (‪ ...‬بعد أسلمناه الرسائل ‪ ...‬طلب إلينا الملك السعدي أن نقول له شفويا عن سبب‬
‫المهمة التي قدموا من أجلها الى فاس ‪ ..‬إننا جئنا استجابة لطلب مولي عبدال والقائد منصور‬
‫بن غانم حيث طلب من حاكم وهران إرسال بعض الرجال للتفاوض في أمر الجزائر‪.‬‬
‫أجابنا الشريف بأنه ليزال عند فكرته وأنه يرغب في طرد العثمانيين من بقايا افريقيا ومن‬
‫أجل ذلك فهو يطلب من جللة المبراطور امداده بعشرة آلف مقاتل مسلحين بأسلحة نارية‪،‬‬
‫وأنه ( أي الشريف) يرى بأنه من المناسب أن يقوم جللة المبراطور بكل مايلزم لهؤلء‬
‫المقاتلين من نفقات ‪ ،‬ذلك لن طرد العثمانيين انما هو عمل تستفيد منه ممالك المبراطور‬
‫والمسيحية جمعاء ‪ ...‬وطالت المذكرات كثيرا وأخيرا علمني القائد برشميده‪ ،‬بأن الشريف قد‬
‫ادخر كثيرا من المال لمحاربة العثمانيين‪ ،‬وأنه يسعده أن يعين المبراطور على ذلك وأن المر‬
‫مستعجل جدا ‪.)...‬‬
‫(‪ ...‬جاء ذكر الجزائر ماذا نصنع بها بعد احتللها‪ ،‬فكان من رأي الملك السعدي تحطيم هذه‬
‫المدينة وإزالتها تماما‪ ،‬أما أهلها فتؤخذ أموالهم‪ ،‬وإذا امتنعوا فيقتلوا ورفض الملك السعدي أن‬
‫يؤخذوا عبيدا للمسيحيين‪ ،‬وذكر الوفد أن التراك أجانب عن البلد وأنهم أعداء له فيجب‬
‫معاملتهم معاملة العداء‪ ،‬أما العرب فيمكن أن تترك لهم حريتهم في حالة استسلمهم دون‬
‫مقاومة‪ .‬إل أن الملك السعدي أوضح أنه لن يسمح أبدا بأن يصبح أي عربي عبدا‪ ،‬لن هذا‬
‫()‬
‫مخالف للشريعة) ‪. 2‬‬
‫يتبين من خلل ذلك مدى حقد الشريف السعدي على العثمانيين ‪ ،‬الذي لم يتورع في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية‪ ،‬ص ‪.83،84‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.61،62‬‬
‫‪-303-‬‬
‫الستنجاد بالقوى المسيحية اسبانيا والبرتغال في سبيل تحقيق أهداف شخصية‪ ،‬حتى لو كان‬
‫على حساب عقيدته السلمية ومصالح المسلمين‪.‬‬
‫نتيجة لذلك التقرير فقد بعث الكونت الكوديت حاكم وهران ذلك الى المير فليب ابن‬
‫المبراطور شارل مشفوعة بخطاب هذا نصه‪ ...( :‬يجب علينا أن نعتبر أنفسنا سعداء جدا في‬
‫الوقت الذي يبذل فيه ملك فرنسا عدونا اللد كل جهوده للحصول على أسطول السلطان‬
‫العثماني‪ ،‬حتى يهاجم ممتلكات جللة المبراطور وكون أمير عربي يعرض علينا نفوذه في‬
‫مهاجمة العثمانيين في الجزائر ومحاربتهم وابعادهم عن الرض التي يحتلونها في افريقيا وذلك‬
‫فيما إذا قدمنا له اثنى عشر ألف من المقاتلين السبان على حسابه‪ ،‬كذلك يتعهد الشريف السعدي‬
‫في حالة الموافقة أن أبعث بأحد أبنائي رهينة لديه‪ ،‬وأن يصنع المال اللزم لتجهيز هذه الحملة‬
‫بكل سرعة ‪ ،‬بما أن هذه الصفقة ستجر خيرا عظيما على جللته وعلى المسيحية جمعاء فأنا ل‬
‫أتردد في قبول طلب الشريف وأرسل إليه ابني رهينة حتى لو كنت على يقين أنه يريد أن‬
‫يذبحه بل أنني وجميع من حولي مستعدين لتقديم أنفسنا كرهائن حتى لو كان الشريف يريد بيعنا‬
‫()‬
‫عبيدا‪. 1 )....‬‬

‫ثالثا‪ :‬المخابرات العثمانية تكتشف المؤامرة‪:‬‬


‫أطلع صالح ريس على تلك المؤامرة التي كانت تحاك ضد الدولة العثمانية بين ملك المغرب‬
‫والسبان والتي كان هدفها طرد العثمانيين من الجزائر‪ ،‬لنه طالما أن الدولة في الجزائر معناه‬
‫خطر على اسبانيا‪ ،‬فبعث صالح ريس للباب العالي يخبره بشأن تلك المحادثات‪ ،‬فكان جواب‬
‫السلطان سليمان سريعا وحاسما بوجوب مهاجمة وهران قبل أن تستمر المحادثات بين الجانبين‬
‫السعدي والسباني عن نتيجة عملية‪ ،‬فأرسل السلطان سليمان أربعين سفينة لمساعدته في‬
‫الستيلء على وهران والمرسى الكبير‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت كانت الهجرة والتجنيد الطوعي من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.365-364‬‬


‫‪-304-‬‬
‫مختلف أنحاء الدولة العثمانية هي التي تغذي الوجاق‪ ،‬الذي كان تبعا لذلك يتجدد على‬
‫()‬
‫الدوام ‪. 1‬‬

‫رابعا‪ :‬وفاة صالح ريس‪:‬‬


‫استعد صالح ريس لفتح وهران‪ ،‬وضم اسطوله الى جانب أسطول السلطان وصار لديه نحو‬
‫سبعين سفينة‪ ،‬واجتمع لديه من الجند ما يقارب من اربعين ألف جندي‪ ،‬وكان ينوي من اتمام‬
‫زحفه هذا بالمسير الى مراكش للقضاء على الفتن والضطرابات واخضاعها لسلطانه‪ ،‬ولكن‬
‫القدر لم يمهله فتوفى صالح ريس بالطاعون في شهر رجب ‪963‬هـ‪1556/‬م عن عمر سبعين‬
‫()‬
‫سنة ‪. 2‬‬
‫إن الدولة العثمانية سعت الى ضم المغرب في نطاق توحيد البلد السلمية والوقوف بها‬
‫صفا واحدا ضد الهجمات المسيحية‪ ،‬ذلك أن استقراره في قواعد بحرية تنتشر على طول‬
‫سواحل المغرب القصى المطلة على المحيط الطلسي‪ ،‬يعني في حقيقة المر نجاح الساطيل‬
‫العثمانية في اعتراض الطرق البرية للبرتغال أو اسبانيا مع العالم الجديد والشرق‪ ،‬من هنا نرى‬
‫أن نجاح الفكرة كان يعتمد اساسا على وصول العثمانيين الى تلك السواحل ليشاركهم في ذلك‬
‫المجاهدون الذين عملوا سنوات طويلة تحت أمرة أمراء البحر العظام‪ ،‬أمثال خير الدين‬
‫()‬
‫وعروج بربروسا وصالح رايس ‪. 3‬‬
‫قام القائد يحيى بإكمال خطة صالح ريس فأبحر نحو وهران وفي الطريق وصلت الوامر‬
‫السلطانية بتعيين حسن قورصو لمنصب بيلرباي ‪ ،‬ووصلت الجيوش البرية والبحرية الى‬
‫وهران وحوصرت حصارا شديدا‪ ،‬إل أنها لم تفتح رغم استعدادات العثمانيين الكبيرة وذلك‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص ‪.81‬‬


‫‪ )(2‬تاريخ الجزائر العام للجيللي (‪.)89-3/88‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬صراع المسلمين مع البرتغاليين في البحر الحمر‪ ،‬ص ‪.343‬‬
‫‪-305-‬‬
‫()‬
‫بسبب النجدات المتواصلة التي كانت تبعثها اسبانيا الى المدينة المحاصرة ‪. 1‬‬

‫خامسا‪ :‬احتلل محمد الشيخ السعدي لتلمسان‪:‬‬


‫انتهز الشريف السعدي محمد الشيخ فرصة عودة السطول العثماني الى استنبول فأسرع‬
‫بإرسال جيوشه نحو تلمسان التي كان رجالها قد انضموا الى صفوف المجاهدين في محاولتهم‬
‫لسترجاع وهران فدخلها الشريف السعدي على غفلة ووضع على رأسها القائد ابن غنام زعيم‬
‫القبائل بني راشد ‪ ،‬ووزير آخر ملوك الزيانيين المحتمين باسبانيا‪ ،‬أما الحامية العثمانية‬
‫الموجودة في تلمسان بقيادة القائد محمود صفا بك فقد استطاعت الصمود في وجه السعديين‬
‫حتى احتوت ذلك الهجوم السعدي‪.‬‬
‫إن السعديين كانوا يرون في ضم تلمسان عاملً قويا في توطيد سيطرتهم على المغرب‬
‫الشرقي لصد كل تدخل عثماني في المغرب بعكس العثمانيين الذين كانوا يرون في التمركز‬
‫()‬
‫بتلمسان تدعيما لوجودهم في الجزائر وقاعدة حصينة لغزو المغرب ‪ ، 2‬باعتبارها أقرب نقطة‬
‫للوصول للندلس كما أن شواطئ المغرب الشمالية والغربية تعتبر قواعد رئيسية لتهديد‬
‫()‬
‫المواصلت البحرية للبرتغاليين والسبان ‪. 3‬‬
‫بدأت الدولة العثمانية بتغيير سياستها مع الحكام السعديين‪ ،‬عندما بعث السلطان سليمان‬
‫القانوني برسالة الى سلطان الدولة السعدية يهنئه بما أحرزه من انتصارات ويعلمه لما كان عليه‬
‫بنو مرين من الهدايا والرد والخدمة والميل إليه‪ ،‬وأن السلطان في نصرتهم وقد سبق وأن ظهر‬
‫ذلك في آخر ملوك دولتهم أبي حسون‪ ،‬الذي زوده بأربعة آلف جندي كان ذلك في محاولة من‬
‫السلطان لتكوين اتحاد اسلمي كبير يواجه به الخطار الخارجية‪ ،‬غير أن ذلك قوبل بالرفض‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.366،367‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صراع المسلمين مع البرتغاليين في البحر الحمر ‪ ،‬ص ‪.345‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪:‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.378‬‬
‫‪-306-‬‬
‫من السلطان السعدي محمد الشيخ‪ ،‬الذي رد على مبعوث السلطان بقوله ‪( :‬سلم على أمير‬
‫القوارب سلطانك وقل له أن سلطان الغرب لبد أن ينازعك على محمل مصر ويكون قتاله‬
‫()‬
‫معك عليه إن شاء ال ويأتيك الى مصر والسلم) ‪. 1‬‬
‫يظهر من ذلك استياء محمد الشيخ الذي لم يكن يرى شرعية الخلفة العثمانية‪ ،‬كما أظهر‬
‫()‬
‫طموح محمد الشيخ الذي كان يحلم بإمامة المسلمين في مشارق الرض ومغاربها ‪. 2‬‬

‫سادسا‪ :‬مقتل محمد الشيخ‪:‬‬


‫قتل محمد الشيخ في عام ‪964‬هـ‪1557/‬م من قبل حرسه الخاص وتطورت الحداث‬
‫بالمغرب وخاصة فيما يتعلق بالدولة السعدية‪ ،‬إذ لم يعد هناك مجال للشك في أن العثمانيين إنما‬
‫يسعون جادين للستيلء على المغرب ل باعتباره الجزء المتمم للشمال الفريقي فحسب‪ ،‬بل‬
‫()‬
‫ولهميته الستراتيجية كأقرب نقطة الى بلد السبان والبرتغال ‪. 3‬‬

‫عودة حسن بن خير الدين الى الجزائر‪:‬‬


‫رأى السلطان العثماني ضرورة إعادة حسن بن خيرالدين الى الجزائر وذلك بعد مصرع‬
‫حسن قور عام ‪964‬هـ‪1557/‬م بعد انقطاع استمر لعدة أعوام قضاها في الجهاد في مواطن‬
‫اخرى‪ ،‬واستبشر الناس برجوعه‪ ،‬وشرع في ترتيب أمور الجزائر‪ ،‬فنظم الدارة ‪ ،‬ورتب‬
‫الجيش ترتيبا أعانه على ضبطه وبدأ في رحلته الجهادية ووضع أمامه هدفين عظيمين ‪ ،‬تطهير‬
‫()‬
‫الشمال الفريقي من الوجود المسيحي واسترداد الندلس لحوزة المسلمين ‪. 4‬‬

‫سابعا ‪ :‬الثورات الداخلية في المغرب القصى‪:‬‬

‫‪ )(1‬تاريخ الدولة السعدية لمؤلف مجهول ‪ ،‬ص ‪.26،27‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.379‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية‪ ،‬عبدالكريم كريم ‪ ،‬ص ‪.85‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.380‬‬
‫‪-307-‬‬
‫اندلعت الثورات المناهضة للمارة السعدية بعد مقتل محمد الشيخ في تارودانت‪ ،‬فقامت ثورة‬
‫المولى عثمان في السوس بالجنوب في جمادى الول عام ‪965‬هـ‪ /‬فبراير عام ‪1558‬م‪ ،‬وثورة‬
‫المولى عمر في دبدو بالمشرق في رجب عام ‪965‬هـ‪ /‬ابريل عام ‪1558‬م وثورة المولى‬
‫عبدالمؤمن في مراكش في ربيع الول عام ‪966‬هـ‪ /‬ديسمبر عام ‪1558‬م‪ ،‬ثم كانت المذبحة‬
‫الجديد التي أنزلها عبدال الغالب بثلث من أخوته لرفضهم البيعة بولية العهد لبنه محمد‬
‫المتوكل‪ ،‬مما اضطر أخوته للهروب الى تلمسان والجزائر فهرب المولى عمر والمولى‬
‫()‬
‫عبدالمؤمن وعبدالملك وأحمد المنصور‪ ،‬وذلك خوفا من القتل ‪. 1‬‬
‫قصد عبدال الغالب الى مراكش ثم تارودانت حيث انتقم من قتلة أبيه‪ ،‬كما قضى على ثورة‬
‫السوس التي نزعها عثمان ‪ ،‬ثم عاد سريعا الى فاس لعداد قواته‪ ،‬لصد الحملة العسكرية التي‬
‫يقودها حسن بن خير الدين الذي حاول اغتنام فرصة الحداث الداخلية المغربية لحتلل‬
‫( ‪)2‬‬
‫وقامت بين الطرفين معركة على وادي اللين بالقرب من فاس لم تسفر عن شيء إل‬ ‫البلد‬
‫أن حسن بن خير الدين الذي وصلته أنباء عن تحرك السبان من مدينة وهران بما يوشك أن‬
‫يقطع عنه خط العودة‪ ،‬فذهب الجيش العثماني الى مرفأ قصاصة في الشمال فركب سفينة وعاد‬
‫()‬
‫للجزائر بينما ذهب قائد تلمسان الى حاميته استعدادا للحوادث المقبلة ‪. 3‬‬

‫ثامنا‪ :‬مقتل حاكم وهران الكوديت‪:‬‬


‫كان دو الكوديت حاكم وهران يدرك أن استرجاع العثمانيين لتلمسان يهدد الوجود السباني‬
‫تهديدا خطيرا فقرر الستيلء على مستغانم التي جعلها العثمانيون قاعدة لهم للهجوم على‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬أطوار العلقات المغربية العثمانية‪ ،‬ص ‪.17‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية‪ ،‬عبدالكريم كريم ‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.372‬‬
‫‪-308-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫لذلك أعد قوة كبيرة‬ ‫وهران‪ ،‬وكان دا الكوديت يأمل أن يجعلها قاعدة للهجوم على الجزائر‬
‫تتكون من أثنى عشر ألف مقاتل وخرج على رأسها فهاجم مدينة مستغانم ‪ ،‬إل أن محاولته‬
‫باءت بالفشل إذ تكبدت القوات السبانية في ذي القعدة عام ‪965‬هـ‪ /‬أغسطس عام ‪1558‬م‬
‫خسائر فادحة وكان حاكم وهران الكوديت من بين القتلى‪ ،‬ورغم فشل الحملة السبانية ضد‬
‫مستغانم فإن العثمانيين لم يعد لديهم أدنى شك في تواطئ المولى عبدال الغالب بال مع السبان‬
‫مما جعلهم يتخذون جانب الحيطة والحذر عند محاولة القيام بمساعدة الثائرين ضد الحكام‬
‫السعديين‪ ،‬فعندما ثار المولى عبدالمؤمن في مراكش في ربيع الول عام ‪966‬هـ‪ /‬ديسمبر‬
‫‪1558‬م واستنجد بوالي الجزائر الذي لم يمده بأية مساعدة عسكرية بل رحب به في بلد‬
‫()‬
‫الجزائر وزوجه بإحدى بناته ثم وله مدينة تلمسان ‪. 2‬‬

‫المبحث الثامن‬

‫سياسة حسن بن خير الدين‬

‫في التضييق على السبان‬

‫أراد حسن بن خير الدين أن يغتنم فرصة انتصار مستغانم لتطهير المركز السباني في‬
‫وهران وأخذ يستعد في مدينة الجزائر لجمع قوى جديدة منظمة منقادة الى جانب الجيش‬
‫()‬
‫العثماني‪ ،‬فجند عشرة آلف رجل من زواوة ‪ ، 3‬كما أنشأ قوة أخرى ووضع على رأسها أحد‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬لسان المعرب ‪ ،‬لبي عبدال السليماني ‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية‪ ،‬ص ‪.87‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.377‬‬
‫‪-309-‬‬
‫أعوان والده القدامى وفي الوقت نفسه حاول الحصول على تأييد القوة المحلية فتزوج من ابنة‬
‫سلطان كوكو ابن القاضي وكان هذا الزواج يخدمه من ناحية اخرى في الستعانة بقوة ابن‬
‫()‬
‫القاضي لمواجهة زعيم قبلي آخر (عبدالعزيز بن عباس) الذي أعلن استقلله في المغرب ‪، 1‬‬
‫()‬
‫بذلك صار اسطول الدولة العثمانية يتردد دائما على مدينتي حجر باديس وطنجة ‪. 2‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫قائدا على باديس‪ ،‬فقام‬ ‫عين حسن بن خير الدين في عام ‪965‬هـ‪1558/‬م بويحيى الرايس‬
‫بتخريب الساحل السباني من قرطاجنة حتى رأس سانت فنست‪ ،‬وصار تحت قيادته في باديس‬
‫عدة سفن وتلقب بحق سيد مضيق جبل طارق‪ ،‬وقد جاء في تقرير اسباني بقلم فرانسكوا دي‬
‫ايبانير أن يحي يملك أربع سفن حربية الولى بقيادته وعلى ظهرها ‪ 90‬عثماني مسلحين‬
‫بالسهام والقواس والمناجيق والثانية يقودها قره مامي وعلى ظهرها ‪ 80‬عثماني مسلحين بنفس‬
‫السلحة والثالثة بقيادة مراد الرايس بقوة ‪ 70‬جندي‪ ،‬والرابعة تحمل نفس العدد وبنفس السلحة‬
‫وبالضافة الى هذه السفن الربعة العاملة عبر مياه المضيق‪ ،‬كان في حوزة بويحي سفينتان في‬
‫باديس ويقوم بصنع سفينة اخرى‪ ،‬ويتصل بنشاط سفن باديس سفن تطوان العرائش وسل‪ ،‬ففي‬
‫تطوان ثلث سفن صغيرة ‪ ،‬وفي العرائش ثلث سفن اخرى على شاكلة سفن تطوان‪ ،‬وفي سل‬
‫سفينتان من النوع الخر‪ ،‬إل أن السفن الخيرة لم تتبع قيادة بويحي ودعا حسن بن خير الدين‬
‫السفن الحربية السلمية للنهوض بنشاط يستهدف تخريب سواحل الندلس والستيلء على‬
‫سفن الهند ورفع تجار اشبيلية نتيجة لذلك شكواهم للملك السباني يشكوون فيها الفظائع التي‬
‫تركتها سفن باديس والسفن السلمية الخرى ضد السفن السبانية على طريق الملحة‬
‫()‬
‫والتجارة الهندية ‪ ، 4‬ولم تستطع السفن العبور دون إذن من بويحي‪ ،‬فعم الخوف سكان الساحل‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حقائق الخبار عن دول البحار (‪.)1/319‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.381‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬أطوار العلقات المغربية العثمانية‪ ،‬ص ‪.219‬‬
‫‪-310-‬‬
‫السباني ‪ ،‬لدرجة أن هؤلء لم يكونوا يزرعون أراضيهم إل بكل حذر‪ ،‬وغالبا ما كان‬
‫()‬
‫العثمانيون يحاصرونهم أثناء عملهم وكذلك الصيادون لم يكونوا يبتعدون كثيرا عن الشاطئ ‪. 1‬‬

‫سياسة المولى عبدال‪:‬‬


‫تابع المولى عبدال سياسة والده الرامية الى مقاومة الهدف في المغرب والستعانة في سبيل‬
‫ذلك بأعداء العثمانيين من اسبان وبرتغال عن طريق مهادنتهم ‪ ،‬والمحافظة على أحوال السلم‬
‫معهم وقد دفعته سياسة المهادنة مع النصارى الى الستجابة لكثير من المطالب التي تقدمت بها‬
‫بعض الدول الوروبية كفرنسا التي استقبل سفيرها وحمله الى المير أنطونيو دي بربون‬
‫رسالة يعبر فيها عن استعداد المغرب للستجابة للمطالب الفرنسية‪ ،‬ثم عقد المير الفرنسي‬
‫معاهدة في شوال ‪966‬هـ‪ /‬يوليو ‪1559‬م مع المولى عبدال الذي تنازل عن المرسى الصغير‬
‫لفرنسا مقابل مده بالسلحة والعتاد الحربي ‪ ،‬وإرسال فرقة عسكرية تكون بمثابة حرس خاص‬
‫للغالب‪ ،‬بعد ان فقد ثقته بالحرس التركي الذي سبق وأن أغتال والده محمد الشيخ كانت فرنسا‬
‫بعد أن عقدت معاهدة كاتوكمبر سيس في ‪ 21‬جمادى الولى في سنة ‪966‬هـ‪ 13 /‬ابريل‬
‫‪1559‬م مع اسبانيا والتي أنهت الحرب اليطالية‪ ،‬أخذت تبحث عن أسلوب جديد يمكن العتماد‬
‫عليه في حالة تجدد النزاع مع اسبانيا‪ ،‬خصوصا وقد صار لفليب الثاني نفوذ قوى في اوروبا‪،‬‬
‫لن المعاهدة المذكورة دعمت نفوذ اسبانيا في ايطاليا والراضي المنخفضة مما يهدد فرنسا‪،‬‬
‫فأخذ في التقرب من المغرب البلد السلمي‪ .‬ومما لشك فيه أن فرنسا كانت ترى في المغرب‬
‫حليفا يمكن العتماد عليه‪ ،‬كما كانت ترى في ميناء القصر الصغير الستراتيجي الذي ليبعد إل‬
‫بضع كيلومترات عن جبل طارق منطقة هامة يمكن إتخاذها للهجوم على اسبانيا‪.‬‬
‫ولعل ذلك كان سببا في عدم قيام الدولة العثمانية بموقف إيجابي تجاه المعاهدة لنها كانت‬
‫تأمل في أن تقوم فرنسا بدور الوسيط مع السعديين ‪ ،‬فهدف الدولة العثمانية وفرنسا واحد في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية ‪ ،‬ص ‪.90‬‬


‫‪-311-‬‬
‫مسألة الهجوم على اسبانيا وإن اختلفت من الناحية العقائدية ففرنسا كانت ترغب في الهجوم‬
‫على اسبانيا من أجل تحقيق نصر عسكري لتكون سيدة الموقف في غرب البحر المتوسط‪ ،‬بينما‬
‫الدولة العثمانية تهدف الى انقاذ المسلمين من الحكام السبان ثم استرداد الراضي السلمية في‬
‫الندلس حَوّلَ حسن بن خير الدين انظاره سنة ‪966‬هـ‪1559/‬م وتحرك بجيوشه نحو النواحي‬
‫التابعة لمير قلعة بني عباس عبدالعزيز فاستولى على المسيلة وحصنها وبني برجا وذلك لتثبيت‬
‫الوجود العثماني هناك‪ ،‬ووضع حامية بلغ عددها أربعمائة جندي‪ ،‬ثم عاد حسن بن خيرالدين‬
‫متوجها الى بلد حمزة في أنحاء بربرة‪ ،‬عندها انقض أمير قلعة بني عباس على الحصن‬
‫العثماني ونشبت معارك بين الحامية العثمانية لقي فيها المير عبدالعزيز بن عباس صاحب‬
‫القلعة حتفه وخلفه أحمد مقران الذي أمتلك نواحي بلد كوكو فاعترف به حسن بن خير‬
‫()‬
‫الدين ‪. 1‬‬
‫اشتدت حملة ازعاج تجارة المسيحيين من ناحية موانئ تونس والجزائر وذلك بالغارة على‬
‫السفن المسيحية‪ ،‬كما بعثت تلك الموانئ ببعض القوات العسكرية البرية وجزء من السطول‪،‬‬
‫()‬
‫لمساندة السلطان في الشرق ‪. 2‬‬
‫أولً ‪ :‬السطول العثماني يهاجم جربة في تونس‪:‬‬
‫قام السطول العثماني بقيادة بيالي باشا بالهجوم على جزيرة جربة في رمضان سنة‬
‫()‬
‫‪967‬هـ‪/‬مايو ‪1560‬م‪ ،‬ونجح السطول في تحقيق أهدافه ضد السبان ‪ ، 3‬الذين لم يجدوا‬
‫()‬
‫حرجا من الستنجاد بفرنسا ‪ ، 4‬بعد ذلك كان من المقرر أن يقوم بيالي باشا ببعض الغارات في‬
‫البحر المتوسط قبيل عودته لقسطنطينية‪ ،‬ولكن درغوث باشا الذي سبق وأن ضايقه الثوار في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية‪ ،‬ص ‪.88-87‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر العام (‪.)3/91‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.384‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.384‬‬
‫‪-312-‬‬
‫الداخل‪ ،‬أقنع بيالي باشا بالتوجه الى طرابلس لمساعدته في القضاء على التمرد قرب تاجوراء‪،‬‬
‫وقد وصل بيالي باشا الى طرابلس وصول الفاتحين ودخلت السفن العثمانية المزينة بالعلم‬
‫والشارات التي غنمها من العداء بينما كانت أعلم العداء منكسة فوق سواري السفن وقام‬
‫بيالي باشا بطرابلس أياما قليلة كافية لمعاقبة سكان تاجوراء‪ ،‬ثم أقلع بأسطوله صوب‬
‫()‬
‫عاصمته ‪. 1‬‬

‫ثانيا‪ :‬اعتقال حسن خير الدين وأرساله الى استانبول‪:‬‬


‫استمر حسن خير الدين في استعداداته لمهاجمة المغرب‪ ،‬فشرع في تكوين قوة من رجال‬
‫القبائل كان ينوي أن يوكل إليها حراسة الجزائر أثناء غيابه لعدم ثقته بالنكشارية ‪ ،‬الذين‬
‫احسوا بالخطر فقاموا في صيف ‪696‬هـ‪1561/‬م بإعتقال حسن باشا وأعوانه وأرسلوه مقيدا‬
‫الى استانبول ورافق حسن باشا عدد من زعماء الجند مهمتهم أن يوضحوا للسلطان السباب‬
‫التي دفعتهم الى هذا التصرف متهمين حسن باشا أنه كان ينوي القضاء على الوجاق والعتاد‬
‫على جيش محلي بغرض الستقلل عن السلطان‪ ،‬لكن السلطان ارسل أحمد باشا مع قوة بحرية‬
‫لمعاقبة المتمردين والقضاء على الفوضى ونجح احمد باشا في اعتقال زعماء التمرد وأرسلهم‬
‫()‬
‫الى استانبول ‪. 2‬‬

‫ثالثا‪ :‬عودة حسن بن خير الدين الى الجزائر‪:‬‬


‫أعاد السلطان العثماني سليمان القانوني حسن بن خير الدين الى بيلربكية الجزائر للمرة‬
‫الثالثة في أواخر سنة ‪970‬هـ‪1562/‬م معززا بعشرة سفن حربية ومزودا بقوة عسكرية‬
‫( ‪)3‬‬
‫قضى بعدها حسن بن خير الدين خمسة أشهر بعد عودته يهيء العدة والعتاد لمهاجمة‬ ‫مسلحة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬ليبيا منذ الفتح العربي‪ ،‬اتوري روسي‪ ،‬ص ‪.190‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر العام (‪.)3/93‬‬
‫‪-313-‬‬
‫()‬
‫وهران والمرسى الكبير وهما كل مابقي لسبانيا ببلد الجزائر ‪. 1‬‬
‫خرج حسن بن خير الدين في سنة ‪971‬هـ‪1563/‬م من مدينة الجزائر نحو الغرب ‪ ،‬يقود‬
‫جيشا كبيرا مؤلفا من خمسة عشر ألف رجل من رماة البندقية وألف فارس من الصباحية تحت‬
‫أمرة احمد مقرن الزواوي ‪ ،‬واثنى عشر ألف رجل من زواوة وبني عباس‪ ،‬أما مؤن وذخيرة‬
‫الجيش فقد حملها السطول العثماني الى مدينة مستغانم التي اتخذها قاعدة للعمليات وفي ‪13‬‬
‫ابريل وصل حسن خير الدين بكامل قوته أمام مدينة وهران وضرب حصار حولها‪ ،‬وكان‬
‫()‬
‫السبان مستعدين لتلقي الصدمة وراء حصونهم وقلعهم ‪ ، 2‬بعد أن توالت النجدات السبانية‬
‫والبرتغالية على وهران استجابة لنداء حاكمها‪ ،‬ومنذ أن صارت القوات العثمانية على مسافة‬
‫مرحلتين‪ ،‬وبينهما كان البيلربك نفسه على بعد ست مراحل مما اضطر حسن بن خير الدين الى‬
‫( ‪)3‬‬
‫رفع الحصار قبل وصول المزيد من هذه النجدات التي اتخذت من مالطة مركزا لتجمعها‬
‫وهكذا لم يستطع حسن بن خير الدين من تحقيق هدفه ذلك لن فيليب الثاني كان قد وضع‬
‫برنامجا طموحا للسطول السباني‪ ،‬والبناء البحري في ترسانات إيطاليا وقطالونيا‪ ،‬كما وردت‬
‫لخزانة اسبانية إعانة من البابوية واجتمعت سلطة قشتالة التشريعة في جلسة غير عادية ‪،‬‬
‫وأقرت وجوب امداد اسبانيا بمعونات مالية‪ ،‬لتساندها في حربها مع العثمانيين ‪ ،‬ومما كانت‬
‫ثمرة تلك المجهودات وإعادة التنظيم لهيكل اسبانيا وهزيمة العثمانيين في وهران سنة ‪971‬هـ‪/‬‬
‫‪1563‬م‪.‬‬
‫بدأ فيليب الثاني يستعد لحتلل جزيرة باديس وتشجع بذلك النصر الذي حققه في وهران ‪،‬‬
‫وتوجه لذلك اسطولً في نفس السنة ‪971‬هـ‪1563/‬م‪ ،‬فقاومه المجاهدون مقاومة عنيفة‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة ‪ ،‬ص ‪.379‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.379‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬أطوار العلقات المغربية العثمانية ‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫‪-314-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫والجدير بالذكر أن جزيرة باديس كانت أقرب نقطة مغربية‬ ‫اضطرت السطول الى التراجع‬
‫()‬
‫الى جبل طارق‪ ،‬وأنها كانت بالنسبة للمجاهدين ميناءً هاما ‪ ، 2‬إذ يمكنهم من خللها العبور‬
‫للندلس ‪ ،‬كما يمكنهم التسلل لداخل الراضي السبانية لتقديم المساعدة للمسلمين هناك والذين‬
‫أطلقوا على أنفسهم الغرباء‪ ،‬وهذا مادفع السبانيين الهجوم عليها من خلل محاولتهم السابقة كما‬
‫كانت جزيرة باديس بالضافة الى ذلك مثار رعب وخوف لدى السلطان السعدي الغالب بال‪ ،‬إذ‬
‫خاف السلطان أن يخرج السطول العثماني من تلك الجزيرة الى المغرب‪ ،‬فاتفق مع السبان أن‬
‫يخلي لهم الدالة من حجرة باديس ويبيع لهم البلد ويخليها من المسلمين ‪ ،‬وينقطع اسطول‬
‫()‬
‫العثمانيين في تلك الناحية ‪ ، 3‬مقابل الدفاع عن شواطئ المغرب إذ هاجمها السطول العثماني‬
‫( ‪)4‬‬
‫كما عزل بويحي رايس من منصبه في‬ ‫الذي علم بتلك المؤامرة فانسحب ورجع الى الجزائر‬
‫باديس في أواخر عام ‪971‬هـ‪1563/‬م‪ ،‬وانصرف العثمانيون عن الحرب في غرب البحر‬
‫()‬
‫المتوسط‪ ،‬إذ توجه نشاط السطول الحربي الى جزيرة مالطة في الشرق ‪. 5‬‬

‫رابعا‪ :‬الصراع على مالطة‪:‬‬


‫كان السلطان العثماني سليمان القانوني قد عزم على فتح جزيرة مالطة التي كانت أكبر معقل‬
‫للمسيحيين في وسط البحر المتوسط‪ ،‬والتي سبق وأن استقر فيها فرسان القديس يوحنا‪ ،‬فأرسل‬
‫السلطان العثماني أسطوله بقيادة بيالي باشا نفسه‪ ،‬كما طلب من درغوث رايس حاكم طرابلس‬
‫وجربة‪ ،‬وحسن خيرالدين أن يتوجها على رأس أسطوليهما السلميين للمشاركة في عملية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.389‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية‪ ،‬عبدالكريم كريم ‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة السعدية لمؤلف مجهول‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ المغرب لمحمد بن عبود ‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬أطوار العلقات المغربية العثمانية‪ ،‬ص ‪.191-190‬‬
‫‪-315-‬‬
‫مالطة واخضاعها استعدادا لمنازلة بقية المعاقل السلمية بعد ذلك فسار حسن بن خير الدين‬
‫على رأس عمارة تشمل ‪ 25‬سفينة وثلثة آلف رجل ووصل السطول السلمي أمام مالطة‬
‫يوم ‪ 18‬مايو وفرض الحصار عليها‪ ،‬واستمر الحصار ضيقا شديدا الى أن جهزت المسيحية‬
‫رجالها وأساطيلها ووصل المدد تحت قيادة نائب الملك في صقلية‪ ،‬برفقة اسطول تعداده ‪28‬‬
‫سفينة حربية تحمل عدد كبير من المقاتلين ونشبت المعركة بين الطرفين‪ ،‬وتمكن السطول‬
‫()‬
‫السلمي من النسحاب في ‪ 18‬ربيع الول ‪973‬هـ‪ 8/‬ديسمبر ‪1565‬م ‪. 1‬‬

‫خامسا ‪ :‬حسن بن خير الدين بربروسة القائد العام للسطول العثماني‪:‬‬


‫خلف السلطان سليمان القانوني السلطان سليم الثاني‪ ،‬الذي اسند منصب القائد العام للسطول‬
‫العثماني الى حسن بن خير الدين ؛ فترك الجزائر متوجها الى استانبول سنة ‪975‬هـ‪156/‬‬
‫()‬
‫‪7‬م ‪ ، 2‬وتولى منصب بيلر بي الجزائر بعد حسن بن خير الدين محمد بن صالح رايس‪ ،‬في ذي‬
‫الحجة ‪974‬هـ‪/‬يونيو ‪1567‬م وصادف في تلك السنة انتشار الوبئة والمجاعة‪ ،‬صحبها تمرد‬
‫الجند العثماني واضرب الشعب‪ ،‬فاضطر الى صرف وقته في مواساة المصابين وتسكين الفتن‪،‬‬
‫ثم فاجأت محمد صالح رايس ثورة عامل قسنطية المتأثرة بولة تونس الحفصيين فعزله البيلر‬
‫باي وقضى على ثورته وولى على قسنطنية القائد رمضان بن تشولق‪ ،‬وفي ربيع الول سنة‬
‫‪975‬هـ‪/‬سبتمبر ‪1567‬م‪ ،‬هاجم السبان مدينة الجزائر‪ ،‬إل أنهم ردوا على أعقابهم ‪ ،‬ثم لم تطل‬
‫()‬
‫ولية محمد صالح بن رايس‪ ،‬إذ تعين نقله الى ولية أخرى في أنحاء الدولة ‪. 3‬‬

‫سادسا ‪ :‬قلج علي تولى بيلر بك الجزائر‪:‬‬


‫اسند منصب بيلربك الجزائر الى قلج علي في ‪ 14‬صفر سنة ‪976‬هـ‪/‬الموافق ‪ 8‬أغسطس‬

‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.383‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.385‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر العام (‪.)3/94،95‬‬
‫‪-316-‬‬
‫()‬
‫‪1568‬م وعرف عنه بالعزم في تسيير الدارة والبطولة الحربية والشجاعة ‪. 1‬‬
‫اتخذ قلج علي خطوات عملية لتنفيذ مشروع خطير للغاية وهو إعادة الحكم السلمي في‬
‫اسبانيا وتحرير الشمال الفريقي من الجيوب الصليبية فوجه اهتمامه الى السطول أكثر من‬
‫()‬
‫غيره وصار بعده مبعث قلق ورهبة للوروبيين ‪ ، 2‬كما انتزع من الفرنسيين حق احتكار‬
‫المرجان بمركز القالة بسبب تماطلهم وتخلفهم عن دفع الضريبة لثلث سنوات مضت وتصرفهم‬
‫()‬
‫في المنطقة التي نزلوا فيها تصرف السادة ‪. 3‬‬

‫سابعا‪ :‬إعادة تونس للحكم العثماني‪:‬‬


‫صمم قلج علي على ضرورة تصفية القواعد السبانية في تونس‪ ،‬قبل أن يبدأ نشاطه في شبه‬
‫()‬
‫الجزيرة اليبيرية ‪ ، 4‬وذلك لتعبئة الدفاع عن طرابلس والجزائر وكان السبان قد اتخذوا من‬
‫()‬
‫تونس نقطة ارتكاز وقاعدة انطلق على العثمانيين في طرابلس والجزائر ‪ ، 5‬لذلك لبد من‬
‫تأمينها‪.‬‬
‫كان قلج علي على اتصال بالوزير الحفصي أبي الطيب الخضار ورأى ذلك الوزير أن فتح‬
‫()‬
‫تونس قد حان وقته وأرسل الى قلج علي يهون عليه أمرها ويتعهد له بتقديم العون ‪. 6‬‬
‫جهز بيلربك الجزائر قلج علي جيشا مؤلفا من نحو سبعة آلف مقاتل وزحف به نحو تونس‬
‫فقابل سلطانها أبي العباس أحمد بباجة‪ ،‬ثم بعد قتال عنيف انهزم المير الحفصي وتقدم قلج علي‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه (‪.)3/95‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ أفريقيا الشمالية‪ ،‬شارل جوليان (‪.)3/346‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المغرب العربي الكبير‪ ،‬شوقي الجمل‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬المغرب العربي الكبير‪ ،‬جلل يحيى‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬التراك العثمانيون في شمال افريقيا‪ ،‬عزيز سامح‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪ )(6‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث ‪ ،‬ص ‪..49‬‬
‫‪-317-‬‬
‫بمجموعة نحو تونس وأخذ بيعة أهلها للسلطان سليم الثاني ورتب حامية لحراسة البلد تحت‬
‫()‬
‫رعاية حيدر باشا وعاد الى مقره بالجزائر ‪ ، 1‬وبقيت منطقة حلق الواد بيد السبان‪ ،‬وكانت‬
‫قوات قلج علي لتكفي وحدها لتطهير البلد من الحتلل السباني ‪ ،‬لذا فإنه كتب الى استانبول‬
‫()‬
‫يطلب مده بقوة تكفي لتحرير الموقع ‪ ، 2‬وكان اهتمام قلج علي بشرق الجزائر سياسة اختص‬
‫بها من دون اسلفه‪ ،‬فكان يرى أنه لبد من تأمين ظهره ليتسنى له التقدم للغرب‪ ،‬ثم التوجه‬
‫()‬
‫للندلس‪ ،‬بعد أن يكون قد أضعف التواجد السباني في الشمال الفريقي ‪. 3‬‬

‫ثامنا‪ :‬ثورة مسلمي الندلس‪:‬‬


‫كانت حركة الجهاد في الشمال الفريقي قد شجعت مسلمي الندلس وفجرت طاقاتهم الكامنة‬
‫وجعلتهم يتغلبون على الحواجز النفسية التي بنيت في نفوسهم على مر السنين وسادت القاليم‬
‫السبانية موجة من الظلم والرهاب والفظائع‪ ،‬فهذه الحالة المربكة وماصاحبها من مظالم‬
‫وويلت جعلت بقية مسلمي اسبانيا في الجنوب سواء من الذين ظلوا محافظين على دينهم أو‬
‫()‬
‫المنتصرين ظاهريا‪ ،‬يتأهبون للنقضاض على الحكم السباني ‪. 4‬‬
‫سادت اسبانيا ارهاصات ثورة المسلمين في غرناطة فشكل الملك السباني فيليب الثاني نوعا‬
‫جديدا من الميلشيات تقيم في كل مدينة من مدن اسبانيا لمواجهة الثورة بين الذين استقبلوا‬
‫مبعوثين من ملك فاس لجمع الخراج على تبعيتهم في الولء لسيادة المير السعدي‪ ،‬كما تلقى‬
‫()‬
‫مسلمي الندلس مساعدات عثمانية ‪ ، 5‬اصبح الموقف صعبا بالنسبة لسبانيا خاصة غرناطة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر العام (‪.)3/96‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التراك العثمانيون في افريقيا الشمالية‪ ،‬ص ‪.85‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.395‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة ‪ ،‬ص ‪.392‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬أطوار العلقات المغربية العثمانية‪ ،‬ص ‪.204-179‬‬
‫‪-318-‬‬
‫ومما زاد الحالة خطورة أن بحرية فيليب الثاني كانت متفرقة في أنحاء بعيدة‪ ،‬وحصونه غير‬
‫معززة والسواحل مكشوفة‪ ،‬خاصة الشواطئ الجنوبية موقع المجاهدين‪.‬‬
‫بعد أن أعيت النصارى كل الوسائل للقضاء على الروح الدينة لمسلمي الندس وتحويلهم‬
‫للمسيحية لجأوا الى العنف فحرموا على المسلمين التحدث بالعربية والتصال بالمسلمين في‬
‫الشمال الفريقي وفي بعض اقاليم اسبانيا كما حرموا على النساء الخروج الى الشوارع‬
‫متحجبات وقفل أبواب دورهم وتحطيم الحمامات وإقامة الحفلت حسب تقاليدهم‪ ،‬كل ذلك فجر‬
‫الثورة وقاد مسلمي الندلس الى حرب البوشارات التي هي أهم حرب أو ثورة مسلحة قام بها‬
‫()‬
‫المسلمون بعد سقوط غرناطة كانت هذه الحرب في ‪1568‬م وتزعمها محمد بن أمية ‪. 1‬‬

‫تاسعا‪ :‬خيانة السلطان السعدي الغالب بال لمسلمي الندلس‪:‬‬


‫بذل السلطان السعدي الغالب بال الوعود المعسولة لرسل الثوار البورشارات ووعدهم‬
‫بالنصر وتقديم كل مايحتاجونه من عتاد وسلح ورجال‪ ، ...‬لكن استمر الغالب بال محافظا‬
‫على روابطه الودية مع فيليب الثاني‪ ،‬وعمل على خذلن أهل الندلس‪( :‬وأما أهل الندلس‬
‫وغشه لهم وتوريطهم للهلكة في دينهم وأقوالهم وأولدهم وفي نفوسهم فأمر مستعظم عند جميع‬
‫من في قلبه ذرة من اليمان‪ ،‬وأدنى مملكة من السلم وذلك أنه لما احتوى عليهم النصراني ‪،‬‬
‫وأخذ جميع أراضيهم وشملها سلطانه‪ ،‬بقي المسلمون بضع سنين تحت الذمة والذلة فقهروهم‬
‫بكثرة المكس ‪ ،‬فصاروا يكتبون الى ملوك المسلمين شرقا وغربا وهم يناشدونه ال في الغاثة‬
‫وأكثر كتبهم الى مولي عبدال لنه هو القريب الى أراضيهم ‪ ،‬زمان قد قوي سلطانه وصحت‬
‫أركانه وجندت أجناده وكثرت أعداده فأمرهم غشا منهم بأن يقوموا مع النصارى ليثق بهم في‬
‫قولهم ويظهروا فعلهم‪ ،‬فما قاموا على النصارى تراخى عما وعدهم به من الغاثة وكذب عليهم‬
‫وغشا منه لهم ولدين ال عز وجل ومصلحة لملكه الزائل وكانت بينه وبين النصارى مكاتبات‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬محنة المورسيكوس في اسبانيا لمحمد قشتيليو ‪ ،‬ص ‪.35-34-33‬‬


‫‪-319-‬‬
‫في ذلك ومراسلت‪ ،‬وأنه استشار معهم وأشار عليهم أن يخرجوا أهل الندلس الى ناحية‬
‫المغرب وقصده بذلك تعمير سواحله ويكون لهم بمدينتي فاس ومراكش جيش عظيم ينتفع به في‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪.‬‬ ‫صالح ملكه)‬
‫تسارعت الحداث في اسبانيا‪ ،‬وبلغ عدد المجاهدين في أوائل سنة ‪976‬هـ‪1569/‬م أكثر من‬
‫مائة وخمسين ألف‪ ،‬وصادف تلك الثورة صعوبات كبيرة بالنسبة للحكومة السبانية ‪ ،‬إذ كانت‬
‫غالبية الجيش متقدمة مع دوق البابا في الراضي المنخفضة وأثبتت الدوريات البحرية أنها غير‬
‫()‬
‫قادرة على حرمان الثوار المسلمين من التصال بالعثمانيين في الجزائر ‪. 2‬‬

‫عاشرا ‪ :‬قلج علي يقف موقف البطال مع مسلمي الندلس‪:‬‬


‫كان قلج علي على اتصال مباشر بقيادة مسلمي الندلس عبر قنوات خاصة أشرف عليها‬
‫جهاز الستخبارات العثمانية واستطاع هذا القائد أن يمد الثوار في اسبانيا بالرجال والسحلة‬
‫والعتاد‪ ،‬وتم التفاق مع مسلمي الندلس على القيام بثورة عارمة في الوقت الذي تصل فيه‬
‫()‬
‫القوات السلمية من الجزائر الى مناطق معينة على الساحل السباني ‪. 3‬‬
‫جمع قلج علي جيشا عظيما قوامه أربعة عشر ألف رجل من رماة البنادق وستين ألفا من‬
‫المجاهدين العثمانيين من مختلف أرجاء البلد‪ ،‬وأرسلهم الى مدينتي مستغانم ومازغران‬
‫استعدادا للهجوم على وهران ثم النزول في بلد الندلس‪ ،‬وكان يرافق ذلك الجيش عددا كبيرا‬
‫من المدافع وألف وأربعمائة بعير محملة بالبارود الخاص بالمدافع والبنادق‪.‬‬
‫وفي اليوم المتفق عليه وصلت اربعون سفينة من السطول العثماني أمام مرسى المرية‬
‫السباني ‪ ،‬لشد آزر الثورة ساعة نشوبها لكن أخفق ذلك المخطط وذلك بسبب سوء تصرف‬

‫‪ )(1‬مؤلف مجهول ‪ :‬تاريخ الدولة السعدية‪ ،‬ص ‪.37،38‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.398‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)2/926‬‬
‫‪-320-‬‬
‫أحد رجال الثورة الندلسيين إذ انكشف أمره فداهمه السبان‪ ،‬وضبطوا ماكان يخفيه من‬
‫( ‪)1‬‬
‫بعد أن نجح قلج علي في انزال السلحة والعتاد والمتطوعين على الساحل‬ ‫سلح‬
‫()‬ ‫()‬
‫السباني ‪ ، 2‬لم تقع الثورة في الموعد المحدد لها‪ ،‬وضاعت بذلك فرصة مفاجئة السبان ‪. 3‬‬
‫لقد قام قلج علي في شعبان سنة ‪976‬هـ‪ /‬يناير سنة ‪1569‬م ببعث اسطول الجزائر لتأييد‬
‫الثائرين في محاولتهم الولى‪ ،‬وحاول انزال الجند العثماني في الماكن المتفق عليها ‪ ،‬لكن‬
‫السبان كانوا قد عرفوا ذلك بعد اكتشاف المخطط فصدوا قلج علي عن النزول وكان الثورة في‬
‫عنفوانها‪ ،‬وزوابع الشتاء قوية في البحر فالسطول الجزائري صار يقاوم العاصير من أجل‬
‫الوصول الى أماكن أخرى من الساحل ينزل بها المدد المطلوب ‪ ،‬إل أن قوة الزوابع أغرقت‬
‫‪ 32‬سفينة جزائرية تحمل الرجال والسلح‪ ،‬وتمكنت ست سفن من انزال شحنتها فوق سواحل‬
‫()‬
‫الندلس‪ ،‬وكان فيها المدافع والبارود والمجاهدين ‪. 4‬‬
‫استمر قلج علي في امداد مسلمي الندلس رغم الكارثة التي حلت بقواته ‪ ،‬وتمكن ذلك‬
‫المجاهد الفذ من انزال اربعة آلف مجاهد من رماة البنادق مع كمية كبيرة من الذخائر وبعض‬
‫()‬
‫من قادة المجاهدين العثمانيين‪ ،‬للعمل في مراكز قيادة جهاد مسلمي الندلس ‪. 5‬‬
‫وعاد العثمانيون فأرسلوا دعما جديدا من الرجال والسلح وإعانة للثورة الندلسية‪ ،‬فصدرت‬
‫الوامر الى قلج علي بذلك في ‪ 23‬شوال ‪977‬هـ‪ 31/‬مارس ‪1570‬م ( ‪ ...‬عليك بالتنفيذ بما‬
‫جاء في هذا الحكم حال وصوله وأن تعاون أهل السلم المذكورين بكل مايتيسر تقديمه لهم‬
‫وأن الغفلة عن الكفار أصابهم الدمار غير جائزة‪ )...‬وكان القائد المجاهد قلج علي قد عزم على‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.393-392‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)2/926‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.399‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.393‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.394‬‬
‫‪-321-‬‬
‫الذهاب بنفسه ليتولى قيادة الجهاد هناك لكن ماشاع عن تجمع السطول الصليبي للقيام بمعركة‬
‫حاسمة مع المسلمين وأمر السلطان العثماني له بالستعداد للمشاركة في هذه المعركة جعله‬
‫()‬
‫مضطرا للبقاء في الجزائر منتظرا لوامر استانبول ‪. 1‬‬
‫وفي غمرة الثورة الندلسية اتهم زعيم الثورة ابن أمية بالتقاعس عن الجهد وهاجمه‬
‫المتآمرون وقتل في منزله واختير مولي عبدال بن محمد بن عبو بدلً منه وبعث قلج علي‬
‫تعزيزات له ونجح الزعيم الجديد في حملته الولى ضد النصارى السبان وطوق جيشه مدينة‬
‫أرجيه‪.‬‬
‫انزعجت الحكومة السبانية لهذا التطورات وعينت دون جوان النمساوي على قيادة السطول‬
‫السباني (وهو ابن غير شرعي للمبراطور شارل) فباشر قمع الثورة في سنواتها ‪-977‬‬
‫‪987‬هـ‪1570-1569/‬م‪ ،‬وأتى من الفظائع مابخلت بأمثاله كتب الوقائع فذبح النساء والطفال‬
‫أمام عينيه‪ ،‬وأحرق المساكن ودمر البلد وكان شعاره لهوادة وانتهى المر بإذعان مسلمي‬
‫الندلس‪ ،‬لكنه إذعان مؤقت‪ ،‬إذ لم يلبث مولي عبدال أن عاد الكرة‪ ،‬فاحتال السبان عليه ‪،‬‬
‫()‬
‫ل‪.2‬‬ ‫حتى قتلوه غيلة ونصبوا رأسه منصوبا فوق أحد أبواب غرناطة زمنا طوي ً‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.400‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.395‬‬
‫‪-322-‬‬
‫المبحث التاسع‬
‫المتوكل على ال ابن عبدال الغالب السعدي‬

‫تولى أمر السعديين بعد وفاة عبدال الغالب بال ابنه المتوكل على ال الذي كان يضمر الشر‬
‫لعميه عبدالملك ابي مروان وأحمد المنصور فخرجا من المغرب واتجها الى السلطان العثماني‬
‫()‬
‫يستنجدوا به ‪ ، 1‬وما من شك في أن انتصار العثمانيين في تونس ضد السبان واستتباب المر‬
‫فيها‪ ،‬قد شجعهم على مساعدة المولى عبدالملك المطالب بالعرش المغربي‪ ،‬لبسط نفوذه على‬
‫البلد‪ ،‬ولن الستيلء على المغرب يؤمن الحدود الغربية للدولة العثمانية‪،‬ويوطد أقدام‬
‫العثمانيين في مجموع الشمال الفريقي علوة على أن ضم المغرب من شأنه أن يبعث الرعب‬
‫()‬
‫في قلوب السبان والبرتغال ويبعثهم على طلب ود السلطان في استانبول ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحروب الصليبية في المشرق العربي لمحمد العمروسي‪ ،‬ص ‪.265‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.368‬‬
‫‪-323-‬‬
‫تابع المتوكل على ال خطة والده في التقرب من الدول المسيحية ومسالمتها لصد العثمانيين ‪،‬‬
‫حيث لم يعد لديه شك في أنهم سينجدون عميه بقوات عسكرية فعقد اتفاقا مع انجلترا‪ ،‬التي كانت‬
‫ترغب في تجارتها مع المغرب للفوائد التي تعود على التجار النجليز من وراء ذلك‪ ،‬زيادة‬
‫على أنها تدرك الهمية العظمى التي للمغرب ‪ ،‬خصوصا وقد كانت انجلترا في حالة حرب‬
‫( ‪)1‬‬
‫وتوقيع المتوكل للتفاقية التجارية مع النجليز ‪ ،‬يعد العمل الوحيد الذي قام به‬ ‫ضد اسبانيا‬
‫خلل حكمه القصير‪ ،‬وقد فعل ذلك باعتبار أن النجليز كانوا من بين التجار الجانب الذي‬
‫يبيعون مواد الحرب من ذخائر وأسلحة للمغاربة منذ زمن بعيد‪ ،‬ول تخفى علينا حاجة المتوكل‬
‫في هذا الوقت الى السلح لصد الخطر العثماني ولمقاومة عمه المطالب بالعرش‪.‬‬
‫وجدت الدولة العثمانية في انشغال ملك اسبانيا فيليب الثاني بأحداث أوروبا الغربية حيث‬
‫()‬
‫ثورة الراضي المنخفضة‪ ،‬فرصة مناسبة للتدخل في المغرب ‪ ، 2‬فأمدوا المولى عبدالملك‬
‫بجيش قوامه خمسة آلف مقاتل مسلحين بأحسن السلحة‪ ،‬ودخل المولى عبدالملك فاس بعد أن‬
‫()‬
‫أحرز انتصارا كبيرا على ابن أخيه المتوكل وعاد الجيش أدراجه الى الجزائر ‪. 3‬‬
‫وقام عبدالملك بإصلحات في دولته من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬أمر بتجديد السفن‪ ،‬وبصنع المراكب الجديدة‪ ،‬فانتعشت بذلك الصناعة عامة‪.‬‬
‫سواحل المغرب‬ ‫‪ -2‬اهتم بالتجارة البحرية ‪ ،‬وكان للموال التي غنمها من حروبه على‬
‫سبب في انتعاش ونمو الميزان القتصادي للدولة‪.‬‬
‫بهم في التسليح‬ ‫‪ -3‬أسس جيشا نظاميا متطورا واستفاد من خبرة الجندية العثمانية وتشبه‬
‫والرتب‪.‬‬
‫‪ -4‬استطاع أن يبني علقات متينة مع العثمانيين وجعل منهم حلفاء واصدقاء وإخوة‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬بداية الحكم المغربي في السودان الغربي‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المغرب في عهد الدولة السعدية‪ ،‬عبدالكريم كريم‪ ،‬ص ‪.97،99‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬بداية الحكم المغربي في السودان‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪-324-‬‬
‫مخلصين للمسلمين في المغرب‪.‬‬
‫الشاعر‬ ‫‪ -5‬فرض احترامه على أهل عصره‪ ،‬حتى الوروبيين ‪ ،‬احترموه وأجلوه قال‬
‫عبدالمك جميل الوجه‪ ،‬بل‬ ‫الفرنسي أكبريبا دو بين المعاصر لحداث هذه الفترة‪ ( :‬كان‬
‫يحسن اللغات السبانية واليطالية والرمنية‬ ‫أجمل قومه‪ ،‬وكان فكره نيرا بطبيعته‪ ،‬وكان‬
‫مجيدا في اللغة العربية ‪ ،‬وباختصار‪ ،‬فإن معارفه لوكانت عند أمير‬ ‫والروسية‪ ،‬وكان شاعرا‬
‫()‬
‫أمرائنا لقلنا إن هذه أكثر مما يلزم بالنسبة لنبيل‪ ،‬فأحرى لملك) ‪. 1‬‬ ‫من‬
‫‪ -6‬أهتم بتقوية مؤسسات الدولة ودواوينها وأجهزتها‪ ،‬واستطاع أن يشكل جهازا شوريا‬
‫للدولة اصبح على معرفة بأمور الدولة الداخلية‪ ،‬وأحوال السكان عامة‪ ،‬وعلى دراية بالسياسة‬
‫الدولية وخاصة الدول التي لها علقة بالسياسة المغربية وكان أخوه أبوالعباس أحمد المنصور‬
‫()‬
‫بال الملقب في كتب التاريخ بالذهبي ساعده اليمن في كل شؤون الدولة) ‪. 2‬‬

‫أولً‪ :‬تحالف محمد المتوكل السعدي مع ملك البرتغال سبستيان‪:‬‬


‫كان محمد المتوكل بعد هزيمته من عمه عبدالملك قد اتصل بملك البرتغال سبستيان واتفق‬
‫معه على أن يعينه على طرد عمه من حكم المغرب‪ ،‬وأن يتنازل له مقابل ذلك عن جميع‬
‫()‬
‫شواطئ المغرب‪ ،‬فقبل سبستيان ذلك العرض المغربي ‪. 3‬‬
‫انتقل المتوكل الى سبته وأقام بها أربعة شهور‪ ،‬ومنها اتجه الى طنجة في انتظار دون‬
‫سبستيان على رأس القوات العسكرية‪.‬‬
‫وفي أثناء استعدادات الدول المسيحية وخاصة البرتغال للوثوب على المغرب‪ ،‬وإخضاعه‬

‫‪ )(1‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.37‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.39،40‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ المغرب‪ ،‬محمد بن عبود (‪.)2/19‬‬
‫‪-325-‬‬
‫()‬
‫بالكامل ‪ ،‬أرسل العثمانيون مدربين وأسلحة متنوعة ‪ ،‬واشفعوا في ذلك بفيلق عسكري ‪ ، 1‬حيث‬
‫تتجلى هنا الروح السلمية في الدفاع عن عقيدتهم لن المعركة معركة المسلمين جميعا‬
‫وخصوصا الدولة العثمانية التي كانت تحمل على عاتقها حماية المسلمين واراضيهم بعيدة عن‬
‫()‬
‫المصالح المادية ‪. 2‬‬

‫ثانيا‪ :‬معركة وادي المخازن‪:‬‬


‫إن من العمال العظيمة التي قامت بها الدولة السعدية في زمن السلطان عبدالملك انتصارهم‬
‫الرائع والعظيم على نصارى البرتغال في معركة الملوك الثلثة‪ ،‬والتي تسمى في كتب التاريخ‬
‫معركة القصر الكبير أو معركة وادي المخازن بتاريخ ‪ 30 :‬جمادي الثانية ‪986‬هـ الموافق ‪4‬‬
‫آب (أغسطس) ‪1578‬م‪.‬‬
‫لقد كان لتلك المعارك أسباب من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬أراد البرتغاليون أن يمحو عن أنفسهم العار والخزي الذي لحقهم بسبب ضربات‬
‫المغاربة الموفقة والتي جعلتهم بنسحبون من أسفى وأزمور وأصيل وغيرها في زمن يوحنا‬
‫الثالث آب (‪1557-1521‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬أراد ملك البرتغال الجديد سبستيان ابن يوحنا أن يخوض حربا مقدسة ضد المسلمين‬
‫حتى يعلو شأنه بين ملوك أوروبا‪ ،‬وزاد غروره بعد ماحققه البرتغاليين من اكتشافات جغرافية‬
‫جديدة أراد أن يستفيد منها من أجل تطويق العالم السلمي يدفعه في ذلك حقده على السلم‬
‫وأهله عموما‪ ،‬وعلى المغرب خصوصا‪ ،‬لقد جمع ذلك الملك بين الحقد الصليبي والعقلية‬
‫الستعمارية التي ترى أن يدها مطلقة ‪ ،‬في كل أرض مسلمة تعجز عن حماية نفسها من أي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬بداية الحكم المغربي في السودان الغربي ‪ ،‬ص ‪.94‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.471‬‬
‫‪-326-‬‬
‫()‬
‫خطر خارجي من جهة اخرى‪ ،‬ومن جهة اخرى خطط لغزو واحتلل المغرب ‪. 1‬‬

‫ثالثا‪ :‬حشود النصارى‪:‬‬


‫استطاع سبستيان أن يحشد من النصارى عشرات اللوف من السبان والبرتغاليين والطليان‬
‫واللمان وجهز هذه اللوف بكافة السلحة الممكنة في زمنه‪ ،‬وجهز ألف مركب لتحمل هؤلء‬
‫()‬
‫الجنود نحو المغرب ‪. 2‬‬
‫ووصلت قوات النصارى الى طنجة واصيل في عام ‪1578‬م‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الجيش المغربي‪:‬‬


‫كانت الصيحة من جنبات المغرب القصى‪" :‬أن أقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل‬
‫ال"‪.‬‬
‫والتقت جموع المغاربة حول قيادة عبدالملك المعتصم بال‪ ،‬وحاول المتوكل المخلوع أن‬
‫يخترق ذلك التلحم فكتب الى أهل المغرب مااستنصرت النصارى حتى عدمت النصرة من‬
‫المسلمين وقد قال العلماء‪ :‬إنه يجوز للنسان أن يستعين على من غصبه حق بكل ماأمكنه‬
‫( ‪)3‬‬
‫)‪.‬‬ ‫قائلً‪{ :‬فإن لم تفعلوا‪ ،‬فأذنوا بحرب من ال ورسوله} (سورة البقرة‪ ،‬آية‬ ‫وتهددهم‬
‫فأجابه علماء المغرب عن رسالته برسالة دحضت أباطيله‪ ،‬وفضحت زوره وبهتانه وكذبه‪،‬‬
‫ومما جاء فيه ‪( :‬الحمدل كما يجب لجلله‪ ،‬والصلة والسلم على سيدنا محمد خير أنبيائه‬
‫ورسله‪ ،‬والرضى به‪ ،‬حتى أسس ال دين السلم بشروط صحته وكماله وبعد‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.45،46‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.49‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪-327-‬‬
‫فهذا جواب من كافة الشرفاء والعلماء والصلحاء والجناد من أهل المغرب‪.‬‬
‫لو رجعت على نفسك اللوم والعتاب‪ ،‬لعلمت أنك المحجوب والمصاب ‪ ..‬وأما قولك في‬
‫النصارى فإنك رجعت الى أهل العدوة واستعظمت أن تسميهم بالنصارى‪ ،‬فيه المقت الذي‬
‫ليخفى ‪ ،‬وقولك رجع إليهم حين عدمت النصرة من المسلمين ففيه محظورات يحضر عندهم‬
‫غضب الرب جل جلله‪ ،‬أحدهما‪ :‬كونك اعتقدت أن المسلمين كلهم على ضلل ‪ ،‬وأن الحق لم‬
‫يبق من يقوم به إل النصارى والعياذ بال‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬إنك استعنت بالكفار على المسلمين‪ :‬قال عليه الصلة والسلم‪ .‬إني ل استعين‬
‫بمشرك‪ ..‬الستعانة بهم ‪-‬بالمشركين‪ -‬على المسلمين فل يخطر إل على بال من قلبه وراء‬
‫لسانه‪ ،‬وقد قيل قديما ‪ :‬لسان العاقل من وراء قلبه ‪ ..‬وقولك‪ :‬فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من ال‬
‫ورسوله‪ ،‬إيه أنت مع ال ورسوله ولما سمعت جنود ال وأنصاره وحماة دينه من العرب‬
‫والعجم قولك هذا‪ ،‬حملتهم الغيرة السلمية والحمية اليمانية ‪ ،‬وتجدد لهم نور اليمان وأشرق‬
‫عليهم شعاع اليقان؛ فمن قائل يقول ل دين إل دين محمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ومن قائل‬
‫يقول‪ :‬سترون ما أصنع عند اللقاء‪ ،‬ومن قائل يقول‪{ :‬وليعلمن ال الذين آمنوا وليعلمن‬
‫المنافقين‪( }..‬سورة العنكبوت‪ :‬آية ‪ )110‬وقد افتخرت في كتابك بجموع الروم وقيامهم معك‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫مع قول ال تعالى ‪{ :‬ويأبى ال إل أن يتم‬ ‫وعولت على بلوغ المُلك بحشودهم ‪ ،‬وأني لك هذا‬
‫نوره ولو كره الكافرون} ولما عاين أهل القصر الكبير النصارى واستبطؤوا وصول السلطان‬
‫عبدالملك أرادوا الفرار والتحصن في الجبال‪ ،‬فقام الشيخ أبو المحاسن يوسف الفاسي بتثبيت‬
‫الناس‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.53‬‬


‫‪-328-‬‬
‫وكتب عبدالملك بال المعتصم بال من مراكش الى سبستيان ‪( :‬إن سطوتك قد ظهرت في‬
‫خروجك من أرضك‪ ،‬وجوازك العدوة‪ ،‬فإن ثبت الى أن تقدم عليك‪ ،‬فأنت نصراني حقيقي‬
‫()‬
‫شجاع‪ ،‬وإل فأنت كلب بن كلب) ‪ . 1‬فليس من الشجاعة ول من روح الفروسية أن ينقض على‬
‫سكان القرى والمدن العزل‪ ،‬ول ينتظر مقابلة المحاربين وكان لذلك الخطاب أثر في غضب‬
‫سبستيان وقرر أخيرا التريث رغم مخالفة أركان جيشه الذين أشاروا عليه بالتقدم لحتلل‬
‫()‬
‫تطوان والعرايش والقصر ‪. 2‬‬
‫وتحركت قواد عبدالملك المعتصم بال‪ ،‬وسار أخوه أحمد المنصور بأهل فاس وماحولها‬
‫وكان اللقاء قرب محلة القصر الكبير‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬قوى الطرفين (البرتغالي النصراني والسلمي المغربي)‪:‬‬


‫الجيش البرتغالي ‪:‬‬
‫‪ ،125.000‬ومايلزمهم من المعدات والرواية الوروبية تقلل بعد الهزيمة عدد جيشها‪،‬‬
‫وتضخم عدد جيش المغرب‪ ،‬فهي تتحدث عن ‪14.000‬راجحل‪ ،‬و ‪ 2000‬فارس ‪ ،‬و ‪ 36‬مدفعا‪،‬‬
‫ومقابل ‪ 50.000‬راجل في الجيش المغربي و ‪ 1.500 ، 22.000‬من الرماة‪ 20 ،‬مدفعا‪ .‬ذكر‬
‫ابو القاضي في (المنتقى المقصور)‪( :‬عدد الجيش البرتغالي مئة ألف وخمسة وعشرون‬
‫()‬
‫ألفا) ‪. 3‬‬
‫وقال أبو عبدال محمد العربي الفاسي في (مرآة المحاسن)‪ :‬أن مجموعهم كان مئة وعشرين‬
‫()‬
‫ألفا‪ ،‬وأقل ماقيل في عددهم ثمانون ألف مقاتل ‪. 4‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.53‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪،‬ص ‪.54‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الستقصا (‪ )5/69‬نقلً عن وادي المخازن‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪-329-‬‬
‫كان مع الجيش البرتغالي‪ 20.000 :‬إسباني‪ 3000 ،‬ألماني‪ 7000 ،‬إيطالي‪ ...‬وغيرهم عدد‬
‫كبير ‪ ..‬مع ألوف الخيل‪ ،‬وأكثر من أربعين مدفعا‪ ..‬وكل هذه القوى البشرية والمادية بقيادة‬
‫الملك سبستيان‪.‬‬
‫()‬
‫وكان معهم‪ ،‬المتوكل المسلوخ بشرذمة تتراوح مابين ‪ 600-300‬رجل على الكثر ‪. 1‬‬
‫الجيش المغربي‪:‬‬
‫وكان جيش المغاربة تعداده ‪ 40.000‬مجاهدا يملكون تفوقا في الخيل ومدافعهم أربعة‬
‫وثلثون مدفعا فقط وكانت معنوياتهم مرتفعة جدا بسبب ‪:‬‬
‫‪ -1‬ذاقوا حلوة النتصار على النصارى المحتلين واستخلصوا من ايديهم ثغورا كثيرة كانت‬
‫محاطة بالسوار العالية‪ ،‬والحصون المنيعة‪ ،‬والخنادق العميقة‪.‬‬
‫‪ -2‬إلتفاف الشعب حول القيادة‪ ،‬تم إلتحام القبائل والطرق الصوفية وأهل المدن لن المعركة‬
‫كانت حاسمة في تاريخ السلم وفاصلة في تاريخ المغرب وكان الشيخ ابو المحاسن الفاسي‬
‫زعيم الطريقة الشاذلية الجزولية ل يكل ول يمل في شحذ الهمم ورفع المعنويات وقد قاد هذا‬
‫الشيخ أحد جناحي الجيش المغربي وأبلى بلءً حسنا رائعا وثبت الى أن منح ال المسلمين‬
‫النصر‪ ،‬وركبوا أكتاف العدو يقتلون ويأسرون وتورع أبو المحاسن عن الغنيمة بعد النتصار‬
‫()‬
‫العظيم ‪ ،‬وعفّ عنها‪ ،‬ولم يأخذ منها شيئا ‪. 2‬‬
‫وأظهر عبدالملك المعتصم بال وأخوه ابوالعباس والقادة العثمانيون عبقرية فذة في المعركة‪.‬‬
‫" لقد حنكت التجارب عبدالملك المعتصم بال‪ ،‬فعزل عدوه عن اسطوله بالشاطئ بمكيدة‬
‫عظيمة‪ ،‬وخطة مدروسة حكيمة‪ ،‬عندما استدرج سبستيان الى مكان حدده عبدالملك ميدانا‬
‫للمعركة‪ .‬وكان عزله عن أسطوله محكما عندما أمر عبدالملك بالقنطرة أن تهدم ووجه إليها‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪،‬ص ‪.56‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه ‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪-330-‬‬
‫()‬
‫كتيبة من الخيل بقيادة أخيه المنصور فهدمها" ‪. 1‬‬
‫لقد جعل عبدالملك المدفعية في المقدمة‪ ،‬ثم صفوف للرماة المشاة‪ ،‬وجعل قيادته في القلب‬
‫وعلى المجنبتين رماه فرسان والقوى السلمية المتطوعة وجعل مجموعة من الفرسان كقوة‬
‫احتياطية لتنقض في الوقت المناسب وهي في غاية الراحة لمطاردة فلول البرتغاليين ‪ ،‬واستثمار‬
‫()‬
‫النصر ‪. 2‬‬
‫كان صباح الثنين ‪ 30‬جمادى الخرة ‪986‬هـ‪1578/‬م يوما مشهودا في تاريخ المغرب‪،‬‬
‫ويوما خالدا في تاريخ السلم‪.‬‬
‫وقف السلطان عبدالملك المعتصم بال خطيبا في جيشه‪ ،‬مذكرا بوعد ال للصادقين المجاهدين‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪:‬‬ ‫بالنصر‬
‫{ولينصرن ال من ينصره إن ال لقوي عزيز} (الحج‪ :‬آية ‪.)40‬‬
‫{ وما النصر إل من عند ال إن ال عزيز حكيم} (النفال‪ :‬آية ‪.)10‬‬
‫كما ذكر بوجب الثبات‪:‬‬
‫{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فل تولهم الدبار} (النفال‪ :‬آية ‪.)15‬‬
‫{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاأثبتوا واذكروا ال كثيرا لعلكم تفلحون} (النفال ‪ :‬آية‬
‫‪.)45‬‬
‫وبضرورة النتظام‪:‬‬
‫{ إن ال يحب الذين يقاتلون في سيبله صفا كأنهم بنيان مرصوص} (الصف‪ :‬آية ‪.)4‬‬
‫وذكر أيضا حقيقة ل مراء فيها‪ :‬إن انتصرت الصليبية اليوم‪ ،‬فلن تقوم للسلم بعدها قائمة‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.62‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪-331-‬‬
‫()‬
‫ثم قرئت آيات كريمة من كتاب ال العزيز‪ ،‬فاشتاقت النفوس للشهادة ‪. 1‬‬
‫ولم يأل القسسُ والرهبان في إثارة حماس جند أوروبا الذين يقودهم سبستيان‪ ،‬مذكرين أن‬
‫البابا أحل من أوزار والخطايا أرواح من يلقون حتفهم في هذه الحروب التي أتسمت بطابع‬
‫الحروب الصليبية‪.‬‬
‫وانطلقت عشرات الطلقات النارية من الطرفين كليهما إيذانا ببدء المعركة‪.‬‬
‫لقد قام السلطان عبدالملك برد الهجوم الول منطلقا كالسهم شاهرا سيفه يمهد الطريق لجنوده‬
‫الى صفوف النصارى‪ ،‬وغالبه المرض الذي سايره من مراكش ودخل خيمته وماهي إل دقائق‬
‫حتى فاضت روحه في ساحة الفدى‪ ،‬لقد رفض أن يتخلف عن المعركة قائلً ومتى كان المرض‬
‫يثني المسلمين عن الجهاد في سبيل ال‪ ،‬وأمر هذا القائد المجاهد عجيب في الحزم والشجاعة‪،‬‬
‫ولقد فاضت روحه وهو واضع سبابته على فمه مشيرا أن يكتموا المر حتى يتم النصر‪ ،‬ول‬
‫يضطربوا وكان كذلك‪ ،‬فلم يعلم أحد بموته إل أخوه أحمد المنصور وحاجبه رضوان العلج‪،‬‬
‫وصار حاجبه يقول للجند ‪( :‬السلطان يأمر فلنا أن يذهب الى موضع كذا‪ ،‬وفلنا يلزم الراية‪،‬‬
‫()‬
‫وفلنا يتقدم وفلنا يتأخر) ‪. 2‬‬
‫وقاد احمد المنصور مقدمة الجيش وصدم مؤخرة الجيش البرتغالي ‪ ،‬وأوقدت النار في برود‬
‫النصارى‪ ،‬وصدم المسلمون رماتهم‪ ،‬فتهالك قسم منهم صرعى‪ ،‬وولى الباقون الدبار قاصدين‬
‫قنطرة نهر واد المخازن وكانت تلك القنطرة أثر بعد عين ‪ ،‬نسفها المسلمون بأمر سلطانهم ‪،‬‬
‫فارتموا بالنهر‪ ،‬فغرق من غرق وأسر من أسر ‪ ،‬وقتل من قتل ‪ ،‬وصُرع سبستيان وألوف من‬
‫حوله ‪ ،‬ووقع المتوكل رمز الخيانة غريقا في نهر وادي المخازن‪.‬‬
‫()‬
‫واستمرت المعركة أربع ساعات وثلت الساعة‪ ،‬وكتب ال فيها النصر للسلم والمسلمين ‪. 3‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬وادي المخازن‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.66،67‬‬
‫‪-332-‬‬
‫جاء في (درة السلوك) لحمد بن القاضي ‪ ،‬وهو معاصر لحداث المعركة "مخطوط بدار‬
‫()‬
‫الوثائق بالرباط د ‪ ،428‬ص ‪: 1 "14‬‬
‫()‬
‫وابن أخيه ‪ 2‬بالنصارى اعتصما‬
‫سمَا‬
‫وصار يستجدهم لمن َ‬
‫( ‪)3‬‬
‫أجابه اللعينُ بستيان‬
‫بجيشه ومعه الوثان‬
‫وعدد الجيوش الذي جمعا‬
‫سمِعا‬‫ينيف عن مائة ألف ُ‬
‫فخلص السلم من يَدِ اللعين‬
‫بصبره على لقاء المشركين‬
‫مامنهم إل قتيل وأسير‬
‫( ‪)4‬‬
‫في ساعة من الزمان ذا شهيد‬
‫مات بها بستيان اللعين‬
‫فماله عن الردى معين‬
‫()‬
‫ثم محمد ‪ 5‬الذي أتى به‬
‫مات غريقا يوما فانتبهِ‬
‫لحكمه ال العظيم القاهر‬
‫أفادهم وزيّنَ المنابر‬
‫بذكر عمه أبي العباس‬
‫الحازم الرّ أي شديد الباس‬
‫نجلُ الرسول المصطفى المختار‬

‫‪ )(1‬دعوة الحق السنة ‪،19‬العدد ‪،8‬رمضان ‪1398‬هـ‪ ،‬ص ‪ 56‬نقلً عن وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.67‬‬
‫‪ )(2‬اشارة الى المتوكل ‪.‬‬
‫‪ )(3‬بستيان (لضرورة الوزن) وإل فهو سبستيان‪.‬‬
‫‪ )(4‬اشارة الى قصر مدة المعركة‪.‬‬
‫‪ )(5‬محمد المتوكل المخلوع‪.‬‬
‫‪-333-‬‬
‫( ‪)6‬‬
‫به زها المغربُ على القطار‬
‫سادسا‪ :‬أسباب نصر وادي المخازن‪:‬‬
‫‪ -1‬القيادة الحكيمة التي تمثلت في زعامة عبدالملك المعتصم بال وأخيه أبي العباس‪،‬‬
‫ولحاجبه المنصور‪ ،‬وظهور مجموعة من القادة المحنكين من أمثال أبي علي القوري ‪ ،‬والحسن‬
‫العلج‪ ،‬ومحمد أبي طيبة‪ ،‬وعلي بن موسى‪ ،‬الذي كان عاملً على العرائش‪.‬‬
‫‪ -2‬التفاف الشعب المسلم المغربي حول قيادته بسبب أبي المحاسن يوسف الفاسي والذي‬
‫استطاع أن يبعث روح الجهاد في القوى الشعبية‪.‬‬
‫‪ -3‬رغبة المسلمين في الذود عن دينهم وعقيدتهم وأعراضهم‪ ،‬والعمل على تضميد الجراح‬
‫بسبب سقوط غرناطة‪ ،‬وضياع الندلس ‪ ،‬والنتقام من النصارى الذين عذبوا المسلمين‬
‫المهاجرين والذين تحت حكمهم في الندلس‪.‬‬
‫‪ -4‬اشتراك خبراء من العثمانيين تميزوا بالمهارة في الرمي بالمدفعية وشارك كذلك‬
‫مجموعة من الندلسيين تميزوا بالرمي والتصويب بدقة مما جعل المدفعية المغربية تتفوق على‬
‫المدفعية البرتغالية النصرانية ‪.‬‬
‫‪ -5‬الخطة المحكمة التي رسمها عبدالملك المعتصم بال مع قادة حربه حيث استطاع أن‬
‫يستدرج خصومه الى ميدان تجول فيه الخيل وتصول‪ ،‬مع قطع طرق تموينه وإمداده ثم نسفه‬
‫للقنطرة الوحيدة على نهر وادي المخازن‪.‬‬
‫‪ -6‬القدوة والسوة المثالية التي ضربها للناس كل من عبدالملك وأخيه أحمد المنصور حيث‬
‫شاركوا بالفعل والسنان في القتال فكان حالهما له أثر أشد في اتباعهم من قولهم‪.‬‬
‫‪ -7‬تفوق القوات المغربية بالخيل حيث استطاع الفرسان أن يستثمروا النصر ويطوقوا‬
‫النصارى المنهزمين ومنعتهم خيل المسلمين الخفيفة الحركة من أي فرصة للفرار‪.‬‬
‫‪ -8‬استبداد سبستيان بالرأي وعدم الخذ بمشورة مستشاريه وكبار رجال دولته مما جعل‬
‫‪ )(6‬برده الغزو الصليبي وانتصاره الباهر في معركة وادي المخازن ‪.‬‬
‫‪-334-‬‬
‫القلوب تتنافر‪.‬‬
‫‪ -9‬وعي الشعب المغربي المسلم بخطورة الغزو النصراني البرتغالي وقناعته بأنه جهاد في‬
‫()‬
‫سبيل ال ضد غزو صليبي حاقد ‪. 1‬‬
‫‪ -10‬دعاء وتضرع المسلمين ل بإنزال النصر عليهم وخذل وهزيمة أعدائهم ‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من السباب‪.‬‬

‫سابعا‪ :‬نتائج المعركة‪:‬‬


‫‪ -1‬أصبح سلطان المغرب بعد عبدالملك أحمد المنصور بال الملقب بالذهبي وبويع بعد‬
‫الفراغ من القتال بميدان المعركة‪ ،‬وذلك يوم الثنين ‪ 30‬جمادى الخرة سنة ست وثمانين وتسع‬
‫مئة للهجرة‪.‬‬
‫‪ -2‬وصلت أنباء النتصار بواسطة رسل السلطان أحمد الذهبي الى مقر السلطنة العثمانية‪،‬‬
‫وفي زمن السلطان مراد خان الثالث‪ ،‬والى سائر ممالك السلم المجاورة للمغرب وغيرها‪،‬‬
‫وحل السرور بالمسلمين وعم السعد في ديارهم ووردت الرسائل من سائر القطار مهنئين‬
‫ومباركين للشعب المغربي نصرهم العظيم‪.‬‬
‫‪ -3‬ارتفع نجم الدولة السعدية في آفق العالم وأصبحت دول أوروبة تخطب ودها واضطر‬
‫ملك البرتغال الجديد وملك اسبانيا أن يرسلوا وفودا محملة بالهدايا الثمنية‪ .‬ثم قَ ِدمَتْ رسل‬
‫السلطان العثماني مهنئة ومباركة ومعهم هدياهم الثمينة وبعدها رسل ملك فرنسا واصبحت‬
‫()‬
‫الوفود (تصبح وتمسي على اعتاب تلك القصور) ‪. 2‬‬
‫‪ -4‬سقط نجم نصارى البرتغال في بحار المغرب واضطربت دولتهم‪ ،‬وضعفت شوكتهم ‪،‬‬
‫وتهاوت قوتهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.72،73،74،75‬‬


‫‪ )(2‬الستقصاء (‪ )5/92‬نقلً عن وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪-335-‬‬
‫يقول لويس ماريه ‪-‬المؤرخ البرتغالي‪ -‬واصفا نتائج المعركة‪:‬‬
‫" وقد كان مخبوءا لنا في مستقبل العصار ‪ ،‬العصر‪ ،‬الذي لو وصفته ‪-‬كما وصفه غيره من‬
‫المؤرخين‪ -‬لقلت‪ :‬هو العصر النحس البالغ النحوسة ‪ ،‬الذي انتهت فيه مدة الصولة والظفر‬
‫والنجاح‪ ،‬وانقضت فيه أيام العناية من البرتغال ‪ ،‬وانطفأ مصباحهم بين الجناس‪ ،‬وزال رونقهم‪،‬‬
‫وذهبت النخوة والقوة منهم‪ ،‬وخلفها الفشل الذريع ‪ ،‬وانقطع الرجاء واضمحل إبان الغنى‬
‫()‬
‫والربح‪ ،‬وذلك هو العصر الذي هلك فيه سبستيان في القصر الكبير في بلد المغرب" ‪. 1‬‬
‫‪ -5‬مات في تلك المعركة ثلثة ملوك‪ ،‬صليبي حاقد سبستيان ملك البرتغال‪ ،‬وملك مخلوع‬
‫خائن محمد المتوكل‪ ،‬ومجاهد شهيد‪ ،‬عبدالملك المعتصم بال‪.‬‬
‫‪ -6‬سارع البرتغاليون النصارى بفكاك أسراهم ودفعوا أموالً طائلة للدولة السعدية‪.‬‬
‫‪ -7‬سادت فترة هدوء ورخاء وبناء وازدهار في العلوم والفنون والصناعات في بلد‬
‫المغرب‪.‬‬
‫‪ -8‬حدث تحول جذري في التفكير والتخطيط على مستوى أوروبا حيث رأوا أهمية الغزو‬
‫الفكري لبلد المسلمين‪ ،‬لن سياسة الحديد والنار تحطمت أمام إرادة الشعوب السلمية في‬
‫()‬
‫المشرق والمغرب ‪. 2‬‬
‫استمر احمد المنصور على منهج أخيه في بناء المؤسسات واقتناء ماوصلت إليه الكشوفات‬
‫العلمية وتطوير الدارة والقضاء والجيش‪ ،‬وترتيب القاليم وتنظيمها‪ ،‬وكان أحمد المنصور‬
‫يتابع وزراءه وكبار موظفيه ويحاسبهم على عدم المحافظة على أوقات العمل الرسمية‪ ،‬أو‬
‫التأخير في الرد على المراسلت الدارية والسياسية‪.‬‬
‫وأحدث حروف لرموز خاصة بكتابة المراسلت السرية حتى ليعرف فحواها إذا وقعت في‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه (‪ )86-5/85‬نقلً عن وادي المخازن‪ ،‬ص ‪.71‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.76‬‬
‫‪-336-‬‬
‫يد عدو‪ ،‬وهذا يدل على اهتمامه الشخصي بجهاز المن والستخبارات التي تحمي به الدولة من‬
‫الخطار الداخلية والخارجية‪.‬‬
‫واهتم بالجهاز القضائي ‪ ،‬وفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية تماما‪ ،‬ومنع السلطة‬
‫التنفيذية من التدخل في السلطة القضائية‪.‬‬
‫وقد قارن مؤرخ فرنسي بين القضاء الوروبي والقضاء المغربي في القرنيين الحادي عشر‬
‫والثاني عشر الهجريين (‪17 ،16‬م) فقال‪" :‬في الوقت الذي كانت أوروبة في العصر السعدي‬
‫يحتفظ الملوك فيها وحدهم بحق الحكم في عدد من القضايا ‪ ،‬فإن الملوك السعديين ل ينظرون‬
‫()‬
‫إل في القضايا المرفوعة ضد رجال السلطة ‪ ،‬وهذا ماكان يدعى بقضاء المظالم ‪. 1‬‬
‫وترأس أحمد المنصور مجلس المظالم وجعله في جامع القصبة في مراكش ‪ ،‬بجوار قصره‬
‫وشكل لجنة تراقب مجرى القضاء في القاليم ويهتم بمطالعة ودراسة تقاريرهم بعناية واهتم‬
‫بضبط الدارة وإحكام دولته وإقامة العدل على رعاياه وعمل على إقامة محطات في أرجاء‬
‫البلد يحرسها جنود مقيمون ل يبعد بعضهم عن بعض إل بمسافة عشرين كيلومترا بحيث‬
‫يستطيع المسافرون والقوافل أن تمر عبر القرى والبوادي بأمن وسلم‪.‬‬
‫وطور عمل المؤسسات الستشارية وأوجد مجلس الديوان أو مجلس الملء واختصاصاته‬
‫سياسية وقضائية وعسكرية‪ ،‬وهو أعلى مرجع قانوني للبلد‪ ،‬إل أنه ليستطيع أن يتجاوز أحكام‬
‫السلطة القضائية ‪ ،‬ولوكانت ضد المجلس كله أو بعض رجاله وكان مجلس الديوان من المرونة‬
‫وسعة الفق بحيث يسمع بدخول المختصين أو ممثلين المدن والمراكز القروية عندما يقتضي‬
‫()‬
‫المر استشارات على نطاق شعبي واسع ‪. 2‬‬
‫وطور السلطان احمد المنصور جيش دولته واقتدى بالنظام العثماني في التسليح والرتب‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دعوة الحق نقلً عن وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.41‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.42،43‬‬
‫‪-337-‬‬
‫واللباس واهتم بإسناد القيادات لمن أظهر كفاءة عسكرية عالية واثبتت اليام انه أهل لذلك ومن‬
‫أهم هذه القيادات ‪ ،‬إبراهيم محمد السّفياني قائد الجبهة المامية في وادي المخازن‪ ،‬وأحمد بن‬
‫بركة‪ ،‬وأحمد العمري المعقلي‪.‬‬
‫ودعمّ جيشه بالوحدات الطبية من جراحين وغيرهم وأقام مستشفيات متنقلة ميدانية تستقبل‬
‫الجرحى والمرضى في الحروب واهتم بتأهيل التقنيين المتخصصين في جيشه‪ ،‬وقام السعديون‬
‫ببناء دار العدة لصناعة المدافع واهتموا بتطوير السطول‪ ،‬خصوصا في مينائي العرائش‬
‫()‬
‫وسل ‪. 1‬‬
‫ومد نفوذ الدولة السعدية نحو الجنوب وضم بلد السودان الغربي إلى نفوذه ودخل في لعبة‬
‫الموازنات الدولية بين السبان والنجليز والعثمانيين‪ ،‬وظهرت منه مواهب سياسية متميزة‪،‬‬
‫()‬
‫واستطاع أن يحقق المن والزدهار والرفاه والخصب لبلده ‪. 2‬‬
‫ثامنا‪ :‬اقتراح عثماني على السعديين‪:‬‬
‫بدأت القوات السبانية في اكتساح الراضي البرتغالية‪ ،‬ولم يستطع المير البرتغالي دون‬
‫أنطونيو مقاومة تلك القوات السبانية‪ ،‬التي ضمت أراضيه لسنة ‪988‬هـ‪1580/‬م عند ذلك‬
‫اقترح السلطان العثماني مراد الثالث عقد تحالف عسكري ضد السبان على أساس امداده‬
‫بأسطول حربي وقوات عسكرية فبعث برسالتين في رجب ‪988‬هـ‪ /‬سبتمبر ‪1580‬م‪ ،‬قال فيها‬
‫" ‪ ..‬فلما وصل بمسامعنا الشريفة ومشاعرنا الحقانية المنيفة خبر طاغية قشتالة وأنه احتوى‬
‫على سلطنة برتغالي‪ ،‬أو كاد وأنه جعل أهلها في الغلل والصفاد‪ ،‬وأنه لكم جار وعدو‬
‫مضرار حركتنا الحمية السلمية ‪ ..‬لظهار اللفة الزلية أن تتخذ عهدا وتؤكد أن المملكتين‬
‫محروستا الجوانب ونعلق العهد بالكعبة ‪ ...‬فإذا تم هذا الشأن ‪ ..‬نوجه لكم ثلثمائة غرابا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وادي المخازن ‪ ،‬ص ‪.44‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ عصر النهضة الوروبية ‪ ،‬نورالدين حسام ‪ ،‬ص ‪.456،457،458‬‬
‫‪-338-‬‬
‫سلطانية وجيش عز ونصر وكماه عثمانية تستفتح بها إنشاء ال بلد الندلس ‪." ..‬‬
‫()‬
‫كان قلج علي بعد استقرار الدولة العثمانية في تونس بدأت أنظاره تتطلع إلى المغرب ‪، 1‬‬
‫()‬
‫وأخذ يعمل في توحيد الوجهة السياسية لبلد المغرب السلمي‪ ،‬لضمه إلى الدولة العثمانية ‪، 2‬‬
‫خاصة بعد تذبذب موقف المولى أحمد المنصور الخير من الدولة صدرت الوامر إلى قلج‬
‫علي قائد السطول العثماني بالتوجه إلى المغرب لضمه للدولة العثمانية‪ ،‬فوصل قلج علي إلى‬
‫الجزائر في جمادي الثانية ‪989‬هـ‪ /‬يونيو ‪1581‬م‪ ،‬بينما كان المنصور يرابط بقواته عند نهر‬
‫تانسيفت‪ ،‬وكانت القوات المغربية قد استعدت لمواجهة التدخل العثماني‪ ،‬إذ جهز المنصور‬
‫جنوده وتقدم بها حتى حدود بلده‪ ،‬كما سد مدخل مملكته‪ ،‬وحصن الثغور‪ ،‬وإلى جانب تلك‬
‫الستعدادات وجه المنصور سفارة خاصة لسطنبول وذلك بعد أن توصل إلى شبه اتفاق‬
‫عسكري مع الملك السباني الذي انتهى من مشاكله بدخوله للعاصمة البرتغالية لشبونة في ‪27‬‬
‫جمادي الثانية ‪989‬هـ‪ 31 /‬يوليو ‪1581‬م‪ ،‬على أساس تقديم المساعدة العسكرية للمغرب‪،‬‬
‫لمواجهة التدخل العثماني‪ ،‬مقابل التنازل عن مدينة العرائش وامتيازات أخرى وأمام تطور‬
‫الحداث لم يجد السلطان العثماني بدا من قبول المر الواقع والتراجع عن غزو المغرب بأن‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪ ،‬وجعفر باشا نائب قلج علي في الجزائر‪ ،‬بالتخلي عن العمل بالمغرب‬ ‫أمر قلج علي‬
‫والنتقال إلى الشرق‪ ،‬حيث اضطربت المور بالحجاز فتخلى قلج علي عن هدفه الطموح في‬
‫()‬
‫استرداد الندلس‪ ،‬بعد توحيد الجبهة لبلد المغرب السلمي ‪. 4‬‬
‫تردد السفراء بين الستانة وفاس فتوجهت سفارات أحمد بن ودة والشاظمي وابي الحسن‬
‫علي بن محمد التمكروتي بين عامي ‪979‬هـ‪1588 /‬م‪999 ،‬هـ‪1590/‬م‪ ،‬واستقبل أحمد‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث ‪ ،‬محمد خير فارس‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث للجيلني‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المغرب في عهد الدولة السعدية‪ ،‬ص ‪.112‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر للجيلني ‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪-339-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫لم تتحقق رغبة السلطان العثماني في التحالف‬ ‫المنصور سفيرا عثمانية في ‪998‬هـ‪1589 /‬م‬
‫مع السعديين لسترداد الندلس وذلك بسبب انشغال الدولة بحروبها المضنية ضد الشيعة‬
‫الصفوية في إيران‪ ،‬والهابسبرج في وسط أوروبا‪ ،‬بالضافة إلى واجبها نحو حماية مقدسات‬
‫()‬
‫المة السلمية في الحجاز‪ ،‬وتدعيم حزامه المني ‪. 2‬‬

‫تاسعا‪ :‬جهاد الوالي الجزائري وتغير الوضاع ‪:‬‬


‫جهز الوالي العثماني في الجزائر أسطوله في سنة ‪990‬هـ‪1582/‬م لمحاربة اسبانيا فوق‬
‫أرضها‪ ،‬فنزل المجاهدون المسلمون في برشلونة فأعملوا فيها تدميرا ثم عبروا مضيق جبل‬
‫طارق وهاجموا جزر الكناري التي تحتلها اسبانيا فدمروا المراكز العسكرية وغنموا مافيها ولم‬
‫يكن السطول العثماني يذهب للندلس لمجرد التنكيل بالسبانيين ولتدمير منشآتهم بل كان‬
‫بالدرجة الولى لنقاذ المسلمين من نكبتهم وتعرض المجاهدون أثناء ذلك لمعارك قاسية وهزائم‬
‫()‬
‫أحيانا ‪. 3‬‬
‫ازداد تطاول النكشارية في الجزائر على الهالي في الوقت الذي انصرف رجال البحر‬
‫()‬
‫ليمارسوا الجهاد البحري على نطاق واسع ‪ ، 4‬لذلك حضر حسن فنزيانو من نشاطه البحري‪،‬‬
‫الذي بادر إلى عودته إلى الجزائر حينما بلغه انتشار الفوضى بين الجنود‪ ،‬فانتصب على‬
‫الجزائر للمرة الثانية‪ ،‬وفرض طاعته على الرعية وذلك في ربيع الثاني سنة ‪991‬هـ‪ /‬ابريل‬
‫‪1583‬م‪ ،‬ولم يعارض الباب العالي في توليه‪ ،‬لما كان له من العقل في حسم الخلف وإطفاء نار‬
‫الفتن واستتباب المن بالجزائر ‪.‬‬
‫باشر حسن فنزيانو تسيير الدارة بما عهد منه من نشاط وحزم فإنه لم يترك قيادة السطول‬
‫العثماني بالجزائر لغيره‪ ،‬وكثرت في أيامه المغانم بما كانت تجلبه السفن من السواحل السبانية‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬بداية الحكم المغربي بالسودان‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.532‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الجزائر والحملت الصليبية‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪-340-‬‬
‫والجزر الشرقية من نفائس‪ ،‬وبما كان يستولي عليه من السرى والمغانم في غزواته‪.‬‬
‫وفي ‪992‬هـ‪1584/‬م أبحر حسن فنزيانو بأسطوله على ثغر بلنسية وحمل أعدادا كبيرة من‬
‫مسلمي الندلس‪ ،‬إذ أنقذهم من اضطهاد السبان‪ ،‬كما استطاع في السنة التالية انقاذ جميع سكان‬
‫كالوسا‪ ،‬إذ حملهم إلى الجزائر وفي السنة بعدها توغل مراد رايس في المحيط الطلس فأغار‬
‫على جزر الكناري وغنم منها غنائم كثيرة بما فيهم زوجة حاكم تلك الجزر‪ ،‬وبقي حسن فنزيانو‬
‫على رأس الحكومة العثمانية بالجزائر إلى أن استدعاه السلطان في اسطنبول ليتولى منصب‬
‫()‬
‫إمارة البحر " قبودان دوريا " ‪ 1‬وذلك بعد وفاة قلج علي سنة ‪995‬هـ‪1587/‬م ‪.‬‬
‫عاشرا‪ :‬انتهاء نظام البيلربك في الجزائر‪:‬‬
‫بوفاة قلج علي انتهى في الجزائر نظم البيلربك الذي جعل من حكام الجزائر ملوكا واسعي‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪ ،‬ويفسر هذا‬ ‫السلطة والنفوذ واستعيض عنه بنظام الباشوية مثلها في ذلك تونس وطرابلس‬
‫التغيير في شكل الحكم العثماني بخوف السلطان العثماني في أن يتجه البيلربك بسبب قوتهم‬
‫وضعف البحرية العثمانية نحو الستقلل‪.‬‬
‫وكان الباشا موظف ترسله الستانة لمدة ثلث سنوات يتولى خللها حكم البلد دون أن يكون‬
‫( ‪)3‬‬
‫‪ ،‬ويكون الباشا في كل من‬ ‫له سند أساسي أو سند محلي بين القوى التي تسيطر على البلد‬
‫طرابلس وتونس والجزائر وكيلً للسلطان ويكون مطلق التصرف لبعد الولية عن العاصمة‬
‫اسطنبول‪.‬‬
‫كانت أحداث مابعد ‪997‬هـ‪1588/‬م في نيابات العثمانية الثلث طرابلس وتونس والجزائر‬
‫تفيد بسطوة الجنود ورجال البحرية على السلطنة فيها على حساب سلطة الباشا إل أن طبيعة‬
‫علقات السلطة في داخل الولية مع امساك السلطنة العثمانية بسلطة إصدار الغرامات‪ ،‬قد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر العام للجيلني (‪.)3/102،103‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.410‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬المغرب العربي للعقاد‪.28 ،‬‬
‫‪-341-‬‬
‫ضمنا تحقيق الهداف العثمانية في الحكم من حيث الخطبة باسم السلطان وتحصيل الموال‬
‫سنويا والمساهمة في حروب الدولة والقبول بالباشا القادم من الستانة ممثلً أعلى للسلطان في‬
‫()‬
‫حكم النيابة وهي جميعها من رموز السيادة العثمانية الرسمية ‪. 1‬‬
‫كان ذلك هو التحول الذي جرى في الدولة نحو الشمال الفريقي‪ ،‬إثر معركة ليبانتوسنه‬
‫‪978‬هـ‪1571/‬م ‪ ،‬فبعد أن كان الشمال الفريقي تحت مسؤولية البيلربك الموجود في الجزائر‪،‬‬
‫انقسمت المنطقة إلى ثلث وليات هي طرابلس وتونس والجزائر وصارت وليات عادية مثلها‬
‫مثل سائر الوليات العثمانية الخرى‪ ،‬لقد كان موقف الدولة السعدية من جهة‪ ،‬وتصرف بعض‬
‫النكشاريين من جهة وجبهات المشرق من جهة وغير ذلك من السباب أضعف همة الدولة في‬
‫إرجاع الندلس ‪.‬‬
‫لقد حالت عدة أسباب دون ضم المغرب القصى للدولة العثمانية منها‪:‬‬
‫‪ -1‬ظهور شخصية قوية حاكمة في المغرب ونعني به المنصور السعدي‪.‬‬
‫‪ -2‬وفاة قلج علي في ‪1587‬م ومن بعده أدخل الشمال الفريقي في نظام الوليات‪.‬‬
‫‪ -3‬كان النصر الذي أحرزه المغاربة على البرتغاليين في معركة وادي المخازن سببا في‬
‫( ‪)2‬‬
‫لقد كانت الدولة العثمانية في جهودها البحرية‬ ‫تقدير السلطات العثمانية للسعديين واحترامهم‬
‫في البحر المتوسط أكثر توفيقا من البحر الحمر والمحيطات لعدة أسباب منها‪:‬‬
‫‪ -1‬قرب الشمال الفريقي من كل من اسطنبول ومصر يجعل المدادات متلحقة ويجعل‬
‫صورة الحداث واضحة‪ ،‬والتطورات العسكرية مفهومة‪ ،‬بعكس الحال في المحيطات حيث‬
‫كانت تطورات المور لتصل إل بعد وقت طويل وبشكل غير واضح‪.‬‬
‫‪ -2‬كانت للعثمانيين قواعد قوية في شمال افريقية تستند إلى خلفية إسلمية واسعة وخبرة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.477‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الشعوب السلمية ‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز سليمان‪ ،‬ص ‪.123‬‬
‫‪-342-‬‬
‫عملية في محاربة النصارى وكانوا على استعداد للتعاون مع العثمانيين والدخول تحت نفوذهم‪.‬‬
‫‪ -3‬لم تكن هناك مقاومة مذهبية عنيفة في شمال افريقية بل كانت الهيمنة للمذهب السني‬
‫()‬
‫الذي استطاع أن يقف أمام المذاهب المنحرفة ويجتثها من جذورها ‪. 1‬‬

‫الفصل الخامس‬
‫بداية اضمحلل الدولة العثمانية‬

‫اتفق المؤرخون على أن عظمة الدولة العثمانية قد انتهت بوفاة السلطان العثماني سليمان‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الشعوب السلمية ‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز سليمان‪،‬ص ‪.124‬‬
‫‪-343-‬‬
‫القانوني عام ( ‪974‬هـ‪1566 /‬م ) وكانت مقدمات ضعف الدولة قد اتضحت في عهد السلطان‬
‫سليمان‪ ،‬إذ وقع السلطان تحت تأثير زوجته روكسلنا التي تدخلت للتآمر ضد المير مصطفى‬
‫ليتولى ابنها سليم الثاني الخلفة بعد أبيه وكان مصطفى قائدا عظيما ومحبوبا من الضباط‪ ،‬مما‬
‫أدى إلى سخط النكشارية ونشوب ثورة كبرى ضد السلطان وأخمدها السلطان سليمان‪ ،‬وبذلك‬
‫تم القضاء على مصطفى وابنه الرضيع وكذلك قتل السلطان ابنه بايزيد وأبناءه الربعة بدسيسة‬
‫( ‪)1‬‬
‫ومن مظاهر الضعف في عهد سليمان بدء انسحاب السلطان من جلسات‬ ‫من أحد الوزراء‬
‫الديوان‪ ،‬وبروز سطوة الحريم والعجز عن مواجهة المشاكل القتصادية والجتماعية التي أدت‬
‫()‬
‫إلى نشوب القلقل الشعبية في الروميلي والناضول ‪. 2‬‬

‫المبحث الول‬
‫السلطان سليم الثاني‬

‫تولى الحكم في ‪ 9‬ربيع الول سنة ‪974‬هـ‪ ،‬ولم يكن مؤهلً لحفظ فتوحات والده السلطان‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.102‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي ‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪-344-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫سليمان ولول وجود الوزير الفذ والمجاهد الكبير والسياسي القدير محمد باشا الصقللي‬
‫لنهارت الدولة‪ ،‬إذ قام بإعادة هيبتها وزرع الرهبة في قلوب أعدائها وعقد صلحا مع النمسا‬
‫وأتم توقيع معاهدة في عام ‪975‬هـ الموافق ‪1967‬م احتفظت بموجبها النمسا بأملكها في بلد‬
‫المجر ودفعت الجزية السنوية المقررة سابقا للدولة كما اعترف أمراء تراسلفانيا والفلق‬
‫()‬
‫والبغدان ‪. 2‬‬

‫أولً‪ :‬تجدد الهدنة مع شارل التاسع ملك فرنسا‪:‬‬


‫تجددت الهدنة مع ملك بولونيا وشارل التاسع ملك فرنسا في عام ‪980‬هـ الموافق ‪1569‬م‬
‫كما زادت المتيازات القنصلية الفرنسية وجرى تعيين هنري دي فالوا ‪ -‬وهو أخو ملك فرنسا‬
‫‪ -‬ملكا على بولونيا باتفاق مع فرنسا التي أصبحت بذلك ملكة التجارة في البحر المتوسط ‪.‬‬
‫وطبقا للمعاهدات السابقة فقد قامت تلك الدولة ‪ -‬أي فرنسا ‪ -‬بإرسال البعثات الدينية النصرانية‬
‫إلى كافة أرجاء البلد العثمانية التي يسكنها نصارى وخاصة بلد الشام وقامت بزرع محبة‬
‫فرنسا في نفوس نصارى الشام ممّا كان له أثر يذكر في ضعف الدولة‪ ،‬إذ امتد النفوذ الفرنسي‬
‫بين النصارى وبالتالي ازداد العصيان وتشجعوا على الثورات فكان من أهم نتائج ذلك التدخل‬
‫الحتفاظ بجنسية ولغة القليات النصرانية حتى إذا ضعفت الدولة العثمانية ثارت تلك الشعوب‬
‫()‬
‫مطالبة بالستقلل بدعم وتأييد من دول أوروبا النصرانية ‪. 3‬‬
‫إن اقتناع الدول الوروبية بكون " نظام المتيازات الجنبية‪ ،‬حقا من حقوقها الطبيعية هو‬
‫الذي دفع فرنسة لرسال جنودها لمساعدة البندقية التي كان السلطان مراد الرابع ( ‪-1624‬‬
‫‪1640‬م ) يحاربها‪ ،‬كما أرسلت سفيرها برفقة عمارة بحرية لرهاب الدولة العلية ومطالبتها‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.123‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه ‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫‪-345-‬‬
‫بتحديد المتيازات‪ .‬لكن الصدر العظم حينئذ والذي كان مازال يمتلك قراره السياسي‪ ،‬أخبر‬
‫السفير "بأن المعاهدات هذه ليست اضطرارية واجبة التنفيذ ذلك لكونها منحة سلطانية فحسب‪،‬‬
‫المر الذي جعل فرنسة تتراجع عن تهديداتها وتتحايل لدى السلطان ليوافق من جديد على‬
‫تجديد نظام المتيازات عام ‪673‬م‪ ،‬مما زاد الطين بلة‪ ،‬وبدل أن تتعظ الدولة العثمانية مما حدث‬
‫أمر السلطان محمد الرابع‬
‫( ‪)1‬‬
‫تتابع بتجديد المتيازات‪ ،‬وفي كل‬ ‫(‪1648-1687‬م) بتفويض فرنسة حق حماية بيت المقدس‬
‫مرة يضاف قيد جديد على السلطنة ففي تجديد عام ‪1740‬م أضافت السلطنة امتيازات تجارية‬
‫جديدة لفرنسة‪ .‬ولكن المتيازات تعرضت لتهديد حقيقي عندما احتل نابليون بونابرت مصر‪ ،‬فقد‬
‫أوقفت السلطنة العمل بها‪ ،‬غير أن نابليون كان قد تراجع في الوقت المناسب حفاظا على علقته‬
‫مع السلطنة‪ ،‬وذلك حين عرض انسحاب فرنسة من مصر لقاء تجديد المتيازات‪ ،‬وقد تم ذلك‬
‫بالفعل في ‪ 9‬تشرين أو ( أكتوبر ) ‪1801‬م وأضافت السلطنة امتيازا جديدا يقضي بمنح فرنسة‬
‫()‬
‫حرية التجارة والملحة في البحر السود ‪. 2‬‬
‫لقد كانت نتائج هذه المتيازات وخيمة جدا على السلطنة ولقد بين المؤرخ اليوناني ويمتري‬
‫كيتسيكس ‪ .. " :‬أن المتيازات حطمت اقتصاد المبراطورية بتحطيمها النظام الضريبي‬
‫()‬
‫العثماني القائم على حماية التجارة المحلية ضد المنافسة الجنبية ‪ . 3 " ..‬بل هذه المتيازات‬
‫حالت دون قيام السلطنة بتنفيذ مشروعات إصلحية واستنباط موارد مالية جديدة لمواجهة نفقات‬
‫الدارة والحكم‪ ،‬لذلك أصبحت معاهدات المتيازات الجنبية بمثابة مواثيق مذلة للعثمانيين مادام‬
‫الوربيون ليخضعون للسلطات العثمانية‪ ،‬فقد أصبحوا وكأنهم يشكلون حكومة داخل الحكومة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬قراءة جديدة لعوامل النحطاط‪ ،‬جواد العزاوي‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬قراءة جديدة لعوامل النحطاط‪ ،‬جواد العزاوي‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪-346-‬‬
‫()‬
‫العثمانية ‪. 1‬‬

‫ثانيا‪ :‬حاكم خوارزم يطلب الحماية من السلطان سليم الثاني‬


‫اشتكى حاكم خوارزم للسلطان سليم الثاني‪ ،‬من أن شاه فارس يقبض على الحجاج الوافدين‬
‫من تركستان‪ ،‬بمجرد عبورهم حدوده‪ ،‬وأن موسكو بعد استيلئها على استراخان منعت مرور‬
‫الحجاج والتجارة‪ ،‬ووضعت العقبات والعراقيل أمامهم‪ ،‬لهذا طلب حاكم خوارزم‪ ،‬وحكام‬
‫( ‪)2‬‬
‫بخارى وسمرقند من السلطان سليم الثاني أن يفتح استرخان بهدف إعادة فتح طريق الحج‬
‫لقى ذلك الطلب القبول لدى الدولة العثمانية اعد صوقللي باشا الصدر العظم في الدولة حملة‬
‫كبرى سنة ‪976‬هـ‪977/‬هـ‪1569-568/‬م للستيلء على استراخان وتحويلها إلى قاعدة‬
‫عثمانية للدفاع عن المنطقة وأن يصل مابين نهري الفولجا والدون بقناة صالحة لمرور السفن‬
‫لتسهل دخول السطول العثماني بحر الخزر ( قزوين ) عن طريق البحر السود لتمكن‬
‫العثمانيين من وقف التوسع الروسي نحو الجنوب وتطرد الفرس من القوقاز واذربيجان بل‬
‫وغزو فارس من الشمال‪ ،‬بدلً من مرور الجيوش العثمانية بأرض أذربيجان الوعرة‪ ،‬والتصال‬
‫بالزبك أعداء الصفويين وتتار القرم‪ ،‬ومن شأن كل ذلك أن يؤدي إلى إحياء طريق القوافل‬
‫()‬
‫القديمة المارة بأواسط آسيا من الشرق إلى الغرب ‪. 3‬‬
‫شرع العثمانيون في تنفيذ مشروع وصل نهر الدون بالفولجا‪ ،‬وحل شهر جمادي الولى‬
‫‪977‬هـ‪ /‬اكتوبر ‪1569‬م حتى كان ثلث القناة قد اكتمل‪ ،‬وان يكن موسم الشتاء قد أدى إلى‬
‫إيقاف العمل‪ ،‬وحينئذ اقترح قائد الحملة استعمال سفن صغيرة محملة بالمدافع والذخيرة لشن‬
‫الهجوم على استراخان إل أن الحملة فشلت بسبب الظروف الطبيعية ومع هذا استطاع صوقللي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)1/75‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني ‪،‬ص ‪.144‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬فتح عدن ‪ ،‬محمد عبداللطيف البحراوي‪ ،‬ص ‪.145‬‬
‫‪-347-‬‬
‫باشا أن يحقق بعض النجاحات كتشديد قبضة السلطان على أمراء مولدافيا وولشيا وبولندا‪،‬‬
‫()‬
‫وبذلك اعترضت الدولة العثمانية مرحليا توسع روسيا شمال وغرب البحر السود ‪. 1‬‬

‫ثالثا‪ :‬فتح قبرص‪:‬‬


‫كانت إيطاليا واسبانيا تقدر أهمية جزيرة قبرص وشاع في أوروبا عن تكون حلف ضد‬
‫السلطان ولكن لم يعمل شيء في حينه لنقاذ قبرص من العثمانيين الذين نزلوها بقوة كاسحة‪،‬‬
‫نفذت إلى الجزيرة بدون صعوبة ووقفت مدينة فامرجستا الحصينة أمام العثمانيين بقيادة باحليون‬
‫وبراجادنيو الذين واجهوا القوة العثمانية التي وصلت مائة ألف مقاتل استعمل خللها العثمانيين‬
‫جميع وسائل الحصار المعروفة‪ ،‬من فر وكر‪ ،‬وزرع لللغام ولم ينتج أي تأثير على الحامية‪،‬‬
‫ولو وصلت قوة مسيحية للنجدة‪ ،‬لصار العثمانيون في خطر‪ ،‬إل أن المجاعة قامت بعملها‪،‬‬
‫واستسلمت المدينة في ربيع الثاني ‪979‬هـ ‪ /‬اغسطس ‪1571‬م ‪.‬‬
‫نقلت الدولة العثمانية بعد فتحها لقبرص عددا كبيرا من سكان الناضول الذين ليزال‬
‫أحفادهم مقيمين في الجزيرة‪ ،‬ورغم ترحيب القبارصة الرثوذكس بالحكم العثماني‪ ،‬الذي انقذهم‬
‫من الضطهاد الكاثوليكي الذي مارسته البندقية لعدة قرون‪ ،‬إل أن احتلل العثمانيين أثار الدولة‬
‫()‬
‫الكاثوليكية ‪. 2‬‬
‫رسى السطول العثماني بعد انتهاء مهمته في ابنانجني وانصرف معظم جنوده بمناسبة حلول‬
‫موسم الشتاء‪ ،‬حيث تتوقف ساحة المعارك في مثل هذا الوقت من السنة‪ ،‬والستعداد للسنة‬
‫()‬
‫المقبلة ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.447‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.147-146‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬فلسفة التاريخ العثماني لمحمد جميل بيهم‪ ،‬ص ‪.142‬‬
‫‪-348-‬‬
‫( ‪)4‬‬
‫رابعا‪ :‬معركة ليبانتي‬
‫ارتعدت فرائص المم المسيحية من الخطر السلمي العظيم الذي هدد القارة الوروبية‪ ،‬من‬
‫جراء تدفق الجيوش العثمانية برا وبحرا فأخذ البابا بيوس الخامس ( ‪1572 - 1566‬م ) يسعى‬
‫( ‪)2‬‬
‫من جديد لجمع شمل البلد الوروبية المختلفة وتوحيد قواها برا وبحرا تحت راية البابوية‬
‫( ‪)3‬‬
‫عقد البابا‬ ‫وقد كتب يقول " ‪ ...‬إن السلطنة التركية قد تبسطت تبسطا هائلً بسبب نذالتنا "‬
‫بيوس الخامس وفيليب الثاني ملك اسبانيا وجمهورية البندقية معاهدة في أوائل ‪979‬هـ‪ /‬مايو‬
‫‪1571‬م‪ ،‬تعهدوا فيه بالقيام بهجوم بحري ضد العثمانيين شارك في الحلف كذلك بعض المدن‬
‫اليطالية‪ ،‬وذلك بعد تحريك بيوس الخامس لروح التحالف‪ ،‬فارتبطت توسكاني وجنوة‪،‬‬
‫()‬
‫وسافوي‪ ،‬وبعض اليطاليين في الحلف المقدس ‪ ، 4‬وأرسل البابا إلى ملك فرنسا يريد العون‪:‬‬
‫فاعتذر شارل التاسع بحجة ارتباطه بمعاهدات مع العثمانيين‪ ،‬فأجابه البابا طالبا منه التحلل من‬
‫مواثيقه هذه ولم تمض سوى أيام قليلة حتى نقض المبراطور عهوده ومواثيقه التي أبرمها مع‬
‫العثمانيين واتجه نحو إيفان ملك الروس يطلب إجابته نفير الحرب ووجد تباطؤا عند ملك‬
‫بولونيا واختير ( دون جوان ) النمساوي قائدا للحملة وجاء في أحد بنود المعاهدة النصرانية ‪" :‬‬
‫إنّ البابا بيوس الخامس وفيليب ملك إسبانيا وجمهورية البندقية يعلنون الحرب الهجومية‬
‫والدفاعية على التراك لجل أن يستردوا جميع المواقع التي اغتصبوها من المسيحيين ومن‬
‫()‬
‫جملتها تونس والجزائر وطرابلس " ‪. 5‬‬
‫سار دون جون إلى البحر الدرياتيك‪ ،‬حتى وصل إلى الجزء الضيق من خليج كورنث‬
‫‪ )(4‬تقع في الطرف الشمالي للفم الغربي لخليج كورنث في اليونان اليوم‪.‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.396‬‬
‫‪ )(3‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.452‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.125،126‬‬
‫‪-349-‬‬
‫بالقرب من باتراس وليس ببعيدة عن ليبانتو والذي اسمها اعطى للمعركة‪.‬‬
‫كان من رأي قادة السطول السلمي الفادة من تحصين الخليج وعدم الشتباك بالسطول‬
‫الصليبي‪ ،‬غير أن القائد العام علي باشا صمم على الخروج للمعركة معتمدا على تفوقه في عدد‬
‫سفنه‪ ،‬ونظم علي باشا قواته فوضع سفنه على نسق واحد من الشمال إلى الجنوب‪ ،‬بحيث كانت‬
‫ميمنتها تستند إلى مرفأ ليبانتو‪ ،‬ومسيرتها في عرض البحر‪ ،‬وقد قسمها علي باشا إلى جناحين‬
‫وقلب فكان هو في القلب وسيروكو في الجناح اليمن وبقي الجناح اليسر بقيادة قلج علي‪.‬‬
‫ومقابل ذلك نظم دون جون قواته فوضع سفنه على نسق يقابل النسق السلمي ووضع‬
‫جناحه اليمن بقيادة دوريا مقابل قلج علي‪ ،‬وأسند قيادة جناحه اليسر إلى بربريجو مقابل‬
‫()‬
‫سيروكو وجعل دون نفسه لقيادة القلب وترك أسطولً احتياطيا بقيادة سانت كروز ‪. 1‬‬
‫خامسا‪ :‬احتدام المعركة ‪:‬‬
‫احتدمت المعركة في ‪ 17‬جمادي الولى سنة ‪979‬هـ‪ 17 /‬اكتوبر ‪1571‬م أحاط السطول‬
‫السلمي بالسطول المسيحي وأوغل العثمانيون بين سفن العدو‪ ،‬ودارت معركة قاسية أظهر‬
‫()‬
‫فيها الفريقان بطولة كبيرة وشجاعة نادرة ‪ ، 2‬وشاءت إرادة ال هزيمة المسلمين ففقدوا ثلثين‬
‫ألف مقاتل وقيل عشرين ألفا‪ ،‬وخسروا ‪ 200‬سفينة حربية منها ‪ 93‬غرقت والباقي غنمه العدو‬
‫( ‪)4‬‬ ‫( ‪)3‬‬
‫واستطاع قلج علي‬ ‫وأسر لهم عشرة آلف رجل‬ ‫وتقاسمته الساطيل النصرانية المتحدة‬
‫انقاذ سفنه واستطاع كذلك المحافظة على بعض السفن التي غنمها ومن بينها السفينة التي تحمل‬
‫( ‪)5‬‬
‫عمل البابا‪ ،‬رجع بها لسطنبول التي استقبلته استقبال الفاتحين‪ ،‬رغم الشعور بمرارة الهزيمة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.396‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.454‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.126‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.126‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬الحرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.398،399‬‬
‫‪-350-‬‬
‫وبادر السلطان سليم الثاني أثر ذلك بترفيع قلج علي إلى رتبة قائد البحرية العثمانية " قبودان‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪.‬‬ ‫باشا "‪ ،‬مع الستمرار في منصبه كبيرلبك للجزائر‬
‫سادسا‪ :‬أثر ليبانتو على أوروبا والدولة العثمانية‪:‬‬
‫احتفلت القارة الوربية بنصر ليبانتو‪ ،‬فلول مرة منذ أوائل القرن الخامس عشر تحل‬
‫( ‪)2‬‬
‫فهلل الوروبيون وكبروا لذلك النتصار وأقيمت معالم الزينات في كل‬ ‫الهزيمة بالعثمانيين‬
‫مكان وأفرطت في التسبيح بحمد دون جون أمير الساطيل المتحدة الذي أحرز هذا النتصار‪،‬‬
‫إلى حد أن البابا لم يتورع عن القول أثناء الحتفال في كنيسة القديس بطرس‪ ،‬بمناسبة هذا‬
‫النصر ( إن النجيل قد عنى دون جون نفسه‪ ،‬حيث بشر بمجيء رجل من ال يدعى حنا )‬
‫وظل العالم المسيحي ومؤرخوه ينوهون بهذا النصر البحري‪ ،‬حتى أن القواميس المدرسية‬
‫الحديثة لتذكر ثغر ليبانت‪ ،‬إل وتذكر معه دون جون المشار إليه على اعتبار أنه أنقذ المسيحية‬
‫()‬
‫من خطر كان يحيق بها ‪. 3‬‬
‫لقد فرح البابا فرحا عظيما على الرغم من عدم ارتياحه لنّ عدوه ليزال عظيما مرهوب‬
‫الجانب وحاول إثارة شكوك الشيعة الثنى عشرية الصفوية ضد العثمانيين مستغلً بعض‬
‫الضغائن والمشكلت والختلف العقائدي‪ ،‬فأرسل إلى الشاه طهماسب ملك العجم ومن جملة‬
‫ماقال له ‪ .. " :‬لن تجد أبدا فرصة أحسن من هذه الفرصة لجل الهجوم على العثمانيين ‪ ،‬إذ هم‬
‫()‬
‫عرضة للهجوم من جميع الجهات ‪. 4 " ...‬‬
‫()‬
‫وأرسل يستعدي ملك الحبشة وإمام اليمن على الدولة العثمانية ولكن المنية عاجلته ‪. 5‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.454‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬فلسفة التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.126‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.126‬‬
‫‪-351-‬‬
‫إن نتيجة معركة ليبانتو‪ ،‬كانت مخيبة لمال العثمانيين‪ ،‬فقد زال خطر السيادة العثمانية في‬
‫البحر المتوسط ومع زوال الخطر‪ ،‬زال الخوف الذي كان قويا‪ ،‬للمحافظة على حلف مقدسي‬
‫()‬
‫دائم و استعاد الحسد والغيرة نشاطه بين الدول المسيحية ‪. 1‬‬
‫إن أهمية ليبانتو كانت عظيمة وأسطورة عدم قهر العثمانيين قد اختفت ولم تعد للوجود ثانية‬
‫على أقل تقدير في البحر‪ ،‬وأزيح ذلك الخوف عن قلوب حكام إيطاليا‪ ،‬واسبانيا‪ ،‬وتزعزع تأثير‬
‫الدولة العثمانية على سياسة القوى الغربية لوروبا‪ ،‬إذ كانت من الحقيقة القوات العثمانية هائلة‬
‫()‬
‫في كل المجال البري‪ ،‬والمجال البحري ‪ ، 2‬كما أن النتصار المسيحي في ليبانتو ‪ 1571‬كان‬
‫إشارة لتحضير حاسم في ميزان القوة البحرية في البحر المتوسط‪ ،‬كما أنه أنهى عصرا من‬
‫()‬
‫عصور العمليات البحرية الطموحة في البحر المتوسط‪ ،‬والتي تكاليفها باهظة ‪. 3‬‬
‫لم يعد يفكر العثمانيون بعد تلك الهزيمة في إضافة حلقة أخرى إلى سلسلة أمجادهم‬
‫()‬
‫البحرية ‪ ، 4‬إذا كان هذا النكسار نقطة البداية نحو توقف عصر الزدهار لقوة الدولة‬
‫()‬
‫البحرية ‪. 5‬‬
‫سابعا‪ :‬ظهور أطماع فرنسا في الشمال الفريقي‪:‬‬
‫كانت معركة ليبانتو فرصة مواتية لظهار طمع فرنسا نحو المغرب السلمي‪ ،‬إذ بمجرد‬
‫انتشار خبر هزيمة السطول العثماني في تلك المعركة قدم ملك فرنسا شارل التاسع مشروعا‬
‫إلى السلطان العثماني ( ‪980‬هـ ‪1572 /‬م ) ‪ ،‬وذلك بواسطة سفيره باسطنبول‪ ،‬يتضمن طلب‬
‫الترخيص لحكومته في بسط نفوذها على الجزائر‪ ،‬بدعوة الدفاع عن حمى السلم والمسلمين‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.455‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.455‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.455‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬بداية الحكم المغربي في السودان‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬فلسفة التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪-352-‬‬
‫بها وأن فرنسا مستعدة في مقابل ذلك دفع مغرم للباب العالي‪ ،‬فأعرض السلطان عن السفير‬
‫الفرنسي ولم يهتم به‪ ،‬ومع ذلك أوغلت فرنسا طموحها وألحت على طلبها وسلكت للتوصل إلى‬
‫هدفها مسالك دبلوماسية عديدة‪ ،‬حتى تحصلت على امتيازات خاصة‪ ،‬في السقالة وأماكن أخرى‬
‫()‬
‫على الساحل الجزائري وتصريح من السلطان بإقامة مراكز تجارية ‪. 1‬‬

‫ثامنا‪ :‬إعادة بناء السطول العثماني‪:‬‬


‫قبل القبودان باشا قلج علي‪ ،‬بهمة ونشاط متزايد‪ ،‬على تجديد السطول العثماني‪ ،‬وتعويض ما‬
‫فقد منه‪ ،‬وما حل صيف ‪980‬هـ‪1572 /‬م‪ ،‬حتى قد هيأ مائتان وخمسون سفينة جديدة‪ ،‬وخرج‬
‫قلج علي بأسطوله في البحر وارتاعت البندقية من هذا الستعداد البحري‪ ،‬فطلبت الصلح من‬
‫الدولة العثمانية بشروط مخزية إذ تنازلت لها عن جزيرة قبرص‪ ،‬كما دفعت غرامة حربية‬
‫()‬
‫قدرها ثلثمائة ألف دوكه ‪ ، 2‬ولكن هذا النشاط كان من قبيل اليقظة التي تسبق فترة الحتضار‬
‫البحري ذلك لن الدولة انصرفت إلى حروب متواصلة ‪ ،‬نشبت بينها وبين النمسا وحليفاتها من‬
‫( ‪)3‬‬
‫جهة‪ ،‬وبينها وبين فارس من جهة أخرى كما أنها انشغلت بإخماد الثورات الداخلية المستمرة‬
‫‪.‬‬

‫تاسعا‪ :‬احتلل تونس‪:‬‬


‫كان فيليب الثاني قد تشجع لحتلل تونس بسبب لجوء السلطان الحفصي أبي العباس الثاني‬
‫الذي حكم تونس ‪1572 -1535 / 980-942‬م إليه‪ ،‬وطلب منه المساعدة في إخماد الثورات‬
‫بإعطائهم امتيازات كبيرة‪ ،‬وتتيح لهم سكن جميع أنحاء تونس‪ ،‬وتتنازل عن عناية وبنزرت‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر العام (‪.)98-3/97‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.399‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪،‬ص ‪.456‬‬
‫‪-353-‬‬
‫( ‪)2‬‬ ‫( ‪)1‬‬
‫بعد ذلك خرج‬ ‫فرفض أبو العباس الشروط ولكن أخاه محمد بن الحسين قبلها‬ ‫وحلف الواد‬
‫دون جون بأسطوله من جزيرة صقلية في رجب ‪981‬هـ اكتوبر ‪1573‬م‪ ،‬على رأس أسطول‬
‫مكون من ‪ 138‬سفينة تحمل خمسة وعشرون ألف مقاتل‪ ،‬ونزل بقلعة حلق الواد التي كانت‬
‫تحتلها اسبانيا‪ ،‬ثم باغت دون جون تونس واحتلها وخرج أهلها بوادي تونس فارين بدينهم من‬
‫( ‪)4‬‬ ‫()‬
‫وكانت أوروبا قد أدركت أنها‬ ‫شر السبان ‪ ، 3‬كما انسحب الحاكم العثماني الى القيروان‬
‫()‬
‫لتستطيع أن تقضي على الدولة إل مجتمعة ‪. 5‬‬
‫عاشرا‪ :‬قلج علي واستعداداته الحربية‪:‬‬
‫اهتم قلج علي بتسليح البحارة وتدريبهم على السلحة النارية الحديثة‪ ،‬وقد لفت هذا النشاط‬
‫البحري انظار كل المقيمين الجانب وازدادت مكانة قلج علي حتى أن البابا نصح فيليب الثاني‬
‫( ‪)6‬‬
‫وذلك بمنحه راتبا من عشرة آلف واقطاعية من مملكة نابلس‬ ‫ملك اسبانيا أن يسعى لغرائه‬
‫أو غيرها من ممتلكات العرش السباني ويتوارثها نسله من بعده‪ ،‬مع لقب كومت أو ماركيز أو‬
‫( ‪)7‬‬
‫‪ ،‬وكان البابا يدرك‬ ‫دوق‪ ،‬كما شمل المشروع أيضا منح امتيازات مماثلة لثنين من مساعديه‬
‫أن مثل هذه المحاولة أن لم تنجح فإنها على القل ستثير شكوك السلطان على قلج علي وهو‬
‫الشخص الوحيد القادر على دعم أمور السلطنة ولكن هذه المحاولة فشلت وكانت النتيجة أنها‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث ‪ ،‬ص ‪.143‬‬


‫‪ )(2‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.457‬‬
‫‪ )(3‬حرب الثلثمائة سنة‪ ،‬ص ‪.400-399‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.457‬‬
‫‪ )(6‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪ )(7‬انظر‪ :‬أطوار العلقات المغربية العثمانية‪ ،‬ص ‪.280‬‬
‫‪-354-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫‪ ،‬وأنه ليمكن شراء إمانة المسلم المجاهد إذ أنه‬ ‫أثارت غضب قلج علي بدلً من أن تقربه‬
‫وجوده في خدمة الدولة‪ ،‬إنما كان يعني أنه وهب نفسه لسبيل ال وهذا ماسارت عليه الدولة في‬
‫سياستها في جميع فتوحاتها ولعل ذلك كان سببا مباشرا في سرعة الفتح ونجاحه‪ ،‬في كل القاليم‬
‫والميادين التي طرقتها الدولة وكان العثماني في أي موقع يخدم الدولة بكل إخلص وما خدمته‬
‫()‬
‫تلك‪ ،‬إل خدمة للسلم ‪. 2‬‬

‫الحادي عشر‪ :‬السلطان سليم يصدر أوامره لعادة تونس ‪:‬‬


‫أصدر السلطان سليم الثاني أوامره إلى وزيره سنان باشا وقبودانه قلج علي بالستعداد‬
‫للتوجه إلى تونس‪ ،‬لفتحها نهائيا‪ ،‬واعادة نفوذ الدولة العثمانية اليها‪ ،‬كما صدرت نفس الوامر‬
‫والتوجيهات لبقية القاليم بتحضير الجنود والذخيرة‪ ،‬والمؤن والجنود مع مائتين وثلث وثمانين‬
‫سفينة مختلفة الحجام‪ ،‬كما أكد على المكلفين بالخدمة في الناضولي والروم يلي بالشتراك في‬
‫السفر بحرا‪ ،‬كما أحضر المجدفين اللزمين للسطول‪ ،‬وأنذر من ليحضر من المجدفين‬
‫بالفصل من مناصبهم على أن ليسند إليهم في المستقبل أي عمل وبينما كان السطول يتأهب‪،‬‬
‫أخذ حيدر باشا الحاكم العثماني في تونس والذي انسحب للقيروان في حشد المجاهدين من‬
‫()‬
‫الهالي الذين التفوا حوله ‪. 3‬‬
‫أبحر السطول العثماني بقيادة سنان باشا وقلج علي في ‪ 23‬محرم ‪982‬هـ ‪ 14 /‬مايو‬
‫‪1574‬م‪ ،‬فخرج من المضائق ونشر أشرعته في البحر البيض‪ ،‬فقاموا بضرب ساحل كالبريا‪،‬‬
‫مسينا‪ ،‬واستطاع العثمانيون أن يستولوا على سفينة مسيحية ومن هناك قطعوا عرض البحر في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص ‪.51‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.458‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬التراك العثمانيون في أفريقيا الشمالية‪ ،‬ص ‪.251‬‬
‫‪-355-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫في هذا الوقت وصل الحاكم العثماني في تونس حيدر باشا‪ ،‬كما وصلت قوة من‬ ‫خمسة أيام‬
‫الجزائريين بقيادة رمضان باشا‪ ،‬وقوة طرابلس بقيادة مصطفى باشا‪ ،‬كما وصل ثمة متطوعين‬
‫()‬
‫من مصر ‪. 2‬‬
‫بدأ القتال في ربيع سنة ‪981‬هـ‪1574 /‬م‪ ،‬ونجح العثمانيون في الستيلء على حلق الواد‪،‬‬
‫()‬
‫بعد أن حوصروا حصارا محكما ‪ 3‬وقامت قوات أخرى بمحاصرة مدينة تونس‪ ،‬ففر السبان‬
‫()‬
‫الموجودن فيها ومعهم الملك الحفصي محمد بن الحسن إلى البستيون ‪ 4‬التي بالغ السبان في‬
‫تحصينها وجعلوه من أمنع الحصون في الشمال الفريقي ‪.‬‬
‫توجه العثمانيون بعد تجمع قواتهم إلى حصار البستيون‪ ،‬وضيق العثمانيون الخناق على أهلها‬
‫من كل ناحية وباشر الوزير سنان الحرب بنفسه كواحد من الجند حتى أنه أمر بعمل متراس‬
‫يشرف منه على قتال من في البستيون كما كان ينقل الحجارة والتراب على ظهره مثل الجنود‪،‬‬
‫فعرفه أحد أمراء الجنود فقال له‪ :‬ما هذا أيها الوزير؟ نحن إلى رأيك أحوج منا إلى جسمك‪،‬‬
‫فقال له سنان‪ :‬لتحرمني من الثواب‪.‬‬
‫()‬
‫وشدد سنان باشا في حصاره على البستيون حتى استطاع فتحه ‪. 5‬‬
‫لجأ الحفصيون إلى صقلية حيث ظلوا يوالون الدسائس والمؤامرات والتضرعات لملوك‬
‫اسبانيا سعيا لسترداد ملكهم‪ ،‬واتخذهم السبان آلت طيعة تخدم بها مآربهم السياسية حسبما‬
‫تمليه الظروف عليهم وقضى سقوط تونس على المال السبانية في افريقيا وضعفت سيطرتها‬
‫تدريجيا حتى اقتصرت على بعض الموانئ مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير وتبدد حلم‬
‫()‬
‫السبان نحو إقامة دولة اسبانية في شمال افريقيا وضاع بين الرمال ‪. 6‬‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.250‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.400‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪ )(4‬البستيون ‪ :‬قلعة بناها السبان بجانب تونس‪.‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬حرب الثلثمائة سنة ‪ ،‬ص ‪.401‬‬
‫‪ )(6‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.460‬‬
‫‪-356-‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬السلطان سليم الثاني يرسل حملة كبرى إلى اليمن‪:‬‬
‫اضطربت الحوال في اليمن مع ظهور الزعيم الزيدي المطهر الذي كاتب أهل اليمن‬
‫ودعاهم للخروج عن طاعة السلطان العثماني فاجتمعت القبائل لدى المطهر الذي دخل صنعاء‬
‫( ‪)1‬‬
‫وشعرت الحكومة العثمانية بخطورة الموقف وقررت‬ ‫بعد أن ألقى بالعثمانيين هزيمة ساحقة‬
‫ارسال حملة كبرى إلى اليمن بقيادة سنان باشا وقد اهتم السلطان العثماني سليم الثاني اهتماما‬
‫كبيرا بإرسال تلك الحملة‪ ،‬لن اليمن كان يمثل جزءا هاما من استراتيجية العثمانيين في البحر‬
‫( ‪)2‬‬
‫علوة على ذلك يكون درعا قويا‬ ‫الحمر وهي غلق هذا البحر أمام الخطر البرتغالي‬
‫للحجاز‪ ،‬وقاعدة للتقدم في المحيط الهندي‪.‬‬
‫وصل الوزير العثماني سنان باشا إلى مصر تنفيذا لوامر السلطان وهناك اجتمعت لديه‬
‫()‬
‫الجنود في كافة النحاء‪ ،‬حتى أنه لم يبقى في مصر إل المشايخ والضعفاء ‪. 3‬‬
‫تحركت الحملة ووصلت إلى ينبع واستقبله هناك قاضي القضاة في مكة وعند وصوله إلى‬
‫مكة المكرمة استقبله أهلها ودخلت الجيوش العثمانية معه‪ ،‬وكأن جنود مصر انتقلت إلى مكة‬
‫بالضافة إلى جنود الشام وحلب وفرمان ومرعش‪ ،‬وضبط سنان باشا الجنود‪ ،‬وأجرى‬
‫الصدقات وأحسن على العلماء والفقهاء‪ ،‬ومكث عدة أيام في مكة وغادرها إلى جازان‪ ،‬وعندما‬
‫اقترب منها‪ ،‬هرب حاكمها من قبل المام الزيدي المطهر‪ ،‬وأقام سنان باشا في جازان‪ ،‬فأقبلت‬
‫عليه العربان يطلبون الطاعة وكان منهم أهل صبيا فأكرمهم سنان باشا وخلع عليهم وكساهم كما‬
‫أقبلت عليه وفود عربان اليمن وبذلوا الطاعة طالبين المان‪.‬‬
‫أسرع سنان باشا إلى تعز‪ ،‬بعد أن ضبط جازان إذ بلغه أن الوالي العثماني في تعز ومن معه‬
‫من الجنود في ضيق من أمرهم بسبب قطع عرب الجبال عليهم الميرة‪ ،‬وحصل عليهم المجاعة‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البرق اليماني في الفتح العثماني‪ ،‬قطب الدين النهروالي ص ‪.177-173‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬دراسات في تاريخ العرب القديم ‪ ،‬عمر عبدالعزيز‪ ،‬ص ‪.102،103‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬غاية الماني في اخبار القطر اليماني‪ ،‬يحيى بن الحسين (‪.)2/733‬‬
‫‪-357-‬‬
‫فقطع الوزير سنان باشا المسافة في غاية السرعة‪ ،‬ونزل خارج تعز‪ ،‬وانتشر جنوده في جبالها‬
‫ولما شاهد الزيديون كثافة ذلك الجيش‪ ،‬اعتصموا بأحد الجبال المسمى الغبر‪.‬‬
‫قام سنان باشا وجزء من جيشه بمتابعة الزيود في جبل الغبر‪ ،‬وتمكنوا منه عند ذلك خرج‬
‫الزيود من مخابئهم لمواجهة العثمانيين‪ ،‬فانهزم الزيود وولوا هاربين فأنعم سنان باشا على جميع‬
‫()‬
‫الجنود العثمانيين ‪. 1‬‬

‫الثالث عشر‪ :‬الستيلء على عدن‪:‬‬


‫جهز سنان باشا حملتان وذلك للستيلء على عدن‪ ،‬الولى عن طريق البحر بقيادة خير‬
‫الدين القبطان المعروف بقورت أوغلي‪ ،‬واخو سنان باشا‪ ،‬والثانية عن طريق البر بقيادة المير‬
‫حامي وبرفقته عدد من الفرسان‪.‬‬
‫وكان حاكم عدن قاسم بن شويع من قبل المام الزيدي المطهر‪ ،‬قد أظهر شعار الزيدية‪،‬‬
‫فكرهه أهالي عدن لنهم شافعيون‪ ،‬ثابتون على الكتاب والسنة وبنى مدرسة بإسم مطهر يدرس‬
‫فيها بعض من مذهب الزيدية‪ ،‬كما استدعى البرتغاليون الذين أرسلوا سفينة وعليها عشرين‬
‫جنديا‪ ،‬فأطلعهم قاسم إلى القلعة وأراهم مافيها من العدد واللت وأعطاهم المدافع ليدافعوا عن‬
‫عدن من جهة البحر ويكون البر للزيدية وأشياعهم إل أن خير الدين القبطان سبق إلى عدن‬
‫ورأى من وسط البحر عشرين شراعا للمسيحيين قاصدة عدن ولما تحقق خير الدين من ذلك‬
‫توجه بسفنه إليهم فولوا هاربين‪ ،‬وتتبعهم خير الدين حتى اطمأن على ذلك‪.‬‬
‫لما عاد خير الدين إلى الساحل وأنزل مدافعه فوجهها نحو قلعة عدن منتظرا القوة البرية لتتم‬
‫محاصرة عدن ففاجأهم الزيود‪ ،‬وإذا بالمير ماحي قد وصل وأحاطوا بعدن من كل جانب‪،‬‬
‫فهجموا عليها هجمة واحدة ودخلوا عليها من كل جانب‪ ،‬وأعطى خير الدين المان للهالي‬
‫الذين جاءوا بقاسم بن شويع وولده وذويه‪ ،‬وإذا بشخص منهم تقدم ليقبل يد خير الدين‪ ،‬فضربه‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البرق اليماني في الفتح العثماني‪ ،‬ص ‪.226-218‬‬


‫‪-358-‬‬
‫بخنجر في بطنه وجرح خير الدين على أثرها‪ ،‬وتقدم المير ماحي‪ ،‬وقطع رأس بن شويع‬
‫لتهامه بهذه الخيانة وأراد قتل ولده وجميع أتباعه فمنعه المير خير الدين عند ذلك فرح لذلك‬
‫الفتح الوزير سنان باشا وشاركه في ذلك الجنود وزينوا زبيد وتعز وسائر الممالك السلطانية في‬
‫اليمن‪ ،‬ثم عين الوزير سنان باشا ابن اخته المير حسين‪ ،‬وأرسل معه مئتين من الجنود‪ ،‬ورقى‬
‫()‬
‫جميع الجنود الذين فتحوا عدن ‪. 1‬‬
‫الرابع عشر‪ :‬دخول صنعاء ‪:‬‬
‫فرغ سنان باشا في هذا الوقت من جنوب اليمن‪ ،‬فاتجه نحو ذمار وأمر بسحب المدافع‬
‫لحصار صنعاء‪ ،‬فجهز المطهر نفسه للنسحاب منها‪ ،‬ونقل ما فيها من الخزائن وتقدم سنان‬
‫باشا نحو صنعاء بعد أن وعد أهلها بالمان فاطمأنت قلوبهم واختاروا عددا منهم لمقابلته‪،‬‬
‫فأكرمهم سنان ودخل صنعاء بعد ذلك إل أنه لم يستقر فيها بل نهض بجيوشه الجرارة لحرب‬
‫( ‪)2‬‬
‫لن سنان باشا رأى أنه لن يتمكن من السيطرة على اليمن بأكمله إل بالقضاء‬ ‫كوكبان وثل‬
‫على مقاومة المطهر واتباعه فأخذ يوالي حشد قواته وتبعه في ذلك الوالي العثماني ودامت‬
‫الحرب سجالً مايقرب من عامين‪ ،‬انتهت بموت المام الزيدي المطهر في مدينة ثل سنة‬
‫‪980‬هـ‪1573 /‬م وقد أتاح موت المطهر للعثمانيين مزيدا من السيطرة وبسط النفوذ حتى تمكن‬
‫الوالي العثماني حسن باشا من الستيلء على ثل ومدع وعفار وذي مرمر والشرفين العلى‬
‫والسفل وصعدة مركز المامة الزيدية فقضى بذلك على حركة المقاومة اليمنية فترة من الوقت‬
‫واستطاع حسن باشا أن يأسر المام الحسن بن داود الذي استحوذ على المامة بعد وفاة‬
‫()‬
‫المطهر ‪. 3‬‬
‫لقد تحولت سياسة الدولة العثمانية بعد معركة ليبانتو ‪979‬هـ‪1571 /‬م إلى أن تكون‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البرق اليماني في الفتح العثماني‪ ،‬ص ‪.255-249‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬غاية الماني في أخبار القطر اليماني‪ ،‬يحيى بن الحسين(‪.)2/736‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الفتح العثماني لليمن‪ ،‬فاروق اباظة‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪-359-‬‬
‫الولوية للمحافظة على الماكن المقدسة السلمية أولً ثم البحر الحمر والخليج العربي كحزام‬
‫()‬
‫أمني حول هذه الماكن وتطلب ذلك منها أسطولً قادرا على أن يقاوم البرتغاليين ‪. 1‬‬
‫استطاعت الدولة العثمانية أن تبني درع قوي‪ ،‬حمى الماكن المقدسة السلمية من الهجمات‬
‫المسيحية‪ ،‬ومع ذلك الدرع فقد احتفظ السلطان بحرس عثماني خاص في مكة المكرمة والمدينة‬
‫المنورة وينبع‪ ،‬كما أقامت الدولة العثمانية محطات حراسة بجوار آبار المياه على طول الطريق‬
‫بين مصر وسوريا ومكة المكرمة لحماية القوافل‪ ،‬كما قررت الدولة أن يكون الوالي في جدة‬
‫ممثلً للباب العالي في الحجاز‪ ،‬عرف الحجاز في العصر العثماني بثنائية السلطة‪ ،‬وقررت‬
‫الدولة أن تقسم حصيلة الرسوم الجمركية التي تجمع من السفن في ميناء جدة بين الوالي‬
‫()‬
‫العثماني وشريف مكة المكرمة ‪. 2‬‬

‫الخامس عشر‪ :‬دفاع عن السلطان سليم ووفاته رحمه ال‪:‬‬


‫( ‪)3‬‬
‫السلطان سليم الثاني بأنه اشتهر باسم السكير‪،‬‬ ‫وصف المستشرق " كارل بروكلمان "‬
‫وبارتكابه المعاصي والذنوب والكبائر وبمصاحبته صحبة السوء والفسق والعصيان‪ ،‬وتأثر بهذه‬
‫( ‪)4‬‬
‫رحمه ال ورد الدكتور جمال عبدالهادي على هذه‬ ‫التهم الدكتور عبدالعزيز الشناوي‬
‫التهامات فقال‪:‬‬
‫‪ -1‬شهادة الكافر على المسلم مردودة‪ ،‬فكيف يسمح الكتاب من أبناء المسلمين لنفسهم بترديد‬
‫مثل هذه الشهادات والفتراءات على الحكام المسلمين بدون دليل‪ ،‬ألم يتعلموا في مدرسة‬
‫السلم قال تعالى‪ { :‬لول إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } ( سورة النور‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.484‬‬


‫‪)(2‬انظر‪ :‬جهود العثمانيين‪ ،‬ص ‪.487‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬التراك العثمانيون ‪ ،‬كارل بروكلمان (‪.)3/137‬‬
‫‪ )(4‬الدولة العثمانية دولة مفترى عليها (‪.)1/672‬‬
‫‪-360-‬‬
‫آية‪ )12:‬ويقول سبحانه ‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } (سورة الحجر‪ ،‬آية‪:‬‬
‫‪.) 6‬‬
‫‪ -2‬أن المستشرقين ومن سار على نهجهم‪ ،‬دأبوا على تصوير الحكام المسلمين المجاهدين‬
‫()‬
‫بصورة السكارى الذين ليتورعون عن ارتكاب المحرمات ‪ ، 1‬بل دأبوا على النيل من دين ال‪،‬‬
‫()‬
‫والنبياء والرسل ‪ -‬عليهم السلم ‪ ،-‬فكيف نأخذ عنهم مع علمنا بأنهم غير أمناء ‪. 2‬‬
‫ثم ذكر أهم أعمال السلطان سليم الثاني التي تدل على نفي التهم التي ألصقت به وتقدم‬
‫بنصيحة إلى أساتذة التاريخ الذين ليتحرون الصدق والمانة العلمية فقال‪ " :‬نصيحة إلى أولئك‬
‫الذين ليتحرون الحقيقة‪ ،‬ويرمون الناس في دينهم وخلقهم دون بينة أو دليل‪ ،‬أن يتبينوا‬
‫وليضعوا في العتبار أن القذف جريمة‪ ،‬وعليه تقام الحدود‪ ،‬آمل أن ينتبه أساتذة التاريخ‬
‫ويتورعوا على إيراد أي شبهة أو تهمة تتصل بأي شخص دون دليل أو بينة‪.‬‬
‫وليضعوا في العتبار أن ال يزن الحسنات‪ ،‬ويزن السيئات‪ ،‬وليزن السيئات فقط دون‬
‫الحسنات‪ ،‬والمؤرخ يجب أن يستشعر هذا‪ ،‬ويدرك أن الكلمة أمانة وهي شهادة أمام ال عزوجل‬
‫()‬
‫‪ -‬ومن هنا يلزمه التأكد من الخير قبل أن يورده في كتابه ) ‪. 3‬‬
‫إن الدارس لتاريخ الدولة العثمانية في عهد السلطان سليم الثاني يدرك مدى القوة والهيمنة‬
‫التي كانت عليها الدولة " طلب نائب البندقية الصليبية في " استانبول " ‪ -‬في أعقاب معركة‬
‫ليبانتو‪ ،‬وتحطم السطول العثماني مقابلة الصدر العظم‪ " ،‬محمد صوقلو باشا " ليسبر غوره‬
‫ويقف على اتجاهات السياسة العليا للدولة العثمانية تجاه البندقية‪ ،‬وقد بادره الصدر العظم‬
‫قائلً‪ :‬إنك جئت بل شك تتحسس شجاعتنا وترى أين هي‪ ،‬ولكن هناك فرق كبير بين خسارتكم‬
‫وخسارتنا‪ ،‬إن استيلءنا على جزيرة " قبرص " كان بمثابة ذراع قمنا بكسره وبتره‪ ،‬وبإيقاعكم‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ‪ ،‬جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪-361-‬‬
‫الهزيمة بأسطولنا لم تفعلوا شيئا أكثر من حلق لحانا‪ ،‬وإن اللحية لتنمو بسرعة وكثافة تفوقان‬
‫()‬
‫السرعة والكثافة اللتين تنبت بهما في الوجه لول مرة " ‪ . 1‬وقد قرن الصدر العظم قوله‬
‫بالعمل الفوري الجاد‪ ،‬وإنصافا للسلطان سليم الثاني فإنه قد أبدى تحمسا شديدا لعادة بناء‬
‫السطول العثماني‪ ،‬فقد تبرع بسخاء من ماله الخاص لهذا الغرض كما تنازل عن جزء من‬
‫حدائق القصر السلطاني لتبني فيه أحواض السفن للتعجيل بإنشاء وحدات بحرية جديدة‪،‬‬
‫()‬
‫واستطاع السطول الجديد أن يعاود جولته في البحر المتوسط ‪. 2‬‬
‫إن هذا الموقف يؤكد أن الدارة القوية ليست مجرد حماس‪ ،‬وإنما لبد وأن يقترن ذلك بالعمل‬
‫الجاد الذي أثمر إعادة بناء السطول في فترة وجيزة‪ ،‬وفي هذا دليل أيضا على الرخاء الذي‬
‫كانت تعيش فيه المة‪ ،‬مافرضت الضرائب‪ ،‬وماصودرت أموال‪ ،‬ولقالوا موتوا جوعا لنه‬
‫لصوت يعلو على صوت المعركة‪ ،‬لقد أنفق السلطان سليم من ماله ومال أسرته لنه تعلم من‬
‫()‬
‫مدرسة السلم ‪ ، 3‬قال تعالى‪ { :‬وماتنفقوا من شيء في سبيل ال يوف إليكم وأنتم لتظلمون }‬
‫( سورة النفال‪ ،‬آية‪.) 60 :‬‬
‫وفاته ‪:‬‬
‫إن مؤرخي الغرب ذكروا أن سبب وفاة السلطان سليم الثاني الفراط الشديد في تناول‬
‫الخمر‪ ،‬إل أنّ المؤرخين المسلمين يذكرون أن سبب وفاته انزلق قدمه في الحمام فسقط سقطة‬
‫()‬
‫عظيمة مرض منها أيام ثم توفي عام ‪982‬هـ ‪. 4‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪.)1/678‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/677،678‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪-362-‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫السلطان مراد الثالث‬

‫( ‪1003 - 982‬هـ‪1594-1574 /‬م )‬

‫تولى العرش بعد وفاة والده‪ ،‬اهتم بفنون العلم والدب والشعر وكان يتقن اللغات الثلثة‬
‫التركية‪ ،‬والعربية والفارسية وكان يميل إلى علم التصوف اشتهر بالتقوى واهتم بالعلماء‪،‬‬
‫صرف للجنود عطايا الجلوس ومقدارها (‪ )110.000‬ليرة ذهبية‪ ،‬فمنع الضطرابات التي كانت‬
‫()‬
‫تحدث عادة إذا تأخر صرف تلك الهبات ‪. 1‬‬
‫أولً‪ :‬منعه للخمور‬
‫وكان من أول أعماله أن أصدر أمر بمنع شرب الخمور بعد ما شاعت بين الناس وأفرط فيها‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي ‪ ،‬ص ‪.100‬‬


‫‪-363-‬‬
‫الجنود وخصوصا النكشارية‪ ،‬فثار النكشاريون واضطروه لرفع أمره بالمنع وهذا يدل على‬
‫ظهور علمات ضعف الدولة بحيث السلطان ليستطيع منع الخمور وإقامة أحكام الشرع عليهم‬
‫وكذلك يدل على إنحراف النكشارية عن خطها السلمي الصيل من التربية الرفيعة‪ ،‬وحبها‬
‫()‬
‫للجهاد وشوقها للشهادة ‪. 1‬‬
‫ثانيا‪ :‬وضع الحماية على بولونيا وتجديد المتيازات‪:‬‬
‫عمل السلطان مراد الثالث على تنفيذ السياسة التي انتهجها والده من قبل‪ ،‬ففي عهده قام بعدة‬
‫حروب في أماكن مختلفة‪ .‬ففي عام ( ‪982‬هـ‪1574/‬م ) هرب ملك بولونيا هنري دي فالوا‬
‫وذهب إلى فرنسا‪ ،‬فأوصى الخليفة العثماني أعيان بولونيا بانتخاب أمير ترانسلفانيا ملكا عليهم‪،‬‬
‫ففعلوا‪ ،‬وصارت بولونيا (بولندا ) فعلً تحت حماية العثمانيين عام ( ‪983‬هـ‪1575/‬م )‬
‫واعترفت النمسا بذلك في معاهدة الصلح التي أبرمتها مع الدولة العثمانية عام‬
‫( ‪984‬هـ‪1576 /‬م ) ومدتها ثماني سنوات‪ ،‬وهاجم التتار على حدود بولونيا عام ( ‪984‬هـ‪/‬‬
‫()‬
‫‪1576‬م ) فاستنجدت بالسلطان العثماني فأعلن حمايتها بمعاهدة رسمية ‪ 2‬وجدد السلطان مراد‬
‫المتيازات مع فرنسا والبندقية وزاد بعض المتيازات القنصلية والتجارية مع زيادة بعض‬
‫البنود في صالحهما أهمها‪ ،‬أن يكون سفير فرنسا مقدما على كافة سفراء الدول الخرى في‬
‫الحتفالت الرسمية والمقابلت الحكومية‪ ،‬لقد كثر توارد السفراء على الباب العالي للسعي في‬
‫إبرام معاهدات تجارية أصبحت ذريعة فيما بعد للتدخل الفعلي في شئون الدولة‪ ،‬وفي زمن‬
‫السلطان مراد تحصلت إيزابل ملكة النجليز على امتياز خصوصي لتجار بلدها وأصبحت‬
‫()‬
‫السفن النجليزية تحمل العلم البريطاني وتدخل الشواطئ والموانئ العثمانية ‪. 3‬‬
‫ثالثا‪ :‬الصراع مع الشيعة الصفوية ‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية العلية العثمانية‪ ،‬ص ‪.259‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث ‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية العلية‪ ،‬ص ‪.260‬‬
‫‪-364-‬‬
‫وفي عام ( ‪985‬هـ‪1577/‬م ) ونتيجة لحدوث اضطرابات في بلد فارس بعد وفاة‬
‫طهماسب‪ ،‬أرسل العثمانيون حملة عسكرية‪ ،‬تمكنت من قطع مفازات شاسعة في بلد القوقاز‬
‫وفتحت مدينة تفليس وكرجستان ( الكرج )‪ .‬ودخل العثمانيون بعدها تبريز عام ( ‪993‬هـ‪/‬‬
‫‪1585‬م ) وتمكنت فيها جيوش مراد من السيطرة على أذربيجان والكرج ( جورجيا ) وشيروان‬
‫ولوزستان‪ .‬فلما تولى الشاه عباس الكبير حكم فارس‪ ،‬سعى إلى إقامة صلح مع العثمانيين‪،‬‬
‫تنازل بمقتضاه عن تلك الماكن التي أصبحت بيد العثمانيين‪ .‬كما تعهد بعدم سب الخلفاء‬
‫الراشدين ‪ -‬أبو بكر وعمر وعثمان رضي ال عنهم‪ -‬في أرض مملكته وبعث بابن عم له‬
‫()‬
‫يدعى حيدر ميزرا رهينة إلى استنبول لضمان تنفيذ ما اتفقا عليه ‪. 1‬‬

‫رابعا‪ :‬تمرد وعصيان على أيدي النكشارية ‪:‬‬


‫قام النكشاريون بتمرد وعصيان في الوليات العثمانية بعد توقف الحروب‪ ،‬وكان السلطان‬
‫قد كلفهم بحرب المجر غير أنهم هزموا أمام النمسا التي ساندت المجر‪ ،‬واحتلت عدة قلع‬
‫حصينة استردها سنان باشا بعد ذلك‪ .‬كما أعلن أمراء الفلق والبغدان وترانسلفانيا التمرد‬
‫وانضموا إلى النمسا في حربها مع العثمانيين‪ ،‬فسار إليهم سنان باشا عام ‪1003‬هـ‪1594/‬م‬
‫()‬
‫غير أنه لم يحرز النصر وخسر عدة مدن ‪. 2‬‬
‫خامسا‪ :‬مقتل الصدر العظم صوقللي محمد باشا‪:‬‬
‫قتل الصدر العظم نتيجة لدسائس حاشية السلطان المتأثرة بدسائس الجانب الذين ليروق‬
‫لهم وجود مثل هذا الوزير القدير‪ ،‬الذي سار على منهج الستقامة‪ ،‬وطريق الحكمة‪ ،‬وبناء‬
‫الدولة‪ ،‬وحسن القيادة‪ ،‬ودقة التخطيط‪ ،‬وضبط الدارة‪ ،‬ومتابعة الولة‪ ،‬واستغلل الفرص‪ ،‬فكان‬
‫موته ضربة شديدة ومحنة عظيمة وفتح باب للشر في تنصيب وعزل الصدور العظام والتنافس‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪.101‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪-365-‬‬
‫عليه مما أضعف قوة السلطنة‪ ،‬وارتبكت أحوال البلد‪ ،‬وتمردت بعض فرق الجيش‪ ،‬ولم تتمكن‬
‫الحكومة من القضاء على هذا التمرد‪ ،‬ونتيجة لهذه الضطرابات والثورات الداخلية خرجت‬
‫()‬
‫بولونيا عن الدولة العثمانية واشتبكت في صراع معهما ‪. 1‬‬

‫سادسا‪ :‬اليهود والسلطان مراد الثالث ‪:‬‬


‫ظن اليهود أن الفرصة سانحة لهم لتحقيق حلم راودهم طويلً‪ ،‬فنزحوا في هجرات متقطعة‬
‫ومتقاربة إلى " سيناء " لستيطانها‪ ،‬وكانت خطتهم تقوم في المراحل الولى على تركيز إقامتهم‬
‫في مدينة الطور‪ ،‬وكان اختيارهم لهذه المدينة اختيارا هادفا‪ ،‬فهذه المدينة وهي تقع على الشاطئ‬
‫الشرقي لخليج السويس لها ميناء يصلح لرسو السفن التجارية‪ ،‬وكان تأتيه سفن من جدة‪ ،‬وينبع‪،‬‬
‫وسواكن‪ ،‬والعقبة‪ ،‬والقلزم‪ ،‬كما كانت المدينة ترتبط برا بخط قوافل مع "القاهرة " و " الفرما "‪.‬‬
‫وبذلك كان يسهل على اليهود إيجاد اتصالت خارجية فل يصبحون في عزلة عن العالم بل‬
‫تستطيع السفن أن ترسو في ميناء " الطور " تحمل أفواجا من اليهود الجدد‪.‬‬
‫وقد تزعم حركة التهجير رجل يهودي اسمه ( إبراهام )‪ ،‬استوطن " الطور" مع أولده‬
‫وسائر أفراد أسرته‪ ،‬ولما أقام اليهود بالطور تعرضوا بالذى لرهبان "ديرسانت كاترين " مما‬
‫دفعهم إلى إرسال شكاوى مكتوبة إلى سلطين الدولة العثمانية وولتها يشتكون من إيذاء اليهود‬
‫لهم مذكرين بعهد العثمانيين لحمايتهم‪ ،‬ومنع اليهود استيطان " سيناء " ومحذرين من تروح‬
‫اليهود إلى "سيناء" ‪ -‬وخاصة مدينة " الطور " ‪ -‬في جماعات كثيرة بقصد إيقاع الفتن‪.‬‬
‫ولما كانت الدولة السلمية مسئولة بحكم الشرع عن حماية أهل الذمة‪ ،‬فقد سارع على الفور‬
‫المسؤولون العثمانيون إلى إصدار ثلثة فرمانات ديوانية في عهد السلطان ( مراد الثالث )‪،‬‬
‫فأمروا بإخراج " إبراهام " اليهودي وزوجته وأولده وسائر اليهود من " سيناء " ومنعهم في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.102‬‬


‫‪-366-‬‬
‫()‬
‫قابل اليام منعا باتا من العودة إليها بما فيها مدينة " الطور " والقامة بها أو السكنى ‪. 1‬‬

‫سابعا‪ :‬وفاة السلطان مراد الثالث ‪:‬‬


‫توفى السلطان مراد الثالث في ‪ 16‬كانون الثاني ‪ 1595‬عن عمر يناهز ‪ 49‬عاما ودفن‬
‫()‬
‫رحمه ال في فناء أيا صوفيا ‪. 2‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫السلطان محمد خان الثالث‬

‫ولد عام ‪974‬هـ‪ ،‬وجلس على سرير السلطنة عام ‪1003‬هـ بعد وفاة والده باثني عشر‬
‫()‬ ‫()‬
‫يوما‪ ،‬لنه كان مقيما في مغنيسا ‪ ، 3‬كانت أمه إيطالية الصل تسمى صفية ‪. 4‬‬
‫ورغم حالة الضعف والتدهور التي كانت قد بدأت تعتري الدولة العثمانية إل أن راية الجهاد‬
‫ضد الصليبيين ظلت مرفوعة ومما يذكر لهذا السلطان أنه لما تحقق له أن ضعف الدولة في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.68‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان ‪ ،‬يوسف آصاف‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪-367-‬‬
‫حروبها بسبب عدم خروج السلطين وقيادة الجيوش بأنفسهم برز بنفسه وتقلد المركز الذي‬
‫تركه سليم الثاني‪ ،‬ومراد الثالث‪ ،‬أل وهو قيادة عموم الجيوش‪ ،‬فسار إلى بلغراد ومنها إلى‬
‫ميادين الوغى والجهاد‪ ،‬وبمجرد خروجه دبت في الجيوش الحمية الدينية والغيرة العسكرية‪،‬‬
‫ففتح قلعة ( أرلو الحصينة ) التي عجز السلطان سليمان عن فتحها في سنة ‪1556‬م ودمر‬
‫جيوش المجر والنمسا في سهل كرزت بالقرب من هذه القلعة في ‪ 26‬اكتوبر سنة ‪ 1596‬حتى‬
‫( ‪)1‬‬
‫التي انتصر فيها السلطان سليمان سنة ‪1526‬م وبعد‬ ‫شبهت هذه الموقعة بواقعة ( موهاكز )‬
‫()‬
‫هذه المعركة استمرت الحروب دون أن تقع معركة حاسمة ‪. 2‬‬
‫وتعرضت الدولة في زمنه لثورات داخلية عنيفة قادها قره يازيجي وأخرى قام بها الخيالة‬
‫إل أن السلطان استطاع القضاء عليهما بصعوبة ومن تلك الحداث الداخلية يظهر للباحث‬
‫المدقق اختلل النظام العسكري وعدم صلحيته لحفظ اسم الدولة وشرفها من أعدائها‪.‬‬
‫أولً‪ :‬الشيخ سعد الدين افندي‬
‫كان من شيوخ السلطان محمد الثالث وممن شجعه على الخروج بنفسه لقيادة الجيوش وقال‬
‫()‬
‫للسلطان ‪ ( :‬أنا معك أسير حتى أخلص وجودي من الذنوب‪ ،‬فإنني بها أسير ) ‪. 3‬‬
‫وفي أحد المعارك كاد أن يؤسر فيها السلطان وفرّ من حوله الجنود والعوان قال الشيخ سعد‬
‫الدين أفندي‪ ( :‬أثبت أيها الملك فإنك منصور بعون مولك‪ ،‬الذي أعطاك‪ ،‬وبالنعم أولك‪ ،‬فركب‬
‫السلطان جواده‪ ،‬وحمل سيفه وتضرع إلى القوي العزيز‪ ،‬فما مضت ساعة حتى نزل نصر‬
‫()‬
‫الواحد القهار وكانت تلك المعركة بعد فتح حصن اكري ‪. 4‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬ص ‪.268‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان للقرماني‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.63،64‬‬
‫‪-368-‬‬
‫ثانيا‪ :‬من شعره‪:‬‬
‫كان على نصيب عالٍ من التعليم والثقافة والدب‪ ،‬وكان شديد التدين ويميل الى التصوف‬
‫ومن أشعاره ذات المعاني السامية‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫لنرضى بالظلم بل نرغب في العدل‬
‫( ‪)2‬‬
‫نحن نعمل لحب ال‪ ،‬ونصغى بدقة لوامره‬
‫( ‪)3‬‬
‫نريد الحصول على رضى ال‬
‫نحن عارفون وقلوبنا مرآة العالم‪.‬‬
‫قلوبنا محروقة بنار العشق في الزل‬
‫( ‪)4‬‬
‫نحن بعيدون من الغش والخديعة وقلوبنا نظيفة‬

‫ثالثا‪ :‬وفاته‪:‬‬
‫توفي السلطان محمد الثالث بعد أن أخمد الحركات التمردية‪ ،‬والثورات العنيفة‪ ،‬وقاد الجيوش‬
‫بنفسه وكانت وفاته في نهار الحد الثامن عشر من رجب سنة اثنتي عشرة وألف‪ ،‬ومده حكمه‬
‫()‬
‫تسع سنين‪ ،‬وشهران ‪ ،‬ويومان‪ ،‬وله من العمر ثمان وثلثون سنة ‪. 5‬‬
‫()‬
‫يقوم إجللً واحتراما لسيد الكائنات ‪. 6‬‬ ‫وكان هذا السلطان عندما يسمع اسم نبينا محمد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون ‪ ،‬ص ‪.57‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.131‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون ‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه ‪،‬ص ‪.57‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان للقرماني‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪ )(6‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪-369-‬‬
‫المبحث الرابع‬

‫السلطان احمد الول‬

‫(‪1012-1026‬هـ‪1617-1603/‬م)‬

‫تولى الحكم بعد وفاة والده وعمره ‪ 14‬سنة ولم يجلس أحد قبله من سلطين العثمانيين في‬
‫هذه السن على العرش وكانت أحوال الدولة مرتبكة جدا لنشغالها بحروب النمسا في أوروبا‬
‫()‬
‫وحرب إيران والثورات الداخلية في آسيا‪ .‬فأتم مابدأ به أبوه من تجهيزات حربية ‪. 1‬‬

‫أولً‪ :‬الحرب مع النمسا والدول الوروبية ‪:‬‬


‫عين السلطان أحمد لل محمد باشا صدرا أعظم خليفة للصدر العظم يمشجي حسن باشا‪،‬‬
‫حيث كان سردارا عاما للجيوش التي جاهدت في النمسا وهو من خيرة قواد الجيوش‪ ،‬فاهتم‬
‫بتقوية الجيوش العثمانية وحاصر قلعة استراغون وفتحها‪ .‬كما حارب إمارات الفلق والبغدان‬
‫والردل وعقد صلحا معهم‪ .‬ولما مات لل باشا خلفه قبوجي مراد باشا صدرا أعظم وكان قائدا‬
‫لحدى فرق الجيش‪ ،‬وقد نجحت الجيوش العثمانية في هزيمة النمسا واسترداد القلع الحصينة‬
‫من مدن يانق واستراغون وبلغراد وغيرها كما نجحت الجيوش العثمانية في جهادها بالمجر‬
‫وهزمت النمسا هناك‪ .‬ونجم عن ذلك‪ ،‬قبول النمسا بطلب الصلح ودفع جزية للدولة العثمانية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي ن ص ‪.105‬‬


‫‪-370-‬‬
‫مقدارها مائتا ألف دوكة من الذهب‪ ،‬وبقيت بلد المجر بموجب هذه المعاهدة تابعة للدولة‬
‫()‬
‫العثمانية ‪. 1‬‬
‫وجرت حروب بحرية بين السفن العثمانية وسفن إسبانيا‪ ،‬ورهبان القديس يوحنا في مالطة‪،‬‬
‫()‬
‫والمارات اليطالية‪ ،‬وتراوح النصر بين الجانبين ‪. 2‬‬

‫ثانيا‪ :‬تجديد المتيازات ‪:‬‬


‫وجددت الدولة امتيازات فرنسا‪ ،‬وانجلترا‪ ،‬على مثلها‪ ،‬كما جددت التفاقية مع بولونيا بحيث‬
‫تمنع الدولة تتار القرم من التعدي على بولونيا‪ ،‬وتمنع بولونيا القازاق‪ ،‬من التعدي على الدولة‬
‫()‬
‫العثمانية ‪. 3‬‬
‫وتحصلت هولندا على امتيازات‪ ،‬واستغلت ذلك في نشر الدخان داخل ديار السلم وبدأ‬
‫تعاطيه من قبل الجنود‪ ،‬فأصدر المفتي فتوى بمنعه فهاج الجند‪ ،‬وأيدهم الموظفون‪ ،‬فاضطر‬
‫()‬
‫العلماء إلى السكوت عنه ‪. 4‬‬
‫وهكذا أصبح الجند ينقادون خلف شهواتهم ويعترضون على العلماء‪.‬‬
‫إن القوى الجنبية الكافرة تهتم بنشر كل محرم في أوساط المسلمين‪.‬‬
‫إن ال تعالى أحل لنا الطيبات النافعة وحرم علينا الخبائث الضارة لجسامنا وعقولنا وأموالنا‬
‫ولذلك أفتى العلماء ‪ -‬رحمهم ال تعالى ‪ -‬بتحريم شرب الدخان وبيعه وشرائه لما فيه من‬
‫الضرار الدينية والدنيوية والجتماعية والصحية وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه دخان ليسمن وليغني من جوع‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪.105‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪-371-‬‬
‫‪ -2‬أنه مضر بالصحة الغالية وما كان كذلك يحرم استعماله‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه من الخبائث المحرمة قال تعالى‪ { :‬يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }‬
‫( العراف‪ ،‬آية‪.) 157 :‬‬
‫‪ -4‬إن رائحة الدخان تؤذي الناس الذين ليستعملونه بل وتؤذي الملئكة الكرام لن الملئكة‬
‫تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم وقد حرم ال تعالى أذية المسلم قال تعالى‪ { :‬والذين يؤذون‬
‫المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا‪ .‬فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا }‪.‬‬
‫وغير ذلك من الدلة التي ذكرها العلماء ولكن لضعف الوازع التربوي‪ ،‬وضعف سلطان‬
‫الدولة التي تشرف على تنفيذ الحكام يحدث التمرد من قبل الجنود والفراد‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الحرب مع الشيعة الصفوية ( الفرس )‪:‬‬
‫انتهز الشاه عباس الصفوي فرصة اضطراب الدولة العثمانية وباشر في تخليص عراق‬
‫العجم واحتل تبريز ووان وغيرهما واستطاع أن يحتل بغداد والماكن المقدسة الشيعية في‬
‫النجف وكربلء والكوفة‪ ،‬وقد زارها وسط مظاهر الجلل والتقديس‪ ،‬وقد أورد بعض‬
‫المؤرخين أنه قضى عشرة أيام في زيارته للنجف حيث قام بنفسه بخدمة الحجاج في ذلك‬
‫المكان كما يذكرون أيضا أنه إمعانا في إعلن تمسكه بالمذهب الشيعي وولئه للرفض‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من تعصبه الشديد للمذهب الشيعي إل أنه رفع أيدي رجال الدين عن التدخل في شئون‬
‫الحكم والسياسة ومارس نوعا من السلطة المطلقة في حكم البلد‪.‬‬
‫وقد أنزل الشاه عباس الصفوي أقسى أنواع العقاب بأعداء الدولة من السنة فإما أن يقتلوا أو‬
‫تسمل عيونهم‪ ،‬ولم يكن يتسامح مع أي منهم إل إذا تخلى عن مذهبه السني وأعلن ولئه‬
‫()‬
‫للمذهب الشيعي ‪ ، 1‬واضطرت الدولة العثمانية أن تترك للدولة الصفوية الرافضية الشيعية‬
‫جميع القاليم والبلدان والقلع والحصون التي فتحها العثمانيون في عهد السلطان الغازي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلمي آسيا ‪ ،‬د‪ .‬محمد نصر مهنا‪ ،‬ص ‪.249،250‬‬


‫‪-372-‬‬
‫سليمان الول بما فيها مدينة بغداد‪ .‬وهذه أول معاهدة تركت فيها الدولة بعض فتوحاتها وكانت‬
‫()‬
‫فاتحة النحطاط والضعف وأول المعاهدات التي دلت على ضعف الدولة العثمانية ‪. 1‬‬
‫لقد بالغ الشاه عباس الصفوي في عداءه للمذهب السني واتصل بملوك المسيحيين‪ ،‬وامعانا‬
‫في ضرب الدولة العثمانية حامية المذهب السني فقد عقد اتفاقات تعاون مشترك معهم من أجل‬
‫تقويض أركان الدولة العثمانية السنية‪ ،‬ولم يكن يعبأ حتى إذا قدم العديد من التنازلت للدول‬
‫الوروبية تأكيدا لتعاونه معهم انطلقا من عدائه للدولة العثمانية‪.‬‬
‫وعامل الشاه عباس الصفوي المسيحيين في إيران معاملة حسنة على عكس معاملته للسنة‪،‬‬
‫وقد كان لمعاملته المتميزة للمسيحيين أن نشطت الحركة التنصيرية المسيحية في إيران كما‬
‫شجع التجار الوروبيين في عقد صفقات تجارية كبيرة مع التجار في إيران وأصبحت إيران‬
‫سوقا رائجا للتجارة الوروبية‪ ،‬لقد توج تسامحه مع المسيحيين بأن أعلن في عام ‪1007‬هـ‪/‬‬
‫‪1598‬م أوامره بعدم التعرض لهم والسماح لهم بحرية التجول في ربوع الدولة الصفوية وجاء‬
‫بالمرسوم الذي أصدره شاه الدولة الصفوية مايلي‪ ... ( :‬من اليوم يسمح لمواطني الدولة‬
‫المسيحية ومن يدينون بدينهم بالحضور إلى أي بقعة من وطننا وليسمح لي شخص بأي حال‬
‫من الحوال إهانتهم‪ ،‬ونظرا لما بيننا وبين الملوك المسيحيين من علقات ود ومحبة فيسمح‬
‫للتجار المسيحيين بالتجول في جميع أنحاء إيران‪ ،‬ومزاولة نشاطهم التجاري في أي بقعة من‬
‫الوطن‪ ،‬دون أن يتعرض لهم باليذاء من أي شخص سواء كان حاكما أو أميرا أو خانا أو‬
‫موظفا أو تابعا للدولة كما تعفى جميع أموال تجارتهم التي يحضرونها معهم من ضرائب المال‬
‫وليس لي شخص مهما يحضرونها معهم من ضرائب المال وليس لي شخص مهما بلغت‬
‫مكانته أن يزاحمهم أو يكلفهم المشاق‪ ،‬وليس من حق رجال الدين مهما كانت طوائفهم التجرؤ‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬ص ‪.272‬‬


‫‪-373-‬‬
‫()‬
‫على الضرار بهم أو التحدث معهم بخصوص العقائد المذهبية ) ‪. 1‬‬
‫لقد جامل الشاه عباس الصفوي المسيحيين وشرب معهم الخمر احتفالً بأعيادهم كما أنه سمح‬
‫لهم بالتبشير بالمسيحية في داخل إيران‪ ،‬وأعطاهم امتيازات ببناء الكنائس المسيحية في كبرى‬
‫()‬
‫المدن اليرانية وهذه المعاملة للمسيحيين كانت نكاية في الدولة العثمانية السنية ‪. 2‬‬
‫إن تاريخ الشيعة الثنى عشرية طافح بالعداواة والبغضاء لهل السنة ودولتهم الميمونة إينما‬
‫كانوا وحيثما وجدوا وليزال هذا العداء مستمرا رغم الشعارات السياسية الرّنانة التي يرفعها‬
‫الروافض بين الحين والخر‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الحركات النفصالية ‪:‬‬


‫ظهرت إلى حيز الوجود في عصر السلطان أحمد الول حركات داخلية تهدف إلى تقويض‬
‫كيان الدولة وبنيانها مثل حركة " جان بولد " الكردي‪ ،‬وحركة والي أنقرة " قلندر أوغلي "‪،‬‬
‫وحركة فخر الدين الدرزي المعنى الثاني حفيد " فخر الدين المعنى الول " الذي انضم إلى‬
‫()‬
‫السلطان سليم الول عندما دخل الشام عام (‪922‬هـ) ‪. 3‬‬
‫وسبب تلك الحركات اضطرابات داخلية حتى هيّأ ال للدولة وزيرا محنكا أكسبه تقدم السن‬
‫مزيدا من الخبرات والتجارب فعين صدرا أعظم فكان عونا للسلطان الفتى وانتصر على‬
‫الثائرين وخاصة ثائر الناضول قلندر أوغلي الذي كان قد عين واليا على أنقرة فقد نكلت به‬
‫()‬
‫الدولة‪ ،‬وتمكن الصدر العظم قبوجي مراد باشا من تطهير الناضول من أولئك الثائرين ‪. 4‬‬

‫خامسا‪ :‬حركة فخر الدين بن المعنى الثاني الدرزي‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلم في آسيا‪ ،‬ص ‪.251‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.253‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬جمال‪ ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪-374-‬‬
‫اعتلى فخر الدين بن المعنى الثاني السلطة في لبنان عام ‪999‬هـ وكان درزيا وصوليا كبيرا‬
‫()‬
‫واستطاع أن يجمع المعادين للسلم من نصارى ونصيرية‪ ،‬ودروز‪ ،‬وأمثالهم ‪. 1‬‬

‫نبذة عن الدروز‪:‬‬
‫فرقة باطنية تؤله الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر ال‪ ،‬أخذت جل عقائدها عن السماعيلية‪ ،‬وهي‬
‫تنتسب إلى نشتكين الدرزي‪ ،‬نشأت في مصر ثم انتقلت إلى الشام‪ ،‬عقائدها خليط من عدة أديان‬
‫()‬
‫وأفكار‪ ،‬كما أنها تؤمن بسرية أفكارها‪ ،‬فل تنشرها على الناس ‪. 2‬‬
‫من أهم معتقداتها وأفكارها‪:‬‬
‫‪ -‬يعتقدون بألوهية الحاكم بأمر ال ولما مات قالوا بغيبته وأنه سيرجع‪.‬‬
‫‪ -‬ينكرون النبياء والرسل جميعا ويلقبونهم بالبالسة‪.‬‬
‫‪ -‬يعتقدون بأن المسيح هو داعيتهم حمزة‪.‬‬
‫‪ -‬يبغضون جميع أهل الديانات الخرى والمسلمين منهم بخاصة ويستبيحون دماءهم‬
‫وأموالهم وغشهم عند المقدرة‪.‬‬
‫‪ -‬يعتقدون بأن ديانتهم نسخت ماقبلها وينكرون جميع أحكام وعبادات السلم وأصوله كلها‪.‬‬
‫‪ -‬ول يكون النسان درزيا إل إذا كتب أو تلي الميثاق الخاص‪.‬‬
‫‪ -‬يقولون بتناسخ الرواح وأن الثواب والعقاب يكون بانتقال الروح من جسد صاحبها الى‬
‫جسد أسعد أو أشقى‪.‬‬
‫‪ -‬ينكرون الجنة والنار والثواب والعقاب الخرويين‪.‬‬
‫‪ -‬ينكرون القرآن الكريم ويقولون أنه من وضع سلمان الفارسي ولهم مصحف خاص بهم‬
‫يمس المنفرد بذاته‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.71‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الموسوعة الميسرة في الديان (‪.)1/400‬‬
‫‪-375-‬‬
‫‪ -‬يرجعون عقائدهم الى عصور متقدمة جدا يفتخرون بالنتساب الى الفرعونية القديمة والى‬
‫حكماء الهند القدامى‪.‬‬
‫‪ -‬يبدأ التاريخ عندهم من سنة ‪408‬هـ وهي السنة التي أعلن فيها حمزة ألوهية الحاكم‪.‬‬
‫‪ -‬يعتقدون أن القيامة هي رجوع الحاكم الذي سيقودهم الى هدم الكعبة وسحق المسلمين‬
‫والنصارى في جميع أنحاء الرض وأنهم سيحكمون العالم الى البد ويفرضون الجزية والذل‬
‫على المسلمين‪.‬‬
‫‪ -‬يعتقدون أن الحاكم أرسل خمسة أنبياء هم حمزة واسماعيل ومحمد الكلمة وأبوالخير‬
‫وبهاء‪.‬‬
‫‪ -‬يحرمون التزاوج مع غيرهم والصدقة عليهم ومساعدتهم كما يمنعون التعدد وإرجاع‬
‫المطلقة‪.‬‬
‫‪ -‬يحرمون البنات من الميراث‪.‬‬
‫‪ -‬ل يعترفون بحرمة الخ والخت من الرضاعة‪.‬‬
‫‪ -‬يقولون في الصحابة أقولً منكرة منها قولهم‪ :‬الفحشاء والمنكر هما (أبوبكر وعمر) رضي‬
‫ال عنهما‪.‬‬
‫‪ -‬ليصومون في رمضان ول يحجون الى بيت ال الحرام‪ ،‬وإنما يحجون الى خلوة البياضة‬
‫في بلدة حاصبية في لبنان‪.‬‬
‫‪ -‬إن الجذور الفكرية والعقائدية للدروز ترجع الى المذهب الباطني ‪ ،‬وخاصة الباطنية‬
‫اليونانية متمثلة في أرسطو وأفلطون وأتباع فيثاغورس واعتبروهم أسيادهم الروحانيين‪،‬‬
‫وأخذوا جُلّ معتقداتهم عن الطائفة السماعيلية‪ ،‬وتأثروا بالدهريين في قولهم بالحياة البدية ‪،‬‬
‫وبالبوذيين في كثير من الفكار والمعتقدات ‪ ،‬كما تأثروا ببعض الفلسفة الفرس والهند‬

‫‪-376-‬‬
‫()‬
‫والفراعنة القدامى ‪. 1‬‬
‫هذه نبذة مهمة عن معتقدات الدروز حتى تتعلم الجيال من هم أعدائهم‪ ،‬وكيف يتحينون‬
‫الفرص للقضاء على السلم وأهله‪.‬‬
‫فهذا فخر الدين ين المعنى الثاني‪ ،‬أظهر تقربه من الخليفة العثماني وأعلن طاعته له حتى‬
‫تمكن من جبال لبنان ‪ ،‬والسواحل وفلسطين ‪ ،‬وأجزاء من سورية‪ ،‬ولما قوي أمره فاوض‬
‫الطليان فدعموه بالمال وبني القلع والحصون ‪ ،‬وكون لنفسه جيشا زاد على الربعين ألفا‪ ،‬ثم‬
‫أعلن الخروج على الدولة العثمانية عام (‪1022‬م) ‪ ،‬غير أنه هزم وفرّ الى "إيطاليا" ‪ ،‬وكان قد‬
‫تلقى الدعم من إمارة "فلورنسا" اليطالية ‪ ،‬ومن البابا‪ ،‬ورهبان جزيرة مالكة (فرسان القديس‬
‫()‬
‫يوحنا) ‪. 2‬‬
‫وقد عاد فخر الدين الى لبنان عام ‪1618‬م بعد أن أصدر السلطان فرمانا بالعفو عنه واندفع‬
‫لتغريب البلد ثم أعلن التمرد من جديد مستغلً الحرب العثمانية الصفوية الشيعية ولكنه فشل‬
‫وأسر وسيق الى استانبول ثم اندلعت الثورة عام ‪1045‬هـ ولكنه هذه المرة أسر وشنق‪،‬‬
‫()‬
‫وفشلت الحركة المسلحة التي قادها ابن أخيه ملحم للخذ بثأره ‪. 3‬‬

‫سادسا‪ :‬وفاة السلطان أحمد الول‪:‬‬


‫كان رحمه ال في غاية التقوى‪ ،‬وكان رجلً مثابرا في الطاعات‪ ،‬ويباشر أمور الدولة بنفسه‪،‬‬
‫وكان متواضعا في ملبسه‪ ،‬وكان كثير الستشارة لهل العلم والمعرفة‪ ،‬والقيادة وكان شديد‬
‫‪ ،‬وفي عهده بدأ ارسال ستائر الكعبة الشريفة من استانبول ‪ ،‬وقبل ذلك كانت‬ ‫الحب للنبي‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الموسوعة الميسرة في الديان (‪ 1/400‬الى ‪.)404‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.133‬‬
‫‪-377-‬‬
‫()‬
‫ترسل من مصر‪ ،‬توفي رحمه ال في ‪1617‬م ودفن عند جامع سلطان أحمد ‪. 1‬‬
‫وكان يعمل هذه البيات الشعرية واضعا إياها تحت عمامته‪:‬‬
‫انطباع أقدام النبي عالي المقـــــــــــــام‬ ‫أرغب دوما في حمل صورة‬
‫فوردة الحديقة النبياء ملكة هذه القدام الشريفة‬ ‫من هو سيــــــــــــــــــد النبياء‬
‫( ‪)2‬‬
‫ومرغ وجهك بأقدام الوردة الرفيعية الشريفـــــة‬ ‫فيا أحمدي لتتردد ولو للحظـة‬
‫المبحث الخامس‬
‫بعض السلطين الضعاف‬

‫أولً‪ :‬السلطان مصطفى الول‪:‬‬


‫تولى السلطة بعد وفاة أخيه عام (‪1026‬هـ) ‪ ،‬ومنذ عهده يظهر جليا أن يدا أجنبية كانت‬
‫خلف تعيين وإزاحة الخلفاء‪ ،‬فهذا السلطان عزل بعد ثلثة أشهر ‪ ،‬وجيء بأبن أخيه (عثمان‬
‫()‬
‫الثاني) الذي لم يزد عمره على الثالثة عشر ‪. 3‬‬

‫ثانيا‪ :‬السلطان عثمان الثاني (‪1031-1026‬هـ‪1621-1617/‬م)‬


‫تولي الحكم بعد عزل عمه مصطفى الول‪ ،‬وكان صغيرا لم يزد عمره على الثالثة عشرة‪،‬‬
‫أعلن الجهاد على بولونيا لتدخلها شؤون إمارة البغدان‪ ،‬وتم الصلح بين الطرفين عام ‪1029‬هـ‪/‬‬
‫‪1620‬م بناء على طلب بولونيا‪ ،‬وطلب النكشارية ‪ ،‬الذين تعبوا من مواصلة القتال‪ ،‬فغضب‬
‫( ‪)4‬‬
‫من طلبهم الراحة وخلودهم الى الكسل وإلزامه على الصلح مع بولونيا ‪ ،‬فعزم‬ ‫الخليفة عليهم‬
‫على التخلص من هذه الفئة الباغية ‪ ،‬ولجل الستعداد لتنفيذ هذا المر الخطير أمر بحشد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.59‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.133‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬جمال ‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪.106‬‬
‫‪-378-‬‬
‫جيوش جديدة في وليات آسيا وأهتم بتدريبها وتنظيمها وشرع فعلً في تنفيذ هدفه ‪ ،‬وعلمت‬
‫النكشارية بذلك فهاجوا وماجوا وتذمروا واتفقوا على عزل السلطان وتم لهم ذلك في ‪ 9‬رجب‬
‫سنة ‪1031‬هـ (‪ 20‬مايو سنة ‪1622‬م) وأعادوا مكانة السلطان مصطفى وقتلوا السلطان عثمان‬
‫الثاني ترك لنا بعض الشعار منها‪:‬‬
‫كانت نيتي الخدمة لحكومتي ودولتي‬
‫( ‪)1‬‬
‫وللعجب ان الحسود يعمل لنكبتي‬
‫تولى السلطان مصطفى الحكم وللمرة الثانية إثر فتنة النكشارية وصارت الحكومة ألعوبة‬
‫بأيديهم‪ ،‬ينصبون الوزراء ويعزلونهم بحسب أهوائهم وأصبحت المناصب تباع جهارا وارتكبوا‬
‫( ‪)2‬‬
‫وتغير الوزراء الصدور في مدته هذه سبع مرات خلل عام واحد وأربعة‬ ‫أنواع المظالم‬
‫شهور‪ ،‬وكان الخلف قد دب بين أمراء الناصول وفرقة السباهية على استمرار الوزراء‬
‫الصدور‪ ،‬حتى أن بعضهم لم يكمل شهرا واحدا‪ .‬ونظرا لضعف السلطان وعجزه عن إدارة‬
‫()‬
‫شؤون البلد‪ ،‬تم عزله وتنصيب المير مراد الرابع ابن السلطان أحمد الول ‪. 3‬‬

‫ثالثا‪ :‬مراد الرابع (‪1049-1032‬هـ‪1639-1622/‬م)‪:‬‬


‫تولى أمر السلطنة بعد عزل عمه مصطفى عام ‪1032‬هـ‪1622/‬م وهو أخو عثمان الثاني ‪،‬‬
‫ولصغر سنه فقد سيطر النكشارية عليه‪ .‬وكانت أحوال الدولة سيئة للغاية‪ ،‬فقام بإصلح‬
‫الحوال الداخلية أولً حتى تسنى له التفرغ للحوال الخارجية ولذلك بدأ بالقضاء على طغاة‬
‫( ‪)4‬‬
‫وأعدم جميع المتأسدين في استانبول وفي جميع‬ ‫العسكر الذي قتلوا أخاه السلطان عثمان‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.61‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬ص ‪.279‬‬
‫‪)(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪)(4‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪-379-‬‬
‫أنحاء الدولة‪ ،‬وأسس تشيكلت قوية للمخابرات وثبت من خللها اسماء جميع المستبدين في‬
‫()‬
‫الدولة‪ ،‬وكان اذا صادف بلدا في اسفاره كان يدعوا مستبديها باسمهم ويعدمهم ‪. 1‬‬
‫()‬
‫منع في عهده الخمر والتدخين وأعدم كل مرتد عن السلم ‪. 2‬‬

‫الحرب مع الشيعة الصفوية‪:‬‬


‫اندلعت الحرب مع الشيعة الصفوية في العراق عام ‪1044‬هـ‪1634/‬م‪ ،‬فقاد السلطان مراد‬
‫الجيوش بنفسه واتجه الى بغداد‪ ،‬وكان عباس شاه فارس قد استولى عليها وقتل واليها العثماني‬
‫واذل أهل السنة بها وعمل بهم الفاعيل ‪ ،‬فحاصر مراد بغداد وهدم جزءا كبيرا من اسوارها‬
‫بالمدفعية ودخلها عام ‪1048‬هـ وقتل من جنود الشيعة عشرين ألفا‪ ،‬ثم أقام بها مدة جدد‬
‫عمارتها‪ ،‬وأصلح ماتهدم من أسوارها ‪ ،‬وعين لها وزيرا ‪ ،‬وكان هذا السلطان يباشر الحروب‬
‫()‬
‫بنفسه‪ ،‬ويخالط جنوده‪ ،‬وينام أحيانا في الغزوات على حصانه ‪. 3‬‬

‫وفاته‪:‬‬
‫مرض سنة ‪1640‬م وكان يخشى عليه من الموت ولكن شفي ثم مرض من جديد وتوفي‬
‫( ‪)4‬‬
‫بسبب مرض النقرس وامتد حكمه ‪ 16‬سنة و ‪ 11‬شهرا استلم‬ ‫رحمه ال في ‪ 8‬شباط ‪1640‬م‬
‫()‬
‫الخزينة عند ارتقائه العرش فارغة وتركها مملؤة عند وفاته ‪ ، 5‬لقد كان هذا السلطان عاقلً‬
‫شجاعا ثاقب الرأي ‪ ،‬استأصل الفساد وقمع العصاة‪ ،‬ولقب بمؤسس الدولة الثاني لنه أحياها بعد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.63‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.136‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪)(4‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪-380-‬‬
‫()‬
‫السقوط واصلح حال ماليتها ‪. 1‬‬

‫رابعا‪ :‬السلطان ابراهيم بن أحمد (‪1058-1049‬هـ‪1648-1639/‬م)‪:‬‬


‫تولى الحكم بعد أخيه مراد الذي لم يعقب ذكورا‪ ،‬ولم يبق بعد موت السلطان مراد الرابع من‬
‫نسل آل عثمان سوى أخيه السلطان ابراهيم‪ ،‬الذي كان مسجونا مدة سلطنة اخيه ‪ ،‬ولما توفي‬
‫أخيه أسرع كبار المملكة الى مكان الحبس ليخبروه بذلك‪ ،‬فعندما قدموا ظن أنهم قادمون لقتلة‪،‬‬
‫فخاف وذعر ولم يصدق ماقالوه له‪ ،‬ولذلك لم يفتح لهم باب السجن ‪ ،‬فكسروه ودخلوا عليه‬
‫يهنئونه‪ ،‬فظن أنهم يحتالون عليه للطلع على ضميره‪ ،‬فرفض قبول الملك بقوله‪ :‬إنه يفضل‬
‫الوحدة التي هو بها على ملك الدنيا‪ ،‬ولما أن عجزوا عن إقناعه‪ ،‬حضرت إليه والدته‬
‫وأحضرت له جثة أخيه دليلً على وفاته وحين ذلك جلس على سرير السلطنة‪ ،‬ثم أمر بدفن‬
‫جثة أخيه باحتفال وافر ‪ ،‬وساق أمامها ثلثة أفراس من جياد الخيل التي كان يركبها في حرب‬
‫()‬
‫بغداد ثم مضى الى جامع أيوب النصاري‪ ،‬وهناك قلدوه بالسيف‪ ،‬ونادوا له بالخلفة ‪. 2‬‬
‫كان يقول عند ارتقائه العرش‪ :‬الحمدل اللهم جعلت عبدا ضعيفا مثلي لئقا لهذا المقام اللهم‬
‫()‬
‫اصلح واحسن حال شعبي مدة حكمي واجعلنا راضيا بعضا عن بعض ‪. 3‬‬
‫ولقد دافع عنه صاحب كتاب السلطين العثمانيون وقال إن الفتراءات الكاذبة التي قيلت في‬
‫()‬
‫حقه اكاذيب مختلفة من قبل الذين ارادوا عزله ثم قتلوه بعد ذلك ‪. 4‬‬
‫كانت الحوال الداخلية شبه مستقرة بسبب اصلحات أخيه نحو النكشارية‪ ،‬وتجديد الجيش ‪،‬‬
‫فاتجه الى القتصاد في نفقات الجيش والسطول وإصلح النقد وإقامة النظام الضرائبي على‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.136‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ سلطين آل عثمان ‪ ،‬يوسف آصاف‪ ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪-381-‬‬
‫()‬
‫أسس جديدة ‪. 1‬‬
‫استطاع الصدر العظم قرة مصطفى باشا أن يوقف تدخل النساء في شؤون السلطنة وتمكن‬
‫من القضاء على محاولت رجال البلط السلطاني لفساد الدولة وقضى على العابثين والمفسدين‬
‫()‬
‫وقاطعي الطريق في مختلف الوليات ‪. 2‬‬

‫الحرب ضد البنادقة‪:‬‬
‫كانت جمهورية البنادقة تهيمن على جزيرة كريت وعلى الحركة التجارية في بحر إيجة‬
‫مستغلين الصلح مع الدولة العثمانية‪ ،‬فعزم العثمانيون على تدمير نفوذ البنادقة في اشرق‪،‬‬
‫فجهزت الجيوش والسطول وأعلنت الحرب على البنادقة‪ ،‬واعتقل جميع البنادقة في طول البلد‬
‫وعرضها وأمر بمصادرة أموالهم وممتلكاتهم‪ ،‬ثم سير حملة الى جزيرة كريت عام ‪1055‬هـ‪/‬‬
‫()‬
‫‪1645‬م واستولت على أجزاء منها ‪ ، 3‬ولكن الجنود تمردوا في استانبول وأهاجوا وماجوا‬
‫وقرورا عزل السلطان ابراهيم وتولية ابنه محمد الرابع الذي لم يتم السابعة من عمره وقتل‬
‫()‬
‫السلطان ابراهيم وقد امتد حكمه ‪ 8‬سنين و ‪ 9‬شهور وكان عمره ‪ 34‬سنة ‪. 4‬‬

‫خامسا‪ :‬السلطان محمد الرابع (‪1104-1051‬هـ‪1692-1642/‬م)‪:‬‬


‫ولد هذا السلطان عام ‪1051‬هـ‪ ،‬وتولى المسؤولية وهو ابن سبع سنوات ورأت أوروبا أن‬
‫الوقت حان للنيل من الدولة العثمانية؛ لذلك كونت أوروبا حلفا ضم ‪ :‬النمسا‪ ،‬وبولونيا‪،‬‬
‫والبندقية‪ ،‬ورهبان مالطة‪ ،‬والبابا‪ ،‬وروسيا وسموه (الحلف المقدس) وذلك للوقوف في وجه المد‬
‫السلمي الذي اصبح قريبا من كل بيت في أوروبا الشرقية بسبب جهاد العثمانيين البطال وبدأ‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.108‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬اسماعيل سرهنك‪ ،‬ص ‪.150‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.109‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪-382-‬‬
‫الهجوم الصليبي على ديار الدولة العثمانية وقيض ال لهذه الفترة (آل كوبريلل) الذين ساهموا‬
‫في رد هجمات العداء وتقوية الدولة‪ ،‬فالصدر العظم محمد كوبريللي المتوفي عام (‬
‫‪1072‬هـ‪661/‬م) فأعاد للدولة هيبتها ‪ ،‬وسار على نهجه ابنه (احمد كوبريللي) الذي رفض‬
‫الصلح مع النمسا والبندقية وسار على رأس جيش لقتال النمسا‪ ،‬وتمكن عام ‪1074‬هـ أن يفتح‬
‫أعظم قلعة في النمسا وهي قلعة نوهزل شرقي فينا في ‪ 25‬صفر ‪1074‬هـ‪ 28/‬سبتمبر‬
‫‪1663‬م وفي عهد هذا الصدر العظم حاولت فرنسا التقرب من الدولة العثمانية‪ ،‬وتجديد‬
‫المتيازات ‪ ،‬غير أن الصدر العظم رفض ذلك‪ ،‬ثم حاولت فرنسا التهديد حيث ارسل "لويس‬
‫الرابع عشر" ملك فرنسا السفير الفرنسي مع أسطول حربي‪ ،‬وهذا مازاد الصدر العظم إل‬
‫()‬
‫ثباتا‪ ،‬وقال ‪( :‬إن المتيازات كانت منحة‪ ،‬وليست معاهدة واجبة التنفيذ) ‪. 1‬‬
‫لقد تراجعت فرنسا أمام تلك الرادة الحديدية واستعملت سياسة اللين والخضوع للدولة‬
‫العثمانية حتى جددت لها المعاهدات القديمة وأعادت لها امتياز حماية بيت المقدس عام‬
‫()‬
‫‪1084‬هـ ‪. 2‬‬
‫وبوفاة الصدر العظم "أحمد كوبريللي" ضعف النظام العثماني‪ ،‬وهاجمت النمسا بلد المجر‪،‬‬
‫واغتصبت قلعة نوهزل ومدينة بست ومدينة بودا‪ ،‬وأغار ملك بولونيا على ولية البغدان‪،‬‬
‫وأغارت سفن البندقية على سواحل المورة واليونان واحتلت أثينا وكورنثة عام ‪1097‬هـ‬
‫وغيرها من المدن‪.‬‬
‫وتذكر كتب التاريخ أن العلماء ورجال الدولة قد اتفقوا على عزل السلطان (محمد الرابع)‬
‫()‬
‫فعزل عام ‪1099‬هـ‪ ،‬وتولى مكانه أخوه سليمان الثاني ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.73‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪)(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪-383-‬‬
‫سادسا‪ :‬السلطان سليمان خان الثاني‪:‬‬
‫ولد عام ‪1052‬هـ وتولى الحكم بعد أخيه (محمد الرابع) عام ‪1099‬هـ واستمر التدهور في‬
‫الدولة العثمانية في عهده‪ ،‬وازدادت شراسة العداء على عهده‪ ،‬فاغتصبت النمسا كثير من‬
‫المواقع والمدن ومنها بلجراد عام ‪1099‬هـ‪ ،‬كما احتلت البندقية وسواحل دالماسيا السواحل‬
‫الشرقية لبحر الدرياتيك وبعض الماكن في اليونان وتوالت الهزائم على الدولة‪ ،‬وقيض ال لها‬
‫رجلً لهذا الفترة هو الصدر العظم (مصطفى بن محمد كوبريللي) الذي سار على نهج ابيه‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وعاقب بأشد العقاب‬ ‫وسمح للنصارى في استانبول ببناء ماتهدم من كنائسهم ‪ ،‬وأحسن إليهم‬
‫كل من عرض لهم في إقامة شعائر دينهم حتى استمال جميع مسيحي الدولة‪ ،‬وكانت نتيجة‬
‫معاملة المسيحيين بالعدل أن ثار أهالي موره الورام على البنادقة الكاثوليك‪ ،‬وطردوا جيشها‬
‫من بلدهم بسبب إضطهادهم وإجبارهم على المذهب الكاثولوليكي‪ .‬ودخلوا في حماية الدولة‬
‫()‬
‫العثمانية مختارين طائعين لعدم تعرضها لديانتهم مطلقا ‪. 2‬‬
‫هذه شهادة من أبناء النصارى على سماحة السلم الذي مانعمت البشرية بنعمة المن‬
‫والطمأنينة على الدين والعرض والمال والدم إل في ظله؛ لن القرآن الكريم وسنة سيد‬
‫المرسلين علمتهم ذلك‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ل ينهاكم ال عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم‬
‫من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن ال يحب المقسطين} (سورة الممتحنة‪ :‬آية ‪.)8‬‬
‫وشاء ال تعالى أن يختار الصدر العظم شهيدا في ساحة الوغى وهو ينافح عن حرمات‬
‫()‬
‫الدين في أحد المعارك ضد النمسا الصليبية عام ‪1102‬هـ ‪. 3‬‬

‫وفاة السلطان سليمان الثاني‪:‬‬

‫‪)(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.74‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية‪ ،‬ص ‪.306‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال ‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪-384-‬‬
‫في ‪ 26‬رمضان سنة ‪1102‬هـ الموافق ‪ 23‬يونيو ‪1691‬م توفي السلطان سليمان الثاني عن‬
‫غير عقب وعمره ‪ 50‬سنة بعد أن حكم ثلث سنوات وثمانية أشهر ودفن في تربة جده السلطان‬
‫()‬
‫سليمان الول وتولى بعده أخوه ‪. 1‬‬

‫سابعا‪ :‬السلطان احمد الثاني (‪1106-1102‬هـ‪1694-1690/‬م)‪:‬‬


‫تولى الحكم عام ‪1102‬هـ بعد وفاة أخيه سليمان الثاني‪ ،‬واستشهد في زمنه الصدر العظم‬
‫مصطفى كوبر يللي الذي كان عظيم النفع للدولة العثمانية‪ ،‬وتولى بعده الصدر العظم جي علي‬
‫باشا عريجي وكان ضعيفا‪ ،‬واحتلت البندقية بعض جزر بحر إيجة‪ ،‬ولم تطل أيام السلطان‬
‫وتوفي عام ‪1106‬هـ‪1694/‬م وكان القتال في أيامه القصيرة عبارة عن مناوشات ‪ ،‬وتولى‬
‫()‬
‫الحكم بعده ابن أخيه وهو مصطفى الثاني بن محمد الرابع ‪. 2‬‬

‫ثامنا‪ :‬السلطان مصطفى الثاني (‪1115-1106‬هـ‪1703-1694/‬م)‪:‬‬


‫ولد عام ‪1074‬هـ وتولى الخلفة عام (‪1106‬هـ‪1694/‬م) وهو ابن السلطان محمد الرابع‬
‫وفي عهده‪ ،‬بدأ تراجع المد السلمي عن ديار أوروبا الشرقية بسبب ضعف اليمان‪ ،‬وضعف‬
‫روح الجهاد‪ ،‬وتسرب اسباب الهزيمة في كيان المة‪ ،‬وقسوة الهجمات الصليبية على ديار‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬وفي عهده تم توقيع معاهدة كار لوفتس جنوب غرب زغرب على نهر الدانوب‬
‫عام ‪1110‬هـ‪1699/‬م‪ ،‬مع روسيا وطبقا لشروط هذه المعاهدة انسحب العثمانيون من بلد‬
‫المجر‪ ،‬وإقليم ترانسلفانيا‪ ،‬وهذا مؤشر سيء في تاريخ بعض حكام الدولة العثمانية‪ ،‬وهو‬
‫()‬
‫انسحابهم في المعارك تاركين المسلمين بين يدي عدو نزعت من قلبه الشفقة والرحمة ‪، 3‬‬
‫وأصبحت كل الدول التي كانت تدفع الجزية عن يد وهي صاغرة ممتنعة من دفعها وكانت‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية ‪ ،‬ص ‪.306‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي ‪ ،‬ص ‪.115‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال ‪ ،‬ص ‪.76‬‬
‫‪-385-‬‬
‫الدول النصرانية تقف في وجه العثمانيين ‪ ،‬وكانت متفقة فيما بينها للوقوف في وجه تقدم الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬والعمل على تقسيمها وذلك خوفا من انتشار المد السلمي‪.‬‬
‫كان تنازل العثمانيين عن أراضيها بداية النسحاب العثماني من أوروبا‪ ،‬كما أنه يسجل‬
‫النتقال الى عصر التفكك والضمحلل السريع‪ .‬وعلى أثر تدخل النكشارية ومطالبتهم بعزل‬
‫الصدور ورفض السلطان لذلك فقد قرروا عزله وتوفي بعد أربعة أشهر وكان عند وفاته في‬
‫التاسعة والثلثون من عمره ودفن رحمه ال‪.‬‬

‫تاسعا‪ :‬السلطان احمد الثالث (‪1143-1115‬هـ‪1730-1703/‬م)‪:‬‬


‫في عهده ظلت راية الجهاد مرفوعة ‪ ،‬واستطاعت الدولة أن تعيد المورة وآزاق ‪ ،‬وواصلت‬
‫جهادها ضد روسيا وأنزل بها ضربة كادت أن تكون قاصمة‪ ،‬حينما حاصر المجاهدون‬
‫العثمانيون قيصر روسيا وخليلته ومعهما ‪ 200.000‬مجاهد كادوا يقعون في السر ولكن‬
‫الخيانة تحت فتنة المال والنساء دفعت الصدر العظم الى رفع الحصار ‪ ،‬وخيانة الدولة‪ ،‬ووقع‬
‫معاهدة (فلكزن) في جمادى الخرة عام ‪1123‬هـ مع الروس‪ ،‬ترتب عليها إخلء مدينة آزاق‬
‫للصليبيين الروس وتعهد بعدم التدخل في شؤون القوزاق‪ ،‬ولهذا السبب عزل السلطان أحمد‬
‫الثالث الصدر العظم بلطة جي باشا واستمر الجهاد ضد الروس‪ ،‬ورأت هولندا وإنجلترا إن‬
‫()‬
‫مصلحتها إيقاف الحرب ولذلك تدخلوا‪ ،‬ووقعت معاهدة أدرنة عام ‪1125‬هـ‪1716/‬م ‪، 1‬‬
‫وتنازلت فيها روسيا عن كل مااستولت عليه من سواحل البحر السود‪ ،‬ولكنها تخلت في الوقت‬
‫()‬
‫نفسه عما كانت تدفعه الى حكام القرم ‪. 2‬‬
‫ومن ناحية الغرب انتصر العثمانيون على البنادقة‪ ،‬واستولوا على كريت وبعض الجزر‬
‫الخرى‪ ،‬فاستنجد البنادقة بالنمسا من الدولة العثمانية إعادة ماأخذ من البنادقة إليهم فرفضت‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.76‬‬


‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬اسماعيل باغي‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪-386-‬‬
‫الدولة‪ ،‬وقامت الحرب بين الطرفين وانتصرت النمسا وسقطت بلغراد عام ‪1129‬هـ‪1717/‬م‬
‫ثم جرى الصلح بعد ذلك في عام ‪1130‬هـ‪1718/‬م وتوسطت بريطانيا وهولندا في الصلح‪.‬‬
‫وعقد صلح بساروفتز ‪ ،‬وبموجبه انتزع النمساويون بلغراد‪ ،‬وأكثر بلد الصرب‪ ،‬وجزءا من‬
‫الفلق وتبقى سواحل دالماسيا (شرق الدرياتيك) للبندقية‪ ،‬وتعود بلد المورة للعثمانيين كما‬
‫أتاح الصلح لرجال الدين الكاثوليك في أن يستعيدوا مزاياهم القديمة في الراضي العثمانية ‪،‬‬
‫مما أتاح لهم وللنمسا التدخل في شؤون الدولة العثمانية باسم حمايتهم‪ ،‬وقد نص اتفاق منفصل‬
‫على حرية التجارة لصالح تجار الدول الموقعة على المعاهدة‪ .‬وهكذا حصلت النمسا على حق‬
‫()‬
‫حماية التجار الجانب داخل الدولة العثمانية ‪ . 1‬ولما رأى الروس ضعف العثمانيين طلبوا‬
‫منهم السماح للتجار وزوار بيت المقدس بالمرور في أراضي الدولة العثمانية دون دفع أية‬
‫رسوم فوافق العثمانيون على ذلك‪ .‬واحتل العثمانيون بلد أرمينيا بلد الكرج‪ ،‬بينما احتل‬
‫بطرس الكبر بلد داغستان وسواحل بحر الخرز الغربية بسبب ضعف الدولة الصفوية‪،‬‬
‫وكادت الحرب أن تقع بين الطرفين لول وساطة فرنسا بناءً على طلب روسيا‪ ،‬وبقي كل فريق‬
‫في المناطق التي دخلها دون معارضة الخر‪ .‬غير ان الصفويين هبوا وقاتلوا العثمانيين‪ ،‬ولكنهم‬
‫هزموا وفقدوا تبريز وهمدان وعددا من القلع‪ ،‬ثم جرى الصلح عام ‪1140‬هـ‪1728/‬م‪.‬‬
‫()‬
‫وخلل هذه الفترة ثار النكشاريون وعزلوا الخليفة ونصبوا مكانه ابن أخيه ‪. 2‬‬

‫الداماد ابراهيم باشا والحضارة الغربية‪:‬‬


‫كان عدد قليل من العثمانيين قد نادى بالصلح للوصول الى الوسائل التي حققت بها أوروبا‬
‫قوتها خاصة في التنظيم العسكري والسلحة الحديثة‪ .‬وكان الداماد ابراهيم باشا الذي تولى‬
‫الصدارة العظمى في عهد السلطان احمد الثالث هو أول مسؤول عثماني يعترف بأهمية التعرف‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.156،157‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬اسماعيل سرهنك‪ ،‬ص ‪.207،208‬‬
‫‪-387-‬‬
‫على أوروبا‪ ،‬لذا فإنه أقام اتصالت منتظمة بالسفراء الوروبيين المقيمين بالستانة‪ ،‬وأرسل‬
‫السفراء العثمانيين الى العواصم الوروبية‪ ،‬وبخاصة فينا وباريس للمرة الولى‪ .‬وكانت مهمة‬
‫هؤلء السفراء ل تقتصر على توقيع التفاقات التجارية والدبلوماسية الخاصة بالمعاهدات التي‬
‫سبق توقيعها ‪ ،‬بل أنه طلب منهم تزويد الدولة بمعلومات عن الدبلوماسية الوروبية وقوة‬
‫أوروبا العسكرية‪ .‬وكان معنى ذلك فتح ثغرة في الستار الحديدي العثماني والعتراف بالمر‬
‫الواقع الخاص بأنه لم يعد بإمكان العثمانيين تجاهل التطورات الداخلية التي كانت تحدث في‬
‫()‬
‫أوروبا ‪. 1‬‬
‫وقد بدأ التأثر بأوروبا في مجال بناء القصور والسراف والبذخ اللذين شارك فيهما السلطان‬
‫أحمد ذاته بنصيب كبير‪ ،‬مما جعل الغنياء وعلية القوم يسعون الى اقتباس العادات الوروبية‬
‫()‬
‫الخاصة بالثاث وتزيين الدور وبناء القصور وإنشاء الحدائق ‪. 2‬‬
‫لقد بدأ ظهور تقليد الغرب في شهواتهم وإسرافهم تظهر للعيان وطبيعي أن تمضي فيهم سنة‬
‫ال تعالى قال تعالى‪{ :‬ولو أن أهل القرى آمنوا وأتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض‬
‫ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (سورة العراف ‪ :‬آية ‪.)96‬‬
‫وقال تعالى ‪{ :‬وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنها‬
‫تدميرا} (سورة السراء‪ :‬آية ‪.)76‬‬
‫وسجلت هذه الفترة بداية الحركة الدبية العثمانية الحديثة فنشطت حركة الترجمة الى اللغة‬
‫التركية ‪ ،‬كما أرسل السلطان أحمد مبعوثين الى فرنسا للطلع على المصانع ومنجزات‬
‫()‬
‫الحضارة الفرنسية‪ .‬كما تم إنشاء مكتب للطباعة في استانبول ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪.159‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل باغي ‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل باغي‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪-388-‬‬
‫عاشرا‪ :‬السلطان محمود الول (‪1168-1143‬هـ‪1758-1730/‬م)‪:‬‬
‫تولى الحكم بعد ان هدأت الحوال بسبب اضطرابات النكشارية فقرر السلطان محمود الول‬
‫استقدام مستشار أوروبي فرنسي للشؤون العسكرية واسمه الكسندر الكونت دي بونفال‪ ،‬وقد‬
‫عهد إليه بإحياء فرقة المدفعية‪ ،‬وادخلت أنظمة جديدة للخدمة العسكرية على أسس فرنسية‬
‫ونمسوية بهدف جعل الخدمة العسكرية من جديد مهنة حقيقية وذلك بتوفير المرتبات والمعونات‪.‬‬
‫واقترح توزيع فرق النكشارية الى وحدات صغيرة يقودها ضابط شاب‪ ،‬غير أن النكشارية‬
‫عارضوا تنفيذ هذه الخطة وأوقفوها ‪ ،‬مما أدى الى تركيز بونفال على فرقة المدفعية وأهتم‬
‫كذلك بصناعة المدافع والبارود والبنادق واللغام وعربات المدافع‪ ،‬وافتتح مدرسة للهندسة‬
‫العسكرية‪ ،‬إل أن النكشارية عارضوا كل المشروعات‪ ،‬وعلوة على ذلك أنشأ مصنع للورق‪،‬‬
‫()‬
‫لكن هذه الصلحات سرعان مااندثرت ‪. 1‬‬
‫اتجهت الدولة العثمانية الى قتال الشيعة الصفوية‪ ،‬فتغلبت على طهماسب الذي طلب الصلح‬
‫عام ‪1144‬هـ‪1731/‬م‪ ،‬وتخلى العثمانيين عن تبريز ‪ ،‬وهمدان ‪ ،‬ولورستان غير أن والي الشاه‬
‫على خراسان وهو نادر شاه‪ ،‬لم يقبل بهذه المعاهدة‪ .‬فسار الى أصفهان ‪ ،‬وعزل الشاه طهماسب‬
‫وولى مكانه أبنه عباس‪ ،‬وعين عليه مجلس وصاية ‪ ،‬سار لحرب العثمانيين فانتصر عليهم‪،‬‬
‫وحاصر بغداد‪ ،‬طلبت الدولة الصلح‪ ،‬وجرى التفاق عام ‪1149‬هـ‪1736/‬م في مدينة تفليس‬
‫حيث أعلن نادر خان نفسه ملكا على الفرس‪ ،‬واتفقوا على أن يرد العثمانيون كل ماأخذوه الى‬
‫()‬
‫الشيعة اليرانية ‪. 2‬‬

‫الحرب مع الدول الوروبية‪:‬‬


‫أعلنت روسيا والنمسا الحرب على بولندا‪ ،‬واحتلتها روسيا ‪ ،‬ورغبت فرنسا التحالف مع‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬في اصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.163-162‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التاريخ السلمي (‪ ، )8‬محمود شاكر ‪ ،‬ص ‪.112-110‬‬
‫‪-389-‬‬
‫الدولة العثمانية لنقاذ بولندا من كل من النمسا وروسيا وأرضت النمسا فرنسا بمعاهدة فينا‬
‫واتفقت من جهة ثانية لقتال الدولة العثمانية‪ ،‬وبدأت روسيا القتال مع الدولة العثمانية‪ ،‬فتمكن‬
‫العثمانيون من وقف تقدم الروس في إقليم البغدان‪ ،‬كما أوقفوا تقدم النمسا في البوسنة والصرب‬
‫والفلق‪ ،‬وأنتصرت على الصرب ‪ ،‬وعلى جيوش النمسا التي انسحبت من الحرب ‪ ،‬وطلبت‬
‫الصلح عن طريق فرنسا‪ ،‬وتم توقيع معاهدة الصلح في بلغراد عام ‪1152‬هـ‪1739/‬م‪ ،‬تنازلت‬
‫فيه النمسا عن مدينة بلغراد وعن بلد الصرب الفلق‪ ،‬وتعهدت روسيا بعدم بناء سفن في‬
‫()‬
‫البحر السود وهدم قلع ميناء آزوف ‪. 1‬‬
‫السلطان عثمان الثالث (‪1171-1168‬هـ‪1761-1758/‬م)‪:‬‬
‫تولى الحكم وعمره ‪ 58‬سنة‪ ،‬وبويع في جامع أبي أيوب النصاري‪ ،‬وهنأه سفراء أوروبا ‪،‬‬
‫وحكم ثلث سنوات فقط لم يحدث فيه حروب ول نزاعات خارجية واهتم بالصلحات‬
‫الداخلية‪ ،‬وأصدر أوامر بمنع كل ما يخالف الشرع الشريف وقضى على الثورات والنتفاضات‬
‫( ‪)2‬‬
‫ويذكر عنه أنه كان يتحسس أحوال‬ ‫التي قامت في أنحاء الدولة وخاصة ثورات الكراد‬
‫()‬
‫الرعية ليلً متنكرا ‪. 3‬‬

‫الحادي عشر‪:‬السلطان مصطفى الثالث(‪1187-1171‬هـ‪)1773-1757/‬‬


‫تولى الحكم وعمره اثنتان وأربعون سنة‪ ،‬وكان على دراية واسعة بإدارة الدولة فعين الوزير‬
‫قوجه راغب صدرا أعظم لسعة أطلعه وخبرته بشؤون البلد‪ .‬وقد استطاع محمد راغب باشا‬
‫()‬
‫من إخماد ثورة عرب الشام الذي اعتدوا على قوافل الحجاج ‪. 4‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬اسماعيل سرهنك‪ ،‬ص ‪.212-208‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.79‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي ‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪-390-‬‬
‫كان السلطان مصطفى يرى أن الخطر الداهم على الدولة العثمانية يتمثل في ظهور القوة‬
‫الروسية الجديدة ويبدوا أنه اطلع على المخطط السود الروسي لتفتيت الدولة العثمانية الذي‬
‫( ‪)1‬‬
‫ولذلك أعد السلطان مصطفى الثالث لحرب روسيا ‪ ،‬فبدأ‬ ‫وضعه بطرس الكبر في وصيته‬
‫يعد التنظيمات المزمع تنفيذها بالجيش العثماني حتى يصبح قادرا على مواجهة الجيوش‬
‫الوروبية‪ ،‬لذا فقد تمكن الصدر العظم من عقد اتفاق مع حكومة بروسيا لمساعدة الدولة‬
‫العثمانية عند الحاجة ضد النمسا وروسيا‪ .‬وعملت على توسيع نطاق التجارة البحرية والبرية‪.‬‬
‫وعمل على وضع مشروع فتح خليج ليصال نهر دجلة بالستانة وأن تستعمل النهار الطبيعية‬
‫مجرى له ليسهل نقل الغلل من الوليات الى دار الخلفة‪ ،‬ويساعد على نشر التجارة‪ ،‬إل أن‬
‫المنية عاجلته قبل البدء في مشروعه عام ‪1176‬هـ‪1762/‬م‪ .‬وخلفه في الصدارة حامد حمزة‬
‫باشا ثم خلفه مصطفى باهر باشا ‪1177‬هـ‪1763/‬م ثم بعد سنة تولى الصدارة محسن زاده‬
‫()‬
‫محمد باشا ‪1178‬هـ‪1764/‬م ‪. 2‬‬
‫خاضت الدولة العثمانية حربا مع روسيا بسبب اعتداءات القوزاق على مناطق الحدود‪ ،‬نجح‬
‫ملك القرم في غارته وهدم عددا من الضياع وذلك عام ‪1182‬هـ‪ 1768/‬كما سار الصدر‬
‫العظم بفك الحصار عن بعض المواقع التي يحاصرها الروس‪ ،‬ولكنه فشل فكان جزاؤه القتل‪،‬‬
‫وهزم الصدر الذي أتى بعده‪ ،‬واحتل الروس إقليمي الفلق والبغدان‪ ،‬وأخذ الروس يثيرون‬
‫النصارى من الروم الرثوذكس للقيام بثورات ضد الدولة ‪ ،‬فأثاروا نصارى شبه جزيرة المورة‬
‫()‬
‫فقاموا بثورة‪ ،‬غير أن الثورة قد أخمدت ‪. 3‬‬
‫كما هاجم الروس مدينة طرابزون وفشلوا في احتللها‪ ،‬ولكنها (روسيا) نجحت في اقتحام‬
‫بلد القرم والسيطرة عليها وذلك عام ‪1185‬هـ‪1771/‬م‪ .‬ثم جرت مفاوضات الصلح ولكنها‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬ص ‪.330،331،332‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬اسماعيل سرهنك‪ ،‬ص ‪.216‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪-391-‬‬
‫()‬
‫فشلت بسبب مطالب روسيا التعسفية‪ ،‬وعادت الحرب وانتصر العثمانيون ‪. 1‬‬

‫الهتمام بدعم الثورات الداخلية‪:‬‬


‫لقد ظهر التآمر الروسي الصليبي ضد ديار الدولة العثمانية واضحا وقاموا بمحاولة تمزيق‬
‫الدولة من الداخل ‪ ،‬فقد دفعوا والي مصر من قبل دولة الخلفة‪ ،‬وهو "علي بك الكبير" الذي‬
‫لقب بشيخ البلد الى الخروج على الدولة العثمانية عام (‪1183‬هـ‪1770/‬م)‪ ،‬ففعل ‪ ،‬وأمر بأن‬
‫يخطب باسمه على المنابر‪.‬‬
‫وفي جزيرة (باروس) تم لقاء بين الصليبيين الروس ومبعوثين من قبل (علي بك الكبير) وتم‬
‫التخطيط الماكر لتدمير الدولة العثمانية من الداخل‪ ،‬يكون فيها علي بك الكبير هو مخلب القط‬
‫ومعه طاهر العمر والي مدينة عكا من قبل العثمانيين وبناء عليه قاد علي بك أبناء مصر‬
‫المسلمين لقتال القوات العثمانية في بلد الشام ودخل "سورية" عنوة في عام ‪1185‬هـ‪ ،‬بل إنه‬
‫دخل دمشق‪ ،‬وصيدا وحاصر "يافا" بمساعدة طاهر العمر‪ ،‬بل إن الروس حينما قامت قوات‬
‫الدولة العثمانية بمحاصرة صيدا‪ ،‬عاونوا عميلهم في رفع الحصار ومده بالسلحة واستولوا على‬
‫بيروت عام ‪1186‬هـ‪.‬‬
‫وجاء الوقت الذي أسر فيه علي بك الكبير‪ ،‬وتوفي في أسره‪ ،‬وقتل الخائن الخر طاهر‬
‫()‬
‫العمر بعد حصار عكا‪ ،‬وذلك على يد محمد بك الشهير بأبي الذهب ‪. 2‬‬
‫إن الصليبية النصرانية عندما عجزت عن مقاتلة الدولة العثمانية في جبهات الوغى لجأت الى‬
‫تفجير الدولة من الداخل عبر ضعفاء النفوس ممن ينتسبون الى السلم ويظهرون شعائره‬
‫وأضاعوا مفهوم الولء والبراء في بحر شهواتهم وأطماعهم وإل كيف يكون ذلك وال يقول ‪:‬‬
‫{يا أيها الذين آمنوا لتتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.122‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪-392-‬‬
‫الحق} (سورة الممتحنة‪ :‬آية ‪.)1‬‬
‫وقوله تعالى ‪{:‬ل يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} (سورة آل عمران ‪ :‬آية‬
‫‪.)21‬‬
‫إن المسلم الصادق مع نفسه وربه وأمته ليقف مع الروس الرثوذكس ضد المسلمين السنيين‬
‫()‬
‫العثمانيين ويستحل دماءهم ‪ . 1‬إن أعداء المة المسلمة يلجأون دوما الى إشعال نار الفتنة داخل‬
‫ديار السلم لتدمير قوة المة البشرية والقتصادية والخلقية لتصبح المة مؤهلة للسقوط بيد‬
‫()‬
‫العداء ‪ ، 2‬لقد كان السلطان مصطفى الثالث من السلطين المجاهدين وقد تصدى للهجمات‬
‫الروسية الصليبية على الدولة‪ ،‬وأنزل بهم هزائم عدة وكان يرى بثاقب بصره وبعد نظره أن‬
‫الدولة العثمانية بدأت في عصر التراجع والسقوط وظهرت تلك الرؤية في شعره‪:‬‬
‫ان الدنيا منهدمة ل تظن أنها تستقيم لنا‬
‫جميع مراتب الدولة بقيت في أيدي الراذل‬
‫وان السعداء اليوم كلهم ادناء‬
‫ونحن متوكلون على ال جل جلله‬
‫كان هذا السلطان مهتما بالتاريخ السلمي عموما وتاريخ الدولة العثمانية خصوصا‪.‬‬
‫لقد استمرت الحرب مع روسيا فترة طويلة حيث بدأت في عام ‪1768‬م وانتهت في ‪1774‬م‬
‫وفقدت الدولة العثمانية اراضي واسعة ومهمة وبدأ ظهور الضعف والتأخر والتخلف الحقيقي‬
‫في الدولة‪ ،‬ومرض السلطان مصطفى الثالث في حرب روسيا حزنا وتوفي وعمره يناهز ‪57‬‬
‫()‬ ‫()‬
‫عاما تقريبا ‪ . 3‬وتوفي الخليفة عام ‪1187‬هـ وتولى مكانه أخوه عبدالحميد الول ‪. 4‬‬

‫‪)(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.80‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطين العثمانيون‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪:‬الدولة العثمانية‪ ،‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.123‬‬
‫‪-393-‬‬
‫الثاني عشر‪:‬السلطان عبدالحميد الول( ‪1203 -1187‬هـ‪1788 -1773 /‬م)‬
‫تولى الحكم عام ‪1187‬هـ‪1773/‬م بعد وفاة أخيه مصطفى الثالث‪ ،‬وكان محجوزا في قصره‬
‫مدة حكم أخيه مصطفى الثالث استطاعت روسيا أن تحقق نصرا على العثمانيين في مدينة فارنا‬
‫في بلغاريا على البحر السود‪ ،‬وطلب الصدر العظم الصلح والمفاوضة‪ ،‬وتم ذلك في مدينة‬
‫( ‪)1‬‬
‫وأهم ماجاء فيها‪:‬‬ ‫قينارجة في بلغاريا عام ‪1187‬هـ‪1774/‬م‬
‫‪.1‬ازالة العداوة بين الدولة العثمانية وروسيا وحلول الصلح وصيانة التفاقات من التغيير‬
‫والعفو عن الجرائم التي اقترفها رعايا الطرفين‪.‬‬
‫‪.2‬عدم حماية الرعايا الملتجئين او الفارين أو الخونة ضمن شروط‪.‬‬
‫‪.3‬اعتراف الطرفين بحرية بلد القرم بل استثناء واستقللها‪ ،‬ولهم الحرية التامة بانتخاب خان‬
‫لهم دون تدخل وليؤدون ضريبة‪ .‬وباعتبارهم مسلمين فإن أمورهم المذهبية تنظم من قبل‬
‫السلطان بمقتضى الشريعة السلمية‪.‬‬
‫‪.4‬سحب القوات العثمانية من القرم وتسليم القلع وعدم إرسال جنود أو محافظ عسكري‪.‬‬
‫‪.5‬حرية كل دولة في بناء القلع والبنية والتحصينات وإصلح مايلزم منها‪.‬‬
‫‪.6‬تعيين سفير روسي في الستانة من الدرجة الثانية‪ ،‬والعتذار له رسميا عن مايحدث من‬
‫خلل‪.‬‬
‫‪.7‬تعهد الدولة العثمانية بصيانة الحقوق والكنائس النصرانية في أراضيها ومنح الرخصة من‬
‫الخلل‪.‬‬
‫‪.8‬حرية زيارة رهبان روسيا للقدس والماكن الخرى التي تستحق الزيارة مرخص بها دون‬
‫()‬
‫دفع جزية أو خراج ويعطون التسهيلت والحماية أثناء ذلك ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.123‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العثمانيون والروس‪ ،‬د‪.‬علي حسن ‪،‬ص ‪.83‬‬
‫‪-394-‬‬
‫‪.9‬حرية الملحة للروس في كافة الموانئ العثمانية في البحرين البيض المتوسط والسود‬
‫مضمونة وكذلك حرية اتجار الرعايا الروس في البلد العثمانية برا وبحرا مكفولة وللتجار‬
‫الروس حريةالستيراد منها والتصدير إليها والقامة فيها‪ .‬ويحق لروسيا تعيين القناصل في كافة‬
‫المواقع التي تراها مناسبة‪.‬‬
‫‪.10‬يجب على الدولة العثمانية التعهد ببذل جهدها في كفالة حكومات الوليات الفريقية اذا‬
‫مارغب الروس بعقد معاهدات تجارية فيها‪.‬‬
‫‪.11‬يحق للروس بناء كنيسة على الطريق العام في محلة بكل أوغلي في غلطة باستانبول غير‬
‫الكنيسة المخصصة وتكون تحت صيانة سفير روسيا وتؤمن الصيانة الكاملة لها والحراسة التامة‬
‫خوفا من التدخل‪.‬‬
‫‪.12‬إعادة بعض المناطق للدولة العثمانية من روسيا بشروط منها العفو العام عن أهاليها‬
‫وحرية النصارى منهم من كافة الوجوه وبناء كنائس جديدة ومنح امتيازات للرهبان وحرية‬
‫الهجرة للعيان وعدم التعرض لهم وإعفائهم من تكاليف الحرب والجزية‪.‬‬
‫‪.13‬يرد الروس جزائر البحر البيض المتوسط التي هي تحت حكمهم للدولة العثمانية التي‬
‫يجب أن تعفو عن أهلها وتعفيهم من الرسوم السنوية وتمنحهم الحرية الدينية وترخص لمن يريد‬
‫منهم ترك وطنهم‪.‬‬
‫كما ذكرت بنود اخرى تتعلق ببعض المناطق في القرم وبتدابير النسحاب وإخلء الفلق‬
‫والبوجاق والبغدان وبتسريح السرى وتعيين السفراء من أجل المصالحة وتعهدت الدولة‬
‫العثمانية بتأدية خمسة عشر ألف كيسا لروسيا في مدة ثلث سنين يدفع منها في كل سنة قسط‬
‫()‬
‫وهو خمسة آلف كيس ‪. 1‬‬
‫وحين التمعن في هذه الشروط يمكن ملحظة مايلي‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون والروس‪ ،‬ص ‪.84‬‬


‫‪-395-‬‬
‫‪.1‬إنهاء السيطرة العثمانية على البحر السود وتهيئة السس الديبلوماسية المقبلة للتدخل‬
‫الروسي في القضايا العثمانية الداخلية ‪.‬‬
‫‪.2‬تمدد الحدود الروسية الى نهر بوغ الجنوبي واشتمالها آزوف وسهوب كرش ونيكال في‬
‫النهاية الشرقية من شبه نهري الدينيبر وبوغ وسهوب وكينبورن‪.‬‬
‫‪.3‬أصبحت بلد القرم مستقلة ورعاياها ل يلحقون الدولة العثمانية إل دينيا فقط‪.‬‬
‫‪.4‬أصبح لروسيا حق بناء قناصل في أي مكان في الدولة العثمانية والملحة الحرة في مياها‪.‬‬
‫‪.5‬سمحت المعاهدة للروس بالحصول على المتيازات ضمن البلد العثمانية تشمل الرثوذكس‬
‫في الفلق والبغدان وجزر بحر إيجة وبالتالي تحولت روسيا الى حماية الرثوذكس في أي‬
‫()‬
‫مكان في الدولة العثمانية ‪. 1‬‬
‫ولم يكتف الروس الصليبيون بذلك ‪ ،‬بل واصلوا تآمرهم ‪ ،‬وفاجئوا الدولة العثمانية بدخول‬
‫قواتهم بلد القرم وهي جزء من وليات الدولة العثمانية بسبعين ألف جندي غير مبالين بمعاهدة‬
‫()‬
‫(كينارجه) ‪. 2‬‬
‫وانبهرت ملكتهم كاترينا بهذا النصر وطافت ربوع القرم وأقيمت لها الزينات واقواس النصر‬
‫التي كتب عليها (الطريق بيزنطة)‪ .‬وأثارت الدولة العثمانية من جديد فأرسل الباب العالي‬
‫مذكرة الى السفير الروسي بالستانة وذلك في صيف عام ‪1200‬هـ فيها عدة مطالب منها‬
‫التنازل عن حماية بلد الكرج التي تخضع للسيادة العثمانية وتسليم حاكم الفلح العاصي للدولة‬
‫()‬
‫ورفضت روسيا المذكرة فأعلن الباب العالي الحرب وسجن السفير الروسي ‪. 3‬‬

‫تحالف النمسا مع روسيا‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون والروس‪ ،‬ص ‪.85‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال ‪ ،‬ص ‪.82‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪:‬العثمانيون والروس‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫‪-396-‬‬
‫وكتبت كاترينا الى القائد العسكري بوتمكين بعدم انتظار العثمانيين والتقدم بإتجاه مدينتي بندر‬
‫وأوزي وتمكن نتيجة لذلك من دخول (أوزي) وعندها أعلنت النمسا الحرب على الدولة‬
‫العثمانية وحاول يوسف الثاني المبراطور النمساوي احتلل بلغراد ولكنه عاد يجر أذيال الخيبة‬
‫منسحبا الى مدينة تمسوار والجيش العثماني يتعقبه حتى هزمه شر هزيمة‪.‬‬

‫وفاة السلطان عبدالحميد الول وأثرها على الحداث‪:‬‬


‫في هذه الونة توفى السلطان عبدالحميد الول ووهنت عزيمة الجند ودخل اليأس قلوبهم واستغل‬
‫العداء ماحدث وتظافرت جهودهم لضعاف العثمانيين وتمكنوا من النصر في ‪ 31‬تموز وفي ‪22‬‬
‫أيلول عام ‪1789‬م واستولى الروس على مدينة بندر الحصينة واحتلوا معظم الفلخ والبغدان‬
‫()‬
‫وبسارابيا ودخل النمساويون بلغراد وبلد الصرب التي ردت بعد ذلك بمقتضى معاهدة زشتوي ‪. 1‬‬

‫المبحث السادس‬
‫السلطان سليم الثالث‬

‫‪)(1‬انظر‪:‬العثمانيون والروس‪ ،‬ص ‪.87‬‬


‫‪-397-‬‬
‫(‪1203-1222‬هـ‪1807-1788/‬م)‬

‫تولى السلطة بعد وفاة عمه عبدالحميد الول عام ‪1203‬هـ‪1788/‬م وبدأت مرحلة جديدة من‬
‫مراحل الحرب بين الدولة العثمانية وأعداءها شرع في احياء الروح المعنوية في نفوس جنده‬
‫واعتمد على تاريخ الدولة العثمانية وماقامت به من أعمال بطولية‪ ،‬ففي مراسيم تولية عرش‬
‫الدولة قام السلطان بإلقاء خطبة حماسية أمام قادة الدولة أشاد فيها بما حقتته الجيوش العثمانية‬
‫من انتصارات في الماضي على أعدائها‪ ،‬وتكلم عن سبب هزائمهم المتأخرة أمام أعدائهم وبين‬
‫بأنها بسبب ابتعادهم عن دينهم وعدم اتباع كتابهم وسنة نبيهم‪ ،‬وحثهم على ضرورة التضحية‬
‫والجهاد ضد أعدائهم ‪ ،‬والعتماد على ال في كل تصرفاتهم وطاعة أولي المر‪ ،‬ومقاومة‬
‫العداء الذين استولوا على اراضي المسلمين وقتلوا وسجنوا اللف منهم حتى تستعيد الدولة‬
‫()‬
‫بلد القرم منهم ‪. 1‬‬

‫أولً‪ :‬اصراره على الجهاد‪:‬‬


‫هذه المال عند السلطان سليم الثالث جعلته يرفض مساعي الصلح التي قام بها سفراء اسبانيا‬
‫وفرنسا وبروسيا ‪ ،‬وطلب من الصدر العظم يوسف باشا اتخاذ الترتيبات اللزمة للتصدي‬
‫لعداء الدولة‪.‬‬
‫لقد أدرك السلطان المأساة التي يعيشها شعبه من جراء الهزائم المتوالية على الدولة العثمانية‪،‬‬
‫ولكي يخفف من حدة الغضب والنفور‪ ،‬رفض السلطان مساعي الصلح وقرر التوجه بنفسه على‬
‫رأس جيش نحو الدانوب‪.‬‬
‫()‬
‫وقام بزيادة مرتبات الجند وصرف مكافآت إضافية تزيد عما كانت عليه في عهد سلفه ‪. 2‬‬
‫ورأى السلطان العثماني ضرورة تقوية مركزه بتعيين صديقه القديم حسين باشا الكريدلي‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ سياسي‪ ،‬دولة علية عثمانية ‪ ،‬كامل باشا (‪.)2/250‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ نوري في بيان أحوال دولت العلية ‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪-398-‬‬
‫قائدا للسطول العثماني ونقل خدمات القائد السابق حسن باشا الى قيادة الجيش البرية في‬
‫مُولدافيا وتعيينه حاكما على مدينة "إسماعيل" وتكليفه في نفس الوقت بإعادة أوزي والتوجه‬
‫()‬
‫بطريق البر نحو القرم ‪. 1‬‬
‫وكان هذا التغيير في مناصب قيادة الجيش له أسبابه‪ ،‬فمن جهة كان القائد حسن باشا على‬
‫خلف مع الصدر العظم يوسف باشا عندما رأى أن إعلن الحرب على روسيا لم يكن في‬
‫وقته المناسب وأنهم بحاجة الى الستعداد التام قبل دخول الحرب‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن إخفاق‬
‫الجيش العثماني بقيادة حسن باشا في استعادة "أوزي" وعودته قبل الوقت المحدد قد أثر على‬
‫نفسية السلطان فرأى ضرورة تغيير القيادة ولكن السبب المعقول والقرب الى المنطق أن القائد‬
‫()‬
‫الجديد كان من أصدقاء السلطان ‪ ، 2‬مما يجعل تعيينه في منصب الصدرة العظمى سندا قويا‬
‫()‬
‫وتقوية لمركزه أمام أعدائه في الداخل والخارج ‪. 3‬‬
‫أصبح السلطان سليم في موقف يحتم عليه المواجهة مع أعدائه ومما قام به في هذا الشأن‬
‫تكليفه لصدره العظم يوسف باشا بالهتمام باقليم ولشيا وحماية بلغراد من أي هجوم في‬
‫منطقة الكوبان بهدف إثارة تتار القوقاز ضد روسيا ومساعدة الدولة العثمانية لستعادة بلد‬
‫القرم‪.‬‬
‫استبشر الصدر العظم بثقة السلطان سليم الثالث فيه وظن كأن النصر قريب وكان يأمل أن‬
‫()‬
‫يحقق أهداف الدولة المطلوبة منه ‪. 4‬‬

‫ثانيا‪ :‬هزيمة الجيوش العثمانية‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.68،69‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬اسماعيل سرهنك‪ ،‬ص ‪.235‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬موقف اوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.69‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.69‬‬
‫‪-399-‬‬
‫عززت القوات الروسية والنمساوية مواقعها ‪ ،‬واستنفرت جيوشها وأصبحت قواتهم قريبة من‬
‫بلغراد مولدافيا ولم يستطيع الصدر العظم من إبعاد العداء عن بلغراد واضطر السلطان‬
‫لعزله وعين حسن باشا بدله‪ ،‬لقد منى يوسف باشا بهزائم متتالية على يد القائدين الروسي‬
‫"سواروف"‪ ،‬والنمساوي "كوبرق"‪.‬‬
‫كان السلطان سليم الثالث حريص على استعادة القرم وتحقيق النصر على أعدائه‪ ،‬ورأى‬
‫البدء بإعادة بناء الجيش وأصدر أوامره للصدر العظم باتخاذ اللزم نحو تطوير الجيش‬
‫ومتابعة الجهود في سبيل الصلح وإرسال حملة عسكرية الى ساحة القتال‪ ،‬ورأى السلطان‬
‫دعم هذه التوجهات بعقد معاهدة صداقة مع السويد تلتزم فيها الدولة العثمانية بدفع مبالغ نقدية‬
‫سنوية محددة لمدة عشر سنوات مقابل أن تقاوم السويد روسيا من الناحية الشمالية‪ ،‬واتفقتا أيضا‬
‫على مواصلة الحرب معا ضد روسيا وأن ليقوم أي منهما بعقد معاهدة سلم مع دولة اخرى‬
‫()‬
‫دون علم الثانية ‪. 1‬‬

‫ثالثا‪ :‬موقف الدول الوروبية من هذه المعاهدات‪:‬‬


‫كانت مواقف الدول الوروبية من هذه المعاهدات متباينة فبروسيا رحبت بهذه المعاهدة وذلك‬
‫لنها كانت دائما تحث السلطان سليم الثالث على مواصلة الحرب خوفا من أن تكون هي‬
‫الخرى من فرائس روسيا‪ ،‬وفرنسا لم تؤيد عقد المعاهدة على هذا الوضع لتخدم السياسة‬
‫الفرنسية وأهدافها‪.‬‬
‫أما بريطانيا فيه كما يقول الشاعر‪:‬‬
‫يعيطيك من طرف اللسان حلوة‬
‫( ‪)2‬‬
‫ويروغ منك كما يروغ الثعلب‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬موقف اوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.71‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ دولت عثمانية‪ ،‬عبدالرحمن شرف‪ ،‬ص ‪.210،211‬‬
‫‪-400-‬‬
‫فهي وإن رضيت بالمعاهدة‪ ،‬ورغبت في بقاء الدولة العثمانية قوية‪ ،‬إل أنها لتفضل الوقوف‬
‫جنبا الى جنب مع الدولة العثمانية ضد روسيا أو النمسا‪ ،‬ولتفضل تقديم أي نوع من الدعم‪.‬‬
‫هذه المواقف الوروبية يجب أن لتستغربها‪ ،‬فهي طبيعية‪ ،‬لن علقاتهم مع الدولة العثمانية‬
‫علقات مصالح ومطامع فقط‪ ،‬وإذا سعت بعض الدول الوروبية الى بقاء الدولة العثمانية قوية‬
‫الجانب‪ ،‬فذلك ليس حبا فيها ولكنه هدف لخدمة أغراض سياسية تتعلق بتوازن القوى في القارة‬
‫الوروبية وتتعلق بالرغبة في الحفاظ على مصالحهم القتصادية سواء في داخل الدولة العثمانية‬
‫أو خارجها‪.‬‬
‫على الرغم من تأثير هذه المواقف الوروبية على التجاه العام لسياسة الدولة العثمانية‬
‫وتقدمها في المناطق الوروبية ‪ ،‬لم ييأس السلطان العثماني وكان يحدوه المل بنجاح المهمة في‬
‫حال توجيه الجيش‪ ،‬فأصدر أمره بتحريك القوات العثمانية عبر البغدان والفلق حتى وصلت‬
‫مقدمات جيشه الى نهر "رمينيك" عند حدود النمسا وهناك حدث مالم يكن في الحسبان حيث‬
‫تمكن الجيشان الروسي والنمساوي من مباغته الجيش العثماني على غفلة وانتصر عليه وسميت‬
‫()‬
‫تلك المواجهة بمعركة "يوزا" أو "رمينيك" نسبة الى النهر الذي وقعت عنده المعركة ‪. 1‬‬
‫كان لهذه المعركة آثارها السيئة على الدولة العثمانية فلم يعد هناك فرصة لتنظيم الجيش ‪،‬‬
‫فتوالت الهزائم على الدولة العثمانية وتزحزحت الى الوراء باتجاه شرق الدانوب‪ ،‬وأعطت‬
‫النمساويين الفرصة لفك حصار بلغراد وفتح الطريق لقوات الحلفاء وطرد العثمانيين من‬
‫()‬
‫أوروبا ‪. 2‬‬
‫لقد كانت الحملت الصليبية على القاليم العثمانية خلل الشهور الخير من عام ‪1789‬م من‬
‫أفضع ما شهدته المناطق الحدودية بين الطرفين ‪ ،‬ولذلك تميزت الفترة التي أعقبت هذه‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ دولت عثمانية‪ ،‬عبدالرحمن شرف ‪ ،‬ص ‪.210،211‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪-401-‬‬
‫الحملت بحالتين مختلفتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬وتتمثل في قيام نشاط دبلوماسي وحركات دينية وسياسية في الوسط الوروبية تنذر‬
‫بالخطر‪ ،‬مما جعل الدول القوية تبحث عن السلم وتنادي بإيقاف الحرب بين الدولة العثمانية‬
‫وعدوتها روسيا والنمسا‪.‬‬
‫ولحت الثورة الفرنسية في الفق وبدأت أخطارها تظهر على مختلف الصعدة في اوروبا‬
‫وأوجدت شعورا قويا عند الدول الوروبية ومعها روسيا بأن الوقت قد حان للتعاطف مع الدولة‬
‫()‬
‫العثمانية خوفا من استفحال الثورة النابليونية وهيمنة فرنسا على شؤون القارة الوروبية ‪. 1‬‬
‫والثانية‪ :‬هي ماشهدته الفترة من تطورات واستعدادات عسكرية جديدة بسبب تلك الهزائم‬
‫المتتابعة التي لحقت بالدولة العثمانية قبل وبعد معركة "بوزا" والتي أدت الى إثارة السخط‬
‫والغضب في أوساط الرعية حتى ارتفعت الصوات بتصحيح الوضاع وإقالة الصدر العظم‬
‫()‬
‫من منصبه ‪. 2‬‬
‫وتوالت الحداث واستمرت الهزائم ‪ ،‬وضعفت الدولة العثمانية ‪ ،‬ومع ظهور الثورة الفرنسية‬
‫رأت الدول الوروبية ضرورة التوصل الى معاهدة مع الدولة العثمانية لجمع الشمل الوروبي‬
‫أمام الحركة النابليونية التوسعية‪ ،‬والطماع الفرنسية التي أنستهم أطماعهم في اراضي الدولة‬
‫العثمانية كمرحلة أولى‪ ،‬ونجحت الدول الوروبية في وساطتها وتم عقد معاهدة "زشتوى‬
‫()‬
‫المشهورة" في ‪ 22‬من ذي الحجة عام ‪1205‬هـ الموافق ‪ 4‬من أغسطس ‪1791‬م ‪. 3‬‬
‫ولما تحقق لهم ذلك بقي عليهم المرحلة الثانية وهي وقف الحرب العثمانية الروسية التي‬
‫بدون تحقيق ذلك سيكون موضوع المناطق في أوروبا معرضة للخطار بسبب المغامرات‬

‫‪)(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.74‬‬


‫‪)(2‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬موقف أوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.82‬‬
‫‪-402-‬‬
‫()‬
‫النابليونية أو بسبب تفوق روسيا على الدولة العثمانية وبالتالي تهديدا لوروبا ‪. 1‬‬
‫وكان وضع الدولة العثمانية بسبب الحداث التي تعرضت لها أثرت على قوتها وعلى سير‬
‫حملتها نحو أوروبا وجعلتها في موقف ليمانع من الموافقة على أي أمر يؤدي الى السلم‬
‫وبأي شروط‪ ،‬وكان تلك الحداث مساعدة في مهمة الوسطاء‪ ،‬فتوصلوا بعد مفاوضات مع كل‬
‫من روسيا والدولة العثمانية‪ ،‬الى عقد معاهدة سلم بينها في مدينة ياش وذلك بتاريخ ‪15‬‬
‫جمادى الولى عام ‪1206‬هـ‪ ،‬الموافق التاسع من شهر يناير عام ‪1792‬م‪.‬‬
‫كان من أهم بنود هذه المعاهدة‪:‬‬
‫‪ -1‬تبادل أسرى الحرب والسماح للرعايا الذين يعيشون خارج دولتهم بسبب الزمات‬
‫السياسية ‪ ،‬بالعودة الى بلدانهم الصلية أو البقاء حسب رغباتهم‪.‬‬
‫‪ -2‬تتنازل الدولة العثمانية لروسيا عن ميناء أزوف وبلد القرم وشبه جزيرة طمان وبلد‬
‫القويان وبساربيا والقاليم الواقعة بين نهري بجد والدينستر‪ ،‬ويكون النهر الخير حدا فاصلً‬
‫بين الدولتين‪.‬‬
‫‪ -3‬ترجعُ روسيا للدولة العثمانية مناطق‪ :‬البغدان واكرمان وكيلي واسماعيل مقابل أن تقوم‬
‫الدولة بإعفاء رعايا البغدان من الضرائب وعدم مطالبة روسيا بتعويضات حرب أو ماشابه‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -4‬يمنع الباب العالي رعايا دولته من الغارات على محافظتي تفليس وكاتالينا الروسيتين ‪،‬‬
‫وعلى السفن الروسية في البحر المتوسط‪ ،‬وعليه القيام بدفع تعويضات لي اضرار تحدث بعد‬
‫()‬
‫ذلك من قبل رعايا الدولة العثمانية ‪. 2‬‬
‫وحققت بذلك المعاهدة وقف الحرب الروسية العثمانية‪ ،‬وحققت بذلك أهداف الدول الوروبية‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.83‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬موقف اوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪-403-‬‬
‫وأهمها إيقاف الحرب في زمن كانت أوروبا تعيش فيه انطلق الثورة النابليونية تخشى تطورها‬
‫على أنظمة الحكم فيها‪ ،‬وهكذا ضاعت آمال الدولة العثمانية وضاعت معها تلك المناطق التي‬
‫كانت تحت نفوذها حتى أصبح البحر السود تحت رحمة العلم الروسي وأصبحت موائنه‬
‫العثمانية مثل أزوف وأوديسا وسيفاستبول قواعد للسطول الروسي وأصبحت مصبات النهار‬
‫العظيمة مثل الدانوب وبج والدنيستر وبروت وحركتها الملحية تحت تصرف روسيا‪.‬‬
‫وهكذا قلصت هذه المعاهدة حدود الدولة العثمانية في أوروبا وأعطت في نفس الوقت الصفة‬
‫التنازلية الشرعية من مكتسباتها لعدائها‪.‬‬
‫وهكذا خطت الدول الوروبية خطوات ساهمت في القضاء على الكيان العثماني في أوروبا‬
‫( ‪)1‬‬
‫التي نادى بها الساسة والمفكرون الوروبيون ضد‬ ‫وكأنها بذلك تحقق المشروعات الكثيرة‬
‫الدولة العثمانية منذ قرون طويلة‪ ،‬وكانت القوى الصليبية والقوى الستعمارية والقوى اليهودية‬
‫تعمل في مثابرة وتنظيم نحو الهدف المنشود وكأنها‪( :‬شركة عالمية يتبادل فيها المؤسسون‬
‫الوروبيون النظرات الشذراء ‪ ،‬وقد يختلفون معا ولكنهم متفقون على آل عثمان‪ ،‬وكل منهم‬
‫()‬
‫متحفز للنهش والقضاء والبتلع) ‪. 2‬‬
‫وإن كانت معاهدة ياش قد أنهت المواجهات الروسية العثمانية لفترة مؤقتة إل أنها في حقيقة‬
‫()‬
‫المر بداية لنهاية أكثر فاجعة من الولى ‪. 3‬‬

‫رابعا‪ :‬الصلح الداخلي والمعارضة‪:‬‬


‫وبعد هدوء القتال انصرف سليم الثالث للصلحات الداخلية فبدأ بتنظيم الجيش للتخلص من‬
‫النكشارية الذين أصبحوا سبب كل فتنة واتجه نحو تقليد أوروبا التي تجاوزتهم كثيرا فأهتم‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.86‬‬


‫‪ )(2‬المسألة الشرقية للشاذلي‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬موقف اوروبا من الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫‪-404-‬‬
‫بصناعة السفن والسلحة خاصة المدافع على الطريقة الفرنسية‪ ،‬وشهد عهده بدايات التعليم‬
‫العسكري الغربي‪.‬‬
‫ونظرا لقدام السلطان سليم على الصلحات وإنشاء فرقة النظام الجديد‪ ،‬فقد ثار الجنود‬
‫النكشارية وساندهم العيان ضد النظام الجديد‪ ،‬ورغم ان السلطان أصدر أمرا بإلغاء النظام‬
‫( ‪)1‬‬
‫وتولي بعده ابن عمه‬ ‫العسكري الجديد‪ ،‬إل أن الثوار قرروا عزل الخليفة وخلعه من الحكم‬
‫مصطفى الرابع الحكم مرشح المحافظين الذي اصبح دمية في أيدي من عينوه على السلطنة ثم‬
‫صدرت مراسيم سلطانية ألغت النظام الجديد وكل المدارس والمؤسسات والصلحيات‬
‫()‬
‫المرتبطة به‪ ،‬ورغم ذلك فقد حدثت مشاكل في عهده أدت الى الطاحة به ‪. 2‬‬

‫خامسا‪ :‬الغزو الفرنسي الصليبي على الدولة العثمانية في مصر (‪1213‬هـ‪1798/‬م)‪:‬‬


‫انتهز أعداء السلم تدهور الدولة العثمانية فأستغلت فرنسا ذلك الضعف وأرسلت حملتها‬
‫المشهورة بقيادة القائد المشهور نابليون بونابرت‪ ،‬كانت تلك الحملة صدى للثورة الفرنسية‬
‫ومتأثرة بافكارها الثورية‪ .‬وقد أصطحب نابليون معه مجموعة كبيرة من العلماء الفرنسيين في‬
‫حملته هذه بلغ عددهم (‪ )122‬عالما وهو عدد يزيد عن اضعاف العدد الذي أعتاد أن يصحبه‬
‫في حملته الوروبية‪ ،‬وقد تأثر فكر هؤلء العلماء في الغالب بالدور الفرنسي الذي يسعى‬
‫لصلح الكنيسة الكاثوليكية ويعادي حركات الصلح البروتستانتية منذ بداية القرن السادس‬
‫عشر‪ ،‬ثم تأثروا في الفترة السابقة لقدومهم الى الشرق بأفكار روسو وفولتير ومونتسكيو أبرز‬
‫مفكري الثورة الفرنسية والمعروفين بانتمائهم للمحافل الماسونية اليهودية من خلل مارفعوه من‬
‫شعارات (الحرية ‪ ،‬الخاء‪ ،‬المساواة)‪ ،‬وهي أفكار واتجاهات تعادي في مجموعها الدين‬
‫والفكار المستمدة منه بشكل عام وبالتالي فإنه من السذاجة أن نقبل مايروجه كتّاب التاريخ من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.127‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة لسياسة محمد علي التوسعية‪ ،‬د‪ .‬سليمان غانم‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪-405-‬‬
‫أن الهدف الرئيسي لهذه الحملة كان قاصرا على ضرب المصالح البريطانية في الشرق فمثل‬
‫()‬
‫هذا الهدف ل يحتاج الى هذا الحشد الهائل من العلماء ‪ ، 1‬فكان الى جانبه هدف إقامة‬
‫امبراطورية فرنسية في الشرق إرضاء لطموحات الطبقة البرجوازية فيها والتي تسللت الى‬
‫الحكم في اعقاب الثورة‪ ،‬وإرضاء للكنيسة التي وإن كانت الثورة قد وجهت لها بعض الضربات‬
‫بشكل أضعف دورها داخل فرنسا عن ذي قبل إل أنها ظلت لها تأثيرها الواسع والفعال على‬
‫كثيرين من أبناء الشعب الفرنسي‪ ،‬فضلً عن الدور الذي كانت تقوم به في تدعيم النفوذ‬
‫الفرنسي في المستعمرات وكذلك في الشرق السلمي‪ .‬ومن هنا كانت أهداف الحملة خليطا من‬
‫أهداف اقتصادية وتوسعية وسياسية ودينية ‪ ،‬أو بالحرى غزو عسكري وفكري‪ ،‬ولهذا‬
‫()‬
‫اصطحب نابليون معه في حملته هذا الحشد الهائل من العلماء ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ الدولة العثمانية ص ‪.141،142‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.141،142‬‬
‫‪-406-‬‬
‫المبحث السابع‬
‫جذور الحملة الفرنسية الصليبية‬

‫لشك أن هؤلء المستعمرين كانوا عاملين بطبيعة واحوال المسلمين في مصر من خلل‬
‫وسائلهم المتعددة‪ ،‬منها ماقام به الرحالة الفرنسي (الجواسيس) الذي أكثروا من رحلتهم خلل‬
‫القرنيين السابع عشر والثامن عشر‪ ،‬وكانوا على صلة بالعناصر القبطية المسيحية واليهودية‬
‫وبعض عناصر المماليك في مصر‪ ،‬ودرسوا كافة الجوانب السياسية‪ ،‬والقتصادية والفكرية‬
‫والعسكرية بأدق التفاصيل ومما يدلنا على ذلك حرصهم الشديد في ترويج أفكارهم فترة بقاء‬
‫الحملة ‪ ،‬وحتى بعد رحيلها وزرعهم للمحافل الماسونية اليهودية في مصر التي أصبحت على‬
‫صلة وثيقة بمحمد علي باشا فيما بعد‪ ،‬لقد كانت خطوات الحملة الفرنسية مدروسة بعناية شديدة‬
‫قبل القدوم ولم تكن مفاجئة وحتى اكتشاف حجر الرشيد الثري وفك رموز اللغة الهيروغليفية‬
‫للمصريين القدماء فإنه إذا كان مفاجئة ‪-‬وهو أمر مازال يحتاج الى بحث‪ -‬فإن العناية لهذا‬
‫الحدث والترويج له وماتبعه من فك رموز لغة الفراعنة واستخدامه كان أمرا مدروسا بعناية‬
‫كذلك‪ ،‬وكان يدور في إطار الهداف الكلية لهذه الحملة المعلن منها وغير المعلن‪ .‬ويشير‬
‫المؤرخ المسلم عبدالرحمن الجبرتي الذي عاصر هذه الحملة الى هذه المور في معرض حديثه‬
‫عن المعهد العلمي الذي انشأه الفرنسيون في حارة "الناصرية" فيقول‪( :‬وإذا حضر إليهم بعض‬
‫المسلمين ممن يريدوا الفرجة ليمنعونه الدخول الى أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك‬
‫وإظهار السرور بمجيئه إليهم خصوصا إذا رأو فيه قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر في‬
‫المعارف والقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير المم وقصص النبياء‬

‫‪-407-‬‬
‫()‬
‫وبتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث أممهم مما يحير الفكار) ‪. 1‬‬

‫أولً ‪:‬سر قوة المسلمين‪:‬‬


‫كان الفرنسيون ‪-‬والغربيون بصفة عامة‪ -‬يدركون أن السر في قوة المسلمين يتمثل في‬
‫جانبين هامين الول هو تمسكه بالدين والثاني في وحدة بلدهم في ظل حكومة اسلمية مطاعة‬
‫مهابة‪ ،‬وقد أكد رجال الحملة الفرنسية إدراكهم لهذين العاملين حين أعلن نابليون وبعض‬
‫( ‪)2‬‬
‫اعتناقهم للسلم واحترام تعاليمه وزواجهم من مسلمات كي يتخذوا من ذلك ذريعة‬ ‫رجاله‬
‫للتقرب للعوام أملً في الستقرار‪ ،‬وقد بدأ ذلك واضحا في المنشور الول الذي أعلنه نابليون‬
‫على شعب مصر حيث ذكر‪( :‬أيها المصريون قد قيل لكم أنني مانزلت لهذا الطرف إل بقصد‬
‫إزالة دينكم فذلك كذب صريح فل تصدقوه وقولوا للمغترين أنني ماقصدت إليكم إل لخلص‬
‫حقكم من يد الظالمين‪ ،‬وأنني أكثر من المماليك أعبد ال سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن‬
‫()‬
‫العظيم) ‪. 3‬‬
‫كما سعى رجال الحملة الى زعزعة الدين في نفوس الشيوخ والعلماء المسلمين بعرض‬
‫نماذج من الحضارة الغربية عليهم‪ ،‬أما العامل الثاني وهو الرامي الى تمزيق وحدتهم فقد بدا‬
‫واضحا في سعي الفرنسيين لتجنيد قوة مسلحة من مسيحي مصر قادها "المعلم يعقوب" لمساعدة‬
‫الحملة في ضرب الثورة الشعبية التي قادها العلماء ‪ ،‬والوقوف أمام قوات الخلفة العثمانية‬
‫()‬
‫السلمية ‪. 4‬‬
‫ثانيا‪ :‬تفجير الجيوب الداخلية‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬عجائب الثار في التراجم والخبار (‪.)3/120‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الصراع الفكري بين أجيال العصور الوسطى والعصر الحديث للعدوي‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.144‬‬
‫‪-408-‬‬
‫نجح الفرنسيون في استثارة العناصر القبطية المسيحية على معاونة الحملة بمختلف‬
‫الوسائل ‪ ،‬واعتبر بعض الكتاب المسيحيين أن الفائدة التي جنتها مصر خلل سني الحملة‬
‫الثلث أكثر من القرون الطويلة للحكم العثماني وقد أشاد البعض من هؤلء العملء بدور‬
‫الخسة والنذالة الذي قام به المعلم يعقوب في تعاونه مع الفرنسيين ضد العثمانيين واعتبروه‬
‫"تعاونا يستحق بموجبه أن يقام له تمثال من ذهب في أكبر ميادين القاهرة ويكتب عليه أنه أول‬
‫()‬
‫من نادى باستقلل مصر في العصر الحديث" ‪ . 1‬كان هذا الموقف من النصارى معاديا لرغبة‬
‫الغلبية المسلمة بنفس القدر مايمكن ادراكه من اتجاه أغلب المفكرين النصارى العدائي للغلبية‬
‫المسلمة في مصر المعاصرة والذي يبدو جليا في تأييدهم لخيانة بلدهم طالما هي ضد الوجود‬
‫السلمي‪ ،‬وحتى بمفهوم الوحدة الوطنية الذين يسعون للتمسح به فإن "المعلم يعقوب" يعد من‬
‫أبرز الذين خانوا بلدهم‪ .‬وعلى أية حال كانت هذه الحادثة بداية لما عرف في التاريخ‬
‫()‬
‫المصري باسم الفتنة الطائفية ‪. 2‬‬
‫لقد قامت القليات غير السلمية من النصارى واليونان بمعاونة الحتلل الفرنسي وقد علق‬
‫على ذلك الستاذ الدكتور عبدالعزيز الشناوي ‪( :‬أسرفت بعض الطوائف غير السلمية في‬
‫مصر في تأييد الفرنسيين اسرافا وصل الى حد تكوين فرقة عسكرية من ابناء هذه الطوائف‪.‬‬
‫وقام الضباط والجنود الفرنسيون بتدريبهم على النظم العسكرية الوروبية وتزويدهم بالسلحة‬
‫الحديثة‪ .‬ثم ألحقت هذه الفرق بجيش الحتلل الفرنسي لسد النقص في عدده‪ ،‬نتيجة المعارك‬
‫التي خاضها في مصر والشام وإخماد الثورات الشعبية‪ ،‬وفتك الطاعون وغيره من المراض‬
‫الوبائية بالجنود الفرنسيين وقد نظر الشعب المصري الى هذه الفرق على أنها أدوات لدعم‬
‫الحتلل الفرنسي لمصر‪ ،‬وتزعم هذه الفرق المعلم "يعقوب حنا" إذ كون فرقا عسكرية من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الفكر المصري الحديث‪ ،‬د‪ .‬لويس عوض (‪.)188-1/180‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.144‬‬
‫‪-409-‬‬
‫القباط‪ ،‬وكانوا يرتدون زيا مشابها لزي الجنود الفرنسيين ‪ ،‬وقلده "كليبير" قيادة هذه الفرقة‬
‫منحه رتبة أغا ثم رقى على عهد "مينو" الى رتبة لواء (جنرال) ومنحه رسميا لقب القائد العام‬
‫()‬
‫للفيالق القبطية بالجيش الفرنسي) ‪. 1‬‬
‫ورغم المقاومة الشديدة والحركة الجهادية بقيادة علماء الزهر‪ ،‬فقد استطاعت القوات‬
‫الفرنسية بمعاونة "المعلم يعقوب" المصري من احتلل مصر‪ ،‬وارتكبت من الفظائع ما يستلزم‬
‫أن يفرد له صفحات من تاريخ هذه الفترة ‪ ،‬لترى الجيال كم من القرى أحرقت‪ ،‬وكم الدور‬
‫والموال قد سرقت‪ ،‬وكم أعراض النساء الحرائر انتهكت وكم من السر قد شردت على يد‬
‫فرنسا زعيمة الحرية والخاء والمساواة والنسانية‪.‬‬
‫وبعد احتلل القاهرة واصل نابليون احتلله لبقية مدن مصر‪" ،‬وغزة" والرملة ‪ ،‬ويافا وقد‬
‫حاول احتلل عكا‪ ،‬ولكن يقظة أهلها بقيادة أحمد باشا الجزار حالت بين نابليون الصليبي وبين‬
‫مايشتهي‪.‬‬
‫وحينما وصل نابليون الصليبي الى عكا وأصدر بيانا الى يهود العالم مُطلقا عليهم اسم‬
‫"الورثة الشرعيين لفلسطين" لقامة دولة يهودية على ارض فلسطين‪ .‬أل يكشف ذلك عن علقة‬
‫وثيقة بين نابليون الذي تستر بالسلم‪ ،‬واليهود الذين خططوا وقاموا بما تسمى الثورة‬
‫()‬
‫الفرنسية ‪ 2‬؟؟‬

‫ثالثا‪ :‬السطان سليم الثالث يعلن الجهاد ضد فرنسا‪:‬‬


‫كان الهجوم الفرنسي على مصر يعتبر اول هجوم صليبي على ولية عربية من وليات‬
‫الدولة العثمانية في التاريخ الحديث ‪ ،‬وعلى الفور أعلن السلطان سليم الثالث الجهاد على‬
‫الفرنسيين الصليبيين (‪1213‬هـ‪1798/‬م) واستجاب لدعوته المسلمون في الحجاز‪ ،‬والشام‪،‬‬

‫‪ )(1‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪ )2/938‬ومابعدها‪.‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫‪-410-‬‬
‫وشمال أفريقيا‪ .‬فمن الحجاز خرجت جموع من المسلمين بقيادة محمد الكيلني ‪ ،‬يقول الجبرتي‬
‫في حوادث (شهر شعبان عام ‪1213‬هـ‪ 8/‬يناير الى ‪ 5‬فبراير عام ‪1799‬م)‪( :‬لما وردت أخبار‬
‫الفرنسيين الى الحجاز وأنهم ملكوا الديار المصرية‪ ،‬انزعج أهل الحجاز وضجوا بالحرم وأن‬
‫هذا الشيخ الكيلني صار يعظ الناس ويدعوهم الى الجهاد‪ ،‬ويحرضهم على نصرة الحق والدين‬
‫‪ ،‬وفاتعظ جملة من الناس وبذلوا أموالهم وأنفسهم واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين وركبوا‬
‫البحر الى القيصر مع ما أنظم إليهم من أهل ينبع وخلفه وكان مسلموا الحجاز خصوما أشد‬
‫للجنرال "ديزيه" الذي عهد إليه "بونابرت" غزو الصعيد والقضاء على قوات الجهاد بقيادة "مراد‬
‫بك" ‪ ،‬وقد صمموا على الظفر بإحدى الحسنيين‪ :‬الستشهاد أو النتصار واتخذوا شعارا لهم‬
‫الية القرآنية‪ { :‬انفروا خفافا وثقالً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل ال ذلكم خير لكم إن‬
‫كنتم تعلمون} (سورة البقرة‪ :‬آية ‪ )41‬وتكونت منهم ومن مسلمي الوجه القبلي في "مصر"‬
‫وخاصة عرب "الهوارة"‪ ،‬وأهالي النوبة‪ ،‬وقوات "مراد بك" جبهة حربية اسلمية في مواجهة‬
‫جبهة حربية نصرانية كانت تتألف من القوات الفرنسية‪ ،‬النهرية والبرية‪ ،‬والفيالق القبطية بقيادة‬
‫()‬
‫المعلم "يعقوب يوحنا" في الجيش الفرنسي ‪. 1‬‬

‫رابعا‪ :‬استجابة المهدي الدرناوي الليبي لنداء الجهاد ضد فرنسا‪:‬‬


‫حركته الغيرة السلمية والحمية الدينية فقام بدعوة مسلمي شرق ليبيا الى الجهاد في سبيل‬
‫ال تعالى‪ ،‬فأقبل عليه الناس أفواجا مثل قبائل أولد علي‪ ،‬والهنادي وغيرهم‪ ،‬كما أنضم إليه‬
‫سكان القرى التي مر بها وسار بهذه الجموع حتى بلغ دمنهور (‪1214‬هـ‪ /‬ابريل عام ‪1799‬م)‬
‫وكانت تعسكر بها حامية فرنسية أبادها المهدي عن بكرة أبيها وكان لنتصار الدرناوي الليبي‬
‫على الفرنسيين الكفار صدى كبير‪ ،‬مما دفع حاكم السكندرية العسكري الفرنسي الجنرال‬
‫"مارمون" الذي أرسل نجدة مزودة بالمدفعية لتعقب المهدي ولكنها هزمت أيضا؛ فأرسل قوات‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية (‪.)2/39‬‬


‫‪-411-‬‬
‫أخرى من رشيد‪ ،‬ودارت معركة "سنهور" ‪ ،‬وكان من أشد المعارك هولً‪ ،‬ومن أعنف الوقائع‬
‫التي واجهها الفرنسيون في "مصر"‪ ،‬واستمر القتال سبع ساعات‪ ،‬انتهت بانتصار المهدي‬
‫()‬
‫الدرناوي وانسحاب الفرنسيين الى الرحمانية ‪ . 1‬وقيل أن المهدي الدرناوي ادعى المهدية‪.‬‬
‫وقد علق على ذلك أحد المؤرخين بقوله‪:‬‬
‫"واعترف نابليون بأهمية العازل الديني بين الفرنسيين والشعب المسلم وخلص الى رأي أن‬
‫الحرب ضد المسلمين تعتبر حرب الستنزاف ضد الفرنسيين ولم يمكن التغلب عليها‪ .‬وقال‬
‫()‬
‫آخر ‪ :‬إن المصريين وصفوا "بونابرت" بأنه نصراني ابن نصراني" ‪. 2‬‬
‫وبرغم كل وسائل التودد فقد أبدى المصريون عدم تقبلهم للفرنسيين ‪ ،‬وعبر الجبرتي عن‬
‫هذه المشاعر حين اعتبر سني الحتلل الفرنسي لمصر "أولي سني الملحم العظيمة والحوادث‬
‫الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة وتضاعف الشرور وترادف المور وتوالي المحن‬
‫واختلف الزمن وانعكاس المطبوع وانقلب الموضوع وتتابع الهوال واختلف الحوال وفساد‬
‫( ‪)3‬‬
‫التدبير وعموم الخراب وتواتر السباب {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}‬
‫(سورة هود‪ ،‬آية ‪.)11‬‬
‫وقد ذكر الستاذ الدكتور الشناوي جملة حقائق تتعلق بالحملة الفرنسية على مصر‪:‬‬
‫• أن الشعب المصري بقيادة علماء الزهر ينظرون الى الغزوة الفرنسية على انها غزوة‬
‫صليبية تستهدف دينهم‪ ،‬وتستهد الخلفة السلمية‪.‬‬
‫• أن ماتسمى بثورة القاهرة الولى والثورة الثانية‪ ،‬لم تكن في الحقيقة إل حركة جهادية‬
‫تستهدف إنهاء الحكم الفرنسي النصراني لمصر‪ ،‬وإعادة "مصر " الى حظيرة الخلفة العثمانية‬
‫السلمية‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.90‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.90‬‬
‫‪ )(3‬عجائب الثار (‪.)3/1‬‬
‫‪-412-‬‬
‫• أن العثمانيين والمماليك كانوا مسلمين‪ ،‬وأن مصر حينما كان يحمها المماليك ‪ ،‬إنما كانوا‬
‫يحكمونها باسم السلطان العثماني المسلم‪.‬‬
‫• أن سكان الوليات العربية لم ينظروا الى السلطان العثماني على أنه سلطان المسلمين‬
‫()‬
‫فحسب بل نظروا إليه على انه خليفة المسلمين ‪. 1‬‬

‫خامسا‪ :‬النجليز وأطماعهم في مصر‪:‬‬


‫كانت بريطانيا تتابع الطماع الفرنسية في مصر وغيرها بدقة متناهية وعندما تحركت الحملة‬
‫الفرنسية ووصلت الى مصر أرسلت أسطولً بقيادة الميرال نيسلون لتعقب الحملة الفرنسية‪،‬‬
‫وفاجأ نيسلون السطول الفرنسي وهو رابض في خليج أبي قير بعد أن أنزل قوات الحملة في‬
‫السكندرية‪ ،‬وأشتبك معه في معركة ادت الى إغراقه في أول أغسطس ‪1718‬م ‪ ،‬وقد كان‬
‫لمعركة ابي قير البحرية نتائج خطيرة من أهمها‪:‬‬
‫‪.1‬كبدت البحرية الفرنسية خسارة جسيمة قضت على كل أمل في إمكان إحيائها‪ ،‬فظل النجليز‬
‫أصحاب السيطرة في البحار‪.‬‬
‫‪.2‬فرض النجليز حصارا شديدا على الشواطئ المصرية المطلة على البحر المتوسط حتى‬
‫أصبح من المتعذر تماما على فرنسا أن ترسل النجدات الى جيشها في مصر‪.‬‬
‫‪.3‬اضطر الفرنسيون في مصر الى العتماد اعتمادا كليا في تدبير شؤونهم وسد حاجاتهم في‬
‫هذه البلد على مواردها الداخلية وحدها‪ ،‬وكان لذلك أكبر الثر في اتباع بونابرت لما عُرف‬
‫"بالسياسة السلمية الوطنية" التي كان هدفها توفير اسباب الحياة للفرنسيين وترويض المصريين‬
‫بشتى الساليب على قبول حكم اجنبي عنهم ولقد اعتمدت السياسة الفرنسية ثلثة دعائم‪:‬‬
‫‪ -1‬التظاهر باحترام الدين السلمي والمحافظة على تقاليد أهل البلد وعاداتهم‪.‬‬
‫‪ -2‬محاولة انتزاع المصريين من أحضان الخلفة العثمانية ‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها ( ‪.)2/943‬‬


‫‪-413-‬‬
‫()‬
‫‪ -3‬إنشاء حكومة وطنية من "عقلء" وأفاضل المصريين ‪. 1‬‬
‫غير أن هذه السياسة فشلت فشلً ذريعا في تحقيق أهداف بونابرت‪ ،‬والدليل على ذلك تلك‬
‫المقاومة السلمية الشديدة التي انطلقت تقاتل جنوده إينما ساروا أو حلوا في الدلتا والصعيد‪ ،‬ثم‬
‫الثورة التي قام بها المسلمون في القاهرة الولى (حركة الجهاد الولى)‪.‬‬
‫وكان بونابرت وقت اندلع المعركة خارج القاهرة ‪ ،‬فعاد إليها مسرعا ونصب المدافع على‬
‫تلل المقطم لتعاون مدافع القلعة في إطلق القنابل على حي الزهر مركز حركة الجهاد‬
‫وشعلتها المتأججة‪.‬‬
‫ويؤخذ من رواية الجبرتي ومن رواية الفرنسيين أنفسهم أنه في اليوم الثاني للثورة (‪22‬‬
‫أكتوبر) حين شرع الثوار في مهاجمة مقر القيادة الفرنسية العامة بحي الزبكية كان الجنود‬
‫الفرنسيون يهاجمون الجامع الزهر ثم دخلوه وهم راكبون الخيول وسلبوا ماكان فيه من الودائع‬
‫وألقوا الكتب والمصاحف على الرض وداسوها بأرجلهم ونعالهم‪ ،‬وظل الجنود الفرنسيون‬
‫يحتلون الزهر حتى ذهب وفد من مشايخه الى بونابرت يطلبون منه الجلء عنه فكان ذلك‬
‫نهاية للثورة التي استمرت ثلثة أيام (‪ 23-21‬اكتوبر ‪1798‬م)‪ .‬وانتقم الفرنسيون من المسلمين‬
‫في القاهرة وضواحيها ابشع انتقام‪ ،‬فنهبوا ديار حي الزهر والحياء المجاورة وأعدموا صغار‬
‫المشايخ الذين حرضوا على الثورة وصادروا ممتلكاتهم‪ ،‬واحاطوا القاهرة وضواحيها بالحصون‬
‫()‬
‫والقلع والمعاقل‪ ،‬وهدموا في سبيل ذلك الشيء الكثير من المنازل والقصور ‪. 2‬‬

‫سادسا‪ :‬العثمانيون وسياستهم الدولية‪:‬‬


‫كانت هزيمة السطول الفرنسي في موقعة ابي قير البحرية قد شجعت الباب العالي على‬
‫مهاجمة الحملة الفرنسية في مصر‪ ،‬فأعلن الحرب على فرنسا وأصدر أوامره بإلقاء القبض‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي ‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪ )(2‬عجائب الثار (‪.)3/18‬‬
‫‪-414-‬‬
‫على القائم بأعمال السفارة الفرنسية وجميع رعايا فرنسا في العاصمة العثمانية وإلقائهم في‬
‫السجون‪ .‬ولم تلبث وزارة الخارجية العثمانية أن دخلت مع انجلترا من جهة ومع روسيا من‬
‫جهة اخرى في مفاوضات أسفرت عن عقد محالفة دفاعية هجومية بين روسيا وتركيا (‪25‬‬
‫ديسمبر ‪1798‬م) وعن عقد محالفة اخرى بين إنجلتر وتركيا (‪ 5‬يناير ‪1799‬م) ‪ ،‬وكان‬
‫العثمانيون يقومون في بلد الشام باستعدادات جهادية ضد الحملة الفرنسية في مصر‪ ،‬مما جعل‬
‫بونابرت يتخذ قرارا بأن يسق أعداءه في شن هجوم عليهم قبل أن يهاجموه‪ ،‬فكانت حملته على‬
‫بلد الشام (فبراير ‪ -‬يونيو ‪1799‬م) التي تمكنت من ضرب القوات العثمانية المتجمعة هناك‪،‬‬
‫إل أنها لم تستطع أن تحطم قوات أحمد باشا الجزار بسبب فشلها في الستيلء على عكا‪ .‬وبعد‬
‫عودة الحملة الى مصر انتصر بونابرت في معركة أبو قير البرية ‪ 25‬يوليو ‪1799‬م على قوة‬
‫عثمانية اتخذت طريقها في رودس الى مصر‪ ،‬وكان من أهم نتائج هذه الموقعة حصول‬
‫بونابرت من القائد العثماني مصطفى باشا الذي وقع في السر على معلومات تفيد بأن حربا‬
‫عامة في أوروبا قد أندلعت ضد فرنسا‪ ،‬فغادر بونابرت مصر سرا الى بلده تاركا قيادة الحملة‬
‫()‬
‫الى الجنرال كليبير ‪. 1‬‬
‫وعلى العموم فبعد رحيل بونابرت الى فرنسا أقبل كليبر على تصريف المور بكل همة‪،‬‬
‫فأعد تنظيم الحكومة وقسم القطر المصري الى ثمانية أقاليم إدارية‪ ،‬وأبقى الدواوين التي أنشأها‬
‫بونابرت في القاليم‪ ،‬كما نظم شؤون تحصيل الضرائب وعني بضبط حسابات المديريات‬
‫المختلفة الى جانب عنايته بسائر فروع الدارة والهتمام بنشاط ديزيه العسكري في الصعيد إل‬
‫أن الضغوطات المطالبة بالعودة الى فرنسا أثرت على كليبير وبادر بالكتابة الى الصدر العظم‬
‫في ‪ 17‬سبتمبر ‪1799‬م ينفي رغبة فرنسا في انتزاع مصر من تركيا‪ ،‬ويذكر السباب التي‬
‫جعلت فرنسا ترسل حملتها الى مصر وهي محاولة إلقاء الرعب في قلوب النجليز وتهديد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬د‪.‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.211‬‬


‫‪-415-‬‬
‫ممتلكاتهم في الهند وإرغامهم على قبول الصلح مع فرنسا‪ ،‬بالضافة الى النتقام مما لحق‬
‫بالفرنسيين من أذى على أيدي المماليك‪ ،‬وتخليص مصر من سيطرة البكوات وإرجاعها الى‬
‫تركيا‪ ،‬ثم طلب كليبير من الصدر العظم فتح باب المفاوضات من أجل جلء الفرنسيين عن‬
‫()‬
‫مصر ‪ . 1‬وقد جرت هذه المفاوضات بالفعل في مدينة العريش وأسفرت عما يسمى باتفاقية‬
‫العريش (‪ 24‬يناير ‪1800‬م) التي نصت على ‪:‬‬
‫‪.1‬جلء الفرنسيين عن مصر بكامل أسلحتهم وعتادهم ‪ ،‬وعودتهم الى فرنسا‪.‬‬
‫‪.2‬هدنة ثلثة شهور قد تطول مدتها إذا لزم المر‪ ،‬ويتم خللها نقل الحملة‪.‬‬
‫‪.3‬الحصول من الباب العالي أو حلفائه ‪ -‬أي النجليز وروسيا‪ -‬على بلده على أن تتعهد‬
‫تركيا وحلفاؤها بعدم التعرض لهذا الجيش بأي أذى‪.‬‬
‫غير أن الحكومة البريطانية عندما بلغتها أنباء مفاوضات العريش كانت قد أتخذت موقفا من‬
‫شأنه تعطيل إتفاقية العريش عن إبرامها‪ ،‬إذ كانت تخشى من أن يعود جيش فرنسا المحاصر في‬
‫مصر الى ميادين القتال في أوروبا‪ ،‬فترجح كفة الجيوش الفرنسية ويختل ميزان الموقف‬
‫العسكري في القارة‪ .‬ولما كان من المعتقد في ضوء رسائل الضباط والجنود الفرنسيين الى‬
‫ذويهم في فرنسا‪ ،‬والتي وقعت في ايدي رجال البحرية البريطانية أن الحملة الفرنسية تمضي‬
‫ببطء داخل الراضي المصرية فقد فضلت حكومة لندن أن يبقى الفرنسيون في مصر أو يسلموا‬
‫أنفسهم كأسرى حرب‪ .‬ولذلك أصدرت في ‪ 15‬ديسمبر ‪1799‬م أوامر صريحة الى اللورد كيث‬
‫القائد العام للسطول البريطاني في البحر المتوسط برفض أي اتفاق أو معاهدة بشأن الجلء‬
‫عن مصر‪ ،‬طالما كان هذا التفاق ل ينص على ضرورة أن يسلّم الفرنسيون أنفسهم كأسرى‬
‫حرب تسليما مطلقا دون قيد أو شرط ‪ ،‬فأعد كيث رسالة بهذا المعنى الى كليبير وصلته في‬
‫أوائل مارس ‪1800‬م‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬د‪.‬اسماعيل ياغي ‪ ،‬ص ‪.212‬‬


‫‪-416-‬‬
‫وأمام هذا التحول المفاجئ لم يجد كليبير مفرا من وقف عملية الجلء التي كان قد بدأها‬
‫تنفيذا لتفاقية العريش‪ ،‬ثم أسرع في صبيحة يوم ‪ 20‬مارس ‪1800‬م بالزحف على رأس جيشه‬
‫لوقف تقدم العثمانيين الذين وصلت طلئعهم الى المطرية على مسافة ساعتين من القاهرة‪،‬‬
‫فوقعت معركة (عين شمس) التي امتد ميدانها من المطرية حتى جهات الصالحية‪ ،‬وهزم‬
‫الفرنسيون فيها العثمانيون هزيمة شديدة‪ .‬وفي أثناء معركة هليوبوليس كان فريق من جيش‬
‫الصدر العظم وبعض عناصر المماليك قد تسللوا الى داخل القاهرة وأثاروا أهلها على‬
‫الفرنسيين‪ ،‬فكانت ثورة القاهرة الثانية التي استمرت مدة شهر تقريبا من ‪ 20‬مارس الى ‪20‬‬
‫()‬
‫أبريل سنة ‪1800‬م ‪. 1‬‬
‫ولم يستطيع كليبر إخماد الثورة إل بعد إلتجائه الى العنف‪ ،‬فدك القاهرة بالمدافع من كل‬
‫جانب‪ ،‬وشدد الضرب على حي بولق حيث تركزت الثورة فاندلعت ألسنة النيران في كل مكان‬
‫منه‪ ،‬والتهمت الحرائق عددا كبيرا من الوكائل والخانات‪ ،‬فلم يجد سكان بولق مفرا من التسليم‪،‬‬
‫وتلهم سكان الحياء الخرى‪ ،‬وتولى مشايخ الزهر الوساطة وأخذوا من كليبر العفو الشامل‬
‫والمان‪ ،‬ولكنه مالبث أن غدر بالمسلمين بعد أن خمدت الثورة‪ ،‬وكان اقتصاصه منهم رهيبا‬
‫شديدا فأعدم بعضهم وفرض غرامات فادحة على كثير من العلماء والعيان‪ ،‬كما فرض‬
‫()‬
‫المغارم على أهل القاهرة جيمعا‪ ،‬ولم يستثني منهم الطبقات الشعبية الكادحة ‪ ، 2‬وعهد كليبر الى‬
‫المعلم "يعقوب" أن يفعل بالمسلمين مايشاء‪ ،‬ومما يذكر أن بطريرك القباط لم يقر يعقوب على‬
‫تصرفاته‪ ،‬وكثير مابذل له النصح بالعدول عن خطته‪ ،‬ولكن يعقوب كان يغلظ له القول وكان‬
‫()‬
‫يدخل الكنيسة راكبا جواده ورافعا سلحه‪ ،‬ولم يزدد إل إمعانا في تأييد الفرنسيين ‪. 3‬‬
‫ولم يمض على إخماد ثورة القاهرة إل شهرين حتى أغتيل كليبر في ‪ 24‬يوليو ‪1800‬م‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬ص ‪.214‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬ص ‪.214،215‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪-417-‬‬
‫بطعنة قاتلة من أحد طلبة الزهر الشاميين‪ ،‬وهو سليمان الحلبي‪ ،‬ومن المعتقد أن السلطات‬
‫العثمانية كانت لها يد في مصرع كليبر وفي ‪ 17‬يونيو أحتفل الجيش الفرنسي احتفالً رهيبا‬
‫بتشييع رفات كليبر ‪ ،‬وبعد دفن الجثة أعدم سليمان الحلبي وآلت القيادة العامة للحملة الى‬
‫()‬
‫الجنرال مينو باعتباره أكبر ضباط الحملة سنا ‪ 1‬وكان هذا القائد من أنصار البقاء في مصر‬
‫وخط سياسته استهدفت توطين الفرنسيين فيها إل أن الضغوطات الداخلية والخارجية أضطرته‬
‫الى مغادرة مصر بعد الهجوم المشترك الذي قام به النجليز والعثمانيون على الفرنسيين في‬
‫مصر‪ .‬لقد تظافرت عوامل عدة أرغمت المحتلين الفرنسيين على الخروج من مصر في النهاية‪،‬‬
‫منها تحطيم أسطولهم في معركة ابي القير البحرية‪ ،‬وسيطرة النجليز البحرية في البحر‬
‫المتوسط‪ ،‬وتشديدهم الحصار على الشواطئ المصرية‪ ،‬مما أعجز الحكومة الفرنسية عن إرسال‬
‫النجدات والمدادات الى فرنسا في مصر‪ ،‬وانضمام الدولة العثمانية الى أعداء فرنسا‪ ،‬والنقسام‬
‫الذي حدث في صفوف الحملة وبدأت بوادره منذ بدأ جيش بونابرت زحفه الشاق من‬
‫السكندرية الى القاهرة‪ ،‬ثم استفحل أمره بعد رحيل بونابرت وخصوصا عقب مصرع كليبر‬
‫وإبان قيادة مينو للحملة‪ ،‬وجهاد الشعب المصري المسلم ضد الحتلل الفرنسي الصليبي‪ ،‬ذلك‬
‫الجهاد الذي تمثل في ثورتي القاهرة الولى والثانية‪ ،‬وفي العمليات الجهادية التي اشتعلت في‬
‫الدلتا ‪ ،‬وفي المقاومة التي اشتدت في الصعيد‪ .‬ودون أدنى شك كان لجهاد مسلمي مصر للحكم‬
‫الفرنسي بالغ الثر في زعزعة أركانه‪ ،‬وفي عجز الفرنسيين عن بلوغ غايتهم وتنفيذ أهدافهم‬
‫وانهيار آمالهم في تشييد تلك المستعمرة الجميلة التي كانوا يحلمون بإتخاذها نواة لمبراطوريتهم‬
‫()‬
‫الستعمارية الجديدة في مصر ‪. 2‬‬
‫سابعا‪ :‬آثار الحملة الفرنسية على المة السلمية‪:‬‬
‫لقد كان لهذه الحملة آثارا بالغة وسببا من أسباب هزيمة المة الداخلية ولقد صور هذه الثار‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬عجائب الثار (‪.)3/30‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الحملة الفرنسية وخروج الفرنسيين من مصر‪ ،‬ص ‪.188‬‬
‫‪-418-‬‬
‫على المة الستاذ محمد قطب فقال‪( :‬ثم كانت الهزيمة الحربية التي وقعت بالمماليك على يد‬
‫نابليون في إمبابة إيذانا بالهزيمة الداخلية؛ هزيمة العقيدة في داخل النفوس‪ .‬لقد روع المسلمون‬
‫بمدافع نابليون وبدت لهم سيوف المماليك هذرا فارغا إزاء تلك المدافع الجديدة التي لم يكونوا‬
‫يعرفونها أو يتصورون وجودها‪ ،‬في يد العداء‪ .‬وانقلب ميزان القوى انقلبا عنيفا في نفوسهم‬
‫فتلك هي المرة الولى التي تنهزم فيها جيوش المسلمين عن جدارة‪ ،‬وتتغلب جيوش الصليبيين‬
‫لنها تملك قوة حقيقية من العتاد والفن الحربي والمعرفة ليملكها المسلمون ولقد كان ممكنا مع‬
‫ذلك كله أل يتغير الميزان في داخل النفوس‪ ،‬كان ممكنا أن تصمد النفوس للهزيمة ريثما تتجمع‬
‫للنقضاض من جديد كما حدث مرات كثيرة من قبل‪ ،‬ولكن الرصيد الداخلي للعقيدة في تلك‬
‫الفترة لم يكن من القوة بحيث يصمد للصدمة ويتجمع من جديد‪ .‬حقا لقد قام الشعب بمقاومة‬
‫باسلة للحملة الفرنسية‪ ،‬وثارت القاهرة بزعامة العلماء وتأثيرهم الروحي وحدثت بطولت‬
‫عجيبة‪ .‬حقا لقد حدث كل ذلك‪ ،‬ولكنه كان أشبه بالعمال الفردية الفدائية‪ ،‬أما الكيان الحقيقي‬
‫للدولة المسلمة المقاتلة التي تنظم القتال وتجيش الجيوش وتقف للغزاة بوصفها (دولة السلم)‪،‬‬
‫أما ذلك كله فكان قد ذاب في معركة إمبابة ولم يعد له وجود‪.‬‬
‫وأحس المسلمون بالهزيمة الحقيقية هي هزيمة الحرب‪ ،‬فقد وضع نابليون في فترة إقامته في‬
‫مصر قانونا جديدا يحكم به المسلمون غير شريعة ال‪ ،‬قانونا مستمدا من التشريع الفرنسي‪،‬‬
‫وحصر تشريع ال في أمور الحوال الشخصية ‪-‬من زواج وطلق وميراث‪ ،‬وكانت تلك هي‬
‫المرة الولى في تاريخ المسلمين المرة الولى التي يحكمهم فيها قانون غير قانون ال‪ ،‬يضعه‬
‫وينفذه قوم غير مسلمين ‪ ،‬لقد كان الصليبيون يدخلون الراضي السلمية أحيانا‪ ،‬ويبقون في‬
‫بعض الحيان سنوات‪ ،‬بل وصل بهم المر قبل قبيل صلح الدين أن يقيموا لهم دويلت على‬
‫شاطئ البحر البيض في بلد الشام‪ ،‬ولكنهم لم يجرؤوا قط في أية مرة أن يضعوا قانونا من‬
‫عندهم يحكمون به المسلمين؛ فقد كانوا في كل مرة غزاة انتهبوا قطعة من الرض ولم يكونوا‬
‫قط دولة حاكمة مسيطرة في الرض‪ ،‬وفي هذه المرة كانوا لول مرة ‪-‬دولة حاكمة في ارض‬
‫‪-419-‬‬
‫السلم بعد أن أطاحوا بالدولة المسلمة وذوّبوها في ميدان القتال‪.‬‬
‫وكان هذا بدء الهزيمة الحقيقية؛ هزيمة العقيدة‪ ،‬وبدء انحسارها في عالم الواقع‪ ،‬وانحسارها‬
‫‪-‬من ثم‪ -‬في داخل النفوس‪ ،‬وفي ظل هذه الهزيمة وتلك كان النبهار الذي أحدثته الحملة‬
‫الفرنسية في نفوس المصريين؛ انبهار بقوة السلح أولً‪ ،‬وانبهار بالعلم الغربي الذي حمله‬
‫رجال البعثة المرافقة للحملة‪ ،‬وانبهار بالمطبعة التي جاء بها نابليون الى مصر‪ ،‬وانبهار‬
‫بالتنظيمات التي أحدثها‪ ،‬وفي كلمة واحدة انبهار بكل ماجاء من الغرب وكل ماليس بإسلم‪.‬‬
‫وكانت هذه هي الهزيمة الحقيقية الكاملة التي مهدت لكل ماأحدثه الستعمار الصليبي بعد ذلك‬
‫من تدمير مخرب في حياة المسلمين وعقيدتهم وأفكارهم ومشاعرهم وسلوكهم في واقع الحياة‪،‬‬
‫لذلك لم يكن طرد الفرنسيين من مصر أو انسحابهم حدثا حقيقيا في عالم الواقع بعد هذه الهزيمة‬
‫()‬
‫الداخلية التي خلفتها الحملة في نفوس المسلمين) ‪. 1‬‬
‫لقد كانت للحملة الفرنسية أثر بالغ في مصر خصوصا والشرق عموما وستعرف ذلك في‬
‫المباحث القادمة بإذن ال تعالى وكيف أستطاعت المحافل الماسونية اليهودية الفرنسية أن تشق‬
‫طريقها لطعن السلم بخنجرها المسموم‪ ،‬لقد استطاع الفرنسيون أن يزرعوا أفكارهم ويجدوا‬
‫لهم عملء في المنطقة ‪ ،‬واستفادوا بعد خروجهم العسكري من الدور الخطير الذي قام به محمد‬
‫علي باشا حاكم مصر فيما بعد‪ .‬لقد كانت الحملة الفرنسية على مصر وخروجها وظهور‬
‫شخصية محمد علي باشا في زمن السلطان سليم الثالث الذي تم عزله بسبب أنه أدخل أساليب‬
‫الفرنجة وعوائدهم الى الجيش ولم يقف عند الستفادة بالتقنية الحديثة‪ ،‬مما يشكل خطرا على‬
‫عقائد المة‪ ،‬وهذا ماورد في نص الفتوى التي أصدرها المفتي‪( :‬كل سلطان يدخل نظامات‬
‫الفرنج وعوائدهم ويجبر الرعية على اتباعها ل يكون صالحا للملك) لكن يظل المر محاط‬
‫بالغموض‪ ،‬بل إن دراسة تاريخ السلطان سليم الثالث تظهر لنا إنه كان حريصا على إحياء‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬هل نحن مسلمون ‪ ،‬ص ‪.118-115‬‬


‫‪-420-‬‬
‫فريضة الجهاد كما كانت على عهد أجداده وآبائه‪ ،‬فهل هذا هو السبب وراء المؤامرة التي‬
‫()‬
‫أطاحت به في جمادى الولى عام ‪1223‬هـ‪ 28/‬يونيو ‪1808‬م) ‪. 1‬‬

‫المبحث الثامن‬

‫السلطان محمود الثاني‬

‫(‪1223-1255‬هـ‪1839-1808/‬م)‬

‫تولى الحكم وعمره أربع وعشرون سنة‪ ،‬استفاد من إقامته الجبرية مع سليم الثالث حيث‬
‫أطلعه الخير على خطط الصلح‪ .‬إل أن السلطان الجديد أرغم في البداية على النحناء أمام‬
‫رغبات النكشارية‪ ،‬فأمر بإلغاء كل الصلحات حتى يرضيهم الى أن تحين الفرصة لتطبيق‬
‫وتنفيذ خطط الصلح‪ .‬وكان محمود يتذرع بالصبر انتظارا لساعة الخلص من النكشارية‬
‫الذين هددوا كيان الدولة العثمانية ولكن الفرصة لم تتح له قبل مرور عدة سنوات‪ ،‬خاصة وأن‬
‫()‬
‫عهده قد أمتلئ بالحروب والتطورات الهامة التي استنزفت معظم جهوده وكافة إمكانياته ‪. 2‬‬

‫أولً‪ :‬الحرب مع روسيا‪:‬‬


‫عقد السلطان محمود الثاني صلحا مع انجلترا عام ‪1224‬هـ‪1809/‬م وحاول أيضا عقد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.91‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.127،128‬‬
‫‪-421-‬‬
‫اتفاق مماثل مع روسيا ولكنه فشل‪ ،‬واشتعلت نار الحرب بينهما‪ ،‬وهُزم العثمانيون واستولى‬
‫الروس على بعض المواقع وعزل الصدر العظم ضياء يوسف باشا وتولى مكانه أحمد باشا‬
‫الذي انتصر على الروس‪ ،‬وأجلهم عن المواقع التي دخلوها وساءت العلقات بين فرنسا‬
‫وروسيا‪ ،‬وكادت تقع الحرب بينهما‪ ،‬فطلبت روسيا الصلح مع الدولة العثمانية‪ ،‬وعقدت بين‬
‫الطرفين معاهدة بخارست عام ‪1237‬هـ‪1812/‬م والتي نصت على بقاء الفلق والبغدان‬
‫وبلد الصرب تابعة للدولة العثمانية‪ .‬وقد مكن الصلح السلطان محمود من القيام ببعض‬
‫()‬
‫الصلحات والقضاء على الثورات والتمردات في الدولة ‪. 1‬‬
‫ولما علم الصربيون بمعاهدة بخارست‪ ،‬وإعادة خضوعهم للدولة العثمانية‪ ،‬قاموا بالثورة غير‬
‫أن القوات العثمانية أخضعتهم بالقوة‪ ،‬وفر زعماء الحركة الى النمسا‪ ،‬ولكن أحدهم وهو ثيودور‬
‫فتش أظهر الولء للعثمانيين وخضع للسلطة العثمانية وحصل على امتيازات خاصة من‬
‫()‬
‫الدولة ‪. 2‬‬

‫إلغاء النكشارية‪:‬‬
‫فسدت طبيعة النكشاريين وتغيرت أخلقهم ‪ ،‬وتبدلت مهمتهم وأصبحوا مصدرا للبلء للدولة‬
‫والشعوب التابعة لها‪ ،‬وصاروا يتدخلون في شؤون الدولة وتعلقت إفئدتهم بشهوة السلطة‬
‫وانغمسوا في الملذات والمحرمات وشق عليهم أن ينفروا في برودة الشتاء وفرضوا العطايا‬
‫السلطانية ومالوا الى النهب والسلب حين غزو البلد وتركوا الغاية التي من أجلها وجدوا‬
‫وغرقوا في شرب الخمور وأصبحت الهزائم تأتي من قبلهم بسبب تركهم للشريعة والعقيدة‬
‫والمبادئ وبعدهم عن أسباب النصر الحقيقية‪ ،‬وقاموا بخلع وقتل السلطين من أمثال عثمان‬
‫الثاني‪ ،‬واستمر النكشاريون في عهد السلطان مراد الرابع سنوات عشر سائرين في طريق‬

‫‪ )(1‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬أحمد سرهنك‪ ،‬ص ‪.228-226‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪-422-‬‬
‫الظلل سادرين في غيهم وطغيانهم‪ ،‬فهم الذين نصّبوه فأصبح المر والنهي لهم‪ ،‬وهم الذين‬
‫قاموا بقتل السلطان ابراهيم الول خنقا حينما حاول التخلص منهم‪ ،‬وهم الذين أربكوا الدولة إذ‬
‫وضعوها في حالة من الفوضى بقتلهم السلطين وتولية أولدهم الصغار السن من بعدهم‬
‫كالسلطان محمد الرابع‪ ،‬فقام الفرنج بإحتلل أجزاء من البلد‪ ،‬فاضطر الصدر العظم‬
‫والعلماء الى عزله‪ .‬ثم ثارت النكشارية في عهد السلطان سليم الثاني ودخلت جيوش العداء‬
‫بعضا من اراضي الدولة واحتلتها‪ .‬وخلع النكشارية السلطين مصطفى الثاني‪ ،‬أحمد الثالث‪،‬‬
‫()‬
‫مصطفى الرابع‪ ،‬الى أن قيض ال للسلطان محمود الثاني عام ‪1241‬هـ للتخلص منهم ‪. 1‬‬
‫فجمع السلطان مجموعة من أعيان الدولة وكبار ضباط النكشارية في بيت المفتي‪ ،‬وقام‬
‫الصدر العظم سليم أحمد باشا خطيبا فبين الحالة التي وصلت إليها النكشارية من الضعف‬
‫والنحطاط وبين ضرورة إدخال النظم العسكرية الحديثة‪ ،‬فأقتنع الحاضرون ثم أفتى المفتي‬
‫بجواز العمل للقضاء على المتمردين‪ .‬وقد أعلن الموافقة كل من حضر من ضباط النكشارية‬
‫من حيث الظاهر وأبطنوا خلف ذلك ولما شعروا بقرب ضياع امتيازاتهم وبوضع حدا‬
‫لتصرفاتهم أخذوا يستعدون للثورة واستجاب لهم بعض العوام‪ .‬وفي ‪ 8‬ذي القعدة عام‬
‫‪1241‬هـ بدأ بعض النكشاريين بالتحرش بالجنود أثناء أدائهم تدريباتهم ثم بدأوا في عصيانهم‬
‫فجمع السلطان العلماء وأخبرهم بنية المتمردين فشجعوه على استئصالهم فأصدر الوامر‬
‫للمدفعية حتى تستعد لقتالهم ملوحا باللين والتساهل في الوقت نفسه خوفا من تزايد لهيب‬
‫شرورهم‪ .‬وفي صباح ‪ 9‬ذي القعدة تقدم السلطان ووراءه جنود المدفعية وتبعهم العلماء والطلبة‬
‫الى ساحة (آت ميداني) حيث اجتمع العصاة هناك يثيرون الشغب وقيل إن السلطان سار معه‬
‫شيخ السلم قاضي زادة طاهر أفندي والصدر العظم سليم باشا أمام الجموع التي كانت تزيد‬
‫على ‪ 60.000‬نفس ثم أحاطت المدفعية بالميدان واحتلت المرتفعات ووجهت قذائفها على‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬علي حسون ‪ ،‬ص ‪.107،108‬‬


‫‪-423-‬‬
‫النكشارية فحاولوا الهجوم على المدافع ولكنها صبت حممها فوق رؤوسهم فأحتموا بثكناتهم‬
‫هروبا من الموت‪ ،‬فأحرقت وهدمت فوقهم وكذلك تكايا البكتاشية‪ ،‬وبذلك انتصر عليهم‪ .‬وفي‬
‫اليوم التالي صدر مرسوم سلطاني قضى بإلغاء فئتهم وملبسهم واصطلحاتهم واسمهم من‬
‫جميع بلد الدولة وإعدام من بقي منهم هاربا الى الوليات أو نفيه‪ ،‬ثم قلد حسين باشا الذي‬
‫()‬
‫كانت له اليد الطولى في إبادتهم قائدا عاما (سرعسكر) وبدأ بعدها نظام الجيش الجديد ‪. 1‬‬
‫ثم أصبح السلطان محمود بعد ذلك حرا في تطوير جيشه‪ ،‬فترسم خطى الحضارة الغربية‬
‫فأستبدل الطربوش الرومي بالعمامة ‪ ،‬وتزيا بالزي الوروبي ‪ ،‬وأمر أن يكون هو الزي‬
‫( ‪)2‬‬
‫الرسمي لكل موظفي الدولة العسكريين منهم والمدنيين‪ ،‬وأسس وساما دعاه وسام الفتخار‬
‫()‬
‫فكان أول من فعل ذلك من سلطين آل عثمان ‪. 3‬‬
‫وما قام به السلطان محمود من استبدال العمامة بالطربوش وفرض اللباس الوروبي على‬
‫كافة المجموعات العسكرية يدل على شعوره العميق بالهزيمة النفسية وسوف نتعرض لسبابها‬
‫إن شاء ال تعالى‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬محمد باشا والي مصر‪:‬‬


‫كان محمد علي شخصية سيئة السمعة معروفا بالقسوة وغلظة الكبد ترسله الدولة العثمانية‬
‫لتأديب القرى التي تتأخر في دفع مايفرض عليها من المال‪ ،‬فيعسكر هو وأفراد حملته التأديبية‬
‫حول القرية ينهبون ويسلبون ويفزعون المنين‪ ،‬حتى يرى أهل القرية أن الفضل لهم أن‬
‫()‬
‫يدفعوا الموال المطلوبة وإن أبهظثهم وكان محبا للعظمة الى حد الجنون ‪. 4‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬علي حسون ‪،‬ص ‪.169‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية‪ ،‬عبدال بن حمد‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬علي حسون ‪،‬ص ‪.169‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪.205‬‬
‫‪-424-‬‬
‫جاء محمد علي الى مصر على رأس فرقة من الروملي لخراج الفرنسيين منها‪ ،‬واستطاع‬
‫بمكره ودهاءه أن يكسب ثقة العلماء في مصر وسعى في القضاء على منافسيه على ولية مصر‬
‫بطرق ملتوية وماكرة وخبيثة حتى أصبح واليا على مصر ابتداءً من ‪ 20‬ربيع الول سنة‬
‫()‬
‫‪1220‬هـ الموافق ‪ 18‬يونيو سنة ‪1805‬م ‪. 1‬‬
‫()‬
‫وعلى الرغم من أن محمد علي قد ابدى حماسا شديدا لكي يصبح خادما مطيعا للسلطان ‪، 2‬‬
‫()‬
‫وأبد في سبيل ذلك كثيرا من عبارات التذلل والخضوع للسلطان ودولته ‪ ، 3‬إل أن السلطان كان‬
‫على وشك أن يدرك أبعاد هذه العبارات‪ ،‬مظهرا بذلك تخوفه من هذا الوالي الجديد‪ ،‬فأمر بنقله‬
‫عن ولية مصر‪ ،‬إل أن تدخل العلماء مرة أخرى قد جعل السلطان يصدر فرمانا آخر بتثبيته‬
‫()‬
‫على ولية مصر في ‪ 24‬شعبان سنة ‪1221‬هـ‪ 6 /‬نوفمبر ‪1806‬م ‪. 4‬‬
‫ومن هنا بدأ محمد علي في تدعيم مركزه الشخصي وتثبيت الولية في شخصه‪ ،‬وبالتالي في‬
‫سللته وهناك اسئلة كثيرة تحتاج الى اجابة منها ماحقيقة الدور الذي قام به محمد علي من أجل‬
‫المصالح الفرنسية والبريطانية؟ ومن الذي كان خلف القضاء على الدولة السعودية الولى وعلى‬
‫ضم الشام الى مصر؟ هذه أسئلة نحاول حلها من خلل الدراسة التاريخية الواعية‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي يصف محمد علي‪:‬‬


‫وصف المؤرخ الجبرتي محمد علي بأنه مخادع وكذاب يحلف اليمان الكاذبة‪ ،‬ظالم لعهد له‬
‫ول ذمة يضمر السوء واستخدم العسف والجور في نفس الوقت الذي يعد فيه بالعدل‪ ،‬ليخفف‬
‫()‬
‫من عسفه وظلمه واستبداده استجداء شيخ ‪ . 5‬ولقد دعت هذه الصفات البعض بأن يصور محمد‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حروب محمد علي في الشام‪ ،‬د‪.‬عايض الروقي‪ ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة لسياسة محمد علي باشا التوسعية‪ ،‬د‪ .‬سليمان الغنام‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ )(3‬وثيقة تركية رقم ‪ 248-50/1‬في ربيع الول ‪1230‬هـ‪ ،‬الرياض ‪.‬‬
‫‪ )(4‬انظر ‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬ص ‪.391‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪-425-‬‬
‫علي بأنه ميكافللي ‪ ،‬أو أنه تعلم على فكر ميكافللي (صاحب نظرية الغاية تبرر الوسيلة) ‪ ،‬فقيل‬
‫له ‪-‬اي محمد علي‪ : -‬مرة أن ميكافللي ألف كتابا اسمه المير‪ ،‬فكلف أحد النصارى المحيطين‬
‫به‪ ،‬وقد أعتاد أن يكون أغلب مرافقيه من النصارى واليهود‪ ،‬واسمه أرتين بترجمة هذا الكتاب‬
‫وأن يوافيه كل يوم بصفحة مترجمة‪ ،‬فلما وصل الى الصفحة العاشرة توقف عن المواصلة قائلً‬
‫()‬
‫بأنه يمتلك من الحيل مالم يخطر لمكيافللي على بال ‪. 1‬‬
‫ولقد علق بعض الكتّاب على ذلك بأن هذه الصفات التي رشحت محمد علي لن يصبح واليا‬
‫( ‪)2‬‬
‫وتلك الصفة القذرة من حب الزعامة والى حد الجنون‪ ،‬وقسوة القلب‪ ،‬والنظر الى‬ ‫على مصر‬
‫الذات وعدم المبالة بالسلم هي التي تبحث عنها المحافل الماسونية لصناعة البطال الذين‬
‫يدمرون والسلم ودولة الخلفة من داخلها‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬محمد علي والماسونية‪:‬‬


‫لم يكن من السهل على شاب قليل الخبرة وقليل المعرفة بمصر وطبيعتها أن يصل الى ما‬
‫وصل إليه محمد علي مهما كانت قدرته أو ذكاؤه إل إذا كان يستند الى قوة تخطط له وتعينه‬
‫على تحقيق أهدافه وتسخره في نفس الوقت لتحقيق أهدافها ‪ ،‬وبخاصة أنه كما ذكر عن نفسه‬
‫( ‪)3‬‬
‫وهذه الصفات‬ ‫(ل يصلح للولية وليس من الوزراء ول من المراء ول من أكابر الدولة)‬
‫حقيقية له مهما كان غرضه من قولها‪ ،‬ولهذا نجد أنفسنا أمام العديد من التساؤل‪ ،‬لماذا ثارت‬
‫الفرقة اللبانية بالذات التي يحتل فيها هو الرجل الثاني دون بقية الفرق العثمانية وأبعدت‬
‫"خسرو باشا" عن الولية تحت دعوى تأخر رواتبهم؟ ولماذا أندفع العلماء لتعيين قائد القوة‬
‫اللبانية الثائرة طاهر باشا قائمقاما ينوب عن الوالي المطرود ثم يقتل بعد عشرين يوما؟ ولماذا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مصر في مطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬د‪.‬محمد فؤاد شكري (‪.)2/857‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.160‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.161‬‬
‫‪-426-‬‬
‫يطرد الوالي الجديد أحمد باشا بعد توليه بيوم واحد فقط؟ ولماذا يساعد محمد علي خورشيد باشا‬
‫في تولي الولية ثم ينقلب عليه؟ وكيف استطاع محمد علي أن يفي برواتب الجند وبخاصة بعد‬
‫استيلء المماليك في الصعيد على مخصصات الهالي هناك؟ ولماذا ولماذا؟ جوانب كثيرة‬
‫يكتنفها الغموض!!!‬
‫وتشير كثير من الدلة الى أن هذه القوة ‪-‬التي لم تكن ظاهرة‪ -‬هي الحركة الماسونية التي‬
‫انبعثت في مصر سنة ‪1798‬م علي يد رجال الحملة الفرنسية حيث مهد لها نابليون‪ ،‬ثم أسس‬
‫خلفه كليبر ومعه مجموعة من ضباط الجيش الفرنسيين الماسونيين محفلً في القاهرة سمي‬
‫محفل إيزيسي‪ ،‬وأوجدوا له طريقة خاصة به هي الطريقة الممفيسية أو الطريقة الشرقية‬
‫()‬
‫القديمة ‪ . 1‬وقد تمكن هذا المحفل من أن يضم إليه بعض العضاء من المصريين وإن كانوا‬
‫قلة‪ ،‬ثم أنحل هذا المحفل رسميا في أعقاب اغتيال كليبر سنة ‪1800‬م‪ ،‬وظل أعضاؤه يعملون‬
‫في الخفاء وبسرية‪.‬‬
‫ويشير المنشور الول الذي وزعه نابليون على المصريين الى أنه قد سعى لنشر هذه الفكار‬
‫منذ بداية وصول الحملة فيذكر فيه (قولوا لهم ‪ -‬أي المصريين‪ -‬أن جميع الناس متساوون عند‬
‫( ‪)2‬‬
‫ويبدو تزعم‬ ‫ال وأن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط)‬
‫الحملة الفرنسية للفكر الماسوني واضحا منذ بدايتهم ولقد حاولوا فرض العادات الخبيثة التي‬
‫استهجنها المسلمون في مصر كالبغاء والسفور وتشجيع النساء من الحرافيش ونساء الهوى على‬
‫ارتكاب المحرمات بشكل علني واضح‪ ،‬حيث يعد هذا المر من بين أساليب انتشار‬
‫()‬
‫الماسونية ‪. 3‬‬
‫وتوحي بعض الدلئل على أنهم ‪ -‬أي الفرنسيين ‪ -‬قد نجحوا في ضم المصريين من المشايخ‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬نهاية اليهود لمحمد عزت‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.167‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬عجائب الثار (‪.)3/161‬‬
‫‪-427-‬‬
‫والعلماء من بينهم الشيخ حسن العطار الى المحفل الماسوني الذي أسسه كليبر سنة ‪1800‬م ‪،‬‬
‫فبعد أن هرب الشيخ حسن العطار الى الصعيد في أعقاب قدوم الحملة كغيره من العلماء ثم عاد‬
‫الى القاهرة على أثر دعوة الفرنسيين للعلماء اتصل على الفور برجال الحملة ونقل عنهم‬
‫( ‪)1‬‬
‫وقد اندمج الى حد كبير في علومهم ‪،‬‬ ‫علومهم‪ ،‬وفي نفس الوقت تولى تعليمهم اللغة العربية‬
‫()‬
‫وكثيرا ما تغزل في أشعاره بأصدقائه منهم ‪ . 2‬ولقد دعت هذه المور أن يوصف العطار بأنه‬
‫()‬
‫من دعاة التجديد ‪ . 3‬وقد توثقت صلة الشيخ العطار بمحمد علي بعد توليه الولية وأصبح من‬
‫الركائز التي يعتمد عليها محمد علي في خطواته التجديدية في مصر وهو أمر يشير الى وجود‬
‫()‬
‫صلة بين محمد علي والمحفل الماسوني المصري الذي تأسس إبان الحملة الفرنسية ‪. 4‬‬
‫كما أن تطور الحداث يشير الى تشبع محمد علي بالفكار الماسونية التي كان مهيأ لها بحكم‬
‫تكوينه الطبيعي فينقل عنه قوله وهو يفاوض الفرنسيين على مسألة احتلل الجزائر ‪( :‬ثقوا أن‬
‫قراري ‪ ...‬ل ينبع من عاطفة دينية فأنتم تعرفونني وتعلمون أنني متحرر من هذه العتبارات‬
‫()‬
‫التي يتقيد بها قومي ‪ ...‬قد تقولون أن مواطني حمير وثيران وهذه حقيقة أعلمها) ‪. 5‬‬
‫وقد شهد عصر محمد علي على تأسيس أكثر من محفل ماسوني في مصر فقد أنشأ الماسون‬
‫()‬
‫اليطاليون محفلً بالسكندرية سنة ‪1830‬م‪ ،‬على الطريقة السكتلدنية وغيرها كثير ‪. 6‬‬
‫(إن الماسونية هي القنطرة التي عبرت عن طريقها الصهيونية العالمية‪ ،‬إذا أسسها تسعة من‬
‫اليهود بغية الوصول الى تحقيق الحلم الصهيوني المتمثل في انشاء حكومة يهودية عالمية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الصراع الفكري بين أجيال العصور‪ ،‬ابراهيم العدوي‪ ،‬ص ‪.85‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الجبرتي والفرنسيس ‪ ،‬د‪.‬صلح العقاد‪ ،‬ص ‪.316‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.169‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.169‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.170‬‬
‫‪ )(6‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.170‬‬
‫‪-428-‬‬
‫تسيطر على العالم‪ ،‬فأعدت خططها وبرامجها المحققة لهدافها وأطلقت على نفسها اسم ‪( :‬القوة‬
‫الخفية) واتخذت في ذلك السرية والعهود والمواثيق التي كانت تأخذها على العضو المنضم إليها‬
‫وسيلة ضغط عليه بحيث يصبح آلة توجهه كما تريد‪ .‬وقد استشرى فساد الماسونية في‬
‫المجتمعات الغربية واستطاعت أن تجذب الكثيرين من العضاء عن طريق شعارها الظاهري‪:‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫(الماسونيون هم أيدي اليهود التنفيذية لمخططات البطش‬ ‫(الحرية ‪ ،‬الخاء‪ ،‬المساواة)‬
‫()‬
‫ومؤامرات الضطهاد والعدام والسحق السارية المفعول على جميع شعوب العالم) ‪. 2‬‬
‫(الماسونية آلة صيد بيد اليهود‪ ،‬يصرعون بها كبار الساسة‪ ،‬ويخدعون المم الغافلة‬
‫والشعوب الجاهلة‪ .‬الماسونية خطر كامن وراء الرموز واللفاظ والطلسم‪ ،‬وخنجر غمده اليهود‬
‫في قلب الشعوب‪ ،‬وأقاموا لها عدوا من داخلها وعلة من وسطها‪ .‬الماسونية عقرب لدغ الشعوب‬
‫()‬
‫قرونا‪ ،‬متجليا رداء الحرية والمساواة والخاء ‪. 3 )....‬‬
‫(فالماسونية ماهي إل يهودية الصل والمنبت ومادامت كذلك فهي تجيد المكر والخداع‪،‬‬
‫وتتقن أساليب التشكيك في العقائد‪ ،‬والنيل من النبياء والرسل عليهم السلم‪ ،‬وتشيع اللحاد‬
‫والكفر في ربوع الرض‪ ،‬وتدعو الى الباحية والفساد والرجس‪ ،‬واليهود تاريخهم معروف في‬
‫تحريف الكتب السماوية‪ ،‬وقتل النبياء‪ ،‬وإطفاء كل باقة من نور‪ ،‬إنهم أتباع الشيفات‪ ،‬وعبدة‬
‫الذهب وأصحاب الحتكار وجمع الموال وغير ذلك من الرذائل التي اتصفوا بها‪ .‬ولم يعد اليوم‬
‫خافيا على أحد أن الماسونية منظمة يهودية يُراد منها تخريب العالم اجتماعيا‪ ،‬وأخلقيا‪ ،‬ودينيا‬
‫()‬
‫‪ ...‬وتمتد أذرعتها المسمومة الى كل المبادئ والقيم بغية تدميرها والقضاء عليها) ‪. 4‬‬
‫لقد انتشرت المحافل الماسونية في مصر والشام وتركيا وكانت تعمل ليلً ونهارا من أجل‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الماسونية وموقف السلم منها‪ ،‬د‪ .‬حمود الرجيلي‪ ،‬ص ‪.3،4‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬اليهود الماسونية‪ ،‬عبدالرحمن الدوسري‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪ )(3‬انظر ‪ :‬حقيقة الماسونية لمحمد علي الزعبي‪ ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الماسونية وموقف السلم منها‪ ،‬د‪.‬حمود الرحيلي‪ ،‬ص ‪.18‬‬
‫‪-429-‬‬
‫تفتيت وإضعاف الدولة العثمانية بمعاولها الفاسدة التي لتكل ول تمل ولقد استطاعت المحافل‬
‫الماسونية الفرنسية في مصر أن تجعل فرنسا تحتضن محمد علي يقول الستاذ محمد قطب‪:‬‬
‫(واحتضنته احتضانا كاملً لينفذ لها كل مخطاطتها‪ :‬؛ فأنشأت له جيشا مدربا على أحدث‬
‫()‬
‫الساليب ومجهزا بأحدث السلحة المتاحة يومئذ بإشراف سليمان باش الفرنساوي‪. 1 ):‬‬
‫لقد كانت المصالح الفرنسية ترى دعم محمد علي ليتحقق لها أطماعه المستقبلية في حفظ‬
‫وتقوية محافلها الماسونية ‪ ،‬وإضعاف الدولة العلية العثمانية‪ ،‬وزرع خنجرها المسموم في قلب‬
‫الدولة العثمانية ولذلك أنشأت لمحمد على اسطولً بحريا متقدما متطورا‪ ،‬وترسانة بحرية في‬
‫دمياط‪ ،‬والقناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر‪ ،‬أو لمحمد علي‪ ،‬إنما كان لتنفيذ المخطط‬
‫الصليبي الذي فشلت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها الى الخروج‪.‬‬
‫لقد قام محمد علي بدور مشبوه في نقل مصر من انتمائها السلمي الشامل الى شيء آخر‬
‫يؤدي بها في النهاية الى الخروج عن شريعة ال وكانت تجربة محمد علي قدوة لمن بعده من‬
‫أمثال مصطفى كمال أتاتورك وجمال عبدالناصر‪...‬الخ‪.‬‬
‫إن المسلم الحق ل يمكن أن يقوم بمثل هذا الدور ل واعيا ول مستغفلً ‪ ،‬لن إسلمه يمنعه‬
‫أن يتلقى التوجيه من أعداء السلم‪.‬‬
‫لقد كان أعداء السلم يريدون القضاء على الدولة العثمانية‪ ،‬والقيام بتغريب العالم السلمي‬
‫مع الهتمام الخاص ببلد الزهر ليقوم بتصدير أفكارهم الى بقية الشعوب السلمية‪ ،‬فأما‬
‫القضاء على الدولة العثمانية فقد ساهم في إضعافها وإهدار طاقاتها‪ ،‬واسقاط هيبتها وتعدي على‬
‫حرماتها وأما التقارب مع العداء والسير في فلكهم الفكري والحضاري والنسلخ التدريحي‬
‫عن النتماء العقدي والفكري والخلقي فقط قطع فيه شوطا مدحه عليه حلفائه من الماسون‬
‫الفرنسيين والبريطانيين وانهزم أمام الغزو الفكري المنظم وقام بتنفيذ سياسة البتعاث بإرسال‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.205‬‬


‫‪-430-‬‬
‫الطلب الشبان الى أوروبا ليتعلموا هناك‪ ،‬وكان هذا من المور الخطيرة المنافذ التي دخل‬
‫التوجه العلماني من خللها‪ ،‬فدخل ساحة التلعيم ومن ثم في ساحة الحياة في مصر السلمية‬
‫وأهمل الزهر وشيوخه وعلمائه واهتم بإرسال الشبان الصغار بأعداد متزايدة الى أوروبا وهم‬
‫في سن المراهقة‪ ،‬غير محصنين بشيء لينغمسوا في الشهوات‪ ،‬ويتأثروا بالشبهات ثم يرجعوا‬
‫الى بلدهم ليكونوا رأس الحربة المتجهة الى الغرب‪ ،‬لقد أرس معهم مع البعثات أئمة يؤموا‬
‫الطلب في الصلة ولكن ماذا عملوا الئمة؟ لقد كان رفاعة رافع الطهطاوي واحدا من أولئك‬
‫الئمة ولكنه عاد وهو واحد من دعاة التغريب ‪ ،‬وعندما استقبله أهله بالفرح يوم عاد من فرنسا‬
‫بعد غيبة سنين؛ فأشاح عليهم في ازدراء ووسمهم بأنهم (فلحون) ليستحقون شرف‬
‫()‬
‫استقباله ‪. 1‬‬
‫ثم ألف كتابه الذي تحدث فيه عن أخبار (باريس) ودعا فيه الى تحرير المرأة الى السفور‪،‬‬
‫والى الختلط ‪ ،‬وأزال عن الرقص المختلط وصمة الدنس‪ ،‬فقال إنه حركات رياضية موقعة‬
‫()‬
‫على أنغام الموسيقى‪ ،‬فل ينبغي النظر إليه على أنه عمل مذموم ‪. 2‬‬
‫لقد استغرقت عملية النتقال التدريحي مايقرب من قرن من الزمان‪ ،‬ولكنها كات عملية‬
‫()‬
‫مستمرة ل تتوقف ‪ ،‬بل تتوسع على الدوام ‪. 3‬‬
‫لقد كان محمد علي ثعلبا ماكرا همه نفسه وأولده من بعده ولذلك قام بأعمال شنيعة‪ ،‬وأفعال‬
‫قبيحة في إضعاف المة‪ ،‬والقضاء على شوكتها وتنفيذ مخططات فرنسا وبريطانيا وحرص‬
‫على أن يجمل صورته في أعين الغرب ويقفوا آثارهم في التحديث بل ويفكر كما قال عن نفسه‬
‫()‬
‫(بعقل افرنجي وهو يلبس القبعة العثمانية) ‪. 4‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر ‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.210‬‬
‫‪ )(4‬تجربة محمد علي الكبير‪ ،‬منير شفيق‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪-431-‬‬
‫لقد قام محمد علي نيابة عن فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا وغيرها من الدول الوروبية‬
‫بتوجيه ضربات موجعة للتجاه السلمي في كل من مصر‪ ،‬والجزيرة العربية‪ ،‬والشام ‪،‬‬
‫والخلفة العثمانية مما كان لها الثر في تهيئة العالم السلمي للطماع الغربية‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬محمد علي وضربه للسلم في مصر‪:‬‬


‫بعد أن نجح محمد علي في توطيد نفسه في الحكم وأحاط نفسه ببطانة ومساعدين من‬
‫نصارى الروم والرمن وكتبة من القباط واليهود‪ ،‬واستجلب لنفسه مماليك جعلهم حكاما‬
‫للقاليم‪ ،‬وكان في كل ذلك مستنفرا لجموع المسلمين المصريين ومعبرا عن عدم الهتمام أو‬
‫الكتراث بهم وبخاصة أن هؤلء المساعدين قد أعانوه على سياسته الستبدادية بين الفلحين‬
‫وصف الجبرتي ذلك بقوله‪ ( :‬فتح بابه للنصارى من الروام والرمن فترأسوا بذلك وعلت‬
‫()‬
‫أسافلهم‪ ،‬كما أنه كان يحب السيطرة والتسلط ول يأنس لمن يعارضه) ‪. 1‬‬
‫وسلك محمد علي واتباعه من غير المسلمين سياسة من أبرز علماتها الظلم والقهر‬
‫والستعباد ضد جموع الشعب المصري ‪ ،‬فجمع حجج الرض من الفلحين وفرض عليهم‬
‫السخرة‪ ،‬أو دفع ضريبة بديلة وحرم عليهم أن يأكلوا شيئا من كد أيديهم‪ ،‬وأبطل التجارة‪ ،‬وزاد‬
‫في اسعار المعايش أضعافا مضاعفة‪ ،‬وفرض الضرائب التي ليطيقون دفعها‪ ،‬وجعل كل نشاط‬
‫()‬
‫اقتصادي يؤول إليه‪ ،‬ونقم على الناس ‪ ، 2‬وارجع الجبرتي ذلك الى مايتسم به محمد علي من‬
‫()‬
‫"داء الحسد والشره والطمع والتطلع لما في أيدي الناس وأرزاقهم" ‪ . 3‬وقد نتج عن هذه السياسة‬
‫كره الفلحين الشديد لمحمد علي وأعوانه‪ ،‬وهروبهم من الراضي الزراعية‪ ،‬وترك قراهم‬
‫فرارا من السياسة الظالمة‪ ،‬وأعرضوا عن الشتراك في جيشه فقد بلغ عدد الفلحين الفارين في‬

‫‪ )(1‬عجائب الثار (‪.)4/150‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫‪ )(3‬عجائب الثار (‪.)4/150‬‬
‫‪-432-‬‬
‫()‬
‫عام واحد هو عام ‪1831‬م ستة آلف فلح ‪. 1‬‬
‫أما في المدن وبخاصة في القاهرة فيذكر الجبرتي أن محمد علي حين كلف الناس بتعميرها‬
‫(اجتمع على الناس عشرة أشياء من الرذائل وهي السخرة والعونة وأجرة الفعلة والذل والمهانة‬
‫()‬
‫وتقطيع الثياب ودفع الدراهم وشماتة العداء وتعطيل معاشهم وأجرة الحمام) ‪. 2‬‬
‫لقد كان الجبرتي معاصرا لسياسة الظلم التي مارسها محمد علي على الشعب المسلم في‬
‫مصر الذي امتص حقوقه وخيراته وفتح للتجار الوروبيين الباب على مصراعيه لدخول مصر‬
‫والهيمنة على اقتصادها‪ ،‬وأصبحت مصر هي المزرعة التي تعتمد عليها أسواق أروربا من‬
‫المنتجات الزراعية وارتبطت مصر بأوروبا ارتباطا حضاريا وتجاريا‪ ،‬وأصبح اعتماد طبقة‬
‫التجار الناشئة في مصر على السواق الوروبية من الناحية القتصادية وبالتالي السياسية ‪ ،‬الى‬
‫جانب تمكين دعاة الثقافة الوروبية من السيطرة على الحياة الفكرية بعد أن شل دعاة التجاه‬
‫()‬
‫السلمي ‪ ، 3‬وأوقف مناهج التعليم القائمة على الدين تنفيذا لسياسية نابليون الماسونية‪ ،‬وهو أمر‬
‫أكده المؤرخ النجليزي أرنولد تويني في قوله ‪( :‬كان محمد علي ديكتاتورا أمكنه تحويل الراء‬
‫()‬
‫النابليونية الى حقائق فعالة في مصر) ‪. 4‬‬
‫لقد حقق الستعمار الوروبي هدفه في الستفادة من المنشآت والصلحات المادية التي قام‬
‫بها دميتهم محمد علي‪ ،‬أما شعب مصر المسلم فقد سيطر عليه اليأس ودفع ثمنا باهظا يفوق‬
‫حجم كل اصلح وهو تحطيم هويته الحضارية التي صقلها السلم والتي ميزت دروه خلل‬
‫()‬
‫العصور السلمية ‪. 5‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الشرق العربي‪ ،‬د‪ .‬عمر عبدالعزيز‪ ،‬ص ‪.346‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.180‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الشرق العربي‪ ،‬د‪ .‬عمر عبدالعزيز‪ ،‬ص ‪ 322،323‬نقلً عن قراءة جديدة‪.‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬أرنولد تويني عبدالرحمن الجبروتي وعصره‪ ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.182‬‬
‫‪-433-‬‬
‫وفتح باب الدعوة الى الوطنية والقومية ومارس سياسة التضيق على دعاة الفكر السلمي‬
‫من العلماء والمشايخ فكان هذا التجاه مسايرا لمساعيه الرامية الى الستقلل بمصر وبالتالي‬
‫()‬
‫إبعادهاعن الرتباط بدولة الخلفة السلمية ‪ ، 1‬وقد لقي في اتجاهه هذا عونا من المحافل‬
‫الماسونية التي يعتبر هذا التجاه من صلب أهدافها‪.‬‬
‫ومن أبرز الذين عاونوه في هذا التجاه الشيخ حسن العطار سنة ‪776‬هـ‪1835/‬م الذي‬
‫تشير الدلئل على انضمامه للمحفل الماسوني المصري‪ ،‬فقد كان العطار يري أن البلد (لبد أن‬
‫تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ماليس فيه)‪ ،‬وكانت وجهته في هذا التغيير هو التجاه‬
‫الكامل الى الثقافة الوروبية بعد ان عجز ‪ -‬في رأيه‪ -‬المشايخ والعلماء عن مواصلة جهود‬
‫()‬
‫المسلمين الوائل ‪. 2‬‬
‫وتبع العطار في اتجاه تلميذه رفاعة الطهطاوي (‪1873-1801‬م) حيث ابتعثه محمد علي‬
‫الى فرنسا خمس سنوات (‪1831-1826‬م) عاد بعدها لنشر ما يزكي الفكرة الوطنية وغيرها‬
‫من الفكار الجتماعية التي عايشتها فرنسا والتي لم تكن تتلءم مع أوضاع المجتمع المرتبط‬
‫بالفكر السلمي‪ ،‬وقد بدت هذه الفكار في العديد من القصائد التي نظمها وكذلك الكتب التي‬
‫()‬
‫ترجمها بعد توليه الشراف على مدرسة اللسن ‪ ، 3‬لقد تاثر الطهطاوي بتيارات الفكر‬
‫الوروبي من أقصى اليمين الى أقصى اليسار بشكل فاق تأثره بالفكر السلمي‪ ،‬حيث أبدى في‬
‫عديد من جوانب فكره‪ ،‬وفي كافة مراحل حياته‪ ،‬إعجابه بأفكار الحرية والمساواة وضرورة‬
‫العتماد على العقل ‪ ،‬لقد تبني ما دعا إليه نابليون إبان حملته الشهيرة‪ ،‬ولقد أظهر طهطاوي‬
‫تأثرا وإعجابا بآراء مونتسكيو‪ ،‬وتشبعه بالفكر الماسوني‪.‬‬
‫وتبع الطهطاوي كثيرون ممن وصلوا الدعوة الى الوطنية والى ضرورة التجاه الكامل الى‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مصر في مطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬محمد فؤاد (‪.)3/1232‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التيارات السياسية بين المجددين والمحافظين ‪ ،‬بيومي ‪ ،‬ص ‪.2‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬التيارات السياسية بين المجددين والمحافظين ‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪-434-‬‬
‫الحضارة الغربية من امثال (علي مبارك) و(ابراهيم أدهم) و(صالح مجدي) و(محمد عثمان‬
‫جلل) و(عبدال أبو السعود) و(عبدال فكري) وغيرهم ‪ ،‬وواصل الجميع هجومهم على التيار‬
‫()‬
‫السلمي من كافة الجوانب ‪. 1‬‬

‫سادسا‪ :‬حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وصراعها مع الدولة العثمانية‪:‬‬


‫‪:‬‬
‫ولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي سنة‬
‫‪1115‬هـ‪1703/‬م في بلدة العيينة الواقعة شمال الرياض بينها وبين الرياض مسيرة سبعين‬
‫()‬
‫كيلومترا‪ ،‬أو مايقارب ذلك من جهة الغرب ‪. 2‬‬
‫ونشأ على حب العلم‪ ،‬فطلبه منذ صغره وظهر منه نبوغا وتميزا‪ ،‬فحفظ القرآن الكريم‬
‫ودرس الفقه الحنبلي والتفسير والحديث‪ ،‬وتتلمذ على كتب ابن تيمية في الفقه والعقائد والرأي‬
‫وأعجب بها أيما إعجاب وتأثر بكتب ابن القيم ‪ ،‬وابن عروة الحنبلي وغيرهم من فحول هذا‬
‫()‬
‫المنهل السلفي ‪. 3‬‬
‫ورحل في طلب العلم الى مكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬والبصرة‪ ،‬والحساء‪ .‬وتعرض لفتن عديدة عندما‬
‫جاهر بآرائه في العراق ثم رجع بعد ذلك الى نجد‪.‬‬
‫وعندما رجع الى حريملء ببلد نجد بدأ دعوته بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫والشتغال بالعلم والتعليم‪ ،‬والدعوة الى عقيدة التوحيد الصافية‪ ،‬وحذر من الشرك ومخاطره‬
‫وأنواعه وأشكاله وتعرض لمحاولة اغتيال من بعض السفهاء في حريملء وانتقل بعد ذلك الى‬
‫بلدته العيينة وتلقاه أميرها بالترحيب وشجعه على أمر الدعوة‪ ،‬فأقام الشرع ونفذ الحدود‪ ،‬وهدم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.184‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬امام التوحيد محمد عبدالوهاب‪ ،‬احمد القطان ‪ ،‬ص ‪.35‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪-435-‬‬
‫القباب‪ ،‬ولم يستمر في حريملء طويلً بسبب ضغط أمير الحساء على أمير حريملء لقتل‬
‫الشيخ محمد بن عبدالوهاب ‪ ،‬فخرج ماشيا على القدام الى الدرعية‪.‬‬

‫تحالفه مع محمد بن سعود‪:‬‬


‫استطاع محمد بن عبدالوهاب أن يتحالف مع المير محمد بن سعود الذي قام بماله ورجاله‬
‫من أجل دعوة التوحيد وكان هذا التحالف على اسس متينة واستطاع الشيخ أن يواصل دعوته‬
‫للناس بالتعليم والرسائل والوعظ واستمر على هذا الحال يعلم الناس ويكتب الرسائل ويدبجها‬
‫بالحجج والبراهين والدلة على صحة دعواه‪ ،‬يدعو الى إزالة المنكر وهدم قباب القبور ‪ ،‬وسد‬
‫( ‪)1‬‬
‫وظلت الدعوة مسالمة متأنية تطرق القلوب برفق‬ ‫ذرائع الشرك‪ ،‬وتحقيق العبودية ل وحده‬
‫وأناه‪ ،‬وتدعوا الى ال بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬واستمر يعلم من يحضر دروسه ويوضح‬
‫عقيدته‪ ،‬ويشرح مبادئ دعوته للقاصي والداني ‪ ،‬ولكنه رأى أن اللين يقابل بالشدة‪ ،‬وأن الصدق‬
‫يقابل بالكذب‪ ،‬والموعظة الحسنة يرد عليها بالمؤامرات فلم يكن بد من دخول مرحلة الجهاد‬
‫وتغيير المنكر بالقوة‪.‬‬
‫إذا لم يكن إل السنة مركبا‬
‫( ‪)2‬‬
‫فما حيلة المضطر إل ركوبها‬
‫وبدأ الشيخ يعاونه المير محمد بن سعود بإعداد العدة من الرجال والسلح للخروج بجموع‬
‫المجاهدين من الدرعية الى خارج حدودها لنشر الدعوة وتثبيت أركانها في الجزيرة وخارجها‪،‬‬
‫وكان الشيخ يشرف بنفسه على إعداد الرجال‪ ،‬وتجهيز الجيوش وبعث السرايا‪ ،‬ويستمر مع ذلك‬
‫على الدرس والتدريس‪ ،‬ومكاتبة الناس‪ ،‬واستقبال الضيوف‪ ،‬وتوديع الوفود فقد جمع ال له العلم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬امام التوحيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ‪ ،‬ص ‪.45،46‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬استمرارية الدعوة‪ ،‬محمد السيد الوكيل (‪.)3/293‬‬
‫‪-436-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وقد كان له نظر سياسي ثاقب‪ ،‬وخبرة واسعة في‬ ‫والجاه‪ ،‬والعزة والتمكين بعد جهاد طويل‬
‫()‬
‫أمور الحرب والسياسة ‪. 2‬‬
‫واستمرت الحروب بين أنصار الدعوة وأعدائها سنين عديدة‪ ،‬وكان النصر حليف أصحاب‬
‫الدعوة في أغلب المواقف وكانت القرى تسقط واحدة تلو الخرى وفي عام ‪1178‬هـ‪1773/‬م‬
‫فتحت الرياض بقيادة المير عبدالعزيز ابن محمد بن سعود ‪ ،‬وفر منها حاكمها السابق دهام بن‬
‫دواس‪ ،‬وكان حاكما ظالما غشوما‪ ،‬اعتدى على الدعاة مرارا‪ ،‬ونقض العهود التي أبرمها مع‬
‫القائمين على الدعوة وبعد فتح الرياض اتسعت رقعة الرض التي تخضع للدعوة ‪ ،‬ودخل كثير‬
‫من الناس في الدعوة مختارين‪ ،‬فقد أزيلت العوائق التي كانت تصدهم عنها‪ ،‬وانفرجت المور‬
‫بعد ضيق‪ ،‬وجاء اليسر بعد العسر‪ ،‬وكثرت الموال‪ ،‬وهدأت الحوال‪ ،‬وأمن الناس في ظل‬
‫()‬
‫الدولة السلمية الفتية‪ ،‬التي حرم الناس من نعمة المن مدة غيابها ‪. 3‬‬
‫وبعد وفاة الشيخ محمد عبدالوهاب واصلت الدعوة مسيرها وساندها آل سعود بقوة السلطان‬
‫وتحولوا إلى الحجاز‪ ،‬التي كان يسيطر عليها الشريف غالب بن مساعد والذي شرع في شن‬
‫هجمات على السعوديين‪ ،‬دينيا وعسكريا‪ .‬ودام الصراع بينهما حتى عام ‪1803‬م حين دخل‬
‫السعوديون مكة من غير أن يتعرضوا لية مقاومة من جانب الشريف غالب‪ ،‬الذي آثر الهروب‬
‫()‬
‫إلى جدة وبعد عامين ضم السعوديون المدينة المنورة ‪. 4‬‬
‫وامتد نفوذ الحركة السلفية على معظم الجزيرة العربية وشعرت بريطانيا بخطورة هذا النفوذ‬
‫على مصالحها‪ .‬لقد أصبحت الدولة السعودية الولى يمتد نفوذها على الخليج العربي والبحر‬
‫الحمر‪ ،‬ودخل القواسم في الخليج العربي تحت نفوذها ووصل نفوذها إلى جنوب العراق‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬امام التوحيد محمد بن عبدالوهاب‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.78‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬استمرارية الدعوة ‪ ،‬د‪ .‬محمد الوكيل (‪.)3/294‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪-437-‬‬
‫وأصبحت تأثر على الطريق البري بين أوربا والشرق‪ ،‬وفوق هذا وذاك فإن السس الدينية التي‬
‫ترتكز عليها هذه الدولة قد قطع على بريطانيا إمكانية تطويعها أو عقد التفاقيات معها حيث كان‬
‫()‬
‫العداء للنفوذ الجنبي في المنطقة من أهم أهداف هذه الدولة ‪ ، 1‬لقد استطاع القواسم ومن خلفهم‬
‫القوة السعودية من توجيه ضربات موجعة لسطول النجليز في عام ‪1806‬م وأصبحت مياه‬
‫( ‪)2‬‬
‫لقد بلغت الدولة في زمن سعود بن عبدالعزيز الوج من الناحية‬ ‫الخليج تحت سيطرتهم‬
‫السياسية إذ وصلت كربلء في العراق‪ ،‬وإلى حوران في بلد الشام‪ ،‬وخضعت لها الجزيرة‬
‫()‬
‫كاملة باستثناء اليمن ‪. 3‬‬

‫سابعا‪ :‬المؤامرة ضد حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب‪:‬‬


‫فكر شياطين النس من أبناء أوربا في النتائج التي يصلون إليها لو استمرت الدولة السعودية‬
‫الولى ورأوا أن ذلك يقضي على مصالحهم في الشرق عموما ولذلك لبد من تدمير هذه‬
‫الدولة‪ ،‬فسلكوا مسالك شتى للقضاء على نفوذ الدعوة السلفية منها‪:‬‬
‫أولً‪ :‬تأليب الرأي العام داخل ديار السلم ضد دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فقام الذين‬
‫اعتقدوا بالبدع والخرافات على أنها من دين السلم بالتصدي لدعوة الشيخ ومقاومتها‪ ،‬وليست‬
‫هذه المقاومة من جهة واحدة أو من طرف معين بل من كل الجهات ومن كل الطراف‪ ،‬أتت‬
‫من قبل المشايخ الذين يتمسكون بالنفوذ الذي يعطيهم إياه العامة وأهل الجهالة‪ ،‬ويبغون‬
‫المحافظة على ماهم عليه من البدع والخرافات ظانين أنها من الدين‪ ،‬أتت من سدنة القبور‪ ،‬أتت‬
‫من المستفيدين من صناديق النذور‪ ،‬أتت من الذين يعيشيون على الطعمة والموال التي تقدم‬
‫لهم في موالد الموات والزيارات‪ ،‬وأتت أيضا من الذين يعتقدون أن الشيخ محمد بن‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.156‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.158‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال ‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪-438-‬‬
‫عبدالوهاب قد أتى بدين جديد يخالف ما اعتادوا عليه‪ ،‬وأولئك كانوا منتشرين بأنحاء الدولة‬
‫العثمانية كلها بل وفي العالم السلمي أجمع‪ ،‬حدث كل ذلك بعد أن شاع النجليز والفرنسيون‬
‫وأعداء السلم الفتاوى التي استصدروها من علماء السوء بفساد مايدعو إليه اتباع محمد بن‬
‫()‬
‫عبدالوهاب ‪. 1‬‬
‫ثانيا‪ :‬الدس والوقيعة بين حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وقيادة الدولة العثمانية لقد ألقى‬
‫النجليز والفرنسيون وغيرهم في روع السلطان محمود الثاني أن حركة الشيخ محمد بن‬
‫عبدالوهاب‪ ،‬تهدف إلى الستقلل بجزيرة العرب‪ ،‬والنفصال عن الخلفة العثمانية‪ ،‬ثم توحيد‬
‫العالم العربي‪ ،‬وانتزاع لواء الخلفة والقيادة من الدولة العثمانية‪ ،‬وإقامة خلفة عربية‪،‬‬
‫واستجاب السلطان محمود الثاني لوشايات العداء وما كان له أن يفعل ذلك وكان اللئق به أن‬
‫يشك في هذا النصح الكاذب ويرسل من أمناء الدولة من يتحقق في المر ولم ينتبه سلطان‬
‫المسلمين إلى خطورة تصديق هذا الخبر المدسوس على حركة إسلمية صادقة وتجاوب مع‬
‫اقتراحات العداء بوجوب القضاء عليها قبل أن يستفحل أمرها‪ ،‬وتكلف الدولة الكثير من‬
‫()‬
‫الموال والرجال للقضاء عليها ‪. 2‬‬
‫وضعت الدولة العثمانية خطتها لمحاربة الدولة السعودية الولى ورأت أن تلقي عبء هذه‬
‫المهمة على كاهل الولة في القطاء المجاورة‪ ،‬هادفة بذلك إلى غرضين‪ :‬الول القضاء على‬
‫التوسع السعودي في المشرق العربي‪ ،‬والخر‪ :‬إضعاف هؤلء الولة واستنزاف مواردهم حتى‬
‫يظلوا ضعافا خاضعين للدولة خضوعا تاما‪ ،‬فاتجهت أول المر إلى والي بغداد‪ ،‬إذ كان أقرب‬
‫الولة إلى نجد‪ ،‬إل أن ذلك الوالي كان مشغولً بالرتباكات المحلية في وليته‪ ،‬وكان جيشه من‬
‫الضعف بحيث ليقوى على مجابهة السعوديين‪ ،‬وفشل عدة مرات في صد هجماتهم على حدود‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.94‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪-439-‬‬
‫العراق‪ ،‬فاتجهت الدولة إلى والي الشام لعله ينجح فيما فشل فيه والي والعراق‪ ،‬فكان نصيبه من‬
‫( ‪)1‬‬
‫ولت وجهها شطر‬ ‫الفشل أفدح من زميله ولما يئست الدولة من قدرة ولتها في بغداد والشام‬
‫مصر فطلبت من واليها محمد علي عام ‪1807‬م أن يقوم بحملة على بلد العرب "لتصفية‬
‫الحرمين الشريفين واستخلصهما" من أيدي السعوديين‪ ،‬واسترداد سلطة الدولة المشرفة على‬
‫الزوال في جزيرة العرب‪ .‬ولكن محمد علي لم يلب طلب الدولة إل في عام ‪1811‬م بعد‬
‫()‬
‫تخلصه من بكوات المماليك في مذبحة القلعة ‪. 2‬‬
‫إن اتباع الدعوة السلفية لم يطلبوا الخلفة ولم يبدوا اعتراضهم على التبعية لها‪ ،‬ولكن‬
‫الخلف قد انحصر في أمرين أساسيين‪ ،‬الول هو مطالبة السلفيين بضرورة التزام وفود‬
‫الحجيج بمنهج السلم والقلع عن كل مافيه خروج عليه‪ ،‬والمر الثاني هو شعور الدولة‬
‫العثمانية بالحرج والضعف أمام سيطرة الوهابيين على المدن المقدسة في الحجاز حيث أدركوا‬
‫()‬
‫أن في ذلك إسقاطا لهيبتهم ومكانتهم السياسية ‪. 3‬‬
‫وقد بين الجبرتي أن موقف الوهابيين من وفود حجيج الشام " بأل يأتوا إل على الشرط الذي‬
‫اشترطوه عليهم وهو " أن يأتي بدون المحمل وما يصحبهم من الطبل والزمر والسلحة وكل ما‬
‫( ‪)4‬‬
‫كما ذكر‬ ‫كان مخالفا للشرع‪ .‬فلما سمعوا ذلك رجعوا من غير حج ولم يتركوا مناكيرهم "‬
‫()‬
‫موقفا مماثلً من موكب الحج المصري ‪. 5‬‬
‫واقتصر مرسوم السلطان العثماني القاضي بطلب الحرب مع السعوديين من محمد علي‪،‬‬
‫وبدافع من رسائل شريف جدة وكذلك بوحي وتشجيع من النجليز‪ ،‬على " استخلص الحرمين‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث ‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.171‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.185‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬من أخبار نجد والحجاز‪ ،‬محمد اديب صالح‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.112 ،111‬‬
‫‪-440-‬‬
‫()‬
‫والوصية بالرعية والتجار " ‪ ، 1‬وتكرر نفس الطلب بعد ذلك مجددا القتصار على تخليص‬
‫الحرمين الشريفين‪ .‬وفي أعقاب نجاح القوات العسكرية في الستيلء على بلد الحجاز‪ ،‬بعد أن‬
‫هزمت وأخفقت عدة مرات أمام أتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب أرسل السلطان محمود الثاني‬
‫()‬
‫مرسوما إلى مصر يقرأ في المساجد باستعادته للحرمين الشريفين ‪ ، 2‬وهو أمر يوحي بأن‬
‫السلطان العثماني ليس له هدف آخر سوى عودة الحجاز للسيادة العثمانية‪.‬‬
‫كان من الممكن أن تنتهي هذه الحرب إلى هذا الحد فقد سيطرت قوات محمد علي على مدن‬
‫الحجاز‪ ،‬وعين محمد علي شريفا جديدا على منطقة الحجاز التي اضطر للسفر إليها وقام بطرد‬
‫()‬
‫الشريف غالب الذي ساند قواته وساعدها على دخول الحجاز ‪ ، 3‬كما أن قادة الدعوة السلفية‬
‫السعوديين قد عرضوا عليه الصلح‪ ،‬ولكن محمد علي وضع شروطا صعبة التحقيق لقبول‬
‫الصلح وكذلك ضمن رده على طلب الصلح تهديدا يرويه الجبرتي فيقول‪( :‬وأما الصلح فل نأباه‬
‫بشروط وهو أن يدفع لنا كل ماصرفناه على العساكر من أول ابتداء الحرب الى وقت تاريخه‪،‬‬
‫وان يأتي بكل ماأخذه واستلمه من الجواهر والذخائر التي كانت بالحجرة الشريفة ‪ ،‬وكذلك ثمن‬
‫مااستهلك منها وأن يأتي بعد ذلك ويتلقى معي وأتعاهد معه ويتم صلحنا بعد ذلك وإن أبى ذلك‬
‫()‬
‫ولم يأت ‪ ...‬فنحن ذاهبون إليه) ‪. 4‬‬

‫ثامنا‪ :‬حقيقة حملة محمد علي على الحجاز ونجد‪:‬‬


‫إن الحرب بين محمد علي وأتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم تكن بين قوات يدين طرفاها‬
‫بالسلم‪ ،‬كما لم تكن حربا عربية عربية كما يحاول البعض أن يصفها‪ ،‬بل إن هذه الحرب‬

‫‪ )(1‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.186‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬من أخبار الحجاز ونجد‪ ،‬محمد أديب غالب‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ )(4‬عجائب الثار أخبار يوم آخر القعدة سنة ‪1328‬هـ‪ ،‬أديب غالب ‪ ،‬ص ‪.149‬‬
‫‪-441-‬‬
‫كانت بين قوة اسلمية ليست لها أية أطماع سياسة ولكنها أبدت غيرة وحرصا على العودة الى‬
‫المبادئ الساسية للدين السلمي وهي القوة السعودية‪ ،‬كما أظهرت حماسا في دفع خطر‬
‫المستعمرين (الكفار) عن الديار السلمية‪ ،‬أما القوة التي حاربتها والمرسلة من قبل والي‬
‫مصر ‪-‬والتي لم تكن مصرية بأي صورة من الصور؛ فأغلبها من الرناؤوط وبعض التراك‬
‫()‬
‫والنصارى وبعض الضباط الفرنسيين ‪ ، 1‬ول يحمل أغلب قادتها من السلم سوى السم‪،‬‬
‫ويصور لنا المؤرخ الجبرتي طبيعة هذه القوة من خلل تعليق من وصفه بالصلح والورع‪،‬‬
‫وهو شاهد عيان ‪ ،‬على هزيمة هذه القوات في البداية أمام أتباع الدعوة السلفية فيقول‪( :‬أين لنا‬
‫النصر‪ ..‬وأكثر عساكرنا على غير الملة! وفيهم من ليتدين بدين‪ ،‬ول ينتحل مذهبنا‪ ،‬وصحبتنا‬
‫صناديق المسكرات وليسمع في عرضينا آذان ولتقام به فريضة‪ ،‬ليخطر في بالهم ول‬
‫خاطرهم شعائر الدين‪ .‬والقوم (يقصد الوهابيون) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون وينتظمون‬
‫صفوفا خلف أمام واحد بخشوع وخضوع‪ ،‬وإذا حان وقت الصلة والحرب قائم‪ ،‬أذن المؤذن‬
‫وصلوا صلة الخوف فتتقدم طائفة الحرب وتتأخر الخرى للصلة وعسكرنا يتعجبون من ذلك‬
‫لنهم لم يسمعوا به فضلً عن رؤيته‪ .‬وينادون في معسكرهم هلموا الى حرب المشركين‪،‬‬
‫المحلقين الذقون المستبيحين الزنا واللواط الشاربين الخمور‪ ،‬وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر‬
‫فوجدوهم غلفا غير مختونين‪ ،‬ولما وصلوا بدرا واستولوا عليها وعلى القرى والخيوف وبها‬
‫()‬
‫خيار الناس وبها أهل العلم الصلحاء نهبوهم وأخذوا نساؤهم وبناتهم وأولدهم وكتبهم) ‪. 2‬‬
‫إن محمد علي لم يكن متقيدا بشرع ال في حربه بل كان مخالفا للشرع متعديا على حدود ال‬
‫تعالى غير مبالي بأحكام السلم فهذا جيشه يقتل ويدمر ويأخذ الموال ويهتك العراض من هم‬
‫المسلمين الموحدين‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬محمد انيس‪ ،‬ص ‪.233‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪:‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.188‬‬
‫‪-442-‬‬
‫في موقعة الجمل يقول لصحابه‪( :‬لتتبعوا مدبرا‪ ،‬ول تجهزوا على جريح‪،‬‬ ‫فهذا علي‬
‫()‬
‫ومن ألقي سلحه فهو آمن) ‪. 1‬‬
‫وقال ‪..( :‬وإياكم والنساء وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراكم وإن الرجل ليتناول المرأة‬
‫()‬
‫بالجريدة أو الهراوة فيعيّر بها هو وعقبه من بعده‪. 2 )...‬‬
‫قال‪ ( :‬شهدت صفين وكانوا ليجهزون على جريح‪ ،‬وليقتلون‬ ‫وعن أبي أمامة الباهلي‬
‫()‬
‫موليّا‪ ،‬وليسلبون قتيلً ‪. 3 " ...‬‬
‫إن السلطان العثماني كان يكفيه خضوع الحجاز لحكمه ومهاجمة الدرعية لم تكن مطلبا ملحا‬
‫أو ضروريا للدولة العثمانية‪ ،‬وكان محمد علي متشددا في شروط الصلح مما يدل على حرصه‬
‫على استمرار الحرب‪ ،‬لن هدفه من هذه الحرب خدمة أطماعه التوسعية في إطار ما تسمح به‬
‫أهداف السياسة البريطانية في المنطقة‪ ،‬بعد أن أصبحت الدولة السعودية تشكل خطرا بالغا على‬
‫الوجود البريطاني في المنطقة بأسرها سواء في البحر الحمر أم في الخليج العربي أم في‬
‫وصولها إلى الطريق البري عبر العراق‪ ،‬وأصبحت بريطانيا تحس بتهديد حقيقي لمصالحها في‬
‫()‬
‫الشرق‪ ،‬ولهذا فإن وصف هذه الحملة بأنها حملة صليبية في ثوب إسلمي يعد وصفا حقيقيا ‪. 4‬‬
‫عندما انهزم طوسون بن محمد علي أمام المير عبدال بن سعود وتحطم نصف جيشه‪ ،‬خرج‬
‫محمد علي بنفسه إلى الحجاز عام ‪1813‬م وقبض على شريف مكة ( غالب بن مساعد واتهمه‬
‫بالتآمر مع السعوديين‪ ،‬وصادر كل مايملك من أموال وأثاث ومتاع‪ ،‬وبذلك أصبح شريف مكة‬
‫من موظفي محمد علي في الحجاز‪ .‬ولم يلبث أن انتصر محمد علي في يناير ‪1815‬م على‬

‫‪ )(1‬رواه ابن ابي شيبة كتاب الجمل (‪.)15/263‬‬


‫‪ )(2‬نصب الرأية للزيلعي (‪.)3/463‬‬
‫‪ )(3‬الحاكم بسند صحيح ووقفه الذهبي في المستدرك (‪.)2/155‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.189‬‬
‫‪-443-‬‬
‫()‬
‫القوات السعودية في موقعة بسل ‪ ، 1‬وهي الموقعة التي يعتبرها البعض " من أكبر وقائع‬
‫()‬
‫الحرب الوهابية‪ ،‬بل من أهم المعارك في تاريخ مصر الحربي " ‪. 2‬‬
‫ولم يمكث محمد علي في الجزيرة العربية ليتابع النصر الذي أحرزه‪ ،‬بل عاد إلى مصر‬
‫()‬
‫تاركا ابنه طوسون بالحجاز ‪ ، 3‬وسرعان ماتمكن طوسون من هزيمة السعوديين هزيمة جديدة‬
‫لول مرة‪ ،‬وأسرع بالزحف على القسم الشمالي من نجد فبلغ في زحفه مدينة الرس‪ ،‬ثم احتل‬
‫الشبية وأصبح الطريق إلى الدرعية مفتوحا أمامه وأسرع المير عبدال بطلب فتح باب‬
‫المفاوضات حقنا للدماء وحماية للمدن والقرى‪ ،‬ودارت المفاوضات بين الطرفين على مشروع‬
‫الصلح بالشروط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬إحتلل القوات المصرية الدرعية‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يضع المير عبدال نفسه تحت تصرف طوسون باشا‪ ،‬فيسافر إلى الجهة التي يريده‬
‫أن يسافر إليها‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يؤمن المير عبدال سبل الحج‪ ،‬وأن يكون خاضعا لحكم المدينة من قبل محمد علي‬
‫إلى حين الموافقة على الصلح‪.‬‬
‫‪ -4‬أل تصبح هذه الشروط ‪ -‬في حالة التفاق عليها ‪ -‬نافذة المفعول إل بعد إقرارها من‬
‫محمد علي‪.‬‬
‫غير أن هذه القوات لم تقبل من جانب المير عبدال‪ ،‬وقرر إرسال وفد إلى مصر للتفاوض‬
‫مع محمد علي مباشرة حول شروط الصلح‪ ،‬إل أن الوفد فشل في مسعاه بسبب تشدد الباشا‪.‬‬
‫وتأهب السعوديون للحرب والقتال‪ ،‬فأرسل محمد علي حملة جديدة عام ‪1816‬م بقيادة ابنه‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة السعودية الولى‪ ،‬د‪.‬عبدالرحيم عبدالرحمن ‪ ،‬ص ‪.235-199‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪-444-‬‬
‫()‬
‫إبراهيم باشا ‪. 1‬‬
‫وزحف إبراهيم باشا بقواته من الحجاز صوب نجد‪ ،‬ونجح في الستيلء على مدن عنيزة‬
‫وبريدة وشقراء‪ ،‬وإخضاع كل منطقة القصيم وابتع إبراهيم في زحفه سياسة الملينة مع القبائل‬
‫وهي سياسة كان من شأنها استمالة عدد كبير من أهل نجد‪ ،‬إذ كان يعقد دائما المجالس ويمنح‬
‫الهبات للناس‪ ،‬واتخذ في بداية المر اسلوبا استعطف به القبائل فمنع النهب والسلب‪ ،‬واستطاع‬
‫بخبرائه العسكريين الفرنسيين أن يواصل زحفه حتى الدرعية التي ضرب الحصار عليها‬
‫لمناعتها‪ ،‬وكان حصارا طويلً استمر من ‪ 6‬إبريل إلى ‪ 9‬سبتمبر ‪1818‬م‪ ،‬وانتهى باستسلم‬
‫المير عبدال بن سعود ودخول إبراهيم الدرعية‪ ،‬حيث أرسل من هناك المير السعودي في‬
‫()‬
‫حراسة مشددة إلى مصر‪ ،‬ثم أرسل من القاهرة إلى استانبول ‪ ، 2‬لقد شهر بالمير عبدال في‬
‫( ‪)3‬‬
‫وستظهر‬ ‫شوارع استانبول ثلثة أيام كاملة ثم أمر بإعدامه شنقا فرحمة ال على ذلك المظلوم‬
‫حقيقة مقتله يوم الشهاد‪ .‬إن الذي دعا إلى الصلح صلح أهل الجزيرة من خلل رسالة وجهها‬
‫الشيخ أحمد الحنبلي إلى طوسون لقد بينوا أنهم يعترفون بإمارة السلطان العثماني وأنهم‬
‫ليخرجون عن دولة الخلفة فلما إذن كان الصرار على توجيه القوات إلى جزيرة العرب؟‬
‫وهكذا أزهقت أرواح المسلمين بأيدي بعضهم البعض‪ ،‬نتيجية كيد العداء‪ .‬لقد قام أهل الجزيرة‬
‫بمساندة مسلمي مصر عندما احتلها الفرنسيون فلماذا هذا العتداء المتعمد؟ إن محمد علي‬
‫استطاع بواسطة الزعماء الذين ينسبون إلى السلم أن يقنع كثير من عوام الناس بأنهم يفعلون‬
‫ذلك امتثالً لمر خليفة رسول ال‪ ،‬الذي له عليهم حق السمع والطاعة وأن الهدف من ذلك منع‬
‫()‬
‫جزيرة العرب من النفصال عن جسد دولة الخلفة ‪. 4‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة السعودية الولى ‪ ،‬ص ‪.345-339‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬ص ‪.174‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪. 174‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪-445-‬‬
‫إن قضية الولء والبراء كانت غائبة تماما عن محمد علي‪ ،‬بدليل أنه أعطى ولءه لعداء‬
‫السلم وسمح لهم بأن يقودوه ويقودوا المة معه إلى حتفها‪ ،‬وهذه نتيجة عملية لوصول تاجر‬
‫()‬
‫دخان ظل غير معروف النسب إلى سدة الحكم في بلد المسلمين ‪. 1‬‬
‫لقد كانت سعادة بريطانيا كبيرة عندما علمت بسقوط الدرعية‪ ،‬عاصمة الدولة السعودية‬
‫()‬
‫الولى‪ ،‬في أيدي قوات إبراهيم باشا ‪ ، 2‬فقد كانت هي الدولة السلفية التي دعمت القواسم في‬
‫جهادهم ضد بريطانيا في الخليج العربي‪ ،‬مما يعني تهديد المصالح البريطانية في الهند كما‬
‫()‬
‫أسلفنا ‪ ، 3‬وهنا يجدر بنا أن نسأل‪ ،‬خاصة في تلك الحداث التي عاشها العالم السلمي في‬
‫تاريخه الحديث‪ ،‬لنقول‪ :‬لو أن جيوش محمد علي وجيوش الدولة العثمانية تعاونت مع الدولة‬
‫السعودية الولى بدلً أن تحاربها‪ ،‬لتقفا معا في وجه الطماع الوروبية بشكل عام‪ ،‬وبريطانيا‬
‫بوجه خاص‪ ،‬أنه لو تم ذلك لتغير وجه التاريخ‪ ،‬خاصة وأن الدولة السعودية دولة مسلمة أقامت‬
‫دعائمها على المبدأ السلفي الصحيح‪ ،‬والعالم السلمي في تلك الفترة في أمس الحاجة إليها‪،‬‬
‫وعلى أية حال فلقد أدركت بريطانيا مدى الستفادة من هذه الظروف‪ ،‬فأسرعت بزف التهاني‬
‫إلى إبراهيم باشا‪ ،‬من مبدأ الحتواء في ضوء المصالح الذاتية لها‪ ،‬وبعثت بالكابتن جورج‬
‫( ‪)4‬‬
‫لتقديم التهنئة لبراهيم باشا لستيلئه على الدرعية‪ ،‬ولمحاولة إيجاد قاعدة‬ ‫فورستر سادلير‬
‫يمكن من خللها التنسيق بين قوات الباشا البرية‪ ،‬والقوات البريطانية البحرية للقيام بعمل حربي‬
‫()‬
‫مشترك ضد القواسم‪ ،‬أتباع الدولة السعودية الولى ‪. 5‬‬
‫إن العلقة بين بريطانيا ومحمد علي قديمة وفي بداية حكمه دخل في مفاوضات معهم‬
‫‪)(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.97‬‬
‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬دراسات في تاريخ الخليج العربي الحديدث والمعاصر (‪.)1/198‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الحساء السياسي ‪ ،‬د‪.‬محمد عرابي ‪ ،‬ص ‪.43-42‬‬
‫‪ )(4‬ج ج لوريمر‪ :‬دليل الخليج التاريخي ( ‪.)1010-2/1009‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬حروب محمد علي في الشام‪ ،‬د‪.‬عايض الروقي‪ ،‬ص ‪.112‬‬
‫‪-446-‬‬
‫استمرت أربعة أشهر أكد فيها محمد علي جديته ورغبته المخلصة في الرتباط بهم بل وطلب‬
‫وضع نفسه تحت حمايتهم وهو مايؤكد تقرير فريزر الذي تولى التفاوض معه‪ ،‬المر الذي أدى‬
‫‪ -‬بعد اقتناعهم بذلك‪ -‬الى تخليهم عن أصدقائهم من المماليك‪ .‬وقد تضمن التقرير الذي أعده‬
‫قائد الحملة فريزر الذي تفاوض مع رسل مع محمد علي والذي أرسله الى الجنرال مور في‬
‫‪ 16‬اكتوبر سنة ‪1807‬م أهم جوانب هذه المفاوضات فقد جاء فيه ‪( :‬أرجو أن تسمحوا لي بأن‬
‫أبسط لكم ليكون ‪ ...‬موضع نظركم فحوى محادثة جرت بين باشا مصر والميجر جنرال‬
‫"شريروك" والكابتن "فيلوز" أثناء قيامهما بمهمتهما لدى سموه‪ .‬ولدي مايجعلني أعتقد أن هذه‬
‫المحادثة ‪ ،‬ومن اتصالت خاصة كثيرة اخرى كانت لي معه‪ ،‬بأنه جاد وصادق فيما يقترحه‪.‬‬
‫لقد أبدى محمد علي باشا والي مصر رغبته في أن يضع نفسه تحت الحماية البريطانية‪،‬‬
‫ووعدناه بإبلغ مقترحاته الى الرؤساء في قيادة القوات البريطانية كي يقوم هؤلء بإبلغها الى‬
‫الحكومة النجليزية للنظر فيها‪ .‬ويتعهد محمد علي من جانبه بمنع الفرنسيين والتراك أو أي‬
‫جيش تابع لدولة أخرى من الدخول الى السكندرية من طريق البحر وبعد الحتفاظ بالسكندرية‬
‫كصديق وحليف لبريطانيا العظمى ولكنه لمناص له من النتظار أن تعاونه انجلترا بقواتها‬
‫البحرية اذا وقع هجوم عليه من جهة البحر لنه ليملك سفنا حربية‪ .‬ويوافق محمد علي باشا‬
‫في الوقت نفسه على تزويد كل السفن البريطانية التي تقف على بعد من السكندرية بما قد‬
‫()‬
‫تحتاج إليه من ماء النيل عند إعطائها إشارة يصير التفاق عليها) ‪. 1‬‬
‫وقد علق القنصل الفرنسي دروفتي على مابلغه من معلومات حول التفاق بين محمد علي‬
‫والنجليز الذي هو من نوع معاهدة بأن (مثل هذه المعاهدة عند إبرامها سوف تحقق الغراض‬
‫التي توخاها النجليز من إرسال حملتهم على مصر إن لم يفق أثرها من هذه الناحية كل ما كان‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مصر في مطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬د‪.‬محمد فؤادي شكري (‪.)2/856،857‬‬
‫‪-447-‬‬
‫()‬
‫يتوقعه هؤلء من إرسال هذه الحملة) ‪. 1‬‬
‫ولم يشأ النجليز العلن عن كل مااحتوته بنود هذه التفاقية في أعقاب توقيعها وإخلئهم‬
‫السكندرية وتسليمها الى باشا مصر حيث رأت بريطانيا ضرورة التريث في ذلك لما تحتويه‬
‫من إعلن العداء الواضح للدولة العثمانية‪ ،‬لمساندتها لحاكم يريد الستقلل عنها في وقت كانت‬
‫الدبلوماسية النجليزية لها مصالحها الكبرى مع دولة الخلفة والستفادة منها ومن عميلها الجديد‬
‫()‬
‫لبسط نفوذها على المنطقة إن أمكن ‪. 2‬‬

‫تاسعا‪ :‬ثورة اليونان‪:‬‬


‫كانت أوروبا حريصة على تمزيق الدولة العثمانية واتخذت لذلك الهدف وسائل متعددة منها؛‬
‫إثارت الفتن الطائفيةوالدينية وتفجير الثورات الداخلية بدعمها المادي والمعنوي كانت بلد‬
‫اليونان تشكل جزءا من ديار السلم‪ ،‬ويؤذن في مدنها وأريافها للصلوات الخمس في اليوم‬
‫والليلة لقرون عديدة وكانت تحكم بشريعة السلم‪ ،‬وكان ذلك ليروق لزعماء النصارى سواء‬
‫من اليونان أو غيرهم من الدول الوروبية ولذلك شرعوا في تأسيس جمعيات سرية في داخل‬
‫بلد اليونان وفي روسيا وغيرها هدفها إحياء المبراطورية البيزنطية القديمة على أن نكون‬
‫تحت إدارة البطريركية الرثوذكسية الرومية في استانبول ولو أصبح كثير من البطارقة‬
‫( ‪)3‬‬
‫والقساوسة ورجال الدين أعضاء أصليين في هذه الجمعيات السرية المناهضة للدولة العثمانية‬
‫وقام رجال الدين بأستخدام نفوذهم على الشعب وتحريكهم للثورة ضد الدولة العثمانية وكان‬
‫القساوسة ورجال الدين على صلت وثيقة بزعماء الدول الوروبية وخصوصا روسيا ونجد‬
‫وثيقة تاريخية هامة تدل على هذا التصال من أجل التنسيق والتعاون على تدمير الدولة‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه (‪.)2/826‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.174‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬ثريا شاهين‪ ،‬ص ‪.56،57‬‬
‫‪-448-‬‬
‫العثمانية وشعبها ومقوماتها‪:‬‬
‫(وهذا نص رسالة البطريرك "جريجو ريوس" الى قيصر روسيا يبين له فيه كيفية هدم الدولة‬
‫العثمانية من الداخل)‪:‬‬
‫(من المستحيل سحق ‪ ،‬وتدمير التراك العثمانيين بالمواجهة العسكرية؛ لن التراك‬
‫العثمانيون ثوريّون جدا ومقاومون‪ ،‬وواثقون من أنفسهم‪ ،‬وهم أصحاب عزة نفس واضحة‪،‬‬
‫وهذه الخصال التي يتمتعون بها إنما تنبع من ارتباطهم بدينهم‪ ،‬ورضائهم بقضاء ال وقدره‬
‫وتشبعهم بهذه العقيدة‪ ،‬وأيضا من قوة تراثهم وتاريخهم‪ ،‬وطاعتهم ومؤازرتهم لسلطانهم وقادتهم‬
‫واحترامهم لكبارهم‪.‬‬
‫التراك العثمانيون أذكياء‪ ،‬وهم مجدّون مجتهدون متجاوبون مع رؤسائهم الذين يوجهونهم‬
‫ويقودنهم في الطريق اليجابي الصحيح مما يجعلهم قوة هائلة تُخشى منها؛ فهي تتميز بالقناعة‬
‫والتصميم وشدة المراس والثبات عند المواجهة‪.‬‬
‫إن كل مزايا التراك العثمانيين هذه ‪ ،‬بل‪ ،‬وبطولتهم وشجاعتهم إنما تأتي من قوة تماسكهم‬
‫بدينهم وإرتباطهم بأعرافهم وتقاليدهم وصلبة أخلقهم ‪ ،‬ولذا‪:‬‬
‫أولً‪ :‬لبد من كسر شعور الطاعة عندهم تجاه سلطانهم وقادتهم وتحطيم روحهم المعنوية‬
‫وروابطهم الدينية؛ وأقصر طريق لتنفيذ هذا ‪ ،‬تعويدهم التعايش مع أفكار وسلوكيات غريبة‬
‫لتتوائم مع تراثهم الوطني والمعنوي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬لبد من إغراء التراك العثمانيين لقبول المساعدات الخارجية التي يرفضونها من‬
‫إحساسهم بعزتهم ‪ -‬وتعويدهم عليها؛ حتى لو أدى ذلك الى إعطائهم قوة وقدرة ظاهرتين فقط‬
‫لمدة محدودة‪.‬‬
‫وفي اليوم الذي تهتز فيه معنوياتهم ‪ ،‬ستهتز قدراتهم الذاتية‪ ،‬فهذه المعنويات والروابط هي‬
‫التي تدفعهم نحو النصر‪ ،‬إضافة الى قدراتهم الخرى وكثرتهم العددية ‪-‬التي تبدو في الشكل‬
‫أكبر مما هي عليه في الواقع في السيطرة والحكم‪ ،‬ووجودهم في المجتمع الدولي‪.‬‬
‫‪-449-‬‬
‫كذلك يمكن هدمهم وتدميرهم بإعلء أهمية وقيمة المور المادية في تصوراتهم وأذهانهم ‪-‬‬
‫أي إفسادهم بالغراءات المادية‪ ،‬فإنه ليس بكاف إحراز انتصارات عليهم في ميدان الحرب‬
‫العسكرية فقط‪ ،‬ولكن العكس هو الصحيح؛ لن إذا اتبع طريق الحرب ‪-‬وحده‪ -‬لتصفية الدولة‬
‫العثمانية ‪ ،‬ويكون سببا في تنبههم وسرعة إيقاظهم ووصولهم لمعرفة حقيقة مايخطط وُيبّيت في‬
‫الخفاء لهم ولوطنهم من تخريب وتدمير‪.‬‬
‫إن مايجب علينا عمله هو إكمال هذه التخريبات في بنيتهم الذاتية والجتماعية ومكانتهم‬
‫()‬
‫الدولية دون أن يشعروا بشيء) ‪. 1‬‬
‫لقد كان البطريك "جريجو ريوس" بطريك استانبول عضوا فعالً في خدمة الجمعية‪ ،‬وكان‬
‫يستخدم كل موظفيه وكل نفوذه لتنفيذ أوامر الجمعية السرية التي تسعى لقيام دولة اليونان‬
‫الكبرى وكان خطوات الجمعية كالتالي‪:‬‬
‫‪ -1‬انشاء جمعيات سرية في كل مكان في الدولة العثمانية‪ ،‬والقيام بتسجيل أغنياء الروم‬
‫‪-‬وأكثرهم نفوذا‪ -‬في هذه الجمعيات‪ ،‬كان هذا من أجل ضمان المساعدات المادية والمعنوية‪.‬‬
‫‪ -2‬تعيين المشهورين من الهيلينيين من رجال الكنيسة ‪ ،‬رؤساء للجمعية‪.‬‬
‫‪ -3‬تأسيس شركات تجارية لتأمين مصدر مالي للجمعية السرية‪.‬‬
‫‪ -4‬الفادة من الشباب الهيليني الذي يدرس في أوروبا‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -5‬العمل على تأمين مساعدة الدول الكبرى ‪. 2‬‬
‫وأمتدت شبكات الجمعية السرية في بلد الموره وخارجها وعملت المكائد للتخلص من‬
‫العوائق الداخلية وأعلنت تمردها عام ‪1821‬م وفي هذا التمرد ‪ ،‬قام جرمانوس أسقف باتراس‬
‫‪-‬رئيس تنظيم الجمعية السرية في الموره‪ -‬بحمل علم عليه صورة مريم بزعمه وأخذ يصيح (يا‬

‫‪ )(1‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬ترجمة محمد حرب تأليف ثريا شاهين‪ ،‬ص ‪ 70‬الى ‪.72‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪-450-‬‬
‫أيتها المة اليونانية! هيا أفيقي وأقتلي التراك) و‪...‬يدعو كل الروم للحرب ضد العثمانيين ‪،‬‬
‫وفي هذا الوقت أيضا كان التمرد قد بدأ يتسع نطاقه وانتشاره‪.‬‬
‫بدأ هذا التمرد عام ‪1821‬م ‪ ،‬مكتسبا شخصية وطنية ودينية وقاده رجال الدين‪.‬‬
‫وقد صرح مكاريوس رئيس جمهورية قبرص السابق في حوار أجراه معه الصحفي‬
‫والمحامي التركي (نوزاد قراكيل) عام ‪1951‬م بقوله‪ ..( :‬ربما تعلمون أن الكنيسة قادت تمرد‬
‫اليونان ‪-‬ضد العثمانين‪ -‬عام ‪1821‬م ‪ .‬وكان القساوسة هم الذين أخذوا بزمام المبادرة؛ أي أنهم‬
‫( ‪)1‬‬
‫أول من رفع راية التمرد‪ ،‬وعن طريقهم حصلت اليونان على استقللها من الدولة العثمانية)‬
‫()‬
‫ثم قال‪ :‬إن الحرية هي الفكرة المثلى للمسيحية ‪ . 2‬والحق أن هذا هو الواقع لقد كُلف القساوسة‬
‫بإبلغ القرى والقصبات بأن الهجوم على التراك ‪-‬للقضاء عليهم‪ -‬سيحدث ليلة عيد الفصح‪،‬‬
‫وأخذوا يقسمون بعدم إفشاء هذا السر لحد قبل موعده المحدد‪ .‬علم العثمانيون من بعض‬
‫أصدقائهم بهذا الموقف فانسحبوا ‪-‬من قبيل الحتياط‪ -‬الى القلع‪ .‬ولكن لم تجد هذه القلع مددا‬
‫فلم تقوَ على الصمود فسقطت واحدة تلو الخرى في أيدي العصاة المتمردين‪.‬‬
‫وفي مدة قليلة ‪ -‬حوالي ثلثة أسابيع‪ -‬استطاع المتمردون خللها السيطرة على المورة كلها‪،‬‬
‫باستثناء المقاومة الشديدة التي أبداها العثمانيون في قلعة (تريبوليجة) ‪-‬وهي مركز ولية‬
‫الموره‪ ،-‬وحيث استمرت هذه المقاومة شهورا عديدة‪ .‬وقد قتل الروم ‪-‬بوحشية منقطعة‬
‫النظير‪ -‬العثمانيين الذين وقعوا في السر ‪-‬اثناء هذا التمرد‪ -‬وسلبوا أموالهم‪.‬‬
‫كان رجال الدين علىصلة مستمرة وقوية بكبار رجال جمعية (الفكرة العظمى) ودائما في‬
‫تعاون وثيق معهم‪ .‬وساعد القساوسة في الديرة القوات الرومية في الفلق والبغدان‪ ،‬ودفعت‬
‫لهم الكنيسة الموال من صناديقها ‪ .‬كذلك سمح القساوسة للمتمردين باستخدام الديرة مخازن‬

‫‪ )(1‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.64‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪-451-‬‬
‫للمدافع والبارود‪ ،‬كما سمحوا لهم باستخدامها (اي الديرة) ملجئ لهم‪.‬‬
‫وقد أرسل المطران باليابادرا رسالة الى القنصل الروسي قال له فيها‪( :‬من أجل التخلص من‬
‫()‬
‫التراك تماما يجب أن تقوم روسيا بمساعدة الشعب المتمرد) ‪. 1‬‬
‫لعب بطريرك جريجوريوس دورا كبيرا في تمرد الروم ضد الحكم العثماني كما ذكرنا‬
‫سابقا‪ ،‬ولكن لبد أن نوضح هنا أن هذا البطريرك رغم أنه كان عضوا في جمعية مبدأ إقامة‬
‫اليونان الكبرى أو مايسميه الروم باسم الفكرة العظمى‪ ،‬فقد خاف عندما أعلنت روسيا ‪-‬حسب‬
‫مقتضيات السياسة الروسية وقتها‪ -‬أنها تستنكر عصيان الرثوذكس‪.‬فأضطر البطريرك‬
‫()‬
‫جريجوريوس الى اصدار مرسوم سماه باسم (بيان الحرمان) ضد المتمردين ‪. 2‬‬
‫استطاعت المخابرات العثمانية أن تأتي بمعلومات مؤكدة وموثقة مفادها (أن خطة إقامة دولة‬
‫()‬
‫اليونان الرثوذكسية الكبرى‪ ،‬قد أعدها البطريرك بنفسه) ‪. 3‬‬
‫وعندما وصلت الخبار للسلطان محمود الثاني أصابته الدهشة وأصدر أوامره لتفتيش مقر‬
‫البطريرك‪ ،‬واستطاع علي باشا أن يقوم بإعداد خطة مداهمة البطريركية بإحكام بالغ‪ ،‬أدت عند‬
‫تنفيذها الى وقوع الوثائق المشار إليها في أيدي المسؤولين ورجال الحكومة‪.‬‬
‫كان من بين هذه الوثائق؛ تلك الخطابات الموجهة الى القساوسة الذين قادوا العصيان في‬
‫الموره‪ ،‬والمعلومات الصادرة لتخاذ التدابير اللزمة ‪-‬للعصيان‪ -‬في استانبول‪ ،‬والستعدادات ‪،‬‬
‫الترتيبات السرية التي تتكتم الدولة العثمانية عن أخبارها ثم سرّ بها أمراء الروم التابعين‬
‫للكنيسة‪ ،‬والمراسلت والمعلومات التي وصلت الى البطريركية من سفارتي إنجلترا وفرنسا‬
‫‪-‬خاصة معلومات مراحل الستعداد الرومية في روسيا وأخبار السلحة المرسلة من مركز‬
‫الجمعية السرية في مدينة أوديسا‪ ،‬وبيانات ونداءات طلب المعونة الموجهة الى كل الرثوذكس‬
‫‪ )(1‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪)(3‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.67‬‬
‫‪-452-‬‬
‫في جميع أنحاء العالم‪ ،‬وإيصالت دفع نقود المساعدات المالية‪ ،‬للبطريركية من أجل العصيان‪.‬‬
‫وقع كل هذا في أيدي الحكومة العثمانية ولم ينكر البطريرك أي شيء من هذا‪ ،‬حيث قال‪ :‬إنه‬
‫هو الذي قام بعمل كل شيء ‪ ،‬و َقبِلَ التهم الموجهة إليه‪ ،‬وكان له شركاء في الجريمة‪ ،‬وقد‬
‫عرفتهم الحكومة‪.‬‬
‫وأصدر السلطان محمود الثاني فرمانا بعزل البطريرك جريجوريوس من منصبه‪ ،‬ثم‬
‫()‬
‫إعدامه ‪ . 1‬وقد نفذ حكم العدام يوم عيد الفصح عند الروم الرثوذكس ثم أصدر السلطان‬
‫فرمانا آخر لنتخاب شخص يحل محل البطريرك السابق وسلم الفرمان الى استافراكي بك‬
‫ترجمان الديوان الهمايوني‪ ،‬فارتعدت جماعته هلعا بعد توجيه استافراكي الى البطريركية ‪ ،‬وقرأ‬
‫()‬
‫على المسؤولين ذلك الفرمان‪ ،‬ثم انتخبوا (أويانيوس) بطريريكا ‪. 2‬‬
‫وشرعت الحكومة العثمانية في إعدام بعض قادة التمرد‪ ،‬وقد أثر ذلك تأثيرا كبيرا في إعادة‬
‫السكون حتى أن البطريرك أصبح واسطة بين المتمردين ‪-‬في الموره‪ -‬وبين الحكومة العثمانية‪.‬‬
‫ووصل به المر الى أن يرسل مايسمى بـ"عرض حال" يطلب فيه الذن بالدعوة الى الستئمان‬
‫"طلب المان"‪ .‬ولقد استجابت السلطات العثمانية لمساعي البطريرك الجديد‪ ،‬وتم العفو على كل‬
‫من أظهر الندم على مافعله ‪ ،‬فاستردوا أموالهم وأملكهم؛ وأما الموتى فقد أخذ وارثوهم‬
‫مايستحقونه‪ ،‬واستمرت الكنائس في أداء أدوارها ‪ ،‬كما سارت الطقوس الدينية النصرانية كما‬
‫هي عليه‪ ،‬كذلك تعهدت الحكومة براحة هؤلء الناس واستقرارهم‪ ،‬وتم إبلغ سفراء الدول‬
‫الجنبية بذلك؛ وبرغم كل هذا فقد استمرت الحداث ولم تتوقف واضطرت الحكومة الى‬
‫()‬
‫التدخل ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.73‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.74‬‬
‫‪-453-‬‬
‫عاشرا ‪ :‬محمد علي باشا واليونان‪:‬‬
‫قام محمد علي بدوره في القضاء على الدعوة السلفية في الجزيرة وحان الوقت لضعافه‬
‫وتقليم أظافره ولذلك دفعت الدول الوروبية السلطان محمود الثاني بالستعانة بجيشه لخماده‬
‫فتنة التمرد في اليونان وأثارت الدول الوروبية على محمد علي بقبوله المهمة وأوهمته بأنه‬
‫سيكون أكبر زعيم في المنطقة ويمكن أن يؤدي به المر ليكون خليفة المسلمين بعد أن يضعف‬
‫سلطان الخلفة وقبل محمد علي باشا عرض السلطان محمود الثاني بشرط أن يحصل على‬
‫ولية كل من كريت واليونان وبمجرد تلقيه خبر القبول ‪-‬لهذا الشرط‪ -‬أمر أبنه ابراهيم باشا‬
‫( ‪)1‬‬
‫وتحركت جيوش مصر بقيادة ابراهيم باشا ومستشاره سليمان‬ ‫بتولي مسألة الحرب الموره‬
‫باشا الفرنساوي بحرا من السكندرية عام ‪1239‬هـ‪1823/‬م باتجاه كريت وشبه جزيرة المورة‬
‫مركز التمرد الصليبي ‪ ،‬وفتح نافرين عام ‪1240‬هـ‪1824/‬م‪ ،‬ودخل أثينا عام ‪1241‬هـ‪/‬‬
‫‪1823‬م رغم معاونة القائد النجليزي البحري اللورد كوشران الصليبيين اليونان؛ وبعد أن‬
‫أجهضت القوة السلمية التمرد اليوناني الصليبـي ابانت الصليبية الوروبية عن وجهها‬
‫الكالح‪ ،‬فأعلنت بسط حمايتها على بلد اليونان‪ .‬بل إن روسيا كانت تدعم التمرد اليوناني علنا‪،‬‬
‫ورأت أن الفرصة سانحة لدخول استانبول وإعادتها الى عهدها السابق مركزا للصليبية والوثنية‬
‫()‬
‫‪ ،‬ووقف النجليز الى جانب روسيا ‪. 2‬‬
‫وأجبرت الدولة العثمانية معاهدة (آق كرمان) في ‪ 28‬صفر عام ‪1248‬هـ‪1832 /‬م وأهم‬
‫بنودها‪:‬‬
‫يحق لروسيا الملحة في البحر السود ومرور سفنها من المضائق العثمانية دون تفتيش‪،‬‬
‫ورغم أن المعاهدة قد عقدت بسبب التمرد اليوناني الصليبي ‪ ،‬إل أنها لم تذكر شيئا عنه‪ ،‬وبعد‬

‫‪ )(1‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.98‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.99‬‬
‫‪-454-‬‬
‫قليل تقدمت انجلترا بطلب الى الدولة العثمانية في ‪ 8‬رجب ‪1244‬هـ‪1828 /‬م ‪( :‬أن تتوسط‬
‫()‬
‫الدولة العثمانية لن هذا تدخل صريح في شؤونها الداخلية ‪ ، 1‬فكان هذا الرفض حجة تذرعت‬
‫بها أوروبا لعلن الحرب مرة أخرى‪.‬‬
‫اتفقت روسيا ‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وانجلترا في ‪ 11‬ذي الحجة على اجبار الدولة العثمانية لعطاء‬
‫اليونان استقللها‪ ،‬بمعنى فصلها عن جسد الدولة الم (الدولة العثمانية) ورفض السلطان‬
‫العثماني‪ ،‬فأمرت الدول الوروبية أساطيلها بالتوجه الى سواحل اليونان‪ ،‬وطلبت من ابراهيم‬
‫باشا التوقف عن القتال فكان جوابه طبيعيا بأن يتلقى الوامر من خليفة المسلمين أو من أبيه ل‬
‫()‬
‫من غيرها‪ ،‬ومع ذلك توقف القتال عشرين يوما ريثما تصل إليه التعليمات ‪. 2‬‬
‫ودخلت الجيوش الوروبية المتحالفة الى مرفأ "نوارين" دون أن ترفع أعلم الحرب؛ لذا فقد‬
‫كان دخولها دخول خديعة وقامت هذه الساطيل بمباغتت السطول العثماني المصري المشترك‬
‫وغدرت به وأطلقت عليه النيران فهزمته هزيمة نكراء وأغرقت السفن ‪ -‬وهي مفاجأة لم يكن‬
‫يتوقعها وبالتالي لم يعمل لها أي حساب‪ -‬وبسبب هذه المعركة الغادرة انقلب الحال‪ ،‬فأصبحت‬
‫القوات العثمانية في موضع الضعف والنهزام بعد أن كانت في موقع القوة والنصر‪ .‬واستقبلت‬
‫()‬
‫الشعوب الوروبية هذه الحادثة بمظاهر الفرح والسرور ‪ . 3‬لقد قتل من جيش محمد علي أكثر‬
‫من ثلثين ألف جندي وهكذا تحقق مخطط العداء فأضعفوا قوات محمد علي وفصلوا جزء من‬
‫ديار السلم عن الدولة العثمانية‪ ،‬لقد قامت فرنسا وانجلترا بعمل مزدوج حيث شجعوا السطان‬
‫على إرسال جيش للقضاء على التمرد في بلد اليونان ثم قضوا على ذلك الجيش‪.‬‬
‫ولما رأى محمد علي باشا والي مصر ماحل به أمر ولده بالنسحاب وقامت القوات الفرنسية‬
‫بأخذ أماكن جيش محمد علي المنسحب وقامت فرنسا وانجلترا بعقد مؤتمر قرروا فيه فصل‬
‫‪ )(1‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬جمال ‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪100‬‬
‫‪ )(3‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫‪-455-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وصدق‬ ‫بلد اليونان عن الدولة العثمانية على أن يحكمها حاكم نصراني تختاره الدول الثلثة‬
‫ال حيث يقول‪ { :‬وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}‪.‬‬
‫وقال تعالى ‪ { :‬وليزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ليرقبون في مؤمن إلّ ول ذمة} لقد تآمر العداء بالتفاق مع من ينتسبون الى السلم‬
‫()‬
‫لغتصاب واحتلل ديار السلم في عهد السلطان محمود الثاني ‪. 2‬‬
‫الحادي عشر ‪ :‬محمد علي باشا يحتل الشام ويحارب الدولة العثمانية‪:‬‬
‫رأى الساسة البريطانيون والفرنسيون أن السماح لمحمد علي بتوجيه جيوشه الى الشام ثم‬
‫الناضول يخدم مصالحهم للتصدي للنفوذ الروسي المتزايد في أملك الدولة الخلفة العثمانية‬
‫وقد لقي هذا التوجه ترحيبا من محمد علي لخدمة أهداف أسياده البريطانيين خصوصا ومما‬
‫يدعم وجهة النظر هذه أن انجلترا عارضت بشدة شروع محمد علي في تنفيذ العرض الفرنسي‬
‫بغزوه للجزائر لحسابهم قبل هجومه على الشام بعام واحد‪ ،‬وهددوه بالهجوم على أسطوله‬
‫وجيشه إذا هو أقدم على مثل هذه العملية المر الذي دعاه الى التراجع عن التنفيذ على الرغم‬
‫من أنه كان قد عقد اتفاقية بهذا الخصوص مع الفرنسيين‪ ،‬وهو أمر يؤكد على أن محمد علي‬
‫ترك احتلل الجزائر بسبب ضغط بريطانيا ومخطاطتها وكان ذلك يساعد بريطانيا في عرقلت‬
‫النفوذ الروسي المتزايد في المنطقة وعلى أية حال فقد حاول محمد علي أن يخفي حقيقة دوره‬
‫وأن يتذرع بأسباب سطحية يبرر بها هجومه على الشام مثل إيواء "عبدال باشا" والي عكا لستة‬
‫آلف من المصريين الفارين هربا من التجنيد في جيش محمد علي خلل سنة ‪1831‬م فقط‬
‫ورفضه اعادتهم‪ ،‬وكذلك قيام "عبدال باشا" بعمليات ابتزاز للتجار التابعين للباشا‪ .‬وكتب محمد‬
‫علي الى الباب العالي يبلغه بقيامه بمهاجمة "عبدال باشا" لهذا السبب ‪ ،‬ورد عليه الصدر‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.101‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬د‪.‬جمال ‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪-456-‬‬
‫العظم ما يدل الباحث على مدى الضعف الذي كانت عليه الدولة العلية وعدم قدرتها على‬
‫التصدي لمحمد علي فقال ‪ ( :‬إن شكوى بعض التجار ليمكن أن تسوغ تحكيم الحسام وإشعال‬
‫النار والحرب‪ ،‬وأن ما ينشب من نزاع بين الباشوات المتجاورين ليمكن أن يسوى بإشهار‬
‫()‬
‫السيف بل بتدخل الباب العالي) ‪ . 1‬ولم يقتنع محمد علي بما قاله الصدر العظم ودفع جيوشه‬
‫بقيادة ابنه ابراهيم باشا وقام الموارنة بدعم جيش محمد علي والوقوف معه وكان الفرنسيون‬
‫يشجعون الموارنة المسيحيين بالوقوف مع ابراهيم باشا وأمدوهم بالسلح‪ ،‬وأعلن نصارى بلد‬
‫الشام‪ ،‬بأن إبراهيم باشا صديق لهم‪ ،‬وأبدوا استعدادا تاما لمساعدته‪ ،‬كما أن ابراهيم باشا‪ ،‬قد‬
‫ألغى كافة القيود المفروضة على النصارى واليهود فقط في كل بلد سيطر عليه تحت دعوى‬
‫( ‪)2‬‬
‫وهي دلئل قوية في تأثر ابراهيم باشا بالمحفل الماسوني عليه ودور هذا‬ ‫المساواة والحرية‬
‫()‬
‫المحفل ‪-‬التابع لفرنسا‪ -‬في دعم أطماعه وأطماع أبيه ‪. 3‬‬
‫وعلى الرغم من أن جيش ابراهيم باشا قد تمكن من هزيمة الجيش العثماني واستطاع أن‬
‫يستكمل سيطرته على الشام إل أن العثمانيين قد تمكنوا من إثارة الهالي ضد ابراهيم باشا‬
‫مستغلين العديد من السباب سواءً كانت دينية‪ ،‬أو اقتصادية خصوصا بعد أن ضيق "ابراهيم‬
‫باشا" الخناق على المسلمين في حين منح حريات واسعة للنصارى واليهود‪ ،‬وانتهى المر بعقد‬
‫اتفاقية لندن سنة ‪1840‬م التي حددت الوجود المصري ‪-‬لوالي مصر‪ -‬في الشام بحياة محمد‬
‫()‬
‫علي ‪. 4‬‬
‫إن مراحل احتلل قوات محمد علي للشام أكدت اتجاهه المعادي للمسلمين والمساند للنصارى‬
‫واليهود‪ ،‬وأكدت أيضا أنه كان منفذا للهداف البريطانية على الصعيد السياسي وكان منفذا‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الجامعة السلمية ‪ ،‬احمد الشوبكة ‪ ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫‪-457-‬‬
‫للهداف الفرنسية على الصعيد الثقافي في بلد الشام‪.‬‬
‫لقد فتح ابراهيم باشا الباب على مصراعيه لدخول البعثات التبشيرية الفرنسية والمريكية‪،‬‬
‫وألغى كافة القوانين الستثنائية وجميع ماكان يسري على النصارى وحدهم‪ ،‬ويعتبر بعض‬
‫الكتّاب أن عام ‪1834‬م عام تحول تاريخي حيث عاد اليسوعيون‪ ،‬وتوسعت البعثات المريكية ‪،‬‬
‫وتم نقل مطبعة الرسالية المريكية من مالطة الى بيروت‪ ،‬وأسست مدرسة للبنات في بيروت‬
‫()‬
‫على يد "إيلي سميث" وزوجته ‪ ، 1‬وزودت بعض الديرة بمطابع أخرى في إطار حرص الدول‬
‫( ‪)2‬‬
‫حتى تتمكن من تحقيق أهدافها في ظل‬ ‫الوروبية على حصر المطابع في يد المسيحيين فقط‬
‫()‬
‫عجز المسلمين عن امتلك وسيلة التعبير عن آرائهم أو نشر أفكارهم في هذا المجال ‪. 3‬‬
‫لقد كان دخول جيوش محمد علي باشا الى الشام نقطة انطلق لدور المبشرين ‪ ،‬وأنه لول‬
‫وقوف ابنه معهم لبقيت عقولهم مشلولة وأفكارهم آسنة‪ ،‬فقد تمكنت كلية "عين طورة" التي أعيد‬
‫افتتاحها ‪-‬والتي مازالت قائمة لحد الن‪ -‬من القيام بدور كبير في تكوين كوادر من الكتّاب‬
‫والمفكرين‪ .‬وفي نفس الوقت طبق سياسة تعليمية بين المسلمين كان الهدف منها الدعوة الى‬
‫( ‪)4‬‬
‫ليشرف على‬ ‫القومية بين أهالي الشام وجلب أحد الفرنسيين من مصر وهو (كلوت بك)‬
‫تطبيق هذه السياسة بعد ان اكتسب خبرة تطبيقها في مصر‪ ،‬ووضع تحت يده مطبعة كاملة لنشر‬
‫الكتب العربية لتعينه في تحقيق هدفه‪ ،‬وتمكن بكل هذه الساليب ‪-‬تشاركه الرساليات التنصيرية‬
‫ورجال الكهنوت في الديرة من أن يقلب أساليب التربية والتعليم في مدى سنوات قليلة‪ ،‬ويحقق‬
‫()‬
‫أهداف المحافل الماسونية الفرنسية في حربها للسلم والمسلمين ‪. 5‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.195‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫‪)(4‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫‪)(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫‪-458-‬‬
‫بينما كانت جيوش محمد علي تمكن النصارى في بلد الشام‪ ،‬وتضعف شوكة المسلمين بها‪،‬‬
‫كانت جيوش فرنسا في عام ‪1830‬م تغتصب الجزائر بعد ماضعفت الخلفة العثمانية ودخلت‬
‫القوات الفرنسية بما يعادل ‪ 28‬ألف مقاتل‪ ،‬وأسطولً يضم مائة سفينة ‪ ،‬وثلث سفن تحمل ‪27‬‬
‫ألف جندي بحري‪ ،‬وكانت الدول الوروبية مؤيدة لهذا الغتصاب السافر فقد حان توزيع تركت‬
‫الرجل المريض وحل المسألة الشرقية بالطريقة الوروبية‪.‬‬
‫وهنا نتساءل اين محمد علي باشا والي مصر عندما قام الفرنسيون باحتلل الجزائر؟ لماذا‬
‫سكت ؟ هل لن إمكانياته لتسمح بدعم جهاد شعب الجزائر المسلم أو أنها بعيدة عنه؟ أو لن‬
‫السكوت ثمن ووعد من دول أوروبا ومنها فرنسا لمحمد علي بأن يظل واليا على مصر‪،‬‬
‫ويتركوا له الفرصة لضم بلد الشام‪ ،‬أو غير ذلك من الوعود الظلمية التي تحبك خلف‬
‫الكواليس؟‬
‫لقد كان محمد علي مخلبا وخنجرا مسموما استعمله العداء في تنفيذ مخططاتهم ولذلك وقفوا‬
‫معه في نهضته العلمية‪ ،‬والقتصادية والعسكرية بعد أن أيقنوا بضعف الجانب العقدي‬
‫()‬
‫والسلمي لديه ولدى أعوانه وجنوده ‪. 1‬‬
‫لقد ترتب على دور محمد علي في المنطقة بأسرها أن تنبهت الدول الوروبية إلى مدى‬
‫الضعف الذي أصبحت عليه الدولة العثمانية‪ ،‬وبالتالي استعدادها لتقسيم أراضيها حينما تتهيأ‬
‫()‬
‫الظروف السياسية ‪. 2‬‬
‫وفي أعقاب هزيمة الجيوش العثمانية أمام جيوش محمد علي في الشام والناضول اضطرت‬
‫الدولة العثمانية للستنجاد بروسيا بعد أن لمست أن " محمد علي " يحظى بتأييد بريطانيا‬
‫وفرنسا‪ ،‬وعقدت معاهدة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي ‪ ،‬ص ‪.102،103‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.197‬‬
‫‪-459-‬‬
‫" انكيار اسكله سي" سنة ‪1833‬م في أعقاب هدنة كوتاهيه‪ ،‬وكانت المعاهدة بمثابة تحالف‬
‫دفاعي بين روسيا والعثمانيين‪ ،‬مما أدى إلى مسارعة كل من بريطانيا وفرنسا بالتصدي لمحمد‬
‫علي خشية المزيد من التدخل الروسي‪ ،‬وفرضت عليه اتفاقية لندن سنة ‪1840‬م‪ .‬وقد ترتب‬
‫على هذه الحداث إجهاض محاولة الصلح التي حاول السلطان محمود الثاني أن يقوم بها في‬
‫الدولة العثمانية واضطرت الدولة العثمانية لقبول وصاية الدول الوروبية في مقابل حمايتها من‬
‫()‬
‫أطماع محمد علي ‪ . 1‬وهكذا كانت سياسة محمد علي خطوة مدروسة من قبل أعداء السلم‬
‫لتهيئة المنطقة بأكملها لمرحلة استعمارية مازالت آثارها تعاني منها المة حتى اليوم‪ .‬لقد‬
‫استطاعت السياسة النصرانية الوروبية أن تحقق أهدافها التية بواسطة عميلها المخلص محمد‬
‫علي‪:‬‬
‫‪ -1‬تحطيم الدولة السعودية الولى التي كادت أن تكون خنجرا مسموما في ظهر الطماع‬
‫البريطانية في الخليج العربي خصوصا والمشرق عموما‪.‬‬
‫‪ -2‬فتح البواب على مصراعيها لقامة مؤسسات معادية للدين السلمي والمسلمين في‬
‫محافل ماسونية وإرساليات تبشيرية وأديرة وكنائس ومدارس في بذر بذور التيارات القومية‬
‫المعادية للسلم‪ ،‬وبث الفكار المعادية لمصالح المة السلمية‪.‬‬
‫‪ -3‬إتاحة الفرصة لشركات تجارية أوروبية تتحكم في القتصاد‪.‬‬
‫‪ -4‬منح امتيازات واسعة للوروبيين‪ ،‬ومنع أهالي مصر والشام من تلك المتيازات‪.‬‬
‫‪ -5‬خنق التيار السلمي الصيل‪ ،‬وضيق على العلماء والفقهاء ولم يسمح للمسلمين أن‬
‫يتكتلوا من أجل أهدافهم النبيلة‪.‬‬
‫‪ -6‬أصبح محمد علي نموذجا تحتذي به الدولة الوروبية في صنع عملئها في داخل ديار‬
‫المسلمين‪ ،‬كمصطفى كمال‪ ،‬وغيره‪.‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.198‬‬


‫‪-460-‬‬
‫وبعد أن حققت الدول الوروبية أهدافها بواسطة عميلها محمد علي حان الوقت لضعاف‬
‫قوات محمد علي وتحجيمها‪ ،‬فقد تحققت أهدافهم‪ ،‬ووصلوا إلى مقاصدهم‪ ،‬فلبد من إضعاف‬
‫قوات محمد علي‪ ،‬ودخل النجليز في صراع سافر مع قوات محمد علي واستطاعت بمساندة‬
‫أهل الشام من هزيمة قوات محمد علي‪ ،‬والستحواذ على الثغور الشامية وقتل في هذه المعارك‬
‫ثلثة أرباع قوات محمد علي ‪ ..‬من شعب مصر وبلد الشام وأجبر محمد علي تحت ضغوط‬
‫النجليز على توقيع المعاهدة‪:‬‬
‫‪ -1‬يتنازل فيها عن حكم بلد الشام‪ ،‬وأن يظل حكم مصر وراثيا له ولبنائه‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يحدد الجيش المصري بثمانية عشر ألفا‪.‬‬
‫‪ -3‬أن لتصنع مصر سفنا للسطول‪.‬‬
‫‪ -4‬أن ليعين والي مصر في الجيش ضابطا أعلى من رتبة ملزم وأن يدفع للدولة العثمانية‬
‫()‬
‫ثمانين ألف كيس سنويا ‪. 1‬‬
‫وشرعت فرنسا وانجلترا تثير الفتن الطائفية ( من عام ‪1841‬م إلى ‪1860‬م) بين القليات‬
‫غير المسلمة في لبنان‪ ،‬الهدف هو إنهاك قوة الدولة العثمانية التي أرسلت قوات لنهاء الفتنة‬
‫()‬
‫وكذلك إيجاد المبرر للتدخل الفرنسي والبريطاني في لبنان تمهيدا لتمزيقه واحتلله ‪. 2‬‬
‫واحتلت روسيا الفلق والبغدان وتم اتفاق عثماني روسي بلطه ليمان قرب استانبول عام‬
‫‪ 1265‬يونيو عام ‪1848‬م يبقى في القليمين جيشا عثمانيا روسيا حتى يستقر الوضع‪ ،‬وما دخله‬
‫الكفار الروس في ذلك؟‬
‫وبهذا المكر أصبح للنصارى وجود عسكري في ديار السلم { وإن كان مكرهم لتزول منه‬
‫الجبال }‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال ‪ ،‬ص ‪.108‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.108‬‬
‫‪-461-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫واشتد صراع الدول الوروبية على تقسيم وليات الدولة العثمانية تركة الرجل المريض‬
‫وكانت الدول الكثر اهتماما بمصير الدولة العثمانية ومصير أملكها‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ -1‬بريطانيا التي أرادت تأمين طرق مواصلتها إلى الشرق القصى والهند خصوصا‪،‬‬
‫وتأمين تجارتها معها‪ ،‬سواء عن طريق السويس والبحر الحمر‪ ،‬أو عن طريق الخليج العربي‬
‫ونهري دجلة والفرات‪.‬‬
‫‪ -2‬روسيا القيصرية التي أرادت أن تجد لها منفذا من البحر السود إلى المياه الدافئة بالبحر‬
‫المتوسط‪ ،‬وذلك بالستيلء على القسطنطينية ومضايق البسفور والدردنيل‪ ،‬والتي أرادت كذلك‬
‫أن يكون لها النفوذ الكبر في شبه جزيرة البلقان لتؤسس بها دولة سلفية كبرى‪.‬‬
‫‪ -3‬فرنسا التي أخذت على عاتقها من زمن مبكر حماية مصالح رعايا النصارى الكاثوليك‬
‫في بلد الشام بصفة عامة والمارونيين على الخص في لبنان‪ ،‬والتي أرادت رعاية مصالحها‬
‫في هذه المنطقة‪ ،‬ثم استعلء نفوذها في أملك الدول الخرى في الساحل الشمالي الفريقي‪،‬‬
‫وبالتحديد في تونس والجزائر‪.‬‬
‫‪ -4‬وفيما عدا الدول الثلثة الرئيسية التي ذكرناها‪ ،‬فإن دولً أخرى مثل النمسا وبروسيا‪،‬‬
‫اهتمت بمصير الدولة العثمانية‪ ،‬التي بات من المتوقع هلكها وزوالها‪ ،‬فسميت لذلك برجل‬
‫( ‪)2‬‬
‫لقد تضافرت عدة عوامل ساهمت في إبراز المسألة الشرقية إلى عالم‬ ‫أوروبا المريض‬
‫الوجود منها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن الطريق الذي تستطيع روسيا بواسطته الوصول إلى المياه الدافئة‪ ،‬هو الطريق الذي‬
‫يصل البحر السود ببحر مرمرة‪ ،‬ثم بحر إيجة‪ ،‬وأخيرا بالبحر المتوسط‪ ،‬أي بالمرور من‬
‫مضيقي البسفور والدردنيل‪ ،‬وهما في حوزة المبراطورية العثمانية‪.‬‬

‫‪)(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬جمال‪ ،‬ص ‪.108‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.141‬‬
‫‪-462-‬‬
‫‪ -2‬إن الدولة العظمى التي يكون لها قواعد قوية في البحر السود‪ ،‬ويتسنى لها السيطرة‬
‫على المضايق‪ ،‬تصبح ذات مركز ممتاز تتمكن بفضله من بسط سلطانها على بلد الحوض‬
‫الشرقي للبحر المتوسط‪ ،‬وعلى طريق المواصلت والتجارة من البحر المتوسط الى الهند‬
‫والشرق القصى‪.‬‬
‫‪ -3‬إن الدولة التي تمد نفوذها الى البلقان‪ ،‬تفرض سيطرتها على الشعوب البلقانية بعد تقلص‬
‫سلطان العثمانيين على هذه المنطقة‪ ،‬وتصبح كذلك ذات مركز ممتاز يمكنها من الستيلء على‬
‫()‬
‫القسطنطينية نفسها‪ ،‬ويهدد باختلل التوازن الدولي في أوروبا ‪. 1‬‬
‫وفي خلل الربع الول من القرن التاسع عشر‪ ،‬كانت سياسة الدول ‪-‬باستثناء روسيا‬
‫وفرنسا‪ -‬تدور حول المحافظة على كيان المبراطورية العثمانية لسباب ناشئة من وجود‬
‫العوامل التي ذكرناها‪.‬‬
‫وكانت بريطانيا في مقدمة الدول المتمسكة بمبدأ المحافظة على كيان المبراطورية العثمانية‬
‫( ‪)2‬‬
‫وعندما بات ممكنا ملئ الفراغ الذي ينجم من تقلص النفوذ العثماني عن البلقان تخلت‬ ‫وقتئذ‬
‫بريطانيا وسائر الدول عن مبدأ المحافظة على الدولة العثمانية وسعت الدول الوروبية بالفعل‬
‫لتصفية القسم الكبر من هذه المسألة باستقلل دول البلقان‪ .‬وكان من بين الدول البلقانية‬
‫()‬
‫المستقلة حتى نهاية القرن التاسع عشر ‪ :‬اليونان ‪ ،‬ورومانيا‪ ،‬وبلغاريا والصرب ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيزالشناوي (‪.)232-1/194‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪)(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.144‬‬
‫‪-463-‬‬
‫المبحث التاسع‬

‫السلطان عبدالمجيد الول‬

‫(‪1255-1277‬هـ‪1860-1839/‬م)‬

‫كان السلطان عبدالمجيد الول ‪ ،‬ضعيف البنية شديد الذكاء‪ ،‬واقعيا ورحيما‪ ،‬وهو من أجلّ‬
‫سلطين آل عثمان قدرا‪ ،‬أحب الصلح‪ ،‬وأدخل التنظيمات الحديثة‪ ،‬ورغب في تطبيقها في‬
‫الحال‪ .‬كما أدخل إصلحات جمة في الجيوش العثمانية ‪ .‬وترقت في أيامه العلوم والمعارف‪،‬‬
‫واتسعت دائرة التجارة ‪ ،‬وشيدت الكثير من المباني الفاخرة‪ ،‬ومدّت في عهده أسلك الهاتف‬
‫()‬
‫وقضبان السكك الحديدية ‪. 1‬‬
‫تولى الحكم بعد وفاة والده السلطان محمود الثاني سنة ‪1839‬م وكان عمره السادسة عشرة‬
‫من عمره‪ ،‬فكان صغر سنه هذا فرصة لبعض الوزراء التغريبيين لكمال مابدأه والده الراحل‬
‫من إصلحات على الطريقة الوروبية ‪ ،‬والتمادي في استحداث الوسائل الغربية‪ ،‬ومن هؤلء‬
‫الوزراء الذين ظهروا في ثياب المصلحين ومسوح الصادقين (مصطفى رشيد باشا) الذي كان‬
‫سفيرا للدولة في (لندن) و (باريس)‪ ،‬ووصل الى منصب وزير الخارجية في أواخر عهد‬
‫السلطان (محمود الثاني)‪ ،‬وكانت باكورة إصلحاته استصدار مرسوم من السلطان عرف (بخط‬
‫شريف جلخانة) أي المرسوم المتوج بخط السلطان الذي صدر عن سراي الزهر عام ‪1839‬م‬
‫وجاء فيه‪ ...( :‬ليخفى على عموم الناس أن دولتنا العلية من مبدأ ظهورها وهي جارية على‬
‫رعاية الحكام القرآنية الجليلة والقوانيين الشرعية المنيفة بتمامها ولذا كانت قوة سلطتنا السنية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون ‪ ،‬ص ‪.198‬‬


‫‪-464-‬‬
‫ورفاهية وعماريه أهاليها وصلت حد الغاية‪ ،‬وقد انعكس المر منذ مائة وخمسين سنة بسبب‬
‫عدم النقياد والمتثال للشرع الشريف ول للقوانين المنيفة بناءً على طروء الكوارث المتعاقبة‬
‫( ‪)1‬‬
‫ثم جاءت بيانات يمكن‬ ‫والسباب المتنوعة فتبدلت قوتها بالضعف وثروتها بالفقر‪)....‬‬
‫تلخيص بعضها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬صيانة حياة وشرف وممتلكات الرعايا بصورة كلية بغض النظر عن المعتقدات الدينية‪.‬‬
‫‪ -2‬ضمان طريقة صحيحة لتوزيع وجباية الضرائب‪.‬‬
‫‪ -3‬توخي العدل والنصاف في فرض الجندية وتحديد أمدها ‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -4‬المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلم وغير المسلم ‪. 2‬‬
‫وبدأ عهد جديد يسمى عهد التنظيمات الخيرية العثمانية التي كان من بينها احترام الحريات‬
‫العامة والممتلكات والشخاص بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية‪ ،‬ونص فيه على مساواة‬
‫()‬
‫جميع الديان أمام القانون ‪. 3‬‬
‫وفي جزيرة متلين اجتمع نفر من رجال الدين اليونانيين والرمن واليهود‪ ،‬وهناك خطبهم‬
‫"رضا باشا" ‪-‬وهو من المنسوبين الى الصلح‪ -‬باسم السلطان ‪ ،‬فقال ‪ :‬أيها المسلمون‬
‫والنصارى واليهود‪ ،‬إنكم رعية إمبراطور واحد وأبناء أب واحد ‪ ،‬إن السلطان يسوي بينكم‬
‫()‬
‫جميعا) ‪. 4‬‬
‫(ولم يلق الخط الشريف أو الدستور الذي سانده "مصطفى رشيد" وقلة من المحيطين به‬
‫ترحيبا أو تأييدا من الرأي العام العثماني المسلم؛ فأعلن العلماء استنكارهم وتكفيرهم لـ"رشيد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون ‪ ،‬ص ‪.185‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.186‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية‪ ،‬د‪ .‬علي الزهراني (‪.)2/266‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)1/253‬‬
‫‪-465-‬‬
‫باشا" ‪ ،‬وأعتبروا الخط الشريف منافيا للقرآن الكريم في مجمله وبخاصة في مساواته المسيحيين‬
‫بالمسلمين‪ ،‬ورأوا أن ذلك‬
‫‪-‬وبغض النظر عن النواحي الدينية‪ -‬سيؤدي الى إثارة القلقل بين رعايا السلطان‪.‬‬
‫وكان الهدف بالفعل هو ما خططت له الحركة الماسونية‪ ،‬وهو إثارة الشعور القومي لدى‬
‫()‬
‫الشعوب المسيحية ضد الدولة) ‪. 1‬‬
‫وبهذا المرسوم طعنت عقيدة الولء والبراء في الصميم‪ ،‬ونحيت جملة هامة من أحكام‬
‫()‬
‫الشريعة السلمية فيما يتعلق بأهل الذمة وعلقات المسلمين مع غيرهم ‪. 2‬‬
‫ومما يستلفت النظر أن استصدار خط شريف كلخانة كان "الثمن" الذي حصلت عليه بريطانيا‬
‫والدول الوروبية من السلطان العثماني في مقابل تسوية النزاع بينه وبين والي مصر "محمد‬
‫علي باشا" الذي كان يريد الستقلل والنفصال عن الدولة‪ ،‬أثناء أزمة العلقات المصرية‬
‫العثمانية المعروفة (‪1257-1255‬هـ‪1841-1839/‬م) وينبغي أل يفهم من ذلك أن الضغط‬
‫الوروبي بوجه عام والبريطاني بوجه خاص‪ ،‬كان وحده منشأ حركة التنظيمات أو حركة‬
‫التجديد والصلح العثمانية‪ ،‬خلل القرن التاسع عشر‪ ،‬فقد أسهم في هذه الحركة عامل آخر‪،‬‬
‫هو اقتناع الدولة والمتأثرين بالثقافة والحضارة الوروبية بضرورة إصلح جهاز الدولة‬
‫وتجديده على أساس اقتباس النظم الوروبية أو استلها منها من غير مساس بالحكام‬
‫()‬
‫الشرعية ‪. 3‬‬
‫(وبهذا التصريح الخطير الذي أصدرته الدولة لتتقرب من دول أوروبا ‪ ...‬مس السلطان‬
‫التقاليد العثمانية في الشغاف‪ ،‬وتناول الشريعة السلمية بالتحريف‪ ،‬فإن التقاليد والشريعة‬
‫كلهما ليبيحان أن يتمتع المسلمون وغير المسلمين بنفس الحقوق في رعاية خليفة المسلمين ‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في التاريخ العثماني ‪ ،‬ص ‪.208‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)2/267‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي ‪ ،‬ص ‪.154‬‬
‫‪-466-‬‬
‫لبد أن يكون تمييز بين المسلمين بنفس الحقوق في ذمة المسلمين ‪ ،‬فأما هذا التصريح الخطير‬
‫فله دللته‪ ،‬فهو ينطق بأن رجال الدولة اعترفوا بأن التقاليد القديمة لم تعد ميزانا صالحا للحكم ‪،‬‬
‫()‬
‫ولبد من الخذ باساليب الغرب ولو تعارض مع الشرائع والسنن) ‪. 1‬‬
‫وقد أنشأ رشيد باشا مجلسا للنواب ‪ ،‬ووضع للدولة قانونا للعقوبات وفق الشرائع الحديثة‬
‫واستقدام رجلً فرنسيا ليضع قانونا مدنيا حديثا للدولة‪ ،‬واشتد في تطبيق قوانينه شدة حازمة‬
‫( ‪)2‬‬
‫ثم صدر‬ ‫ضمنت احترام الناس لها‪ ،‬وأعقب ذلك بإنشاء بنك جديد للدولة وأصدر أوراقا مالية‬
‫مرسوم آخر عام ‪1856‬م أكد فيه السلطان عبدالمجيد الول المبادئ التي سبق له أن أعلنها على‬
‫()‬
‫لسان رشيد باشا‪ ،‬وزاد فيه عدة امتيازات وحصانات لرعايا الدولة غير المسلمين ‪ ، 3‬وعرف‬
‫في التاريخ العثماني بالخط الهمايوني الذي كان أكثر جرأة من الول وأكثر اندفاعا نحو‬
‫القتباس من الغرب وقد تضمن الخط الهمايوني مايلي‪:‬‬
‫‪.6‬إلغاء نظام اللتزام والقضاء على الرشوة والفساد‪.‬‬
‫‪.7‬المساواة في التجنيد بين المسلمين وغير المسلمين‪.‬‬
‫()‬
‫‪.8‬معاملة جميع رعايا الدولة معاملة متساوية مهما كانت اديانهم ومذاهبهم ‪. 4‬‬
‫‪.9‬المحافظة على الحقوق والمتيازات التي تمتع بها رؤساء الملل غير السلمية‪.‬‬
‫‪.10‬القضاء على حواجز نظام الملل‪ ،‬ليتمتع كل مواطني المبراطورية بمواطنة عثمانية‬
‫متساوية‪.‬‬
‫‪.11‬أن تصبح المسائل المدنية الخاصة بالرعايا المسيحيين من اختصاص مجلس مختلط من‬
‫الهالي ورجال الدين المسيحيين يقوم الشعب بانتخابه بنفسه‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الشرق السلمي ‪ ،‬حسين مؤنس ‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪ )(2‬صدرت بدون رصيد معدني وبالتالي فقدت قيمتها ولم ينصهم المستشارون الجانب‪.‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)2/268‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تاريخ العرب الحديث مجموعة علماء ‪ ،‬ص ‪.140‬‬
‫‪-467-‬‬
‫‪.12‬فتح معاهد التعليم أمام المسيحيين‪ ،‬لتفتح أمامهم وظائف الدولة ‪.‬‬
‫‪.13‬السماح للجانب بامتلك الراضي في الدولة كما وعد السلطان بالستعانة برأس المال‬
‫()‬
‫والخبرات الوروبية بهدف تطوير اقتصاد الدولة ‪. 1‬‬
‫ويعتبر السلطان عبدالمجيد أول سلطان عثماني يضفي على حركة تغريب الدولة العثمانية‬
‫صفة الرسمية‪ ،‬إذ إنه أمر بتبني الدولة لهذه الحركة وأمر بإصدار فرماني التنظيمات عامي‬
‫‪1854‬م‪1856،‬م وبهما بدأ في الدولة العثمانية ماسمي بعهد التنظيمات وهو اصطلح يعني‬
‫تنظيم شؤون الدولة وفق المنهج الغربي‪ ،‬وبهذين الفرمانين تم استبعاد العمل بالشريعة السلمية‬
‫()‬
‫‪ ،‬وبدأت الدولة في التقنين وإقامة المؤسسات ‪. 2‬‬
‫والحق أن السلطان عبدالمجيد كان خاضعا لتأثير وزيره "رشيد باشا" الذي وجد في الغرب‬
‫مثله وفي الماسونية فلسفته‪ ،‬ورشيد باشا هو الذي أعد الجيل التالي له من الوزراء ورجال‬
‫()‬
‫الدولة‪ ،‬وبمساعدته أسهم هؤلء في دفع عجلة التغريب التي بدأها هو ‪. 3‬‬
‫وحينما رأى المسلمون أن الدولة تساوي بهم النصارى واليهود‪ ،‬وتستبدل بالشريعة الحنيفة‬
‫قوانين النصارى‪ ،‬وتخلع الزياء القديمة الشريفة لتتخذ زي النصارى‪ ،‬وأحسوا كذلك أن حكومة‬
‫رشيد لتكاد تأتي أمرا إل راعت فيه خاطر النصارى وحرصت أن لتمسهم بأذى أو تنالهم‬
‫بضيم ‪-‬نفروا من ذلك نفورا عظيما‪ ،‬ولم يجد السلطان ورجال دولته من بد في إسقاطه وعزله‬
‫()‬
‫أمام مظاهر السخط الشعبي‪ ،‬وخوفهم من وثوب المسلمين وثورتهم ‪. 4‬‬
‫غير أن عزل رشيد باشا لم يؤد الى وقف حركة التغريب من استقدام المزيد من النظمة‬
‫والقوانين من الغرب بعد أن مهد لها الطريق ‪ ،‬وفتحت لها البواب‪ ،‬ومع أن هذه المعارضة‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ العرب الحديث‪ ،‬ص ‪.140‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)2/268‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬مذكرات السلطان عبدالحميد‪ ،‬ترجمة محمد حرب‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الشرق السلمي ‪ ،‬حسين مؤنس‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫‪-468-‬‬
‫لرشيد باشا ودستوره قد نجحت في إقصائه سنة ‪1841‬م‪ ،‬إل أنه عاد بعد أربع سنوات في عام‬
‫‪1845‬م تسانده مجموعة من أعضاء المحافل الماسونية الذين ركزوا السير في طريق التحول‬
‫()‬
‫العلماني ‪ ، 1 ...‬وعاد بعد ذلك ليتولى الصدارة العظمى سنة ‪1846‬م وعزل منها سنة‬
‫()‬
‫‪1858‬م ‪. 2‬‬
‫وازدادت الحوال سوءا وانحطاطا ‪ ،‬مما جعل رجال الدولة يفكرون حقيقة في التغيير‬
‫والصلح فل يجدون أمامهم غير الطريقة الوروبية في الصلح‪ ،‬والوجهة التغريبية في‬
‫التغيير التي بدء في اتخاذها‪ ،‬خصوصا إذا علمنا أن كثيرا من رجال الدولة هؤلء ممن بعثتهم‬
‫الدولة للعمل في التمثيل السياسي الخارجي أو للدراسة العسكرية في الخارج‪ ،‬بعد أن خلت‬
‫الساحة من ظهور مصلح إسلمي يعيد المور الى نصابها‪ ،‬ويقطع الطريق على أنصار الغزو‬
‫()‬
‫الفكري بتبني إصلح جاد يعتمد على المنهج السلمي ‪. 3‬‬
‫وكما قال الكاتب التركي الستاذ "نجيب فاضل"‪ :‬ولخلو المبراطورية العثمانية طيلة ثلثة‬
‫قرون أو أربعة قرون من زعيم فكري أو مصلح اجتماعي كبير وأصيل‪ ،‬فقد ترك المجال‬
‫للدوبلوماسيين السطحيين المنبهرين بالغرب والمقلدين له‪ ...‬وكانت النتيجة فقدان الروح‪،‬‬
‫()‬
‫وضمور العقل‪ ،‬وذبول الرادة ‪ ،‬وعموم الشلل ‪. 4‬‬
‫وقد انتشرت أفكار الغزو الفكري بين الجمهور العظم من ساسة الترك وولتهم‪ ،‬وركبوا‬
‫متن التفرنج والتحلل من الدين ‪ ،‬حتى إن العلمة العراقي اللوسي لما زار والي كركوك علي‬
‫باشا عام ‪1267‬هـ أثنى عليه وامتدحه بحب العلماء واكرامهم‪ ،‬وبالخلق الفاضلة ‪ ،‬ثم قال‬
‫بعد ذلك ‪( :‬والظاهر أنه غير منحل العقيدة‪ ،‬ول منتحل شيئا من الراء الفرنجية الجديدة‪ ،‬حيث‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها (‪.)1/181‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية العلمية (‪.)2/270‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد حياته وأحداث عصره‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪-469-‬‬
‫إنه لم يسمع منه جليس حديث لوندرة وباريس! ويكفي اهل البلد اليوم رحمة أن واليها سالم من‬
‫()‬
‫تلك الوصمة‪ ،‬وقلما تنال هذه الرحمة في هذا الزمن الذميم!) ‪. 1‬‬
‫وقد استمر التيار التغريبي في محاولة إحكام السيطرة على جميع المجالت والجهزة في‬
‫الدولة العثمانية ‪.‬‬
‫وعلى كل حال لقد كانت المعالم الرئيسة لحركة الصلح والتجديد العثمانية تدور حول نقاط‬
‫ثلثة هامة‪:‬‬
‫‪ -1‬القتباس من الغرب فيما يتعلق بتنظيم الجيش وتسليمه في نظم الحكم والدارة‪.‬‬
‫‪ -2‬التجاه بالمجتمع العثماني نحو التشكيل العلماني ‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -3‬التجاه نحو مركزية السلطة في استانبول والوليات ‪. 2‬‬
‫كانت سنة صدور خط كلخانة حدثا في الوساط الوروبية يسجله أحد المنصرين الفرنسيين‬
‫بقوله‪( :‬كان عام ‪1839‬م عاما عظيما بالنسبة للتوغل الفرنسي في تركية ‪ ...‬لقد كان بداية‬
‫التنظيمات والسنة الولى في الصلح ‪ ...‬ونحن رجال الدين سنبدأ بالستفادة من هذه الليبرالية‬
‫( ‪)3‬‬
‫وقال السيد إيتيان الذي ترأس هذه‬ ‫الخجولة‪ ،‬ونبدأ بإرسالية تبشيرية للتعليم الكاثوليكي)‬
‫الرسالية ‪( :‬هذه أول إمكانية لتعزيز انتصار اليمان الذي سنعلمه ‪ ،‬ذلك لن القرآن يحرم حتى‬
‫()‬
‫ذلك الوقت التعليم ‪ . 4‬لقد سافرت أول إرسالية مكونة من سبعة رجال دين في ‪21/11/1839‬م‬
‫الى استانبول ‪ ..‬الخوات يفتحن دارا لليتامى وفصولً للتدريس في نهاية ‪1840‬م يصل عدد‬
‫()‬
‫التلميذ الى ‪ ،230‬وعام ‪1842‬م يصل العدد الى ‪. 5 )500‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬نشوة المدام في العودة الى مدينة السلم‪ ،‬ص ‪.103‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪.‬اسماعيل ياغي ‪ ،‬ص ‪.152‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل النحطاط‪ ،‬د‪ .‬قيس العزاوي‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪-470-‬‬
‫وهكذا لم تضيع أوروبة المسيحية وكنيستها وقتا طويلً للستفادة من ظروف التحديث‬
‫والتنظيمات؛ فبعد سبعة عشر يوما من صدور الخط‪ ،‬كانت الرساليات التبشيرية الولى تغادر‬
‫مارسيلية باتجاه العاصمة العثمانية‪ ،‬وهي تحمل أفكارها العدائية للمسلمين ولقرآنهم الكريم الذي‬
‫تتهمه بتحريم التعليم انتقلت عدوى التنظيمات الى الوليات العثمانية العربية شبه المستقلة‬
‫وبسرعة ففي تونس أصدر محمد باي (عهد المان) عام ‪1857‬م ‪ ،‬وبناه على القواعد التالية‪:‬‬
‫أولً‪ :‬الحرية‪:‬‬
‫إذ أن النسان ليستطيع بلوغ الفلح إل إذا كانت الحرية مضمونة له‪ ،‬وكان العدل سياجا له‬
‫ضد العدوان ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬المان التام‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬المساواة التامة بين المسلمين وغير المسلمين أمام القانون‪:‬‬
‫وهذا متضمن في النقطة الثانية‪ ،‬لن هذا الحق إنما هو ملك لجميع الناس‪ ،‬ويجب أن يكون‬
‫للجانب حقوق التونسيين‪ ،‬وأن يمارسوا العمال التجارية على أنواعها‪ ،‬وأن يكون لهم حق‬
‫( ‪)1‬‬
‫وسارت مصر على هذا المنوال ‪ ،‬وبصدور هذه القوانين في استانبول وتونس‬ ‫التملك‬
‫ومصر‪ ،‬تحول التحديث الذي كان رغبة أوروبة تدعمها بعض فئات نخبوية ‪-‬الى قوانين رسمية‬
‫يتعهد فيها السلطان بإجراء التنظيمات اللزمة لتغريب المجتمع السلمي ‪ .‬وتحول الصراع من‬
‫كونه ضغطا خارجيا على الدولة العثمانية الى الداخل أي الى صراع داخلي عنيف بين سلطة‬
‫اختارت أو أجبرت على تغريب المؤسسات ومجتمع يرفض هذه المؤسسات مستعينا بالعلماء‬
‫()‬
‫والفقهاء والدعاة الذين واجهوا بقوة تيار التحديث من منطلق أنه مخالف للشريعة السلمية ‪. 2‬‬
‫إن من ابرز خصائص التنظيمات أنها‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل النحطاط‪ ،‬ص ‪.61‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪-471-‬‬
‫‪ -1‬كانت أولى الوثائق الرسمية التي لم تستمد مصدريتها من الشريعة السلمية ‪ ،‬بل‬
‫اعتمدت مصدرا وضعيا للتشريع مستوحى من التجربة الدستورية الوروبية‪ ،‬وقد احتوت على‬
‫مفاهيم غربية مثل "وطن" التي تضمنها خط كلخانة بدلً من "المة" فكانت والحالة هي أولى‬
‫الخطوات نحو فصل الدين عن الدولة‪.‬‬
‫‪ -2‬إن "إقرار المنية الكاملة" و "عهد المان" و"مجلس شورى النواب" أو المظاهر الخرى‬
‫المستوحاة من التجربة الغربية قد سمحت بإضفاء نوع من الشرعية على استمرار الحيف على‬
‫العامة من ناحية‪ ،‬وفتحت الطريق لطبقة التجار الغربيين والمبشرين للحاق المجتمع العثماني‬
‫بقوانيين السوق وبمعايير الفكر التبشيري من ناحية ثانية‪.‬‬
‫‪ -3‬لقد تكلل خطا كلخانة وهمايون بدستور مدحت باشا عام ‪1876‬م‪ .‬ولول مرة في تاريخ‬
‫السلم ودوله يجري العمل بدستور مأخوذ عن الدستور الفرنسي والبلجيكي والسويسري وهي‬
‫دساتير وضعية علمانية‪.‬‬
‫لقد وضعت التنظيمات الدولة العثمانية رسميا على طريق نهايتها كدولة اسلمية‪ ،‬فعلمنة‬
‫القوانين‪ ،‬ووضع مؤسسات تعمل بقوانين وضعية‪ ،‬والبتعاد عن التشريع السلمي في مجالت‬
‫التجارة والسياسة والقتصاد‪ ،‬قد سحب من الدولة العثمانية شرعيتها في أنظار المسلمين ناهيك‬
‫أن عدو الدولة أصبح داخليا‪ ،‬فالتوغل الوروبي في مستوياته الثقافية والقتصادية والسياسية‬
‫من ناحية‪ ،‬والمسلمون وعلماء الدين الذين يرتابون بمسلك الدولة من الناحية الثانية‪ ،‬سيبدأون‬
‫()‬
‫صراعا لن ينتهي حتى بعد نهاية الدولة العثمانية‪ ،‬بل استمر الى يومنا هذا ‪. 1‬‬
‫إن من الهمية بمكان أن نقوّم ماحدث ولقد ترك السلطان عبدالحميد الثاني في مذكراته‬
‫شهادته التاريخية‪ ،‬لقد حاول انقاذ الدولة العثمانية‪ ،‬بعد أن دارت عليها الدوائر وأحكم عليها‬
‫الحصار‪ ،‬لقد كان سلطانا واعيا لحقيقة الدعوات التحديثية التي اتخذت لها تسمية "الحركة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل النحطاط‪ ،‬ص ‪.63‬‬


‫‪-472-‬‬
‫الصلحية" تغطية لنواياها الحقيقية في ربط الدولة العثمانية بالغرب‪ ،‬وعن ذلك فحاربه‬
‫الدستوريون ويهود الدونمة وعزلوه‪ .‬وفي أواخر عهده كتب وهو سلطان مسلوب الرادة يكشف‬
‫حقيقة التجديد والصلح يقول‪:‬‬
‫(التجديد الذي يطالبون به تحت اسم الصلح سيكون سببا في اضمحللنا‪ .‬ترى لماذا يوصي‬
‫أعداؤنا الذين عاهدوا الشيطان بهذه الوصية بالذات‪ .‬لشك أنهم يعلمون علم اليقين أن الصلح‬
‫هو الداء وليس الدواء ‪ ،‬وأنه كفيل بالقضاء على هذه المبراطورية إذا أردنا أن نتبنى بعض‬
‫الصلحات‪ ،‬فعلينا أن نأخذ بالحسبان الظروف السائدة في البلد‪،‬وأن لنقيس الوضاع على‬
‫اساس المستوى الفكري لحفنة قليلة من الموظفين‪ ،‬ويجب أن يكون في الحسبان شكوك طبقة‬
‫العلماء في كل ماهو أوروبي‪ .‬الوروبيون يتوهمون أن السبيل الوحيد في الخلص هو الخذ‬
‫بحاضرتهم جملةً وتفصيلً‪ .‬لشك أن طراز التطور عندنا هو غير ماعند الوروبيين‪ ،‬علينا أن‬
‫نتطور تحت ظروف طبيعية ومن تلقاء أنفسنا‪ ،‬وأن نستفيد من الظروف الخارجية في حالت‬
‫()‬
‫خاصة‪ .‬ومن الظلم الفادح أن نتهم بمعاداة كل شيء يأتي من الغرب) ‪. 1‬‬
‫لقد أصاب ميزان العدل في تقويمه لحركة الصلح العثمانية وبين كيفية الستفادة من‬
‫حضارة الغرب وأرى من الفائدة للقارئ الكريم أن يتعرف على موقف السلم من الحضارة‬
‫الغربية وغيرها من الحضارات الجاهلية الخرى وكيف تكون الستفادة من هذه الحضارات؟‬
‫إن الستفادة من الحضارة الغربية الكافرة وغيرها على ثلثة أنواع‪:‬‬
‫‪ -1‬الستفادة من الصناعات وأصولها والكتشافات العلمية ‪ ،‬والعلوم التجريبية والعسكرية‬
‫والطبيعية‪ ،‬كالرياضيات والكيمياء والفيزياء ‪ ،‬والهندسة والحياء والفلك بعد أن تمحص وتصفى‬
‫( ‪)2‬‬
‫من شوائب المؤثرات الجاهلية‪ ،‬وتصاغ بقوالب إسلمية صافية‪ ،‬فهذه المور مابين‪ :‬واجب‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل النحطاط‪ ،‬ص ‪.76‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مجلة المنار لمحمد رشيد (‪.)1/551،553‬‬
‫‪-473-‬‬
‫أخذه واقتباسه ‪ ،‬وهو مايحتاجه المسلمون حاجة ماسة‪ ،‬أو لتقوم بعض الواجبات إل به‪،‬‬
‫كالسلح‪ ،‬والنظم العسكرية‪ ،‬في مجالت الدعوة الى ال ‪ ،‬والجهاد في سبيله ‪ ...‬فكل مايحتاجه‬
‫المسلمون ‪-‬من المباحات‪ -‬في هذا المجال فيجب أخذه والستفادة منه ‪ ،‬والمسلمون أحق به‪.‬‬
‫كذلك مايتحقق به قيام الدول السلمية ‪-‬من الوسائل المباحة‪ -‬مع التحفظ الكامل والوعي‬
‫( ‪)1‬‬
‫وهذا قليل لن ال أوجب على المسلمين‬ ‫التام‪ ،‬يجب الخذ به‪ ،‬وإلّ فتركه أولى‪ .‬أو مباح‬
‫الخذ بالسباب والحيطة لكتفاء والستغناء عما في أيدي الكفار أيا كان ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التقليد في العبادات والعقائد والمبادئ والمفاهيم والتصورات والراء الفلسفية ‪ ،‬حول‬
‫الكون والحياة والنسان‪،‬والتي تتصل بالعقيدة‪ ،‬فهذه المور لتفصيل فيها‪ ،‬فهي محرمة قطعا‪،‬‬
‫والستمداد فيها من الكفار ردة أو كفر إذا اعتقد المقلد صحتها ودان بها‪ ،‬وعلى القل تكون‬
‫حراما مع جهل حقيقتها‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬التقليد في الخلق وإنماط السلوك والداب والثقافة والفكر‪ ،‬والنتاج الفني ‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك ‪ ،‬فهذه المور لتخلو إما أن تتعارض مع أصول السلم وقواعده أو توقع فيما نهى‬
‫الشارع عن تقليد الكفار فيه‪ ،‬فهذا أمر محرم‪ ،‬أو تكون مم يجهل أمره وحكمه فهو على القل‬
‫()‬
‫مكروه‪ ،‬أما الشيء الذي يعتبر فضيلة ‪-‬في تلك الحضارة‪ -‬وما أقله ‪-‬فقد يكون مباحا ‪ - 2‬وال‬
‫أعلم‪.‬‬
‫ولقد تحدث بعض العلماء والمفكرين المسلمين والمعاصرين حول التقليد وكيفية الستفادة من‬
‫الحضارة الغربية‪.‬‬
‫مصطفى صادق الرافعي يقول ‪( :‬وإني أرى أنه لينبغي لهل القطار العربية أن يقتبسوا‬
‫من عناصر المدنية الغربية اقتباس التقليد‪ ،‬بل أقتباس التحقيق‪ ،‬بعد أن يعطوا كل شيء حقه من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مجلة المنار لمحمد رشيد رضا (ج ‪.)1/551/553‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التقليد والتبعية ‪ ،‬د‪ .‬ناصر عبدالكريم الغفل‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪-474-‬‬
‫التمحيص‪ .‬فإن التقليد ليكون طبيعة إل في الطبقات المنحطة!! على أننا لنريد من ذلك إل‬
‫نأخذ من القوم شيئا ‪ ،‬فإن الفرق بعيد بين الخذ من زخرف المدينة وأهواء النفس‪ ،‬وفنون‬
‫()‬
‫الخيال ورونق الخبيث) ‪. 1‬‬
‫حسن البنا يقول‪( :‬من الحق أن نعرف أننا بعدنا عن هدى السلم وأصوله‪ ،‬وقواعده‪،‬‬
‫والسلم ليأبى أن نقتبس النافع ‪ ،‬وأن نأخذ الحكمة أنىّ وجدناها ولكنه يأبى كل الباء أن نتشبه‬
‫في كل شيء بمن ليسوا من دين ال على شيء‪ ،‬وأن نطرح عقائده وفرائضه وحددوده‬
‫()‬
‫وأحكامه‪ ،‬لنجري وراء قوم فتنتهم الدنيا واستهوتهم الشياطين) ‪. 2‬‬
‫أبو العلى المودودي يقول‪ :‬إن كان هناك شيء ينبغي ويستحق أن تأخذه أمة من المم‬
‫الخرى فإنما هو نتاج أبحاثها العلمية‪ ،‬وثمرات قواها الفكرية ‪ ،‬ومعطياتها الكتشافية ومناهجها‬
‫العلمية التي تكون قد بلغت بها معارج الرقي في الدنيا ‪ .‬إن أي أمة في الرض إذا كان في‬
‫تاريخها أو في نظمها الجتماعية أو في أخلقها درس نافع‪ ،‬فمن الواجب أن نأخذه منها‪ ،‬ومن‬
‫الواجب أن نستقصي أسباب رقيها وازدهارها بكل دقة وتمحيص‪ ،‬ونأخذ منها مانراه ملئما‬
‫لحاجتنا وظروفنا‪.‬‬
‫ولكننا إذا أعرضنا عن هذه المور الجوهرية ورحنا نأخذ من أمم الغرب ملبسها وطرقها‬
‫للمعيشة وأدواتها للكل والشرب‪ ،‬برغم أن فيها السر لنجاح تلك المم ورقيها فل يكون ذلك إل‬
‫دليلً على غباوتنا وبلدتنا وحماقتنا ‪ ،‬فهل لحد عنده العقل أن يعتقد أن كل ما أحرزه الغرب‬
‫من التقدم والرقي في مختلف حقول الحياة‪ ،‬إنما أحرزه بالجاكيت والبنطلون وربطة العنق‬
‫والقبعة والحذاء؟!‬
‫أو أن من أسباب رقيه وتقدمه أنه يتنالو طعامه بالسكين والشوكة؟ أو أن أدواته للزينة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬وحي القلم (‪.)3/203‬‬


‫‪ )(2‬رسائل المام الشهيد حسن البنا‪ ،‬ص ‪ ،307‬طبعة دار الندلس‪.‬‬
‫‪-475-‬‬
‫والرفاهية والمساحيق والمعاجين والصباغ هي التي قد رسمت به الى أوج الرقي والكمال؟!!‬
‫فإن لم يكن المر كذلك ‪ -‬والظاهر انه ليس كذلك‪ -‬فما للتقدميين المتشدقين بالصلح عندنا‬
‫()‬
‫ليندفعون أو مايندفعون إل بهذه المظاهر ‪ 1‬؟!‬
‫الشيخ محمد المين الشنقيطي قال في (أضواء البيان) عارضا موقف المسلمين من الحضارة‬
‫الغربية‪:‬‬
‫(الستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية تشتمل على نافع وضار‪ ،‬أما النافع‬
‫فيها فهو من الناحية المادية ‪ ،‬وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه‪ ،‬وما‬
‫تصمنته من المنافع للنسان أعظم مما يدخل تحت التصور‪ ،‬فقد خدمت النسان خدمات هائلة‬
‫من حيث إنه جسد حيواني‪ ،‬وأما الضار منها فهو الهمال بالكلية الناحية التي هي رأس كل خير‬
‫()‬
‫ولخير البتة في الدنيا بدونها‪ ،‬وهي التربية الروحية للنسان وتهذيب أخلقه) ‪. 2‬‬
‫ثم قال بعد أن ذكر حكم النتفاع من النافع منها‪:‬‬
‫بدللة "ابي الريقط الدؤلي" له في سفر الهجرة على الطريق مع أنه‬ ‫(وقد انتفع الرسول‬
‫كافر‪ ،‬فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للسلم والمسلمين من الحضارة الغربية هو‬
‫أن يجتهدوا في تحصيل ماأنتجته من النواحي المادية ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق‬
‫الكون جل وعل‪ ،‬فتصلح لهم الدنيا والخرة‪ .‬والمؤسف أن أغلبهم يعكسون القضية فيأخذون‬
‫منها النحطاط الخلقي‪ ،‬والنسلخ من الدين والتباعد من طاعة خالق الكون‪ ،‬ول يحصلون على‬
‫()‬
‫نتيجة مما فيها من النفع المادي‪ ،‬فخسروا الدنيا والخرة‪ ،‬وذلك هو الخسران المبين) ‪. 3‬‬
‫يتشدد مع أصحابه ‪-‬رضوان ال عليهم‪ -‬في أمر‬ ‫سيد قطب يقول ‪(:‬ولقد كان رسول ال‬
‫التلقي في شأن العقيدة والمنهج بقدر مايفسح لهم في الراي والتجربة في شؤون الحياة العلمية‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلم في مواجهة التحديات المعاصرة للمودودي ‪ ،‬ص ‪.164-163‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (‪.)4/412‬‬
‫‪ )(3‬انظر ‪ :‬التقليد والتبعية ‪ ،‬د‪ .‬ناصر العقل‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪-476-‬‬
‫المتروكة للتجربة والمعرفة كشؤون الزرع وخطط القتال وأمثالها من المسائل العلمية البحتة‬
‫التي لعلقة لها بالتصور العتقادي‪ ،‬ول بالنظام الجتماعي‪ ،‬ول بالرتباطات الخاصة بتنظيم‬
‫حياة النسان وفرق بين هذا وذلك بيّن ‪ ،‬فمنهج الحياة شيء‪ ،‬والعلوم البحتة والتجريبية‬
‫والتطبيقية شيء آخر‪ ،‬والسلم الذي جاء ليقود الحياة بمنهج ال ‪ ،‬هو السلم الذي وجه العقل‬
‫()‬
‫للمعرفة والنتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة ‪. 1 )....‬‬
‫‪ ،‬شيئا من التوراة وغضب عليه حتى رجع‪،‬‬ ‫ثم أورد قصة عمر ‪ ،‬حين رأى معه النبي‬
‫‪ ( :‬لتسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ‪ )...‬الحديث‪.‬‬ ‫الحديث وقوله‬
‫‪ ،‬في التلقي عنهم في أمور‬ ‫فقال ‪( :‬هؤلء هم أهل الكتاب ‪ ..‬وهذا هو هدي رسول ال‬
‫تختص بالعقيدة والتصور ‪ ،‬أو بالشريعة والمنهج‪ ،‬ول ضير وفق روح السلم وتوجيهه ‪-‬من‬
‫النتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة علما وتطبيقا‪ ،‬مع ربطها بالمنهج‬
‫اليماني‪ :‬من ناحية الشعور بها وكونها من تسخير ال للنسان‪ ،‬ومن ناحية توجيهها والنتفاع‬
‫بها في خير البشرية‪ ،‬وتوفير المن له والرخاء ‪ ،‬وشكر ل على نعمة المعرفة ونعمة تسخير‬
‫القوى والطاقات الكونية‪ ،‬شكره بالعبادة‪ ،‬وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير‬
‫البشرية‪.‬‬
‫فأما التلقي عنهم في التصور اليماني ‪ ،‬وفي تفسير الوجود ‪ ،‬وغاية الوجود النساني‪ ،‬وفي‬
‫منهج الحياة وانظمتها وشرائعها ‪ ،‬وفي منهج الخلق والسلوك ‪-‬أيضا‪ -‬أما التلقي في شيء من‬
‫‪ ،‬ليسر شيء منه‪ ،‬وهو الذي حذر ال المة‬ ‫هذا كله فهو الذي تغير وجه رسول ال‬
‫()‬
‫المسلمة عاقبته‪ ،‬وهو الكفر الصّراح) ‪. 2‬‬
‫إن موجة تقليد الغرب بدأت عارمة حين دبّ الضعف والوهن في الخلفة العثمانية وتكالبت‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن ‪ ،‬سيد قطب (‪.)4/20/21‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التقليد والتبعية ‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪-477-‬‬
‫قوى الهدم بتقويضها ‪-‬في الداخل والخارج‪ -‬وحين شعرت هذه الدولة الضعيفة بالنقص أمام‬
‫الدول النصرانية الفتية‪ ،‬فاتجهت الدولة العثمانية الى تقليد تلك الدول وأخذت من إنتاجها الجديد؛‬
‫وقد وافق هذا‬
‫‪-‬شلل‪ -‬في التفكير لدى المسلمين وبعد عن منهج ال الصيل ‪ ،‬فاستمدت من الكفار ‪ ،‬دون‬
‫وعي أو إدراك أو تفكير في أسباب تقدم تلك الدول الكافرة ودون أن تجد في اللحاق بها بالجد‬
‫( ‪)1‬‬
‫والعتماد على القوة الذاتية‪ ،‬والجهود المسلمة‪!....‬‬
‫وبدأت موجة التقليد العمى قوية عارمة تدفعها ‪-‬بحمق وعنف ‪ -‬الهواء والنحرافات في‬
‫الداخل‪ ،‬والجهود الماكرة المخططة من الخارج‪ ،‬فأخذت البلد السلمية تسلك هذا الطريق‬
‫واحدة تلو الخرى‪ ،‬ابتداء من تركيا فمصر والشام ثم تونس وإيران والهند‪.‬‬
‫والعجيب أن كل إتجاهات التقليد في العالم السلمي بدأت بالحساس بالضعف العسكري‬
‫والحاجة إلى تنظيم الجيوش في البلدان السلمية ومن ثم نشأت عقدة العتماد على الغرب‬
‫والعجاب بكل ماهو غربي وافد من بلد الكفار مهما كان فاسدا وتافها‪ ،‬واحتقار كل ماهو‬
‫()‬
‫شرقي مهما كان صالحا وعظيما ‪. 2‬‬
‫لقد نهى ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬في كتابه الكريم عن التقليد العمى‪ ،‬فمقته وحذر من مغبته‪،‬‬
‫في آيات كثيرة‪ ،‬ومناسبات عديدة‪ ،‬وأساليب متنوعة‪ ،‬ولسيما تقليد الكفار‪ ،‬فتارة بالنهي عن‬
‫تبعيتهم وطاعتهم‪ ،‬وتارة بالتحذير منهم‪ ،‬ومن الغترار بمكرهم والنصياع لرائهم والتأثر‬
‫بأعمالهم وسلوكهم وأخلقهم‪.‬‬
‫وتارة بذكر بعض خصالهم التي تنفّر المؤمنين منهم‪ ،‬ومن تقليدهم‪.‬‬
‫وأكثر مايرد التحذير في القرآن من ‪ -‬اليهود ‪ -‬والمنافقين‪ ،‬ثم من عموم أهل الكتاب‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.20‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التقليد والتبعية ‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪-478-‬‬
‫والمشركين‪.‬‬
‫وقد بين ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬في القرآن أن تقليد الكفار وطاعتهم منه ماهو ردة فقال‪:‬‬
‫{ إن الذين أرتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم‪ .‬ذلك‬
‫بأنهم قالوا للذين كرهوا مانزّل ال سنطيعكم في بعض المر } ( سورة محمد اليتان ‪-25‬‬
‫‪.) 26‬‬
‫وحيث جعل ال في شريعته الكمال فقد نهى عن اتباع غيرها من الهواء والنظم البشرية‪،‬‬
‫ونهى عن اتباع الكفار والذين ليعلمون فقال‪ { :‬ثم جعلناك على شريعة من المر فاتبعها ولتتبع‬
‫أهواء الذين ليعلمون‪ .‬إنهم لن يغنوا عنك من ال شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض وال‬
‫ولي المتقين } ( سورة الجاثية‪.) 19-18 :‬‬
‫وقال تعالى في معرض التحذير من أهل الكتاب‪ { :‬ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من‬
‫بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ماتبين لهم الحق} ( البقرة‪ ،‬آية‪.) 109 :‬‬
‫وقال‪ { :‬مايود الذين كفروا من أهل الكتاب ول المشركين أن ينزل عليكم من خير من‬
‫ربكم } ( البقرة‪.) 105 :‬‬
‫وقال‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا لتتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ( المائدة‪ ،‬آية‪.) 51 :‬‬
‫وكذلك نهى عن طاعتهم واتباع أهوائهم وخصالهم السيئة فقال‪ { :‬ولن ترضى عنك اليهود‬
‫ول النصارى حتى تتبع ملتهم } ( البقرة‪ ،‬آية‪.) 120 :‬‬
‫وقال‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم‬
‫كافرين } ( آل عمران‪ ،‬آية‪.) 100 :‬‬
‫وقال‪ { :‬ول تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك } ( المائدة‪ ،‬آية‪.) 49 :‬‬
‫وبين خطر موالتهم واتخاذهم بطانة‪ ،‬وأن ذلك فيه خطر عام يهدد مصالح المة وكيانها‪،‬‬
‫فقال تعالى‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا لتتخذوا بطانة من دونكم ليألونكم خبال ودوا ما عنتم قد بدت‬
‫البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } ( سورة آل عمران‪ ،‬آية‪.) 18 :‬‬
‫‪-479-‬‬
‫كما جاء النهي عن التقليد والتحذير منه بأسلوب القصة فإن ال سبحانه وتعالى ‪ -‬ذكر في‬
‫القرآن الكريم المم الكافرة الغابرة وأخبارها ومواقفها العدائية ضدّ دعوة التوحيد ومسيرة‬
‫اليمان على مدار التاريخ‪ ،‬وما حصل لها من أنواع العقوبات والعذاب جزاء ضللها‬
‫وانحرافها‪ ،‬وهو بذلك يأمرنا بأخذ العبرة والعظة‪ ،‬وبالعتبار بهم والتعاظ بقصصهم والبتعاد‬
‫()‬
‫عن تقليدهم‪ ،‬وتجنب سلوك نهجهم ‪. 1‬‬
‫وذلك مثل قوله تعالى لمّا ذكر مافعله بأهل الكتاب من المثلت { فاعتبروا يا أولي البصار }‬
‫( الحشر‪ ،‬آية‪.) 9 :‬‬
‫وقال تعالى‪ { :‬لقد كان في قصصهم عبرة لولي اللباب } ( سورة يوسف‪ ،‬آية‪.) 111 :‬‬
‫وقسم العلماء اليات التي نهت عن تقليد الكفار في القرآن على قسمين‪:‬‬
‫قسم بين أن مخالفتهم في عامة المور أصلح للمسلمين‪ ،‬وهذا تدل عليه جميع اليات‪.‬‬
‫()‬
‫وقسم بين أن مخالفتهم مطلوبة وواجبة شرعا‪ ،‬وهذا تدل عليه بعض اليات ‪. 2‬‬
‫‪ -‬أحاديث عامة تنهى عن التقليد العمى‪ ،‬والتشبه‬ ‫ووردت في السنة ‪ -‬عن رسول ال‬
‫في معرض النهي عن التشبه بكل مالم يشرعه أو يقره‬ ‫الممقوت‪ ،‬وتحذر من مغبة ذلك فقال‬
‫‪ ":‬من تشبه بقوم‬ ‫السلم‪ ،‬والنهي عن تقليد كل ماهو على غير سلوك المسلمين‪ ،‬مثل قوله‬
‫()‬
‫فهو منهم " ‪ 3‬كما وردت أحاديث كثيرة وصحيحة في النهي عن تقليد الكفار ‪ -‬عموما ‪ -‬وأهل‬
‫في مناسبات عديدة‪:‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬والمشركين‪ ،‬والمجوس‪ ،‬وأهل الجاهلية‪ ،‬فقال‬
‫( ‪)4‬‬
‫" خالفوا اليهود "‬
‫( ‪)5‬‬
‫" خالفوا المشركين"‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬التقليد والتبعية‪ ،‬ص ‪.51‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لبن تيمية‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ )(3‬سنن أبي داود‪ ،‬كتاب لباس الشهرة (‪.)2/367‬‬
‫‪ )(4‬وردت في عدة أحاديث منها قوله ‪( :‬خالفوا اليهود فإنهم ليصلون في نعالهم)‪.‬‬
‫‪ )(5‬في صحيح البخاري‪.‬‬
‫‪-480-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫" ول تتشبهوا باليهود"‬
‫من تقليد الكفار وماينتج عنه من خطر على عقيدة المسلمين وكيانهم‪ ،‬علّل‬ ‫وحين حذر‬
‫‪:‬‬ ‫قال ‪ :‬قال رسول ال‬ ‫ذلك بما هم عليه من انحراف وضلل‪ ،‬فعن جابر‬
‫(ل تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا‪ ،‬وإنكم إما أن تصدقوا بباطل‬
‫()‬
‫وإما أن تكذبوا بحق ‪ ،‬وإنه وال لو كان موسى حيا بين أظهركم‪ ،‬ماحل له إلّ أن يتبعني) ‪. 2‬‬
‫‪-‬محذرا‪ -‬ومشيرا الى ماسيحصل للمسلمين بتخليهم عن منهج ال واقتفائهم آثار‬ ‫كما بين‬
‫قال‪ :‬قال رسول ال‬ ‫اليهود والنصارى والمم المنحرفة‪ ،‬وذلك فيما رواه أبو سعيد الخدري‬
‫‪( :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع‪ ،‬حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم‬
‫()‬
‫قلنا يارسول ال‪ :‬اليهود والنصارى؟ قال‪ :‬فمن ؟؟) ‪. 3‬‬
‫إن من مقاصد الشريعة منع المسلمين من التقليد العمى‪ ،‬إذ أن ال أرسل رسوله بالهدى‬
‫ودين الحق ليظهره على الدين كله‪ ،‬وقد أكمل ال الشريعة للناس { اليوم أكملت لكم دينكم‬
‫وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم السلم دينا} (سورة المائدة‪ :‬آية ‪.)30‬‬
‫لقد جعل ال الشريعة مشتملة على كل المصالح في كل الزمان والمكنة ولكل الناس‪ ،‬فل‬
‫حاجة للستمداد من الكفار أو تقليدهم وواضح مايحدثه التقليد من خلل في شخصية المسلم‪ ،‬من‬
‫الشعور بالنقص والصغار‪ ،‬والضعف والنهزامية‪ ،‬ثم البعد والعزوف عن منهج ال وشرعه‪،‬‬
‫فقد أثبتت التجربة أن العجاب بالكفار وتقليدهم سبب لحبهم والثقة المطلقة بهم والولء لهم‬
‫والتنكر للسلم ورجاله وابطاله وتراثه وقيمه وجهل ذلك كله وهذا ماحدث للدولة العثمانية‬
‫وولياتها التابعة لها في القرنين الماضيين‪ ،‬حين تخلوا عن رسالتهم وحين استسلموا لسلطان‬

‫‪ )(1‬سنن أبو داود ابواب الستئذان‪.‬‬


‫‪ )(2‬مسند المام أحمد (‪.)2/338‬‬
‫‪ )(3‬البخاري ‪ ،‬كتاب العتصام بالكتاب والسنة‪ ،‬باب لتتبعن سنن من كان قبلكم ‪ ،‬المجلد الثالث‪،‬‬
‫الجزء التاسع‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪-481-‬‬
‫()‬
‫الغرب ونهلوا من سمه الزعاف ‪. 1‬‬
‫إن الحكم الشرعي للتقليد يختلف باختلف نوعه وكيفيته ومدى خطورته وأثره‪ ،‬كما يختلف‬
‫باختلف المقلّد والمقلّد‪ ،‬والعلقة الشرعية بينهما‪ ،‬واعتقاد المقلّد في تقليده لغير المسلمين‪.‬‬
‫فيكون التقليد كفرا إذا كان في العقائد لصول اليمان وأصول العقيدة‪ ،‬أو الحكام القطعية في‬
‫الشريعة‪ ،‬أو مسائل الغيب الثابتة بالنص‪ ،‬وذلك كتقليد النصارى في عقيدة التثليث وتقليد‬
‫الشيوعيين في إنكار النبوات والديان‪.‬‬
‫وكتقليد الدول الكافرة في تعطيل حدود ال واعتقاد عدم صلحية الشريعة السلمية للتطبيق‪،‬‬
‫وغير ذلك‪.‬‬
‫ويكون التقليد فسقا حين يكون في الخلق الفاسدة وارتكاب المنكرات والمعاصي كشرب‬
‫المسكرات ونحوه‪.‬‬
‫ويكون حراما مطلقا‪ ،‬كموافقة الكفار في أعيادهم واحتفالتهم وتقليدهم في ذلك‪.‬‬
‫ويكون مكروها كالتقليد غير المقصود ول المتعمد في أمور الحياة العامة ‪ -‬إذا لم يمس‬
‫العقيدة ولم يكن من خصائصهم وسماتهم‪.‬‬
‫وإذا خيف أن يؤدي التقليد إلى شيء من المور السابقة‪ - ،‬الكفر أو الفسوق أو الحرمة أو‬
‫الكراهة ‪ -‬اتخذ الحكم ذاته‪ ،‬سدا للذريعة‪.‬‬
‫ويكون التقليد مباحا بشروط وقيود‪ ،‬كالتقليد في النتاج المادي والعلوم النسانية والتجريبية‬
‫البحتة‪ ،‬والتجارب العسكرية ونحوها‪ ،‬وذلك بعد صياغتها صياغة إسلمية وتنقيتها من شوائب (‬
‫الجاهلية ) وتجريدها من مصالح الكفار وبألّ تتعارض مع المصالح الشرعية الدينية‬
‫()‬
‫والدنيوية ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬التقليد والتبعية‪ ،‬ص ‪.81‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التقليد والتبعية‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫‪-482-‬‬
‫إن النظرة الفاحصة في تاريخ المم واستقراء أحوالها تبين لنا أن التقليد بين أمة وأمة‪ ،‬وبين‬
‫قوم وقوم‪ ،‬يحدث بينهما من التشابه والتفاعل والنصهار‪ ،‬مايضعف التمايز والستقلل في المة‬
‫المقلّدة ويجعلها مهتزة الشخصية‪ ،‬واقتضت سنة ال في خلقه أن المة الضعيفة المغلوبة تعجب‬
‫( ‪)1‬‬
‫ومن ثم تقليدها فتكسب من أخلقها وسلوكها وأساليب حياتها‪،‬‬ ‫بالمة القوية المهيمنة الغالبة‬
‫إلى أن يصل المر إلى تقليدها في عقائدها وأفكارها وثقافتها وأدبها وفنونها‪ ،‬وبهذا تفقد المة‬
‫المقلّدة مقوماتها الذاتية وحضاراتها ‪ -‬إن كانت ذات حضارة ‪ -‬وتعيش عالة على غيرها‪.‬‬
‫وإذا لم تستدرك المة المغلوبة أمرها‪ ،‬وتتخلص بجهودها الذاتية وجهادها من وطأة التقليد‬
‫العمى فإنه ‪ -‬ولبد ‪ -‬أن ينتهي بها المر إلى الضمحلل والستعباد وزوال الشخصية تماما‪،‬‬
‫فتصاب بأمراض اجتماعية خطيرة من الذل والستصغار والشعور بالنقص وعدم الثقة بالنفس‪،‬‬
‫أضف إلى ذلك كله التبعية السياسية والقتصادية والنهزامية في كل شيء وبالنسبة للمم‬
‫الربانية ذات الرسالة اللهية ‪ -‬كالمة السلمية ‪ -‬فإن تقليدها لغيرها يصرفها عن رسالتها‬
‫ويصرف جهدها وطاقاتها عن دين ال ويرهقها بالبدع والخرافات ومالم يشرعه ال من النظم‬
‫والقوانين‪ ،‬والمراض الخلقية مما يؤدي بها في النهاية إلى التخلي عن رسالتها ومن ثم الولء‬
‫للكفار والطواغيت وهذا إيذان ببطش ال وعقابه‪ ،‬كما ورد في قصص القرآن عن أمم كثيرة من‬
‫هذا النوع‪ ،‬والمة اليوم واقعة بما وقعت فيه تلك المم من التقليد العمى للكفار والتخلي عن‬
‫رسالة ال والتبعية والولء للكافرين في كل شئون الحياة‪ ،‬والحكم بغير ما أنزل ال واستباحة‬
‫()‬
‫الزنى والربا والفجور‪ ،‬ومع هذا مازالت تمنّ على ال بإسلمها ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬فصل اقتداء المغلوب بالغالب‪ ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬التقليد والتبعية ‪ ،‬ص ‪.114،115‬‬
‫‪-483-‬‬
‫المبحث العاشر‬

‫السلطان عبدالعزيز‬

‫(‪1277-1293/1861-1876‬م)‬

‫تولى الحكم بعد أخيه في أواخر عام ‪1277‬هـ‪ .‬وفي عهده تفجرت ثورة في جزيرة كريت‬
‫وأخمدت عام ‪1283‬هـ‪1863/‬م‪ .‬وتم فتح قناة السويس عام ‪1285‬هـ‪1869/‬م‪ ،‬وصدرت‬
‫مجلة الحكام العدلية وقانون التجارة البحرية في أوائل عهده‪ ،‬وزار أوربا وفكر في الستفادة‬
‫من خلف الدول الوربية فيما بينها‪ ،‬لكنه وجد أنها تتفق جميعها ضد الدولة لنها دولة‬
‫إسلمية‪ ،‬ولم يستطع الوربيون أن ينسوا الحقد الصليبي المغروس في نفوسهم‪ ،‬غير أنهم كانوا‬
‫()‬
‫يختلفون فيما بينهم حسب مصالحهم الخاصة ‪. 1‬‬
‫وكانت الدول الوربية عازمة على الضغط على الحكومة العثمانية للستمرار في خطوات‬
‫الصلح والنهوض المزعوم على النهج الغربي‪ ،‬والفكر الوربي‪ ،‬والمبادئ العلمانية وأكد‬
‫السلطان عبدالعزيز عزمه على مواصلة السير في الطريق الذي سلكه أبوه محمود الثاني وأخوه‬
‫عبدالمجيد‪ ،‬فأبقى على كل أصحاب المناصب من المتكلفين بتنفيذ الصلحات‪ .‬وكان من أهم‬
‫الصلحات الدارية في عهده صدور قانون الوليات عام ( ‪1281‬هـ‪1864/‬م )‪ ،‬وفي مجال‬
‫الدارة أيضا أنشئت محكمة عليا قضائية ( ديوان الحكام العدلية )‪ .‬كما أنشئ عام (‬
‫‪1285‬هـ‪1868/‬م ) مجلس للدولة على النسق الفرنسي سمي "شواري دولت " أي مجلس‬
‫()‬
‫شورى الدولة‪ ،‬وكان من أهم اختصاصاته مناقشة الميزانية ‪. 2‬‬
‫أما في مجال التعليم‪ ،‬فقد أسست مدرسة ثانوية عام ‪1285‬هـ‪1868/‬م هي مدرسة " غلطة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الشعوب السلمية‪ ،‬ص ‪.492-490‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪-484-‬‬
‫سراي "‪ ،‬كان برنامج الدراسة فيها خيرا من برامج المدارس الثانوية الخرى‪ ،‬وكانت كل‬
‫المواد التي تدرس فيها باللغة الفرنسية فيما عدا اللغة التركية‪ .‬وكانت الغاية من إنشائها هي‬
‫تخريج طائفة من الشباب القادر على حمل عبء الوظائف العامة وكان هؤلء الشباب من‬
‫مختلف الديانات‪ ،‬فالغلبية من المسلمين‪ ،‬ولكن كان بها اليونان والرمن‪ ،‬وهم نصارى‪ ،‬كما‬
‫كان بها أعداد من اليهود‪ .‬والواقع أن الطلب قد أقبلوا على هذه المدرسة حتى بلغ عددهم عام‬
‫()‬
‫‪1869‬م ستمائة طالب مسلمين ونصارى ويهود ‪. 1‬‬
‫ورغم هذه الخطوات الصلحية التي تمت في عهد السلطان عبدالعزيز‪ ،‬إل أن الدول‬
‫الوروبية لم تعتبرها كافية لتنهض دليلً على أن الدولة العثمانية إنما تريد الصلح‪ ،‬وتعمل‬
‫لتحسين رعاياها النصارى‪ ،‬ولزالة المفاسد التي استشرت في نظام الدارة والحكومة‪ ،‬وهي‬
‫()‬
‫مفاسد كانت في نظر الكثير من المعاصرين الوروبيين تهدد بانهيار الدولة في النهاية ‪. 2‬‬
‫وكان رأي فريق كبير من النجليز وغيرهم من المعاصرين‪ ،‬أن زوال الدولة العثمانية قد‬
‫بات ضروريا‪ ،‬حيث إنها قد فشلت في الخذ بأسباب الصلح الوروبي‪ ،‬فقال لورد كلرندون‬
‫وزير الخارجية البريطانية في عام ‪1865‬م‪" :‬إن الطريقة الوحيدة لصلح أحوال العثمانيين هي‬
‫()‬
‫بإزالتهم من على سطح الرض كلية " ‪ . 3‬وهذا يؤكد حقد النصارى على الدولة العثمانية‬
‫المجاهدة لنها هزمتهم منذ فتح القسطنطينية‪.‬‬
‫لقد فشلت الدولة العثمانية في الخذ بأسباب الصلح الوروبي لنعدام كل صلة بين المبادئ‬
‫()‬
‫‪.4‬‬ ‫الوروبية وبين مبادئ الدولة العثمانية المستمدة من كتاب ال وسنة رسوله‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.159‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪)(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬جمال عبدالهادي‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪-485-‬‬
‫عزل السلطان عبدالعزيز‪:‬‬
‫كان السلطان عبدالعزيز قد زار أوروبا‪ ،‬ورأى اتفاق وتآمر الدول الوروبية على الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬فحاول أن يستفيد من الخلف القائم على المصالح بين دول أوربا الغربية وروسيا‬
‫لمصلحة الدولة العثمانية‪ ،‬فبدأ يكثر من دعوة السفير الروسي‪ ،‬إلى استانبول فخافت الدول‬
‫( ‪)1‬‬
‫واستطاع مدحت باشا أن يعزله‬ ‫الوروبية‪ ،‬وبدأت تشيع الشائعات عنه في التبذير والسراف‬
‫()‬
‫ثم قام مع عصابته بقتله في عام ( ‪1293‬هـ‪1876/‬م ) ‪. 2‬‬
‫إن مدحت باشا كان من يهود الدونمة روجت له الدعاية الماسونية في أنحاء الشرق العربي‬
‫والغربي على أنه البطل العظيم حامل لواء الصلح والحرية في السلطنة العثمانية‪ ،‬وسمّته‬
‫( أبو الدستور )‪ .‬وسخّر له أبواب دعايتها من صحف ومجلت وإذاعات‪ ،‬فوصل بذلك إلى‬
‫أعلى الرتب منها باشوية سوريا والعراق‪ ،‬ومنصب الصدر العظم الذي يعتبر أكبر الرتب في‬
‫السلطنة العثمانية‪ .‬ثم بدأ بعد ذلك يدس ويخرّب كما تملي عليه يهوديته وماسونيته‪ ،‬ويغمز دائما‬
‫بالتعاون مع الماسونية إلى مساوئ الحكم وخاصة حكم السلطان عبدالحميد عدوّ الماسونية‬
‫الكبر ‪ -‬الذي لم يترك ثقبا من بصيص أمل لليهود في فلسطين إل وسدّه‪ ،‬ثم أسس " مدحت‬
‫باشا " ويهود الدونمة الماسونية العالمية حوله " جمعية التحاد والترقي " التي حملت نفس شعار‬
‫الماسونية وجعلت مقرها بسلنيك وانكشفت جوانب من هذا اليهودي للسلطان عبدالحميد فألقى‬
‫()‬
‫القبض عليه وعزله ونفاه فيما بعد ‪. 3‬‬
‫كان سبب مقتل السلطان عبدالعزيز ‪:‬‬
‫‪ -‬رفضه للدساتير الغربية برمتها‪ ،‬وكذلك العادات الغربية البعيدة عن البيئة السلمية‪،‬‬
‫وتمكنه من إصلح أحوال الدولة العثمانية إلى درجة كبيرة‪ ،‬وخاصة في المجال العسكري‪،‬‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪110‬‬
‫‪)(2‬المصدر السابق نفسه‪،‬ص ‪.110‬‬
‫الدوسري‪ ،‬ص ‪.70،71‬‬ ‫‪ )(3‬انظر‪ :‬اليهود والماسونية لبعدالرحمن‬
‫‪-486-‬‬
‫حيث قوّى الجيش‪ ،‬واستبدل السلحة القديمة بأخرى حديثة‪ ،‬واستورد مايلزم من السلح من‬
‫أفضل مصانع السلح في أوربا‪ ،‬ووضع التنسيقات العسكرية على الطراز الحديث‪ ،‬وشكّل‬
‫الفرق العسكرية لبناء العشائر والقبائل من كافة الوليات‪ ،‬وسلّح القلع والحصون بأضخم‬
‫وأحدث المدافع‪ ،‬فأصبحت مدفعية الدولة العثمانية يضرب بها المثل في التقدم‪ ،‬وأصلح دار‬
‫المدفعية " الطوبخانة " وأدخل فيها المعدات واللت الحديثة‪ ،‬حتى صار بإمكانها صنع كافة‬
‫السلحة على الطراز الجديد‪ ،‬كما قام بإصلحات في مجال البحرية وأحل الخبراء العثمانيين‬
‫محل الخبراء الجانب رغم اعتراض هؤلء ودولهم‪ ،‬وأصبحت في عهده الدولة العثمانية من‬
‫الدول البحرية الولى في العالم‪ ،‬وعمل على إرسال البعثات البحرية إلى الخارج‪ ،‬واشترى‬
‫المدرعات‪ ،‬وشيد عدة معامل لصنعها ولصنع اللت والمراجل‪ ،‬وعادت دار صناعة " إزميت "‬
‫إلى ما كان لها من مجد‪ ،‬كما أصلح الكثير من أحواض السفن‪ ،‬وأسس مجلة الحكام العدلية‪،‬‬
‫وعمل على احقاق الحق‪ ،‬وحوكم كبار الحكام‪ ،‬أمثال " خسرو باشا " و " عاكف باشا " و "‬
‫طاهر باشا " وبذلك ظهر للعموم حبّه للعدل والصلح وهذا ليرضي الدول الوروبية ولتقبل‬
‫به لنها تريد أن يسود الظلم حتى تنهار الدولة بسرعة وقام بإصلحات مالية‪ ،‬وأمر بوضع‬
‫ميزانية منضبطة وألغيت القوائم المالية‪ ،‬وسوّت بذلك الدولة جميع ديونها‪ ،‬وأصبحت المعاملة‬
‫بالنفوذ وانتظمت الحوال المالية‪ ،‬لقد هال الدول الوروبية رؤية ماحدث على يد هذا السلطان‬
‫في وقت قصير‪ ،‬فتعرقلت مخططاتهم في القضاء على الرجل المريض‪ ،‬لذا رأوا تدبير مؤامرة‬
‫( ‪)1‬‬
‫إن جذور المؤامرة في مقتل السلطان عبدالعزيز ترجع إلى تخطيط مدروس من‬ ‫خلعه ثم قتله‬
‫قبل القناصل وممثلي الدول الوروبية في العاصمة العثمانية وقاموا بتنفيذها عن طريق عملئهم‬
‫( ‪)2‬‬
‫ممن تشربوا بأفكارهم من رجال الدولة وعلى رأسهم صنيعة الماسونية المدعو مدحت باشا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.205،206‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.205‬‬
‫‪-487-‬‬
‫الذي اعترف أثناء محاكمته باشتراكه في عزل وقتل السلطان عبدالعزيز‪ ،‬وهذا أمر معروف‬
‫()‬
‫تاريخيا ومدّون في الوثائق ‪. 1‬‬

‫المبحث الحادي عشر‬

‫السلطان مراد الخامس‬

‫(‪1293‬هـ) ومدة وليته ‪ 93‬يوما‬

‫هو ابن السلطان عبدالمجيد ولد في ‪ 25‬رجب من عام ‪1256‬هـ الموافق ‪1840‬م وارتقى‬
‫()‬
‫منصب الخلفة في ‪ 7‬جمادي الولى من عام ‪1293‬هـ ‪. 2‬‬
‫كان على جانب كبير من الذكاء والثقافة التركية والغربية‪ ،‬كما أبدى اهتماما بالدب والعلوم‬
‫والشؤون الوروبية‪ ،‬وزار أوروبا والتقى ببعض الوروبيين‪ ،‬وانخرط في سلك الماسونية‪،‬‬
‫وكان على اتصال بنامق كامل أحد أعضاء الحركة وغيره‪ ،‬وكان ميالً إلى الدستور والليبرالية‬
‫( ‪)3‬‬
‫وكانت الحركة الماسونية هي التي دفعت به إلى السلطنة ولكنه أصيب باضطراب‬ ‫والعلمانية‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.208‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.177،178‬‬
‫‪-488-‬‬
‫عقلي بعد أن أصابته الدهشة والفزع عند إيقاظه بعد منتصف الليل عند خلع السلطان عبدالعزيز‬
‫ولمّا بلغه مقتل حسن الجركسي ظهرت عليه اضطرابات عصبية أثّرت على جهازه الهضمي‪.‬‬
‫وكانت صحته في تدهور مستمر في الوقت الذي كان مدحت باشا يحاول إعلن الدستور‬
‫الوضعي بدلً من الشرع أثناء مرضه ويدرس القوانين والنظم الغربية ويتصل بأعوانه حتى‬
‫استطاع إعداده بشكل جاهز وقد قيل إنّ جنون السلطان ظهر للناس بشكل واضح فكان لبد من‬
‫خلعه وأعلن ذلك من قبل شيخ السلم عام ‪1876‬م وكان نص الفتوى ‪ " :‬إذا جنّ إمام المسلمين‬
‫جنونا مطبقا ففات المقصود من المامة فهل يصح حل المامة من عهدته؟ الجواب‪ :‬يصح وال‬
‫( ‪)1‬‬
‫وبعد عزله تعافى من مرضه العقلي‪ ،‬وأمضى‬ ‫أعلم‪ :‬كتبه الفقير حسن خير ال عفي عنه "‬
‫( ‪)2‬‬
‫لقد أثر الشباب‬ ‫باقي حياته في قصر "جراغان " حتى توفي عن عمر يناهز الرابعة والستين‬
‫من أعضاء جمعية التحاد والترقي على مراد الخامس‪ ،‬فانتسب إلى المحفل الماسوني‪ ،‬وأدمن‬
‫( ‪)3‬‬
‫وقد قال عنه السلطان عبدالحميد ‪" :‬‬ ‫شرب الخمر وتشبع بالفكار العلمانية والفلسفية الغربية‬
‫كان من طبيعته أن ينخدع لمن يبتسمون في وجهه‪ ،‬دون أن يفكر في المعقول وغير المعقول‪،‬‬
‫حتى أنه بسبب ذلك لم يكن يخطر على باله‪ ،‬عدم لياقة اشتراكه‪ ،‬وهو خليفة المستقبل‪ ،‬في‬
‫المحفل الماسوني‪ ،‬وتقدير المصيبة التي ستنجم عن ذلك‪ ،‬وقد استطاع بعض الشخاص‪ ،‬ممّن‬
‫يدعون أنهم أنصار التجديد أن يحرّضوه على إدمان الخمر‪ ،‬وزيّنوا له جوانب نستخف بها في‬
‫()‬
‫الحياة الوروبية " ‪. 4‬‬

‫الفصل السادس‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون ‪ ،‬ص ‪.209‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.210‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.210‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬والدي السلطان عبدالحميد ‪ ،‬ص ‪.178‬‬
‫‪-489-‬‬
‫عصر السلطان عبدالحميد‬
‫المبحث الول‬
‫السلطان عبدالحميد‬
‫(‪1293-1326‬هـ‪1909-1876/‬م)‬

‫السلطان عبدالحميد هو السلطان الرابع والثلثون من سلطين الدولة العثمانية‪ .‬تولى عرش‬
‫الدولة وهو في الرابعة والثلثين من عمره‪ .‬إذ ولد في ‪ 16‬شعبان عام ‪1258‬هـ (‪1842‬م)‪.‬‬
‫ماتت والدة السلطان عبدالحميد وهو في العاشرة من عمره فاعتنت به الزوجة الثانية لبيه‬
‫وكانت عقيما‪ .‬فأحسنت تربيته وحاولت أن تكون له أم‪ ،‬فبذلت له من حنانها كما أوصت‬
‫بميراثها له‪ .‬وقد تأثر السلطان عبدالحميد بهذه التربية وأعجب بوقارها وتدينها وصوتها‬
‫الخفيض الهادئ‪ ،‬وكان لهذا انعكاس على شخصيته طوال عمره‪.‬‬
‫تلقى عبدالحميد تعليما منتظما في القصر السلطاني على أيدي نخبة مختارة من أشهر‬
‫رجالت زمنه علما وخلقا‪ .‬وقد تعلم من اللغات العربية والفارسية ‪ ،‬ودرس التاريخ وأحب‬
‫()‬
‫الدب‪ ،‬وتعمق في علم التصوف‪ ،‬ونظم بعض الشعار باللغة التركية العثمانية ‪. 1‬‬
‫وتدرب على استخدام السلحة وكان يتقن استخدام السيف‪ ،‬وإصابة الهدف بالمسدس‪،‬‬
‫ومحافظ على الرياضة البدنية‪ ،‬وكان مهتما بالسياسية العالمية ويتابع الخبار عن موقع بلده‬
‫منها بعناية فائقة ودقة ناردة‪.‬‬

‫أولً ‪ :‬زيارته الى أوروبا مع عمه السلطان عبدالعزيز‪:‬‬


‫قام السلطان عبدالعزيز بزيارة أوروبا يرفقه وفد عثماني رفيع المستوى وكان من ضمنه‬
‫( ‪)2‬‬
‫وقد‬ ‫المير عبدالحميد الذي ظهر أمام الوروبيين بملبسه البسيطة وسيرته الحميدة في العفة‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬محمد حرب‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪-490-‬‬
‫استعد المير عبدالحميد لهذه الرحلة بمطالعات واسعة‪ ،‬فإنه كان دقيقا في رؤيته‪ ،‬وفي حكمه‬
‫على الشياء التي رآها في الغرب‪ ،‬ولقد ألتقى الوفد العثماني بساسة ذلك العصر في أوروبا‬
‫مثل؛ نابليون الثالث في فرنسا‪ ،‬والملكة فكتوريا في إنجلترا‪ ،‬وليوبلد في الثاني في بلجيكا‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫وقد سبقت تلك الرحلة زيارته مع‬ ‫وغليوم الول في ألمانيا‪ ،‬وفرنسوا جوزيف في النمسا‬
‫السلطان عبدالعزيز الى مصر وانتبه أثناء وجوده في مصر الى الزيف الكاذب للبريق‬
‫الوروبي والخذ هناك بالشكليات الوروبية ‪ ،‬مما جعل مصر تستدين وتغرق في الديون‪،‬‬
‫نتيجة انطلق الوالي الخديوي اسماعيل باشا في إسرافه ومحاولته جعل مصر قطعة من أوروبا‬
‫‪ ،‬وأما رحلته الى أوروبا فقد استغرقت من ‪ 21‬يونيو الى ‪ 7‬أغسطس من عام ‪1867‬م‪ .‬زار‬
‫الوفد العثماني‪ :‬فرنسا وإنكلترا وبلجيكا والدولة النمساوية المجرية‪.‬‬
‫وفي هذه الرحلة الوروبية ‪ ،‬تفتح ذهن عبدالحميد الى أمور كثيرة‪ ،‬انعكست على فترة حكمه‬
‫كلها بعد ذلك‪ .‬وهذه المور هي ‪:‬‬
‫‪ -1‬الحياة الوروبية بكل مافيها من طرق معيشة غريبة وأخلقيات مختلفة وشكليات‪.‬‬
‫‪ -2‬التطور الصناعي والعسكري وبخاصة في القوات البرية الفرنسية واللمانية وفي القوات‬
‫البحرية البريطانية‪.‬‬
‫‪ -3‬ألعيب السياسة العالمية‪.‬‬
‫‪ -4‬تأثير القوى الوروبية على سياسة الدولة العثمانية‪ ،‬وبخاصة تأثير نابليون الثالث على‬
‫عمه السلطان عبدالعزيز‪ ،‬وضغط نابليون عليه‪ ،‬ليلتزم بمساندة الوزير علي باشا‪ .‬رغم أن‬
‫()‬
‫السلطان عبدالعزيز لم يكن يُشعر أحدا أنه تحت تأثير أي قوة غريبة ‪. 2‬‬
‫اقتنع المير عبدالحميد في هذه الرحلة ‪ :‬أن فرنسا دولة لهو‪ ،‬وإنكلترا دولة ثروة وزراعة‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.33‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪-491-‬‬
‫وصناعة‪ .‬أما ألمانيا فيه دولة نظام وعسكرية وإدارة وكان إعجابه بألمانيا كثيرا‪ ،‬لذلك عهد‬
‫بتدريب الجيش العثماني إليها ‪-‬عندما أصبح سلطانا‪ -‬ولقد تأثر المير عبدالحميد بهذه الرحلة‬
‫ودفعه ذلك التأثر الى الهتمام بإدخال المخترعات الحديثة في دولته في مختلف نواحي الحياة‪:‬‬
‫تعليمية وصناعية ووسائل إتصالت وعسكرية‪ ،‬والمثلة على ذلك كثيرة منها‪ :‬شراؤه غواصتين‬
‫وكان سلح الغواصات جديدا‪ .‬وأدخل التلغراف الى بلده من ماله الخاص‪ ،‬وأنشأ المدارس‬
‫الحديثة‪ ،‬وأدخل فيها العلوم العصرية‪ ،‬وأدخل الى البلد أول سيارة وأول دراجة‪ ،‬وأخذ بنظام‬
‫()‬
‫القياس المتري‪ .‬لكنه وقف بحزم ضد سريان الفكر الغربي في البلد ‪. 1‬‬
‫أثرت رحلة عبدالحميد الى أوروبا أيضا في اتباعه سياسة استقللية تجاه أوروبا‪ .‬ولم يعرف‬
‫عن عبدالحميد تأثير أي حاكم أوروبي عليه‪ ،‬مهما كانت صداقته ومهما كانت درجة التقارب‬
‫بين بلده وبين الدولة العثمانية‪.‬‬
‫ولفت انتباه عبدالحميد أثناء هذه الرحلة الحوار الذي كان يجريه فؤاد باشا الصدر العظم‬
‫العثماني مع بعض الزعماء الوروبيين‪:‬‬
‫سُئل فؤاد باشا أثناء هذه الرحلة ‪ :‬بكم تبيعون جزيرة كريت؟‬
‫فرد الباشا قائلً‪( :‬بالثمن الذي اشتريناها به)‪ .‬وكان يعني بذلك ‪ :‬أن العثمانيين حاربوا في‬
‫سبيل الحفاظ على جزيرة كريت ‪ 27‬عاما كلها حروب‪.‬‬
‫وسُئل فؤاد باشا أيضا‪( :‬ماهي أقوى دولة في العالم الن؟)‪.‬‬
‫فرد قائلً‪ ( :‬أقوى دولة الن هي الدولة العثمانية‪ .‬ذلك لنكم تهدمونها من الخارج ونحن‬
‫()‬
‫نهدمها من الداخل‪ .‬ولم يستطع كلنا هدمها) ‪. 2‬‬
‫تعلم عبدالحميد من هذا درس القدرة على إسكات القوى التي تود تحطيم الدولة العثمانية‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪،‬ص ‪.57‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪-492-‬‬
‫وتعلم ذكاء الحوار السياسي وهو مابرع فيه بعد ذلك‪.‬‬
‫()‬
‫وكان عمر عبدالحميد أثناء هذه الرحلة ‪ 25‬عاما ‪. 1‬‬

‫ثانيا‪ :‬بيعته للخلفة وأعلن الدستور‪:‬‬


‫بويع بالخلفة بعد أخيه مراد ‪ ،‬يوم الخميس ‪ 11‬شعبان ‪1293‬هـ ‪ 31‬أغسطس ‪1876‬م‪.‬‬
‫وكان عمره آنذاك اربعا وثلثين سنة‪ ،‬وحضر لمبايعته الوزراء والعيان وكبار الموظفين من‬
‫مدنيين وعسكريين في سراي طوبقبو‪ .‬وهنأه بالخلفة كذلك رؤساء الطوائف المختلفة‪ ،‬وأطلقت‬
‫المدافع بسائر أطراف السلطنة احتفالً بهذه المناسبة‪ .‬وأقيمت الزينات بجميع جهات استانبول‬
‫()‬
‫ثلثة أيام وأرسل الصدر العظم برقيات الى دول العالم لعلمها بذلك ‪. 2‬‬
‫وكان السلطان عبدالحميد قد عين مدحت باشا صدرا أعظم‪ ،‬ثم أعلن في ‪ 23‬ديسمبر (‬
‫‪1293‬هـ‪1876/‬م) الدستور الذي يضمن الحريات المدنية وينص على مبدأ الحكومة البرلمانية‪.‬‬
‫هذا الدستور ‪ ،‬كان البرلمان يتكون من مجلسين‪ :‬مجلس النواب أو المبعوثان ثم مجلس‬
‫()‬
‫العيان أو الشيوخ ‪. 3‬‬
‫وقد تعرض السلطان عبدالحميد في بداية حكمه الى استبداد الوزراء واشتداد سياستهم‬
‫التغريبية بقيادة جمعية العثمانيين الجدد والتي كانت تضم النخبة المثقفة التي تأثرت بالغرب‬
‫والتي استطاعت اليدي الماسونية تجندهم لخدمة أهدافها‪ ،‬وقد بلغ من استبداد الوزراء بالحكم‪،‬‬
‫أن كتب مدحت باشا‪ ،‬وهو في مقام الرئاسة لنخبة العثمانيين الجدد‪ ،‬الى السلطان عبدالحميد في‬
‫أول عهده بالعرش (‪1877‬م)‪( :‬لم يكن غرضنا من إعلن الدستور إل قطع دابر الستبداد‪،‬‬
‫وتعيين مالجللتكم من الحقوق وما عليها من الواجبات‪ ،‬وتعيين وظائف الوزراء‪ ،‬وتأمين جميع‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد ‪ ،‬ص ‪.58‬‬


‫‪)(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬ص ‪.183‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.178‬‬
‫‪-493-‬‬
‫الناس على حريتهم وحقوقهم‪ ،‬حتى تنهض البلد الى مدارج الرتقاء‪ ،‬وإني أطيع أوامركم إذا‬
‫()‬
‫لم تكن مخالفة لمنافع المة‪. 1 )...‬‬
‫ويقول السلطان عبدالحميد في هذا‪( :‬ولقد وجدت مدحت باشا ينصّب نفسه آمرا ووصيا عليّ‪.‬‬
‫()‬
‫وكان في معاملته بعيدا عن المشروطية (الديمقراطية) وأقرب الى الستبداد) ‪. 2‬‬
‫وكان مدحت باشا وأصحابه من الماسون يدمنون الخمر قال السلطان عبدالحميد في مذكراته‪:‬‬
‫(‪...‬ومن المعروف أن أحرار ذلك العهد من شعراء وأدباء اجتمعوا مساء يوم صدور مرسوم‬
‫القانون الساسي في قصر مدحت باشا‪ ،‬ل ليتحدثوا في أمور الدولة ‪ ،‬بل في أمور السكر‬
‫والعربدة‪ ،‬وهم يحتسون الخمر‪ ،‬ومدحت باشا يدمن الخمر منذ شبابه ومشهور عنه هذا وألتقت‬
‫نشوة الخمر بالنشوة التي بعثها إعلن القانون الساسي وعندما نهض مدحت باشا من على‬
‫مائدة الكل خرج مستندا على أذرع الخرين حتى ل يقع على الرض‪ .‬وبينما كان يغسل يديه‬
‫قال لزوج أخته طوسون باشا وهو يؤرجح لسانه في فمه (بتأثير الخمر)‪.‬‬
‫‪ -‬ياباشا! من يستطيع الن‪ ،‬وبعد كل ما وصلت إليه أن يبعدني عن منصبي؟! من ؟! قل لي‬
‫كم عاما سأبقي في الصدارة العظمى؟‬
‫رد عليه طوسون باشا قائلً‪:‬‬
‫()‬
‫‪ -‬إذا بقيتم على هذا الحال‪ ،‬فليس أكثر من أسبوع ‪! 3‬‬
‫لقد كان مدحت باشا في مجالس الخمر الخاص به يفشي أدق اسرار الدولة وكانت هذه‬
‫السرار تنتشر في اليوم التالي بين أهالي استانبول‪ .‬وفي إحدى الليالي تحدث مدحت باشا عن‬
‫عزمه على إعلن الجمهورية في الدولة العثمانية وأنه سيصبح رئيسا للجمهورية العثمانية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.59‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬مذكرات السلطان عبدالحميد ‪ ،‬محمد حرب ‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫‪-494-‬‬
‫()‬
‫الجديدة ثم إمبراطورا لها‪ .‬تماما مثلما حدث مع نابليون الثالث بفرنسا) ‪. 1‬‬
‫وكان مدحت باشا متهما بقتل السلطان عبدالعزيز وشكل السلطان عبدالحميد لجنة للتحقيق في‬
‫ذلك ثم قدم المتهمون الى المحكمة التي أدانتهم وحكم على مدحت باشا بالعدام وتدخل السلطان‬
‫عبدالحميد وخفض الحكم الى السجن ثم نفي الى الحجاز حيث مقر السجن العسكري هناك‪.‬‬
‫كان الدستور ينص على فصل السلطات من حيث الشكل ل المضمون‪ ،‬كما أن التغييرات‬
‫التي طرأت على نظام الحكم طبقا له كانت من قبيل التطور‪ ،‬فلم يفكر أحد في تقليص حق‬
‫السلطان في السيادة‪ ،‬كما نص الدستور على أن شخص السلطان مصون ل تمس‪ ،‬وأنه ليسأل‬
‫()‬
‫أمام أحد عن أعماله‪ ،‬ومن ثم كان الدستور مرتهنا بشخصه ‪ . 2‬فله وحده حق تعيين وإقالة‬
‫الوزراء‪ ،‬كما أنه هو الذي يعقد المعاهدات ويعلن الحرب ومعاهدات الصلح‪ ،‬وهو القائد العام‬
‫للقوات المسلحة ومن حقه كذلك إصدار كافة القوانين في شتى المجالت دون الرجوع الى‬
‫البرلمان‪ .‬وهكذا ظل السلطان عبدالحميد الثاني‬
‫(‪1293-1327‬هـ‪1909-1876/‬م) يتمتع بالسلطة التي سبق لسلفه أن تمتعوا بها‪ ،‬بحيث إن‬
‫مدحت باشا ذاته كان أول الضحايا‪ .‬كما أن الصلحيات الواسعة التي منحها الدستور للسلطان‬
‫حدت من سلطة رئيس الوزراء بحيث لم يتيح له أن يلعب سوى دور ثانوي في تسيير دفة‬
‫()‬
‫الحكم ‪. 3‬‬
‫ونص الدستور على حرية اعضاء البرلمان في إبداء آرائهم وفي التصويت‪ ،‬وكان ليمكن‬
‫محاكمتهم إل إذا تجاوزوا حدود قوانين المجلس‪ ،‬وحدد الدستور اللغة التركية العثمانية‬
‫بإعتبارها اللغة الرسمية للدولة التي يجري بها الحديث في كل الجلسات‪ ،‬كما نص أن يكون‬
‫التصويت سريا أو علنيا بحسب الظروف‪ ،‬وعلى أن يقر مجلس النواب الميزانية دون تدخل من‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه ‪ ،‬ص ‪.77‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.234‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.234‬‬
‫‪-495-‬‬
‫جانب السلطان بعكس الحال فيما يتعلق بالقوانين العادية‪.‬‬
‫وأما بالنسبة لحقوق الفراد فقد أعلن الدستور أن العثمنة هي السياسة الرسمية للدولة في‬
‫إطار مبدأ المساواة الذي نصت عليه التنظيمات فقد خلع الدستور صفة العثمانية على كل رعايا‬
‫الدولة ايا كان دينهم‪ ،‬ونص على تمتعهم بالحرية الشخصية‪ ،‬وعلى تساوي كل العثمانيين أمام‬
‫القانون وعلى منحهم نفس الحقوق مع إلزامهم بنفس الواجبات‪ .‬ونص الدستور كذلك على‬
‫استقلل القضاء وأبقى على المحاكم الشرعية على أن يلجأ غير المسلمين لمحاكم الملل في‬
‫()‬
‫المسائل المتعلقة بشؤونهم الدينية ‪. 1‬‬
‫وقد أمر السلطان عبدالحميد بأن يوضع الدستور موضع التنفيذ‪ ،‬وبأن تجرى انتخابات عامة‪،‬‬
‫كانت الولى من نوعها في التاريخ العثماني ‪ ،‬وقد أسفرت تلك النتخابات على تميثل المسلمين‬
‫بـ(‪ )71‬مقعدا والنصارى بـ(‪ )44‬مقعدا واليهود بـ(‪ )4‬مقاعد واجتمع أول برلمان عثماني في‬
‫‪ 29‬مارس عام ‪1877‬م (‪1294‬هـ) وكان مجلس العيان والشيوخ يتكون من ‪ 26‬عضوا‬
‫بالتعيين من بينهم ‪ 21‬مسلما‪ ،‬في حين كان مجلس النواب يتكون من مائة وعشرين عضوا‪ .‬وقد‬
‫قام بعض نواب العرب بدور هام خلل المناقشات‪ ،‬غير أن مجلس المبعوثان كانت مدته‬
‫قصيرة؛ فقبل أن يتم المجلس دورة انعقاده الثانية‪ ،‬طلب النواب في ‪ 13‬فبراير عام ‪1878‬م (‬
‫‪1296‬هـ) أن يمثل ثلثة من الوزراء أمام المجلس للدفاع عن أنفسهم من التهامات الموجهة‬
‫إليهم‪ ،‬فما كان من السلطان عبدالحميد إل أن عطل المجلس وأمر بعودة النواب الى بلدهم‪،‬‬
‫()‬
‫وقام بنفي وإبعاد البارزين منهم ‪. 2‬‬
‫وبذلك بلغت مدة انعقاد المجلس خلل دورته الولى والثانية عشرة شهور وخمسة وعشرين‬
‫يوما ولم يدع هذا المجلس للجتماع ثانية لمدة ثلثين عاما‪ ،‬لم تفتح خللها قاعة المجلس ول‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي ‪ ،‬ص ‪.180‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.181‬‬
‫‪-496-‬‬
‫()‬
‫مرة واحدة ‪. 1‬‬
‫لقد كان السلطان عبدالحميد مضطرا في إعلن الدستور بسبب الضغوط التي مارسها عليه‬
‫الماسون بقيادة مدحت باشا ولذلك عندما اتحيت له الفرصة قام بتعطيل المجلس‪.‬‬
‫إن عبدالحميد الثاني كان ضد الديمقراطية والحكم بالدستور الذي يعرف في المصطلح‬
‫العثماني باسم "المشروطية" أي الشتراط على الحاكم بتحديد سلطاته‪ ،‬على اعتبار أن هذا فكر‬
‫وافد من الغرب ولذلك كان ضد المنادين به ورائدهم مدحت باشا وانتقد وزيره هذا بقوله‪( :‬لم‬
‫ير غير فوائد الحكم المشروطي في أوروبا‪ ،‬لكنه لم يدرس أسباب هذه المشروطية ول تأثيراتها‬
‫الخرى‪ .‬أقراص السلفات لتصلح لكل مرض ولكل بنية‪ .‬وأظن أن أصول المشروطية ل‬
‫()‬
‫تصلح لكل شعب ولكل بيئة قومية‪ .‬كنت أظن أنها مفيدة أما الن ‪ :‬فإني مقتنع بضررها" ‪. 2‬‬
‫كان للسلطان حججه في هذا‪ ،‬منها سوء تصرف المنادين بالدستور في أول استجابة للسلطان‬
‫لفكارهم‪ .‬من ذلك‪:‬‬
‫أن طلبت الحكومة من السلطان في وقت إعلن السلطان للدستور ‪ ،‬أن يوقع على بعض‬
‫قرارات منها تعيين ولة نصارى في وليات‪ ،‬أغلب السكان من المسلمين ‪ ،‬وعلى قرار‪ ،‬بقبول‬
‫طلبة من النصارى في الكلية الحربية العثمانية التي هي عماد الجيش العثماني ‪ ،‬فرفض‬
‫السلطان التوقيع فما كان من مدحت باشا ‪-‬وهو الوزير‪ -‬إل أن قال للسلطان‪( :‬إن مقصدنا من‬
‫()‬
‫إعلن الدستور أن ننهي استبداد القصر‪ ،‬ويجب على جللتكم أن تعرف واجباتكم) ‪. 3‬‬
‫ومن السباب التي يسوقها السلطان عبدالحميد في رفضه للفكر الدستوري قوله‪( :‬إن الدولة‬
‫العثمانية دولة تجمع شعوبا شتى‪ ،‬والمشروطية في دولة كهذه موت العنصر الصلي في البلد‪،‬‬
‫وهل في البرلمان النكليزي نائب هندي واحد؟ وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬البلد العربية والدولة العثمانية‪ ،‬ساطع الحصري ‪ ،‬ص ‪.100-99‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مذكرات السلطان عبدالحميد‪ ،‬محمد حرب‪ ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪-497-‬‬
‫()‬
‫واحد؟) ‪. 1‬‬
‫ولم يغير السلطان عبدالحميد موقفه تجاه الحكم الدستوري ‪ ،‬في دولته حتى بعدأن عزل عن‬
‫العرش‪ ،‬وأخذ الناس يمارسون الحكم الدستوري‪ ،‬فيقول ‪( :‬ماذا حدث عندما أعلنت المشروطية؟‬
‫هل قلت الديون؟ هل كثرت الطرق والموانئ والمدارس؟ هل أصبحت القوانين الن أكثر تعقلً‬
‫ومنطقا؟! وهل ساد المن الشخصي؟ هل الهالي الن أكثر رفاهية؟ هل تناقصت الوفيات وزاد‬
‫المواليد؟ هل أصبح الرأي العام العالمي الن بجانبنا أكثر من ذي قبل؟ الدواء النافع يصبح سما‬
‫زعافا إذا كان في يد غير الطباء‪ .‬أو في أيدي من ل يعرفون أصول استعماله‪ ،‬وإني لجد آسف‬
‫()‬
‫فالحداث قد أظهرت صدق كلمي) ‪. 2‬‬
‫ويبين السلطان عبدالحميد بأن موقفه ليس دائما تجاه الحكم الدستوري‪ ،‬فالظروف التي كان‬
‫يحكم فيها‪ ،‬إذا أختلفت‪ ،‬فستختلف وجهة نظره في الحكم الدستوري‪.‬‬
‫وفي هذا يقول ‪( :‬ينبغي أل يظن أن فكري واقتناعي دائما ضد الحكم الذي يعتمد على أصول‬
‫()‬
‫المشروطية) ‪. 3‬‬
‫إن السلطان عبدالحميد مر عصره بظروف عصيبة‪ ،‬وازمات شديدة‪ ،‬وتآمر عالمي على‬
‫الدولة العثمانية من الداخل والخارج فشرع في إصلح الدولة وفق التعاليم السلمية لمنع‬
‫التدخل الوروبي في شؤون الدولة وحرص على تطبيق الشريعة السلمية وقام بإبعاد الكتّاب‬
‫والصحفيين عن العاصمة وقاوم كافة التجاهات الغربية المخالفة للحضارة السلمية المجيدة‬
‫في وليات الدولة واستطاع أن يشكل جهاز استخباراتي قوي لحماية الدولة من الداخل وجمع‬
‫معلومات عن أعدائه في الخارج واهتم بفكرة الجامعة السلمية وحقق بها نتائج عظيمة واهتز‬
‫الوروبيون من هذا التفكير الستراتيجي العميق وعملوا على تفتيتها‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪96‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪-498-‬‬
‫لقد تكلم السلطان عبدالحميد عن جهاز مخابراته وبين الغرض منه فقال ‪( :‬حسب العرف‬
‫العثماني‪ ،‬يتعرف السلطان على تفكير الرعية وشكواها عن طريق جهاز الحكم‪ ،‬ومن ولته‬
‫وقضاته من جانب ‪ ،‬وعن طريق التكايا المنتشرة في ربوع البلد بمشايخها ودراويشها من‬
‫جانب آخر‪ ،‬فيجمع كل هذه الخبار ويدير البناء عليها‪.‬‬
‫جدّي السلطان محمود الثاني وسع دائرة مخابراته بإضافة الدراويش الرحل إليها‪ .‬كان ذلك‬
‫عندما ارتقيت العرش‪ ،‬وعلى ذلك استمر‪.‬‬
‫علمت ذات يوم من موسوروس باشا‪ ،‬سفيرنا في لندن‪ ،‬أن الصدر العظم السابق‪ ،‬السَرْ‬
‫عسكر حسين عوني باشا‪ ،‬تسلم نقودا من النكليز‪ .‬إذا كان الصدر العظم وهو يحكم البلد‬
‫باسم السلطان يخون دولته‪ ،‬فإن مخابراته لبد أن تبلغ القصر على أنه يؤدي عمله على الوجه‬
‫الكمل ‪ ،‬لذلك تكدرت وتأثرت في أثناء تلك اليام قابلني محمود باشا‪ ،‬وأدلى إلي ببعض‬
‫معلومات عن بعض أعضاء "تركيا الفتاة" ‪ ،‬وكانت الخبار التي قدمها لي هامة‪ .‬سألته عن‬
‫طريق حصوله عليها‪ ،‬فعرفت أنه أنشأ مخابرات خاصة‪ ،‬واحتوى ‪-‬بالنقود‪ -‬أقاربا لبعض‬
‫الشخاص من "تركيا الفتاة" ‪ ،‬وهؤلء كانوا يقابلون أقاربهم ويسمعون منهم ثم يخبرونه‪ ،‬فيدفع‬
‫لهم‪.‬‬
‫صحيح أنه زوج أختي‪ ،‬إل أنه ليصح أن يقيم أحد باشوات الدولة مخابرات مستقلة عن‬
‫مخابرات الدولة‪ .‬قلت له أن يحل جهازه هذا فورا‪ ،‬وأل يعاود العمل بمثل هذا المر مرة‬
‫أخرى‪ ،‬أحال إليّ جهازه هذا‪ ،‬وهو متضايق كثيرا‪.‬‬
‫ليمكن للدولة أن تكون آمنة‪ ،‬إذا تمكنت الدول الكبرى أن تجند لخدمة أهدافها أشخاصا في‬
‫درجة وزير أعظم‪.‬‬
‫بناءً على هذا قررت إنشاء جهاز مخابرات يرتبط بشخصي مباشرة‪ ،‬وهذا هو الجهاز الذي‬
‫يسميه أعدائي بالجورنالجية (الشرطة السرية = المخابرات)‪.‬‬
‫وكان ضروريا أن أعرف أن بين أعضاء جهاز الجورنالجية (المخابرات) المخلصين‬
‫‪-499-‬‬
‫الحقيقيين أشخاصا مفترين‪ ،‬لكني لم أصدق ولم آخذ بأي شيء يأتي من هذا الجهاز مطلقا دون‬
‫تحقق دقيق‪.‬‬
‫كان جدّي السلطان سليم (سليم الثالث) يصيح قائلً‪ ( :‬إن أيدي الجانب تتجول فوق كبدي‪،‬‬
‫وعلينا أن نرسل السفراء الى الدول الجنبية لنقل أساليب التقدم الوروبي وعلينا إرسال الرسل‬
‫الى الخارج‪ ،‬ولنعمل سريعا على تعلّم ماوصلوا إليه‪.‬‬
‫كنت أحس أنا أيضا بأيدي هؤلء الجانب‪ ،‬ليست فوق كبدي‪ ،‬وإنما في داخله‪ .‬إنهم يشترون‬
‫صدروي العظام ووزرائي ويستخدمونهم ضد بلدي‪ .‬كيف يحدث هذا وهم الذين أنفقت عليهم‬
‫من خزانة الدولة ول أستطيع معرفة ما يعملونه وما يديرون ويعدون؟‬
‫نعم ‪ ،‬أنا أسست جهاز الجورنالجيه (المخابرات)‪ .‬وأنا أدرته‪.‬‬
‫متى حدث هذا؟‬
‫بعد أن رأيت صدروي العظام يرتشون من الدول الجنبية مقابل هدم دولتهم والتآمر على‬
‫سلطانهم أسست هذا الجهاز ل ليكون أداة ضد المواطن‪ ،‬ولكن لكي يعرف ويتعقب هؤلء الذين‬
‫خانوا دولتي في الوقت الذي كانوا يتسلمون فيه رواتبهم من خزانتها‪ ،‬وفي الوقت الذي كانت‬
‫()‬
‫النعمة العثمانية تملؤهم حتى حُلُوقهم ‪!! 1‬‬
‫لقد وجهت للسلطان عبدالحميد انتقادات عنيفة من قبل جمعية التحاد والترقي بسبب جهاز‬
‫الستخبارات الذي شكلته وفي الحقيقة إن ذلك الجهاز استطاع أن يحقق ايجابيات كبيرة للدولة‬
‫العثمانية فعندما (‪ ...‬كان مثيرو الشغب والرهابيون يثيرون الرمن للتمرد ضد الدولة العثمانية‬
‫كان الجنود يتصدون لهم وتُراق دماء كثيرة ‪ ...‬كان جهاز السلطان عبدالحميد ‪-‬خلل ثلثين‬
‫سنة‪ -‬يخبر السلطان فور ظهور كل حركة ولذلك تمكن السلطان من اخماد كل تمرد داخلي في‬

‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬مذكرات السلطان عبدالحميد ‪ ،‬ص ‪.160‬‬


‫‪-500-‬‬
‫()‬
‫حينه ‪. 1‬‬

‫ثالثا‪ :‬تمردات وثورات في البلقان‪:‬‬


‫قام سكان الجبل السود والصرب بتحريض بلد الهرسك للخروج عن الدولة العثمانية وكان‬
‫ذلك في عام (‪1293‬هـ‪1876/‬م) واستطاع العثمانيون أخمادها‪ ،‬ورغب السلطان عبدالحميد في‬
‫منع الدول الوروبية من التدخل‪ ،‬فأصدر قرارا بفصل القضاء عن السلطة التنفيذية ‪ ،‬وتعيين‬
‫القضاة بالنتخاب عن طريق الهالي‪ ،‬والمساواة في الضرائب بين المسلمين والنصارى ‪ ...‬ولم‬
‫يرض ذلك السكان‪ ،‬فعادوا الى الثورة التي قمعت أيضا‪ ،‬ولكن النمسا التي كانت وراء الثورة‬
‫وترغب في ضم البوسنة والهرسك إليها استمرت في تحريض السكان ضد الدولة العثمانية‪،‬‬
‫فعملت النمسا مع روسيا وألمانيا وفرنسا وانكلترا على الطلب من السلطان بالقيام بإصلحات‬
‫فوافق عليها السلطان‪ ،‬ولكن نصارى البوسنة لم يتقبلوا بذلك‪ .‬وهذا يدل على المطالبة‬
‫بالصلحات ليست سوى مبررات واهية‪ ،‬وحقيقة المر أنهم يريدون التدخل في شؤون الدولة‬
‫()‬
‫بشكل مباشر وغير مباشر لضعافها والطاحة بها ‪. 2‬‬
‫كما قامت ثورة البلغار في نفس الوقت الذي قام فيه نصارى البوسنة والهرسك بثورتهم بدعم‬
‫من النمسا والدول الوروبية وخاصة روسيا‪ ،‬فقد تأسست جمعيات في بلد البلغار لنشر النفوذ‬
‫الروسي بين النصارى الرثوذكس والصقالبة‪ ،‬وكانت تدعمها روسيا وتمدها بالسلح‪ ،‬وتبذل‬
‫هذه الجمعيات بدورها جهدها لثارة سكان الصرب والبوسنة والهرسك‪ ،‬وتحرضهم على الثورة‬
‫ضد العثمانيين‪ .‬وعندما أنزلت الدولة العثمانية بعض السر الشركسية احتج البلغار على ذلك‪،‬‬
‫فقاموا بثورة وساعدتهم روسيا والنمسا بالسلح والموال؛ فتمكنت الدولة العثمانية من القضاء‬
‫على الثورة‪ ،‬فأخذت الدول الوروبية تثير الشائعات عن المجازر التي ارتكبها العثمانيون ضد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.189‬‬


‫‪)(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.189‬‬
‫‪-501-‬‬
‫النصارى والعكس هو الصحيح وبهذه الشائعات اثير الرأي العام الوروبي ضد الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬وطالبت الحكومات الوروبية بإتخاذ إجراءات صارمة ضد العثمانيين ومنها الحصول‬
‫()‬
‫البلغار على استقلل ذاتي وتعيين حاكم نصراني لهم ‪. 1‬‬
‫وقام الروس واللمان والنمساويون بدفع الصرب والجبل السود للقيام بحرب ضد‬
‫العثمانيين‪ ،‬وكانت روسيا ترغب في توسيع حدودها من جهة بلغاريا‪ ،‬والنمسا تريد توسعة‬
‫حدودها من جهة البوسنة والهرسك‪ ،‬ووعدت هذه الدول أمير الصرب والجبل السود بالدعم‪.‬‬
‫وشرع الجنود الروس بالتدفق سرا على بلد الصرب‪ ،‬والجبل السود‪ ،‬وتمكنت الدولة العثمانية‬
‫من النتصار على الصرب وحلفائهم‪ ،‬فتدخلت الدول الوروبية وطلبت وقف القتال وإل‬
‫()‬
‫فالحرب الواسعة ‪. 2‬‬
‫واجتمع مندوبوا الدول الوروبية في استانبول وقدموا اقتراحات للدولة من أهمها‪ :‬تقسيم بلد‬
‫البلغار الى وليتين ويكون ولتها من النصارى‪ ،‬وأن تشكل لجنة دولية لتنفيذ القرارات‪ ،‬وأن‬
‫تعطى هذه المتيازات لماراتي البوسنة والهرسك أيضا‪ ،‬وأن تتنازل الدولة عن بعض‬
‫الراضي للصرب والجبل السود‪.‬‬
‫ولكن الدولة العثمانية رفضت هذه القرارات‪ ،‬وعقدت صلحا منفردا مع الصرب سحبت‬
‫نتيجته جيوشها من بلد الصرب‪ ،‬وأن يرفع العلم العثماني والصربي دليلً على السيادة‬
‫()‬
‫العثمانية ‪. 3‬‬
‫لقد كان السلطان عبدالحميد الثاني على يقين من أن هدف الدول الغربية هو السعي لسقوط‬
‫الدولة العثمانية حيث قال في مذكراته‪( :‬رأيت أثناء مؤتمر الدول الكبرى الذي عقد في استانبول‬
‫ماعزمت عليه هذه الدول‪ ،‬وهي ليست كما يقولون تأمين حقوق الرعايا المسيحيين بل تأمين‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.189‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.190‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.190‬‬
‫‪-502-‬‬
‫الستقلل الذاتي لهؤلء الرعايا‪ .‬ثم العمل على استقللهم التام‪ ،‬وبذلك يتم تقسيم الدولة‬
‫العثمانية‪.‬‬
‫كانوا يعملون على تقسيم هذا الهدف على صورتين‪:‬‬
‫الولى‪ :‬إثارة الهالي المسيحيين‪ ،‬وتعكير صفاء الجو‪ ،‬وبهذا تتصدى هذه الدول لحمايتهم‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬القول بالمشروطية‪ ،‬لحداث الفرقة بيننا أنفسنا واستطاعوا أن يجدوا من بيننا‬
‫أنصارا يستخدمونهم في كل الغايتين‪ ،‬وبكل أسف كان على خبز العدو شيء من السمن‪ .‬فلم‬
‫يستطع بعض الشباب العثماني المثقف أن يفرق بين التطبيق السهل والحكم الدستوري في بلد‬
‫()‬
‫تتمتع بوحدة قومية‪ ،‬وبين تعذر هذا الحكم في الدول التي لتتمتع بوحدة قومية ‪. 1‬‬

‫رابعا‪ :‬الحرب الروسية العثمانية‪:‬‬


‫كانت روسيا ترغب في الوصول الى المياه الدافئة بسبب عوامل دينية واقتصادية وجغرافية‬
‫وقد نص (بطرس الكبر) (‪1725-1627‬م) في وصيته للروس (في الفقرات التاسعة والحادية‬
‫عشرة والثالثة عشرة) على ضرروة الصراع الحضاري ضد العثمانيين ‪ ،‬الى أن تنتهي الدولة‬
‫العثمانية من الوجود‪.‬‬
‫يقول (بطرس الكبر) في الفقرة التاسعة من وصيته‪:‬‬
‫(نقترب من القسطنطينية والهند بقدر المكان فمن يملك القسطنطينية فقد ملك العالم‪ .‬بناء‬
‫على ذلك ينبغي ملزمة الحرب مع العثمانيين)‪.‬‬
‫وفي الفقرة الحادية عشرة يقول‪( :‬نشارك النمسا فيما قصدناه من إخراج العثمانيين من‬
‫أوروبا)‪.‬‬
‫وفي الفقرة الثالثة عشرة يقول‪( :‬وبعد التسلط على الممالك العثمانية‪ ،‬نجمع جيوشنا وتدخل‬
‫أساطيلنا بحر البلطيق والبحر السود ونشرع في التفاوض مع فرنسا ودولة النمسا في قسمة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مذكرات السلطان عبدالحميد ‪ ،‬ص ‪.145‬‬


‫‪-503-‬‬
‫()‬
‫العالم بيننا) ‪. 1‬‬
‫إن روسيا أهتمت بتلك الوصية وفي عصر السلطان عبدالحميد الثاني كثرت الثورات بدعم‬
‫من روسيا والدول الوروبية في البلقان واليونان وغيرها من القاليم العثمانية ولم تكتفي بذلك‬
‫بل عملت على قيام دول نصرانية مستقلة مثل رومانيا‪ ،‬وبلغاريا والصرب واليونان وبعد أن‬
‫حقق العثمانيون انتصارات رائعة في البلقان استعدت روسيا للحرب ثم أعلنتها حرب لهوادة‬
‫فيها ضد الدولة العثمانية وانضمت رومانيا الى روسيا ودخل العثمانيون في حرب طاحنة مع‬
‫الروس‪ ،‬وعبرت الجيوش الروسية نهر الدانوب واستولت على بعض المدن التابعة للعثمانيين‬
‫ومنها "تيرنوه" و"نيقولبلي بل" التي تقع في بلغاريا حاليا كما استولى الروس على بعض النقاط‬
‫المهمة والمعابر المؤدية الى البلقان‪ ،‬وقام السلطان عبدالحميد بتغيير كبير في قيادات الجيوش‬
‫العثمانية للتصدي للغزو الروسي‪ ،‬وقد حاول الروس الستيلء على مدينة (بلفنه) التي تقع في‬
‫بلغاريا حاليا وهي من أهم المعابر الى البلقان‪ ،‬ولكن القائد العثماني الشجاع الغازي (عثمان‬
‫باشا) تصدى لهم بكل شجاعة ‪ ،‬فردهم على أعقابهم منهزمين‪ ،‬فأعادوا الهجوم مرة أخرى‬
‫بقوات أكثر كثافة ومع ذلك نجح ذلك القائد العثماني الفذ في التصدي للروس مرة أخرى‪ ،‬مما‬
‫()‬
‫جعل السلطان العثماني يصدر مرسوما خاصا في الثناء على ذلك القائد ‪. 2‬‬
‫وأمام هذا الصمود حاول الروس التغيير من سياستهم في الستيلء على هذه المدينة واتبعوا‬
‫سياسة الحصار لها‪ ،‬وحاولوا منع المدادات من الوصول الى الجيوش العثمانية فيها‪ ،‬وفي‬
‫الوقت نفسه عززوا قواتهم وحضر القيصر الروسي بنفسه على المعركة القادمة وانضم أمير‬
‫رومانيا الى روسيا وكان معه ‪ 100‬ألف مقاتل‪ ،‬فأصبحت الكفة العسكرية في صالح الروس‪،‬‬
‫حيث تجاوز عددهم ‪ 150‬ألف مقاتل ففرضوا حصارا على ثلثة خطوط على القوات العثمانية‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬التحفة الحليمية ‪ ،‬ابراهيم حلمي بك‪ ،‬ص ‪.241‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.418‬‬
‫‪-504-‬‬
‫ومع هذا فإن العثمانيين المحاصرين بقيادة عثمان باشا صمدوا صمود البطال‪ ،‬ورغم أن‬
‫عددهم كان قرابة ‪ 50‬ألف مقاتل‪ ،‬فإنهم لم يكتفوا بذلك الصمود‪ ،‬بل أعدوا خطة رائعة لهجوم‬
‫معاكس على خطوط العدو المحاصر لهم طالبين بذلك إما النصر وفك الحصار عنهم أو‬
‫الشهادة‪.‬‬
‫وقاد عثمان باشا قواته التي انحدرت على العداء وهم يهللون ويكبرون ‪ ،‬فسقطت أعداد‬
‫منهم شهداء على أيدي قوات الروس‪ ،‬ومع ذلك فقد تمكنوا من اختراق الخط الول للمحاصرين‬
‫والخط الثاني‪ ،‬واستولوا على المدافع فيه‪ ،‬وأصيب القائد عثمان باشا ببعض الجراح عند الخط‬
‫الثالث فسرت إشاعة قوية بين جنده باستشهاده ففت ذلك في عضدهم‪ ،‬وحاولوا الرجوع الى‬
‫المدينة‪ ،‬ولكن بعض قوات الروس أصبحت بداخلها‪ ،‬وبذلك أصبح الجند العثمانيون في العراء‬
‫بين نيران العدو المختلفة‪ ،‬فأضطروا الى الستسلم للقوات الروسية‪ .‬وكان ذلك في عام‬
‫‪1294‬هـ أواخر سنة ‪1877‬م‪ ،‬وقد سلم القائد العثماني نفسه وهو جريح الى الروس الذين‬
‫()‬
‫كانوا معجبين به ويشيدون بشجاعته وإقدامه ‪ ، 1‬حتى أن القائد العام للقوات الروسية قام بتهنئة‬
‫عثمان باشا على دفاعه الرائع وأعاد له سيفه احتراما لقدرته القتالية وصبره‪ .‬وارسل عثمان‬
‫باشا الى روسيا في شهر ديسمبر من نفس العام ‪1877‬م‪ ،‬واستقبله القيصر بكل مراسم الحترام‬
‫()‬
‫ولم يعامل "عثمان باشا" معاملة السير ‪. 2‬‬
‫وقد شجعت تلك النتصارات الروسية الصرب في البلقان على التحرك ضد العثمانيين‬
‫وقامت جيوشهم بالهجوم على المواقع العثمانية هناك‪ ،‬فأشغلتهم عن الروس‪ ،‬الذين كانوا في‬
‫الوقت نفسه يسعون لحتلل مناطق جديدة‪ .‬وبالفعل تمكن الروس من الستيلء على صوفيا‬
‫(عاصمة رومانيا حاليا) ولم يكتف الروس بهذا ‪ ،‬بل توجهوا جنوبا ناحية العاصمة العثمانية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.419‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.141‬‬
‫‪-505-‬‬
‫القديمة‪ ،‬ووصلوا الى مواقع لتبعد سوى خمسين كيلومترا عن استانبول ‪ ،‬وأصبح الموقف‬
‫داخل الدولة العثمانية سيئا الى أبعد الحدود‪.‬‬
‫وفي الوقت نفسه كانت تجري العديد من المعارك بين العثمانيين والروس في الجانب‬
‫السيوي حيث وصل الروس الى الناضول ‪ ،‬ومع ذلك تمكن العثمانيون من هزيمتهم‬
‫ومطاردتهم داخل الراضي الروسية‪ ،‬وانتصر العثمانيون بقيادة احمد مختار باشا على الروس‬
‫في أكثر من ست معارك‪ ،‬مما جعل السلطان عبدالحميد يصدر مرسوما في الثناء عليه‪ ،‬وقد‬
‫عاود الروس الهجوم في تلك المناطق مرة أخرى وتمكنوا سنة ‪1295‬هـ من إنزال الهزائم‬
‫()‬
‫بالقوات العثمانية والستيلء على بعض المناطق في الناضول نفسها ‪. 1‬‬
‫وأمام تلك الهزائم العثمانية في أوروبا وفي آسيا اضطرت الدولة العثمانية للدخول في هدنة‬
‫مع الروس وقبول المفاوضات معهم‪ ،‬حيث وقعت بين الطرفين معاهدة سان ستيفاس عام‬
‫‪1878‬م‪.‬‬
‫عقدت هذه المعاهدة في ‪ 3‬مارس عام ‪1878‬م‪ .‬ووقعها "صفوت باشا" عن الدولة العثمانية‬
‫وهو يبكي‪ .‬وكان لبد بالضرورة أن تحتوي هذه المعاهدة على شروط مجحفة بالدولة‬
‫()‬
‫العثمانية ‪. 2‬‬

‫معاهدة سان ستفانو ‪ 15‬فبراير ‪1878‬م (‪1295‬هـ)‪:‬‬


‫قدم المندوب الروسي شروطا مسبقة‪ ،‬وطلب التوقيع عليها مباشرة وإل تتقدم الجيوش‬
‫الروسية وتحتل استانبول ‪ ،‬ولم يكن للعثمانيين من خيار سوى التوقيع‪ .‬وتنص المعاهدة ‪:‬‬
‫‪.1‬تعيين حدود للجبل السود لنهاء النزاع‪ ،‬وتحصل هذه المارة على الستقلل‪.‬‬
‫‪.2‬تستقل إمارة الصرب وتصاف إليها أراضي جديدة‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.418‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.144‬‬
‫‪-506-‬‬
‫‪.3‬تستقل بلغاريا استقللً ذاتيا إداريا‪ ،‬وتدفع مبلغا محددا الى الدولة العثمانية ويكون موظفو‬
‫الدولة والجند من النصارى فقط‪ .‬وتعيين الحدود بمعرفة العثمانيين والروس‪ .‬وينتخب المير‬
‫من قبل السكان ويخلي العثمانيون جنودهم نهائيا من بلغاريا‪.‬‬
‫‪.4‬تحصل دولة رومانيا على استقللها التام‪.‬‬
‫‪.5‬يتعهد الباب العالي بحماية الرمن والنصارى من الكراد والشركس‪.‬‬
‫‪.6‬يقوم الباب العالي بإصلح أوضاع النصارى في جزيرة كريت‪.‬‬
‫‪.7‬تدفع الدولة العثمانية غرامة حربية قدرها ‪ 245‬مليون ليرة ذهبية‪ ،‬ويمكن لروسيا أن‬
‫تتسلم أراضي مقابل هذا المبلغ‪.‬‬
‫‪.8‬تبقى المضائق (البسفور والدردنيل) مفتوحة للسفن الروسية في السلم والحرب‪.‬‬
‫()‬
‫‪.9‬يمكن للمسلمين في بلغاريا أن يهاجروا الى حيث يريدون من أجزاء الدولة العثمانية ‪. 1‬‬
‫وهكذا جرى تفتيت أملك الدولة في أوروبا‪ ،‬وإن يكن تكبير بلغاريا قد أثار سخط الدول‬
‫البلقانية الخرى‪ :‬النمسا‪ ،‬اليونان‪ ،‬والصرب‪ ،‬كما استاءت بريطانيا لزدياد النفوذ الروسي في‬
‫البلقان واستعدت لمحاربة روسيا وحصلت من الدولة العثمانية على حق احتلل جزيرة قبرص‬
‫(يونيو ‪1878‬م) وإدارتها على أن تبقى تابعة للدولة العثمانية‪ ،‬وذلك في مقابل تعهدها بالدفاع‬
‫عن أملك الدولة في آسيا في وجه أي مزيد من التهديدات الروسية‪ ،‬بشرط أن يتعهد السلطان‬
‫من جانبه بإدخال الصلحات اللزمة في أملكه السيوية بالتشاور مع بريطانيا ‪ ،‬وقد تعاهدت‬
‫()‬
‫بريطانيا بالجلء عن قبرص في حالة جلء الروس عن المناطق التي احتلوها في آسيا ‪. 2‬‬
‫لم يكن السلطان عبدالحميد راضيا في الصل بدخول هذه الحرب لذلك لم يصدق على‬
‫المعاهدة وقام بجهود سياسية ودبلوماسية مكثفة‪ ،‬حتى أقنع بريطانيا في الوقوف بجانبه‪ ،‬وبذلك‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.192،193‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫‪-507-‬‬
‫ضمن عقد مؤتمر آخر (مؤتمر برلين) لتخفيف آثار معاهدة سان ستفانوه من ناحية‪ ،‬وإخافة‬
‫روسيا بمنافستها بريطانيا‪ ،‬لكي تصرف روسيا النظر عن الحرب‪ ،‬واستطاع تحقيق مكاسب‬
‫للدولة‪ ،‬وقللت البنود الخسائر في المعاهدة الولى‪.‬‬
‫ودلت أحداث المعاهدتين على عبقرية السلطان عبدالحميد السياسية‪ ،‬التي تمثلت في إحداث‬
‫()‬
‫النفور بين دولة روسيا ودولة ألمانيا أيضا ‪. 1‬‬
‫يقول المبراطور اللماني "غليوم الثاني" في مذكراته‪:‬‬
‫(جرى لي حديث مع أحد كبار القواد الذين ألحقوا بخدمة البلط القيصري في عهد "الكسندر‬
‫الثاني" قيصر روسيا‪ ،‬عن العلقات بين البلطين الروسي واللماني وبين الجيشين والبلدين‬
‫فقلت لهذا القائد‪ :‬إني أرى انقلبا محسوسا في هذه العلقات‪ .‬فقال لي ‪( :‬الذنب في ذلك على‬
‫مؤتمر برلين ! تلك غلطة كبرى ارتكبها "بسمارك" فقد قضى على الصداقة القديمة التي كانت‬
‫بيننا‪ ،‬وأزال الثقة بألمانيا من البلط الروسي ومن الحكومة الروسية‪ .‬وجعل الجيش يشعر بانه‬
‫()‬
‫جنى عليه جناية عظمى بعد الحرب الدموية التي خاص غمارها عام ‪1877‬م) ‪. 2‬‬

‫مؤتمر برلين (‪1305‬هـ‪1887/‬م)‪:‬‬


‫حضر ذلك المؤتمر الدول الكبرى (انكلترا‪ ،‬فرنسا‪ ،‬ألمانيا والنمسا) ‪ ،‬وجرى البحث في هذا‬
‫المؤتمر تعديل معاهدة سان ستفانو التي عقدت بين روسيا والدولة العثمانية‪ ،‬وذلك لمعارضة‬
‫الدول المعنية لهذه المعاهدة لنها لتتفق مع مصالحها الستراتيجية ‪ ...‬واتفق المؤتمرون على‬
‫تعديل معاهدة سان استفانو وعقدت معاهدة برلين والتي تناولت الشروط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬استقلل بلغاريا وتعديل في حدودها‪ ،‬وتتشكل في جنوب البلقان ولية باسم الرومللي‬
‫الشرقي تكون تحت سيادة الدولة العثمانية سياسيا وعسكريا‪ ،‬ويحكمها نصراني‪ ،‬يعين لمدة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.145‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مذكرات غليوم الثاني‪ ،‬ص ‪.19-18‬‬
‫‪-508-‬‬
‫خمس سنوات باتفاق الدولة وتبقى قوة لروسيا في بلغاريا والروميللي الشرقي وتحدد بخمسين‬
‫الف جندي‪.‬‬
‫‪ -2‬تقدمت حدود اليونان قليلً الى الشمال مع العلم بأن اليونان لم تدخل في موضوع القتال‪،‬‬
‫ولم تشمل معاهدة سان استفانو أي جزء منها‪.‬‬
‫‪ -3‬ضم البوسنة والهرسك للنمسا‪.‬‬
‫‪ -4‬ضم بسارابيا الى روسيا بعد إقتلعها من رومانيا‪ ،‬وتضم مقاطعة دوبرجيه وبعض‬
‫الجزر الى رومانيا ومنحها الستقلل التام‪.‬‬
‫‪ -5‬استقلل الصرب والجبل السود‪.‬‬
‫‪ -6‬ضم مدن قارص وردهان وباطوم لروسيا‪.‬‬
‫‪ -7‬قرر المؤتمر البقاء على الغرامة الحربية التي قررتها معاهدة سان استفانو على الدولة‬
‫العثمانية ومقدارها ‪ 2.5‬مليار ليرة ذهبية‪.‬‬
‫‪ -8‬تعهد الباب العالي بأن يقبل بل تمييز في الدين شهادة جميع رعاياه أمام المحاكم ‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -9‬الموافقة على تحسين أوضاع النصارى في جزيرة كريت ‪. 1‬‬
‫وكان المستشار اللماني بسمارك هو الذي دعا الى عقد المؤتمر خشية أن يؤدي تصدي‬
‫بريطانيا الى روسيا الى نشوب حرب أوروبية عامة وتهديد التحاد اللماني الذي جاهدكثيرا‬
‫من أجل قيامه‪ ،‬فإنه دعا الدول العظمى الى المؤتمر في برلين لمراجعة صلح سان استفانو‬
‫()‬
‫وتسوية نتائج الحرب التركية الروسية ‪. 2‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫أن في كواليس مؤتمر برلين عرض بسمارك تقسيم‬ ‫وقد ذكر بعض المؤرخين‬
‫المبراطورية العثمانية على مذبح السلم الوروبي ‪ ،‬فعرض على بريطانيا مصر وعلى فرنسا‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.195‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.195‬‬
‫‪ )(3‬الدكتور اسماعيل ياغي‪ ،‬وأحمد مصطفى عبدالرحيم ‪.‬‬
‫‪-509-‬‬
‫تونس والشام وعلى النمسا البوسنة والهرسك وعلى روسيا البوغازين (البسفور والدردنيل)‬
‫()‬
‫وغير ذلك من أملك السلطان‪ .‬غير أن هذه العروض لم تدرج في مقررات المؤتمر ‪. 1‬‬
‫وهكذا فإن مؤتمر برلين من المعالم البارزة لتدهور المبراطورية العثمانية التي أرغمت على‬
‫التنازل عن مساحات واسعة من أملكها‪ .‬كما أنه يسجل تعهد بريطانيا وفرنسا بالمحافظة على‬
‫ممتلكات الدولة العثمانية‪ .‬غير أن بريطانيا وفرنسا قد كشفتا عن نواياهما الستعمارية ‪ ،‬فقد‬
‫احتلت فرنسا تونس عام (‪1299‬هـ‪1881/‬م) نطير احتلل بريطانيا لقبرص واحتلت بريطانيا‬
‫()‬
‫مصر عام (‪1300‬هـ‪1882/‬م) معلنة أن احتللها مؤقت ‪. 2‬‬
‫وهكذا كانت النتيجة من الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا ولمواجهة هذه الوضاع‬
‫المتردية كان على السلطان أن يتخذ لقب الخلفة لمواجهة التحديات الجديدة‪ ،‬وعمل على إنشاء‬
‫الجامعة السلمية لكي يعمل على تكتل كافة المسلمين من حوله في الداخل والخارج‪.‬‬
‫ولشك أن حركة الجامعة السلمية قد لقت استحسانا وقبولً لدى المسلمين الذين اعتقدوا أن‬
‫ضعف الدولة العثمانية مرجعه ضعف الشعور الديني عند المسلمين ‪ ،‬المر الذي دفع فيه أعداء‬
‫()‬
‫السلم للزحف على دار السلم ونهبها بلدا تلو الخر ‪. 3‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫الجامعة السلمية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬ص ‪.195‬‬


‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.195‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫‪-510-‬‬
‫لم تظهر فكرة الجامعة السلمية‪ ،‬في معترك السياسة الدولية إل في عهد السلطان‬
‫عبدالحميد‪ ،‬وبالضبط بعد ارتقاء السلطان عبدالحميد عرش الدولة العثمانية عام ‪1876‬م‪ .‬فبعد‬
‫أن ألتقط السلطان عبدالحميد أنفاسه وجرد المتأثرين بالفكر الوروبي من سلطاتهم‪ ،‬وتولى هو‬
‫قيادة البلد‪ ،‬قيادة حازمة اهتم السلطان عبدالحميد بفكرة الجامعة السلمية وقد تكلم في مذكراته‬
‫عن ضرورة العمل على تدعيم أواصر الخوة السلمية بين كل مسلمي العالم في الصين‬
‫والهند وأواسط أفريقيا وغيرها‪ ،‬وحتى ايران وفي هذا يقول‪( :‬عدم وجود تفاهم مع ايران أمر‬
‫جدير بالتأسف عليه وإذا أردنا أن نفوّت الفرصة على النجليز وعلى الروس فإنا نرى فائدة‬
‫( ‪)1‬‬
‫وتحدث عن علقة الدولة العثمانية بإنجلترا التي تضع‬ ‫تقارب إسلمي في هذا المر)‬
‫العراقيل أمام الوحدة العثمانية يقول عبدالحميد الثاني‪( :‬السلم والميسيحية نظرتان مختلفتان‬
‫وليمكن الجمع بينهما في حضارة واحدة) لذلك يرى أن (النجليز قد أفسدوا عقول المصريين‪،‬‬
‫لن البعض أصبح يقدم القومية على الدين‪ .‬ويظن أنه يمكن مزج حضارة مصر بالحضارة‬
‫الوروبية‪ ،‬وإنجلترا تهدف من نشر الفكر القومي في البلد السلمية الى هز عرشي ‪ ...‬وأن‬
‫الفكر القومي قد تقدم تقدما ملموسا في مصر‪ .‬والمثقفون المصريون أصبحوا من حيث ل‬
‫يشعرون ألعوبة في يد النجليز إنهم بذلك يهزون اقتدار الدولة السلمية ويهزون معها اعتبار‬
‫()‬
‫الخلفة) ‪. 2‬‬
‫ويقول عن السياسة النجليزية تجاه الخلفة‪( :‬قالت صحيفة ستاندرد النكليزية مانصه‪:‬‬
‫(يجب أن تصبح الجزيرة العربية تحت الحماية النكليزية‪ ،‬ويجب على انكلترا أن تسيطر على‬
‫مدن المسلمين المقدسة) ‪ ...‬إن إنجلترا تعمل لهدفين ‪ :‬إضعاف تأثير السلم وتقوية نفوذها‬
‫وبالتالي ‪ ..‬لذلك أراد النجليز أن يكون الخديوي في مصر خليفة للمسلمين ولكن ليس هناك‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مذكرات السلطان عبدالحميد ‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مذكرات السلطان عبدالحميد ‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪-511-‬‬
‫مسلم صادق واحد يقبل أن يكون الخديوي أميرا للمؤمنين لنه بدأ دراسته في جنيف وأكملها في‬
‫()‬
‫فيينا وتطبع بطابع الكفار) ‪. 1‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫ويعترف‬ ‫وعندما ظهر اقتراح انكلترا (لعلن الشريف حسين أمير مكة خليفة المسلمين)‬
‫السلطان عبدالحميد الثاني بأنه لم يكن لدية الطاقة ول القوة لمحاربة الدول الوروبية ‪ ..‬ولكن‬
‫الدول الكبرى كانت ترتعد من سلح الخلفة‪ ،‬وخوفهم من الخلفة جعلهم يتفقون على إنهاء‬
‫()‬
‫الدولة العثمانية) ‪ ، 3‬و(أن الدولة العثمانية تضم أجناسا متعددة من أتراك وعرب وألبان وبلغار‬
‫()‬
‫ويونانيين وزنوج وعناصر أخرى‪ ،‬ورغم هذا فوحدة السلم تجعلنا أفراد أسرة واحدة) ‪. 4‬‬
‫ويُعبر عبدالحميد الثاني عن ثقته في وحدة العالم السلمي بقوله‪( :‬يجب تقوية روابطنا ببقية‬
‫المسلمين في كل مكان‪ ،‬يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر‪ ،‬فل أمل في المستقبل‬
‫إل بهذه الوحدة‪ .‬ووقتها لم يحن بعد لكنه سيأتي‪ .‬سيأتي اليوم الذي يتحد فيه كل المؤمنين‬
‫()‬
‫وينهضون فيه نهضة واحدة ويقومون قومة رجل واحد وفيه يحطمون رقبة الكفار) ‪. 5‬‬
‫كانت فكرة الجامعة السلمية في نظر السلطان عبدالحميد يمكن بها أن يحقق أهدافا منها‪:‬‬
‫‪-‬مواجهة أعداء السلم المثقفين بالثقافة الغربية‪ ،‬والذين توغلوا في المراكز الدارية‬
‫والسياسية الحساسة‪ ،‬في أجهزة الدول السلمية عموما‪ ،‬وفي أجهزة الدولة العثمانية خصوصا‪،‬‬
‫عند حدهم‪ ،‬عندما يجدون أن هناك سدا إسلميا ضخما وقويا يقف أمامهم‪.‬‬
‫‪ -‬محاولة إيقاف الدول الستعمارية الوروبية وروسيا‪ ،‬عند حدها عندما تجد أن المسلمين ‪،‬‬
‫قد تكتلوا في صف واحد‪ ،‬وقد فطنوا الى أطماعهم الستعمارية ووقفوا ضدها بالوحدة‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ )(4‬مذكرات السلطان عبدالحميد‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪-512-‬‬
‫السلمية‪.‬‬
‫‪ -‬إثبات أن المسلمين يمكن أن يكونوا قوة سياسية عالمية‪ ،‬يحسب له حسابها في مواجهة‬
‫الغزو الثقافي والفكري والعقدي الروسي ‪-‬الوروبي النصراني‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -‬تأخذ الوحدة السلمية الجديدة دورها في التأثير على السياسة العالمية ‪. 1‬‬
‫‪ -‬تستعبد الدولة العثمانية بوصفها دولة الخلفة قوتها وبذلك يمكن إعادة تقويتها‪ ،‬وتجهيزها‬
‫بالجهزة العلمية الحديثة‪ ،‬في الميادين كافة وبذلك تستعيد هيبتها وتكون درسا تاريخيا‪ .‬يقول ‪:‬‬
‫(إن العمل على تقوية الكيان السياسي والجتماعي السلمي‪ ،‬أفضل من إلقائه أرضا‪ ،‬وتكوين‬
‫()‬
‫كيان غريب فكريا واجتماعيا على نفس الرض) ‪. 2‬‬
‫‪ -‬إحياء منصب الخلفة‪ ،‬ليكون أداة قوية‪ ،‬وليس صوريا كما حدث لفترة ‪ .‬وبذلك ل يكون‬
‫السلطان وحده فقط هو الذي يقف في مواجهة أطماع الغرب وعملئه في الداخل‪ ،‬وإنما هي‬
‫وحدة شعورية بين شعوب المسلمين جميعا‪ .‬يكون هو الرمز والموجّه والموحّد‪.‬‬
‫والى هذا اشار المؤرخ البريطاني (آرنولد توينبي) في قوله‪( :‬إن السلطان عبدالحميد ‪ ،‬كان‬
‫يهدف من سياسته السلمية‪ ،‬تجميع مسلمي العالم تحت راية واحدة‪ ،‬وهذا ليعني إل هجمة‬
‫()‬
‫مضادة‪ ،‬يقوم بها المسلمون ضد هجمة العالم الغربي التي استهدفت عالم المسلمين) ‪. 3‬‬
‫ولذلك استخدم السلطان عبدالحميد ‪ ،‬كل المكانيات المتاحة في ذلك الوقت‪ ،‬من اتخاذ الدعاة‬
‫من مختلف جنسيات العالم السلمي‪ ،‬من العلماء والمبرزين‪ ،‬في مجالت السياسة‪ ،‬والدعاة‬
‫الذين يمكن أن يذهبوا الى أرجاء العالم السلمي المختلفة‪ ،‬لللتقاء بالشعوب السلمية وفهم‬
‫ماعندهم وإبلغهم بآراء وتوجيهات السلطان الخليفة ونشر العلوم السلمية‪ ،‬ومراكز الدراسات‬
‫السلمية‪ ،‬في الداخل والخارج‪ ،‬وطبع الكتب السلمية الساسية‪ ،‬ومحاولة اتخاذ اللغة العربية‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.169‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.169‬‬
‫‪-513-‬‬
‫لول مرة في تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬لغة للدولة أو مايسمى بالتعبير المعاصر "تعريب" الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬والعناية بالمساجد والجوامع من تجديد وترميم وبناء الجديد منها‪ ،‬والقيام بحملت‬
‫تبرع لحياء المساجد في العالم‪ ،‬والهتمام بالمواصلت لربط أجزاء الدولة العثمانية‪ ،‬واستمالة‬
‫زعماء القبائل العربية‪ ،‬وإنشاء مدرسة في عاصمة الخلفة‪ ،‬لتعليم أولد رؤساء العشائر‬
‫والقبائل‪ ،‬وتدريبهم على الدارة ‪ ،‬واستمالة شيوخ الطرق الصوفية‪ ،‬والستفادة من الصحافة‬
‫السلمية في الدعاية للجامعة السلمية‪ ،‬واتخاذ بعض الصحف وسيلة للدعاية لهذه الجامعة‪،‬‬
‫والعمل على تطوير النهضة العلمية والتقنية في الدولة العثمانية‪ ،‬وتحديث الدولة فيما هو‬
‫()‬
‫ضروري ‪. 1‬‬
‫ولقد ألتفت مجموعة من العلماء ودعاة المة السلمية الى دعوة الجامعة السلمية من أمثال‬
‫جمال الدين الفغاني‪ ،‬ومصطفى كامل من مصر‪ ،‬وأبي الهدى الصيادي من سوريا‪ ،‬وعبدالرشيد‬
‫إبراهيم من سيبريا‪ ،‬والحركة السنوسية في ليبيا وغيرها‪.‬‬

‫أولً‪ :‬جمال الدين الفغاني والسلطان عبدالحميد‪:‬‬


‫أيد جمال الدين الفغاني ‪ ،‬دعوة السلطان عبدالحميد الى الجامعة السلمية وقدم مشروعات‬
‫أكبر بكثير من طموح السلطان‪ .‬ولم يكن السلطان يأمل في أكثر من وحدة هدف بين الشعوب‬
‫السلمية ‪ ،‬ووحدة حركة بينهما‪ .‬وهي وحدة شعورية عملية‪ ،‬في نفس الوقت‪ ،‬تكون الخلفة‬
‫فيها ذات هيبة وقوة لكن الفغاني عرض على السلطان مشروعا‪ ،‬يرمي الى توحيد أهل السنة‬
‫مع الشيعة وكانت نظرة السلطان عبدالحميد ل ترمي في هذا الصدد أكثر من توحيد الحركة‬
‫()‬
‫السياسية بين الفريقين لمواجهة الستعمار العالمي ‪. 2‬‬
‫واستفاد السلطان عبدالحميد كثيرا من الفغاني‪ ،‬في الدعاية الى الجامعة السلمية‪ ،‬رغم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.172‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.181‬‬
‫‪-514-‬‬
‫الختلف بين فكر السلطان وفكر الفغاني ‪ ،‬ومن أسباب الختلف‪:‬‬
‫‪ .1‬إيمان الفغاني بقضية وحدة المسلمين‪ ،‬وتأييده في نفس الوقت للثوار ضد السلطان‬
‫عبدالحميد ‪ ،‬من القوميين التراك والعثمانيين عامة‪.‬‬
‫‪.2‬دعوة الفغاني لوحدة الشعوب السلمية‪ ،‬بحيث تكون كالبنيان الواحد‪ ،‬وبقلب واحد ‪ ،‬في‬
‫مواجهة الدول الوروبية الرامية الى تقسيم الدولة العثمانية العاملة على انهيارها ‪ ،‬وفي نفس‬
‫الوقت‪ ،‬لم يتعرض الفغاني للستعمار الفرنسي‪ ،‬ولو بكلمة تنديد‪ .‬في وقت احتاج فيه السلطان‬
‫()‬
‫عبدالحميد الى مقاومة الفرنسيين في شمال أفريقيا ‪. 1‬‬
‫‪.3‬تنديد جمال الدين بالستعمار النكليزي في حين يذكر السلطان عبدالحميد أن المخابرات‬
‫العثماينة‪ ،‬حصلت على خطة أعدت في وزارة الخارجية النكليزية‪ ،‬واشترك فيها جمال الدين‬
‫الفغاني وبلنت النكليزي وتقضي هذه الخطة بإقصاء الخلفة عن السلطان عبدالحميد وعن‬
‫العثمانيين عموما‪ .‬وبلنت هذا سياسي إنكليز ي يعمل في وزارة الخارجية النكليزية‪ ،‬ومؤلف‬
‫كتاب "مستقبل السلم" ودعا فيه صراحة الى العمل على نزع الخلفة من العثمانيين‪ ،‬وتقليدها‬
‫للعرب وقد رد مصطفى كامل باشا زعيم الحركة الوطنية في مصر على "بلنت" في كتاب‬
‫مصطفى كامل باشا المشهور (المسألة الشرقية) قائلً‪( :‬وبالجملة فإن حضرة مؤلف كتاب‬
‫مستقبل السلم يرى ‪-‬وماهو إل مترجم عن آمال بني جنسه‪ -‬أن الليق بالسلم أن ينصب‬
‫()‬
‫أنكلترا دولة له بل إن الخليفة يجب أن يكون إنكليزيا) ‪. 2‬‬
‫‪.4‬رغم الطماع الروسية والحروب الروسية ‪ ،‬ضد الدولة العثمانية واقتطاع الروس‬
‫لجزاء من الراضي العثمانية‪ ،‬فقد كان موقف السيد جمال الدين الفغاني من مبدأ التوسع‬
‫الروسي غريبا على مفهوم الجامعة السلمية‪ ،‬لنه يعترف بما للروس من مصالح حيوية‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.182‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.183‬‬
‫‪-515-‬‬
‫وإستراتيجية في الهند‪ ،‬تدفعهم لحتللها‪ .‬وأن ليس لدى الفغاني اعتراض على هذا الحتلل‬
‫إذا حدث‪ ،‬بل ينصح الروس باتباع أسلم السبل وأسهلها لتنفيذه‪ ،‬وذلك بأن يستعينوا بدولة‬
‫فارس‪ ،‬وبلد الفغان ‪ ،‬لفتح أبواب الهند‪ ،‬شريطة أن تسهمهما في الغنيمة وتشركهما في‬
‫المنفعة‪.‬‬
‫‪.5‬الخلف العقدي الذي ظهر بين العلماء في استانبول وبين جمال الدين الفغاني وظهور‬
‫كتاب الشيخ (خليل فوزي الفيليباوي) المعنون (السيوف القواطع) للرد على عقيدة الفغاني‬
‫وسكوت الفغاني عن هذا ‪ ،‬وعدم دفاعه عن نفسه‪ .‬والكتاب باللغة العربية‪ ،‬ومترجم وقتها الى‬
‫اللغة التركية‪.‬‬
‫مالَ السلطان عبدالحميد‪ ،‬الى تركيز كل السلطات في يده بعد أن ذاق المرين من وزرائه‬
‫وضباط جيشه وصدروه العظام المتأثرين بالفكر الغربي ‪ ،‬والذين هدفوا الى إقامة ديمقراطية‬
‫أوروبية‪ ،‬تضم مجلسا منتخبا يمثل كل شعوب الدولة العثمانية‪ ،‬ومعارضة السلطان عبدالحميد‬
‫لهذا بحجة أن عدد النواب المسلمين سيكون حوالي نصف العدد الكلي للبرلمان‪ .‬في حين أن‬
‫جمال الدين الفغاني يميل الى الديمقراطية‪ ،‬وعدم تركيز السلطات في يد شخص واحد بعينه‪،‬‬
‫()‬
‫وميل الفغاني الى الحرية في التعبير عن الرأي ‪. 1‬‬
‫ولقد ذكر السلطان عبدالحميد في مذكراته بأن جمال الدين الفغاني مهرج وله علقة‬
‫بالمخابرات النكليزية‪( :‬وقعت في يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية النكليزية مهرج اسمه‬
‫جمال الدين الفغاني وإنكليزي يُدعى بلنت قال فيها بإقصاء الخلفة عن التراك‪ .‬واقتراحا على‬
‫النكليز إعلن الشريف حسين أمير مكة خليفة على المسلمين‪.‬‬
‫كنت أعرف جمال الدين الفغاني عن قرب‪ .‬كان في مصر‪ ،‬وكان رجلً خطيرا‪ .‬اقترح عليّ‬
‫ذات مرة ‪-‬وهو يدّعي المهدية‪ -‬أن يشير جميع مسلمي آسيا الوسطى‪ .‬وكنت أعرف أنه غير‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.184‬‬


‫‪-516-‬‬
‫قادر على هذا‪ .‬وكان رجل النكليز ‪ ،‬ومن المحتمل جدا أن يكون النكليز قد أعدوا هذا الرجل‬
‫لختباري فرفضت فورا ‪ ،‬فاتحد مع بلنت‪.‬‬
‫استدعيته الى استانبول عن طريق أبي الهدى الصيادي الحلبي ‪ ،‬الذي كان يلقي الحترام في‬
‫كل البلد العربية‪.‬‬
‫قام بالتوسط في هذا كل من منيف باشا‪ ،‬حامي الفغان القديم ‪ ،‬والديب الشاعر عبدالحق‬
‫()‬
‫حامد‪ .‬جاء جمال الدين الفغاني الى اسانبول‪ ،‬ولم أسمح له مرة أخرى بالخروج منها‪. 1 )...‬‬
‫أما رأي جمال الدين الفغاني في السلطان عبدالحميد فإنه يقول ‪( :‬إن السلطان عبدالحميد لو‬
‫وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة‪ ،‬خصوصا في تسخير‬
‫جليسه‪ ،‬ول عجب إذا رأيناه يذلل لك مايقام لملكه من الصعاب من دول الغرب‪ ،‬ويخرج‬
‫المناوئ له من حضرته راضيا عنه وعن سيرته وسيره‪ ،‬مقتنعا بحجته سواء من ذلك الملك‬
‫()‬
‫والمير والوزير والسفير‪. 2 )...‬‬
‫وقال ‪( :‬ورأيته يعلم دقائق المور السياسية ومرامي الدول الغربية وهو معد لكل هوة تطرأ‬
‫على الملك‪ ،‬مخرجا وسلما‪ ،‬وأعظم ماأدهشني ‪ ،‬ماأعده من خفي الوسائل وأمضى العوامل ‪،‬‬
‫كي لتتفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية‪ ،‬ويريها عيانا محسوسا أن تجزئة‬
‫()‬
‫السلطنة العثمانية ليمكن إل بخراب يعم الممالك الوروبية بأسرها) ‪. 3‬‬
‫ويقول‪( :‬أما مارأيته من يقظة السلطان ورشده وحذره وإعداده العدة اللزمة لبطال مكائد‬
‫أوروبا وحسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة الذي فيه نهضة المسلمين عموما‪ ،‬فقد دفعني‬
‫الى مد يدي له فبايعته بالخلفة والملك‪ ،‬عالما علم اليقين ‪ ،‬أن الممالك السلمية في الشرق‬
‫لتسلم من شراك أوروبا‪ ،‬ول من السعي وراء اضعافها وتجزئتها ‪ ،‬وفي الخير ازدرائها‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مذكرات السلطان عبدالحميد‪ ،‬ص ‪.148‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جمال الدين الفغاني المصلح المفترى عليه‪ ،‬د‪ .‬محسن عبدالحميد‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪-517-‬‬
‫()‬
‫واحدة بعد أخرى‪ ،‬إل بيقظة وانتباه عمومي وانضواء تحت راية الخليفة العظم‪. 1 )...‬‬
‫إن جمال الدين الفغاني أمره محير فهناك من يدافع عنه وهناك من يتهمه بالعمالة والنضمام‬
‫الى المحافل الماسونية فمثلً‪ ،‬كتاب دعوة جمال الدين الفغاني في ميزان السلم للمؤلف‬
‫مصطفىفوزي عبداللطيف غزال يرى أنه كان من عوامل الهدم في المة في تاريخها الحديث‪،‬‬
‫إما كتاب جمال الدين الفغاني المصلح المفترى عليه للدكتور محسن عبدالحميد فيراه من‬
‫المصلحين‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬الطرق الصوفية‪:‬‬


‫استهدف السلطان عبدالحميد الطرق الصوفية في كسب ولئها للدولة العثمانية‪ ،‬والدعوة الى‬
‫فكرة الجامعة السلمية‪ ،‬واستطاع أن يكون رابطة بين مقر الخلفة ‪-‬استانبول‪ -‬وبين تكايا‬
‫ومراكز تجمع الطرق الصوفية في كل أنحاء العالم السلمي واتخذ من حركة التصوف في‬
‫العالم السلمي وسيلة للدعاية للجامعة السلمية‪ ،‬كما اتخذ من الزهاد من غير المتصوفة‬
‫وسيلة ايضا للدعوة لفكر التجمع السلمي ‪ ،‬وتكونت في عاصمة الخلفة لجنة مركزية ‪،‬‬
‫مكونة من العلماء وشيوخ الطرق الصوفية حيث عملوا مستشارين للسلطان في شؤون الجامعة‬
‫السلمية‪ :‬الشيخ (أحمد أسعد) وكيل الفراشة الشريفة في الحجاز‪ ،‬والشيخ (أبو الهدى‬
‫الصيادي) شيخ الطريقة الرفاعية‪ ،‬والشيخ (محمد ظافر الطرابلسي) شيخ الطريقة المدنية‪،‬‬
‫والشيخ ‪-‬رحمه ال‪ -‬أحد علماء الحرم المكي‪ ،‬كانوا أبرز أعضاء هذه اللجنة المركزية للجامعة‬
‫السلمية‪ ،‬وكان معهم غيرهم‪ ،‬وكانت الدولة العثمانية تنتشر فيها هيئات فرعية في كافة القاليم‬
‫خاضعة لهذه اللجنة ‪ ،‬ومن أهمها التي كانت في مكة تحت إشراف شريف مكة ومهمتها نشر‬
‫مفهوم الجامعة السلمية في موسم الحج بين الحجاج‪ ،‬وأخرى في بغداد‪ ،‬وتقوم بنفس المهمة‬
‫بين اتباع الطريقة القادرية‪ ،‬الذين يأتون بكثرة من الشمال الفريقي لزيارة الشيخ عبدالقادر‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬جمال الدين الفغاني المصلح المفترى عليه‪ ،‬ص ‪.137‬‬


‫‪-518-‬‬
‫الكيلني مؤسس الطريقة‪ ،‬وقد قدرت أعداد هؤلء في إحدى السنوات بحوالي (‪)25.000‬‬
‫نسمة‪ .‬وكانت لجنة بغداد تمل على تهيئة القادمين لحمل فكرة الجامعة السلمية ‪ ،‬ولمقاومة‬
‫الستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ووصفت المخابرات الفرنسية ما قام به هؤلء القادمون‬
‫من أهل الشمال الفريقي من بغداد‪ ،‬من أعمال ضد الفرنسيين وضد الستعمار الفرنسي بأنها‪:‬‬
‫()‬
‫(استفزازات بعض رجال الدين التابعين للطريقة القادرية) ‪. 1‬‬
‫وللجنة المركزية للجامعة السلمية في استانبول‪ ،‬فرع أفريقي يعمل في شمال أفريقيا‪ ،‬وهو‬
‫يعمل في سرية تامة‪ ،‬مهمته تنسيق العمل بين الجماعات الدينية هناك‪ ،‬لمقاومة الحتلل‬
‫( ‪)2‬‬
‫‪.‬‬ ‫الفرنسي‪ ،‬وهذه الجماعات هي ‪( :‬الشاذلية والقادرية والمدنية)‬
‫وبلغ من نفوذ هذه الحركة وهيبتها‪ :‬أن وصفتها إدارة المخابرات الفرنسية في شمال أفريقيا‬
‫بقولها‪( :‬ويمكن للسلطان عبدالحميد ‪-‬بصفته رئيسا للجامعة السلمية‪ -‬أن يجمع من خلل‬
‫ارتباطاته الوثيقة بالجماعات الدينية في شمال أفريقيا‪ -‬جيشا محليا منظما‪ ،‬يتمكن ‪-‬إذا لزم‬
‫()‬
‫المر‪ -‬أن يقاوم به أي قوة أجنبية) ‪. 3‬‬
‫ولم تستطع المخابرات الفرنسية أن تكشف وسائل التنظيم للطرق الصوفية التابعة للخلفة‬
‫السلمية في شمال أفريقيا وكل ما استطاعت عمله‪ ،‬هو محاولتها إضعاف هيبة السلطان‬
‫عبدالحميد في نفوس مسلمي شمال أفريقيا‪ ،‬ومحاولة هذه السلطات ضرب سياسة الجامعة‬
‫السلمية‪ .‬وذلك باتباع سياسة فرنسية تقوم على‪:‬‬
‫‪.1‬إغراء بعض شيوخ الطرق الصوفية بالمال وبالمركز‪ ،‬للوقوف مع فرنسا وسياستها في‬
‫شمال أفريقيا‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.196‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.197‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.197‬‬
‫‪-519-‬‬
‫‪.2‬منع الحجيج من الحج‪ ،‬حتى ليلتقوا بدعاة الجامعة السلمية بالسبل المناسبة‪ .‬بمعنى ‪:‬‬
‫عدم إعلن منع الحج‪ ،‬واتخاذ أسباب صحية لتخويف الناس منه‪ ،‬مثل نشر أخبار عن وجود‬
‫( ‪)1‬‬
‫وأرسل السلطان عبدالحميد مجموعة من الزهاد والمتصوفة الى الهند‪ ،‬لتعمل على‬ ‫الكوليرا‬
‫القضاء على المحاولت النكليزية الداعية الى سلب الخلفة من العثمانيين‪ ،‬لعطائها الى‬
‫()‬
‫العرب‪ .‬واتصلت هذه القافلة أيضا ببعض حكام الجزيرة العربية لسيما الحجاز ‪. 2‬‬
‫وهناك اتصالت بين السلطان عبدالحميد بوصفه رئيسا للجامعة السلمية ‪ ،‬وخليفة المسلمين‬
‫‪ ،‬وسلطان الدولة العثمانية ‪ ،‬وبين تجمعات الطرق الصوفية وشيوخها في تركستان‪ ،‬وفي جنوب‬
‫أفريقيا‪ ،‬وفي الصين‪ .‬بعضها كشف عنها النقاب ‪ ،‬وأكثرها لم تكشف عنه الوثائق بشكل كافٍ‬
‫()‬
‫بعد ‪. 3‬‬
‫لقد نجح السلطان عبدالحميد الثاني في جمع الطرق الصوفية إل أنه فضل السكوت عن كثير‬
‫من انحرافاتها العقدية بحيث أن الطرق الصوفية في تلك المرحلة أنحرفت عن كتاب ال وسنة‬
‫إل مارحم ال ولذلك أضعفت المة وساهمت في سقوط الخلفة السلمية‬ ‫رسول ال‬
‫العثمانية السنية سنبين ذلك بإذن ال تعالى في أسباب السقوط‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تعريب الدولة‪:‬‬


‫كان السلطان عبدالحميد يرى ‪-‬منذ أن تولى الحكم‪ -‬ضرورة اتخاذ اللغة العربية لغة رسمية‬
‫للدولة العثمانية‪ .‬وفي هذا يقول‪( :‬اللغة العربية لغة جميلة‪ .‬ليتنا كنا اتخذناها لغة رسمية للدولة‬
‫من قبل‪ .‬لقد اقترحت على (خير الدين باشا‬
‫‪-‬التونسي‪ -‬عندما كان صدرا أعظم أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية‪ ،‬لكن سعيد باشا‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.198‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.198‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.198‬‬
‫‪-520-‬‬
‫كبير أمناء القصر أعترض على اقتراحي هذا‪ .‬وقال ‪( :‬إذا عرّبنا الدولة فلن يبقى ‪-‬للعنصر‬
‫التركي‪ -‬شيء بعد ذلك‪.‬‬
‫كان (سعيد باشا) رجلً فارغا‪ ،‬وكلمه فارغا‪ .‬مادخل هذه المسألة بالعنصر التركي؟! المسألة‬
‫غير هذه تماما‪ .‬هذه مسألة ‪ ،‬وتلك مسألة أخرى إتخاذنا للغة العربية لغة رسمية للدولة من شأنه‬
‫()‬
‫‪-‬على القل‪ -‬أن يزيد ارتباطنا بالعرب) ‪. 1‬‬
‫إن السلطان عبدالحميد الثاني كان يشكو وخصوصا في بداية حكمه من أن الوزراء وأمناء‬
‫القصر السلطاني ‪ ،‬كانوا يختلفون عنه في التفكير‪ ،‬وأنهم متأثرون بالغرب وبالفكار‬
‫القوميةوالغربية وكانوا يشكلون ضغط على القصر ‪ ،‬سواء في عهد والده السلطان عبدالمجيد‪،‬‬
‫وفي عهد عمه السلطان عبدالعزيز‪ ،‬أو في عهده هو‪ .‬لم يقتصر المر في معارضة اقتراح‬
‫السلطان عبدالحميد بتعريب الدولة العثمانية على الوزراء المتأثيرن بالغرب فقط‪ :‬بل تعداه الى‬
‫()‬
‫معارضة من بعض علماء الدين ‪. 2‬‬
‫إن من الخطاء التي وقعت فيها الدولة العثمانية عدم تعريب الدولة وشعبها بلغة القرآن‬
‫الكريم والشرع الحكيم‪.‬‬
‫يقول الستاذ محمد قطب‪( :‬ولو تصورنا أن دولة الخلفة قد استعربت ‪ ،‬وتكلمت اللغة‬
‫العربية التي نزل بها هذا الدين فل شك أن عوامل الوحدة داخل الدولة كانت تصبح أقوى وأقدر‬
‫على مقاومة عبث العابثين‪ ،‬فضلً عما يتيحه تعلم العربية من المعرفة الصحيحة بحقائق هذا‬
‫‪ ،‬مما كان الحكام والعامة كلهما في‬ ‫الدين من مصادره المباشرة‪ :‬كتاب ال وسنة رسوله‬
‫()‬
‫حاجة إليه‪ ،‬على الرغم من كل ماترجم الى التركية وما ألف أصلً بالتركية حول هذا الدين) ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪:‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.199‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.200‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.153‬‬
‫‪-521-‬‬
‫رابعا‪ :‬مراقبته للمدارس ونظرته للمرأة وسفور المرأة‪:‬‬
‫عندما تولى السلطان عبدالحميد السلطنة رأى أن المدارس‪ ،‬ونظام التعليم‪ ،‬أصبح متأثرا‬
‫بالفكر الغربي‪ ،‬وأن التيار القومي‪ :‬هو التيار السائد في هذه المدارس‪ ،‬فتدخل في شؤونها‬
‫ووجّهها ‪-‬من خلل نظرته السياسية‪ -‬الى الدراسات السلمية‪ .‬فأمر بالتي‪:‬‬
‫• استبعاد مادة الدب والتاريخ العام من البرامج الدراسية لكونها وسيلة من وسائل الدب‬
‫الغربي‪ ،‬والتاريخ القومي للشعوب الخرى مما يؤثر على أجيال المسلمين سلبا‪.‬‬
‫• وضع دروس الفقه والتفسير والخلق في برامج الدراسة‪.‬‬
‫• القتصار فقط على تدريس التاريخ السلمي بما فيه العثماني‪.‬‬
‫وجعل السلطان عبدالحميد مدارس الدولة تحت رقابته الشخصية ووجهها لخدمة الجامعة‬
‫()‬
‫السلمية ‪. 1‬‬
‫وأهتم بالمرأة وجعل للفتيات دارا للمعلمات ومنع اختلطهنّ بالرجال وفي هذا يذكر السلطان‬
‫في معرض الدفاع عن نفسه أمام اتهام جمعية التحاد والترقي له بأنه عدو العقل والعلم بأنه ‪:‬‬
‫(لو كنت عدوا للعقل والعلم فهل كنت أفتح الجامعة؟ لوكنت هكذا عدوا للعلم ‪ ،‬فهل كنت أنشئ‬
‫()‬
‫لفتياتنا اللواتي ل يختلطن بالرجال ‪ ،‬دارا للمعلمات؟!) ‪. 2‬‬
‫وقام بمحاربة سفور المرأة في الدولة العثمانية‪ ،‬وهاجم تسرب أخلق الغرب‪ ،‬الى بعض‬
‫النساء العثمانيات‪ ،‬ففي صحف استانبول في ‪ 3‬اكتوبر ‪1883‬م ظهر بيان حكومي موجه الى‬
‫الشعب يعكس وجهة نظر السلطان شخصيا في رداء المرأة‪.‬‬
‫يقول هذا البيان‪( :‬إن بعض النساء العثمانيات اللئي يخرجن الى الشوارع في الوقات‬
‫الخيرة‪ ،‬يرتدين ملبس مخالفة للشرع‪ .‬وإن السلطان قد ابلغ الحكومة بضرورة اتخاذ التدابير‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.201‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.99‬‬
‫‪-522-‬‬
‫اللزمة للقضاء على هذه الظاهرة‪ .‬كما أبلغ السلطان الحكومة ايضا بضرورة عودة النساء الى‬
‫ارتداء الحجاب الشرعي الكامل بالنقاب إذا خرجن الى الشوارع)‪ .‬وبناءً على هذا فقد اجتمع‬
‫مجلس الوزراء واتخذ القرارات التالية‪:‬‬
‫• (تعطى مهلة شهر واحد يمنع بعده سير النساء في الشوارع إل إذا ارتدين الحجاب‬
‫السلمي القديم‪ .‬وينبغي أن يكون هذا الحجاب خاليا من كل زينة ومن كل تطريز‪.‬‬
‫• يُلغى ارتداء النساء النقاب المصنوع من القماش الخفيف أو الشفاف‪ .‬وبالتالي ضرورة‬
‫العودة الى النقاب الشرعي الذي ليبين خطوط الوجه‪.‬‬
‫• على الشرطة ‪-‬بعد مضي شهر على نشر هذا البيان‪ -‬ضمان تطبيق ماجاء فيه من‬
‫قرارات بشكل حاسم‪ ،‬وعلى قوات الضبطية التعاون مع الشرطة في هذا‪.‬‬
‫• صدّق السلطان على هذا البيان بقراراته الحكومية‪.‬‬
‫()‬
‫• ينشر هذا البيان في الصحف ويعلق في الشوارع) ‪. 1‬‬
‫وفي اليوم التالي لنشر هذا البيان ‪ ،‬أي في ‪ 4‬أكتوبر قالت جريدة (وَقِتْ) الصادرة في‬
‫()‬
‫استانبول ‪( :‬إن المجتمع العثماني عموما يصوّب هذا القرار ويراه نافعا) ‪. 2‬‬
‫وكان السلطان عبدالحميد يرى ‪( :‬أن المرأة ل تتساوى مع الرجل من حيث القوامة) ويقول‪:‬‬
‫(مادام القرآن يقول بهذا‪ ،‬فالمسألة منتهية ول داعي للتحدث عن مساواة المرأة بالرجل)‪.‬‬
‫()‬
‫ويرى ‪( :‬إن فكرة هذه المساواة إنما جاءت من الغرب) ‪. 3‬‬
‫كما كان يدافع عن تعدد الزوجات‪ ،‬في وقت كان العلم العثماني يثير هذه القضية معترضا‬
‫عليها‪ .‬ويقول السلطان‪( :‬لماذا يعترض بعض المثقفين على هذا المر‪ ،‬ولماذا ليعترضون على‬
‫وجوده في أماكن أخرى غير الدولة العثمانية‪ ،‬في بعض أماكن أوروبا وأمريكا؟) ويؤكد‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬موسوعة أتاتورك (‪.)1/59،60‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.100‬‬
‫‪-523-‬‬
‫()‬
‫السلطان ‪ :‬إن مبدأ تعدد الزوجات مباح في السلم فماذا يعني العتراض عليه؟) ‪. 1‬‬
‫لقد كان السلطان عبدالحميد مع تعليم المرأة ولذلك أنشأ دارا للمعلمات‪ ،‬لتخريج معلمات‬
‫للبنات كما كان ضد الختلط بين الرجل والمرأة وضد سفور المرأة ولم يكن في عهده للمرأة‬
‫رأي في شؤون الدولة مهما كانت هذه الشؤون وإنما دور المرأة في البيت وتربية الجيال وكان‬
‫يعامل المرأة معاملة كريمة نادرة فهذه زوجة أبيه التي احتضنته وقامت بتربيته‪ ،‬عندما تولى‬
‫السلطان العرش ‪ ،‬أعلن زوجة ابيه التي ربته (والدة السلطان) بمعنى الملكة في المفهوم‬
‫الحديث‪ .‬وكانت الملكة في القصر العثماني ‪ ،‬هي أم السلطان وليست زوجته كما في الدول‬
‫الخرى‪ .‬ومع كل هذا‪ ،‬ففي اليوم التالي لتنصيب السلطان عبدالحميد على عرش الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬قابل زوجة أبيه وهي التي أحبها حبا بالغا‪ ،‬وقبل يدها وقال لها‪:‬‬
‫(بحنانك لم اشعر بفقد أمي ‪ .‬وأنت في نظري أمي لتفترقين عنها‪ .‬ولقد جعلتك السلطنة‬
‫الوالدة‪ ..‬يعني أن الكلمة في هذا القصر لك‪ .‬لكني أرجوك‬
‫‪-‬وأنا مصر على هذا الرجاء‪ -‬أل تتدخلي بأي شكل من الشكال في أي عمل من أعمال‬
‫()‬
‫الدولة‪ ،‬كَبُرَ أم صَغر) ‪. 2‬‬

‫خامسا‪ :‬مدرسة العشائر‪:‬‬


‫أنشأ السلطان عبدالحميد في استانبول ‪ ،‬باعتبارها مقر الخلفة ومركز السلطنة (مدرسة‬
‫العشائر العربية) من أجل تعليم وإعداد أولً العشائر العربية‪ ،‬من وليات حلب‪ ،‬وسورية ‪،‬‬
‫وبغداد‪ ،‬والبصرة‪ ،‬والموصل‪ ،‬وديار بكر‪ ،‬وطرابلس الغرب واليمن‪ ،‬والحجاز‪ ،‬وبنغازي‬
‫والقدس‪ ،‬ودير الزور‪.‬‬
‫وكانت مدة الدراسة في مدرسة العشائر العربية في استانبول خمس سنوات‪ ،‬وهي داخلية‪،‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.101‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.98‬‬
‫‪-524-‬‬
‫تتكفل الدولة العثمانية بكل مصاريف الطلب‪ ،‬ولكل طالب "إجازة صلة الرحم" وهي إجازة مرة‬
‫كل سنتين‪ .‬وسفر الطالب فيها على نفقة الدولة‪:‬‬
‫وبرنامج مدرسة العشائر العربية‪ ،‬في استانبول كان كالتي‪:‬‬
‫السنة الولى‪ :‬القرآن الكريم ‪ -‬البجدية ‪ -‬العلوم الدينية‪ -‬القراءة التركية‪ -‬إملء‪ -‬تدريب‬
‫عسكري‪.‬‬
‫السنة الثانية ‪ :‬القرآن الكريم ‪ -‬التجويد ‪ -‬العلوم الدينية‪ -‬الملء ‪ -‬الحساب‪ -‬القراءة‬
‫التركية ‪ -‬تحسين الخط‪ ،‬تدريب عسكري ‪.‬‬
‫السنة الثالثة‪ :‬القرآن الكريم ‪ -‬التجويد ‪ -‬العلوم الدينية ‪ -‬الملء ‪ -‬حسن الخط‪ -‬الحساب‬
‫‪-‬الجغرافيا ‪ -‬الفرنسية ‪ -‬التدريب ‪.‬‬
‫السنة الرابعة‪ :‬القرآن الكريم ‪ -‬التجويد ‪ -‬العلوم الدينية ‪ -‬الصرف العربي‪ -‬اللغة الفارسية‬
‫‪ -‬الكتابة والنحو التركي ‪ -‬الجغرافيا ‪ -‬الحساب ‪ -‬حسن الخط الفرنساوي ‪ -‬التدريب‪.‬‬
‫السنة الخامسة‪ :‬القرآن الكريم ‪ -‬التجويد ‪ -‬العلوم الدينية ‪ -‬النحو العربي‪ -‬اللغة الفارسية ‪-‬‬
‫التاريخ العثماني ‪ -‬القواعد العثمانية ‪ -‬الكتابة والقراءة التركية ‪ -‬المكالمة التركية ‪ -‬الجغرافيا‬
‫‪ -‬الحساب ‪ -‬الهندسة ‪ -‬حسن الخط‪ -‬المعلومات المتنوعة ‪ -‬حفظ الصحة ‪ -‬أصول إمساك‬
‫()‬
‫الدفاتر ‪ -‬اللغة الفرنسية ‪ -‬حسن الخط الفرنساوي ‪ -‬الرسم ‪ -‬التدريب ‪. 1‬‬
‫وكان المتخرجون من هذه المدرسة ‪ ،‬يدخلون المدارس العسكرية العالية‪ .‬ويحصلون بعد ذلك‬
‫على رتب عالية‪ .‬كما يمكنهم كذلك أن يدخلوا المدرسة المُلكية ‪-‬وهي مدنية‪ -‬يدرسون فيها سنة‬
‫()‬
‫ويحصلون بعدها على رتبة قائمقام‪ ،‬ثم يعودون الى بلدهم ‪. 2‬‬
‫كما أنشأ السلطان عبدالحميد (معهد تدريب الوعاظ والمرشدين) أقيم لعداد الدعاة للدعوة‬

‫‪ )( 1‬انظر‪ :‬تاريخ التربية التركية‪ ،‬عثمان أركين ‪،‬ص ‪ 1180،1182 ،615،84-614‬على التوالي‪.‬‬
‫‪)(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.202‬‬
‫‪-525-‬‬
‫السلمية‪ ،‬وللجامعة السلمية ثم يتخرجون فينطلقون الى مختلف أرجاء العالم السلمي‬
‫()‬
‫يدعون للسلم‪ ،‬ويدعون للخلفة‪ ،‬ويدعون للجامعة السلمية ‪. 1‬‬
‫ولقد كانت نظرة السلطان عبدالحميد بعيدة وثاقبة ولذلك اهتم بمسلمين الصين‪.‬‬
‫خرجت الصحافة في استانبول ‪ ،‬بخبر مفاده أن عدد من مسلمي الصين متحمسون ‪ ،‬يحبون‬
‫العلم ويرغبون الستفادة من المعارف السلمية‪ ،‬وأن لديهم مؤسسات تعليمية ومدارس‪ ،‬وأن‬
‫في بكين وحدها ثمانية وثلثين مسجدا وجامعا‪ ،‬يؤدي المسلمون فيها الصلة‪ ،‬ويدعون فيها‬
‫للخليفة المسلمين السلطان عبدالحميد الثاني ‪ ،‬وأن خطبة الجمعة في مساجد وجوامع بكين تُقرأ‬
‫باللغة العربية‪ ،‬ثم تترجم الى اللغة الصينية‪ ،‬وأن الدعاء للسلطان عبدالحميد بصفته خليفة‬
‫()‬
‫المسلمين ل يقتصر على بكين فقط‪ ،‬بل ويمتد الى كل مساجد الصين وجوامعها ‪. 2‬‬
‫تأسست في بكين ‪ -‬عاصمة الصين‪ -‬جامعة أطلق عليها المسلمون الصينيون اسم (دار‬
‫العلوم الحميدية) نسبة الى السلطان الخليفة عبدالحميد الثاني‪ ،‬أو بتعبير السفير الفرنسي في‬
‫استانبول اسم (الجامعة الحميدية في بكين) وذلك في تقرير له الى وزارة خارجيته في باريس‪.‬‬
‫وقد حضر افتتاح هذه الجامعة ‪ ،‬اللف من المسلمين الصينيين‪ .‬وحضره ايضا مفتي‬
‫المسلمين في بكين ‪ ،‬والكثير من علماء المسلمين هناك‪.‬‬
‫وفي مراسم الفتتاح ‪ ،‬ألقيت الخطبة باللغة العربية‪ ،‬ودعا الخطيب للسلطان الخليفة‬
‫عبدالحميد‪ .‬وقام مفتي بكين بترجمة الخطبة والدعاء الى اللغة الصينية‪ .‬و(بكى أغلب المسلمين‬
‫الحاضرين بكاءً حارا بدافع فرحتهم) و(إن مسلمي الصين مترابطون فيما بينهم ترابطا‬
‫واضحا برباط الدين المتين‪ .‬وإن إيراد الخطبة باللغة العربية لغة المسلمين الدينية‪ ،‬ورفع علم‬
‫الدولة العثمانية على باب هذه الجامعة‪ ،‬قد أثر تأثيرا بالغا في هؤلء الناس الطيبي القلب‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النقلب العثماني‪ ،‬مصطفى طوران‪ ،‬ص ‪.37‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬جريدة ترجمان حقيقت رسالة من الصين ‪26/12/1325‬هـ‪.‬‬
‫‪-526-‬‬
‫()‬
‫وحرك الدموع في اعينهم) ‪. 1‬‬

‫سادسا‪ :‬خط سكة حديد الحجاز‪:‬‬


‫عمل السلطان عبدالحميد على كسب الشعوب السلمية عن طريق الهتمام بكل مؤسساتها‬
‫الدينية والعلمية والتبرع لها بالموال والمنح ورصد المبالغ الطائلة لصلح الحرمين وترميم‬
‫المساجد وزخرفتها وأخذ السلطان يستميل إليه مسلمين العرب بكل الوسائل فكون له من العرب‬
‫حرسا خاصا وعين بعض الموالين له منهم في وظائف كبرى منهم (عزت باشا العابد) ‪-‬من‬
‫أهل الشام‪ -‬الذي نجح في أن ينال أكبر حظوة عند السلطان عبدالحميد وأصبح مستشاره في‬
‫الشؤون العربية‪ .‬وقد لعب دورا هاما في مشروع سكة حديد الحجاز الممتدة من دمشق الى‬
‫المدينة المنورة وهو بهذا المشروع الذي اعتبره السلطان عبدالحميد وسيلة من والسائل التي‬
‫أدت لعلء شأن الخلفة ونشر فكرة الجامعة السلمية‪.‬‬
‫وأبدى السلطان عبدالحميد اهتماما بالغا بإنشاء الخطوط الحديدية في مختلف أنحاء الدولة‬
‫العثمانية مستهدفا من ورائها تحقيق ثلثة أغراض هي‪:‬‬
‫‪.1‬ربط أجزاء الدولة المتباعدة مما ساعد على نجاح فكرة الوحدة العثمانية والجامعة‬
‫السلمية والسيطرة الكاملة على الوليات التي تتطلب تقوية قبضة الدولة عليها‪.‬‬
‫‪.2‬إجبار تلك الوليات على الندماج في الدولة والخضوع للقوانين العسكرية التي تنص‬
‫على وجوب الشتراك في الدفاع عن الخلفة بتقديم المال والرجال‪.‬‬
‫‪.3‬تسهيل مهمة الدفاع عن الدولة في أية جبهة من الجبهات التي تتعرض للعدوان لن مد‬
‫()‬
‫الخطوط الحديدية ساعد على سرعة توزيع القوات العثمانية وإيصالها الى الجبهات ‪. 2‬‬
‫وكانت سكك حديد الحجاز من أهم الخطوط الحديدية التي أنشأت في عهد السلطان عبدالحميد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.205‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬د‪ .‬موفق بني المرجَة‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫‪-527-‬‬
‫ففي سنة ‪1900‬م بدأ بتشييد خط حديدي من دمشق الى المدينة للستعاضة به عن طريق‬
‫القوافل الذي كان يستغرق من المسافرين حوالي أربعين يوما‪ ،‬وطريق البحر الذي يستغرق‬
‫حوالي أثنى عشر يوما من ساحل الشام الى الحجاز‪ ،‬وكان يستغرق من المسافرين أربعة أو‬
‫خمسة أيام على الكثر ولم يكن الغرض من إنشاء هذا الخط مجرد خدمة حجاج بيت ال الحرام‬
‫وتسهيل وصولهم الى مكة والمدينة وإنما كان السلطان عبدالحميد يرمي من ورائه أيضا الى‬
‫أهداف سياسية وعسكرية فمن الناحية السياسية خلق المشروع في أنحاء العالم السلمي حماسة‬
‫دينية كبيرة إذ نشر السلطان على المسلمين في كافة أنحاء الرض بيانا يناشدهم فيه المساهمة‬
‫()‬
‫بالتبرع لنشاء هذا الخط ‪ ، 1‬وقد افتتح السلطان عبدالحميد قائمة التبرعات بمبلغ (خمسين الف‬
‫ذهبا عثمانيا من جيبه الخاص) وتقرر دفع (مائة ألف) ذهب عثماني من صندوق المنافع‪،‬‬
‫وأسست الجمعيات الخيرية وتسابق المسلمون من كل جهة للعانة على إنشائها بالنفس‬
‫()‬
‫والموال) ‪. 2‬‬
‫وتبرع للمشروع الشخصيات الهامة في الدولة ‪ ،‬مثل الصدر العظم ووزير الحربية (حسين‬
‫باشا) ووزير التجارة والشغال (ذهني باشا)‪ ،‬ورئيس لجنة المشروعات (عزت باشا)‪.‬‬
‫وتبارى موظفو الشركات في التبرع‪ ،‬مثل موظفي شركة البواخر العثمانية‪ .‬وكذلك موظفو‬
‫الدولة العموميين‪ ،‬والوليات مثل ولية بيروت ودمشق وحلب وبورصة وغيرها‪.‬‬
‫وشارك القصر الحاكم في مصر‪ ،‬في حملة التبرعات‪ ،‬وشكلت في مصر لجنة الدعاية‬
‫للمشروع وجمع التبرعات له برئاسة (أحمد باشا المنشاوي)‪ .‬كما شاركت الصحافة المصرية‬
‫في حملة سكة حديد الحجاز بحماس ومثال على ذلك جريدة المؤيد‪ .‬وجمعت جريدة (اللواء)‬
‫المصرية تبرعات للمشروع بلغت ‪-‬حتى عام ‪1904‬م‪ -‬ثلثة آلف ليرة عثمانية‪ .‬وكان يرأسها‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬ص ‪.113‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.222‬‬
‫‪-528-‬‬
‫مصطفى كامل باشا‪ ،‬كما جمع (علي كامل) مبلغ (‪ )2000‬ليرة عثمانية للمشروع حتى عام‬
‫‪1901‬م‪.‬‬
‫وأسهم في هذه الحملة ‪ ،‬جريدة (المنار) وجريدة (الرائد المصري) وشكلت لجان تبرع‬
‫للمشروع في كل من القاهرة والسكندرية وغيرهما من مدن مصر‪.‬‬
‫وكان مسلموا الهند أكثر مسلمي العالم حماسا وعاطفة وتبرعا للمشروع‪ .‬وقد تبرع أمير‬
‫حيدر أباد بالهند بإنشاء محطة المدينة المنورة في المشروع كما تبرع شاه إيران بملبغ (‬
‫‪ )50.000‬ليرة عثمانية‪.‬‬
‫ورغم احتياج المشروع لبعض الفنيين الجانب في إقامة الجسور والنفاق‪ ،‬فإنهم لم‬
‫يستخدموا إل إذا اشتدت الحاجة إليهم‪ ،‬مع العلم بأن الجانب لم يشتركوا إطلقا في المشروع‪،‬‬
‫ابتداءً من محطة الخضر ‪-‬على بعد ‪ 760‬كليومترا جنوب دمشق‪ -‬وحتى نهاية المشروع‪ .‬ذلك‬
‫لن لجنة المشروع استغنت عنهم واستبدلتهم بفنيين مصريين‪.‬‬
‫وبلغ عدد العمال غير المهرة عام ‪1907‬م (‪ )7500‬عاملً‪ .‬وبلغ إجمالي تكاليف المشروع (‬
‫‪ )4.283.000‬ليرة عثمانية‪ .‬وتم إنشاء المشروع في زمن وتكاليف أقل مما لو تعمله الشركات‬
‫( ‪)1‬‬
‫وفي أغسطس سنة ‪1908‬م وصل الخط الحديدي الى‬ ‫الجنبية في أراضي الدولة العثمانية‬
‫المدينة المنورة وكان مفروضا أن يتم مده بعد ذلك الى مكة لكن حدث أن توقف العمل فيه لن‬
‫شريف مكة ‪-‬وهو الحسين بن علي‪ -‬خشي على سلطاته في الحجاز من بطش الدولة العثمانية‬
‫فنهض لعرقلة مد المشروع الى مكة وكانت مقر إمارته وقوته‪ .‬فبقيت نهاية الخط عند المدينة‬
‫المنورة حتى إذا قامت الحرب الكبرى الولى عمل النكليز بالتحالف مع القوات العربية التي‬
‫انضمت إليهم بقيادة فيصل بن الحسين بن علي على تخريب سكة حديد الحجاز ول تزال هذه‬
‫السكة معطلة حتى اليوم والمأمول أن تبذل الجهود لصلحها حتى تعود الى العمل في تيسيير‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.224‬‬


‫‪-529-‬‬
‫()‬
‫سفر حجاج بيت ال الحرام ‪. 1‬‬
‫وقد وصف السفير البريطاني في القسطنطينية في تقريره السنوي (‪ )1‬العام ‪1907‬م أهمية‬
‫الخط الحجازي فقال‪( :‬إن بين حوادث السنوات العشر الخيرة عناصر بارزة في الموقف‬
‫السياسي العام‪ ،‬أهمها خطة السلطان الماهرة التي استطاع أن يظهر بها أمام ثلثمائة مليون من‬
‫المسلمين في ثوب الخليفة الذي هو الرئيس الوحي للمسلمين ‪ ،‬وأن يقيم لهم البرهان على قوة‬
‫شعوره الديني وغيرته الدينية‪ ،‬ببناء سكة حديد الحجاز التي ستمهد الطريق في القريب العاجل‬
‫أمام كل مسلم للقيام بفريضة الحج الى الماكن المقدسة في مكة والمدينة)‪ .‬فل غرو إذا ما لمسنا‬
‫حنق النكليز على ذلك الخط الحديدي وافتعالهم الزمات لعاقته‪ ،‬وانتهازهم أول فرصة‬
‫()‬
‫لتعطيله ونسفه‪ .‬لقطع الطريق على القوات العثمانية ‪. 2‬‬
‫وكان أول قطار قد وصل الى محطة سكة الحديد في المدينة المنورة من دمشق الشام يوم‬
‫‪ 22‬آب (أغسطس) ‪1908‬م وكان بمثابة تحقيق حلم من الحلم بالنسبة لمئات المليين من‬
‫المسلمين في أنحاء العالم كافة‪ ،‬فقد اختصر القطار في رحلته التي استغرقت ثلثة أيام وقطع‬
‫فيها ‪ 814‬ميلً مشقات رحلة كانت تستغرق في السابق اكثر من خمسة أسابيع كما خفقت في‬
‫()‬
‫ذلك اليوم التاريخي قلوب أولئك الذين كانوا مشتاقين الى القيام بأداء فريضة الحج المقدسة ‪. 3‬‬
‫كانت سياسة عبدالحميد السلمية محضة‪ ،‬فاراد أن يجمع قلوب المسلمين حواليه باعتباره‬
‫خليفة المسلمين جميعا فكان مد خط السكة الحديدي بين الشام والحجاز من الوسائل الجميلة في‬
‫()‬
‫تحقيق هدفه المنشود ‪. 4‬‬
‫كان كرومر المعتمد البريطاني في مصر(‪1325-1301‬هـ‪1907-1883/‬م) من أوائل من‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪)(2‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪-530-‬‬
‫ألب أوروبا على الجامعة السلمية‪ ،‬وحرص على أن يتحدث في تقاريره السنوية عن الجامعة‬
‫السلمية ببغض شديد وفي الوقت نفسه نشرت جريدة الهرام (المصرية) تصريحات مثيرة‬
‫لوزير فرنسي هو (هانوتو) هاجم فيها الجامعة السلمية ‪ .‬وكانت مهاجمة الجامعة السلمية‬
‫تستتبع بالتالي بمهاجمة الدولة العثمانية حتى تتفرق الوحدة التي تجمع من حولها الدول‬
‫السلمية لتواجه النفوذ الستعماري الزاحف الذي قد رسم مخططه على أساس التهام هذه‬
‫()‬
‫الوحدات والحيلولة دون إلتقائها مرة أخرى في أي نوع من الوحدة ليستديم سيطرته عليها ‪ 1‬؛‬
‫فاتخذوا لذلك عدة أعمال أساسية ‪:‬‬
‫‪.1‬تعميق الدعوات القليمية والخاصة بالوطنية والرض والمة والعرق‪.‬‬
‫‪.2‬خلف جو فكري عام لمحاربة الوحدة السلمية وتصفيتها‪.‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫ويهود‬ ‫وكل هذا مقدمة للغاء الخلفة العثمانية نهائيا وبالتعاون مع الصهيونية العالمية‬
‫الدونمة وأذنابهم من جمعيات تركيا الفتاة‪ ،‬والتحاد والترقي‪ ...،‬سياسة التودد والستمالة!‬
‫انتهج السلطان عبدالحميد الثاني سياسة التودد الى الشخصيات ذات النفوذ في الوساط‬
‫الشعبية في مختلف البقاع‪ ،‬فهو من ناحية كان يظهر أحترامه لهل العلم‪ ،‬ويعلي من قدرهم‪،‬‬
‫ومن أجل ذلك جعل مجلس المشايخ‪ ،‬ورتب رواتب أعضائه ‪ ،‬وكان حسن النية مع مرشديهم‪،‬‬
‫وكان أرباب العلم ذوي رتب عالية عنده‪ ،‬وكان يتودد الى الشخصيات المهمة والتي تشجع‬
‫وتقف مع فكرة الجامعة السلمية‪ ،‬مثل (مصطفى كامل باش) في مصر‪ ،‬ويعفو عن أخطاء‬
‫البارزين ‪-‬إذا كانوا يحسنون النية معه‪ ،‬ماداموا مقتنعين ومساندين لفكرة الجامعة السلمية‪-‬‬
‫مثل (نامق كمال)‪.‬‬
‫وكان يختار بعض طلب مدرسة العشائر العربية من أبناء العائلت الصيلة العريقة ذات‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمين‪ ،‬د‪.‬جميل المصري (‪.)1/101‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/101‬‬
‫‪-531-‬‬
‫النفوذ والسطوة والسمعة الطيبة من أبناء زعماء العرب‪ .‬وقد توسعت هذه المدرسة فيما بعد‬
‫وأخذت من أبناء الكراد واللبان وحرص على التصال بزعماء وشيوخ وأمراء قبائل العرب‬
‫بواسطة الرسائل والرسل لتقوية روابط الود والمحبة والخوة السلمية ‪ ،‬وكان على معرفة‬
‫تامة بعمل النجليز الذين اتصلوا بالشيوخ مثل (شريف مكة) و(الشيخ حميد الدين) في اليمن‪،‬‬
‫وشيخ عسير وبعض شيوخ من أجل تحريضهم على الدولة العثمانية وتشجيعهم بالخروج على‬
‫طاعة الخليفة‪ ،‬والنفصال عن الدولة العثمانية‪.‬‬
‫وعمل على إبطال مخططات النكليز ومؤامراتهم الخبيثة‪ ،‬ولم يتوان عن حجز من يشك في‬
‫ولئهم للدولة العثمانية ويلزمهم بالبقاء تحت رقابة الدولة في استانبول تحت مسميات المناصب‬
‫والمرتبات‪ ،‬حتى تأمن الدولة مؤامراتهم ‪ ،‬كما فعل مع شريف مكة عندما عينه عضوا في‬
‫مجلس شورى الدولة في استانبول ‪ ،‬ليمنعه من العودة الى مكة وقد عبر السلطان عبدالحميد عن‬
‫رأيه في الشريف حسين‪ ،‬أثناء حديثه مع الصدر العظم فريد باشا‪ .‬قال السلطان عبدالحميد‪:‬‬
‫(إن الشريف حسين ليحبنا‪ .‬إنه الن هادئ وساكن‪ ،‬لكن ال وحده يعلم ماذا يمكن أن يفعله‬
‫الشريف غدا)‪ .‬لذلك تأخر قيام الثورة العربية بقيادة الشريف حسين الى مابعد خلع التحاديين‬
‫للسلطان عبدالحميد‪.‬‬
‫فلما حكم حزب التحاد والترفي الماسوني‪ ،‬أعاد الشريف حسين الى مكة واستطاع بعد ذلك‬
‫()‬
‫أن يتحالف مع النكليز ويحدث فجوة كبيرة بين مسلمي العرب والتراك ‪. 1‬‬

‫سابعا‪ :‬إبطاله مخططات العداء‪:‬‬


‫شرعت بريطانيا منذ الربع الول من القرن التاسع عشر في تحريض الكراد ضد الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬بهدف إيجاد عداء عثماني كردي من ناحية‪ ،‬وانفصال الكراد بدولة تقتطع من الدولة‬
‫العثمانية من ناحية أخرى‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.227‬‬


‫‪-532-‬‬
‫وعندما قامت شركة الهند البريطانية زاد اهتمام النكليز بالعراق‪ ،‬وقامت على العمل ليجاد‬
‫حركة قومية بين الكراد وتجول مندوبون بريطانيون بين عشائر الكراد في العراق في محاولة‬
‫لتوحيد العشائر الكردية ضد الدولة العثمانية وكانت المخابرات العثمانية تتابع المور بدقة‬
‫متناهية ووضع السلطان عبدالحميد خطة مضادة للعمل التدميري النكليزي فقام بالتالي‪:‬‬
‫• قامت الدولة العثمانية بحماية المواطنين الكراد من هجمات الرمن الدموية ضدهم‪.‬‬
‫• أرسل الى عشائر الكراد وفودا من علماء المسلمين للنصح والرشاد والدعوة الى‬
‫الجتماع تحت دعوة الجامعة السلمية ‪ ،‬وأدت هذه الوفود دورها في إيقاظ الكراد تجاه‬
‫الطماع الغربية‪.‬‬
‫• اتخذ السلطان عبدالحميد إجراءات يضمن بها ارتباط أمراء الكراد به وبالدولة‪.‬‬
‫• أسس الوحدات العسكرية الحميدية في شرق الناضول من الكراد‪ ،‬للوقوف أمام‬
‫العتداءات الرمنية ‪.‬‬
‫• كان موقف الدولة قويا ضد أطماع الرمن في إقامة دولة تقطع من أراضيها‪ ،‬وبذلك شعر‬
‫()‬
‫الكراد المقيمون في نفس المنطقة بالمان ‪. 1‬‬
‫• عملت الدولة على كشف مخططات النكليز الهادفة الى تفتيت الدولة العثمانية تحت مسمى‬
‫حرية القوميات في تأسيس كل قومية دولة مختصة بها‪.‬‬
‫استطاع السلطان عبدالحميد أن يضيق على النفوذ البريطاني في اليمن ويحقق نجاحا ظاهرا‬
‫في صراعه مع النكليز في تلك المنطقة‪ ،‬فقد أنشأ فرقة عسكرية في اليمن قوامها ثمانية آلف‬
‫جندي‪ ،‬لعادة اليمن الى الدولة العثمانية مرة أخرى ووصل اهتمامه باليمن الى إرسال مشاهير‬
‫قادته ليقودوا هذه الفرقة مثل (أحمد مختار باشا) و(أحمد فوزي باشا) و(حسين حلمي باشا)‬
‫و(توفيق باشا) والمشير(عثمان باشا)‪ ،‬و(اسماعيل حقي باشا) وقد حاول النكليز إذكاء نيران‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.131،132‬‬


‫‪-533-‬‬
‫التمرد في اليمن ضد الدولة العثمانية ولكن السياسة الحكيمة التي سار عليها السلطان عبدالحميد‬
‫()‬
‫كفلت له النجاح في اليمن ‪. 1‬‬
‫وكانت العقلية العثمانية تسعى لمد خط سكة الحديد من الحجاز الى اليمن وهذا ماتثبته الوثائق‬
‫()‬
‫العثمانية التي دلت على وجود تخطيط ودراسة عميقة لهذا المشروع الكبير ‪. 2‬‬

‫ثامنا‪ :‬الطماع اليطالية في ليبيا‪:‬‬


‫كانت إيطاليا تحلم بضم شمال أفريقيا‪ ،‬لنها تراه ميراث إيطالي هكذا صرح رئيس وزرائها‬
‫()‬
‫(ماتريني) ‪ . 3‬لكن فرنسا احتلت تونس وانكلترا احتلت مصر‪ ،‬ولم يبق أمام إيطاليا إل ليبيا‪.‬‬
‫رسمت إيطاليا سياستها في ليبيا على ثلث مراحل‪:‬‬
‫الولى‪ :‬الحلول السلمية‪ ،‬بإنشاء المدارس والبنوك وغيرها من "مؤسسات خدمية"‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬العمل على أن تعترف الدول بآمال إيطاليا في احتلل ليبيا ‪ ،‬بالطرق الدبلوماسية‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬إعلن الحرب على الدولة العثمانية والحتلل الفعلي ‪.‬‬
‫وكانت السياسة اليطالية لتلفت النظر الى تحركاتها‪ ،‬بعكس السياسة البريطانية أو الفرنسية‬
‫في ذلك الوقت وكان اليطاليون يتحركون "بحكمة" و"هدوء" شديدين دون إثارة حساسية‬
‫العثمانيين‪.‬‬
‫وكان السلطان عبدالحميد متيقضا لتلك الطماع اليطالية وطلب معلومات من مصادر مختلفة‬
‫عن نشاط اليطاليين في "ليبيا" وأهدافهم‪ ،‬فجاءته المعلومات تقول‪( :‬إن لليطاليين بمدارسهم‬
‫وبنوكهم ومؤسساتهم الخيرية التي يقيمونها في الوليات العثمانية‪ ،‬سواء في ليبيا أو في ألبانيا‪،‬‬
‫هدفا أخيرا هو تحقيق أطماع إيطاليا في الستيلء على كل من ‪:‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.224‬‬


‫‪)(2‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫‪-534-‬‬
‫‪ -1‬طرابلس الغرب‪.‬‬
‫‪ -2‬ألبانيا‪.‬‬
‫‪ -3‬مناطق الناضول الواقعة على البحر البيض المتوسط‪ :‬أزمير ‪ -‬السكندرون ‪-‬‬
‫أنطاكيا)‪.‬‬
‫قام السلطان عبدالحميد الثاني بإتخاذ التدابير اللزمة أمام الطماع اليطالية ولما شعر أنه‬
‫سيواجه اعتداءً إيطاليا مسلحا على ليبيا‪ ،‬قام بإمداد القوات العثمانية في ليبيا بـ (‪)15.000‬‬
‫جندي لتقويتها وظل يقظا حساسا تجاه التحركات اليطالية‪ ،‬ويتابعها شخصيا وبدقة‪ ،‬ويطالع كل‬
‫مايتعلق بالشؤون الليبية بنفسه بواسطة سفير الدولة العثمانية في روما‪ ،‬ووالي طرابلس مما‬
‫جعل اليطاليون يضطرون الى تأجيل احتلل ليبيا وتم لهم ذلك في عهد جمعية التحاد‬
‫( ‪)1‬‬
‫وسنأتي على ذلك بالتفصيل بإذن ال في الكتاب السابع الذي يتحدث عن الحركة‬ ‫والترقي‬
‫السنوسية وأثرها الدعوي والجهادي في إفريقيا‪.‬‬
‫إن فكرة الجامعة السلمية كان لها صدى بعيد في العالم السلمي لعدة أسباب منها‪:‬‬
‫‪.1‬كانت الدول الوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تتنافس على الستعمار‬
‫في الشرق وحدث سلسلة اعتداءات على الشعوب السلمية فاحتلت فرنسا تونس (‪1881‬م)‬
‫واحتلت انكلترا مصر (‪1882‬م)‪ ،‬وتدخلت فرنسا في شؤون مراكش حتى استطاعت أن تعلن‬
‫عليها الحماية (‪1912‬م) مقتسمة أراضيها مع اسبانيا وكذلك توغل الستعمار الوروبي في‬
‫بلد أفريقية اسلمية كالسودان ونيجريا وزنجبار وغيرها‪.‬‬
‫‪.2‬تقدمت وسائل النقل والتصالت بين العالم السلمي وانتشرت الحركة الصحافية في‬
‫مصر وتركيا والجزائر والهند وفارس وأواسط آسيا وجاوة (اندونيسيا) وكانت الصحف تعالج‬
‫موضوع الستعمار وأطماع الدول الوروبية في العالم السلمي وتنشر أخبار الوروبيين‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.139‬‬


‫‪-535-‬‬
‫المتكررة في الهجوم على ديار السلم‪ ،‬فتتأثر القلوب ‪ ،‬وتهيج النفوس‪ ،‬وتتفاعل مشاعر‬
‫وعواطف المسلمين مع إخوانهم المنكوبين‪.‬‬
‫‪.3‬كانت جهود العلماء ودعواتهم في وجوب إحياء مجد السلم فقد انتشرت في ربوع العالم‬
‫السلمي الدعوة الى وحدة الصف وإزداد الشعور بأن العدوان‪ ،‬الغربي بغير انقطاع على‬
‫الشعوب السلمية مما يزيدها ارتباطا وتماسكا وبأن الوقت قد حان لتلتحم الشعوب السلمية‬
‫()‬
‫وتنضوي تحت راية الخلفة العثمانية وغير ذلك من السباب ‪. 1‬‬
‫إن السلطان عبدالحميد الثاني نجح في إحياء شعور المسلمين بأهمية التمسك والسعي لتوحيد‬
‫صفوف المة تحت راية الخلفة العثمانية وبذلك يستطيع أن يحقق هدفين‪:‬‬
‫الول ‪ :‬تثبيت دولة الخلفة في الداخل ضد الحملت القومية التغريبية الماسونية اليهودية‬
‫الستعمارية النصرانية‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬وفي الخارج تلتف حول راية الخلفة جموع المسلمين الخاضعين للدول الوروبية‬
‫كروسيا وبريطانيا وفرنسا‪ .‬وبذلك يستطيع أن يجابه تلك الدول ويهددها بإثارة المسلمين وإعلنه‬
‫()‬
‫الجهاد عليها في جميع أنحاء العالم السلمي ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬ص ‪.112‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫‪-536-‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫السلطان عبدالحميد واليهود‬

‫إن حقيقة الصراع بين السلطان عبدالحميد الثاني واليهود من أهم الحداث في تاريخ السلطان‬
‫المسلم الغيور عبدالحميد الثاني‪.‬‬
‫إن امر اليهود وعداؤهم للسلم يعود جذوره الى ظهور السلم منذ أن أنتصر السلم‬
‫عن المدينة المنورة لخيانتهم المتكررة وعداواتهم الدائمة ومن ثم عن‬ ‫وأجلهم رسول ال‬
‫سائر الجزيرة العربية في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب وهم يكيدون له وقد تظاهر‬
‫بعضهم بالسلم وبث السموم في جسم المة السلمية عبر تاريخها الطويل وما عبدال ابن سبأ‬
‫والقرامطة والحشاشين والراوندية والدعوات الهدامة التي ظهرت في تاريخ المسلمين عنهم‬
‫ببعيد‪.‬‬
‫لقد أهدى تتار بلد القرم للسلطان سليمان القانوني في القرن الخامس عشر الميلدي فتاة‬
‫يهودية روسية كانوا قد سبوها في إحدى غزواتهم فتزوجها السلطان سليمان القانوني وأنجبت له‬
‫بنتا فما إن كبرت تلك البنت حتى سعت أمها اليهودية من اللقيط الكرواتي رستم باشا ثم إمعانا‬
‫منها في الغدر تمكنت من قتل الصدر العظم ابراهيم باشا ونصبت صهرها اللقيط بدلً عنه ثم‬
‫قامت بتدير مؤامرة اخرى استطاعت بها أن تتخلص من ولي العهد مصطفى ابن السلطان‬
‫سليمان من زوجته الولى ونصبت ابنها سليم الثاني وليا للعهد‪.‬‬
‫في ذلك الزمن كان اليهود قد تعرضوا للضطهاد في الندلس وروسيا وتشرد الكثير منهم‬
‫هربا من محاكم التفتيش فتقدمت تلك اليهودية من السلطان وسعت لديه بالحصول على إذن لهم‬
‫‪-537-‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫ومنطقة أدرنة‪ ،‬ومدينة بورصه‬ ‫بالهجرة الى البلد‪ ،‬وبالفعل فقد استقر قسم منهم في إزمير‬
‫والمناطق الشمالية والغربية من الناضول ‪ ،‬وبعد استقرارهم في الدولة العثمانية‪ ،‬طبقت‬
‫الحكومة عليهم أحكام الشريعة السلمية حيث تمتعوا في ظلها بقدر كبير من الستقلل الذاتي‪،‬‬
‫وفي الواقع أن يهود إسبانيا لم يجدوا المأوى فقط في تركيا العثمانية بل وجدوا الرفاهية والحرية‬
‫التامة بحيث أصبح لهم التسلسل الهرمي في الدولة‪ ،‬إذ تغلغلوا في المراكز الحساسة منها مثل‬
‫دون جوزيف ناسي‪ ،‬وغيرهم وتمتع يهود إسبانيا بشيء كبير من الستقلل وأصبح رئيس‬
‫الحاخاميين مخول له السلطة في الشؤون الدينية والحقوق المدنية بحيث أن مراسم وقرارات هذا‬
‫()‬
‫الحاخام كانت تصدق من قبل الحكومة الى درجة تحولت الى قانون يخص اليهود ‪. 2‬‬
‫وتجدر الشارة في هذا المجال ‪ ،‬أن علي باشا وزير الخارجية (أصبح فيما بعد الصدر‬
‫العظم ‪ ،‬قد شارك في بعثته الدبلوماسية عدد من اليهود في عام ‪1865‬م المرسلة الى القطار‬
‫()‬
‫الوروبية المسيحية) ‪. 3‬‬
‫( ‪)4‬‬
‫ووجدوا السلم‬ ‫إن اليهود تمتعوا بكافة المتيازات والحصانات بموجب قوانين رعايا الدولة‬
‫()‬
‫والمان وحرية الوجود الكامل في الدولة العثمانية ‪. 5‬‬

‫أولً‪ :‬يهود الدونمة‪:‬‬


‫هناك مفاهيم عديدة لكلمة الدونمة‪ ،‬إذ إن الكلمة من الناحية اللغوية مشتقة من الكلمة التركية‬
‫(دونمك) التي تعني الرجوع أو العودة أو الرتداد‪ .‬أما المفهوم الجتماعي لهذه الكلمة فإنه يعني‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪،‬ص ‪.241‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬د‪.‬احمد النعيمي‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬اليهودوالدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪-538-‬‬
‫المرتد أو المتذبذب‪ ،‬بينما تعني هذه الكلمة من الناحية الدينية مذهبا دينيا جديدا‪ ،‬دعا إليه الحاخام‬
‫ساباتاي زيفي‪ ،‬أما المفهوم السياسي لهذه الكلمة فإنه يعني اليهود المسلمين الذين لهم كيانهم‬
‫()‬
‫الخاص ‪ ، 1‬وقد أطلق المعنى الخاص بالدونمة منذ القرن السابع عشر على اليهود الذين‬
‫يعيشون في المدن السلمية وخاصة في ولية سلنيك وأطلق العثمانيون اسم الدونمة على‬
‫اليهود لغرض بيان وتوضيح العودة من اليهودية الى السلم ثم أصبح علما على فئة من يهود‬
‫()‬
‫الندلس الذين لجؤوا الى الدولة العثمانية وتظاهروا باعتناق العقيدة السلمية ‪. 2‬‬
‫إن مؤسس فرقة الدونمة هو شبتاي زيفي الذي أدعى بأنه المسيح المنتظر في القرن السابع‬
‫عشر‪ ،‬حيث انتشرت في تلك اليام شائعة تقول أن المسيح سيظهر في عام ‪1648‬م كي يقود‬
‫اليهود في صورة المسيح وأنه سوف يحكم العالم في فلسطين ‪ ،‬ويجعل القدس عاصمة الدولة‬
‫( ‪)3‬‬
‫وكانت فكرة المسيح المنتظر ذائعة عندئذ في المجتمع اليهودي ‪ ،‬وكانت‬ ‫اليهودية المزعومة‬
‫الوساط اليهودية القديمة تؤمن بقرب ظهور هذا المسيح‪ .‬ولذلك صادفت دعوة شبتاي تأييدا‬
‫كبيرا بين يهود فلسطين ومصر وشرق أوروبا ‪ ،‬بل أيدها كثير من اليهود وأصحاب الموال‬
‫()‬
‫لغراض سياسية ومالية ‪. 4‬‬
‫وذاع أمر شبتاي في أوروبا وبولندا وألمانيا وهولندا وإنكلترا وإيطاليا وشمال أفريقيا‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫وفي أزمير أخذ يلتقي بالوفود اليهودية التي جاءت من أدرنة وصوفيا واليونان وألمانيا‪ ،‬حيث‬
‫قلدته هذه الوفود تاج "ملك الملوك" ثم قام شبتاي بتقسيم العالم الى ثمانية وثلثين جزءا ‪ ،‬وعين‬
‫لكل منها ملكا‪ ،‬اعتقادا منه بأنه سيحكم العالم كله من فلسطين‪ ،‬حيث كان يقول في هذا المجال‪:‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬يهود الدونمة‪ ،‬د‪ .‬احمد النعيمي‪ ،‬ص ‪.8‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬ص ‪.242‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬يهود الدونمة‪ ،‬ص ‪.16‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬يهود الدونمة‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪-539-‬‬
‫()‬
‫(أنا سليل سليمان بن داود حاكم البشر وأعتبر القدس قصرا لي) ‪. 1‬‬
‫وقام شبتاي بشطب اسم السلطان محمد الرابع من الخطب التي كانت تلقى في كنيس اليهود‬
‫وجعل أسمه محل اسم السلطان‪ ،‬وسمى نفسه (سلطان السلطين) و(سليمان بن داود) مما لفت‬
‫()‬
‫انتباه الحكومة العثمانية ‪. 2‬‬
‫وأصبح شبتاي مصدر قلق لكثير من حاخامين اليهود ورفعوا ضده شكوى الى السلطان ‪،‬‬
‫()‬
‫أكدوا فيها أن شبتاي ينوي القيام بحركة تمردية في سبيل تأسيس دولة يهودية في فلسطين ‪. 3‬‬
‫ونتيجة لشتداد فتنة شبتاي زيفي‪ ،‬أصدر الوزير القوي أحمد كوبرولو أوامره بإلقاء القبض‬
‫عليه‪ ،‬وأودعه الوزير في السجن‪ ،‬وظل فيه لمدة شهرين ثم نقل الى قلعة جزيرة غاليبولي على‬
‫الدردنيل ‪ ،‬وسمح لزوجته وكاتبه الخاص أن يتخذا لهما سكنا معه وأصبح له مجلس كمجلس‬
‫المراء‪ ،‬ليدخل عليه إل بإذن مسبق وينتظر الذين يريدون أن يتمتعوا برؤيته أياما من أجل‬
‫ذلك وأخذت زوجته تسلك سلوك الميرات مع القادمين عليها والقادمات حيث كانت وفود‬
‫()‬
‫يهودية من أنحاء العالم قادمين لزيارته ‪. 4‬‬
‫حوكم شبتاي في سراي أدرنة‪ ،‬حيث شكل السلطان هيئة علمية إدارية برئاسة نائب الصدر‬
‫العظم وعضوية كل من (شيخ السلم) يحيى أفندي منقري زادة وواحد من كبار العلماء وهو‬
‫إمام القصر محمد أفندي وانلي‪ ،‬وقام بدور المترجم من السبانية الى التركية الطبيب مصطفى‬
‫()‬
‫حياتي ‪. 5‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.27‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬يهود الدونمة‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪،‬ص ‪.36‬‬
‫‪-540-‬‬
‫أكد قاضي المحكمة‪ ،‬أن المسألة تعد بالنسبة للدولة العثمانية‪ ،‬وعلى مسمع من السلطان الذي‬
‫جلس في غرفة مجاورة (وبواسطة الترجمان قيل لسبتاي تدعي أنك المسيح فأرنا معجزتك‬
‫سنجردك من ثيابك ونجعلك هدفا لسهام المهرة من رجالنا فأن لم تغرز السهام في جسمك‬
‫()‬
‫فسيقبل السلطان ادعاءك‪ .‬فهم شبتاي ما قيل له فأنكر ما أسند إليه وقال إنهم تقولوا عليه ) ‪، 1‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫وطلب من السلطات العثمانية‬ ‫فعرض عليه السلم فدخل فيه تحت اسم محمد عزيز أفندي‬
‫أن تسمح له بدعوة اليهود الى السلم‪ ،‬فأذنت له وانتهزها فرصة فأنطلق بين اليهود يواصل‬
‫دعوته الى اليمان به ويحثهم على ضرورة تجمعهم معلنين في ظاهرهم السلم مبطنين‬
‫()‬
‫يهوديتهم المنحرفة ‪. 3‬‬
‫وظل شبتاي وأنصاره يتبعون دينهم الموسوي سرا‪ ،‬ويمارسون العمل للصهيونية في الخفاء‪،‬‬
‫ويظهرون الخلص للسلم في العلن والصلح والتقوى أمام التراك‪ ،‬وكان يقول لتباعه إنه‬
‫( ‪)4‬‬
‫وفي ظل هذه‬ ‫كالنبي موسى الذي اضطر أن يبقى مدة من الزمن في قصور الفراعنة‬
‫الظروف ألقي القبض على شبتاي مع مجموعة من أتباعه في كنيس (قوري جشمه) الكائنة في‬
‫داخل المعبد بسبب أنه كان مرتديا زيا يهوديا وهو محاط بالنساء يشربون الخمر وينشدون‬
‫الناشيد اليهودية‪ ،‬وقراءة المزامير مع عدد من اليهود فضلً عن اتهامه بدعوته المسلمين الى‬
‫ترك دينهم واليمان به‪ ،‬ولول تدخل شيخ السلم لقطع رأسه‪ ،‬حيث اعترض على إعدامه‬
‫قائلً‪ ( :‬لو أعدم هذا المحتال سيكون سببا لحدوث خرافة في النسانية ‪ ،‬حيث يدعي مريدوه‬

‫‪ )(1‬يهود الدونمة‪ ،‬مصطفى طوران ‪ ،‬ترجمة كمال خوجة نقل منه د‪.‬علي حسون ‪ ،‬ص ‪.243‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪،‬د‪.‬علي حسون ‪ ،‬ص ‪.243‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬يهود الدونمة‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪-541-‬‬
‫()‬
‫بعروجه الى السماء كعيسى عليه السلم) ‪ . 1‬فأكتفى بنفيه الى مدينة دولسجنو في ألبانيا وذلك‬
‫في صيف عام ‪1673‬م‪ ،‬وتوفى بعد خمس سنوات من نفيه وظلت عقيدة الشاباتائية موجودة لدى‬
‫()‬
‫فرق سالونيك‪ ،‬وتفنن أتباعه في ممارسة المكر والتعصب والتجرد من المبادئ‪ ،‬والخلق ‪. 2‬‬
‫وقد نظم شبتاي زيفي عقيدة الدونمة في ثماني عشرة مادة وفي الحقيقة تعد المادة السادسة‬
‫عشرة والسابعة عشرة أهم سمات الدونمة‪ ،‬إذ تشير المادة (‪( :)16‬يجب أن تطبق عادات‬
‫التراك بدقة لصرف أنظارهم عنكم ويجب أل يظهر أحد من التباع تضايقه من صيام رمضان‬
‫()‬
‫ومن الضحية ولمن ينفذ كل شيء يجب تنفيذه أمام المل) ‪ . 3‬أما المادة (‪ )17‬فإنها تشير الى‬
‫()‬
‫التي‪( :‬إن مناكحتهم (يعني المسلمين) ممنوعة قطعا) ‪. 4‬‬
‫إن شبتاي يعد أول يهودي بشر بعودة بني اسرائيل الى فلسطين ‪ ،‬وفي حقيقة المر‪ ،‬عدت‬
‫()‬
‫حركة زيفي حركة سياسية ضد سلطة الدولة العثمانية أكبر من كونها حركة دينية ‪. 5‬‬
‫لقد أسهمت هذه الطائفة في هدم القيم السلمية في المجتع العثماني وعملت على نشر اللحاد‬
‫والفكار الغربية وانتشار الماسونية والدعوة لهتك حجاب المرأة المسلمة واختلطها مع الرجال‬
‫وخاصة في المدارس وكان الكثير من رجال التحاد والترقي يساهم في بعض نشاطاتها‬
‫وأفراحها‪.‬‬
‫وقام يهود الدونما بدور فعال في نصرة القوى المعادية للسطان عبدالحميد والتي تحركت من‬
‫سلنيك لعزله وهم الذين سمموا أفكار الضباط الشباب وليزالون حتى وقتنا الحاضر يسعون‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.42‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬يهود الدونمة‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪ )(5‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫‪-542-‬‬
‫لذلك ولهم صحف ودور نشر وتغلغلوا في القتصاد العثماني وكل مناحي الحياة في الدولة‬
‫()‬
‫العثمانية ‪. 1‬‬
‫وقد استطاعوا أن يأثروا في جمعية التحاد والترقي‪ ،‬وكان السلطان عبدالحميد الثاني عارفا‬
‫بحقيقة الدونمة ويؤكد هذه الحقيقة الجنرال جواد رفعت أتلخان‪ ،‬حيث يقول في هذا الصدد‪( :‬إن‬
‫الشخص الوحيد في تاريخ الترك جمعيه‪ ،‬الذي عرف حقيقة الصهيونية والشبتائية وأضرارهما‬
‫على الترك والسلم وخطرها تماما‪ ،‬وكافح معهما مدة طويلة بصورة جدية لتحديد شرورهم‬
‫هو السلطان التركي العظيم كافح هذه المنظمات الخطيرة لمدة ثلث وثلثين سنة بذكاء وعزم‬
‫()‬
‫وبإرادة مدهشة جدا كالبطال) ‪. 2‬‬
‫وفي حقيقة المر‪ ،‬أهتم عبدالحميد بإبقاء الدونمة في ولية سالونيك ‪ ،‬وعدم وصولهم الى‬
‫الستانة‪ ،‬بغية عدم السيطرة عليها والتجنب من تحركاتهم ‪ ،‬ونتيجة للموقف الجاد من عبدالحميد‬
‫إزاء فرقة الدونمة اتبعوا إستراتيجية مضادة له‪ ،‬حيث تحركوا ضده على مستوى الرأي العام‬
‫()‬
‫العثماني والجيش ‪. 3‬‬
‫ونتيجة لموقف عبدالحميد من الدونمة‪ ،‬قام يهود الدونمة بالتعاون مع المحافل الماسونية‬
‫للطاحة به‪ ،‬وقد استخدم هؤلء شعارات معينة كالحرية والديمقراطية وإزاحة المستبد‬
‫عبدالحميد‪ ،‬وعلى هذا الساس قاموا بنشر الشقاق والتمرد في الدولة العثمانية بين صفوف‬
‫الجيش ‪ .‬وكانت الغاية من هذا هي تحقيق المشروع الستيطاني الصهيوني باستيطان فلسطين‪.‬‬
‫()‬
‫وكان يهود الدونمة يشلكون اللبنة الولى لتنفيذ المخططات اليهودية العالمية ‪. 4‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد والخلفة السلمية للجندي ‪ ،‬ص ‪.107‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬يهود الدونمة‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الحركة السلمية الحديثة في تركيا لمحمد مصطفى‪ ،‬ص ‪.68،69‬‬
‫‪-543-‬‬
‫ثانيا‪ :‬السلطان عبدالحميد وزعيم اليهودية العالمية (هرتزل)‪:‬‬
‫استطاع زعيم الحركة اليهودية الصهيونية العالمية (تيودر هزتزل) أن يتحصل على تاييد‬
‫أوروبي للمسألة اليهودية من الدول (ألمانيا‪ ،‬وبريطانيا وفرنسا) وجعل من هذه الدول قوة ضغط‬
‫على الدولة العثمانية تمهيدا لمقابلة السلطان عبدالحميد‪ ،‬وطلب فلسطين منه وكانت الدولة‬
‫العثمانية تعاني من مشاكل مالية متعددة‪ ،‬إذ كانت الحوال القتصادية في البلد على درجة من‬
‫السوء بحيث فرضت الدول الوروبية الدائنة وجود بعثة مالية أوروبية في تركيا العثمانية‬
‫للشراف على أوضاعها القتصادية ضمانا لديونها ‪ ،‬المر الذي دفع عبدالحميد الثاني أن يجد‬
‫حلً لهذه المعضلة‪.‬‬
‫كانت هذه الثغرة هي السبيل الوحيد أمام هرتزل‪ ،‬كي يؤثر على سياسة عبدالحميد الثاني تجاه‬
‫اليهود‪ .‬وفي هذا الصدد يقول هرتزل في مذكراته‪( :‬علينا أن ننفق عشرين مليون ليرة تركية‬
‫لصلح الوضاع المالية في تركيا ‪ ...‬مليونان منها ثمنا لفلسطين والباقي لتحرير تركيا‬
‫العثمانية بتسديد ديونها تمهيدا للتخلص من البعثة الوروبية ‪...‬ومن ثم نقوم بتمويل السلطان بعد‬
‫()‬
‫ذلك بأي قروض جديدة يطلبها ‪. 1‬‬
‫لقد أجرى هرتزل إتصالت مكثفة مع المسؤولين في ألمانيا والنمسا وروسيا وإيطاليا وإنكلترا‬
‫وكانت الغاية من هذه التصالت هي إجراء حوار مع عبدالحميد الثاني‪ .‬وفي هذا الصدد فقد‬
‫نصح لندو منذ ‪ 21‬شباط ‪1896‬م الصديق اليهودي لهرتزل أن يقوم بواسطة صديقه نيولنسكي‬
‫رئيس تحرير (بريد الشرق) ‪.‬وفي هذا المجال يقول هرتزل‪( :‬إن نحن حصلنا على فلسطين ‪،‬‬
‫سندفع لتركيا كثيرا أو سنقدم عطايا كثيرة لمن ‪ ..‬لمن يتوسط لنا‪ .‬ومقابل هذا نحن مستعدون أن‬
‫نسوي أوضاع تركيا المالية‪ .‬سنأخذ الراضي التي يمتلكها السلطان ضمن القانون المدني‪ ،‬مع‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.116‬‬


‫‪-544-‬‬
‫()‬
‫أنه ربما لم يكن هناك فرق بين السلطة الملكية والممتلكات الخاصة) ‪. 1‬‬
‫وقام هرتزل بزيارة الى القسطنطينية وذلك في حزيران عام ‪1896‬م ‪ ،‬ورافقه في هذه‬
‫الزيارة نيولنسكي ‪ ،‬الذي كانت له علقة ودية مع السلطان عبدالحميد‪ ،‬ونتيجة لذلك فقد نقل‬
‫بيولنسكي آراء هرتزل الى قصر يلدز‪ ،‬وقد دارت محاورة بين نيولنسكي والسلطان عبدالحميد‬
‫إذ قال السلطان له‪( :‬هل بإمكان اليهود أن يستقروا في مقاطعة أخرى غير فلسطين؟ أجاب‬
‫نيولنسكي قائلً‪:‬‬
‫(تعتبر فلسطين هي المهد الول لليهود‪ ،‬فعليه فإن اليهود لهم الرغبة في العودة إليها)‪ ،‬ورد‬
‫السلطان قائلً‪( :‬إن فلسطين لتعتبر مهدا لليهود فقط‪ ،‬وإنما تعتبر مهدا لكافة الديان الخرى)‪.‬‬
‫أجاب نيولنسكي قائلً‪( :‬في حالة عدم استرجاع فلسطين من قبل اليهود فإنهم سوف يحاولون‬
‫()‬
‫الذهاب وبكل بساطة الى الرجنتين) ‪. 2‬‬
‫وقام السلطان عبدالحميد بإرسال رسالة الى هرتزل بواسطة صديقه نيولنسكي جاء فيها‪:‬‬
‫(انصح صديقك هرتزل‪ ،‬أن ليتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع ‪ ،‬لني لاستطيع أن‬
‫أتنازل عن شبر واحد من الراضي المقدسة‪ ،‬لنها ليست ملكي‪ ،‬بل هي ملك شعبي‪ .‬وقد قاتل‬
‫أسلفي من أجل هذه الرض‪ ،‬ورووها بدمائهم؛ فليحتفظ اليهود بمليينهم ‪ .‬إذا مزقت دولتي ‪،‬‬
‫من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل‪ ،‬ولكن لزم أن يبدأ التمزيق أولً في جثتنا ولكن‬
‫()‬
‫ل أوافق على تشريح جثتي وأنا على قيد الحياة) ‪. 3‬‬
‫وفي هذا الصدد يقول عبدالحميد في مذكراته‪:‬‬
‫(ومن المناسب أن نقوم باستغلل الراضي الخالية في الدولة‪ ،‬وهذا يعني من جانب آخر‪ ،‬أنه‬
‫كان علينا أن ننهج إتباع سياسة تهجير خاصة‪ ،‬ولكننا لنجد أن هجرة اليهود مناسبة‪ ،‬لن غايتنا‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.120‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪:‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.120‬‬
‫‪-545-‬‬
‫هي استيطان عناصر تنتمي الى دين أسلفنا وتقاليدنا حتى ليستطيعوا من الهيمنة على زمام‬
‫()‬
‫المور في الدولة) ‪. 1‬‬
‫وبعد إخفاق جهود هرتزل في واسطة نيولنسكي ‪ ،‬اتجه هرتزل الى قصر وليم الثاني‬
‫أمبراطور ألمانيا‪ ،‬ولسيما أنه كان صديقا لعبدالحميد‪ ،‬بالضافة الى كون وليم الثاني هو الحليف‬
‫( ‪)2‬‬
‫إل أن مساعيه لم تكلل بالنجاح يقول المؤرخ التركي نظام الدين‬ ‫الوحيد للعثمانيين في أوروبا‬
‫نظيف في كتابه (إعلن الحرية والسلطان عبدالحميد الثاني) ‪....( :‬عندما رد طلب الوفد‬
‫اليهودي ‪-‬المسند من قبل المبراطور وليم‪ -‬في الحصول على وطن لهم‪ ،‬أي ‪ :‬عندما خاب‬
‫هرتزل في مسعاه إشتد العداء ضد (يلدز) وهذا ماكان يتوقعه عبدالحميد‪ ،‬لن اليهود قوم يتقنون‬
‫العمل المنظم‪ ،‬وكانت لديهم قوى عديدة تضمن لهم النجاح في مسعاهم ‪ ،‬فالمال متوفر لديهم‬
‫وكانوا يسيطرون على أهم العلقات التجارية الدولية‪ ،‬وكانت صحافة أوروبا في قبضتهم‪ ،‬فكان‬
‫()‬
‫في مقدرهم اطلق العواصف التي يريدونها لدى الرأي العام متى شاءوا‪. 3 )....‬‬
‫يردف المؤرخ التركي قائلً‪( :‬بدأوا أولً بتحريك الصحافة العالمية‪ ،‬ثم أخذوا بتوحيد أعداء‬
‫عبدالحميد الذين نشأوا في ذلك المجتمع العثماني الخليط‪ ،‬نجد‪ ،‬أنصار المشروطية يتخذون‬
‫طابعا منظما وهجوميا‪ ،‬علما بأنهم كانوا حتى ذلك الوقت متفرقين ويعملون دون نظام ودون‬
‫تنسيق‪ ،‬إذ لم يكن صعبا عليهم توحيد أعداء عبدالحميد الذين نشأوا في ذلك المجتمع العثماني‬
‫الخليط‪ .‬وقد أخذ (المشرق العظم الماسوني اليطالي) على عاتقه هذه المهمة في التوحيد‬
‫والتنسيق لنه كان أقرب مركز ماسوني للمبراطورية العثمانية‪ .‬ولعبت المحافل اليطالية‬
‫()‬
‫وخاصة محفل (ريزوتا) في سلنيك دورا ملحوظا‪. 4 )...‬‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.120‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد حياته وأحداث عهده‪ ،‬محمد أورخان‪ ،‬ص ‪.282 ،281‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.282‬‬
‫‪-546-‬‬
‫إزاء هذا الخفاق قرر هرتزل أن يستخدم وسائل أخرى لستمالة عبدالحميد الثاني‪ ،‬حيث‬
‫( ‪)1‬‬
‫وفي هذا الصدد يقول‬ ‫عرض نفسه عن طريق نيولنسكي خدمته بواسطة القضية الرمنية‬
‫هرتزل‪( :‬طلب مني السلطان أن أقوم بخدمة له‪ ،‬وهي أن أؤثر على الصحف الوروبية ‪ ،‬بغية‬
‫قيام الخيرة بالتحدث عن القضية الرمنية بلهجة أقل عداء للتراك‪ ،‬أخبرت نيولنسكي حالً‬
‫باستعدادي للقيام بهذه المهمة‪ ،‬ولكني أكدت على إعطائي فكرة وافية عن الوضع الرمني ‪ :‬من‬
‫هم الشخاص في لندن الذين يجب أن أقنعهم بما يريدون ‪ ،‬وأي الصحف يجب أن نستميلها‬
‫()‬
‫لجهتنا وغير ذلك) ‪. 2‬‬
‫وعلى هذا الساس‪ ،‬فقد نشطت الدبلوماسية الصهيونية لقناع الرمن بالتخلي عن ثورتهم‪.‬‬
‫ونتيجة لذلك فقد اتصل هرتزل مع سالزبوري والمسؤولين النكليز بغية استخدامهم للضغط‬
‫على الرمن‪ ،‬كما نشط اليهود في مدن أوروبية اخرى مثل فرنسا للقيام بنفس الدور‪ .‬إل أن‬
‫دبلوماسية هرتزل قد أخفقت بسبب عدم تحمس بريطانيا‪ ،‬لن ذلك كان يعني تأييد سياسة‬
‫()‬
‫عبدالحميد‪ ،‬المر الذي يؤدي في إثارة الرأي العام البريطاني ضد الحكومة ‪. 3‬‬
‫وقد حاول هرتزل لقاء عبدالحميد الثاني ‪ ،‬ولسيما أثناء الزيارة الثانية للمبراطور وليم‬
‫الثاني الى القسطنطينية‪ ،‬إل أن موظفي قصر يلدز منعوه من ذلك‪ .‬واستمر هرتزل في محاولته‬
‫المستمرة حتى تكللت جهوده بالنجاح بعد سنتين (‪1901-1899‬م) من الحتكاك المباشر مع‬
‫الموظفين الكبار لقصر يلدز من مقابلة عبدالحميد‪ ،‬حيث قابل السلطان لمدة ساعتين وقد اقترح‬
‫هرتزل قيام البنوك اليهودية الغنية في أوروبا بمساعدة الدولة العثمانية لقاء السماح بالستيطان‬
‫في فلسطين‪ ،‬بالضافة الى ذلك فإنه قد أكد لعبدالحميد أنه سوف يخفف الديون العامة للدولة‬

‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.132‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية ‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.138‬‬
‫‪-547-‬‬
‫العثمانية وذلك منذ عام ‪1881‬م ‪ ،‬وقد وعد هرتزل عبدالحميد أن يحتفظ بمناقشاته السرية‬
‫()‬
‫معه ‪. 1‬‬
‫كان السلطان عبدالحميد في خلل مقابلته مع هرتزل مستمعا أكثر منه متكلما وكا يرخي‬
‫لهرتزل في الكلم كي بدفعه أن يتحدث بكل مايخطر في مخيلته من أفكار ومشروعات‬
‫ومطالب‪ .‬وقد أدى هذا المر الى أن يعتقد هرتزل بأنه نجح في مهمته هذه‪ .‬ولكنه أدرك في‬
‫()‬
‫نهاية المر بأنه قد أخفق مع عبدالحميد وأنه أخذ يسير في طريق مسدود معه ‪. 2‬‬
‫وبعد إخفاق جهود هرتزل عند عبدالحميد الثاني‪ ،‬تحدث هرتزل قائلً‪( :‬في حالة منح‬
‫السلطان فلسطين لليهود ‪ ،‬سنأخذ على عاتقنا تنظيم الوضاع المالية‪ ،‬اما في القارة الوروبية‬
‫فإننا سنقوم بإيجاد حصن منيع ضد آسيا‪ ،‬وسوف نبني حضارة ضد التخلف‪ ،‬كما سنبقي في‬
‫()‬
‫جميع أنحاء أوروبا بغية ضمان وجودنا) ‪. 3‬‬
‫وفي الحقيقة كان عبدالحميد يرى أنه من الضروري عدم توطين اليهود في فلسطين ‪ ،‬كي‬
‫يحتفظ العنصر العربي بتفوقه الطبيعي‪ .‬وفي هذا الصدد يقول‪ ...( :‬ولكن لدينا عدد كافٍ من‬
‫اليهود ‪ ،‬فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقا‪ ،‬علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين‬
‫المهاجرين في فلسطين وإل فإن اليهود إذا استوطنوا أرضا تملكوا كافة قدراتها خلل وقت‬
‫()‬
‫قصير‪ ،‬ولذا نكون قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم) ‪. 4‬‬
‫وكانت الدولة العثمانية تسعي في أحيان كثيرة الى أبعاد اليهود العثمانيين عن أفكار هرتزل‬
‫والحركة الصهيونية‪ ،‬ومع ذلك فإنها في أحيان أخرى كانت تستخدم لغة التهديد معهم‪ .‬وفي هذا‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.141‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪)(4‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.146‬‬
‫‪-548-‬‬
‫الصدد أوضح علي فروخ بك الوسائل العلمية الجنبية‪ ،‬وبصراحة تامة‪( :‬إنه لبعيد من‬
‫الصواب أن يقوم الصهاينة على خلق صعوبات للحكومة العثمانية‪ ،‬بغية إرغامها على تحقيق‬
‫مصالحها‪ .‬ولكن هذه الصعوبات سوف تؤدي في نهاية المر الى إلحاق الذى بوجودهم السلمي‬
‫والسعيد في الدولة العثمانية‪ ...‬وهذه النقطة واضحة بالنسبة لعلقة العثمانيين مع رعايا الرمن‪،‬‬
‫لن قلة من المتمردين الذين قاموا على إرتكاب الخطأ والحماقة معتمدين الى الرشاد الميكافلي‬
‫()‬
‫قد أدى في نهاية المر أن يندما على مافعلوه ‪ ،‬من دون التوصل على أية نتيجة) ‪. 1‬‬
‫وعلى الرغم ‪ ،‬من اخفاق جهود هرتزل عند السلطان عبدالحميد‪ ،‬كتب هرتزل قائلً‪( :‬يجب‬
‫تملك الرض بواسطة اليهود بطريقة تدريجية دون ماحاجة الى استخدام العنف‪ ،‬سنحاول أن‬
‫نشجع الفقراء من السكان الصليين على التروح الى البلدان المجاورة بتأمين أعمال لهم هناك‬
‫مع خطر تشغيلهم في بلدنا إن الستيلء على الرض سيتم بواسطة العملء السريين للشركة‬
‫اليهودية التي تتولى بعد ذلك بيع الرض لليهود‪ .‬علوة على ذلك تقوم الشركة اليهودية‬
‫بالشراف على التجارة في بيع العقارات وشرائها‪ ،‬على أن يقتصر بيعها على اليهود‬
‫()‬
‫وحدهم) ‪. 2‬‬
‫وكتب هرتزل قائلً‪( :‬أقر على ضوء حديثي مع السلطان عبدالحميد الثاني أنه ليمكن‬
‫الستفادة من تركيا إل إذا تغيرت حالتها السياسية أو عن طريق الزج بها في حروب تهزم فيها‪،‬‬
‫()‬
‫إو عن طريق الزج بها في مشكلت دولية أو بالطريقتين معا في آن واحد) ‪. 3‬‬
‫إن عبدالحميد كان يعرف أهداف الصهيونية‪ ،‬حيث قال في مذكراته السياسية‪ ( :‬لن يستطيع‬
‫رئيس الصهاينة هرتزل أن يقنعني بأفكاره وقد يكون قوله ‪ :‬ستحل المشكلة اليهودية يوم يقوي‬
‫فيه اليهودي على قيادة محراثه بيده‪ ،‬صحيحا في رأيه ‪ ،‬أنه يسعى لتأمين ارض لخوانه اليهود‪،‬‬
‫‪)(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.146‬‬
‫‪)(2‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.148‬‬
‫‪)(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪-549-‬‬
‫لكنه ينسى أن الذكاء ليس كافيا لحل جميع المشاكل ‪ ..‬لن يكتفي الصهاينة بممارسة العمال‬
‫الزراعية في فلسطين بل يريدون أمورا مثل تشكيل حكومة وانتخاب ممثلين‪ ،‬إنني أدرك‬
‫أطماعهم جيدا‪ ،‬لكن اليهود سطحيون في ظنهم أنني سأقبل بمحاولتهم‪ .‬وكما أنني أقدر في‬
‫()‬
‫رعايانا من اليهود خدماتهم لدى الباب العالي فإني أعادي أمانيهم وأطماعهم في فلسطين) ‪. 1‬‬
‫وعن القدس يقول عبدالحميد الثاني‪( :‬لماذا نترك القدس ‪...‬إنها أرضنا في كل وقت وفي كل‬
‫زمان وستبقى كذلك‪ ،‬فهي من مدننا المقدسة‪ ،‬وتقع في أرض إسلمية ‪ ،‬لبد أن تظل القدس‬
‫()‬
‫لنا) ‪. 2‬‬
‫لقد كان غرض السلطان عبدالحميد في استماعه الى (تيودور هرتزل) معرفة التي‪:‬‬
‫‪.1‬حقيقة الخطط اليهودية‪.‬‬
‫‪.2‬معرفة قوة اليهود العالمية ومدى قوتها‪.‬‬
‫()‬
‫‪.3‬إنقاذ الدولة العثمانية من مخاطر اليهود ‪. 3‬‬
‫وشرع السلطان عبدالحميد في توجيه أجهزة الستخبارات الداخلية والخارجية لمتابعة اليهود‬
‫وكتابة التقرير عنهم وأصدر إرادتين سنتين الولى في ‪ 28‬يونيو ‪1890‬م والخرى في ‪ 7‬يونيو‬
‫‪1890‬م‪ .‬في الولى (رفض قبول اليهود في الممالك الشاهسانية) والخرى‪( :‬على مجلس‬
‫()‬
‫الوزراء دراسة تفرعات المسألة واتخاذ قرار جدّي وحاسم في شأنها) ‪. 4‬‬
‫واتخذ السلطان عبدالحميد الثاني كل التدابير اللزمة في سبيل عدم بيع الراضي الى اليهود‬
‫في فلسطين ‪ ،‬وفي سبيل ذلك عمل جاهدا على عدم إعطاء أي امتياز للهود من شأنه أن يؤدي‬
‫الى تغلب اليهود على أرض فلسطين‪ .‬ولبد في هذه الحالة أن تتكاتف جهود المنظمات‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.148‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫‪-550-‬‬
‫الصهيونية بغية إبعاد السلطان عبدالحميد الثاني من الحكم‪ .‬ويعزز هذا القول هرتزل عندما قال‪:‬‬
‫(إني أفقد المل في تحقيق أماني اليهود في فلسطين‪ ،‬وإن اليهود لن يستطيعوا دخول الرض‬
‫()‬
‫الموعودة‪ ،‬مادام السلطان عبدالحميد قائما في الحكم‪ ،‬مستمرا فيه) ‪. 1‬‬
‫وتحركت الصهيونية العالمية‪ ،‬لتدعم أعداء السلطان عبدالحميد الثاني ‪ ،‬وهم المتمردون‬
‫الرمن‪ ،‬والقوميون في البلقان‪ ،‬وحركة حزب التحاد والترقي‪ ،‬والوقوف مع كل حركة‬
‫()‬
‫انفصالية عن الدولة العثمانية ‪. 2‬‬

‫المبحث الرابع‬
‫السلطان عبدالحميد وجميعة التحاد والترقي‬

‫كان الشباب العثماني المثقف في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد تأثر بافكار الثورة‬
‫الفرنسية‪ ،‬التي حققت حكما ديمقراطيا في فرنسا وأتت بأفكار القومية والعلمانية والتحرر من‬
‫حكم الفرد‪ ،‬وكذلك تأثر بالحركة القومية اليطالية التي قادها (ماتزيني) بنظمها وخلياها‪،‬‬
‫وكانت الدولة العثمانية قد تعرضت لحملت عسكرية واعلمية ‪ ،‬غرضها إضعاف الدولة ومن‬
‫ثم العمل على تفتيتها وكانت الدول الوروبية تتخذ من أوضاع النصارى في الدولة حجة‬
‫للتدخل‪ ،‬وفي هذه الظروف وبالضبط في عام ‪1865‬م‪ ،‬كان ستة من الشباب العثمانيين المثقفين‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.158‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني لمحمد حرب‪ ،‬ص ‪.234‬‬
‫‪-551-‬‬
‫يُسرّون عن أنفسهم في حديقة في ضواحي أستانبول تسمى (غابة بلغراد)‪ .‬تحدث هؤلء الشباب‬
‫في موضوعات سياسية‪ ،‬وخرجوا بفكرة تكوين جمعية سرية‪ ،‬على نمط جمعية (إيطاليا الفتاة)‬
‫التي أسسها الزعيم اليطالي (ماتزين) عام ‪1831‬م‪ ،‬بهدف الوحدة اليطالية تحت راية‬
‫الجمهورية‪ ،‬أطلق هؤلء الشباب على جمعيتهم هذه اسم (اتفاق الحميّة) ومن ضمن هؤلء‬
‫الشبان الشاعر الذي أصبح فيما بعد واسع الشهرة‪ :‬نامق كمال‪ .‬ورأوا أن العمل لبد أن يكون‬
‫في شكل تعريف الشعب بحقوقه السياسية‪ ،‬وحصوله عليها‪ ،‬وبالتالي فإن رغبة الشعوب‬
‫النصرانية في الستقلل بمناطقها عن الدولة‪ ،‬لن تجد لها مايبررها من تدخل أجنبي بحجة‬
‫مساندة القليات الدينية‪ ،‬وكانوا يرون أن إنقاذ الدولة من حالة التردي التي وصلت إليها يكون‪،‬‬
‫بإيجاد نظام سياسي ديمقراطي وكان في فرنسا في تلك الفترة مصطفى باشا المير المصري‬
‫الذي نازع فؤاد باشا رغبة في تولي عرش مصر وفي فرنسا أعلن المير أنه ضمن التيار‬
‫المنادي بالدستور في الدولة العثمانية‪ ،‬وقدم نفسه بعبارة ممثل حزب تركيا الفتاة وأعجب هذا‬
‫السم المجتمعات الوروبية المعنية فشاع اسم "حزب تركيا الفتاة" في أوروبا‪.‬‬
‫ألتحق ثلثة من العلميين الثوريين العثمانيين هم ‪ :‬نامق كمال‪ ،‬ومحمد ضياء وعلي‬
‫سعاوي‪ ،‬بالمير المصري مصطفى فاضل في باريس وكونوا منظمة أسموها جمعية "العثمانيين‬
‫الجدد"‪ .‬وكان أبرز شخصيات جمعية العثمانيين الجدد إعلميين وشعراء وأدباء وعلى رأسهم‬
‫نامق كمال وعلي سعاوي‪ .‬وكان من أشهر تلك الشخصيات تأثيرا على الساحة الوروبية نامق‬
‫كمال الذي تثقف ثقافة إسلمية‪ ،‬وكما تأثر بفلسفة الثورة الفرنسية‪ ،‬مثل (روسو)‪ .‬وله حياة‬
‫أدبية واسعة وكتابات امتدت عبر ربع قرن عبر عن أفكاره من خلل الشعر ‪ ،‬والعلم ‪،‬‬
‫والكتابة والتاريخ وكانت كتاباته تسعى للجابة عن ثلثة أسئلة هي‪:‬‬
‫‪ -1‬ماهي أسباب انحطاط الدولة العثمانية؟‬
‫‪ -2‬ماهي الطرق التي يمكن بها أن نوقف هذا النحطاط؟‬
‫‪ -3‬ماهي الصلحات اللزم عملها في هذا السبيل؟‬
‫‪-552-‬‬
‫كما يمكن ادراج إجابات نامق كمال في ثلث نقاط رئيسية هي ‪:‬‬
‫‪ -1‬أسباب انحطاط الدولة العثمانية‪ ،‬أسباب اقتصادية‪ ،‬سياسية‪.‬‬
‫‪ -2‬التربية‪ ،‬وهي الطريق التي يمكن أن يوقف بها هذا النحطاط‪.‬‬
‫‪ -3‬الصلح الرئيسي الواجب عمله‪ ،‬هو ‪ :‬البدء بإقامة نظام دولة مركزية دستورية‪.‬‬
‫وكان نامق كمال ‪-‬يرى أن حركة التنظيمات العثمانية‪ ،‬استبدلت بسلطة السلطين سلطة‬
‫الباب العالي‪ ،‬أي الصدور العظام الوزراء‪ .‬لذلك فإن النظام الذي جاءت به التنظيمات‪ ،‬نظام‬
‫أقل من النظام العثماني القديم‪ .‬لذلك لم تستطع التنظيمات أن تحقق نهضة اقتصادية في الدولة‪.‬‬
‫وفتحت هذ التنظيمات الباب على مصراعيه لتدخل الدول الوروبية في الشؤون العثمانية‬
‫الداخلية‪.‬‬
‫وقد قال نامق كمال بفكرة الحقوق الطبيعية التي هي الساس الفلسفي للحضارة الغربية‬
‫المعاصرة‪ ،‬وقدم نامق كمال‪ -‬مشروعا للدستور العثماني‪ ،‬الى مدحت باشا وكان متأثرا‬
‫بالدستور الفرنسي (دستور نابليون الثالث عام ‪1852‬م)‪ .‬ورأى نامق كمال أن هذا هو المناسب‬
‫تماما لظروف الدولة العثمانية في ذلك الوقت وكان نامق كمال صديقا لمدحت باشا ولذلك تأثر‬
‫بقرار السلطان عبدالحميد في عزله وقد تحدث السلطان عبدالحميد عن نامق كمال في مذكراته‪:‬‬
‫(كان كمال بك أكثر من لفت انتباهي من بين عدة أشخاص أطلقوا على أنفسهم "العثمانيون‬
‫الجدد"‪ .‬كان إنسانا مضطربا جدا‪ .‬لتتوافق حياته العائلية مع حياته الخاصة‪ ،‬ولتتوافق حياته‬
‫القلمية مع حياته الفكرية‪.‬‬
‫يمكن أن تجزم بأن إنسانا ما‪ ،‬يستطيع عمل أمر ما‪ ،‬أو ل يستطيع‪ .‬لكنك لتستطيع القطع‬
‫بهذا بشكل من الشكال‪ ،‬وأنت تفكر في كمال بك‪ .‬ذلك لنه هو نفسه ليعرف نفسه تستطيع‬
‫القول أنه واحد من الشخاص النادرين‪ ،‬الذين يحيون حياتين مزدوجتين ‪ ،‬كل حياة تختلف عن‬
‫الخرى حسب مزاجه‪ .‬من يعرفونه عن قرب‪ ،‬يعرفون أنه‪ :‬عندما كان على وئام مع السراي‬
‫كتب (التاريخ العثماني) وعندما فسدت هذه العلقة‪ ،‬يعرفون أنه قطع رأس التنين بقوله‪( :‬كلب‬
‫‪-553-‬‬
‫هو الذي يأمن لخدمة صياد غير منصف)‪ .‬إنه إنسان متقلب‪ .‬ربما كان إنسانا مخلصا جدا‪،‬‬
‫يمكنك خلل ساعات أن تجعله يفكر مثلك‪ ،‬ول يمكنك معرفة عدد الساعات أو اليام التي‬
‫()‬
‫سيحمل فيها هذه الفكار) ‪. 1‬‬
‫بعد أن وجد السلطان عبدالحميد أن جماعة العثمانيين الجدد بقيادة مدحت باشا تمارس ضغطا‬
‫متواصلً لقبول أفكارها‪ ،‬وأجبرته على دخول الحرب العثمانية الروسية‪ ،‬عمل على تشتيت‬
‫أعضاء هذه الجمعية؛ فبدأ بنفي كبيرها وهو الصدر العظم مدحت باشا‪ .‬بعد ذلك مباشرة‪،‬‬
‫قامت ضد السلطان مؤامرتان لخلعه‪ .‬واحدة ‪ :‬بقيادة علي سعاوي وهو من أعضاء هذه‬
‫الجمعية‪ .‬والخرى‪ :‬ماسونية قامت بها جميعة كلنتي سكالييري ‪ -‬عزيز‪.‬‬
‫والمؤمرتان مدعومتان من إنكلترا‪ ،‬وفشلت كلتاهما‪ ،‬لكنهما جعلت السلطان يتشدد في مراقبة‬
‫الفكر الوافد والمتأثرين به‪ ،‬وقامت أثناء ذلك أيضا خلية سرية‪ ،‬من طلب المدرسة الحربية‪ ،‬في‬
‫استانبول من أصحاب الفكر الجديد‪ ،‬هدفها مقاومة حكم السلطان عبدالحميد ‪ ،‬حيث استطاع أحد‬
‫أعضاء جمعية (كلني‪-‬عزيز بك) الماسونية وهو (علي شفقتي بك) الفرار الى نابولي‪ ،‬والى‬
‫جنيف‪ ،‬حيث أصدر بين عامي ‪1879‬م و ‪1881‬م‪ ،‬جريدة مناهضة للحكم العثماني‪ ،‬بعنوان‬
‫(استقبال ) بمعنى المستقبل‪.‬‬
‫وفي عام ‪1889‬م تأسست منظمة طلبية في المدرسة العسكرية الطبية في استانبول‪ ،‬حيث‬
‫كان بعض الساتذة هناك يحرضون الطلب بشكل أو بآخر للقيام بمعارضة الحكم‪ ،‬ونشر أفكار‬
‫العثمانيين الجدد بين الطلب ‪ ،‬وكان المؤسس لهذه المنظمة إبراهيم تيمو الروماني الذي تأثر‬
‫بالمحافل الماسونية اليطالية‪ .‬وأطلق على هذه المنظمة التحاد العثماني واختاروا يوم الحتفال‬
‫بذكرى الثورة الفرنسية المئوية‪ ،‬تاريخا لنشاء منظمتهم وجعلوا من أهدافهم مقاومة حكم‬
‫السلطان عبدالحميد‪ ،‬وتكوين دولة مناسبة لفكار العصر السياسية‪ ،‬تتخذا من الدول الغربية‬

‫‪ )(1‬مذكرات السلطان عبدالحميد‪ ،‬ص ‪.47‬‬


‫‪-554-‬‬
‫()‬
‫نموذجا لها‪ ،‬مثل إنكلترا وفرنسا ألمانيا‪ ،‬والمناداة بالدستور والحرية والديمقراطية ‪. 1‬‬
‫ومن المدرسة العسكرية الطبية ‪ ،‬سرت أفكار جمعية (التحاد العثماني) الى مختلف المدارس‬
‫العليا الخرى‪ .‬وكانت خليا جمعية التحاد هذه سرية على نظام جميعة (الكاربونارى)‬
‫اليطالية‪.‬‬
‫ولم تكن الجمعية متعجلة‪ ،‬ل في الدعاية لفكارها‪ ،‬ول في الحركة ضد السلطان‪ .‬حتى إن‬
‫أحمد رضا بك قد وصل الى منصب مدير ادارة المعارف في منطقة بوصة‪ ،‬وسافر عام‬
‫‪1889‬م الى باريس بحجة حضور معرض باريس الدولي‪ ،‬ووصل الى هناك‪ ،‬وأعلن أنه لن‬
‫يرجع الى بلده‪ .‬ومكث في فرنسا حوالي ست سنوات‪ ،‬لم تصدر عنه حركة معارضة جديرة‬
‫بالتسجيل‪ ،‬الى حين أصدر جريدته (مشورات) عام ‪1895‬م‪.‬‬
‫ويذكر مؤسس جمعية التحاد ‪-‬وهو إبراهم تيمو‪ -‬أنه كان بمضي أوقاته في الخارج ‪-‬حتى‬
‫عام ‪1895‬م‪ -‬بمحاولة كسب أعضاء جدد لمنظمتهم ‪ ،‬لتربيتهم تربية ثورية‪ ،‬ويعقد الجتماعات‬
‫السرية‪ ،‬وقراءة العمال الدبية التي ألفها أعضاء جمعية العثمانيين الجدد‪ ،‬مثل نامق كمال‬
‫وضياء باشا وقراءة منشورات على شفقتي بك ‪-‬عضو كلنتي الماسونية‪ -‬وكان فارا في‬
‫()‬
‫أوروبا ‪. 2‬‬
‫ونتيجة للمراسلت السرية بين أعضاء جمية التحاد العثماني السرية في الداخل وفي الخارج‬
‫تم التفاق على وحدة العمل العسكري والمدني ضد السلطان ‪ ،‬وعلى اعتماد اسم (جمعية‬
‫التحاد والترقي) للجناحين المعارضين‪ ،‬العسكري والمدني‪ ،‬اللذين يعملن في إطار الجمعية‪.‬‬
‫كان اسم الجمعية في الوساط العسكرية هو (التحاد العثماني)‪ .‬وكان أحمد رضا بك ‪-‬ممثل‬
‫الجناح المدني‪ -‬متأثرا بأفكار الفيلسوف (أوغست كانت) وكان دستور هذا الفيلسوف‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.279‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مذكرات إبراهيم تيمو‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪-555-‬‬
‫هو‪(:‬النتظام والترقي) ‪ .‬فأخذ أحمد رضا كلمة (الترقي) استلهاما من دستور "كانت" واحتفظ‬
‫()‬
‫العسكريون بسمى (التحاد)‪ ،‬واتفق الجميع أن تكون جمعيتهم باسم (التحاد والترقي) ‪. 1‬‬
‫لقد تغلغلت خليا (التحاد والترقي) في وحدات الجيش‪ ،‬وبين موظفي الدولة من المدنيين‪،‬‬
‫واتحدا في العمل الموحد بعد اتفاق جناحيهما العسكري والمدني في باريس‪ ،‬للعمل الفعلي ضد‬
‫السلطان عبدالحميد‪ .‬واستطاعت الجمعية بالفعل إجبار السلطان في ‪ 24‬يوليو ‪1908‬م على‬
‫()‬
‫إعلن الدستور الذي كان قد أمر سابقا عام ‪1877‬م بوقف العمل به ‪. 2‬‬
‫وكان الفكر السياسي لجمعية التحاد والترقي يؤكد على المفاهيم الطورانية على المستويين‬
‫الداخلي والخارجي‪،‬والطورانية تسمية تشير الى وطن التراك الصلي ونسبته الى جبل توران‬
‫( ‪)3‬‬
‫وكان داخل حركة التحاد والترقي اتجاها قويا‬ ‫الواقع في المنطقة الشمالية الشرقية في إيران‬
‫يؤكد أن الترك هم من أقدم أمم الرض وأعرقها مجدا وأسبقها الى الحضارة‪ ،‬وأنهم هم‬
‫والجنس المغولي واحد في الصل‪ ،‬ويلزم أن يعودوا واحدا ويسمون ذلك بالجامعة الطورانية‬
‫ولم يقتصرا فيها على الترك الذين في سيبريا وتركستان والصين وفارس والقوقاز والناضول‬
‫وورسيا وكان شعارهم عدم التدين وإهمال الجامعة السلمية إل إذا كانت تخدم القومية‬
‫الطورانية‪ ،‬فتكون عندئذ وسيلة لغاية وهذا يعني أن هذا التجاه يدعوا الى إحياء عقائد الترك‬
‫الوثنية السابقة على أسلفهم‪ ،‬كالوثن التركي القديم (بوزقورت) أو الذئب البيض ‪-‬السود الذي‬
‫صوروه على طوابع البريد ووضعوا له الناشيد وألزما الجيش أن يصطف لنشادها عند كل‬
‫غروب‪ ،‬وكأنهم يحلون تحية الذئب محل الصلة‪ ،‬مبالغة منهم في إقامة الشعور العرقي محل‬
‫الشعور السلمي‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.280،281‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه ‪ ،‬ص ‪.281‬‬
‫‪ )(3‬أنظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.163‬‬
‫‪-556-‬‬
‫ويستشهد هؤلء برجالتهم في التاريخ أمثال‪ :‬أتلو وطغرك‪ ،‬جنكيزخان وتيمورلنك‪.‬‬
‫وقد تطرف هذا التجاه في الطورانية‪ ،‬إذ قالوا ‪( :‬نحن أتراك فكعبتنا طوران)‪ .‬وهم يتغنون‬
‫بمدائح جنكيز‪ ،‬ويعجبون بفتوحات المغول‪ ،‬ول ينكرون شيئا من أعمالهم‪ ،‬وينظمون الناشيد‬
‫للحداث في وصف الوقائع الجنكيزية ليطبعوهم على العجاب ويرفعوا مستوى نفوسهم‬
‫( ‪)1‬‬
‫ويوسف أقثور وجلل ساهر ويحيى كمال‬ ‫بزعيمهم ويمثل هذا التجاه كل من فياكوك الب‬
‫وحمدال صبحي ومحمد أمين بك الشاعر‪ ،‬وكثير من الدباء والمفكرين وأكثر الطلبة والنشئ‬
‫الجديد‪.‬‬
‫وكان تأثير اليهود على الطورانية أمر واضح وفي هذا الصدد يقول نيازي بركس في كتابه‬
‫(المعاصرة في تركيا) ‪( :‬أن لليهود الوروبيين واليهود المحليين) في الدولة العثمانية في‬
‫القرنيين التاسع عشر والعشرين دورا ضخما في إرساء تيار القومية الطورانية فالعلماء اليهود‬
‫في الغرب مثل لومالي دافيد وليون كاهون وارمينيوس فاميري تصدوا للكتابة عن أصول‬
‫الفكرة القومية الطورانية كما أن اليهود المحليين في الدولة العثمانية‪ ،‬مثل كراسوا (قراصو)‬
‫وموئيز كوهين وابارهام غالنتي ‪ ،‬كان لهم ضلع في جمعية التحاد والترقي وبمجرد أن‬
‫نجحت هذه الجمعية في الطاحة بحكم عبدالحميد ومن ثم الستيلء على السلطة تقدم الصهاينة‬
‫()‬
‫الى التحاديين برغبتهم في أن تعترف الجمعية بفلسطين وطنا قوميا لليهود‪. 2 )...‬‬
‫وقد ذكر نيازي بركس في كتابه السابق اسم اليهودي موئيز كوهين الذي وصفه رينيه بيلو‬
‫قائلً‪:‬‬
‫‪ -1‬إن كوهين هو من مؤسي الفكر القومي الطوراني في الدولة العثمانية‪.‬‬

‫‪ )(1‬أنظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.165‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪-557-‬‬
‫()‬
‫‪ -2‬إن كتاب مؤئيز كوهين هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية ‪. 3‬‬
‫كان اليهودي موئيز كوهين نشطا جدا في التعريف بحركة التحاد والترقي في الصحف‬
‫الوروبية‪ ،‬فقد كان يعرف بجانب العبرية والتركية‪ ،‬عدة لغات أوروبية‪ ،‬وبدأ هذا بمقال باللغة‬
‫()‬
‫الفرنسية يحمل عنوان (التراك يبحثون عن روح قومي) ‪. 2‬‬
‫لقد أسهم موئيز كوهين في التخطيط للسياسة العنصرية الطورانية التي سارت عليها جميعة‬
‫التحاد والترقي وهي السياسة التي شقت شعوب الدولة العثمانية وأوجدت بينها العداوة‬
‫والبغضاء‪.‬‬
‫وكان هذا اليهودي ليكل وليمل في نشر الفكر القومي التركي لتفتيت الدولة العثمانية‪ .‬وكتب‬
‫ثلثة كتب اعتمدت عند جمعية التحاد والترقي وهي‪( :‬ماذا يمكن أن يكسب التراك من هذه‬
‫الحرب) و(الطوران) و(سياسة التتريك)‪ .‬كما أسهم هذا الكاتب اليهودي في الكتابة للفكر الكمالي‬
‫()‬
‫بكتابة (الكمالية) وكتابة (الروح التركية) الذي أرخ فيه التطور العنصر التركي ‪. 3‬‬
‫لقد قامت جمعية التحاد والترقي على إثارة المشاعر القومية عند التراك‪ ،‬تحت حلم‬
‫الطورانية‪ ،‬وقد نادت بمفاهيم جديدة مثل الوطن والدستور والحرية‪ ،‬وكانت هذه المفاهيم غريبة‬
‫على العثمانيين‪ ،‬وقد ضمت في صفوفها مجموعة من الشباب المثقفين التراك‪ ،‬بالضافة الى‬
‫()‬
‫يهود الدونمة وكانت الغاية منها الطاحة بحكم عبدالحميد الثاني ‪. 4‬‬

‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.119‬‬


‫‪)(2‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.120‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية ‪،‬ص ‪.168‬‬
‫‪-558-‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫الطاحة بحكم السلطان عبدالحميد الثاني‬

‫كان السلطان عبدالحميد الثاني شديد الحذر من جمعية التحاد والترقي المدعومة باليهود‬
‫والمحافل الماسونية‪ ،‬والدول الغربية واستطاع جهاز مخابرات السلطان عبدالحميد أن يتعرف‬
‫على هذه الحركة ويجمع المعلومات عنها؛ إل أن هذه الحركة كانت قوية‪ ،‬وقد جاءت مراقبة‬
‫عبدالحميد لعضاء هذه الحركة في وقت متأخر ‪ ،‬حيث دفعوا الهالي الى مظاهرات صاخبة‬
‫في سلنيك ومناستر واسكوب وسوسن مطالبين بإعادة الدستور‪ ،‬بالضافة الى أن المتظاهرين‬
‫هددوا بالزحف على القسطنطينية‪ .‬المر الذي أدى بالسلطان الى الرضوخ على مطالب‬
‫المتظاهرين حيث قام بإعلن الدستور وإحياء البرلمان وذلك في ‪ 24‬تموز ‪1908‬م‪ ،‬وكانت‬
‫هناك عدة أسباب جعلت من جميعة التحاد والترقي أن تبقي السلطان عبدالحميد الثاني في تلك‬
‫الفترة على العرش منها‪:‬‬
‫‪ -1‬لم تكن في حوزة التحاد والترقي القوة الكافية بعزله في عام ‪1908‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬اتباع عبدالحميد الثاني سياسة المرونة معهم‪ ،‬وذلك بتنفيذ رغباتهم بإعادة الدستور‪.‬‬
‫‪ -3‬ولء العثمانيين لشخص السلطان عبدالحميد‪ .‬وهذه النقطة واضحة‪ ،‬حيث أن لجنة التحاد‬
‫والترقي لم تكن لها الجرأة الكافية على نشر دعايتها ضد السلطان عبدالحميد الثاني بين‬
‫()‬
‫الجنود ‪ ،‬لن هؤلء كانوا يبجلون السلطان ‪. 1‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫‪-559-‬‬
‫إن الصهيونية العالمية لم تقتصر على النقلب الدستوري لعام ‪1908‬م‪ ،‬بل تعاونت مع‬
‫جمعية التحاد والترقي لتحقيق مكاسب أخرى في فلسطين ‪ ،‬وعليه كان لبد من التخلص من‬
‫السلطان عبدالحميد الثاني نهائيا ولذلك دبرت أحداث في ‪ 31‬أبريل ‪1909‬م في استانبول‬
‫وترتب على أثرها‪ ،‬اضطراب كبير قتل فيه بعض عسكر جمعية التحاد والترقي؛ عرف‬
‫الحادث في التاريخ باسم حادث ‪ 31‬مارت‪.‬‬
‫وقد حدث هذا الضطراب الكبير في العاصمة بتخطيط أوروبي يهودي‪ ،‬مع رجال التحاد‬
‫الترقي وتحرك على أثره عسكر التحاد والترقي من سلنيك ودخل استانبول‪ ،‬وبهذا تم عزل‬
‫خليفة المسلمين السلطان عبدالحميد الثاني من كل سلطاته المدنية والدينية‪ .‬ثم وجهت إليه جمعية‬
‫التحاد والترقي التهم التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬تدبير حادث ‪ 31‬مارت‪.‬‬
‫‪ -2‬إحراق المصاحف‪.‬‬
‫‪ -3‬السراف‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -4‬الظلم وسفك الدماء ‪. 1‬‬
‫مع أن جميعة التحاد والترقي العثمانية‪ ،‬تبنت الفكار الغربية المضادة للسلم وللفكر‬
‫السلمي؛ لكنها استغلت الدين عند مخاطبتها للناس للتأثير فيهم‪ ،‬وكسب أنصار لهم في‬
‫معركتهم ضد السلطان عبدالحميد الثاني‪ .‬وقد نجحوا في ذلك‪.‬‬
‫تقول الجمعية في بياناتها الى العثمانيين‪( :‬أيها العثمانيون‪ :‬إن مقصدنا هو سلمة الدولة‬
‫والخلفة‪ ،‬ولم يعد أحد يجهل هذا)‪( .‬وبعون الباري وهمة الخوان) و(أيها المسلمون‪ :‬كفانا أن‬
‫نقوم بدور المتفرج على سلطان جبار‪ ،‬عديم اليمان‪ ،‬يسحق القرآن تحت أقدامه‪ ،‬وكذلك يسحق‬
‫الضمير واليمان) و(استيقظوا ياأمة محمد) و(الشجاعة الشجاعة يامسلمون الشجاعة منا والعون‬

‫‪)(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.50‬‬


‫‪-560-‬‬
‫من ال‪ .‬نصر من ال وفتح قريب) و(أيها المسلم الموحد! اقرأ باسم ربك) و(انهض أيها المسلم‬
‫الموحد! وانقذ دينك‪ ،‬وإيمانك من يد الظالمين‪ .‬وأنقذ بذلك نفسك! فهنا شيطان جبار يحمل فوق‬
‫رأسه تاجا‪ .‬وفي يده دينك وإيمانك‪ .‬فأنقذ دينك منه وإيمانك أيها الموحد) و(ياأيها المسلمون‪ :‬إن‬
‫السلطان عبدالحميد‬
‫‪-‬شرعا‪ -‬ليس بسلطان‪ ،‬ول خليفة! ومن ليصدق قولنا هذا ‪ :‬فلينظر في الكتاب والسنة‪ .‬لقد‬
‫أبرزت جمعيتنا باليات القرآنية‪ ،‬والحاديث النبوية‪ ،‬وأوامر ال وأوامر الرسول الموجهة الى‬
‫الحكومة والهالي‪.‬‬
‫لكن السلطان عبدالحميد‪ ،‬أشاح بوجهه بعيدا عن أوامر ال ‪ ،‬وأوامر الرسول ‪ .‬وبالتالي ‪:‬‬
‫أثبت ظلمه ولم يخجل من العتراض على ال؛ لذلك ينبغي على شعبنا ‪ ،‬أن يلجأ الى السلح‬
‫()‬
‫ضده وإذا لم يفعل الشعب هذا‪ ،‬فليتحمل إذا وزر ماعليه السلطان عبدالحميد من ظلم ‪. 1‬‬
‫لقد كان الفكر الحاكم في اتجاهات جمعية (التحاد والترقي) ‪ ،‬هو ‪ :‬الماسونية وهي لتعترف‬
‫بالديان‪ ،‬والفلسفة الوضعية (العقلنية وهي تنفي الدين) والعلمانية (وهي تبعد الدين عن الحياة)‪،‬‬
‫ومع ذلك استخدم الثوار التحاديون الدين لمحاربة السلطان عبدالحميد الثاني وافتروا عليه باسم‬
‫()‬
‫الدين ‪. 2‬‬
‫إن التهم التي وجهت للسلطان عبدالحميد الثاني لتثبت أمام البحث العلمي‪ ،‬والحجج‪،‬‬
‫والبراهين الدالة على برائته الكلية مما ينسب إليه‪ ،‬فقد أثبتت الدلة على عدم علم السلطان‬
‫عبدالحميد بحادث ‪ 31‬مارت‪ ،‬كما أنه (من المحال إحراق السلطان عبدالحميد للمصاحف‪ ،‬فهو‬
‫سلطان معروف بتقواه‪ ،‬ولم يعرف عنه تركه للصلة وأهماله للتعبد‪ ،‬كما أنه معروف بعدم‬
‫اسرافه ولنه ليعرف السراف فقد كان المال يتوفر معه دائما ولذلك فقد أزاح من على كاهل‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.282،283‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.283‬‬
‫‪-561-‬‬
‫الدولة أعباء كثيرة من ماله الخاص)‪ .‬وعن ظلمه وسفكه للدماء فلم يعرف عن السلطان‬
‫()‬
‫عبدالحميد هذا‪ ،‬وسفك الدماء لم يكن أبدا ضمن سياسته ‪. 1‬‬
‫ولم ل يغيب عن بال النقلبيين الضغط على مفتي السلم محمد ضياء الدين بإصدار فتوى‬
‫الخلع ففي يوم الثلثاء السابع والعشرين من شهر نيسان عام ‪1909‬م اجتمع ‪ 240‬عضوا من‬
‫مجلس العيان في جلسة مشتركة وقرروا بالتفاق خلع السلطان عبدالحميد الثاني وكتب مسودة‬
‫الفتوى ا لشيخ نائب حمدي افندي المالي لكن أمين الفتوى نوري أفندي الذي دعى للجتماع‬
‫رفض هذه المسودة وهدد بالستقالة من منصبه ان لم يجر تعديل عليها وأيده في التعديل عدد‬
‫من انصاره من النواب فعدل القسم الخير على أن يقرر مجلس المبعوثان عرض التنازل عن‬
‫العرش أو خلعه‪.‬‬
‫وإليكم نص الفتوى‪:‬‬
‫(الموقع عليها من شيخ السلم محمد ضياء الدين أفندي ووافق عليها مجلس المبعوثان‬
‫بالجماع "إذا قام أمام المسلمين زيد فجعل ديدنه طي واخراج المسائل الشرعية المهمة من‬
‫الكتب الشرعية وجمع الكتب المذكورة والتبذير والسراف من بيت المال واتفاقية خلف‬
‫المسوغات الشرعية وقتل وحبس وتغريب الرعية بل سبب شرعي وسائر المظالم الخرى ثم‬
‫اقسم على الرجوع عن غيه ثم عاد فحنث وأصر على أحداث فتنة ليخل بها وضع المسلمين‬
‫كافة فورد من المسلمين من كافة القطار السلمية بالتكرار مايشعر باعتبار زيد هذا مخلوعا‬
‫فلوحظ ان في بقائه ضررا محققا وفي زواله صلحا فهل يجب على أهل الحل والعقد وأولياء‬
‫المور أن يعرضوا على زيد المذكور التنازل عن الخلفة والسلطنة أو خلعه من قبلهم‪.‬‬
‫()‬
‫الجواب‪ :‬نعم يجب) ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.50‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬ص ‪.410‬‬
‫‪-562-‬‬
‫قرأت هذه الفتوى في الجتماع المشترك للمجلس الملي فصرخ النواب التحاديون نريد خلعه‬
‫()‬
‫وبعد مداولت تم الموافقة على خلع السلطان عبدالحميد الثاني ‪. 1‬‬
‫وبتكليف من جمعية التحاد والترقي تم تكوين لجنة لبلغ خليفة المسلمين وسلطان الدولة‬
‫العثمانية عبدالحميد الثاني بقرار خلعه‪ .‬وكانت هذه اللجنة تتألف من‪:‬‬
‫‪ -1‬إيمانويل قراصو‪ :‬وهو يهودي أسباني‪ .‬كان من أوائل المشتركين في حركة تركيا الفتاة‬
‫وكان مسؤلً أمام جميعة التحاد والترقي عن إثارة الشغب وتحريضه ضد السلطان عبدالحميد‬
‫الثاني وتأمين التخابر بين سلنيك واستانبول فيما يتعلق بالتصالت الحركة‪ .‬وقراصو هذا‬
‫محام‪ ،‬عملت جميعة التحاد والترقي بنجاح على تعينيه في المجلس النيابي العثماني نائبا عن‬
‫سلنيك مرة وعن استانبول مرتين‪ .‬وصفته المصادر النكليزية بأنه من قادة التحاد والترقي‪.‬‬
‫عمل أثناء الحرب مفتشا للعاشة ‪ ،‬واستطاع أثناء وجوده في هذا المنصب أن يجمع أموالً‬
‫كثيرة لحسابه الخاص‪ ،‬ولعب دورا هاما في احتلل إيطاليا لليبيا نظير مبلغ من المال دفعته إليه‬
‫إيطاليا‪ .‬واضطر نتيجة لخيانته للدولة أن يهرب الى إيطاليا ويحصل على حق المواطنة‬
‫اليطالية واستقر في تريسنا حيث مات عام ‪1934‬م‪ .‬وكان أثناء وجوده في الدولة العثمانية‬
‫الستاذ العظم لمحفل مقدونيا ريزولتا الماسوني‪.‬‬
‫‪ -2‬آرام ‪ :‬وهو أرمني عضو في مجلس العيان العثماني‪.‬‬
‫‪ -3‬أسعد طوبطاني‪ :‬وهو ألباني ‪ ،‬نائب في مجلس المبعوثان عن منطقة دراج‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -4‬عارف حكمت‪ :‬وهو فريق بحري وعضو مجلس العيان‪ ،‬وهو كرجبي العراق ‪. 2‬‬
‫يروي السلطان عبدالحميد في مذكراته تفاصيل هذه الحادثة فيقول‪( :‬إن مايحزنني ليس‬
‫البعاد عن السلطة‪ ،‬ولكنها المعاملة غير المحترمة التي ألقاها بعد كلمات أسعد باشا هذه والتي‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.410‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪-563-‬‬
‫خرجت عن كل حدود الدب ‪ ،‬حيث قلت لهم‪ :‬إنني أنحني للشريعة ولقرار مجلس المبعوثان‬
‫ذلك تقدير العزيز العليم‪ ،‬سوى إني أؤكد بأنه لم يكن لي أدنى علقة ل من بعيد ول من قريب‬
‫بالحداث التي تفجرت في ‪ 31‬مارت ثم أردف قائلً‪( :‬إن المسؤولية التي تحملتموها ثقيلة جدا)‪.‬‬
‫()‬
‫ثم أشار عبدالحميد الى قرصو قائلً‪( :‬ماهو عمل هذا اليهودي في مقام الخلفة ‪ 1‬؟ وبأي قصد‬
‫()‬
‫جئتم بهذا الرجل أمامي؟) ‪. 2‬‬
‫لقد اعتبر اليهود والماسونيون هذا اليوم عيدا لهم‪ ،‬وابتهجوا به وساروا بمظاهرة كبيرة في‬
‫مدينة سلنيك‪ ،‬ولم يكتف الماسونيون بذلك بل طبعوا صورة هذه المظاهرات في بطاقات بريدية‬
‫لتباع في أسواق تركيا العثمانية ولمدة طويلة‪ .‬لقد كان التحاديون يفتخرون دائما بأنهم‬
‫ماسونيون‪ .‬وقد أدلى رفيق مانياسي زادة بتصريحات الى صحيفة تمبس والفرنسية في باريس‬
‫عقب نجاح انقلب حركة التحاد والترقي‪ ،‬حيث جاء فيها‪(:‬لقد كانت للمساعدات المالية‬
‫والمعنوية التي تلقيناها من الجمعية الماسونية اليطالية التي أمدتنا بالعون العظيم نظرا لرتباطنا‬
‫()‬
‫الوثيق بها) ‪. 3‬‬
‫إن هذه العلقة بين الصهيونية والماسونية‪ ،‬وضحها السلطان عبدالحميد الثاني في الرسالة‬
‫التي وجهها الى الشيخ محمود أبي الشامات شيخه في الطريقة الشاذلية بعد خلعه وذلك في سنة‬
‫( ‪)4‬‬
‫وقد جاء في هذه الرسالة‪:‬‬ ‫‪1329‬هـ‬
‫(إن هؤلء التحاديون قد أصروا عليّ بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في‬
‫الرض المقدسة (فلسطين) ورغم اصرارهم‪ ،‬لم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف‪ ،‬وأخيرا‬
‫وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة انكليزية ذهبا‪ ،‬فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.219‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.220‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.221‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.223‬‬
‫‪-564-‬‬
‫أيضا‪ ،‬وأجبتهم بهذا الجواب القطعي‪( :‬إنكم لو دفعتم ملئ الدنيا ذهبا‪ ،‬فلن أقبل بتكليفكم هذا‬
‫بوجه قطعي‪ ،‬لقد خدمت الملة السلمية والمة المحمدية مايزيد على ثلثين سنة فلم أسود‬
‫صحائف المسلمين)‪ .‬وبعد جوابي هذا اتفقوا على خلعي‪ ،‬وأبلغوني أنهم سيبعدوني الى سلنيك‪،‬‬
‫فقبلت بهذا التكليف الخير‪ .‬هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن الطخ العالم السلمي‬
‫()‬
‫بهذا العار البدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الراضي المقدسة! فلسطين) ‪. 1‬‬
‫وفي مقال نشرت في جريدة (بويوك ضوغو) التركية في ‪ 2‬مايو عام ‪1947‬م العدد ‪61‬‬
‫يقول (محرم فوزي طوغاي) تحت عنوان (فلسطين والمسألة اليهودية) التي‪:‬‬
‫(منع السلطان عبدالحميد تحقيق هدف إنشاء دولة يهودية في فلسطين‪ ،‬وكلف هذا لمنع‬
‫السلطان عبدالحميد غاليا وأودى بعرشه‪ ،‬وأدى هذا فيما بعد الى انهيار الدولة العثمانية كلها)‪.‬‬
‫رغم أنه كان يدرك ‪-‬كما قال نظام الدين لبه دنلي أوغلو‪ -‬في دراسته عن دور اليهود في هدم‬
‫الدولة العثماينة أن‪( :‬اليهود يمتلكون قوى كثيرة تستطيع النجاح في العمل المنظم ‪ ،‬فالمال كان‬
‫عندهم والعلقات التجارية الدولية كانت في أيديهم‪ .‬كما كانوا يمتلكون الصحافة الوروبية‬
‫()‬
‫والمحافل الماسونية) ‪. 2‬‬
‫إن بعض أقطاب حركة التحاد والترقي اكتشفوا فيما بعد أنهم قد وقعوا تحت تأثير الماسونية‬
‫والصهيونية‪ ،‬فهذا أنور باشا الذي لعب دورا مهما في إنقلب عام ‪1908‬م‪ ،‬يقول في حديث له‬
‫مع جمال باشا أحد أركان جميعة التحاد والترقي‪( :‬أتعرف ياجمال ماهو ذنبنا؟ وبعد تحسر‬
‫عميق قال ‪( :‬نحن لم نعرف السلطان عبدالحميد ‪ ،‬فأصبحنا آلة بيد الصهيونية‪ ،‬واستثمرتنا‬
‫()‬
‫الماسونية العالمية‪ ،‬نحن بذلنا جهودنا للصهيونية فهذا ذنبنا الحقيقي) ‪. 3‬‬
‫وفي هذا المعنى‪ ،‬يقول أيوب صبري قائد التحاديين العسكريين‪( :‬لقد وقعنا في شرك‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.223‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.228‬‬
‫‪-565-‬‬
‫اليهود ‪ ،‬عندما نفذنا رغبات اليهود عن طريق الماسونيين لقاء صفيحتين من الليرات الذهبية في‬
‫الوقت الذي عرض فيه اليهود ثلثين مليون ليرة ذهبية على السلطان عبدالحميد لتنفيذ مطالبهم‪،‬‬
‫()‬
‫إل إنه لم يقبل بذلك) ‪. 1‬‬
‫ويقول في هذا الصدد برنارد لويس‪( :‬لقد تعاون الخوة الماسونيون واليهود بصورة سرية‬
‫على إزالة السلطان عبدالحميد‪ ،‬لنه كان معارضا قويا لليهود‪ ،‬إذ رفض بشدة إعطاء أي شبر‬
‫()‬
‫أرض لليهود في فلسطين) ‪. 2‬‬
‫وقد علق نجم الدين أربكان المجاهد الكبير زعيم حزب الرفاه في تركيا على هذا الموضوع‬
‫قائلً‪( :‬إن الحركة الماسونية سعت سعيا شديدا لعزل السلطان عبدالحميد‪ ،‬ونجحت في سعيها‬
‫وأن أول محفل فتح في تركيا العثمانية كان على يد أميل قره صو وهو صهيوني وقد انصم إليه‬
‫()‬
‫ضباط منطقة سالونيكا‪. 3 )...‬‬
‫وبعد إبعاد عبدالحميد الثاني من السلطة‪ ،‬عبرت الصحف اليهودية في سلنيك عن غبطتها‬
‫في الخلص من (مضطهد اسرائيل) كما وصفته هذه الصحف‪ .‬وفي هذا الصدد يقول لوثر ‪:‬‬
‫(وبعد إبعاد عبدالحميد من السلطة ‪ ،‬عبرت الصحف اليهودية في سلنيك عن غبتطها‪ ،‬وأخذت‬
‫تزف البشائر بالخلص من (مضطهد اسرائيل) الذي رفض استجابة طلب هرتزل لمرتين‪،‬‬
‫()‬
‫والذي وضع جواز السفر الحمر الذي يقابل عندنا قانون الجانب) ‪. 4‬‬
‫واستمرت الحملت العلمية المنظمة تشهر تشهيرا عنيفا بالسلطان عبدالحميد الثاني‬
‫استهدف أعداء السلم من تلك الحملت‪:‬‬
‫‪ -1‬الدفاع عن أعضاء التحاد والترقي‪ ،‬مبررين تصرفهم في إنهاء حكم السلطان عبدالحميد‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.229‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.229‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.229‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.230‬‬
‫‪-566-‬‬
‫كي تسترد الدولة مكانتها‪.‬‬
‫‪ -2‬تغطية فشل التحاد والترقي في حكم الدولة‪ ،‬فقد لجأ رجال التحاد والترقي الى القوة‬
‫والستبداد ‪ ،‬وأثاروا الفرقة بين سكان البلد‪.‬‬
‫‪ -3‬إبراز صورة مشرقة لعهد الطاغية الملحد مصطفى كمال آتاتورك وأعوانه‪ ،‬وتبرير‬
‫تصرفات عملء اليهود والنكليز والدول الغربية في إلغاء الخلفة والسلطنة وإعلن الجمهورية‬
‫التركية‪.‬‬
‫‪ -4‬رغبة الصهاينة في تدمير سيرة السلطان عبدالحميد الثاني إنتقاما منه لسياسته المعادية‬
‫()‬
‫لهدافهم في فلسطين ‪. 1‬‬
‫وحقيقة المر أنه لول أصالة الدولة العثمانية وعراقتها وشموخها لصبحت هباءً منبثا‪،‬‬
‫وطويت صفحاتها في القرن الثامن عشر او القرن التاسع عشر‪ ،‬ولكنها ظلت تقاوم عوادي‬
‫الزمن أكثر من قرنين ونتيجة للزحف الستعماري ‪ ،‬والكيد اليهودي ‪ ،‬والنخر الماسوني ‪،‬‬
‫والضعف الشديد الذي انتاب الدولة ‪ ،‬وهو ضعيف لم يكن للسلطان عبدالحميد مسؤلً عنه غدت‬
‫ممتلكات الدولة نهبا بين الدول الوروبية الستعمارية التي كانت تخطط منذ زمن بعيد للقضاء‬
‫()‬
‫على الدولة ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬الشناوي (‪.)1023-2/1018‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)2/1061‬‬
‫‪-567-‬‬
‫المبحث السادس‬
‫حكم التحاديين ونهاية الدولة العثمانية‬

‫تولى السلطنة والخلفة بعد السلطان عبدالحميد الثاني أخوه محمد رشاد إل أنه في الحقيقة‬
‫ليملك أي سلطة فعلية وإنما السلطة أصبحت بيد جمعية التحاد والترقي وغدت الحكومة‬
‫العثمانية تركية في مضمونها‪ ،‬قومية في عصبيتها ‪ ،‬بينما كانت من قبل عثمانية في مضمونها‬
‫وإسلمية في رابطتها‪ .‬فقد تأثرت هذه الجمعية بقوة الفكار القومية الطورانية التي تدعو الى‬
‫تحرير كافة التراك‪ .‬مدعين أن الشعوب السلمية في الناضول وآسيا الوسطى تشكل أمة‬
‫واحدة‪ ،‬وهي الفكار التي تطورت أخيرا بمجهودات بعض كتاب الجمعية وعلى رأسها موئيز‬
‫كوهين اليهودي‪ ،‬والكاتب التركي الشهير ضيا كوك آلب؛ فاتبعت سياسة التتريك وذلك بجعل‬
‫اللغة التركية هي اللغة الرسمية الوحيدة أن كانت تقف اللغة العربية الى جانبها‪ .‬فتأججت حركة‬
‫الدعوة الى القومية العربية‪ ،‬في مواجهة حركة التتريك‪.‬‬
‫كوّن العرب حزب اللمركزية وتعني أن تأخذ الوليات غير التركية استقللً ذاتيا وتبقي‬
‫خاضعة خارجيا لستانبول ‪-‬كما كونوا جمعيات سرية مثل الجمعية القحطانية برئاسة عبدالكريم‬
‫‪-568-‬‬
‫الخليل والضابط عزيز علي المصري‪ ،‬والجمعية العربية الفتاة التي تشكلت في باريس عام‬
‫‪1329‬هـ على منهج جمعية تركيا الفتاة ومن قبل طلب يدرسون هناك تشبعوا بالفكارت‬
‫الغربية وخاصة مبادئ العصبية القومية واستعمل بعضهم المصطلحات الماسونية وكان‬
‫قصدهم‪ :‬استقلل العرب التام‪ ،‬وقد نقلوا مقرهم من باريس الى بيروت ثم الى دمشق حيث‬
‫ازداد عدد العضاء وخاصة من النصارى العرب‪.‬‬
‫وتكونت الجمعية الصطلحية في بيروت عام ‪1331‬هـ وتعاونت مع جمعية النهضة‬
‫اللبنانية في المهجر فقدمتا رسالة مشتركة الى حكومة فرنسا عام ‪1331‬هـ التمستا فيها منها‬
‫احتلل سوريا ولبنان بينما اتجه بعض مثقفي العراق نحو النكليز وأيد بعضهم إقامة إشراف‬
‫()‬
‫بريطاني على برامج الصلح‪ ،‬بل وحتى الى بسط الحماية البريطانية على البلد ‪. 1‬‬
‫ولما بطش التحاديون بأعضاء الجمعيات العربية‪ ،‬قامت العربية الفتاة بعقد مؤتمر عربي في‬
‫باريس سنة ‪1332‬هـ‪1913/‬م‪ ،‬وقد هيأ الفرنسيون المكان المناسب لعقد الجتماع وقرر‬
‫المؤتمرون ‪:‬‬
‫‪ -1‬ضرورة تنفيذ الصلح بسرعة‪.‬‬
‫‪ -2‬اشراك العرب بالدارة المركزية‪.‬‬
‫‪ -3‬جعل اللغة العربية لغة رسمية في كافة الوليات العربية ‪.‬‬
‫‪ -4‬جعل الخدمة العسكرية محلية بالنسبة للعرب إل حين الضرورة ‪.‬‬
‫‪ -5‬التعاطف مع مطالب الرمن ‪.‬‬
‫وأكد العضاء بأن حركتهم ل دينية وتعادل عدد النصارى مع عدد المسلمين في المؤتمر‬
‫()‬
‫وكان برئاسة عبدالحميد الزهراوي ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية ‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬ص ‪.249‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي ‪،‬د‪ .‬جميل المصري (‪.)1/109‬‬
‫‪-569-‬‬
‫وقد علقت فرنسا آمالً كبيرة على المؤتمر وكان لها العديد من النصار في داخله ثم قامت‬
‫بنشر مقرراته‪.‬‬
‫ولما قامت الحرب العالمية الولى (‪1337-1333‬هـ‪1948-1914/‬م) دخلت تركيا الحرب‬
‫الى جانب دول الوسط (ألمانيا والنمسا) في حين تمكن النكليز (بمراسلت الحسين مكماهون)‬
‫من جر العرب الى جانب الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وورسيا) فسادت فكرة القومية العربيةووقع‬
‫()‬
‫الصدام بين العرب والترك ‪. 1‬‬
‫وسقطت تركيا بعد هزيمتها في الحرب واحتل الحلفاء واليونان أجزاء منها ووقعت الستانة‬
‫تحت سيطرة النكليز وأصبح الخليفة كالسير فيها‪.‬‬
‫إن خلع السلطان عبدالحميد وقيام جمعية التحاد والترقي في الحكم كانت خطوة أساسية نحو‬
‫تحقيق المخطط الذي تم أثناء الحرب وبعد الحرب في مراحل نلخصها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬اتفاق الحلفاء على تقسيم العالم السلمي الخاضع للدولة العثمانية بين الحلفاء‪ ،‬تجلى ذلك‬
‫في معاهدة سايكس بيكو سنة ‪1334‬هـ‪1916/‬م السري في الوقت الذي وعد فيه العرب‬
‫بالستقلل‪ .‬وأهم ماتضمنته هذه المعاهدة‪:‬‬
‫• أن يكون جنوب العراق لبريطانيا‪ ،‬وساحل سوريا الشمالي (لبنان والساحل الشمالي من‬
‫سوريا) لفرنسا‪.‬‬
‫• تتكون دولتنا عربيتان شمال العراق وأواسط بلد الشام وجنوبها‪ ،‬يكون النفوذ في الولى‬
‫التي تشمل شمال العراق وشرق الردن لبريطانيا‪ ،‬والنفوذ في الثانية التي تشكل أواسط سوريا‬
‫والجزيرة الفراتية لفرنسا‪.‬‬
‫• تكون فلسطين دولية‪.‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/110‬‬


‫‪-570-‬‬
‫()‬
‫• تكون الستانة والمضائق (البسفور والدردنيل) لروسيا ‪. 2‬‬
‫‪ -2‬وعد بلفور الذي أصدرته بريطانيا للصهيونية في ‪1917 /2/11‬م (محرم ‪1326‬هـ)‬
‫بأن تكون فلسطين وطنا قوميا لليهود‪.‬‬
‫‪ -3‬تسليم تركيا لبشع حركة تغريب وتدمير للقيم السلمية بنقلها من دولة ذات طابع‬
‫إسلمي إلى دولة غربية الطابع‪ ،‬فيمكن القول بأن الفترة التي بدأت في تركيا بخلع السلطان‬
‫عبدالحميد وتولي التحاديين للحكم هي الفترة التي اجتمعت فيها إرادة الحاكمين والستعمار‬
‫على تصفية الدولة العثمانية وإبراز طابع الجامعة الطورانية وإبلغ العلقة بين الترك والعرب‬
‫أشد مراحلها عنفا وقسوة مما مهد إلى زوال الدولة والتهام الغرب للجزاء العربية ومنح اليهود‬
‫()‬
‫وعد بلفور الذي يعطيهم الحق في إقامة دولة فلسطين ‪. 2‬‬
‫فقد قام التحاديون بتوجيه الدولة وجهة قومية ل دينية‪ ،‬ولما احتل النجليز استانبول‬
‫( الستانة ) وأصبح الخليفة شبه أسير في أيديهم‪ ،‬وأصبح المندوب السامي البريطاني والجنرال‬
‫()‬
‫هازنجتون ( القائد العام لقوات الحلفاء في استانبول ) هما أصحاب السيادة الفعلية ‪. 3‬‬
‫وكانت اللعبة العالمية للقضاء على الخلفة العثمانية نهائيا تستدعي اصطناع بطل تتراجع‬
‫أمامه جيوش الحلفاء الجرارة وتعلق المة السلمية اليائسة فيه أملها الكبير وحلمها المنشود‪،‬‬
‫وفي أوج عظمته وانتفاخه ينقض على الرمق الباقي في جسم المة فينهشه ويجهز عليها وهذا‬
‫()‬
‫أفضل قطعا من كل الـ " مائة مشروع لتقسيم تركيا " وهدم السلم ‪. 4‬‬
‫وتمت صناعة البطل بواسطة المخابرات النجليزية بنجاح باهر‪ ،‬وظهر مصطفى كمال‬

‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪)1/110‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪)1/110‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/111‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬العلمانية ‪ ،‬د‪ .‬سفر الحوالي ‪ ،‬ص ‪.569‬‬
‫‪-571-‬‬
‫بمظهر المنقذ لشرف الدولة من الحلفاء واليونان الذين احتلوا أزمير بتمكين من بريطانيا سنة‬
‫‪1338‬هـ وتوغلوا في حقد صليبي دفين في الناضول‪ ،‬فقام مصطفى كمال باستثارة روح‬
‫الجهاد في التراك ورفع القرآن ورد اليونانيين على أعقابهم‪ ،‬وتراجعت أمامه قوات الحلفاء‬
‫بدون أن يستعمل أسلحته وأخلت أمامه المواقع وبدأ مصطفى كمال يطفوا على السطح تدريجيا‬
‫فقد ابتهج العالم السلمي وأطلق عليه لقب الغازي ومدحه الشعراء وأشاد به الخطباء‬
‫( ‪)1‬‬
‫فأحمد شوقي قرنه بخالد بن الوليد في أول بيت من قصيدة مشهورة‬
‫ال أكبر كم في الفتح من عجب‬
‫يا خالد الترك جدد خالد العرب‬
‫ثم يجعله في مصاف صلح الدين اليوبي حين يقول‪:‬‬

‫حذوت حرب الصلحيين في زمن‬


‫فيه القتال بل شرع ول أدب‬
‫وشبه انتصاره بانتصار بدر فيقول‪:‬‬
‫يوم كبدر فخيل الحق راقصه‬
‫على الصعيد وخيل ال في السحب‬
‫تهيئة أيها الغازي وتهنئة‬
‫( ‪)2‬‬
‫بآية الفتح تبقى آية الحقب‬
‫فكان الناس إذا قارنوا كفاح مصطفى كمال المظفر باستسلم الخليفة وحيد الدين محمد‬
‫السادس القابع في الستانة مستكينا لما يجري عليه من الذل‪ ،‬كبر في نظرهم الول بمقدار‬
‫مايهون الثاني‪ ،‬وزاد في سخطهم على الخليفة ما تناقلته الصحف بإهدار دم مصطفى كمال‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/111‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/111‬‬
‫‪-572-‬‬
‫واعتباره عاصيا متمردا‪ .‬ولم يكن مصطفى كمال في نظرهم إل بطلً مكافحا يغامر بنفسه‬
‫لستعادة مجد الخلفة‪ ،‬الذي خيل إليهم أن الخليفة يمرغه في التراب تحت أقدام الجيوش‬
‫المحتلة‪.‬‬
‫ولكنه لم يلبث غير قليل حتى ظهر على حقيقته صنيعة لعداء السلم من اليهود والنصارى‬
‫وخاصة انجلترا التي رأت أن الغاء الخلفة ليس بالمر الهين وإن ذلك ليمكن أن يتم دون‬
‫اصطناع بطل وإعطائه صورة عظيمة وإظهار هالة حوله وتصويره وكأن الكرامات تجري‬
‫على يديه وعندها يمكن توجيه الطعنة على يديه بل ألم عميق إذ الشعور قد تخدّر من نشوة‬
‫النتصارات الزائفة‪ ،‬فالخلفاء أنفسهم هم الذين اصطنعوا القلقل وطلبوا من السلطان إخمادها‬
‫واقترحوا اسم مصطفى كمال لتلك المهمة ليصبح محط آمال الناس وموضع تقدير ضباط‬
‫الجيش فتتصاعد مكانته وهيبته وتتدهور سمعة الخليفة وينحط مركز الخلفة في أعين الناس‪،‬‬
‫()‬
‫فألعيب النجليزية لتدرك بسهولة ‪. 1‬‬
‫لقد استطاعت المخابرات النجليزية أن تجد ضالتها المنشودة في شخصية مصطفى كمال‬
‫وكانت تلك العلقة بين المخابرات النجليزية ومصطفى كمال بواسطة رجل المخابرات‬
‫النجليزي ( أرمسترونج ) الذي تعززت علقته في فلسطين وسورية‪ ،‬عندما كان مصطفى‬
‫كمال قائدا هناك في الجيش العثماني‪.‬‬
‫نجد أرمسترونج في كتابه عن مصطفى كمال يضع إصبعه بصراحة على بداية العقد النفسية‬
‫عند مصطفى كمال حينما يشير إلى الزواج الثاني لوالدته من أحد الروديسيين الميسورين‪،‬‬
‫وانقطاعه عن زيارتها ولجوئه إلى أصحابه من الرهبان المقدونيين‪ ،‬الذين تلقفوه فلقنوه مبادئ‬
‫اللغة الفرنسية‪ ،‬مع صديقه المقدوني " فتحي "‪ .‬فإلتهما كتب فولتير وروسو ومؤلفات هوبز‬
‫وجون ستيورات ميل وغيرها من الكتب الممنوعة‪ ،‬حتى أصبح ينظم الشعر الملتهب بمشاعر‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ص ‪.277‬‬


‫‪-573-‬‬
‫القومية ويخطب في ملئه بالكلية العسكرية‪ ،‬فيحدثهم عن فساد السلطان‪ ،‬قبل أن يتجاوز‬
‫العشرين من العمر‪ ،‬ثم انتقل إلى استانبول وانغمس في ملهيها وحاناتها‪ ،‬وراح يشرب ويقامر‬
‫()‬
‫ويغازل‪ ،‬قبل أن يسجن لنضمامه إلى ( جمعية وطن ) ‪. 1‬‬
‫ويشهد ارمسترونج بعلقة التحاد والترقي بالدونمة والماسونية في معرض تأريخه لحياة‬
‫مصطفى كمال فيذكر كيف ( دعي لحضور أحد اجتماعاتها في بيوت بعض اليهود المنتمين‬
‫للجنسية اليطالية‪ ،‬والجمعيات الماسونية اليطالية إذ أن جنسيتهم هذه تحميهم بحكم المعاهدات‬
‫والمتيازات الجنبية وقد دأب التحاديون على الحتماء بحصانة اليهود‪ ،‬فكانوا يجتمعون في‬
‫بيوتهم آمنين من كل خطر‪ ،‬وكان بعضهم كفتحي المقدوني صديق كمال القديم‪ ،‬قد انضم إلى‬
‫جماعة الماسون ( البنائين الحرار ) ويروي كيف استعانوا على تأليف جمعيتهم الثورية‬
‫وتنظيمها باقتباس أساليب المنظمات الماسونية‪ ،‬وصاروا يتلقون العانات المالية الوافرة من‬
‫مختلف الجهات ويتصلون باللجئين السياسيين الذين نفاهم السلطان إلى خارج البلد‪.‬‬
‫ويكشف ارمسترونج كيف وقع الختيار على مصطفى كمال وحده‪ ،‬من دون بقية أقرانه‪،‬‬
‫لتنفيذ آخر خطوة في الخطة البريطانية فيقول‪ ( :‬ان طبيعته كانت تميل إلى أن يكون المر‬
‫الناهي‪ ،‬فلم يظهر أي احترام لزعماء التحاديين‪ ،‬وتشاجر مع ‪ :‬أنور وجمال وجاويد اليهودي‬
‫الصل‪ ،‬ونيازي اللماني المتوحش‪ ،‬وطلعت الدب الكبير‪ ،‬الذي كان موظفا صغيرا في مصلحة‬
‫البريد‪.‬‬
‫وبعد أن تحول مصطفى كمال من مجرد ضابط صغير ثائر على الوضاع الى قائد عسكري‬
‫يملك رصيدا من المجاد والنتصارات لقبت بـ(الغازي) بفضل نفوذ رجال الستخبارات‬
‫البريطانية‪ ،‬ويذكرنا أرمسترونج صفحة جديدة من حياته الخاصة بعد كشفه عن مجونه وفسقه‪،‬‬
‫وأهليته لنسف الخلفة السلمية ‪ ،‬فيتطرق الى زواجه السطوري من (لطيفة) تلك الفتاة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬ص ‪.265،266‬‬


‫‪-574-‬‬
‫الميرية الموسرة التي عادت لتوها من باريس لتقدم خبراتها الدارية وثقافتها العصرية‬
‫وإجادتها لعدة لغات فضلً عن أنوثتها وسحرها مع قصر أبيها الفاخر في أزمير الى الغازي‬
‫مصطفى كمال ‪ ،‬الذي أوقعته في حبائلها بتمنعها ودللها فتخلص من (فكرية ) التي أرسلها الى‬
‫ميونخ للعلج من المرض الذي نقله إليها‪ ،‬ثم دبر أمر انتحارها كما تخلص من (صالحة) ليقوم‬
‫بزواج خاطف من (لطيفة) بعد أفسد حياة (سعادت) وعشرات البنات والنساء والغلمان وغيرها‪،‬‬
‫()‬
‫كما تؤكد ذلك الوثائق التي تركها أحد زملئه من الضباط المتقاعدين ‪ . 1‬وقد كانت لطيفة‬
‫نفسها ضحية من ضحاياه‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬حيث طلقها بقرار وزاري ‪ ،‬وتركها فريسة للمراض‬
‫والوجاع‪ ،‬بعد تحذيرها للصمت من كل شذوذه‪ ،‬ولم تبق بجانبه إل (عفت) ‪ ،‬تلك الفنانة التي‬
‫كانت له معلمة ومؤرخة‪ ،‬حتى استطاعت أن تقود ذلك الوحش ‪-‬على حد تعبير ‪ -‬بأسلوب‬
‫الخضوع والعبودية له‪.‬‬
‫ولكن (لطيفة) هانم أشاكي كيل لك يمنعها قانون حماية مطصفى كمال من أي هجوم أو نقد‬
‫من التلميح بين سطور مذكراتها التي نشرتها صحيفة (الحرية) التركية في حزيران (يونيو) عام‬
‫‪1973‬من تسليط بعض الضواء على حياة أتاتورك الخاصة وأفراطه في الشرب‪ ،‬محاولة إلقاء‬
‫المسؤولية على اصحابه وزملئه أمثال‪( :‬قلج علي) و(نوري جنكر) ‪ ،‬و(رجب هدى) الذي‬
‫كانوا يتعمدون اهدار وقته وهم مجموعة من القتلة والشقياء المعروفين الذين ضمهم الى‬
‫حاشيته ولحراسته وأصبح بعضهم يرفع الكلفة معه الى أبعد الحدود بعد تنفيذهم للعديد من‬
‫()‬
‫المهمات الجرامية التي كلفهم بها للتخلص من بعض خصومه ‪. 2‬‬
‫إن تلك الخلق العفنة التي اشتهر بها مصطفى كمال لتستغرب منه خصوصا عندما نعلم‬
‫أن أصله من يهود الدونمة‪.‬‬
‫فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية ‪( :‬لقد أكد الكثير من اليهود سلنيك أن كمال آتاتورك‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬ص ‪.267‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.267‬‬
‫‪-575-‬‬
‫كان أصله من الدونمة‪ ،‬وهذا هو أيضا رأي السلميين المعارضين لكمال آتاتورك‪ ،‬ولكن‬
‫()‬
‫الحكومة تنكر ذلك) ‪. 1‬‬
‫ويعلق تويني على نسب مصطفى كمال قائلً‪( :‬إن دما يهوديا يجري في عروق السرة‬
‫الكمالية‪ .‬فقد كانت سلنيك مهبط اليهود أيام محنتهم‪ .‬وقد درؤوا عقائدهم باعتناق السلم ‪.‬‬
‫ولكن طبائع مصطفى كمال ولون عينه وتكوينه الجسمي يبعده عن أن يكون متأثرا بدماء‬
‫()‬
‫يهودية) ‪. 2‬‬
‫ويقول أسامة عيناي ‪( :‬أن الدونمة يعتزون كثيرا بآتوتورك ويعتقدون اعتقادا راسخا أنه منهم‬
‫()‬
‫وحجتهم في ذلك أن أتاتورك أسفر عن نياته ضد السلم حين تولى الحكم) ‪. 3‬‬
‫إن افعال مصطفى كمال دلت على بغضه للسلم فيما بعد‪ ،‬فبينما كان في عام ‪1337‬هـ‬
‫عندما انتصر على اليونان في أنقرة يعلن أمام الشعب‪( :‬إن كل التدابير التي ستتخذ ل يقصد‬
‫()‬
‫منها غير الحتفاظ بالسلطنة والخلفة وتحرير السلطان والبلد من الرق الجنبي) ‪ ، 4‬نجده بعد‬
‫أن تمكن من العباد والبلد في عام ‪1341‬هـ‪1923/‬م تعلن الجمعية الوطنية التركية بزعامته‬
‫عن قيام الجمهورية التركية وانتخب مصطفى كمال أول رئيس لها‪ ،‬وتظاهر بالحتفاظ مؤقتا‬
‫بالخلفة فاختير عبدالمجيد بن السلطان عبدالعزيز خليفة بدلً من محمد السادس الذي غادر‬
‫()‬
‫البلد على بارجة بريطانية الى مالطة ولم يمارس السلطان عبدالمجيد أي سلطات للحكم ‪. 5‬‬
‫كان الخليفة عبدالمجيد رجلً مهذبا مثقفا كما يليق بسللة بني عثمان‪ ،‬وقد اصبح في نظر‬
‫التراك الصلة الحية بالتراث والتاريخ العثماني السلمي ‪ ،‬وكانت جماهير استانبول تهرع‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬يهود الدونمة‪ ،‬د‪.‬النعيمي‪ ،‬ص ‪ 87‬الى ‪.89‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.90‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/112‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/112‬‬
‫‪-576-‬‬
‫للقاء نظرة عليه وتحيته كل جمعة وهو في طريقه لداء الفريضة‪ ،‬وكان الخليفة مدركا تمام‬
‫الدراك مكانة منصبه السامية‪ ،‬وعراقة السللة التي ينتمي إليها‪ ،‬فكان مرة يرتدي عمامة محمد‬
‫الفاتح وثانية يتقلد لسيف السلطان سليمان القانوني‪.‬‬
‫استشاط مصطفى كمال غيظا فما كان ليطيق أن يرى أو يسمع عن محبة الناس وتعلقهم بآل‬
‫عثمان وبالخلفة والسلطنة‪ ،‬فمنع الخليفة من الخروج للصلة ثم خفض مخصصاته للنصف‬
‫وحكم مصطفى كمال البلد بالحديد والنار‪ ،‬وضمن تأييد الدول العظمى لسياسته التعسفية‪.‬‬
‫دعا مصطفى كمال الجمعية التأسيسية إلى اجتماع في ‪ 3‬آذار‪ /‬مارس ‪1924‬م‪ ،‬وكان على‬
‫ثقة تامة من أن أحدا في الجمعية التأسيسية ‪ -‬التي لم يبقى منها سوى اسمها ‪ -‬لن يجرؤ على‬
‫معارضته‪ ،‬وطرح على الجمعية مشروع قرار بإلغاء الخلفة التي أسماها " هذا الورم من‬
‫()‬
‫القرون الوسطى " ‪ ، 1‬وقد أجيز القرار الذي شمل نفي الخليفة في اليوم التالي دون مناقشة‪،‬‬
‫وانطفأت على يد مصطفى كمال شعلة الخلفة التي كان المسلمون طيلة القرون يستمدون من‬
‫()‬
‫بقائها رمز وحدتهم واستمرار كيانهم ‪. 2‬‬
‫لقد كان مصطفى كمال ينفذ مخططا مرسوما له في المعاهدات التي عقدت مع الدول الغربية‪،‬‬
‫فقد فرضت معاهدة لوزان سنة ‪1340‬هـ‪1923/‬م على تركيا فقبلت شروط الصلح والمعروفة‬
‫بشروط كرزون الربع " وهو رئيس الوفد النجليزي في مؤتمر لوزان " وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬قطع كل صلة لتركيا بالسلم‪.‬‬
‫‪ -2‬إلغاء الخلفة السلمية إلغاءً تاما‪.‬‬
‫‪ -3‬إخراج الخليفة وأنصار الخلفة والسلم من البلد ومصادرة أموال الخليفة‪.‬‬
‫()‬
‫‪ -4‬اتخاذ دستور مدني بدلً من دستور تركيا القديم ‪. 3‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬التاريخ العثماني في شعر أحمد شوقي لمحمد ابوغدة ‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.110‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬تاريخ الدولة العثماني‪ ،‬د‪.‬علي حسون ‪،‬ص ‪.287‬‬
‫‪-577-‬‬
‫وعم الستياء الشديد العالم السلمي‪ ،‬فشوقي الذي مدحه سابقا بكى الخلفة فقال‪:‬‬
‫عادت أغاني العرس رَجْعَ نواح‬
‫ونُعيتِ بين معالم الفراح‬
‫كُفِنتِ في ليلِ الزِفاف بثوبه‬
‫ودُفنتِ عند َت َبلُج الصباحِ‬
‫ضَجَتْ عليك مآذن ومنابر‬
‫وبكيت عليك ممالكُ ونواحِ‬
‫الهندُ والهة‪ ،‬ومصر حزينة‬
‫تبكي عليك بمدمع سحاحِ‬
‫والشام تسأل‪ ،‬والعراق وفارسٌ‬
‫أمَحا من الرض الخلفة ماحِ‬
‫ياللرجال لحُرةٍ مؤودة‬
‫ُقتِلتْ بغير جريرة وَجُناحِ‬

‫ثم انبرى شوقي بوجه التقريع والنقد الشديد الى اتاتورك الذي يريد بجرة قلم وبالحديد والنار‬
‫أن ينقل التراك رغم أنوفهم من آسيا الى أوروبا ‪ ،‬ومن جذورهم العميقة في الشرق الى‬
‫النتظار على أبواب الغرب‪:‬‬
‫بَكتِ الصلة وتلك فِتنةُ عابثٍ‬
‫بالشرع عربيدِ القضاء وَقاحِ‬
‫أفتى خُزَعبلةٍ وقال ضللة‬
‫وأتى بكفر في البلد بُواحِ‬
‫إن الذين جرى عليهم فِ ْقهُهُ‬
‫‪-578-‬‬
‫خُلقِوا لفِقِهِ كتبية وسِلحِ‬
‫نَقَل الشرائعَ والعقائد والقُرى‬
‫والناسَ نَقْلَ كتائب في الساحِ‬
‫تركته كالشبح المؤلة أمه‬
‫لم تَسْلُ َبعْدُ عبادة الشباحِ‬
‫غرته طاعات الجموع ودولة‬
‫( ‪)1‬‬
‫وَجَد السواد لها هوى المرتاح‬
‫ولم يترك شوقي أن يبين سبب ظهور هؤلء المتسلطين الى جهل الشعوب واستسلمها‬
‫للطغاة المستبدين فقال‪:‬‬
‫مجدُ المور زواله في زَلةٍ‬
‫ل ترْج ل سمك بالمور خلودا‬
‫خلعته دون المسلمين عِصابةُ‬
‫لم يجعلوا للمسلمين وجودا‬
‫يقضون ذلك عن سواد غافل‬
‫خُلِقَ السواد مضَلَل ومَسْودا‬
‫إلـيّ نظرت الى الشعوب فلم أجد‬
‫كالجهل داءً للشعوب مُبيْدا‬
‫وإذا سبي الفردُ المسلط مجلسا‬
‫( ‪)2‬‬
‫ألفيت أحرار الرجال عبيدا‬

‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬التاريخ العثماني في شعر أحمد شوقي‪ ،‬ص ‪.112‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الشوقيات ديوان احمد شوقي (‪.)1/112‬‬
‫‪-579-‬‬
‫لقد نفذ مصطفى كمال المخطط كاملً وابتعد عن الخطوط السلمية ودخلت تركيا لعمليات‬
‫التغريب البشعة؛ فألغيت وزارة الوقاف سنة ‪1343‬هـ‪1924/‬م‪ ،‬وعهد بشؤونها الى وزارة‬
‫المعارف‪ .‬وفي عام ‪1344‬هـ‪1925/‬م أغلقت المساجد وقضت الحكومة في قسوة بالغة على‬
‫كل تيار ديني وواجهت كل نقد ديني لتدبيرها بالعنف‪ .‬وفي عام‬
‫(‪1350-1351‬هـ‪1932-1931/‬م) حددت عدد المساجد ولم تسمح بغير مسجد واحد في كل‬
‫دائرة من الرض يبلغ محيطها ‪500‬متر وأعلن أن الروح السلمية تعوق التقدم‪.‬‬
‫وتمادى مصطفى كمال في تهجمه على المساجد فخفض عدد الواعظين الذين تدفع لهم الدولة‬
‫أجورهم الى ثلثمائة واعظ ‪ ،‬وأمرهم أن يفسحوا في خطبة الجمعة مجالً واسعا للتحدث على‬
‫الشؤون الزراعية والصناعية وسياسة الدولة وكيل المديح له‪ .‬وأغلق أشهر جامعين في‬
‫استانبول وحول أولهما وهو مسجد آيا صوفيا الى متحف‪ ،‬وحول ثانيهما وهو مسجد الفاتح الى‬
‫مستودع‪.‬‬
‫أما الشريعة السلمية فقد استبدلت وحل محلها قانون مدني أخذته حكومة تركيا عن القانون‬
‫السويسري عام ‪1345‬هـ‪1926/‬م‪ .‬وغيرت التقويم الهجري واستخدمت التقويم الجريغوري‬
‫الغربي‪ ،‬فأصبح عام ‪1342‬هـ ملغيا في كل أنحاء تركيا وحل محله عام ‪1926‬م‪.‬‬
‫• وفي دستور عام ‪1347‬هـ‪1928/‬م أغفل النص على أن تركيا دولة إسلمية‪ ،‬وغير نص‬
‫القسم الذي يقسمه رجال الدولة عند توليهم لمناصبهم‪ ،‬فأصبحوا يقسمون بشرفهم على تأدية‬
‫الواجب بدلً من أن يحلفوا بال كما كان عليه المر من قبل‪.‬‬
‫• وفي عام ‪1935‬م غيرت الحكومة العطلة الرسمية فلم يعد الجمعة‪ ،‬بل أصبحت العطلة‬
‫الرسمية للدولة يوم الحد‪ ،‬وأصبحت عطلة نهاية السبوع تبدأ منذ ظهر يوم السبت وتستمر‬
‫حتى صباح يوم الثنين‪.‬‬
‫• وأهملت الحكومة التعليم الديني كلية في المدارس الخاصة‪ ،‬ثم تم إلغاءه بل أن كلية‬
‫الشريعة في جامعة استانبول بدأت تقلل من أعداد طلبها التي أغلقت عام ‪1352‬هـ‪1933/‬م‪.‬‬
‫‪-580-‬‬
‫• وامعنت حكومة مصطفى كمال في حركة التغريب فأصدرت قرارا بإلغاء لبس الطربوش‬
‫()‬
‫وأمرت بلبس القبعة تشبها بالدول الوروبية ‪. 1‬‬
‫• وفي عام ‪1348‬هـ‪1929/‬م بدأت الحكومة تفرض إجباريا استخدام الحرف اللتينية في‬
‫كتابة اللغة التركية بدلً من الحرف العربية‪ .‬وبدأت الصحف والكتب تصدر بالحرف اللتينية‬
‫وحذفت من الكليات التعليم باللغة العربية واللغة الفارسية‪ ،‬وحرم استعمال الحرف العربي لطبع‬
‫المؤلفات التركية واما الكتب التي سبق لمطابع استانبول أن طبعتها في العهود السالفة‪ ،‬فقد‬
‫صدرت الى مصر‪ ،‬وفارس‪ ،‬والهند‪ ،‬وهكذا قطعت حكومة تركيا مابين تركيا وماضيها‬
‫السلمي من ناحية‪ ،‬ومابينها وبين المسلمين في سائر البلدان العربية والسلمية من ناحية‬
‫()‬
‫اخرى ‪. 2‬‬
‫• وأخذ أتاتورك ينفخ في الشعب التركي روح القومية‪ ،‬واستغل مانادى به بعض المؤرخين‬
‫من أن لغة السومريين أصحاب الحضارة القديمة في بلد مابين النهرين كانت ذات صلة باللغة‬
‫التركية فقال‪ :‬بأن التراك هم أصحاب أقدم حضارة في العالم ليعوضهم عما أفقدهم إياه من قيم‬
‫بعد أن حارب كل نشاط إسلمي وخلع مصطفى كمال على نفسه (أتاتورك) ومعناه أبو‬
‫()‬
‫التراك ‪. 3‬‬
‫• وعملت حكومته على الهتمام بكل ماهو أوروبي فازدهرت الفنون واقيمت التماثيل‬
‫لتاتورك في ميادين المدن الكبرى كلها‪ ،‬وزاد الهتمام بالرسم والموسيقى ووفد الى تركيا عدد‬
‫()‬
‫كبير من الفنانين اغلبهم من فرنسا والنمسا ‪. 4‬‬
‫• وعملت حكومته على إلغاء حجاب المرأة وأمرت بالسفور ‪ ،‬وألغي قوامة الرجل على‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/115‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/115‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/115‬‬
‫‪ )(4‬انظر ‪ :‬المسألة الشرقية للدسوقي ‪ ،‬ص ‪.432-428‬‬
‫‪-581-‬‬
‫المرأة وأطلق لها العنان باسم الحرية والمساواة‪ ،‬وشجع الحفلت الراقصة والمسارح المختلطة‬
‫والرقص‪.‬‬
‫• وفي زواجه من لطيفة هانم ابنه أحد أغنياء أزمير الذين كانوا على صلة كبيرة مع اليهود‬
‫من سكان أزمير‪ ،‬أجرى مراسم الزواج على الطريقة الغربية كي يشجع على نبذ العادات‬
‫السلمية واصطحبها وطاف بها أرجاء البلد وهي بادية المفاتن تختلط مع الرجال وترتدي‬
‫()‬
‫أحدث الزياء المعينة على التبرج الصارخ ‪. 1‬‬
‫• وأمر بترجمة القرآن الى اللغة التركية ففقد كل معانيه ومدلولته‪ ،‬وأمر أن يكون الذان‬
‫()‬
‫باللغة التركية ‪. 2‬‬
‫• عمل على تغيير المناهج الدراسية وأعيد كتابة التاريخ من أجل إبراز الماضي التركي‬
‫القومي‪ ،‬وجرى تنقية اللغة التركية من الكلمات العربية والفارسية‪ ،‬وأستبدلت بكلمات أوروبية‬
‫أو حثية قديمة‪.‬‬
‫• وأعلنت الدولة عزمها في التوجيه نحو أوروبا وانفصلت عن العالم السلمي والعربي‪،‬‬
‫وامعنت حكومتها من استدبار السلم حتى حاربت بقسوة أي محاولة ترمي الى إحياء المبادئ‬
‫()‬
‫السلمية ‪. 3‬‬
‫وكان خطوات مصطفى كمال هذه بعيدة الثر في مصر وأفغانستان وإيران والهند السلمية‪،‬‬
‫وتركستان وفي كل مكان من العالم السلمي‪ ،‬إذ أتاحت الفرصة لدعاة التغريب وخدام الثقافة‬
‫الستعمارية أن ينفذوا الى مكان الصدارة وأن يضربوا المثل بتركيا في مجال التقدم والنهضة‬
‫المزعومة‪ ،‬فقد هللت له صحف مصر ‪-‬الهرام‪ ،‬والسياسة والمقطم‪ -‬ذات التجاهات المضادة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/116‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/116‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬التجاهات الوطنية لمحمد حسين (‪.)2/100‬‬
‫‪-582-‬‬
‫للسلم ‪ ،‬والمدعومة النفوذ الغربي واليهودي والماسوني‪.‬‬
‫لقد بررت تلك الصحف تصرفات كمال أتاتورك ووافقت عما ابتدعه‪ ،‬ونشرت له‬
‫أقوال‪(:‬ليس لتركيا الجديدة علقة بالدين)‪ .‬وأنه ‪-‬اي مصطفى كمال‪( : -‬ألقى القرآن ذات يوم‬
‫في بده فقال ‪ :‬ان ارتقاء الشعوب ليصلح أن ينفذ بقوانين وقواعد سنت في العصور الغابرة)‪.‬‬
‫لقد كانت حكومة تركيا العلمانية الكمالية ‪-‬هي كما وصفها المير شكيب أرسلن‪ -‬ليست‬
‫حكومة دينية من طراز فرنسا والنكلترا فحسب‪ ،‬بل هي دولة مضادة للدين كالحكومة البلشفية‬
‫في روسيا سواء بسواء‪ ،‬إذ أنه حتى الدول اللدينية في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخل في‬
‫()‬
‫حروف الناجيل وزي رجال الدين وطقوسهم الخاصة وتلغى الكنائس ‪. 1‬‬
‫وكان للعلم اليهودي دور كبير في الترويج لهذه الردة ‪ ،‬مثلما كان له دوره البارز في‬
‫تشجيع أتاتورك على البطش بأية معارضة اسلمية ‪ ،‬وكانت تزين له أن مايقوم به من المذابح‬
‫والوحشية ضد المسلمين ليست سوى معارك بطولية‪ ،‬كما كانت منبرا لكل دعوات التشبه‬
‫بالغرب الصليبي والمناداة بالحرية الفاجرة للمرأة التركية‪ ،‬والترويج لفنون النحلل الخلقي‬
‫()‬
‫معتبرة أن شرب الخمر والمقامرة والزنا ليست إل مظاهر للتمدن والتحضر ‪. 2‬‬
‫إن الحقيقة المرة أن مصطفى كمال أصبح نموذجا صارخا للحكام في العالم السلمي وكان‬
‫لسلوبه الستبدادي الفذ أثره في سياسات من جاء بعده منهم‪ ،‬كما أنه أعطى الستعمار الغربي‬
‫مبررا كافيا للقضاء على السلم فإن فرنسا مثلً بررت حرصها على تنصير بلد شمال‬
‫الفريقي وأخراجها من دينها وعقيدتها واسلمها بأنه ليجب عليها أن تحافظ على السلم أكثر‬
‫()‬
‫من التراك المسلمين أنفسهم ‪. 3‬‬
‫لقد أصبح مصطفى كمال زعيما روحيا لكثير من الحكام الذين باعوا آخرتهم بدنياهم الزائلة‪.‬‬
‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬العلمانية ‪ ،‬د‪ .‬سفر الحوالي ‪ ،‬ص ‪.573‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/117‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬العلمانية‪ ،‬د‪.‬سفر الحوالي‪ ،‬ص ‪.573‬‬
‫‪-583-‬‬
‫قاد المسلمون ثورات مسلحة ضد الحكم العلماني التركي المعادي للسلم وظهرت أهم‬
‫الثورات في المنطقة الجنوبية الشرقية عام ‪1344‬هـ‪ ،‬ثم في منيمين عام ‪1349‬هـ وقد قمعها‬
‫الكماليون بشدة منقطعة النظير وذهب ضحيتها عدد كبير من العلماء‪ ،‬وأهملت المنطقة اقتصاديا‬
‫وعلميا‪.‬‬
‫وقامت حركة النور بزعامة الشيخ بديع الزمان سعيد النورس وتلميذه من بعده‪ ،‬وقد كتب‬
‫العديد من الرسائل السلمية تحت عنوان (رسائل النور) في سبيل التوعية السلمية ومقاومة‬
‫مبادئ الكماليين والعلمانية‪ ،‬ولم تعمد حركته الى حمل السلح واقتصر جهادها على اللسان‪ .‬وقد‬
‫حاول أتاتورك استمالته ونافشه واستنكر دعوته الناس الى الصلة مدعيا أنها تثير الفرقة بين‬
‫أعضاء المجلس فاجابه‪:‬‬
‫(إن أعظم حقيقة تتجلى بعد السلم إنما هي في الصلة‪ ،‬وان الذي ليصلي خائن وحكم‬
‫()‬
‫الخائن مردود) ‪. 1‬‬
‫فسجنه ثم نفاه بعد أن اتهمه بمؤامرة لقلب نظام الحكم‪ ،‬ولكن دعوته استمرت في النتشار‬
‫سرا بين صفوف الجامعين ومعسكرات الجيش ودوائر الدولة‪ ،‬ومثل للمحاكمة مرة أخرى بتهمة‬
‫أتاتورك بالدجال‪ ،‬فوقف أمام المحكمة وقال‪:‬‬
‫(إنني لعجب كيف يتهم أناس يتبادلون فيما بينهم تحية القرآن وبيانه ومعجزاته باتباعهم‬
‫للسياسة والجمعيات السرية‪ ،‬على حين يحق للمارقين الفتراء على القرآن وحقائقه في وقاحة‬
‫وإصرار‪ ،‬ثم يعد ذلك أمرا مقدسا لنه حرية‪ .‬أما نور القرآن الذي يأبى إل أن يشع في أفئدة‬
‫مليين المسلمين المرتبطين بدستوره ‪ ،‬فهو خطورة ينهال عليها جميع ألفاظ الشر والخبث‬
‫والسياسة‪...‬‬
‫أسمعوا يامن بعتم دينكم بدنياكم وتنكستم في الكفر المطلق‪ :‬إنني أقول بمنتهى ما أعطاني ال‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/117‬‬


‫‪-584-‬‬
‫من قوة إفعلوا مايمكنكم فعله فغاية مانتمناه أن نجعل رؤسنا فداءً لصغر حقيقة من حقائق‬
‫()‬
‫السلم‪. 1 )....‬‬
‫فأعيد الى منفاه وبقي حتى عام ‪1367‬هـ حين بدأت الحكومة تضطر للستجابة لمطالب‬
‫()‬
‫الشعب المسلم بخصوص النشاط الديني ‪. 2‬‬
‫لقد تجلت سياسة أتاتورك العلمانية في برنامج حزبه (حزب الشعب الجمهوري ) لعام‬
‫‪1349‬هـ مرة وعام ‪1355‬هـ مرة ثانية والتي نص عليها الدستور التركي وهي المبادئ الستة‬
‫التي رسمت بشكل ستة أسهم على علم الحزب وهي ‪ :‬القومية ‪ ،‬الجمهورية ‪ ،‬الشعبية ‪،‬‬
‫()‬
‫العلمانية‪ ،‬الثورة‪ ،‬سلطة الدولة) ‪. 3‬‬
‫توفي أتاتورك عام ‪1356‬هـ بعد أن حقق علمانية تركيا رغم أنف المسلمين‪ .‬لقد أصيب‬
‫مصطفى كمال بمرض قبل وفاته بسنين بمرض عضال في الكلية لم تعرف كنهته‪ .‬وكان يتعرض‬
‫للم مبرحة مزمنة لتطاق‪ ،‬كانت السبب في إدمانه على شرب الخمر مما أدى الى إصابته بتليف‬
‫الكبد والتهاب في أعصابه الطرفيه وتعرضه لحالت من الكآبة والنطواء ‪-‬وقد تدهور في‬
‫()‬
‫ل فريد في القسوة والتنكيل والنانية المدمرة ‪. 4‬‬
‫المستويات العليا للمخ‪ -‬لذلك كان هذا الديكتاتور مث ً‬
‫المبحث السابع‬
‫بشائر إسلمية في تركيا العلمانية‬

‫بعد وفاة أتاتورك عام ‪1356‬هـ تولى الرئاسة رفيقه على الدرب العلماني عصمت اينونو‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/122‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/122‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/116‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬المسألة الشرقية ‪ ،‬محمد ثابت الشاذلي ‪ ،‬ص ‪.242‬‬
‫‪-585-‬‬
‫وسار على نهج سياسة أتاتوك‪ .‬وعند نشوب الحرب العالمية الثانية ألتزمت تركيا الحياد ثم‬
‫دخلت في نهاية الحرب الى جانب الحلفاء وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ‪ ،‬تقاربت تركيا‬
‫من الوليات المتحدة ودخلت في المعاهدات معها‪ ،‬وأقامت أمريكا على الراضي التركية قواعد‬
‫عسكرية‪ ،‬وظهرت الزمات القتصادية العنيفة التي تزايد خطرها يوما بعد يوم ‪ ،‬وازداد‬
‫التضخم المالي‪.‬‬
‫وسمحت الدولة بتشكيل أحزاب علمانية جديدة فنشأ الحزب الديمقراطي عام ‪1366‬هـ من‬
‫انشقاق داخل صفوف حزب الشعب الجمهوري نفسه‪ ،‬وفاز في النتخابات بدغدغة عواطف‬
‫الناس‪ ،‬وقد تبنى السياسة المريكية وأصبح رئيسه جلل بايار رئيسا للجمهورية عام ‪1374‬هـ‬
‫‪ ،‬كما أصبح عدنان مندرس رئيسا للوزراء ‪ ،‬وأصبح منصب رئيس الوزراء يفوق في الهمية‬
‫من منصب رئيس الجمهورية‪.‬‬
‫وبقيت الزمات والكوارث القتصادية في تردٍ مستمر وتوجهت النتقادات للحزب الحاكم ‪،‬‬
‫فحل الحزب القومي الذي ظهر عام ‪1368‬هـ بحجة معارضته المبادئ الكمالية ولكنه تشكل‬
‫باسم آخر هو الحزب القومي الجمهوري‪ ،‬وفرضت غرامات فادحة على الصحفيين الذين‬
‫يحطون من قدر الحكومة ‪ ،‬وضيق على اساتذة الجامعات والقضاة والموظفين المدنيين بصورة‬
‫عامة‪ ،‬وفرضت قيود على الجتماعات عام ‪1376‬هـ‪.‬‬
‫ووجه الحزب الديمقراطي التهمة الى كثير من البرياء بالشتراك بما سمي‪(:‬مؤامرة الضباط‬
‫التسعة) واتهمهم بالرتداد عن مبادئ العلمانية والميل الى جانب المنظمات الدينية السلمية وقد‬
‫()‬
‫حصل بالفعل بعض التراجع عن بعض العداء ضد السلم بفعل الضغط السلمي ‪. 1‬‬
‫حتى إن حزب الشعب الجمهوري‪ ،‬بدأ يغير من اتجاهاته العلمانية منذ النتقال الى ظاهرة‬
‫التعدد الحزبي ‪ ،‬حيث وافق الحزب على إنشاء كلية اللهيات‪ ،‬ومعهد العلوم السلمية في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حاضر العالم السلمي (‪.)1/120‬‬


‫‪-586-‬‬
‫أنقرة‪.‬‬
‫واعتمد الحزب الديمقراطي على الجماعات السلمية في انتخابات ‪ 14‬أيار ‪1950‬م‪ ،‬وكان‬
‫سببا رئيسيا في فوزه على حزب الشعب الجمهوري‪ ،‬وفضلً عن ذلك‪ ،‬اعتمدت أحزاب أخرى‬
‫على الجماعات السالفة الذكر‪ ،‬مثل حزب العدالة في المدة الواقعة بين ‪1980-1961‬م‪.‬‬
‫وأما حزب الطريق المستقيم؛ فإنه استمد قوته في الثمانينات من الرأي العام السلمي‪.‬‬
‫غيّرَ مفهومه‬
‫وركب حزب العمل القومي بزعامة ألب أرسلن توركش الموجة السلمية و َ‬
‫عن العلمانية‪ ،‬وبدأ بالتقرب من الرأي العام السلمي وكان شعار هذا الحزب في انتخابات عام‬
‫()‬
‫‪1987‬م (دليلنا القرآن‪ ،‬وهدفنا الطوران) ‪. 1‬‬
‫إل أن العمل السلمي المنظم الذي شق طريقه في تلك المواج العلمانية المتلطمة يظهر‬
‫جليا مع ظهور حزب السلمة الوطني‪.‬‬
‫كانت الحركة السلمية في تركيا قبل ظهرو حزب السلمة الوطني تتكون من ‪:‬‬
‫• المتصوفة المناوئة للحركة الكمالية‪ ،‬وهؤلء حافظوا على التراث السلمي بمفهومه‬
‫الخاص بهم‪ ،‬وواصلوا تحفيظ القرآن سرا وكان هدف هذه الحركة هو الحفاظ على العبادات‬
‫السلمية في نفوس الرأي العام التركي‪ ،‬وفي هذا المجال قاموا بتكوين جمعيات للنفاق على‬
‫طلب مدارس الئمة والخطباء للكثار منهم‪ ،‬وتعويض النقص الذي نتج عن اختفاء الدعاة‬
‫السلميين عندما اصطدم بهم الحزب الكمالي‪.‬‬
‫• حركة المام المصلح الكبير سعيد النورسي والتي تعرف بحركة النور والتي تركزت‬
‫جهودها على الدعوة الى اليمان بال واليوم الخر ومحاربة المادية الملحدة والهتمام بتربية‬
‫()‬
‫الجيال وابتعد الكثير من اتباعها عن السياسة ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركة السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬احمد النعيمي‪ ،‬ص ‪.187-184‬‬
‫‪ )( 2‬انظر‪ :‬المعالم الرئيسية للسس التاريخية والفكرية لحزب السلمة‪ ،‬عبدالحميد حرب ‪ ،‬ص ‪ .435‬ندوة اتجاهات‬
‫الفكر السلمي المعاصر البحرين ‪.1985‬‬
‫‪-587-‬‬
‫عندما تحصلت تركيا على نوع من الحريات تقدم السلميون المؤمنون بضرورة خوض‬
‫المعترك السياسي بتأسيس حزب النظام الوطني في كانون الثاني عام ‪1970‬م‪ ،‬حيث قام على‬
‫تأسيسه يونس عارف‪ .‬وقد جاء دعم هذا الحزب بصورة رئيسية من التجار الصغار والحرفيين‬
‫والرجال المتدينين في الناضول‪ ،‬وتوسع الحزب في مدة قصيرة جدا وبدأ يشكل تهديدا خطيرا‬
‫للحزاب العلمانية وقد جاء في بيان التأسيس مايلي‪( :‬أما اليوم ‪ :‬فإن أمتنا العظيمة التي هي‬
‫امتداد لولئك الفاتحين الذين قهروا الجيوش الصليبية قبل ألف سنة‪ ،‬والذين فتحوا استانبول قبل‬
‫‪ 500‬سنة‪ ،‬أولئك الذين قرعوا أبواب فينا قبل ‪ 400‬سنة‪ ..‬وخاضوا حرب الستقلل قبل‬
‫خمسين سنة‪ .‬هذه المة العريقة تحاول اليوم أن تنهض من كبوتها تجدد عهدها وقوتها مع‬
‫حزبها الصيل (حزب النظام الوطني) إن حزب النظام الوطني سيعيد لمتنا مجدها التليد‪ ،‬المة‬
‫التي تملك رصيدا هائلً من الخلق والفضائل يضاف الى رصيدها التاريخي‪ ،‬والى رصيدها‬
‫()‬
‫الذي يمثل الحاضر المتمثل في الشباب الواعي المؤمن بقضيته وقضية وطنه) ‪. 1‬‬
‫وقدم حزب النظام برنامج عمله في منظومة من الفكار يمكن إيجازها في التي‪:‬‬
‫‪.1‬جميع المؤسسات الهامة في تركيا في أيد غربية غير وطنية‪ ،‬والمر الطبيعي والواجب‬
‫القومي يقضي بأن تعود هذه المؤسسات الى أصحابها‪.‬‬
‫‪.2‬عاش الناس أربعين سنة والقوى الخارجية المؤثرة تحاول إبعادهم عن محورهم الحقيقي‬
‫الى محور غريب‪ ،‬فوقع الناس في ضيق وعنت شديدين‪ ،‬ولبد من إرجاع الناس الى طبيعتهم‬
‫ومحورهم الصيل (فطرة ال) حتى يستقيم أمرهم ويتخلصوا من عقائدهم‪.‬‬
‫‪.3‬إن التسميات المعاصرة مثل اليمين واليسار والوسط هي من اختراع الماسونية‬
‫والصهيونية‪ ،‬وكلها مؤسسات تابعة لغرض واحد وهو أن تنحرف تركيا عن خطها الحضاري‬
‫الذي عمره ألف سنة‪ ،‬وانه لبد من التخلص من هذه السماء الغريبة والعودة الى الخط‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬ص ‪.126‬‬


‫‪-588-‬‬
‫الصيل الذي يصل الماضي التليد بالغد المشرق‪.‬‬
‫‪.4‬إن حزب النظام الوطني ليشبه الحزاب الخرى‪ ،‬فجميع الحزاب تقوم على أساس‬
‫التسلط وشهوة الحكم‪ ،‬ونحن نقوم على أساس جديد يبتغي مرضات ال والعمل في سبيل‬
‫الوطن‪.‬‬
‫‪.5‬إن نظام التعليم في تركيا فاسد وضعته شرذمة من الحاقدين من الصليبين واليهود بشكل‬
‫ليناسب المة‪ ،‬فهو يسقط من حسابه كل قيمة معنوية أو أخلقية أو دينية غايته فصل تركيا‬
‫عن ماضيها السلمي وسلخها عن دينها وقيمتها‪ ،‬وبهذه الطريقة فقط يستطيعون أن يقتلوا‬
‫الجيل ويدمروا البلد‪ ،‬لقد مرت خمسون سنة ونحن نسمع أن تركيا جزء من أوروبا‪ ،‬وأن‬
‫النهضة لبد أن تقوم على أنقاض الدين كما حصل في الغرب‪ ،‬متناسين أن السلم يختلف عن‬
‫الكنيسة ودولة القس‪.‬‬
‫‪.6‬في الوقت الذي تمنع الدولة فيه توزيع الكتب على المعاهد السلمية العالية وتحاول‬
‫إغلق معاهد الئمة والخطابة ومدارس تعليم القرآن‪ ،‬تنفق المليين على المسارح والممثلين‬
‫وثمنا للمشروبات التي توزع في السفارات وفي الوقت الذي تعترض الدولة على الطالبات‬
‫اللواتي يلبسن الحجاب على رؤوسهن‪ ،‬تدرس في كتب اللهوت في كل مكان دونما رقابة أو‬
‫()‬
‫ضجة وهذا يعني أن حزب النظام الوطني أكد العودة الى السلم الحقيقي ‪. 1‬‬
‫إن اليهودوالعلمانيين في تركيا لم يتحملوا هذا الصوت الفتي الذي يتدفق بالحيوية والنشاط‬
‫ويحركه في قضاياه اليمان العميق بالسلم وبضرروة رجوع الشعب التركي إليه‪ ،‬ولذلك‬
‫تحرك الجيش التركي في آذار ‪1971‬م بسبب نشاط حزب العمال وأحال قضية حزب النظام‬
‫الوطني الى المحكمة الدستورية التي أصدرت قرارا جائرا بحل الحزب في ‪ 21‬مارس‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا ‪ ،‬ص ‪.127‬‬


‫‪-589-‬‬
‫()‬
‫‪1971‬م ‪. 1‬‬
‫وقد جاء في قرار محكمة أمن الدولة العليا مايلي‪:‬‬
‫‪.1‬إن المبادئ التي قام عليها الحزب وتصرفاته تخالف الدستور التركي‪.‬‬
‫‪.2‬العمل على إلغاء العلمانية في البلد‪ ،‬وإقامة حكومة إسلمية‪.‬‬
‫‪.3‬قلب جميع السس القتصادية والجتماعية والحقوقية التي تقوم عليها‬
‫البلد‪.‬‬
‫‪.4‬العمل ضد مبادئ أتاتورك‪.‬‬
‫‪.5‬القيام ببعض التظاهرات الدينية‪.‬‬
‫وجاء في الحكم المحكمة أيضا أنه ليحق لي شخص من شخصيات الحزب أن تعمل من‬
‫خلل أي حزب سياسي آخر ‪ ،‬ول أن يؤسسوا أي حزب جديد‪ ،‬ول أن يرشحوا أنفسهم لي‬
‫انتخابات قادمة ولو بشكل مستقلين لمدة خمس سنوات‪ .‬وهذا يعني أن المدة بين نشوء الحزب‬
‫()‬
‫وإغلقه كانت ستة عشر شهرا فقط ‪. 2‬‬
‫وفي تلك الحداث الساخنة والمشادة العنيفة بين السلم والعلمانية في تركيا ظهر المجاهد‬
‫الكبير نجم الدين أربكان يخوض المعارك الفكرية مع العلمانيين ففي ‪ 2‬آب عام ‪1972‬م وقبل‬
‫تأسيس حزب السلمة الوطني تحدث أربكان في المجلس الوطني فقال‪( :‬في رأينا أن التوضيح‬
‫المهم الكثر ملءمة لجعل الدستور‪ ،‬دستورا ديمقراطيا‪ ،‬لبد أن تكون هناك مواد دستورية‬
‫مناسبة قبل تحديد الحركات وحقوق الفكر والمعتقد‪ ،‬وهكذا من الممكن إيجاد مناخ للتطبيقات‬
‫الحالية والتي تتعارض مع المبادئ الساسية للدستور‪ ،‬وفي مثل هذه الحالة ‪ ،‬على المرء أن‬
‫يتكلم عن وجود فكر الحرية والمعتقد‪ ،‬وأن دولتنا لتسعى وتنمو‪ ،‬ومن ثم لتأخذ مكانتها بين‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.128‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪-590-‬‬
‫()‬
‫القطار الحضارية في العالم) ‪. 1‬‬
‫كان أربكان يرى أن النظام الديمقراطي ليعد ديمقراطيا بدون الحقوق وحرية الفكر والمعتقد‬
‫‪ ،‬وكان يقصد من وراء ذلك الحرية التامة لستخدام نشر الفكار السلمية‪ ،‬وقد فسرت كل من‬
‫صحيفتي (جمهوريت) و(ملليت) العلمانيتين تصريحات وأقوال أربكان بأنها ذريعة لستخدام‬
‫()‬
‫الدين لغراض سياسية ‪. 2‬‬
‫لقد هاجم نجم الدين أربكان العلمانية واستفاد من الثغرات الموجودة في الدستور التركي ورد‬
‫على الحملة العلمية العلماينة الموجهة ضد اطروحاته فقال‪( :‬إن مصطلحات القومية‪،‬‬
‫والديمقراطية والعلمانية والجتماعية‪ ،‬والتي تقوم عليها شخصية الدولة‪ ،‬واستنادا الى المادة‬
‫الثانية من الدستور‪ ،‬إن هذا من الممكن توضيحه بأن هذه المادة لتسمح بإستخدام وتفسير‬
‫المعارضة في الممارسة‪ ،‬وفي هذا المجال وبصورة خاصة مصطلح القومية بحاجة الى توضيح‬
‫‪ ،‬وهذا يعني أنها بحاجة الى تحديدها بطريقة تقوم على احترام جميع القيم الروحية لقوميتنا من‬
‫()‬
‫حيث التاريخ والتقاليد ‪. 3‬‬
‫وأضاف نجم الدين قائلً‪( :‬الدين هو معتقد أساسي ونظام فكري للفراد‪ ،‬وهذا يعني‬
‫العتراف بحق الحرية والوجود والعتراف بحقوق المعتقد للفرد‪ .‬إن تحريم الشخص من هذه‬
‫السس هو ضد الروح والمبادئ الساسية للدستور خاصة الفقرة (‪ )1‬من المادة (‪ )19‬والمادة (‬
‫()‬
‫‪ )20‬من الدستور ‪. 4‬‬
‫بعد هدوء جو العنف والقلق السياسي في السياسة الداخلية التركية من جراء الحكام العرفية؛‬
‫قام أربكان بلم شعث حزب النظام الوطني وأسس حزبا جديدا أطلق عليه حزب السلمة‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركة السلمية الحديثة في تركيا ‪ ،‬د‪ .‬النعيمي ‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الحركة السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬المعالم الرئيسية للسس التاريخية لحزب السلمة الوطني ‪ ،‬ص ‪.435‬‬
‫‪-591-‬‬
‫الوطني‪.‬‬
‫استطاع حزب السلمة الوطني خلل مدة قصيرة لتتجاوز ثمانية أشهر من تنظيم قواعد في‬
‫‪ 67‬محافظة ‪ ،‬وأعلن نجم الدين أربكان بأن نجاح حزبه خلل هذه المدة يعود الى تعاطف‬
‫الرأي العام المحلي مع الحزب الذي ينادي بأهمية الخلق الدينية والمواقف المعنوية‪ ،‬وعلى‬
‫هذا الساس فقد أكد حزب السلمة الوطني في برنامجه على مايأتي‪:‬‬
‫(قيام تجمع يعتمد الفضيلة والخلق ويعطي القيمة المعنوية للنسان مثلما نصت عليه‬
‫المادتان العاشرة والرابعة عشرة من الدستور والتي تؤكد على القيمة المعنوية للنسان على‬
‫()‬
‫أساس من الخلق والفضيلة) ‪. 1‬‬

‫أهم أعمال حزب السلمة‪:‬‬


‫‪ -‬عندما شعر حزب السلمة بقوته‪ ،‬وصار جزءا من الحياة السياسية في تركيا شرع‬
‫منظروا الحزب بشن حملة إعلمية منظمة على أسس العلمانية في تركيا وبينوا للناس إن‬
‫الطار السياسي لتركيا الجديدة يناقض المبادئ السياسية للسلم ويقضي السلم بتوحيد‬
‫السلطات السياسية والدينية تحت سيطرة الدين‪ ،‬وفي هذا المعنى‪ ،‬فإن العلمانية‪ ،‬والنظام العلماني‬
‫()‬
‫ضد السلم‪ ،‬والشريعة والدين وخاصة تطبيقها في تركيا‪ ،‬فإنها صممت لضمان الزندقة ‪. 2‬‬
‫ويردف هؤلء‪ " :‬إن الخونة والكذابين هم وحدهم الذين يقولون بأن الدين والسياسة شيئان‬
‫منفصلن‪ ،‬لن المسلمين ليفضلون شؤون الدنيا عن شؤون السماء‪ .‬لقد أصبح واضحا بأن‬
‫التشريع ليس من حق النسان‪ .‬أما إذا وضع القوانين أو ادعى بأنه يفعل ذلك‪ ،‬فإن علمه هذا يعد‬
‫خطيئة ‪ ..‬إن خالق القوانين السلمية هو نفسه خالق النسان‪ ،‬لقد خلق ال النسان وفق هذه‬
‫القوانين‪ .‬إن القوانين النسانية لتتناسب وطبيعة النسان‪ .‬إن السلم نظام يصلح لكل زمان‪،‬‬

‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬الحركة السلمية الحديثة ‪ ،‬د‪.‬النعيمي ‪ ،‬ص ‪.130‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.131‬‬
‫‪-592-‬‬
‫إنه يمثل كل من الدين والدولة‪ .‬إن القرآن لم ينزل ليقرأ في القبور أو يغلق عليه في أماكن‬
‫()‬
‫العبادة‪ .‬لقد أنزل القرآن ليحكم ‪. 1‬‬
‫إن المجاهد الكبير نجم الدين أربكان شق طريقه بصعوبة في محاربته للعلمانية بالحجة‬
‫والبرهان ولقد عبر عن آرائه بصراحة خلل مباحثاته مع ضياء الحق حاكم باكستان سابقا ‪-‬‬
‫رحمه ال ‪ -‬مؤكدا أن دخول السلم في كافة جوانب الحياة هو الشرط الوحيد لقيام دولة‬
‫إسلمية‪ ،‬وفي هذا المجال قال نجم الدين أربكان‪ " :‬قبل كل شيء يجب أن تكون الدولة‬
‫()‬
‫إسلمية‪ ،‬إذا لم يكن المر كذلك‪ ،‬فإن الدين السلمي في خطر" ‪. 2‬‬
‫إن حزب السلمة الوطني لم يحاول أن يتخذ موقف الهجوم المباشر على الديمقراطية في‬
‫انتخابات عام ‪1973‬م‪ ،‬إل أنهم عبروا عن مشاعرهم الحقيقية عن ذلك في عام ‪1980‬م‪ ،‬حيث‬
‫()‬
‫بدأوا ينتقدون الديمقراطية مؤكدين أنها تتعارض مع مبادئ السلم ‪. 3‬‬
‫وفي هذا المجال أكد حزب السلمة أن " الديمقراطية مؤامرة غربية لقيادة الجهلة بموجب‬
‫الساليب الغربية والمسيحية‪ .‬إنه انتصار للمسيحية ضد السلم‪ ،‬لذلك يجب تطبيق القوانين‬
‫()‬
‫اللهية إذ ليمكن للنسان تشريع قوانين يمكن تطبيقها" ‪. 4‬‬
‫وبالمكان تلخيص وجهة نظر حزب السلمة الوطني عن الرأسمالية والشتراكية‪ ،‬في مقالة‬
‫لنجيب فاضل جاء فيها‪:‬‬
‫" نحن نقسم طريق الخلص إلى مجموعتين‪ :‬الولى هي طريقة السلم في الخلص‪،‬‬
‫والثانية يمكن تصنيفها كنظم وراثية والتي لتوصل إلى الخلص‪ .‬إن المجموعة الثانية لتعتمد‬
‫على التعاليم اللهية وتناقض نفسها باعتمادها على قوانين من صنع النسان مثل الشيوعية‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الحركة السلمية الحديثة ‪ ،‬ص ‪.132‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.135‬‬
‫‪ )(4‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.135‬‬
‫‪-593-‬‬
‫والرأسمالية والشتراكية والديمقراطية‪ .‬لقد تم التأكيد أيضا على أن ال قد أمرنا أن نحكم طبقا‬
‫لتعاليم القرآن الكريم‪ ،‬وليس حسب آرائنا الخاصة‪ .‬إذا حكم الناس حب نظام التصويت‪ ،‬فإنهم‬
‫لن يكونوا بحاجة إلى كلم ال‪ .‬في المجتمعات التي تحل فيها كل القضايا وفق لنظام التصويت‪،‬‬
‫()‬
‫لينتشر السلم ‪. 1‬‬
‫أما فيما يتعلق بموقف الحزب من الوليات المتحدة‪ ،‬فقد عارض الحزب الوجود المريكي‬
‫في الراضي التركية‪ ،‬كما عارض استخدام الوليات المتحدة الراضي التركية في استخدامها‬
‫ضد دول منطقة الشرق الوسط‪ .‬ونتيجة لهذا فقد انتقد الحزب حكومة ديمريل في أواخر عام‬
‫‪1979‬م بسبب زيادة النشاط العسكري المريكي في تركيا‪ ،‬حيث قدم استجوابا إلى مجلس‬
‫النواب التركي مطالبا فيه محاسبة حكومة ديمريل بسبب هذا النشاط المريكي‪ ،‬وقد دلل هذا‬
‫على قيام طائرتين بالهبوط في مطار مالقا وهما تحملن ‪ 180‬عسكريا مع أحدث المعدات‬
‫الحربية‪ ،‬مؤكدا أن هذا يشكل تهديدا لمن المنطقة‪.‬‬
‫وفي الحقيقة استطاع الحزب أن يشكل رأي عام مناهض للغرب والوليات المتحدة‪ ،‬عن‬
‫طريق المشكلة القبرصية والتي قام فيها أربكان بدور رئيسي في إقناع القيادات العسكرية بإنزال‬
‫قواتها في الجزيرة‪ .‬فقد تولى القيادة مدة غياب أجويد في زيارة لدول أوروبا الشمالية‪.‬‬
‫ولقد عمل الحزب بقيادة أربكان على إفشال جميع الخطط والمشاريع اليونانية في بحر أيجة‪،‬‬
‫وفي هذا المجال يقول أربكان‪(:‬سنتحرك وفق أسس العدل والحق ل وفق السس التي تحددها‬
‫()‬
‫القطار الوروبية الكبيرة) ‪. 2‬‬
‫وفيما يتعلق بالسوق الوروبية المشتركة يقول أربكان‪(:‬إن تركيا يجب أن لتكون في السوق‬
‫الوروبية المشتركة للدول الغربية‪ ،‬وإنما في السوق المشتركة للدول الشرقية‪ ،‬إن تركيا متخلفة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي ‪ ،‬ص ‪.135‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الحزاب السياسية في تركيا‪ ،‬حسين فاضل كاظم‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫‪-594-‬‬
‫بالنسبة للغربيين‪ ،‬ولكنها متقدمة بالنسبة للشرقيين‪ .‬إذا دخلت تركيا السوق المشتركة في‬
‫()‬
‫الوضاع السائدة اليوم‪ ،‬فإنما مستعمرة) ‪. 1‬‬
‫لقد كان لحزب السلمة تأثير كبير في الشارع التركي وعمل على إعادة الهوية السلمية‬
‫ونازل بحجج السلم وبراهينه النظمة الشتراكية والرأسمالية وكان زعيمه نجم الدين أربكان‬
‫يتحدث بعزة السلم ويوضح للشعب التركي خطورة النحراف عن منهج ال ويوجه‬
‫صواريخه الى أعداء السلم وفي هذا المجال‪ ،‬يقوّم لنا نجم الدين أربكان النظامين الشتراكي‬
‫والرأسمالي وفيما يتعلق بالول يقول أربكان‪( :‬أنه فكر يهدد الحريات‪ ،‬ويضر بالكيان القومي‪،‬‬
‫()‬
‫ويركز على مصادر أجنبية) ‪ ، 2‬أما فيما يتعلق بالثاني‪ ،‬يقول أربكان‪( :‬الفكر الرأسمالي هو فكر‬
‫يقوم على الربا‪ ،‬ومصدره أجنبي أيضا‪ ،‬أما حزب السلمة فيمضي في طريقه رافعا راية‬
‫الخلق والصالة‪ .‬إن النظام الرأسمالي والنظام الشتراكي ل يقتصران على ميدان القتصاد‪،‬‬
‫وإنما يمتد تأثيرهما الى الميدانين الجتماعي والمعنوي‪ ،‬ورغم اختلف النظامين في الظاهر‪،‬‬
‫فكلهما مادي ‪ ،‬وكلهما يعمل على النهوض بالجانب المادي في مقابل انحطاط الخلق‬
‫()‬
‫والمعنويات‪ ،‬وكلهما يزداد ارتفاعا ماديا مع هبوط الثقافة والخلق) ‪. 3‬‬
‫إن غاية حزب السلمة هو الوصول الى فهم "تركيا الكبرى" وحرص على التمسك بالماضي‬
‫العثماني المجيد وبيّن للناس أهمية اللتزام بالسلم واتبع سياسة تؤدي في مداها البعيد القضاء‬
‫على مبادئ أتاتورك العلماني‪ ،‬وهو في نفس الوقت يدعو الى عدم التعاون مع العناصر غير‬
‫السلمية في تركيا‪ ،‬وهو في نفس الوقت يعارض الشيوعية بعنف‪ ،‬ويؤكد على أن أفضل‬
‫طريق لنتشار المبادئ السلمية هو توفير الحياة الحرة للمواطن التركي‪.‬‬
‫ودعا أربكان الى ضرورة تطوير علقات تركيا مع العالم السلمي في المجالت كافة‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي ‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬يقظة السلم في تركيا ‪ ،‬أنور الجندي‪ ،‬ص ‪.30-29‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬يقظة السلم في تركيا‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪-595-‬‬
‫حيث قال‪( :‬وأن لتظل هذه العلقات صورية‪ ،‬وإنما يجب أن تكون علقات فعلية متطورة‪،‬‬
‫حيث إن في العالم مايقرب من خمسين دولة إسلمية يبلغ سكانها مليارا‪ ،‬وهذه الدول السلمية‬
‫()‬
‫سوق طبيعية قوية لنتاجنا) ‪. 1‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫حيث قال في هذا‬ ‫وعلى هذا الساس ‪ ،‬فقد انتقد اربكان كل من الصهيونية والماسونية‬
‫المجال‪( :‬إن الصهيونية والماسونية حاول عزل تركيا عن العالم السلمي‪ ،‬ومؤامراتهم‬
‫مستمرة‪ ،‬ذلك أن المعركة بين السلم في تركيا والصهيونية قد اتخذت أشكالً عدة وهي حرب‬
‫طويلة المدى‪ ،‬ومستمرة منذ خمسة قرون‪ ،‬منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية وعمل‬
‫على فتح رومية‪ ،‬ولكن هذا الصراع في المائة سنة الخيرة‪ ،‬أخذ شكل مخطط أعد له سلفا‪،‬‬
‫فاستطاعت بعض القوى عام ‪1839‬م أن توثر في جسم الدولة الفكري‪ ،‬وتدخل القوانين‬
‫الوضعية البعيدة عن السلم بوساطة المنظمات اليهودية الماسونية‪ ،‬وقسم العمل اليهودي في‬
‫تركيا إلى ثلث مراحل مدتها ثلثون سنة‪ ،‬وهي عبارة عن تنفيذ فكرة ليتويود وهرتزل بإسقاط‬
‫الدولة السلمية في تركيا‪ ،‬أما المرحلة الثانية‪ ،‬فقد استمرت عشرين سنة‪ ،‬وكان لبعاد تركيا‬
‫عن السلم‪ ،‬ثم نشأ حزب التحاد والترقي‪ ،‬وكانت له علقة باليهود والماسونية‪ ،‬ومن ثم‬
‫استطاع إسقاط السلطان عبدالحميد‪ ،‬وبدأ في إبعاد تركيا عن النمط السلمي وتغريبها بطرق‬
‫()‬
‫عديدة أهمها العلمانية التي كانت تعني في تركيا بالتحديد اضطهاد المسلمين) ‪. 3‬‬
‫وقد خاض حزب السلمة الوطني النتخابات العامة لعام ‪1973‬م حيث حصل على ‪%11.9‬‬
‫من الصوات‪ ،‬أي بواقع ‪ 1.24‬مليون من أصوات الناخبين‪ ،‬ونتيجة لذلك فقد مثل نفسه في‬
‫()‬
‫المجلس الوطني التركي بواقع ‪ 45‬مقعدا ‪. 4‬‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.30‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.141‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الصحوة السلمية منطلق الصالة وإعادة بناء المة على طريق ال‪،‬الجندي‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي ‪ ،‬ص ‪.142‬‬
‫‪-596-‬‬
‫‪ ،‬كما أعلن أربكان‬ ‫وقد أعلن أربكان عشية انتخابات ‪1973‬م‪ " :‬إننا سنعيد عهد الرسول‬
‫بعد النتخابات أن شعار حزبه هو ‪ -‬المفتاح ‪ -‬وهذا ما سيؤهل للحزب فتح الطريق المغلقة‬
‫()‬
‫أمامه‪ ،‬ويكون مفتاح كل الحكومات الئتلفية " ‪. 1‬‬
‫ونتيجة لذلك فقد تكونت أول حكومة ائتلفية‪ ،‬ضمت حزب الشعب الجمهوري‪ ،‬وحزب‬
‫السلمة الوطني‪ ،‬وذلك في ‪ 25‬كانون الثاني ‪1974‬م‪ ،‬حيث ضمت الوزارة ثمانية عشر وزيرا‬
‫من أعضاء حزب الشعب الجمهوري‪ ،‬وسبعة أعضاء من حزب السلمة‪.‬‬
‫وبفضل ال تعالى ثم جهود حزب السلمة الوطني بقيادة أربكان‪ ،‬مثلت تركيا ولول مرة في‬
‫آذار ‪1974‬م في مؤتمر القمة السلمي‪ ،‬وقد اختير وزير الداخلية التركي " وهو من حزب‬
‫السلمة الوطني " في هذا المؤتمر‪.‬‬
‫إن نشاط حزب السلمة الوطني خلل السبعينات أدى إلى خرق المظاهر العلمانية في تركيا‪،‬‬
‫حيث انتشرت بعض المظاهر السلمية وخاصة في شهر رمضان‪ ،‬كما تم التوسع في المدارس‬
‫السلمية‪ ،‬حيث سمح لها بتدريب الئمة والوعاظ‪ ،‬وأصبحت هذه المدارس تعلم حوالي ‪%10‬‬
‫من الطلب في المدارس الثانوية بما فيهم ‪ 50.000‬من العنصر النسائي في تركيا‪ ،‬وفي الحقيقة‬
‫وصل التصويت السلمي بين ‪ ،%15 - %10‬وقد اعتبر العلمانيون هذه النسبة بمثابة خطر‬
‫()‬
‫على المدنية التركية ‪. 2‬‬
‫وبتأثير من حزب السلمة الوطني‪ ،‬وطلب النور في تركيا خرجت إلى حيز الوجود سلسلة‬
‫" ألف كتاب " التي دعمتها وزارة التربية‪ ،‬وتناولت هذه السلسلة الثقافية التركية بمعيار إسلمي‬
‫وأخذ حزب السلمة يعمق المفاهيم السلمية في المجلس الوطني التركي الكبير وهاجمت‬
‫الصحف السلمية في تركيا كمال أتاتورك وأطلقت عليه اسم " الدجال " وضغط حزب السلمة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي ‪ ،‬ص ‪.143‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.145‬‬
‫‪-597-‬‬
‫الوطني على رئاسة الشؤون الدينية حتى أصدرت بيانا في حزيران ‪1973‬م أكدت فيه على‬
‫دعوة المرأة التركية إلى الحجاب‪.‬‬
‫وحينما سافر أربكان إلى السعودية عام ‪1974‬م ‪ -‬وكان وقتئذ نائبا لرئيس الوزراء ‪-‬بدأ‬
‫زيارته للكعبة‪ ،‬وفي الرسالة التي كتبها للملك فيصل ‪-‬رحمه ال‪ ،-‬ذكر مايلي‪ " :‬إن معرفة‬
‫الشعب والحجاج للمشاريع التي ستقام في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية بالقروض التي‬
‫ستمنحونها لتركيا تعد من المور الهامة‪ ،‬إن دعمكم لموقفي في تركيا سيفتح لتركيا مرحلة‬
‫()‬
‫جديدة في العالم السلمي‪ ،‬ومساعدتكم لنا في هذا المجال سوف تدعم هذه المرحلة " ‪. 1‬‬
‫واستطاع أربكان أن يمرر قانونا في البرلمان يسمح بموجبه للتراك السفر برا إلى الحج‪،‬‬
‫()‬
‫وكان ذلك ممنوعا ‪. 2‬‬
‫لقد كانت خطوات حزب السلمة الوطني جريئة في المجتمع التركي ولذلك لم يتحمل الجيش‬
‫التركي خادم العلمانية في تركيا هذه العمال الحميدة ولذلك تدخل الجيش بانقلبه الذي قضى‬
‫على التعددية والحرية السياسية في ‪ 12‬أيلول ‪1980‬م‪ .‬وقد سبق هذا النقلب مظاهرات كبيرة‬
‫في مدينة قونيا يوم ‪ 6‬أيلول‪ ،‬ونادى المتظاهرون بتأسيس دولة إسلمية‪ ،‬وقام أنصار حزب‬
‫السلمة بالستهزاء بكل مايؤمن به أتاتورك والمؤسسة العسكرية‪ .‬وقد هتف هؤلء الذين جاءوا‬
‫من جميع أنحاء البلد بالشعارات الدينية‪ ،‬وطالبوا باستخدام الشريعة السلمية في التعامل‬
‫()‬
‫السياسي الداخلي‪ ،‬ومنعوا عزف النشيد الوطني ‪. 3‬‬
‫واحتج المتظاهرون على ضم القدس‪ ،‬ونادوا بقطع العلقات مع إسرائيل‪ ،‬ودعوة إسرائيل‬
‫المناداة بالقدس الحرة‪ ،‬كما دعى إربكان في هذه التظاهرة إلى بدء الصراع لنهاء العقلية‬
‫الغربية الزائفة والتي تحكم تركيا‪ .‬وقد كتب المتظاهرون الشعارات باللغة العربية‪ ،‬وقام هؤلء‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬محمد مصطفى‪ ،‬ص ‪.207‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.151‬‬
‫‪-598-‬‬
‫بحرق العلم الصهيوني والمريكي والسوفيتي ونادى المتظاهرون بشعار " الموت لليهود "‬
‫ولسيما أن مدينة قونيا تضم أعدادا من طائفة اليهود والتي يبلغ عددها ‪ 20.000‬يهودي ونادى‬
‫المتظاهرون أيضا‪ " :‬جاء دور القانون الديني وانتهت الهمجية‪ ،‬الشريعة أو الموت‪ ،‬إن الدولة‬
‫الملحدة يجب أن تدمر‪ ،‬وإن القرآن هو دستورنا‪ ،‬نريد دولة إسلمية بدون الحدود والطبقات‬
‫()‬
‫"‪.1‬‬
‫كانت شعبية حزب السلمة الوطني ترتقي‪ ،‬لنه التزم القضايا السلمية علنا خصوصا في‬
‫العامين ‪1979‬م‪1980 ،‬م واضطر الحزب الجمهوري وحزب العدالة بإرضاء حزب السلمة‬
‫الوطني‪ ،‬وقدما تنازلت للتجاه السلمي‪ ،‬طمعا في المساعدات القتصادية من القطار‬
‫السلمية والحاجة الملحة إلى بترولها‪.‬‬
‫لم يستحي قادة الجيش التركي بعد انقلبهم العسكري أن يقولوا بأن سبب تدخلهم من أجل‬
‫وقف المد السلمي‪.‬‬
‫اتخذ النقلبيون قرارا بحظر جميع الحزاب السياسية وحجز قادتها وتقديمهم للمحاكمة وكان‬
‫من الطبيعي أن يحاكم حزب السلمة الوطني وأن توجه التهم لزعيمه أربكان وزملئه‬
‫المجاهدين وكانت كل التهم تدور حول حرص حزب السلمة على إعادة دولة السلم لتركيا‬
‫والتخلص من الفكار العلمانية والمبادئ الكمالية‪ ،‬إن الغطرسة التركية العلمانية أعلنت بكل‬
‫وقاحة على لسان الجنرال إيفرن رئيس أركان الجيش التركي بأن لها من القوة بحيث تستطيع‬
‫()‬
‫أن تقطع لسان كل من يتهجم على أتاتورك ‪. 2‬‬
‫لقد استطاع حزب السلمة الوطني أن يدخل بعض التغييرات في السلوك السياسي الداخلي‬
‫التركي‪ ،‬من بين ذلك " تحقيق الذان في الجوامع وباللغة العربية‪ ،‬وفرض قراءة القرآن الكريم‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.151‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.150‬‬
‫‪-599-‬‬
‫في محطات الذاعة والتلفزيون‪ ،‬وكان ذلك محرما منذ مجئ المفسد الكبير مصطفى كمال إلى‬
‫الحكم‪.‬‬
‫لقد أصبح أربكان مع حزبه المجاهد معلما من معالم الحركة السلمية المعاصرة في تركيا‬
‫ولقد أثرت حركة حزب السلمة في الوساط السلمية والطرق الصوفية والزوايا التقليدية‬
‫ووجدت من التيار السلمي التقليدي من يناصرها ويقف بجانبها ويدعمها وحكمت المحكمة‬
‫العسكرية الظالمة في عام ‪ 1983‬على المجاهد أربكان لمدة أربعة أعوام وعلى ‪ 22‬عضوا من‬
‫()‬
‫أعضاء حزب السلمة الوطني بالسجن لمدد تصل إلى ثلثة أعوام ونصف ‪. 1‬‬
‫وقام الجيش التركي بتسريح كل من تشم منه رائحة إسلمية وأعلن إيفرن في حملته التي‬
‫استهدفت السلميين داخل القوات المسلحة بأن هؤلء المسلمين " كان هدفهم الوصول إلى‬
‫( ‪)2‬‬
‫وأضاف‬ ‫المراتب العليا في القوات المسلحة‪ ،‬ماذا سيحدث لو أنهم أمسكوا بزمام الجيش؟ "‬
‫قائلً‪ " :‬قد يحولون البلد إلى أي نوع من النظمة التي يريدون‪ ،‬هل هذا نشاط ديني أم خيانة‬
‫()‬
‫"‪.3‬‬
‫وبدأت القيادة العسكرية في تركيا تبحث عن حل لمشاكلها السياسية وإرضاء الضغوط‬
‫الوربية التي اتهمت تركيا بخرق حقوق النسان ويجب عليها إعادة الديمقراطية من جديد‪،‬‬
‫فشكلت لجان جديدة لصنع دستور للبلد بحيث يعطي الرئيس التركي الحق في فرض حالة‬
‫الطوارئ‪ ،‬وحل البرلمان‪ ،‬والدعوة إلى انتخابات جديدة‪ ،‬وبذلك يكون باستطاعت العلمانيين قطع‬
‫محاولت السلميين المستمرة للقضاء على الدستور العلماني‪ ،‬وعدلت القوانين بحيث تكون‬
‫للقيادة العسكرية حق الحتفاظ ببعض السيطرة على الحياة السياسية في تركيا‪.‬‬
‫وبعد إعلن الدستور الجديد في عام ‪ 1982‬تكونت أحزاب سياسية وظهر حزب الرفاه وهو‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.156‬‬
‫‪)(2‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.165‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.165‬‬
‫‪-600-‬‬
‫امتداد طبيعي لفكر السلمة الوطني وبدأت العناصر السلمية تتوافد على هذا الحزب الجديد‬
‫والذي تعرض لمعارضة الجيش والضغط عليه لمنعه من دخول انتخابات عام ‪1983‬م‪ ،‬إل أنه‬
‫()‬
‫خاض النتخابات وحصل على نسبة ‪ %5‬من الصوات ‪. 1‬‬
‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬اشترك حزب الرفاه في انتخابات تشرين أول ‪1987‬م‪ ،‬حيث فاز ‪%7.06‬‬
‫()‬
‫من الصوات ‪. 2‬‬
‫وبدأت الجماعات السلمية تتمحور حول حزب الرفاه وشرع حزب الرفاه في قيادة الحركة‬
‫السلمية في كافة المدن التركية‪ ،‬وحتى المحافظات الكبرى والقرى المتباعدة الطراف‪،‬‬
‫وانتعشت الحركة السلمية مع استلم أوزال السلطة وهو المتعاطف مع السلم في تركيا‬
‫خاصة وأن أعدادا كبيرة من قيادة حزبه ‪-‬حزب الوطن الم‪ -‬من الوجوه السلمية المعروفة‬
‫في تركيا ودخلت كوادر قيادية هامة من حزب السلمة المنحل الى حزب الوطن الم الذي نجح‬
‫في انتخابات عام ‪1983‬م بأغلبية كبيرة‪ ،‬وشجعت حكومة أوزال نشاط المساجد والمدارس‬
‫الدينية واهتم وزير الدولة المشرف على الشؤون الدينية (كاظم اكصوي) بدروات تعليم القرآن‬
‫الكريم والتي كانت في بداية الثمانينات ‪ 200‬دورة رسمية ووصلت الى ‪ 3000‬دورة في عام‬
‫‪1987‬م ونشطت الطرق الدينية‪ ،‬وقام كاظم اكصوي يجعل بعض المؤسسات الدينية والبنوك‬
‫()‬
‫مثل بنك الوقاف من أهم المراكز التي تغذي الحركة السلمية في تركيا ‪. 3‬‬
‫واستمر حزب الرفاه في جهاده السلمي والتوغل المتزن في أعماق الشعب المسلم التركي‬
‫الذي لتزال أعمال حزب السلمة في ذاكرته ووجدانه والتي أعادت للمجتمع التركي وجوده‬
‫وحضوره السلمي واستطاع حزب الرفاه الذي هو امتداد لحزب السلمة في مارس عام‬
‫‪1994‬م أن يتحصل على أهم وأكبر البلديات في تركيا‪ ،‬وعلى فوزه بانتخابات ديسمبر عام‬
‫‪1995‬م كأكبر حزب في البلد‪ ،‬تسلم على أثرها السلطة في إتئلف حكومي مع حزب الطريق‬
‫()‬
‫القويم في يونيو ‪1996‬م ‪ 4‬وأصبح المجاهد الكبير نجم الدين أربكان رئيس الوزراء وقام‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫‪)(2‬انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.183‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬تحديات سياسية تواجه الحركة السلمية ‪ ،‬مصطفى الطحان‪ ،‬ص ‪.118‬‬
‫‪-601-‬‬
‫بإصلحات اقتصادية رائعة وارتفعت الرواتب في فترة وجيزة‪ ،‬وتقدم مندفعا كالسهم نحو‬
‫الدعوة لقامة سوق اسلمية مشتركة ورفض دخول تركيا السوق الوروبية المشتركة‪ ،‬فكانت‬
‫دعوة الى قيام أمم إسلمية متحدة‪ ،‬ومجلس إسلمي مشترك‪ ،‬وضرب ممثلوا حزب الرفاه في‬
‫البلديات وعلى مستوى الدولة أروع المثلة في النزاهة والعفة وطهارة اليد والمقدرة على‬
‫التخطيط واهتمت مؤسسات الحزب بتقديم وتحسين أداء الخدمات للمواطنين وتعاطف الشعب‬
‫التركي مع حزب الرفاه حتى كثير من المومسات أعطين أصواتهن لحزب الرفاه الذي عمل‬
‫على إيجاد فرص للعمل الشريف لهن وترك بيوت الدعارة والفساد والرجوع الى ال بالتوبة‬
‫والمغفرة‪.‬‬
‫ولقد عالج ممثل الرفاه والذي تولى بلدية استانبول مشاكل العاصمة بكل جدارة وتضاعفت‬
‫ميزانية البلدية بعد أن كانت دائما تشتكي من العجز المالي بسبب الختلس‪.‬‬
‫لم يرضى اليهود والعلمانيون عن هذه المكاسب العظيمة التي حققتها الحركة السلمية في‬
‫تركيا فدفعوا قادة الجيش لممارسة ضغوطهم على الحزاب حتى قضوا على التحالف بين حزب‬
‫الطريق القويم وحزب الرفاه وتقدم حزب علماني متطرف مدعوم بقوة العسكر ورجال‬
‫القتصاد العلمانيين وقدموا حزب الرفاه الى المحكمة الدستورية التي حكمت بحل حزب الرفاه‬
‫ومصادرة أملكه عام ‪1997‬م وليزال السلميون في تركيا يديرون صراعهم مع اليهود‬
‫والعلمانيين وأعداء السلم بكل جدارة وشجاعة وذكاء واني على يقين راسخ ل يتزعزع ان‬
‫الحركة السلمية في تركيا ستصل الى الحكم وتطبق شرع ال بإذن ال‪ ،‬لن كل المؤشرات‬
‫والسنن تقول بذلك‪.‬‬
‫واختم بالتجربة السلمية في تركيا هذا الحوار للستاذ والمجاهد الكبير الذي نخر أعمدة‬
‫العلمانية في تركيا البرفسور نجم الدين أربكان‪ ،‬سأله صحفي مسلم مشهور بقوله‪ :‬إن المشاركة‬
‫في العملية النتخابية أمر ليجوز من الناحية الشرعية‪ ..‬وهي مساهمة في تقوية النظام الجاهلي‬
‫الذي يعتمد مثل هذه الساليب ‪ ..‬فرد أربكان‪ :‬ماذا نفعل إذن‪...‬؟ هل كان بإمكاننا أن نحقق‬
‫المكاسب الكبرى على صعيد الحريات الشخصية والعامة‪ ..‬ونؤسس هذه المئات من المدارس‬
‫السلمية‪..‬ونرفع أصواتنا في البرلمان لتعديل المواد الدستورية التي تحد من الحريات الدينية‪،‬‬
‫ونعيد للناس ثقتهم بأنفسهم وبدينهم‪ ،‬ونحاصر الشر بأنواعه حتى يكاد ينحسر عن بلدنا‪ ،‬بغير‬
‫هذه الوسائل التي ترفع من مستوى أداء الجميع افرادا وجماعات وتدفع الجميع لتحمل‬

‫‪-602-‬‬
‫()‬
‫مسؤولياتهم في إعادة البناء‪ 1 ..‬؟‬
‫إن التيار السلمي في تركيا ليزال في نمو متصاعد على الرغم من ضخامة مخططات‬
‫العداء المحيطين به‪ ،‬وجسامة الخطار التي يواجهها من اليمين واليسار على السواء وإننا‬
‫لمنتظرون تحقيق وعد ال تعالى في قوله ‪{ :‬فأما الزبد فيذهب جفاء واما ماينفع الناس فيمكث‬
‫في الرض} (سورة الرعد‪ :‬آية ‪.)17‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬إن ال ليصلح عمل المفسدين} (سورة يونس‪ :‬آية ‪.)81‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬ويأبى ال إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون} (سورة التوبة‪ :‬آية ‪.)32‬‬

‫المبحث الثامن‬
‫اسباب سقوط الدولة العثمانية‬

‫إن اسباب سقوط الدولة العثمانية كثيرة جامعها هو البتعاد عن تحكيم شرع ال تعالى الذي‬
‫جلب للفراد والمة تعاسة وضنكا في الدنيا‪ ،‬وإن آثار البتعاد عن شرع ال لتبدوا على الحياة‬
‫في وجهتها الدينية والجتماعية والسياسية والقتصادية‪.‬‬
‫وإن الفتن تظل تتوالى وتترى على الناس حتى تمس جميع شؤون حياتهم‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تحديات سياسية تواجة الحركة السلمية ‪ ،‬ص ‪.87‬‬


‫‪-603-‬‬
‫قال تعالى ‪ { :‬فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ‪ ،‬أو يصيبهم عذاب أليم }‬
‫(سورة النور‪ :‬الية ‪.)63‬‬
‫لقد كان في ابتعاد أواخر سلطين الدولة العثمانية عن شرع ال تعالى آثاره على المة‬
‫السلمية؛ فتجد النسان المنغمس في حياة المادة والجاهلية مصاب بالقلق والحيرة والخوف‬
‫والجبن يحسب كل صيحة عليه‪ ،‬يخشى من النصارى ول يستطيع أن يقف أمامهم وقفة عز‬
‫وشموخ واستعلء‪ ،‬وإذا تشجع في معركة من المعارك ضعف قلبه أمام العداء من أثر‬
‫المعاصي في قلبه‪ ،‬وأصبح في ضنك من العيش‪{ :‬ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة‬
‫ضنكا} (سورة طه‪ :‬آية ‪.)124‬‬
‫وقد أصيبت الشعوب السلمية في مراحل الدولة العثمانية الخيرة بالتبلد وفقد الحساس‬
‫بالذات‪ ،‬وضعف ضميرها الروحي‪ ،‬فل أمر بمعروف تأمر به ول نهي عن منكر تنهى عنه‪،‬‬
‫وأصابهم ماأصاب بنو اسرائيل عندما تركوا المر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى‪:‬‬
‫{ لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا‬
‫يعتدون‪ ،‬كانوا ليتنهاون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون}‪(.‬سورة المائدة‪ ،‬آية ‪.)79-78‬‬
‫‪:‬‬ ‫فإن أي أمة لتعظم شرع ال أمرا ونهيا تسقط كما سقط بنو اسرائيل قال رسول ال‬
‫(كل وال لتأمرنّ بالمعروف ولتَنهُونّ عن المنكر ولتأخُذُنّ على يد الظالم ولتأط ُرنّه على الحق‬
‫أطرا‪ ،‬ولتقصُرُنهُ على الحق قصرا أو ليضربن ال بقلوب بعضكم بعضا‪ ،‬ثم ليل َعنّكم كما‬
‫()‬
‫لعنهم) ‪. 1‬‬
‫لقد تحققت في الدولة العثمانية سنة ال في تغيير النفوس من الطاعة والنقياد الى المخالفة‬
‫والتمرد على أحكام ال‪{ .‬ذلك بأن ال لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما‬
‫بأنفسهم} (سورة النفال‪:‬آية ‪.)53‬‬

‫‪ )(1‬ابوداود‪ ،‬كتاب الملحم‪ ،‬باب المر بالمعروف رقم الحديث ‪.4670‬‬


‫‪-604-‬‬
‫كما أن الشعوب التي ترضخ تحت الحكام الذين تباعدوا عن شرع ال تذل وتهان حتى تقوم‬
‫أمام من خالف أمر ال وتطلب العون من اخوانهم في العقيدة‪.‬‬
‫إن انحراف سلطين الدولة العثمانية المتأخرين عن شرع ال وتفريط الشعوب السلمية‬
‫الخاضعة لهم في المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬أثر في تلك الشعوب‪ ،‬وكثرة العتداءات‬
‫الداخلية بين الناس وتعرضت النفوس للهلك‪ ،‬والموال للنهب‪ ،‬والعراض للغتصاب بسبب‬
‫تعطل أحكام ال فيما بينهم‪ ،‬ونشبت حروب وفتن ‪ ،‬وبليا تولدت على أثرها عداوة وبغضاء لم‬
‫تزل عنهم حتى بعد زوالهم‪ ،‬وأصبحت شوكة العداء من الروس والنكليز والبلغار والصرب‬
‫وغيرهم تقوى وتحصلوا على مكاسب كبيرة‪ ،‬وغاب نصر ال عن السلطين والمة العثمانية‪،‬‬
‫وحرموا التمكين ‪ ،‬وأصبحوا في خوف وفزع من أعدائهم‪ ،‬وتوالت المصائب ‪ ،‬وضاعت‬
‫الديار‪ ،‬وتسلط الكفار‪.‬‬
‫إن من سنن ال تعالى المستخرجة من حقائق الدين والتاريخ أنه إذا عُصي ال تعالى ممن‬
‫يعرفونه سلط ال عليهم من ليعرفونه؛ ولذلك سلط ال النصارى على المسلمين في الدولة‬
‫العثمانية‪.‬‬
‫إن الذنوب التي يهلك ال بها الدولة ‪ ،‬ويعذب بها المم قسمان‪:‬‬
‫‪ -1‬معاندة الرسل والكفر بما جاؤوا به‪.‬‬
‫‪ -2‬كفر النعم بالبطر والشر‪ ،‬وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء ومحباة القوياء‬
‫والسراف في الفسق والفجور‪ ،‬والغرور بالغني والثروة فهذا كله من الكفر بنعمة ال ‪،‬‬
‫واستعمالها في غير مايرضيه من نفع الناس والعدل العام‪ ،‬والنوع الثاني من الذنوب هو الذي‬
‫()‬
‫مارسه أواخر سلطين الدولة العثمانية وأمراؤهم ‪. 1‬‬
‫إن الدولة العثمانية في بداية أمرها كانت تسير على شرع ال في كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬ملتزمة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬دولة الموحدين لعلي محمد الصلبي‪ ،‬ص ‪.170‬‬


‫‪-605-‬‬
‫بمنهج أهل السنة في مسيرتها الدعوية والجهادية آخذة بشروط التمكين وأسبابه كما جاءت في‬
‫القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة أما في أواخر عهدها فقد انحرفت عن شروط التمكين ‪،‬‬
‫وابتعدت عن أسبابه المادية والمعنوية قال تعالى‪{ :‬وعد ال الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات‬
‫ليستخلفنهم في الرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم‬
‫وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ليشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم‬
‫الفاسقون وأقيموا الصلة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} (سورة النور‪ :‬آية ‪55،‬‬
‫‪.)56‬‬
‫فكانت الدولة السلمية العثمانية في بداية أمرها مستوعبة لتلك الشروط أما في أواخر عهدها‬
‫فقد أصاب تلك الشروط انحرافا عن مفاهيمها الصلية فمثلً‪:‬‬

‫أولً‪ :‬من لوازم اليمان الصحيح الولء والبراء‪:‬‬


‫فكانت الدولة في عصورها المتقدمة عاملة بقول ال تعالى ‪{ :‬ل يتخذ المؤمنون الكافرين‬
‫أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من ال في شيء إل أن تتقوا منهم تقة ويحذكرم‬
‫ال نفسه والى ال المصير} (سورة آل عمران‪ :‬آية ‪.)28‬‬
‫وقول ال تعالى ‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا لتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض‬
‫ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن ال ليهدي القوم الظالمين } (سورة المائدة‪ :‬آية ‪.)51‬‬
‫‪( :‬أوثق عرى اليمان المولة في ال والمعاداة في ال والحب في ال‬ ‫ويقول رسول ال‬
‫()‬
‫والبغض في ال) ‪. 1‬‬
‫أما في عصورها المتأخرة وخصوصا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين فقد‬
‫أصيب مفهوم الولء والبراء بالنحراف ‪ ،‬نتيجة للجهل الذريع الذي خيم على أغلب أقاليم‬
‫الدولة العثمانية والبلدان السلمية‪ ،‬ولغياب العلماء الربانيين الذين ينيرون للمة دروبها‪،‬‬

‫‪ )(1‬صحيح الجامع الصغير (‪ ،2/343‬ح ‪.)2536‬‬


‫‪-606-‬‬
‫ويأخذون بزمامها الى الطريق المستقيم وكان الحكام والسلطين يصانعون العداء من الكافرين‬
‫ويتولنهم من دون المؤمين؛ حيث كان هؤلء الكافرون على جانب عظيم من القوة المادية‪،‬‬
‫والمسلمون في المقابل على العكس تماما من الضعف؛ فقد ساعد الواقع الليم الذي كان يعيشه‬
‫()‬
‫المسلمون على زعزعة هذه العقيدة ‪. 1‬‬
‫فالواقع المليء بكافة صور النحطاط من فقر وضعف وجهل ومرض وخرافة في مقابل‬
‫الواقع الوروبي مثلً كان عاملً من عوامل إضعاف عقيدة الولء والبراء‪ ،‬ومع ذلك ليجوز لنا‬
‫أبدا أن نبرر لهؤلء المنبهرين انبهارهم بواقع الكافرين؛ إذ لو كان إيمانهم صادقا ‪ ،‬وعقيدتهم‬
‫راسخة لم تجرفهم أهواء الكافرين ولم تتقاذفهم أمواج المادة والقوة‪ ،‬كما كان حال الجيل الول‬
‫رضي ال عنهم الذي استعلى بدينه وعقيدته على قوة الكافرين وجبروتهم حتى في وقت الهزيمة‬
‫‪ ،‬ولحظة الفشل كما قال ال تبارك وتعالى‪{ :‬ول تهنوا ول تحزنوا وأنتم العلون إن كنتم‬
‫مؤمنين}(سورة آل عمران‪:‬آية ‪.)139‬‬
‫ومع هذا فإن هذه العقيدة على مستوى شعوب المة كانت متوهجة في النفوس ‪ ،‬مستقرة في‬
‫العقول ؛ فقد كان المسلم في الشمال الفريقي يحب أخاه المسلم في الشام ويبغض جاره‬
‫النصراني وهكذا في كل القطار والبلدان وكان المسلم يحس بإخوانه في كل مكان بما يقع‬
‫لخوانه في الدين من اعتداءات ونكبات‪ ،‬ويشارك بعضهم مع إخوانهم لجهاد المعتدين‪ ،‬والنفير‬
‫كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو‬ ‫في سبيل ال‪ .‬فكانوا الى حد كبير كما وصفهم الرسول‬
‫()‬
‫تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ‪. 2‬‬
‫وقد بينا مناصرة مسلمي الحجاز وليبيا لخوانهم في مصر عندما احتلها الفرنسيون في عام‬
‫‪1213‬هـ‪1798/‬م وكيف تفاعل المسلمون مع دعوة السلطان عبدالحميد الثاني الى فكرة‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية لعلي الزهراني (‪.)1/142‬‬


‫‪ )(2‬البخاري‪ ،‬كتاب الدب‪ ،‬باب رحمة الناس والبهائم (‪ )10/438‬رقم ‪.6011‬‬
‫‪-607-‬‬
‫الجامعة السلمية ودعوته لتحاد المسلمين في العالم في مقابل التسلط الوروبي والروسي‬
‫وغيرهما‪ ،‬وقد أثمرت هذه الدعوة الى حد كبير ‪ ،‬وتجاوب معها المسلمون في كل مكان على‬
‫اختلف لغاتهم وألوانهم وبلدهم؛ وليس أدل على ذلك من تبرع المسلمين في أقطار العالم‬
‫لنشاء خط سكة حديد بين بغداد والحجاز بثلث نفقات الخط‪.‬‬
‫إن الشعور بالتربط الديني بين المسلمين كان قويا على الرغم من كثرة النحرافات التي‬
‫توحي بالفرقة والختلف كالمذاهب الكلمية والفقهية‪ ،‬والطرق الصوفية‪ ،‬وكانت عقيدة الولء‬
‫والبراء سليمة الى حد كبير في نفوس العامة؛ لذلك كبر على أعداء السلم من اليهود‬
‫والنصارى أن يروا في تلك العقيدة جدارا صلبا وحاجزا قويا يقف أمام مخططاتهم ومحاولتهم‬
‫في القضاء على المسلمين ودينهم‪ .‬ولذا أخذوا يعملون على تحطيم ذلك الجدار وتذويب ذلك‬
‫الحاجز عن طريق صنائعهم وعملئهم في البلد السلمية وفي الدولة العثمانية ممن بأيديهم‬
‫مقاليد المور من السلطين والباشوات‪ .‬كما حدث مع السطان العثماني محمود الثاني المتوفى‬
‫عام ‪1839‬م الذي تزعم حركة الصلح المقلدة للمنهج الوروبي‪ ،‬حيث عمل علىمسخ عقيدة‬
‫الولء والبراء وحاول طمسها في النفوس‪ ،‬ويتجلى هذا التجاه الخطير في قول السلطان نفسه‬
‫(‪...‬إنني ل أريد ‪-‬ابتداء من الن ‪ -‬أن يمييز المسلمون إل في المسجد‪ ،‬والمسيحيون إل في‬
‫الكنيسة واليهود في المعبد‪ ،‬إني أريد مادام يتوجه الجميع نحوي بالتحية أن يتمتع الجميع‬
‫بالمساواة في الحقوق وبحماية البوية ومن هنا نعمت المسيحية وغيرها في الدولة في ذلك‬
‫()‬
‫العصر بحرية واسعة النطاق ‪. 1‬‬
‫وفي هذا العصر انتشرت المدارس اليوناينة والرمنية والكاثوليكية انتشارا واسعا بفضل‬
‫()‬
‫رعاية السلطان وتشجيعه ‪. 2‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬حركة الصلح في عصر السلطان محمود الثاني ‪ ،‬د‪ .‬البحراوي‪ ،‬ص ‪.214‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.214‬‬
‫‪-608-‬‬
‫وقد ثار رجال إحدى الحاميات العثمانية ضد احتمال إلزامهم أن يضعوا على صدورهم‬
‫الحزامين المتقاطعين على شكل صليب على النسق النمساوي‪ ،‬وطرد الثوار الباشا المرسل من‬
‫()‬
‫قبل السلطان ‪. 1‬‬
‫وقد سمح السلطان لرعاياه المسيحيين بارتداء الطربوش بدلً من القلنسوة القديمة‪ ،‬وبذلك‬
‫خلصهم من الرمز المميز لهم‪ ،‬وكان لذلك رنة فرح شديدة عندهم‪ ،‬وقد حاول فرض الطربوش‬
‫الحمر على العلماء بدلً من العمامة‪ ،‬فلما أبوا عليه ذلك تراجع مغطيا موقفه بإعلن الجهاد‬
‫()‬
‫ضد الروس ‪. 2‬‬
‫والدهى من ذلك ما(حدث من استعانة الدولة العثمانية بضباط دانوا بالولء لروسيا من قبل ‪،‬‬
‫وظلت الدولة غافلة عن هذه الحقيقة‪ ،‬وبالتالي كان لروسيا عيون في جيش السلطان الجديد‬
‫()‬
‫تزودها بأدق المعلومات والخطط) ‪ . 3‬وكم من هزيمة ساحقة تلقتها الدولة العثمانية من روسيا‪،‬‬
‫وكان من أسبابها تسرب المعلومات الهامة عن طريق هؤلء‪.‬‬
‫هذا مثال بارز على ضعف عقيدة الولء والبراء لدى بعض سلطين العثمانيين وعدم‬
‫الهتمام بها‪.‬‬
‫أما الباشا محمد علي والي مصر‪ ،‬فقد فتن بالغرب ‪ ،‬وتابع سياستهم‪ ،‬وسار على خطاهم ‪،‬‬
‫وما فتئ خلل حكمه الطويل الذي بلغ خمسة وأربعين عاما تقريبا يتولي الكفار ويصانعهم‪،‬‬
‫ويعلي من شأنهم ويقوم باتباعهم والقتباس من نظمهم وقوانينهم ‪ ،‬والسير في ركابهم‪ ،‬مع شدة‬
‫بطشه وتنكيله بالمسلمين‪ ،‬واستهانته بهم؛ فقد تخطى عقيدة الولء والبراء وضربها في الصميم‪،‬‬
‫ليرضي أسياده الصليبيين وليخضع أمته وشعبه المسلم للمخططات اليهودية فقد اعتاد محمد‬
‫علي باشا أن يكون أغلب المحيطين به من النصارى واليهود‪ ،‬الذين تغلغلوا في حكومته‬
‫‪)(1‬انظر‪ :‬حركة الصلح في عصر السلطان محمود الثاني ‪ ،‬د‪ .‬البحراوي‪ ،‬ص ‪.258‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.261‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.247‬‬
‫‪-609-‬‬
‫وبلطه‪ ،‬خصوصا نصارى الرمن من أعداء الملة الذين هم خاصته وجلساؤه وأهل مشروته‪،‬‬
‫()‬
‫وشركاؤه في اختلس أموال الدولة ونهب خيراتها ‪. 1‬‬
‫وفتح البلد على مصرعيها لفواج النصارى الصليبيين للبحث والتنقيب ‪ ،‬واكتشاف الثار‪،‬‬
‫()‬
‫ودراسة الماكن دراسة دقيقة بل ومساعدته لهم وتذليله الصعاب في طريقهم ‪. 2‬‬
‫لقد قام النصارى بدراسة مراكز الثروة‪ ،‬ودراسة المواقع دراسة تخطيطية ‪ ،‬مما افادهم‬
‫ولشك في احتلل مصر فيما بعد عام ‪1882‬م خصوصا إذا علمنا أن كثيرا من هؤلء المنقبين‬
‫كانوا من النكليز ‪ ،‬وكانت هناك أهداف أخر لم يفطن لها كثير من الباحثين ونترك الحديث‬
‫لحد المستشرقين في كتابه (الشرق الدنى؛ مجتمعه وثقافته)‪( :‬إننا في كل بلد اسلمي دخلناه‪،‬‬
‫نبشنا الرض لنستخرج حضارات ماقبل السلم ‪ ،‬ولسنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد مسلم الى‬
‫()‬
‫عقائد ما قبل السلم‪ ،‬ولكن يكفينا تذبذب ولئه بين السلم وبين تلك الحضارات‪. 3 )...‬‬
‫وعلى ضوء ماسبق من أهداف نستطيع أن نفسر أهتمامات هؤلء النصارى بشق البلد طولً‬
‫وعرضا ‪ ،‬وإنفاقهم الموال الطائلة في كشف الثار وتعريتها بدءا بالفرنسيين ثم النكليز الذين‬
‫()‬
‫ساروا على خط واحد في تنفيذ هذه الهداف الخبيثة ‪. 4‬‬
‫يقول الستاذ محمد قطب‪( :‬ولكن المخطط الخبيث الذي حمله الصليبيون معهم وهم يجوسون‬
‫خلل الديار كان هونبش الرض السلمية لستخراج الحضارات‪ ،‬تمهيدا لقتلعهم نهائيا من‬
‫()‬
‫الولء للسلم) ‪. 5‬‬
‫وقدم محمد علي خدمة لمخططات العداء بضرب التجاه السلمي السلفي في الجزيرة‬
‫‪)(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/165‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/170‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.202‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/171‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر ‪ ،‬ص ‪.202‬‬
‫‪-610-‬‬
‫العربية تظاهرا بطاعة السلطان العثماني الذي فقد السيطرة على بلد الحرمين الشريفين‪ ،‬واتخذ‬
‫من ذلك ستارا لتنفيذ مخططات بريطانيا وفرنسا اللتين رأتا الوجود السعودي يشكل خطرا على‬
‫()‬
‫مصالحهما‪ ،‬خصوصا في الخليج العربي والبحر الحمر ‪. 1‬‬
‫وقد كان على رأس تلك الجيوش التي وجهها محمد علي ضباط فرنسيون وبعض‬
‫()‬
‫النصارى ‪. 2‬‬
‫وقد سرّت فرنسا بذلك العمل الحربي المدمر‪ ،‬وكذلك بريطانيا وأبلغت فرنسا محمد علي عن‬
‫طريق قنصلها في القاهرة أنها ممنونة مما رأته من اقتداره على نشر أعلم التمدن في البلد‬
‫()‬
‫الشرقية ‪. 3‬‬
‫وضايق محمد علي باشا العلماء والفقهاء والزهريين في لقمة العيش وسيطر على الوقاف‬
‫التابعة للزهر وضمها للدولة وبالتالي أحكم السيطرة على المشايخ القائمين على التعليم من‬
‫( ‪)4‬‬
‫وحتى الكتاتيب التي تعلم القرآن الكريم والعلوم الولية للناشئة من أبناء‬ ‫رجال الزهر‬
‫المسلمين ‪ ،‬لم تنج من غائلة محمد علي؛ فقد ذكر الجبرتي ‪-‬رحمه ال‪ -‬أن كثيرا من المكاتب‬
‫()‬
‫أغلقت بسبب تعطل أوقافها واستيلء محمد علي عليها ‪. 5‬‬
‫وذكر الشيخ محمد عبده أن ماأبقاه محمد علي من أوقاف الزهر والوقاف الخرى ل‬
‫يساوي جزءا من اللف من إيرادها‪ .‬وأنه أخذ من أوقاف الجامع الزهر ما لوبقي الى اليوم‬
‫(في عهد الشيخ محمدعبده) لكانت غلته لتقل عن نصف مليون جنيه في السنة‪ ،‬وقرر له بذلك‬
‫مايساوي أربعة آلف جنيه في السنة بينما نجده قد اندفع نحو التغريب وارسال البعثات كما‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬ص ‪.189‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.187‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/174‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬عجائب الثار (‪.)3/478‬‬
‫‪-611-‬‬
‫ذكرنا في البحث‪.‬‬
‫إن هذه السياسة التدميرية التي نهجها محمد علي والتي فرضت قهرا على المسلمين كانت‬
‫تنفيذا للمخطط الصليبي الذي عجزت الحملة الفرنسية عن تنفيذه بسبب اضطرارها للرحيل‪،‬‬
‫وهو أمر أكده المؤرخ النكليزي أرنولد توينبي في قوله‪( :‬كان محمد علي ديكتاتورا أمكنه‬
‫()‬
‫تحويل الراء النابليونية الى حقائق فعالة في مصر) ‪. 1‬‬
‫لشك أن محمد علي باشا كان صنيعة من صنائع الغرب وعميلً من عملئهم‪ ،‬سواء كان‬
‫وصوله الى سدة الحكم نتيجة تخطيط صليبي على الخص تخطيط فرنسي أو كان نتيجة لدهاء‬
‫محمد علي ومكره وثقافته أو كان للمرين معا ‪ ،‬فإن هذا كله ليغير من المر شيئا‪ ،‬ولينفي أن‬
‫محمد علي قد أحتوته الدول الغربية‪ ،‬وأخذت تقوده في ركابها ‪ ،‬وخصوصا وأن فيه من‬
‫الصفات والخلل التي ينشدها المستعمرون دائما كجنون العظمة‪ ،‬وغلظة القلب وفظاظة الطبع‬
‫()‬
‫ورقة الديانة أو عدمها ‪. 2‬‬
‫وقد عمل محمد علي طوال سنوات حكمه على القضاء على عقيدة الولء والبراء ‪ ،‬واستخدم‬
‫سياسة العسف والرهاب والتنكيل في أنحاء مملكته لينتزع هذه العقيدة من قلوب المسلمين‪،‬‬
‫()‬
‫ويقضي عليها قضاءً مبرما ‪. 3‬‬
‫ومع عظم الهالة التي أحيط بها محمد علي من قبل المستشرقين ومن اقتفى أثرهم من‬
‫المؤرخين القوميين والعلمانيين حول ما قام به من إصلحات في كثير من المجالت التعليمية‬
‫والقتصادية والعسكرية إل أنه من الثابت من سيرة محمد علي أنه يكره مسلمي مصر‬
‫ويحتقرهم ويزدريهم أيما أزدراء ‪ ،‬وليس أدل من ذلك إل قوله ‪( :‬ثقوا أن قراري ‪ ...‬لينبع من‬
‫عاطفة دينية فأنتم تعرفونني وتعلمون أنني متحرر من هذه العتبارات التي يتقيد بها قومي‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين ‪ ،‬ص ‪.182‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/181‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/181‬‬
‫‪-612-‬‬
‫()‬
‫‪..‬وقد تقولون أن مواطني حمير وثيران وهذه حقيقة أعلمها) ‪. 1‬‬
‫وقد كان محمد علي باشا متواطئا مع الفرنسيين عند احتللهم للجزائر‪ ،‬حتى لقد هم ‪-‬بعد أن‬
‫جاءته الوامر بالطبع‪ -‬أن يقوم بنفسه باحتلل الجزائر خدمة للفرنسيين وعملً لحسابهم‬
‫الخاص إل أن أسياده رفضوا تلك الفكرة التي تهيج المسلمين وتثيرهم بعد أن ينكشف أمر‬
‫()‬
‫عميلهم؛ لذا بادروا الى إلغائها ‪ ،‬واكتفى محمد علي بتزويد الفرنسيين في الجزائر بالغلل ‪. 2‬‬
‫ويذهب الدكتور سليمان الغنام الى أن بريطانيا لما عملت بعزم محمد علي ثارت ثائرتها‬
‫وهددته بنسف أسطوله إن هو فكر في ذلك‪.‬‬
‫هذه وقفة مع باشة من باشوات الدولة العثمانية عمل على اضعاف عقيدة الولء والبراء لدى‬
‫المة المسلمة بشكل مباشر تمثل في سياسة العسف والرهاب‪ ،‬وبشكل غير مباشر اتخذ‬
‫التغريب له مسارا‪ ،‬لقد استحق محمد علي أن يكون رائد التغريب في العالم السلمي العربي‬
‫التابع للدولة العثمانية وسار أولده وأحفادهم من بعده على نفس السياسة‪ ،‬فقد ظلوا يتعهدون‬
‫غراس التغريب والعلمنة ‪ ،‬ويسيرون في نفس الطريق ويتسابقون الى كسب ولء الغرب ‪،‬‬
‫()‬
‫وخطب وده ‪. 3‬‬
‫إن فئة سلطين الدولة العثمانية وباشواتها أمعنوا في موالة الكافرين وألقوا إليهم بالمودة‪،‬‬
‫وركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين وعملوا على اضعاف عقيدة الولء والبراء في‬
‫المة وأصابوها في الصميم‪ ،‬وبذلك تميعت شخصية الدولة العثمانية وهويتها وفقدت أبرز‬
‫مقوماتها وسهل بعد ذلك على أعداءها أن يحتووها ثم مزقوها شر ممزق‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬انحصار مفهوم العبادة‪:‬‬

‫‪)(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/188‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الشرق السلمي‪ ،‬حسين مؤنس‪ ،‬ص ‪.311‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/189‬‬
‫‪-613-‬‬
‫إن من شروط التمكين التي قام بها العثمانيون الوائل تحقيق مفهوم العبودية الشامل كما‬
‫مفهومه من القرآن الكريم والسنة النبوية ‪ ،‬وكما أخذوه عن السلف الصالح رضوان ال عليهم ‪.‬‬
‫ففهموا أن الدين كله عبادة‪ ،‬لذا كانت العبادة بمفهومها الواسع هي الغاية الحقيقية التي خلق‬
‫ال الخلق لجلها كما قال تعالى‪{:‬وما خلقت الجن والنس إل ليعبدون}( سورة الذاريات‪ :‬آية‬
‫لقوامهم‪:‬‬ ‫‪ .)56‬وكانت هي دعوة الرسل جميعا من لدن نوح عليه السلم الى نبينا محمد‬
‫{ياقوم اعبدوا ال مالكم من إله غيره} (سورة العراف‪ :‬اليات ‪.)59،65،73،85‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬ولقد بعثنا في كل أمة رسولً أن أعبدوا ال واجتنبوا الطاغوت} (سورة النحل ‪:‬‬
‫آية ‪.)36‬‬
‫وقال تعالى‪{:‬وما أرسلنا من قبلك من رسول إل نوحي إليه أنه ل إله إل أنا فأعبدون} (سورة‬
‫النبياء‪ :‬آية ‪.)25‬‬
‫لقد فهم العثمانيون الوائل العبادة بمفهومها الشامل الذي أرداه ال عز وجل‪ ،‬وهي أن تشمل‬
‫كل نشاط في حياة النسان‪{ :‬قل إن صلتي ونسكي ومحياي ومماتي ل رب العالمين‪ ‬لشريك‬
‫له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(سورة النعام‪ :‬الية ‪.)162،163‬‬
‫فأصبحت حياتهم حافلة بالعمال العظيمة من تقوية الدولة المسلمة وتربية دائمة لرعاياها‪،‬‬
‫وتعليم القرآن ‪ ،‬والعلم‪ ،‬وجهاد الكافرين والمنافقين‪ ،‬وقيام على أمور المسلمين ‪ ،‬وتنفيذ لهداف‬
‫التمكين ولذلك نجد العلمة الشيخ شمس الدين آق يجمع بين دوره في توجيه المة وتعليمها‬
‫وتوظيف علم النبات والطب والصيدلة لمصلحة المسلمين ‪ ،‬لقد كان هذا الشيخ يتعبد المولى عز‬
‫وجل بالعلم الديني والدنيوي وكانت له بحوثه في علم النبات ومعالجة المراض المعدية وألف‬
‫في ذلك كتابا ‪ ،‬وأهتم ايضا بمعالجة مرض السرطان وكان مجاهدا في صفوف جيش محمد‬
‫الفاتح‪ ،‬مربيا لعوام العثمانيين على طاعة ال تعالى ومهتما بتزكيتهم وآمر بالمعروف وناهيا عن‬
‫المنكر وكان نعم المربي والناصح لمحمد الفاتح‪ ،‬فبعد أن فتحت القسطنطينية جاء محمد الفاتح‬
‫يدخل في الخلوة مع الشيخ فمنعه الشيخ شمس الدين وقال لمحمد الفاتح‪( :‬إنك إذا دخلت الخلوة‬
‫‪-614-‬‬
‫تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك‪ ،‬فتختل أمورها ‪ ،‬فيمقت ال علينا ذلك والغرض من‬
‫الخلوة تحصيل العدالة ‪ ،‬فعليلك أن تفعل كذا وكذا وذكر له شيئا من النصائح إن هذا الفهم‬
‫الجميل هو الذي سارت به الدولة العثمانية عندما كان للعلماء الربانيين صدارة التوجيه‬
‫والرشاد والتعليم‪ ،‬ولذلك نجد نهوضا شاملً في عصر السلطان محمد الفاتح في كافة شؤون‬
‫الحياة التربوية والسياسية‪ ،‬والقتصادية والعسكرية‪ ،‬والجتماعية والعلمية كل ذلك النهوض‬
‫مستمد من مفهوم العبودية الشامل الذي فهموه من الشريعة الغراء ولذلك نجد في الدولة‬
‫العثمانية في عصر مجدها وقوتها تفوقا في كافة المجالت فمثلً في الجغرافيا يظهر اسم الريس‬
‫بيري في زمن السلطانين سليم الول‪ ،‬وسليمان القانوني‪ ،‬وكان الريس بيري‪ ،‬قائدا للبحرية‬
‫العثمانية‪ ،‬وعالما جغرافيا فذا‪ ،‬ولد عام ‪1465‬م وتوفي عام (‪1554‬م)‪ ،‬كان هذا العالم الجغرافي‬
‫رائدا من رواد رسم الخرائط في الدب الجغرافي العثماني وله في هذا المضمار خريطتان‬
‫هامتان‪ ،‬الولى لسبانيا وغرب أفريقيا والمحيط الطلسي والسواحل الشرقية من المريكيتين‪..‬‬
‫وهذه‪ ،‬قدّمها إلى السلطان سليم الول في مصر عام ‪1517‬م‪ ،‬وموجودة الن في متحف طوبقبو‬
‫في إستانبول ( ‪85×60‬سم ) وعليها توقيع الريس‪.‬‬
‫والخرى لسواحل الطلسي من جرونلند إلى فلوريدا ( ‪69×68‬سم ) وموجودة الن في‬
‫متحف طوبقبو بإستانبول أيضا‪.‬‬
‫والجدير بالذكر أن الخريطة التي رسمها الريس بيري لميركا هي أقدم خريطة لها‪.‬‬
‫في ‪ 26‬أغسطس عام ‪1956‬م عقدت في جامعة جورج تاون بالوليات المتحدة الميركية‬
‫ندوة إذاعية عن خرائط الريس بيري‪ ،‬اتفق كل الجغرافيين المشتركين فيها بأن خرائط الريس‬
‫بيري لمريكا ‪ ( :‬اكتشاف خارق للعادة )‪.‬‬
‫وقد كان الريس بيري على معرفة بوجود أمريكا قبل اكتشافها‪ ،‬ويقول في كتاب البحرية ‪:‬‬
‫( إن بحر المغرب ‪ -‬يقصد المحيط الطلسي ‪ -‬بحر عظيم‪ ،‬يمتد بعرض ‪ 2000‬ميل تجاه‬
‫الغرب من بوغار سبته‪ .‬وفي طرق هذا البحر العظيم توجد قارة هي قارة أنتيليا )‪ ،‬وتعبير قارة‬
‫‪-615-‬‬
‫أنتيليا هي الدنيا أو أميركا‪ .‬وقد كتب الريس أن هذه القارة اكشتفت عام (‪870‬هـ‪1465/‬م ) أي‬
‫()‬
‫قبل اكتشاف كولومبس لمريكا بحوالي ‪27‬سنة ‪. 1‬‬
‫لقد ترك ريس بيري كتابا في البحرية أثار بما فيه من معلومات وخرائط دقيقة‪ ،‬دهشت‬
‫المعاصرين من علماء الجغرافيا في أميركا وأوروبا‪ ،‬معلومات وخرائط أثبت العالم المعاصر‬
‫صحتها‪.‬‬
‫وقد ذكر الراهب الجزويتي لين هام مدير مركز الرصاد في ويستون من يدل على عبقرية‬
‫القائد العثماني ريس بيري في علم الجغرافيا حيث يقول‪( :‬خرائط الريس بيري صحيحة بدرجة‬
‫مذهلة للعقل‪ ،‬خاصة أنها تظهر بوضوح أماكن لم تكن قد اكتشفت حتى أيامه في القرن السادس‬
‫عشر الميلدي ‪ ..‬إن الجانب المذهل في مكانة بيري‪ ،‬هو رسمه لجبال أنتاركتيكا بتفاصيلها فيما‬
‫رسمه من خرائط‪ ،‬مع أن هذه الجبال‪ ،‬لم يكن أحد قد تمكن من اكتشافها إلّ في عام ‪1952‬م أي‬
‫في النصف الثاني من القرن العشرين‪ ،‬وكيف؟ بعد استخدام الجهزة المتقدمة العاكسة للصوت‪،‬‬
‫أمّا قبل القائد العثماني الريس بيري‪ ،‬يعني حتى القرن السادس عشر الميلدي‪ ،‬لم يكن أحد‬
‫()‬
‫يعرف أن أنتاركتيكا موجودة‪ ،‬إذ كانت مغطاة بالجليد طوال عصور التاريخ ) ‪. 2‬‬
‫والمعروف أن أنتاركتيكا هي القارة السادسة والواقعة في نصف الكرة الرضية الجنوبي‪ ،‬لم‬
‫يقتصر الذهول على الراهب لين هام فقط‪ ،‬بل تعدّاه إلى كثير من العلماء والكتاب لقد قارن‬
‫بعض العلماء صور الرض التي تم التقاطها من مركبات الفضاء ( في القرن العشرين )‬
‫بالخرائط التي رسمها القائد البحري العثماني الريّس بيري في البدايات المبكرة للقرن السادس‬
‫()‬
‫عشر اتضح التشابه المذهل بين صور مركبات الفضاء وبين خرائط بيري ) ‪. 3‬‬
‫إن النهوض في الدولة العثمانية في عصورها الزاهية كان في كافة المستويات العلمية‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.382‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.383‬‬
‫‪ )(3‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.384‬‬
‫‪-616-‬‬
‫والشعبية‪ ،‬والحكومية والعسكرية وكانت حركة الدولة والمة تعبيرا صادقا لمفهوم العبودية‬
‫الشامل‪ ،‬أما في العصور المتأخرة للدولة العثمانية فقد انحصر مفهوم العبادة في صور الشعائر‬
‫التعبدية التي أصبحت تؤدى كعادة موروثة ليس لها من أثر في حياة ممارسيها‪ ،‬اللهم إل‬
‫ماتستغرقه من زمن لدائها‪( .‬وتم عزل العبادة عن بقية السلم حتى كأن السلم منحصر فيها‬
‫دون بقية الجزاء كالجهاد مثلً‪ ،‬وأحكام المعاملت أو العلقات المالية ومع أن أكثر الناس إن‬
‫لم نقل كلهم يعلمون أن السلم ليس هو العبادات المفروضة فحسب‪ ،‬فإنهم أهملوا الجوانب‬
‫الخرى‪ ،‬وغضوا النظر عنها وأنزلوا مرتبتها‪ .‬ودعا فريق من المرشدين إلى العراض عما‬
‫سوى هذه العبادات‪ ،‬فالجهاد وإنكار المنكر ورد الطغيان والستعمار ومقاومة الظلم والعمل في‬
‫جميع ماينفع المسلمين من المور العامة‪ ،‬كل ذلك في نظر هذا الفريق من الناس وما أكثرهم‬
‫في عصور النحطاط ‪ -‬فضول يشغل عن ال وعبادته ‪ ...‬وبينما كانت مقاييس الصلح‬
‫والتقوى في السلم شاملة لجميع الواجبات التي أوجبها السلم من عبادات خاصة‪ ،‬وجهاد‬
‫وعلم وعدل وعمل نافع للناس واستقامة في المعاملة وإحسان‪ ،‬كل ذلك مقرونا بتوحيد ال‬
‫()‬
‫والخلص له أصبحت مقاييس التقوى محصورة في العبادات) ‪. 1‬‬
‫وهكذا أعانت هذه الفكرة التي عزلت العبادة عن بقية أجزاء النظام السلمي الشامل على‬
‫ضعف الوعي السياسي‪ ،‬والجتماعي والخلقي‪.‬‬
‫ولقد تسبب هذا النحصار في مفهوم العبادة في سلبيات من أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬صارت الشعائر التعبدية تؤدى بصورة تقليدية‪ ،‬عديمة الثر والفائدة حين عزلت عن بقية‬
‫أمور السلم فل تؤدي هذه الشعائر دورها في حياة النسان وقد عزلت عن بقية جوانب العبادة‬
‫الخرى‪ ،‬فالصلة التي يخبر ال عزوجل عنها بقوله‪ { :‬إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر }‬
‫( سورة العنكبوت ‪ .) 45 :‬لم تعد ذات أثر واقعي في حياة مؤديها من الناس حيث لم تعد‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/100‬‬


‫‪-617-‬‬
‫تنهاهم عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬وما كان لها أن تحدث ذلك الثر وقد حصرت العبادة في أداء‬
‫الشعائر التعبدية فحسب‪.‬‬
‫‪ -‬تهاون الناس في بقية جوانب العبادات الخرى‪.‬‬
‫إذ هي عندهم ليست من العبادة في شيء‪ .‬حين نرى من المسلمين من يصلي الفروض‬
‫جماعة في المسجد‪ ،‬ثم يخرج ويحلف عن عتبة المسجد كاذبا‪ ،‬ويغش في بيعه وشرائه‪ ،‬ويحتال‬
‫في معاملته‪ ،‬ويأكل الربا أضعافا مضاعفة‪ ،‬ويقع في أعراض الناس‪ ،‬ثم تراه سادرا في ذلك‬
‫مرتاح الضمير‪ ،‬هادئ الخاطر‪ ،‬قد أسكت وخزات ضميره وتأنيب نفسه بما نقره من ركعات‪.‬‬
‫‪ -‬العناية بالجانب الفردي الشخصي‪ ،‬وإهمال الجوانب الجتماعية فنجد أن المسلمين قد "‬
‫عنوا بالداب الفردية والمتعلقة بذات النسان أكثر من عنايتهم بالداب الجتماعية المتعلقة‬
‫بالخرين‪ ،‬فقد يكون المسلم في ذاته نظيفا ولكنه ليبالي أن يلقي القمامة في طريق المسلمين‪،‬‬
‫()‬
‫ناسيا أن " إماطة الذى عن الطريق من شعب اليمان " كما ورد في الحديث ‪ ، 1‬وقد يكون‬
‫المسلم مراعيا لحكام الطهارة وشروط النظافة في نفسه‪ ،‬ولكنه ليبالي أن يلوث للناس طرقهم‬
‫()‬
‫وأماكن جلوسهم وأن يخل بالداب الجتماعية التي أمر السلم بها " ‪. 2‬‬
‫ونتيجة لكون مفهوم العبادة انحصر في الشعائر وحدها وخرجت منها بقية العمال‪ ،‬فاهتم‬
‫الناس بشؤونهم الخاصة وأهملوا شئونهم العامة‪ ،‬ونمت روح الفردية على حساب الروح‬
‫الجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬إقامة العبادة مقام العمل‪ ،‬والكتفاء برسومها وشعائرها وبما أحدث فيها من بدع عن اتخاذ‬
‫السباب‪.‬‬
‫" قراءة القرآن وتلوته لفظا أصبح بديلً عن العمل بما فيه‪ ،‬من آيات الجهاد والنظر إلى‬

‫‪ )(1‬مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب بيان عدد شعب اليمان (‪.)1/63‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المجتمع السلمي المعاصر لمحمد المبارك‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪-618-‬‬
‫الكون والتفكير فيما خلق ال وإقامة العدل والميزان بالقسط‪ ،‬والحكم بما أنزل ال واستثمار‬
‫يستعد لقتال المشركين‬ ‫مافي الكون من نعم ال مع أن ذلك كله عبادة‪ ...‬وبينما كان الرسول‬
‫كل الستعداد كما أمره ال ويدعو ال ويبتهل إليه لينصره إذا بالمسلمين في هذه العصور‬
‫الخيرة يجعلون الصلة والدعاء ‪ -‬المأثور منه والمبتدع المخترع ‪ -‬بديلً عن السباب‬
‫فيلتمسون الرزق والشفاء والنصر ل بأسبابها المشروعة التي جعلها ال سببا وطريقا إليها‪،‬‬
‫بأدعية خاصة يقتصرون على تلوتها‪ ،‬وربما اخترعوا لذلك رقى وتمام وحجبا‪ ،‬وزيارات‬
‫()‬
‫لمكنة خاصة وأورادا ابتدعوها ‪. 1 ) ...‬‬
‫ولقد نتج عن هذا النحصار الخطير في مفهوم العبادة أن خرجت جميع العمال الخرى‬
‫عن دائرة العبادة‪ ،‬فخرج العمل السياسي بما يشتمل عليه من رقابة المة على أعمال الحاكم‪،‬‬
‫وتقديم النصيحة إليه‪ ،‬والسهر على تطبيق الشريعة وأجراء العدل في حياة الناس‪.‬‬
‫وما أجمل ماقاله سيد قطب في توضيحه لحقيقة العبادة واستنكاره لمن يحصرها في الشعائر‬
‫التعبدية‪( :‬إن الواقع أنه لو كان حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا‬
‫الموكب الكريم من الرسل والرسالت‪ ،‬وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل‬
‫صلوات ال وسلمه عليهم ‪ -‬وما استحقت كل هذه العذابات واللم التي تعرض لها الدعاة‬
‫والمؤمنون على مدار الزمان! إنما استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من‬
‫الدينونة للعباد‪ ،‬وردهم إلى الدينونة ل وحده في كل أمر وفي كل شأن‪ ،‬وفي منهج حياتهم كله‬
‫()‬
‫للدنيا وللخرة سواء) ‪ . 2‬وهذا هو معنى العبادة الشامل الذي وعاه العثمانيون الوائل‪ ،‬فطبقوه‬
‫في حياتهم‪ ،‬وعملوا به في واقع الرض‪ ،‬فدانت لهم الممالك‪ ،‬وخضعت أمامهم الطواغيت‪،‬‬
‫ومكن ال لهم في الرض‪ ،‬ورفعوا راية السلم خفاقة فوق بقاع شاسعة من المعمورة ويوم‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المجتمع السلمي المعاصر‪ ،‬ص ‪.69‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬ظلل القرآن (‪.)4/1938‬‬
‫‪-619-‬‬
‫تبدل ذلك المفهوم وانحصر في دائرة الشعائر‪ ،‬فترت الهمم وضعفت العزائم عن القيام بأمور‬
‫السلم كاملة فوقع الضعف ثم السقوط‪.‬‬
‫إن ماحل بالدولة العثمانية من هزائم عسكرية‪ ،‬وأزمات اقتصادية‪ ،‬وانحرافات خلقية‪،‬‬
‫ومصائب اجتماعية‪ ،‬وتلوثات فكرية‪ ،‬وجفاف روحي‪ ،‬وتأخر حضاري‪ ،‬كان من أسبابه إفراغ‬
‫السلم من محتواه الصيل‪ ،‬وضياع مفهوم العبادة الشامل‪.‬‬
‫" فيوم كانت ‪ { :‬وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } عبادة لم يجرؤ أحد على احتلل أراضي‬
‫المسلمين واستلب خيراتهم ويوم كان " طلب العلم فريضة " لم يكن هناك تخلف علمي‪ ،‬بل‬
‫كانت المة المسلمة هي أمة العلم‪ ،‬التي تعلمت أوروبا في مدارسها وجامعاتها!‬
‫ويوم كانت { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } عبادة‪ ،‬كانت المجتمعات السلمية أغنى‬
‫مجتمعات الرض!‬
‫ويوم كانت " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " عبادة‪ ،‬وكان ولي المر يستشعر أنه راع‬
‫ومسؤول عن رعيته‪ ،‬لم يكن للفقراء في المجتمع السلمي قضية‪ ،‬لن العلج الرباني لمشكلة‬
‫الفقر كان يطبق في المجتمع السلمي عبادة ل! ويوم كانت { وعاشروهن بالمعروف } عبادة‪،‬‬
‫لم تكن للمرأة المسلمة قضية‪ ،‬لن كل الحقوق والضمانات التي أمر ال لها بها كانت تؤدى إليها‬
‫()‬
‫طاعة ل‪ ،‬وعبادة ل! ‪. 1 ) ..‬‬
‫لقد كان النحراف عن مفهوم العبادة الشامل من أسباب إفساح المجال في العصور المتأخرة‬
‫للدولة العثمانية لشيوع المذهب العلماني‪ ،‬وهيمنة الشعارات العلمانية على كثير من القاليم‬
‫التابعة للدولة العثمانية‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬انتشار مظاهر الشرك والبدع والخرافات‪:‬‬


‫إن الدولة العثمانية في القرنين الخيرين كانت غارقة في كثير من مظاهر الشرك والبدع‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬مفاهيم يجب أن تصحح لمحمد قطب ‪ ،‬ص ‪.249‬‬


‫‪-620-‬‬
‫والخرافات‪ ،‬وحدث انحراف في توحيد اللوهية انحرافا رهيبا‪ ،‬وغشيها موج من الظلم‬
‫()‬
‫والجهل حجب عنها حقيقة الدين وطمس فيها نور التوحيد وعدل بها عن صراطه المستقيم ‪. 1‬‬
‫يوم كانت الدولة العثمانية محققة للتوحيد‪ ،‬وتمارس مفهوم العبادة الشامل‪ ،‬وتحارب الشرك‬
‫كانت في ذروة التمكين والعز والنصرة من ال تعالى‪ ،‬فهذا السلطان مراد الول وهو في‬
‫سكرات الموت بعدما طعنه جندي صربي يودع الدنيا بمعاني عميقة في التوحيد‪ ،‬وكلمات‬
‫جامعة على التوحيد المنافي للشرك فيقول " ليسعني حين رحيلي إل أن أشكر ال إنه علم‬
‫الغيوب المتقبل دعاء الفقير‪ ،‬أشهد أن ل إله إل ال‪ ،‬وليس يستحق الشكر والثناء إل هو‪ ،‬لقد‬
‫أوشكت حياتي على النهاية ورأيت نصر جند السلم‪ ،‬أطيعوا ابني يزيد‪ ،‬ولتعذبوا السرى‬
‫ولتؤذوهم ول تسلبوهم وأودعكم منذ هذه اللحظة وأودع جيشنا الظافر العظيم إلى رحمة ال‬
‫()‬
‫فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء " ‪. 2‬‬
‫()‬
‫أما السلطان مراد الثاني فقد ترك وصيته ‪( :‬فليأت يوم يرى الناس فيه ترابي) ‪ . 3‬لقد كان‬
‫قلقا يخشى أن يدفن في قبر ضخم‪ ،‬وكان يريد ألّ يبنى شيئ على مكان دفنه‪.‬‬
‫لقد كان السلطين الوائل تتفجر معاني التوحيد في كلماتهم وتنعكس على أعمالهم وانتشرت‬
‫تلك المفاهيم في الشعب العثماني قاطبة‪ ،‬أما في العصور المتأخرة فقد تغير الحال‪ ،‬ومع تضافر‬
‫الدلة وتواترها ووضوحها في النهي عن كل السبل المفضية إلى الشرك وتحذير النبي‬
‫في الصحيحين‪ ( :‬لعن ال اليهود والنصارى اتخذوا قبور‬ ‫وتشديده في ذلك قبل وفاته‪ ،‬كقوله‬
‫أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا )‪.‬‬
‫()‬
‫قالت عائشة رضي ال عنها‪ :‬ولول ذلك لبرز قبره‪ ،‬ولكن كره أن يتخذ مسجدا ‪ ، 4‬وقوله‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/271‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬ص ‪.391‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬ص ‪.346‬‬
‫‪ )(4‬البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز ‪ ،‬باب مايكره من اتخاذ المساجد على القبور رقم ‪.1330‬‬
‫‪-621-‬‬
‫()‬
‫‪ " :‬لعن ال زائرات القبور‪ ،‬والمتخذين عليها المساجد والسرج " ‪. 1‬‬
‫قبل أن يموت بخمس ‪ " :‬إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد‪ ،‬أل فل‬ ‫وقال‬
‫()‬
‫تتخذوا القبور مساجد‪ ،‬فإني أنهاكم عن ذلك " ‪. 2‬‬
‫‪ " :‬اللهم لتجعل قبري وثنا يعبد‪ ،‬اشتد غضب ال على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم‬ ‫وقوله‬
‫()‬ ‫()‬
‫‪ " :‬لتجلسوا على القبور‪ ،‬ولتصلوا إليها " ‪. 4‬‬ ‫مساجد " ‪ ، 3‬وقوله‬
‫‪ " :‬إن‬ ‫وحين ذكرت له بعض نسائه كنيسة رأينها في أرض الحبشة فيها تصاوير‪ ،‬قال‬
‫أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا‪ ،‬ثم صوروا فيه تلك الصور‪ ،‬أولئك‬
‫()‬
‫شرار الخلق عند ال " ‪. 5‬‬
‫أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه‪ ،‬وجاء في رواية أخرى النهي عن‬ ‫ونهيه‬
‫( ‪)6‬‬
‫وفي أواخر الدولة العثمانية كثر على غير العادة تشيد القباب وتبنى‬ ‫الكتابة على القبور‬
‫الضرحة وإقامة المشاهد‪ ،‬وتحديث المزارات حتى لكأن هذه النصوص جاءت تأمر بالبناء على‬
‫القبور‪ ،‬وتذكر فضله وتحث عليه‪.‬‬
‫وزاد المر سوءا أن بعض الفقهاء أفتوا بجواز بناء القباب على القبور إذا كان الميت‬
‫فاضلً‪ ،‬واحتجوا بقولهم‪ :‬إن بعض السلف استحسن ذلك‪ ،‬وزاد الطين بلة أنهم أودعوا تلك‬
‫()‬
‫الراء الفاسدة في مصنافتهم التي يعكف على دراستها الطلب ‪. 7‬‬

‫‪ )(1‬الترمذي‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ماجاء أن يتخذ على القبر مسجداً‪ ،‬رقم ‪.320‬‬
‫‪ )(2‬مسلم‪ ،‬كتاب المساجد ومواضع الصلة‪ ،‬باب النهي عن بناء المساجد‪ ،‬رقم ‪.532‬‬
‫‪ )(3‬رواه مالك في الموطأ (‪.)1/172‬‬
‫‪ )(4‬مسلم‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب النهي عن الجلوس على القبور‪ ،‬رقم ‪.972‬‬
‫‪ )(5‬البخاري‪ :‬كتاب الصلة‪ ،‬باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية رقم ‪.427‬‬
‫‪ )(6‬الترمذي‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب ماجاء في كراهية تجصيص القبور‪ ،‬صححه اللباني رقم ‪.757‬‬
‫‪ )(7‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/272،273‬‬
‫‪-622-‬‬
‫وأول من أحدث هذه المشاهد الشركية‪ ،‬والمزارات الوثنية في المة هم الشيعة‪.‬‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية بعد أن تحدث عن دور اليهود في نشأة التشيع‪ " :‬فظهرت بدعة‬
‫التشيع التي هي مفتاح باب الشرك‪ ،‬ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل‬
‫المساجد‪ ،‬محتجين بأنه لتصلى الجمعة والجماعة إل خلف إمام معصوم‪ ،‬ورووا في إنارة‬
‫المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الكاذيب مالم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب من‬
‫( ‪)1‬‬
‫كتابا في ( مناسك حج المشاهد ) وكذبوا فيه‬ ‫أهل الكتاب حتى صنف كبيرهم ابن النعمان‬
‫وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه‪ ،‬وغيروا ملته‪ ،‬وابتدعوا الشرك المنافي‬ ‫على النبي‬
‫()‬
‫للتوحيد" ‪. 2‬‬
‫وانتقل هذا الوباء العظيم وبدأ في نخر الدولة العثمانية‪ ،‬وتعاظم شره‪ ،‬ووقع ماحذر منه النبي‬
‫من الشرك العظيم‪.‬‬
‫وقد تجلت مظاهر الشرك ووسائله في تلك الفترة في الصور التالية‪:‬‬
‫‪ -‬بناء المساجد والقباب والمشاهد على الضرحة والقبور في أقاليم الدولة‪ ،‬بل انتشر ذلك في‬
‫العالم السلمي كله وللسف الشديد نجد الدولة العثمانية في العصور المتأخرة تشجع على تلك‬
‫المشاهد والضرحة المنتشرة في العالم السلمي فمثلً أعفت الدولة أهالي البصرة من الرسوم‬
‫والتكاليف‪ ،‬احتراما لصاحب الحضرة الشريفة‪ ،‬يعني الزبير بن العوام رضي ال عنه‪ ،‬وأن‬
‫العثمانيين بنوا على ضريحه مسجدا‪ ،‬وقامت والدة السلطان عبدالعزيز بترميم القبب‪ ،‬وتكبير‬
‫المسجد‪ ،‬وفي سنة ‪1293‬هـ ورد أمر من السلطان عبدالحميد الثاني بتعمير هذه المراقد‬
‫الشريفة على نظارة والي البصرة ( ناصر باشا السعدون )‪.‬‬
‫ثم في سنة ‪1305‬هـ أمر السلطان عبدالحميد أيضا بتبييض القبب وتعمير المسجد‪ ،‬وأمر‬

‫‪ )(1‬من كبار الشيعة السماعيلية في مصر‪.‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مجموع الفتاوى (‪.)27/162‬‬
‫‪-623-‬‬
‫أيضا بكسوتين للضريحين ( الزبير وعتبة بن غزوان ) من الحرير الحمر المفتخر المطرز‬
‫( ‪)1‬‬
‫وكانت جميع‬ ‫بالفضة وأمر أيضا بوضع مباخر وقماقم من الفضة عند الضريحين الكريمين‬
‫القاليم السلمية‪ ،‬في الحجاز واليمن وافريقيا ومصر والمغرب العربي والعراق والشام وتركيا‬
‫وإيران‪ ،‬وبلد ماوراء النهر والهند وغيرها تتسابق في بناء الضرحة والقباب وتتنافس في‬
‫تعظيمها والحتفاء بها‪ ،‬إذ البناء على القبور هو مادرج عليه أهل ذلك العصر‪ ،‬وهو الشرف‬
‫الذي يتوق إليه الكثيرون‪.‬‬
‫لقد أولع العثمانيون في عصورهم المتأخرة بالبناء على كل ما يعظمه الناس في ذلك العصر‬
‫سواء أكان ما يعظمونه قبورا أو آثار لنبياء أو غير ذلك‪.‬‬
‫وأصبحت تلك المشاهد والضرحة محلً للستغاثة والستعانة بأصحابها وانتشرت عقائد‬
‫شركية كالذبح لغير وجه ال والنذر للضرحة‪ ،‬والستشفاء وطلب البراء من الضرحة‬
‫والعتصام بها‪ ،‬وأصبحت الضرحة والقبور تهيمن على حياة الناس وهكذا طغت هذه‬
‫الضرحة على حياة الناس‪ ،‬وأصبحت مهيمنة على شئونهم‪ ،‬وشغلت تفكيرهم‪ ،‬وتبوأت في‬
‫نفوسهم وقلوبهم أعلى مكانة‪ ،‬وكانت رحى تلك الهيمنة تدور على الغلو والشرك بالموات‪،‬‬
‫والتعلق بهم من دون ال عزوجل فل يبرمون من أمورهم صغيرة ول كبيرة إل بعد الرجوع‬
‫إلى تلك الضرحة‪ ،‬ودعاء أصحابها واستشارتهم‪ ،‬وهم ليملكون لنفسهم ضرا ولنفعا‪ ،‬فكيف‬
‫لغيرهم‪ ،‬وقد كان العلماء وللسف الشديد يتقدمون العامة ويسنون لهم السنن السيئة في تعظيم‬
‫الضرحة والمقامات والولوع بها ويزرعون الهيبة في نفوسهم بما كانوا يقومون به‪.‬‬
‫وقد تمادى الناس في الشرك والضلل وأمعنوا في الوثنية ومحاربة التوحيد فلم يكتفوا‬
‫بالمقبورين والحياء‪ ،‬بل أشركوا بالشجار والحجار‪ ،‬ووصل المر إلى اعتقاد العامة في بغداد‬
‫في مدفع قديم في ساحة الميدان من بقايا أسلحة السلطان مراد العثماني التي استخدمها في حربه‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/294‬‬


‫‪-624-‬‬
‫مع الفرس‪ ،‬لخراجهم من بغداد حيث كانوا يقدمون إليه النذور‪ ،‬ويطلبون منه إطلق ألسنة‬
‫أطفالهم وهو يعرف عندم " طوب أبي خزامة "‪ ،‬مما حدا بالعلمة محمود شكري اللوسي إلى‬
‫التصدي لهذه الخرافة الشنيعة بكتابة رسالة يزجر بها هؤلء الجاهلين أسماها بـ ( القول النفع‬
‫()‬
‫في الردع عن زيارة المدفع ) ‪. 1‬‬
‫واعتاد الناس في أواخر الدولة العثمانية أن يحلفوا بغير ال عزوجل من المخلوقين‪ ،‬وكان‬
‫يسهل عليهم الحلف بال كاذبا‪ ،‬عامدا متعمدا‪ ،‬ولكنه ليجرؤ أبدا أن يحلف بما عظمه من‬
‫المخلوقين إل صادقا‪.‬‬
‫‪ -‬انتشار البدع والخرافات‪:‬‬
‫كان السلطين الوائل في الدولة العثمانية ينفرون من البدع وأهلها ويحاربونها فهذا السلطان‬
‫محمد الفاتح في وصيته يقول لمن بعده‪ " :‬جانب البدع وأهلها وباعد الذين يحرضونك عليها "‬
‫أما في العصور المتأخرة من الدولة العثمانية فإن البدع انتشرت انتشارا ذريعا‪ ،‬وأصبحت حياة‬
‫رعايا الدولة ممزوجة بها‪ ،‬فقلما تخلو منها عبادة‪ ،‬أو عمل أو شأن من شؤون الحياة سواء في‬
‫الجنائز والمآثم والعراس والضيافات والولئم‪ ،‬وبدع الموالد عند المتصوفة المنحرفين وهكذا‬
‫أصبحت البدع ترى في كل مكان تكاد تحتل منزلة الصدارة من حياة الناس يعمل بها الجاهلون‬
‫( ‪)2‬‬
‫وتغير مفهوم الدين والعلم من منهج‬ ‫ويأيدها العالمون‪ ،‬وأصبحت السنة بدعة والبدعة سنة‬
‫كامل وشامل لجميع مجالت الحياة إلى طقوس غريبة ورسوم بالية يتشبثون بها‪ ،‬ويحسبون أنهم‬
‫إلى تقليد بال رتيب‪ ،‬يتلى في‬ ‫مهتدون وتحول صحيح البخاري بما حواه من منهج للنبي‬
‫()‬
‫الزمات‪ ،‬ويقرأ في الحروب‪ ،‬طلبا للنصر ودحر العداء ‪. 3‬‬
‫لقد أضحت السنة في تلك الفترة غريبة جدا‪ ،‬بعد أن غمرها طوفان البدع العظيم‪ ،‬وصار‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/367‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬مشكلت الجيل في ضوء السلم‪ ،‬ص ‪.373‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/380‬‬
‫‪-625-‬‬
‫الناس متشبثين بالبدع على أنها من صميم الدين‪ ،‬ويأبون التفريط فيها مطلقا‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫كانوا يفرطون فيه في كثير من أحكام السلم‪ ،‬ويكافحون من أجلها‪ ،‬ويتعاهدون عليها‪ ،‬ويرون‬
‫()‬
‫أنهم خدموا الدين‪ ،‬ونفعوا المسلمين ‪. 1‬‬
‫‪ -‬انتشار الخرافات‪:‬‬
‫في أواخر الدولة العثمانية فشت الخرافات والساطير في جموع المسلمين بشكل منقطع‬
‫النظير‪ ،‬وأضحت كحقائق مسلمة لتقبل النقاش مطلقا‪ ،‬وليس ذلك فحسب‪ ،‬وإنما غدت عند كثير‬
‫منهم أمورا مقدسة ليجوز التهاون بها‪ ،‬فضلً عن التشكيك في صحتها‪.‬‬
‫ومن الخرافات في الستانة أنه جامع خوجة مصطفى باشا محاط بزنجير مربوط طوفه‬
‫بشجرة سرو قديمة‪ ،‬ولهذا الزنجير خرافة يتناقلها الجهلء مؤداها أن كل من أنكر شيئا حقيقيا‪،‬‬
‫وجلس تحت هذا الزنجير‪ ،‬فهو يسقط على رأسه‪ ،‬وإذا كان صادقا في إنكاره‪ ،‬فالزنجير‬
‫( ‪)2‬‬
‫لقد كانت المة في تلك الفترة غارقة في عبادة الضرحة‪ ،‬والتعلق بها من دون ال‬ ‫ليتحرك‬
‫عزوجل‪ ،‬ووقعت فريسة لكثير من مظاهر الشرك والغلو والبدع والخرافات‪ ،‬التي ملت حياتها‪،‬‬
‫وشغلت أوقاتها‪ ،‬وقتلت طاقاتها‪ ،‬وصرفت جهودها عن طريقها الصحيح‪ ،‬فعجزت عن النهوض‬
‫من كبوتها‪ ،‬ولم تستطع أن تعالج أسباب انحطاطها؟ وانهزمت أمام جيوش العداء ووهنت عن‬
‫مقاومة مخططاتهم ومؤامراتهم وكانت النتيجة ضياع الدولة العثمانية‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الصوفية المنحرفة‪:‬‬


‫إن أعظم انحراف وقع في تاريخ المة السلمية ظهور الصوفية المنحرفة كقوة منظمة في‬
‫وقد قوى‬ ‫المجتمع السلمي تحمل عقائد وأفكار وعبادات بعيدة عن كتاب ال وسنة رسوله‬
‫عود الصوفية المنحرفة واشتدت شوكتها في أواخر العصر العثماني بسبب عوامل متعددة منها‪:‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/428‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/432‬‬
‫‪-626-‬‬
‫‪ -1‬الحوال السيئة التي كانت تعيشها المة السلمية‪ ،‬والواقع المرير الذي كان يعيشه‬
‫المسلمون في تلك الفترة‪ ،‬من انتشار التخلف والظلم والطغيان والفقر والمرض والجهل‪ ،‬كل‬
‫ذلك جعل الناس يرتمون في أحضان الصوفية المنحرفة‪ ،‬التي لتقوم بأكثر من الترتيب عليهم‪،‬‬
‫والتحذير لهم‪ ،‬وجعلهم يعيشون في غير واقعهم الذي فروا منه‪.‬‬
‫‪ -2‬كان اضطراب المن وانعدامه سمة من سمات العصور المتأخرة‪ ،‬حيث كانت تزهق‬
‫الرواح لسباب تافهة بل دون سبب في بعض الحيان‪ ،‬وفي هذه الجواء الحالكة‪ ،‬والظروف‬
‫العصيبة‪ ،‬كان أرباب التصوف يحيون حياة هادئة يرفرف عليها المن والطمئنان بعيدة عن‬
‫المصائب والفتن التي فتكت بالناس‪.‬‬
‫" قد كان الفقراء أروح بالً وأكثر طمأنينة من الفلحين في حقولهم والتجار في متاجرهم‬
‫والصناع في مصانعهم‪ ،‬فقد كانوا في أمن من تطبيق القوانين ‪ ...‬وكانوا في أغلب فترات الظلم‬
‫الفادح في نجاة من هذه الشرور كلها‪ ،‬لن الجنود كانوا يخافون بأسهم‪ ،‬ويخشون سلطانهم‬
‫الروحي‪ ،‬ويؤمنون باتصالهم بال‪ ،‬فيتزلفون إليهم ويطلبون الرضا منهم‪ ،‬قأقبل بعض الناس على‬
‫()‬
‫دخول الطريق مدفوعا بما سيصيبه في رحاب الزوايا من اطمئنان البال واستقرار الحال " ‪. 1‬‬
‫‪ -3‬الترف في معيشة ارباب الفرق‪ " :‬كان الفقراء فوق النجاة من ضغط الحياة يومذاك‬
‫ليجهدون أنفسهم في احتراف عمل يكسبون قوتهم من ورائه‪ ،‬بل كانوا يعيشون في الزوايا‪،‬‬
‫طاعمين كاسين‪ ،‬على نفقة المحسنين والثرياء بدعوى التفرغ للذكر والنقطاع للتهجد والتجرد‬
‫لعبادة ال‪ .‬ومن أطرف مفارقة هذا العصر أن يكون هؤلء الزهاد الذين يدعون التقشف‬
‫والقناعة بالتافه من شؤون العيش‪ ،‬أرغد عيشا وأترف حياة من الفلحين والتجار وأرباب‬
‫()‬
‫الحرف ‪. 2 "...‬‬
‫‪ -4‬حب التراك العثمانيين للدروشة والتصوف‪ " :‬كان التراك يحبون التصوف ويميلون‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬التصوف في مصر أبان العصر العثماني‪ ،‬د‪ .‬الطويل‪ ،‬ص ‪.152،154‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.154‬‬
‫‪-627-‬‬
‫()‬
‫إلى تقديس أهل اليمان بصدق وليتهم " ‪. 1‬‬
‫" لقد كانت الصوفية قد أخذت تنتشر في المجتمع العباسي‪ ،‬ولكنها كانت ركنا منعزلً عن‬
‫المجتمع‪ ،‬أما في ظل الدولة العثمانية‪ ،‬وفي تركيا بالذات‪ ،‬فقد صارت هي المجتمع وصارت هي‬
‫الدين‪ ،‬وانتشرت ‪ -‬في القرنين الخيرين بصفة خاصة ‪ -‬تلك القولة العجيبة‪ :‬من لشيخ له‬
‫فيشخه الشيطان! وأصبحت‬
‫()‬
‫‪ -‬بالنسبة للعامة بصورة عامة ‪ -‬هي مدخلهم إلى الدين وهي مجال ممارستهم للدين" ‪. 2‬‬
‫وقد كان كثير من سلطين آل عثمان يقومون برعاية الصوفية‪ ،‬ويفيضون عليها من عطفهم‬
‫وحدبهم‪ ،‬حتى جاء السلطان عبدالحميد إلى السلطنة في ظروف عصيبة‪ ،‬والمؤامرات تحاك‬
‫للمة‪ ،‬والكوارث والمحن تحيط بها من كل مكان‪ ،‬ودعاة القومية يبثون دعوتهم في سائر البلد‪،‬‬
‫فدعا إلى الجامعة السلمية والرابطة الدينية‪ ،‬وكانت الصوفية بجميع أصنافها وطرقها تشكل‬
‫ثقلً في الدعوة إلى الجامعة السلمية‪.‬‬
‫لقد كان ذلك العصر‪ ،‬عصر الصوفية التي أطبقت على العالم السلمي من أدناه إلى أقصاه‬
‫()‬
‫ولم تبقى مدينة ولقرية إل دخلتها إل إذا استثنينا نجد وملحقاتها ‪. 3‬‬
‫لقد سيطرت الصوفية المنحرفة على العالم السلمي في تلك الفترة‪ ،‬ووقع جمهور من‬
‫المسلمين في أسرها‪ ،‬وعظم سلطان المتصوفة في ذينك القرنين‪ ،‬وبلغ مبلغا عظيما‪ ،‬لو لم يكن‬
‫من قوته ونفوذه إل هيمنته على الجماهير الغفيرة في طول البلد وعرضها لكفى‪ ،‬فكيف إذا‬
‫()‬
‫تبنته الدولة وناصره الحكام ‪. 4‬‬
‫وكانت نظرة المتصوفة المنحرفة تحترم البطالة وتبيح التسول‪ ،‬وتصطنع الضيق‪ ،‬وتسعى‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬التصوف في مصر أبان العصر العثماني‪ ،‬ص ‪.154‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.155‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/447‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/448‬‬
‫‪-628-‬‬
‫إلى مواطن الذل‪ ،‬وتغتبط بالهوان وكانت نظرتهم إلى الخذ بالسباب منحرفة جدا " فما أخيب‬
‫التاجر الذي يصرف وقته في تجارته‪ ،‬والزارع الذي ينفق جهده في زراعته‪ ،‬والصانع الذي‬
‫يبذل نشاطه في صناعته‪ ،‬وما أفشل من سافر منهم طلبا لكسب أو رغبة في مال‪ ،‬فإن الرزق‬
‫في طلب صاحبه دائر‪ ،‬والمرزوق في طلب رزقه حائر‪ ،‬وبسكون أحدهما يتحرك الخر‪."..‬‬
‫وفسدت لدى كثير من المتصوفة عقيدة القضاء والقدر وأصبحت عندهم عقيدة سلبية مخذلة‬
‫لقد كتب أحد المستشرقين اللمان وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم الخيرة يقول‪" :‬‬
‫طبيعة المسلم التسليم لرادة ال والرضا بقضائه وقدره والخضوع بكل مايملك للواحد القهار‪.‬‬
‫وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان‪ :‬ففي العصر السلمي الول لعبت دورا كبيرا في الحروب‬
‫إذ حققت نصرا متواصلً لنها دفعت في الجندي روح الفداء وفي العصور الخيرة كانت سببا‬
‫في الجمود الذي خيم على العالم السلمي فقذف به إلى النحدار وعزله وطواه عن تيارات‬
‫()‬
‫الحداث العالمية " ‪. 1‬‬
‫إن هذا الرجل وهو كافر أدرك هذه الحقيقة‪ :‬حقيقة الفرق بين اليمان بالقدر كما فهمه السلف‬
‫وبين اليمان الذي ابتدعه الخلف متأثرين بالمتصوفة‪ ،‬فالذنب ليس ذنب العقيدة بل ذنب‬
‫المعتقدين بها‪ ،‬وقد صاغ ذلك شاعر السلم محمد إقبال شعرا فقال‪:‬‬
‫من القرآن قد تركوا المساعي‬
‫وبالقرآن قد ملكوا الثريا‬
‫إلى التقدير ردوا كل سعي‬
‫وكان زماعهم قدرا خفيا‬
‫تبدلت الضمائر في اسار‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السلم قوة الغد العالمية‪ ،‬باول شمتز‪ ،‬ص ‪.78‬‬


‫‪-629-‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫فما كرهوه صار لهم رضيا‬
‫وقد استغل نابليون بونابرت تلك الفكرة المنحرفة عن القضاء والقدر لما احتلت جيوشه‬
‫الصليبية أرض مصر‪ ،‬فكان يصدر منشوراته بتذكير المسلمين بأن ماوقع لهم من الحتلل‬
‫والسر كان بقدر من ال‪ ،‬فمن حاول العتراض على ماوقع فكأنما يعترض على القضاء‬
‫()‬
‫والقدر ‪. 2‬‬
‫لقد كانت مفاهيم التصوف المنحرف تنخر في كيان الدولة العثمانية‪ ،‬وكان العالم الصليبي‬
‫ينطلق في مجالت العلم وميادين المعرفة آخذا بأسباب القوة والتقدم والرقي ويدير المؤامرات‬
‫والدسائس لتفتيت الدولة العثمانية ومن ثم الهيمنة على العالم السلمي‪.‬‬
‫وكان المتصوفة المنحرفون مقبلين على استماع الملهي والمعازف ويتعلمون الموسيقى‬
‫وكانت مجالسهم مليئة بالطبول والنايات والعلم والرايات وكانت كثير من الطرق المنحرفة‬
‫لتخلو حلقات الذكر من الدف حتى قال أبو الهدى الصيادي وهو من خواص السلطان‬
‫عبدالحميد الثاني‪ ،‬ومن أنصار الجامعة السلمية‪:‬‬
‫اضرب الدف وجانب جاهلً‬
‫حكمة الشرع لمعنى مادرى‬
‫كل ما حرك قلبا ساكنا‬
‫ودعا العقل منه معتبرا‬
‫وأجال الروح في برزخها‬
‫تذكر ال وتبغي مظهرا‬
‫فهو بر والذي يفعله‬
‫فعل البر وال يرى‬
‫إن في الدف وفي رنته‬
‫نغمة يعرفها من ذكرا‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العلمانية ‪ ،‬سفر الحوالي‪ ،‬ص ‪.519‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/467‬‬
‫‪-630-‬‬
‫صوته ذكر وفي بحته‬
‫أنّه تذكر أوقات السرى‬
‫نضرب الدف ومنه عندنا‬
‫( ‪)1‬‬
‫ذاكرا نسمعه لن يفترا‬
‫وقد كان للسماع عند جمهور المتصوفة منزلة عظيمة‪ :‬يقول أبو الهدى الصيادي‪ " :‬من لم‬
‫يحركه السماع فهو ناقص مائل عن لطف العتدال بعيد عن نور الروحانية‪ ،‬زائد في غلظة‬
‫الطبع وكثافته‪ ،‬بل هو أبلد من الجمال والطيور وسائر البهايم‪ ،‬فإن جميعها تتأثر بالنغمات‬
‫الموزونة ‪ ...‬وبالجملة فالسماع يثمر حالة في القلب وتسمى وجدا‪ ،‬ويثمر الوجد تحريك‬
‫الطراف‪ ،‬إما بحركة غير موزونة فتسمى الضطراب‪ ،‬وإما بحركة موزونة فتسمى التصفيق‬
‫()‬
‫والرقص" ‪. 2‬‬
‫وياليت أولئك المتصوفة اقتصروا على الولوع بالطرب والسماع والغناء‪ ،‬ولكنهم جعلوه إلى‬
‫ال قربة‪ ،‬وعدوه طاعة تلين بها القلوب‪ ،‬وتشف بها الرواح‪.‬‬
‫وما أحسن ماقاله العلمة الحافظ ابن القيم الجوزية عن هؤلء المتصوفة حيث يقول‪ " :‬فلو‬
‫رأيتهم عند ذياك السماع‪ ،‬وقد خشعت منهم الصوات‪ ،‬وهدأت منهم الحركات‪ ،‬وعكفت قلوبهم‬
‫بكليتها عليه‪ ،‬وانصبت انصبابة واحدة إليه‪ ،‬فتمايلوا له ول كتمايل النشوان‪ ،‬وتكسروا في‬
‫حركاتهم ورقصهم‪ ،‬أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟‪.‬‬
‫ويحق لهم ذلك‪ ،‬وقد خالط خمرة النفوس‪ ،‬ففعل فيها أعظم ماتفعله حميا الكؤوس‪ ،‬فلغير ال‪،‬‬
‫بل للشيطان‪ ،‬قلوب هناك تمزق‪ ،‬وأثواب في غير طاعة تنفق‪ ،‬حتى إذا عمل السكر فيهم عمله‪،‬‬
‫وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله‪ ،‬واستفزهم بصوته وحيله‪ ،‬وأجلب عليهم برجله وخيله‪ ،‬وخز‬
‫في صدورهم وخزا‪ ،‬وأزهم إلى ضرب الرض بالقدام أزا فطورا تجعلهم كالحمير حول‬
‫المدار‪ ،‬وتارة كالذباب ترقص وسط الديار‪ ،‬فيارحمة للسقوف والرض من دك تلك القدام‪ ،‬ويا‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬رياضة السماع في أحكام الذكر والسماع للصيادي ‪ ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬رياضة السماع في أحكام الذكر والسماع‪ ،‬ص ‪.78‬‬
‫‪-631-‬‬
‫سوأتا من أشباه الحمير والنعام‪ ،‬وياشماتة أعداء السلم‪ ،‬بالذين يزعمون أنهم خواص السلم‪،‬‬
‫قضوا حياتهم لذة وطربا‪ ،‬واتخذوا دينهم لهوا ولعبا‪ ،‬مزامير الشيطان أحب إليهم من سماع سور‬
‫القرآن‪ ،‬لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا‪ ،‬ول أزعج له قاطنا‪ ،‬ول‬
‫أثار فيه وجدا ولقدح فيه من لواعج الشواق إلى ال زندا‪ ،‬حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان‬
‫وولج مزموره سمعه‪ ،‬تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت‪ ،‬وعلى أقدامه فرقصت‪،‬‬
‫وعلى يديه فصفقت‪ ،‬وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت‪ ،‬وعلى أنفاسه فتصاعدت‪ ،‬وعلى‬
‫زفراته فتزايدت‪ ،‬وعلى نيران أشواقه فاشتعلت ‪ ..‬ولقد أحسن القائل‪:‬‬

‫تلي الكتاب فأطرقوا لخيفة‬


‫لكنه إطراق ساه لهي‬
‫وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا‬
‫وال مارقصوا لجل ال‬
‫دف ومزمار ونغمة شادن‬
‫فمتى رأيت عبادة بملهي‬
‫ثقل الكتاب عليهم لما رأوا‬
‫تقييده بأوامر ونواهي‬
‫سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى‬
‫زجرا وتخويفا بفعل مناهي‬
‫ورأوه أعظم قاطع للنفس عن‬
‫شهواتها ياذبحها المتناهي‬
‫وأتى السماع موافقا أغراضها‬
‫( ‪)1‬‬
‫فلجل ذاك غدا عظيم الجاه‬
‫وهكذا أصبحت حياة المتصوفة المنحرفين في اللهو والسخافة وأضاعوا أوقاتهم وأعمارهم‬
‫في مجالس الذكر والسماع والملهي‪ ،‬وأصبحت حياتهم من أولها إلى آخرها تدور حول الذكر‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/506‬‬
‫‪-632-‬‬
‫في صورته المنحرفة‪ ،‬وضاعت عبادة السعي في مناكب الرض وطلب الرزق‪ ،‬والجهاد‪،‬‬
‫وطلب العلم ونشره‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فكلها أمور تشغل عن الذكر وتصد‬
‫عنه‪ ،‬ومن ثم ينبغي على المسلم أن ليشتغل بها وأن يعيش حياته على الذكر بالسماع والغناء‬
‫والرقص‪.‬‬
‫ودخل في عالم التصوف المنحرف تقديس الشخاص الموات منهم والحياء ونسبوا إليهم‬
‫خوارق العادات والكرامات‪ ،‬وعاشوا في الوهام‪ ،‬وعالم الخيال وأصيب الناس بالوهن والعجز‬
‫والنحطاط‪ ،‬واتسعت هوة التخلف والسقوط‪ ،‬وكانت أوربا الصليبية تواصل صعودها في سلم‬
‫الحضارة المادية وتعد جيوشها للزحف على العالم السلمي الغارق أهله في دنيا الخرافات‬
‫والوهام‪ ،‬والتكال على الخوارق والكرامات‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي كانت فيه المة تعاني أشد المعاناة من الضعف والنحطاط‪ ،‬وتدور عليها‬
‫المؤمرات من العداء وتحاك لها الدسائس ‪ ،‬كان كثير من علمائها طوع مشيئة شيوخهم من‬
‫المتصوفة المنحرفين الذين أشاعوا روح الذل والخنوع في المة والذلة والهوان وغير ذلك من‬
‫المراض المنحرفة‪ ،‬وتركت كثير من الطرق الصوفية المنحرفة الجهاد لمقارعة العداء‪،‬‬
‫واصبح الولياء في عرف الناس هم المجاذيب والمجانين والمعتوهين‪ ،‬ولشك أن هناك بينهم‬
‫نسبة كبيرة من الدجالين والمحترفين‪ ،‬استغلوا ما للمجاذيب من مكانة مقدسة في نفوس الناس ‪،‬‬
‫فاندسوا في صفوفهم ‪ ،‬ليصبحوا ضمن رابطة الولياء‪ ،‬من الذين للوم عليهم ول عتاب‪ ،‬مهما‬
‫ارتكبوا من الموبقات‪ ،‬وجاهروا بالفواحش والثام‪ ،‬وكان الكثير منهم يتعامل مع الجن فكان‬
‫طبيعيا تنفذ سهام العداء‪ ،‬وتنجح مخططاتهم‪ ،‬وتحتل جيوشهم أرضنا‪ ،‬وتستباح بيضتنا ‪ ،‬ولقد‬
‫حفلت الصوفية ببحر زاخر من العقائد المنحرفة والضالة ولعل آخر العقائد من آمن بها كثير‬
‫من المتصوفة المنحرفين كعقيدة وحدة الوجود والحلول‪ ،‬لقد احتضن المتصوفة المنحرفين هذه‬
‫العقائد‪ ،‬وعملوا على نشرها ‪ ،‬وألفوا مؤلفات من أجلها واعتبروها الحقيقة التي كشفت لهم سرها‬
‫وستر عن الخرين‪.‬‬
‫‪-633-‬‬
‫وكان تدريس كتابيّ (فصوص الحكم) و(الفتوحات المكية) لـ(ابن عربي) وغيرها من كتب‬
‫المتصوفة التي تطفح بعقيدتي وحدة الوجود والحلول هو شعار كبار العلماء من المتصوفة‬
‫وغيرهم‪ ،‬وهو المنزلة العلمية التي ليتبوؤها إل الخاصة منهم‪ ،‬والمستوى العلمي الذي ليرقى‬
‫()‬
‫إليه إل فحول العلماء ‪. 1‬‬
‫لقد لقيت هذه العقائد المنحرفة رواجا واسعا بين المتصوفة المنحرفين في تلك الفترة الحرجة‬
‫التي كانت تمر بها المة السلمية‪ ،‬فكان كثير منهم يؤمن بعقيدة وحدة الوجود‪ ،‬التي ليمكن‬
‫للحياة في ظلها أن تفسد‪ ،‬ويحيق الدمار بالعالم ‪ ،‬وتبطل الديان بالكلية‪ ،‬فل يبقى معها دين ول‬
‫جهاد‪ ،‬ول عداء بين مسلم وكافر ‪ ،‬فالكل واحد‪ ،‬والوجود واحد‪ ،‬وإن تعددت المظاهر ‪ ،‬نسأل‬
‫ال السلمة في الدين‪.‬‬
‫واستخفاف كثير منهم بالشرائع‪ ،‬وإلغاؤهم التكاليف أو إسقاطهم لها‪ ،‬واستهانتهم بأوامر الدين‬
‫ونواهيه‪ ،‬تحت مسمى الولية والحزب والجذب والشهود ولقد كان واقع الصوفية حجة قوية‬
‫استندت إليها حركات التغريب التي نخرت الدولة العثمانية‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬نشاط الفرق المنحرفة‪:‬‬


‫كالشيعة الثنى عشرية‪ ،‬والدروز والنصيرية ‪ ،‬والسماعيلية والقاديانية والبهائية وغيرها من‬
‫الفرق الضالة المحسوبة على السلم‪.‬‬
‫لقد كانت تلك الفرق قد استفحل أمرها‪ ،‬خصوصا مع مجيء الستعمار الصليبي الذي طوق‬
‫المة السلمية‪ ،‬فكانوا على عادتهم دائما مع أعداء المسلمين عونا لهم وجندا مخلصين تحت‬
‫قياداتهم‪.‬‬
‫ففي الماضي كانوا أكبر عون للتتار والصليبيين ضد المسلمين‪ ،‬وهاهم يسيرون على نفس‬
‫المنهج الممزوج بالخيانة والتآمر لحساب أعداء المة وقد مر بنا في هذا الكتاب دور الصفوية‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/556‬‬


‫‪-634-‬‬
‫الثنى عشرية الشيعة في محاربة الدولة العثمانية على مر عصورها‪ ،‬وحين احتل الفرنسيون‬
‫سوريا وانطلقت الحركات الجهادية ضدهم كان السماعيلية في سليمة وغيرها يقاتلون جنبا الى‬
‫()‬
‫جنب مع الفرنسيين كما فعلوا مع المجاهد (ابراهيم هنانو) ومن معه من المجاهدين ‪. 1‬‬
‫أما طائفتا النصيرية والدروز فقد كانتا على مر التاريخ والعصور مصدرا لثارة القلقل‬
‫وزعزعة المن والثورات المستمرة ضد الحكم السلمي‪ ،‬وعونا للعداء من الصليبيين‬
‫المستعمرين وغيرهم‪.‬‬
‫وفي القرن الثالث عشر الهجري تفاقم أمر النصيرية وتعاظم خطرهم في بلد الشام مما حدا‬
‫بـ(يوسف باشا) والي الشام أن يقود جيشا بنفسه ويقاتلهم حيث (انتصر عليهم وسبي نساؤهم‬
‫وأولدهم ‪ ،‬وكان قد خيرهم بين الدخول في السلم أو الخروج من بلدهم فامتنعوا وحاربوا‬
‫وانخذلوا وبيعت نساؤهم وأولدهم‪ ،‬فلما شاهدوا ذلك أظهروا السلم تقية‪ ،‬فعفا عنهم وعمل‬
‫()‬
‫بظاهر الحديث وتركهم في البلد‪. 2 )....‬‬
‫وقد قاموا بثورة كبيرة عام ‪1834‬م وهاجموا مدينة اللذقية ونهبوها وفتكوا بأهلها‪ .‬وقد‬
‫حاول السلطان عبدالحميد الثاني أن يعيدهم الى حظيرة السلم وأرسل رجلً من خاصته اسمه‬
‫(ضيا باشا) جعله متصرفا على لواء اللذقية في بداية القرن الرابع عشر الهجري فأنشأ لهم‬
‫المساجد والمدارس‪ ،‬فأخذوا يتعلمون ويصلون ويصومون‪ ،‬وأقنع الدولة بأنهم مسلمون فلم‬
‫يعصوا له أمرا‪ ،‬وبعد أن ترك هذا المتصرف منصبه خربت المدارس وحرقت الجوامع أو‬
‫()‬
‫دنست ‪. 3‬‬
‫وهذا من تفريط المسلمين تجاههم وكم خدعت تلك العقيدة الخطيرة (التقية) المسلمين حكاما‬
‫ومحكومين علماء ومتعلمين ‪ ،‬فأين علماء السنّة الذين لتنطلي عليهم دسائس الباطنين؟‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬العلم (‪.)1/42‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬حلية البشر (‪.)3/1600‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬خطط الشام (‪.)1/260‬‬
‫‪-635-‬‬
‫إن تاريخ النصيريين ‪ ،‬تاريخ أسود ملطخ بالدماء ضد أهل السنة‪ ،‬وكانوا دائما خنجرا‬
‫مسموما في جنب المة السلمية‪ ،‬يتآمرون ضدها في الخفاء‪ ،‬ويظهرون لها العداء كلما وجدوا‬
‫لذلك سبيل‪ ،‬والتاريخ يشهد بأنهم كانوا دائما في تحالف مع أعدء السلم‪.‬‬
‫وكان أمير الدروز بشير الشهابي المتوفى سنة ‪1266‬هـ يقف بجنوده بجانب جيش محمد‬
‫علي عند احتلله للشام‪ ،‬مما سهل على جيش محمد علي هزيمة الجيش العثماني في حمص‪،‬‬
‫وعبر جبال طوروس‪ ،‬وأوغلت جيوشه في قلب بلد الترك‪ ،‬وكان هناك مراسلت بين نابليون‬
‫()‬
‫والدروز عند حصار الفرنسيين (عكا) ‪. 1‬‬
‫أما البهائية فقد نشأت عام ‪1260‬هـ‪1844/‬م تحت رعاية الستعمار الروسي واليهودية‬
‫العالمية والستعمار النكليز بهدف إفساد العقيدة السلمية‪ ،‬وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم‬
‫عن قضاياهم الساسية‪ ،‬وقد ادعى البهاء المهدية‪ ،‬ثم ادعى النبوة ‪ ،‬ثم ادعى الربوبية‬
‫()‬
‫واللوهية ‪. 2‬‬
‫إن من المؤلم حقا تهاون الدولة العثمانية في القضاء على تلك النحلة الخبيثة وتطبيق فيهم‬
‫حكم ال وشرعه في أمثالهم‪.‬‬
‫وأما القاديانية فهي نحلة تنسب الى (غلم أحمد القادياني)‪ ،‬نسبت الى قرية قاديان من إقليم‬
‫البنجاب في الهند (المتوفى سنة ‪1326‬هـ) وهي‪( :‬حركة نشأت بتخطيط من الستعمار‬
‫النكليزي في القارة الهندية بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص‪،‬‬
‫()‬
‫حتى ليواجهوا المستعمر باسم السلم) ‪. 3‬‬
‫وقد ادعى القادياني النبوة ثم اللوهية‪ ،‬وقد كان من أبرز ملمح دعوة (غلم احمد القادياني)‬
‫(ميله الشديد للنكليز وخدمته لغراضهم في بلد الهند‪ ،‬وإبطال عقيدة الجهاد لهم‪ ،‬وثناؤه‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/577‬‬
‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)1/589‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬الموسوعة الميسرة للديان ‪ ،‬ص ‪.389‬‬
‫‪-636-‬‬
‫()‬
‫عليهم‪ ،‬وحث اتباعه على نصرتهم في كل مكان‪. 1 )...‬‬
‫ويقول القادياني ‪(:‬وليجوز عندي أن يسلك رعايا الهند من المسلمين البغاة وأن يرفعوا على‬
‫هذه الدولة المحسنة سيوفهم أو يعينوا أحدا في هذا المر ويُعان على شيء أحد من المخالفين‬
‫بالقول أو الفعل أو الشارة أو المال أو التدابير المفسدة‪ ،‬بل هذه المور حرام قطعي ومن‬
‫()‬
‫أرادها فقد عصى ال ورسوله وضل ضللً مبينا) ‪. 2‬‬
‫لقد كانت تلك الفرق مصدرا لثارة القلقل والفتن وإحداث الفوضى في داخل الدولة العثمانية‬
‫وكذلك في تجمعات المسلمين كالهند وغيرها وكانت تلك الفرق ل تكل ول تمل في تآمرها‬
‫المستمر مع أعداء السلم وفي خيانة المسلمين في أحرج الوقات‪ ،‬وأحلك الظروف‪ ،‬لقد‬
‫اكتوت المة بشرور تلك الفرق عندما ضعفت عقيدة أهل السنة في كيان الدولة القائمة عليها‬
‫وفي نفوس رعاياها من أهل السنة‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬غياب القيادة الربانية‪:‬‬


‫إن القيادة الربانية من أسباب نهوض المة والتمكين لها‪ ،‬لن قادة المة هم عصب حياتها‪،‬‬
‫وبمنزلة الرأس من جسدها‪ ،‬فإذا صلح القادة صلحت المة‪ ،‬وإذا فسد القادة صار هذا الفساد الى‬
‫المة‪ ،‬ولقد فطن أعداء السلم لهمية القيادة الربانية في حياة المة ولذلك حرصوا كل‬
‫الحرص على أل يمكنوا القيادات الربانية من امتلك نواصي المور وأزمة الحكم في المة‬
‫السلمية ففي خطة لويس التاسع أوصى بـ(عدم تمكين البلد السلمية والعربية من أن يقوم‬
‫بها حاكم صالح) كما أوصى بـ(العمل على إفساد أنظمة الحكم في البلد السلمية بالرشوة‪،‬‬
‫()‬
‫والفساد‪ ،‬والنساء‪ ،‬حتى تنفصل القاعدة عن القمة) ‪. 3‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬عقيدة ختم النبوة‪ ،‬د‪ .‬عثمان عبدالمنعم‪ ،‬ص ‪.209‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية‪ ،‬د‪ .‬أحمد حمدن ‪ ،‬ص ‪.255‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬قادة الغرب يقولن ‪ ،‬جلل العالم ‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪-637-‬‬
‫وصرح القائد المستشرق البريطاني (مونتجو مري وات) في (جريدة التايمز اللندنية) قائلً‪:‬‬
‫(إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلم المناسب عن السلم‪ ،‬فإن من الممكن لهذا الدين أن‬
‫()‬
‫يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى) ‪. 1‬‬
‫وقال المستشرق الصهيوني (برنارد لويس) تحت عنوان (عودة السلم) في دراسة نشرها‬
‫عام ‪1976‬م‪( :‬إن غياب القيادة العصرية المثقفة‪ :‬القيادة التي تخدم السلم بما يقتضيه العصر‬
‫من علم وتنظيم ‪ ،‬إن غياب هذه القيادة قد قيدت حركة السلم كقوة منتصرة ‪ ،‬ومنع غياب هذه‬
‫القيادات الحركات السلمية من أن تكون منافسا خطيرا على السلطة في العالم السلمي‪ ،‬لكن‬
‫()‬
‫هذه الحركات يمكن أن تتحول الى قوى سياسية هائلة إذا تهيأ لها هذا النوع من القيادة) ‪. 2‬‬
‫إن الباحث في الدولة العثمانية يجد أن القيادة الربانية كانت موجودة في عصورها المتقدمة‬
‫وخصوصا عند فتح القسطنطينية فنجد القادة الربانيين في المجال الجهادي والمجال المدني‬
‫ونلحظ الصفات المشتركة بينهم‪ ،‬كسلمة المعتقد‪ ،‬والعلم الشرعي‪ ،‬والثقة بال ‪ ،‬والقدوة‪،‬‬
‫والصدق والكفاءة‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬والمروءة‪ ،‬والزهد‪ ،‬وحب التضحية‪ ،‬وحسن الختيار للمعاونين‪،‬‬
‫والتواضع وقبول التضحية‪ ،‬والحلم والصبر ‪ ،‬وعلو الهمة‪ ،‬والتميز بخفة الروح والدعابة‪،‬‬
‫والحزم والرادة القوية‪ ،‬والعدل والحترام المتبادل ‪ ،‬والقدرة على حل المشكلت‪ ،‬والقدرة على‬
‫التعليم وإعداد القادة‪ ،‬وغير ذلك من الصفات‪.‬‬
‫لقد قاد محمد الفاتح المة في زمنه قيادة ربانية‪ ،‬وقد جرى اليمان في قلبه وعروقه‪،‬‬
‫وانعكست ثماره على جوارحه‪ ،‬وتفجرت صفات التقوى في أعماله وسكناته وأحواله‪ ،‬وانتقل‬
‫بدولته وشعبه نحو الهداف المرسومة بخطوات ثابتة وكان العلماء الربانيون هم قلب القيادة في‬
‫( ‪)3‬‬
‫وأما‬ ‫الدولة وعقلها المفكر‪ ،‬ولذلك سارت المة والدولة العثمانية على بصيرة وهدى وعلم‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه ‪،‬ص ‪.25‬‬
‫‪ )(2‬انظر ‪ :‬التمكين للمة السلمية ‪ ،‬ص ‪.185‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬فقه التمكين في القرآن الكريم لعلي الصلبي ‪ ،‬ص ‪.328‬‬
‫‪-638-‬‬
‫في العصور المتأخرة يجد الباحث أنحرافا خطيرا في القيادة العثمانية على المستوى العسكري‬
‫والعلمي ‪ ،‬فمثلً وصل الى الصدارة العظمى مدحت باشا الماسوني‪ ،‬ووالى ولية مصر محمد‬
‫علي باشا العلماء والفقهاء وإن المرء ليعجب من اختيار العلماء لرجل مثل (محمد علي باشا)‬
‫ليتولى أمورهم ‪ ،‬وإصرارهم عليه في تولي الحكم‪ ،‬أما كان أحدهم أولى به من عسكري جاهل‬
‫مغرور ويبدو إن العلماء فقدوا ثقتهم في علمهم وتهيبوا النزول الى الميدان‪ ،‬وتحمل المسؤوليات‬
‫العظام؛ لنهم قد ألفوا الركون الى حلقات العلم وتأليف الكتب‪ ،‬ولم يعودوا قادرين على القيام‬
‫بغير ذلك من مهمات ومسؤوليات؟‬
‫ومن المور المحزنة التي كانت تقع بين العلماء حدوث المنافسات والضغائن بينهم واستعانة‬
‫بعضهم بالحكام واستعداء السلطة عليهم‪ ،‬ومتى ما حدث ذلك فإنها تسنح الفرصة للطغاة لنزال‬
‫ضرباتهم الموجعة لتقويض صف العلماء كالخلف الذي وقع بين الشيخ (عبدال الشرقاوي)‬
‫شيخ الزهر‪ ،‬وبين بعض المشايخ الخرين حيث ترتب على ذلك الخلف صدور المر من‬
‫محمد علي باشا الى الشيخ الشرقاوي بلزوم داره وعدم الخروج منها ول حتى الى صلة‬
‫الجمعة‪ ،‬وسبب ذلك كما يقول الجبرتي‪( :‬أمور وضغائن ومنافسات بينه وبين إخوانه ‪...‬‬
‫()‬
‫فأغروا به الباشا ففعل به ماذكر فامتثل المر ولم يجد ناصرا وأهمل أمره) ‪. 1‬‬
‫ويصف الشيخ مصطفى صبري حال العلماء الذين ابتعدوا عن أمور الحكم ونصح الحكام‪،‬‬
‫وماهي نظرة العلمانيين للعلماء فقال‪( :‬والذين جردوا الدين في ديارنا عن السياسة كانوا هم‬
‫وإخوانهم ليرون الشتغال بالسياسة لعلماء الدين‪ ،‬بحجة أنه لينبغي لهم وينقص من كرامتهم‪،‬‬
‫ومرادهم حكر السياسة وحصرها لنفسهم‪ ،‬ومخادعة العلماء بتنزيلهم منزلة العجزة ‪ ،‬فيقلبون‬
‫أيديهم‪ ،‬ويخيلون لهم بذلك أنهم محترمون عندهم‪ ،‬ثم يفعلون مايشاؤون لدين الناس ودنياهم‪،‬‬
‫محررين عن احتمال أن يجيء من العلماء أمر بمعروف أو نهي عن منكر‪ ،‬إل ما بعد من‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬عجائب الثار (‪.)3/134‬‬


‫‪-639-‬‬
‫فضول اللسان‪ ،‬أو مايكمن في القلب‪ ،‬وذلك أضعف اليمان‪.‬‬
‫فالعلماء المعتزلون عن السياسة ‪ ،‬كأنهم تواطئوا مع كل الساسة‪ ،‬صالحيهم وظاليمهم‪ ،‬على‬
‫أن يكون المر بأيديهم ويكون لهم منهم رواتب النعام والحترام‪ ،‬كالخليفة المتنازل عن السلطة‬
‫()‬
‫وعن كل نفوذ سياسي ‪. 1 )...‬‬
‫لقد أخلد العلماء في أواخر الدولة العثمانية الى الرض واتبعوا أهواءهم‪ ،‬وضعفوا عن القيام‬
‫بواجباتهم‪ ،‬فكانوا بذلك قدوة سيئة للجماهير التي ترمقهم وترقيهم عن قرب ولقد غرق الكثير‬
‫منهم في متاع الدنيا وأترفوا فيها‪ ،‬وكممت أفواهم بدون سيف أو سوط ولكن بإغداق العطايا‬
‫عليهم من قبل الباشوات والحكام‪ ،‬ووضعهم في المناصب العالية ذات المرتبات الجزيلة والمزايا‬
‫()‬
‫العظيمة التي تكون كفيلة بإسكات أصواتهم وكبح ثورتهم واعتراضهم ‪. 2‬‬
‫(لقد كان علماء الدين دائما في تاريخ هذه المة هم قادتها وموجهيها‪ ،‬وهم ملجأها كذلك إذا‬
‫حزبهم أمر ‪ ،‬وملذها عند الفزع‪ ..‬تتجهم إليهم لتتلقى علم الدين منهم‪ ،‬وتتجه إليهم ليشيروا‬
‫عليها في أمورها الهامة‪ ،‬وتتجه إليهم إذا وقع عليهم ظلم من الحكام والولة ليسعوا الى رفع‬
‫الظلم عنهم ‪ ،‬بتذكير أولئك الحكام والولة بربهم‪ ،‬وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر‪...‬‬
‫وكان العلماء يضطهدون من قبل ذوي السلطان أحيانا‪ ،‬ويلقون في السجون أحيانا‪ ،‬ويؤذون في‬
‫ابدانهم وأموالهم وكراماتهم أحيانا ولكنهم يصمدون لهذا كان ‪ ،‬تقديرا لمسؤلياتهم أمام ال‪....‬‬
‫وكما كان العلماء هم قادة المة ومرشديها في المور السياسية والجتماعية والقتصادية‬
‫والفكرية والروحية‪ ،‬وكانوا كذلك دعاتها الى الجهاد كلما حدث على المة عدوان ‪ ..‬يذكرونها‬
‫بال واليوم الخر‪ ،‬وبالجنة التي تنتظر المجاهدين الصادقين‪ ،‬وكانوا يشاركون في الجهاد‬
‫بأنفسهم‪ ،‬بل يقودون الجيوش بأنفسهم في بعض الحيان‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬التجاهات الوطنية في الدب المعاصر (‪.)2/84‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)1/605‬‬
‫‪-640-‬‬
‫تلك كانت مهمة علماء الدين ‪ ،‬والدين حي في النفوس ‪ ...‬وفي التاريخ نماذج عديدة لعلماء‬
‫أرضوا ربهم وأدوا أمانتهم وجاهدوا في ال حق جهاده‪ ،‬وصبروا على ماأصابهم في سبيل ال‬
‫فما ضعفوا وما استكانوا ‪ ..‬فأين كان العلماء في تلك الفترة التي نحن بصددها من التاريخ؟‬
‫هل كانوا في مكان القيادة الذين عهدتهم المة فيه الى عهد ليس ببعيد‪...‬؟‬
‫هل كانوا حماة المة من العدوان؟ وحماتها من الظلم الواقع عليهم من ذوي السلطان؟‬
‫هل كانوا هم الذين يطالبون للمة بحقوقها السياسية وحقوقها الجتماعية وحقوقها‬
‫القتصادية؟‬
‫هل كانوا هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ‪ ،‬ويقومون الى المام الجائر‬
‫فيأمرونه وينهونه‪ ،‬قتلهم أم لم يقتلهم؟‬
‫أم كان كثير منهم قد استعبدوا أنفسهم للسلطان‪ ،‬ومشوا في ركابه ‪ ،‬يتملقونه ويباركون‬
‫مظالمة فيمدونه في الغي‪ ،‬بينما البقية الصالحة منهم قد قبعت في بيوتها ‪ ،‬أو أنزوت في الدرس‬
‫والكتاب ‪ ،‬تحسب أن مهمتها قد أنتهت إذا لقنت الناس العلم‪ ..‬ومانريد أن نظلمهم فقد كان منهم‬
‫‪-‬ولشك‪ -‬من صدع بكلمة الحق‪ ،‬ومنهم من ألقى بالمنصب تحت قدميه حين أحس أنه يستعبده‬
‫لولي السلطان أو يلجمه عن كلمة الحق‪ ..‬ولكنهم قلة قليلة بين الكثرة الغالية التي راحت تلهث‬
‫()‬
‫وراء المتاع الراضي‪ ،‬أو تقبع داخل الدرس والكتاب‪ ،‬على مافيها من جوانب القصور‪. 1 )..‬‬
‫وكان من الطبيعي أن تصاب العلوم الدينية في هذه الفترة بالجمود والتحجر نتيجة لعدة‬
‫عوامل أعطت اثرها عبر القرون المتوالية‪ ،‬ومن هذه العوامل‪:‬‬
‫‪ -1‬الهتمام بالمختصرات‪:‬‬
‫قام بعض العلماء باختصار المؤلفات الطويلة بغية تسهيل حفظها لطلبة العلم‪ ،‬حيث غدا‬
‫الحفظ هو الغاية عند العلماء والطلب حيث ضعفت ملكة الفهم والستنباط عندهم‪( :‬فأصبح‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر ‪ ،‬ص ‪.327‬‬


‫‪-641-‬‬
‫الفقهاء ينقلون أقوال من قبلهم‪ ،‬ويختصرون مؤلفاتهم في متون موجزة‪ ،‬ويأخذون هذه القوال‬
‫()‬
‫مجردة عن أدلتها من الكتاب والسنة‪ ،‬مكتفين بنسبتها الى أصحابها) ‪. 1‬‬
‫يقول الشيخ عبدالحميد بن باديس ناقدا للطريقة في تدريس الفقه‪( :‬واقتصرنا على قراءة‬
‫الفروع الفقهية مجردة بل نظر‪ ،‬جافة بل حكمة‪ ،‬وراء أسوار من اللفاظ المختصرة تفني‬
‫()‬
‫العمار قبل الوصول إليها) ‪. 2‬‬
‫ويذكر المام الشوكاني اهتمام الناس في عصره بهذه المختصرات والخطورة التي تنطوي‬
‫على ذلك فيقول‪( :‬قد جعلوا غاية مطالبهم ونهاية مقاصدهم العلم بمختصر من مختصرات الفقه‬
‫التي هي مشتملة على ماهو من علم الرأي والرواية والرأي أغلب‪ ،‬ولم يرفعوا الى غير ذلك‬
‫رأسا من جميع أنواع العلوم ‪ ،‬فصاروا جاهلين بالكتاب والسنة وعلمهما جهلً شديدا ‪ ،‬لنه‬
‫تقرر عندهم أن حكم الشريعة منحصر في ذلك المختصر‪ ،‬وأن ما عداه فضلة أو فضول ‪،‬‬
‫()‬
‫فاشتد شغفهم به وتكالبهم عليه‪ ،‬ورغبوا عما عداه‪ ،‬وزهدوا فيه زهدا شديدا) ‪. 3‬‬
‫‪ -2‬الشروح والحواشي والتقريرات‪:‬‬
‫يقول الشوكاني ‪-‬رحمه ال‪ -‬الذي دَرَسَ ودَرّسَ الكثير من هذه الشروح والحواشي في‬
‫مختلف العلوم الدينية واللغوية منتقدا لها‪( :‬مع أن فيها جميعا ما ل تدعوا إليه الحاجة بل غالبها‬
‫كذلك ولسيما تلك التدقيقات التي في شروحها وحواشيها فإنها عن علم الكتاب والسنة‬
‫()‬
‫بمعزل) ‪. 4‬‬
‫لقد كانت المؤلفات على كثرتها من شروح وحواشي وغير ذلك من الغلل التي كبلت‬
‫العقول وأدت الى جمود العلوم عبر قرون عديدة وكانت توجد بعض الحواشي والشروح‬
‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬المجتمع السلمي المعاصر‪ ،‬ص ‪.56‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬ابن باديس حياته وآثاره (‪.)1/108‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬أدب الطلب‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪ )(4‬انظر‪ :‬البدر الطالع بمحاسن مابعد القرن السابع (‪.)1/86‬‬
‫‪-642-‬‬
‫المفيدة‪ ،‬ولكنها لتكاد تذكر‪ ،‬وكانت مناهج التعليم في تلك الفترة بعيدة كل البعد عن منهج أهل‬
‫السنة والجماعة وكانت المعاهد السلمية كلها تقريبا بعيدة عن ذلك المنهج السلمي الصيل‪.‬‬
‫فالزهر مثلً وهو المعهد السلمي الكبير والجامعة العتيقة كان مركزا لعلوم المتكلمين‬
‫البعيدة عن روح السلم ومبادئه يقول أحد الدارسين في الزهر عن علم الكلم‪:‬‬
‫(ومن العلوم التي لم أنتفع بدراستها في الزهر على الطلق علم الكلم‪ ،‬فقد درسته بالزهر‬
‫عدة سنوات‪ ،‬ولكني لم أعرف منه شيئا عن ال ذا بال‪ ،‬وإنما انغمست في اصطلحات زادت‬
‫()‬
‫تفكيري غموضا واضطرابا حتى تمنيت إيمان العوام‪. 1 )...‬‬
‫لقد أصاب المناهج السلمية في تلك الفترة بالضافة الى الجمود موجة من الجفاف حيث‪:‬‬
‫(أن العصور المتأخرة بعدت بعدا كبيرا عن روح السلم واهتمت بالجسم والمادة حتى‬
‫أصبحت الدراسات السلمية دراسة ل حياة فيها ول روح‪ ،‬وجرت عدوى هذه الدراسات الى‬
‫جميع أبواب الفقه حتى البواب التي كانت يجب أن تكون دراسة الروح أهم عنصر‬
‫()‬
‫فيها‪. 2 )...‬‬
‫‪ -3‬الجازات‪:‬‬
‫من عوامل تدهور الحياة العلمية في تلك الفترة التساهل في منح الجازات ؛ فكانت تعطى في‬
‫العصر المتأخر للدولة العثمانية جزافا‪ ،‬إذ كان يكفي أن يقرأ الطالب أوائل كتاب أو كتابين مما‬
‫يدرسه الستاذ حتى ينال إجازة بجميع مروياته‪ ،‬وكثير ما أعطيت لمن طلبوها من أهل البلد‬
‫القاصية عن طريق المراسلة‪ .‬فكان العالم في القاهرة يبعث الى طالب في مكة بالجازة دون أن‬
‫()‬
‫يراه أو يختبره ‪. 3‬‬
‫فكانت ذلك التساهل من المور التي شغلت المسلمين عن تحصيل العلوم كما كان ينبغي‪،‬‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)2/42،43‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المجتمع السلمي المعاصر ‪ ،‬ص ‪.210‬‬
‫‪ )(3‬انظر ‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)2/59‬‬
‫‪-643-‬‬
‫وهكذا كان التساهل في منح الجازات عاملً مهما من عوامل انحدار المستوى التعليمي‪،‬‬
‫وضعف العلوم الشرعية‪ ،‬حيث أضحى الهدف عند كثير من المنتسبين الى العلم‪ ،‬حيازة أكبر‬
‫عدد من هذه الجازات الصورية التي لم يكن لها في كثير من الحيان أي رصيد علمي في‬
‫()‬
‫الواقع ‪. 1‬‬
‫‪ -4‬وراثة المنصب العلمي‪:‬‬
‫أصبحت المناصب العلمية في أواخر الدولة العثمانية بالوراثة في المور العلمية المهمة‬
‫كالتدريس والفتوى والمامة وحتى القضاء‪ ،‬فقد صارت تلك المناصب تورث بموت من كانوا‬
‫يتولونها‪ ،‬تماما كما تورث الدور والضياع والموال‪ ،‬فكثير ما كان يحدث ان يموت شيخ يدرس‬
‫عليه‪ ،‬فل يوارى في التراب حتى ينتقل منصبه وكرسيه الى ولده أو أخيه أو أحد أقاربه وقد‬
‫يكون الوارث قليل الفهم مزجي البضاعة في العلم ولكن لبد للتصدر للقراء والتدريس وعدم‬
‫إخلء الكرسي الذي قد يتربع عليه غريب عن أهل المتوفى حتى ولو كان جديرا بخلفته في‬
‫()‬
‫منصبه الذي رحل عنه ‪. 2‬‬
‫( ‪)3‬‬
‫متحدثا عن تلك الظاهرة السيئة‬ ‫يقول المؤرخ التركي أحمد جودت المتوفى عام ‪1312‬هـ‬
‫في الدولة العثمانية‪( :‬وصار أبناء الصدور والقضاة ينالون وظيفة التدريس وهم أحداث وأطفال‪،‬‬
‫( ‪)4‬‬
‫وما طر شاربه‬ ‫ويترقون لذلك في الوظائف ‪ ،‬حتى إن الواحد منهم لتأتيه نوبته في المولولية‬
‫ول اخضر عذاره‪ .‬وكان ينال التدريس أيضا كل ذي وجاهة واعتبار حتى صارت المراتب‬
‫والمناصب العلمية تؤخذ بالرث‪ ،‬فسهل على الوزراء ورجال الدولة تقليدها لبنائهم وغيرهم‪،‬‬

‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه (‪.)2/64‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه (‪.)2/64‬‬
‫‪ )(3‬كان وزيراً في البلط العثماني وكتب تاريخ جودت بالتركية في ‪ 12‬مجلداً‪.‬‬
‫‪ )(4‬المولوية ‪ :‬ثاني رتبة في القضاء العثماني بعد رتبة قاضي العسكر‪.‬‬
‫‪-644-‬‬
‫فازدحم عليها الغوغاء وصار الجهال يموج بعضهم في بعض‪ ،‬وألتبس المر وفسد أي‬
‫()‬
‫فساد) ‪. 1‬‬
‫ويقول ‪( :‬محمد كرد علي ) في حديثه عن الحوال العلمية في الشام وترديها في العصر‬
‫العثماني‪( :‬وقد قويت في هذا العصر قاعدة خبر الب للبن ‪ ،‬وكان المفتي (ابو السعود) من‬
‫مشايخ السلم في الستانة أول من ابتدعها وأخرجها للناس‪ ،‬فأصبح التدريس والتولية‬
‫والخطابة والمامة وغيرها من المسالك الدينية توسد الى الجهلة بدعوى أن آبائهم كانوا علماء‪،‬‬
‫وهم يجب أن يرثوا وظائفهم ومناصبهم وإن كانوا جهلة كما ورثوا حوانيتهم وعقارهم وفرشهم‬
‫وكتبهم‪ ،‬بل بلغت الحال بالدولة إذ ذاك أن كانت تولي القضاء الميين‪ ،‬وكم من أمي غدا في‬
‫(دمشق) و(حلب) و(القدس) و(بيروت) قاضي القضاة‪ ،‬أما في القاليم فربما كان الميون أكثر‬
‫()‬
‫من غيرهم‪. 2 )...‬‬
‫لقد كانت لتلك العادة السيئة آثار وخيمة في انحدار مستوى التعليم ‪ ،‬وضعف الحياة العلمية‬
‫عند المسلمين ‪ ،‬وذلك بتوارث تلك المناصب الدينية‪ ،‬وحكرها في أسر معينة وبالتالي أثرت تلك‬
‫العادة في إيجاد علماء ربانيين متجردين لدين ال تعالى همهم احقاق العدل‪ ،‬ونصرة المظلوم‪،‬‬
‫وإعزاز الدين‪.‬‬

‫سابعا‪ :‬رفض فتح باب الجتهاد‪:‬‬


‫في أواخر الدولة العثمانية أصبحت الدعوى بفتح باب الجتهاد تهمة كبيرة تصل الى الرمي‬
‫بالكبائر‪ ،‬وتصل عند بعض المقلدين والجامدين الى حد الكفر‪ ،‬وكان من التهم التي وجهها‬
‫خصوم الدعوة السلفية الى علمائها دعوى الجتهاد‪ ،‬وكانت تهمة شديدة في ذلك الزمن مع أن‬
‫أحد منهم لم يقل بذلك‪ ،‬وكانت الدعوة الى قفل باب الجتهاد توارثها المتعصبون على مر‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)2/68‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬خطط الشام (‪.)3/70‬‬
‫‪-645-‬‬
‫العصور واصبح حرصهم في أواخر الدولة العثمانية ظاهرا ونافحوا من أجل عدم فتحه‪،‬‬
‫ومقاومة كل من يحوم حوله مما شجع المتغربون بالسعي الدؤوب لستيراد المبادئ والنظم من‬
‫أوروبا ولقد ترتب على إغلق باب الجتهاد آثار خطيرة لتزال أضرارها تنخر في حياة‬
‫المسلمين الى يومنا هذا‪.‬‬
‫(فحين يتوقف الجتهاد مع وجود دواعيه ومتطباته‪..‬فماذا يحدث؟‬
‫يحدث أحد أمرين ‪ :‬إما أن تجمد الحياة وتتوقف عن النمو‪ ،‬لنها محكومة بقوالب لم تعد‬
‫تلئمها‪ .‬وإما أن تخرج على القوالب المصبوبة‪ ،‬وتخرج في ذات الوقت من ظل الشريعة‪ ،‬لن‬
‫هذا الظلم لم يمد بالجتهاد حتى يعطيها‪.‬‬
‫وقد حدث المران معا ‪ ،‬الواحد تلوا الخر ‪ ..‬الجمود أولً ثم الخروج بعد ذلك من دائرة‬
‫()‬
‫الشريعة) ‪. 1‬‬
‫لقد عانت المة من قفل باب الجتهاد وكانت الدولة العثمانية في أواخر عهدها لم تعطي هذا‬
‫الباب حقه وكانت عجلة الحياة أسرع وأقوى من الجامدين والمقلدين الذين ردوا كل جديد‪،‬‬
‫وخرج المر من أيديهم ‪( :‬وهكذا توقفت الحركة العقلية عند المسلمين إزاء كل جديد تلده‬
‫الحياة‪ ،‬والحياة ولود ل تتوقف عن الولدة أبدا‪ ،‬فهي تلد كل يوم جديدا لم تكن تعرفه النسانية‬
‫من قبل‪ ...‬وكان من هذا أن مضى الناس ‪-‬من غير المسلمين‪ -‬يواجهون كل جديد‪ ،‬ويتعاملون‬
‫معه‪ ،‬ويستولدون منه جديدا ‪ ..‬وهكذا سار الناس ‪-‬من غير المسلمين‪ -‬قدما في الحياة ووقف‬
‫()‬
‫المسلمون حيث هم ليبرحون مكانهم الذي كان عليه الباء والجداد من بضعة قرون) ‪. 2‬‬
‫واستمر التعصب المذهبي في إضعاف المستوى التعليمي ‪ ،‬وانحدار العلوم وجمودها وتكبيل‬
‫العقول والفهام والحجر عليها‪ .‬بالضافة الى ماتسبب فيه من تفريق كلمة المسلمين وإفساد ذات‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬واقعنا المعاصر ‪ ،‬ص ‪.159‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬سد باب الجتهاد وماترتب عليه ‪ ،‬د‪ .‬عبدالكريم الخطيب‪ ،‬ص ‪.144‬‬
‫‪-646-‬‬
‫بينهم‪ ،‬وزرع العداء والشقاق بين أفرادهم وجماعاتهم‪ ،‬وبعد أن تحزبوا طوائف وجماعات‪ ،‬كل‬
‫طائفة تناصر مذهبها‪ ،‬وتعادي غيرها من أجله‪ ،‬وفي تلك الفترة تفاقم هذا التعصب وعم القطار‬
‫السلمية ولم يسلم منه قطر ول مصر؛ فالجامع الزهر كان ميدانا رحبا للصراعات المذهبية‬
‫()‬
‫خصوصا بين الشوافع والحناف وذلك من أجل التنافس الشديد على مشيخة الزهر ‪. 1‬‬
‫إن العصبية المذهبية أوجدت حواجز كثيفة بين المسلمين في القرون الخيرة‪ ،‬فأضعفت‬
‫شعورهم بوحدتهم السلمية اجتماعيا وسياسيا ‪ ،‬وأروثت فيما بينهم من العداوات ما شغلهم عن‬
‫()‬
‫أعداء السلم على اختلف أنواعهم‪ ،‬وعن الخطار المحدقة بالمسلمين والسلم‪. 2 )...‬‬
‫لقد كان التعصب المذهبي منحرفا عن منهج ال تعالى وزاد هذا النحراف عمقا في حجر‬
‫العقول ‪ ،‬وجمود العلوم‪ ،‬وتفتيت الصف السلمي مما كان له أعظم الثر في ضعف الدولة‬
‫العثمانية وانحطاطها‪ ،‬وانشغالها بمشاكلها الداخلية في الوقت التي كانت المؤمرات قد احاطت‬
‫بها وشرع الصليبيون في الجهاز على الرجل المريض‪.‬‬

‫ثامنا‪ :‬انتشار الظلم في الدولة‪:‬‬


‫إن الظلم في الدولة كالمرض في النسان يعجل في موته بعد أن يقضي المدة المقدرة له وهو‬
‫مريض‪ ،‬وبانتهاء هذه المدة يحين أجل موته‪ ،‬فكذلك الظلم في المة والدولة يعجل في هلكلها‬
‫بما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي الى هلكها واضمحللها خلل مدة معينة يعلمها ال هي‬
‫الجل المقدر لها ‪ ،‬أي الذي قدره ال لهما بموجب سنته العامة التي وضعها لجال المم بناء‬
‫على مايكون فيها من عوامل البقاء كالعدل‪ ،‬أو من عوامل الهلك كالظلم التي يظهر أثرها وهو‬
‫()‬
‫هلكها بعد مضى مدة محددة يعلمها ال ‪ . 3‬قال تعالى ‪{:‬ولكل أمة أجل فإذا جاء اجلهم فل‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬عجائب الثار (‪.)2/242‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬النحرافات العقدية والعلمية (‪.)2/86‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السنن اللهية ‪ ،‬د‪ .‬عبدالكريم زيدان ‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪-647-‬‬
‫يستأخرون ساعة ول يستقدمون} (سورة العراف‪ :‬آية ‪ .)34‬قال اللوسي في تفسيره لهذه‬
‫الية‪{ :‬ولكل أمة أجل }‪ .‬أي ولكل أمة من المم الهالكة أجل‪ ،‬أي ‪ :‬وقت معين مضروب‬
‫()‬
‫لستئصالهم ‪ . 1‬ولكن هلك المم وإن كان شيئا مؤكدا ولكن وقت حلوله مجهول لنا‪ ،‬أي أننا‬
‫نعلم يقينا أن المة الظالمة تهلك حتما بسبب ظلمها حسب سنة ال تعالى في الظلم والظالمين‪،‬‬
‫ولكننا ل نعرف وقت هلكها بالضبط‪ ،‬فل يمكن لحد أن يحدد اليام ول بالسنين‪ ،‬وهو محدد‬
‫()‬
‫عند ال تعالى ‪. 2‬‬
‫إن سنّة ال مطردة في هلك المم الظالمة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ذلك من أنباء القرى نقصه عليك‬
‫منها قائم وحصيد‪ ‬وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون‬
‫ال من شيء لما جاء أمر ربك ومازادهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي‬
‫ظالمة إن أخذه أليم شديد} (سورة هود‪ :‬اليات ‪.)102-100‬‬
‫إن الية الكريمة تبين أن عذاب ال ليس مقتصر على من تقدم من المم الظالمة‪ ،‬بل إن سنته‬
‫تعالى في أخذ كل الظالمين سنة واحدة فل ينبغي أن يظن أحد أن هذا الهلك قاصرٌ بأولئك‬
‫الظلمة السابقين‪ ،‬لن ال تعالى لما حكى أحوالهم قال‪{ :‬كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي‬
‫ظالمة}‪ .‬فبين ال تعالى أن كل من شارك أولئك المتقدمين في أفعالهم التي أدت الى هلكهم‬
‫فلبد أن يشاركهم في ذلك الخذ الليم الشديد؛ فالية تحذر من وخامة الظلم إن الدولة الكافرة‬
‫قد تكون عادلة بمعنى أن حكامها ليظلمون الناس والناس أنفسهم ليتظالمون فيما بينهم‪ ،‬فهذه‬
‫الدولة مع كفرها تبقى ‪ ،‬إذ ليس من سنته تعالى إهلك الدولة بكفرها فقط‪ ،‬ولكن إذا انضم الى‬
‫()‬
‫كفرها ظلم حكامها للرعية وتظالم الناس فيما بينهم ‪ . 3‬قال تعالى‪{ :‬وما كان ربك ليهلك القرى‬
‫بظلم وأهلها مصلحون} (سورة هود‪ :‬آية ‪.)117‬‬
‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬تفسير اللوسي (‪.)8/112‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السنن اللهية ‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬السنن اللهية ‪ ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪-648-‬‬
‫قال المام الرازي في تفسيره‪(:‬إن المراد من الظلم في هذه الية الشرك‪ .‬والمعنى أن ال‬
‫تعالى ل يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين‪ ،‬إذا كانوا مصلحين في المعاملت فيما بينهم‬
‫()‬
‫يعامل بعضهم بعضا على الصلح‪ ،‬وعدم الفساد) ‪. 1‬‬
‫وفي تفسير القرطبي قوله تعالى‪{ :‬بظلم} أي ‪ :‬بشرك وكفر {وأهلها مصلحون} أي ‪ :‬فيما‬
‫بينهم في تعاطي الحقوق‪ ،‬ومعنى الية‪ :‬إن ال تعالى لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف‬
‫()‬
‫إليه الفساد كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان وقوم لوط باللواط ‪. 2‬‬
‫قال ابن تيمية في هلك الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة‪( :‬وأمور الناس إنما تستقيم مع العدل‬
‫الذي يكون فيه الشتراك في بعض أنواع الثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق‪ ،‬وإن لم‬
‫تشترك في إثم ‪ ،‬ولهذا قيل‪ :‬إن ال يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة‪ ،‬ول يقيم الظالمة وإن‬
‫كانت مسلمة‪ ،‬ويقال‪ :‬الدنيا تدوم مع العدل والكفر‪ ،‬ولتدوم مع الظلم والسلم‪ .‬وذلك أن العدل‬
‫نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت‪ ،‬وإن لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من‬
‫()‬
‫اليمان مايجزي به في الخرة) ‪. 3‬‬
‫لقد قام بعض الباشوات بأفعال قبيحة وسفكوا الدماء واغتصبوا الموال؛ فهذا إبراهيم باشا‬
‫المعروف بدالي أحد وزراء السلطان مراد الثالث وكان أمير المراء في ديار بكر بأسرها؛‬
‫ففتك فيها وظلم أهلها وأظهر من أنواع الظلم اشياء مستكرهة جدا‪ ،‬منها العتداء على‬
‫العراض‪ ،‬ونهب الموال‪ ،‬وفعل الفاعيل العظيمة ولما وصل المر للسلطان وعقد مجلس‬
‫القضاء وهاب الناس أن يشهد عليه ولم يستطع القاضي أن يدقق في الدعوة لن أخته كانت عند‬
‫السلطان مراد مقبولة جدا‪ ،‬وانصرف خصماؤه ‪ ،‬وقرره السلطان في ديار بكر فذهب إليها ناويا‬
‫على إهلك كل من اشتكى عليه‪ ،‬وأهلك منهم خلقا تحت العذاب ووصل المر الى أن ثار عليه‬
‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تفسير الرازي (‪.)18/16‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬تفسير القرطبي (‪.)9/114‬‬
‫‪ )(3‬انظر‪ :‬رسالة المر بالمعروف والنهي عن المنكر لبن تيمية ‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪-649-‬‬
‫أهل البلد وقاموا عليه قومة رجل واحد فتحصن في القلعة وصار يقذف القذائف بالمدافع على‬
‫()‬
‫أهل المدينة حتى قتل منهم خلقا كثيرا ‪. 1‬‬
‫وما قام به الباشا محمد علي من ظلم أهل مصر وأهل الشام‪ ،‬والحجاز معروف وقد ذكرناه‬
‫في هذا الكتاب‪ ،‬وقد أشتد ظلم التراك للعرب‪ ،‬والكراد‪ ،‬واللبان مع مجيء التحاد والترقي‬
‫للحكم‪ ،‬بل قامت تلك العصابة بظلم الناس في داخل تركيا وخارجها وقد ذكرنا ما تعرض له‬
‫السلطان عبدالحميد الثاني من ظلمهم‪ ،‬وعسفهم‪ ،‬وجورهم؛ فجرت فيهم سنة ال التي ل تتبدل‬
‫ول تتغير ول تجامل‪ ،‬فانتقم من الظالمين وجعل بأسهم فيما بينهم وزالت دولة الخلفة العثمانية‬
‫من الوجود‪.‬‬

‫تاسعا‪ :‬الترف والنغماس في الشهوات‪:‬‬


‫قال تعالى‪{ :‬فلول كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الرض إل قليلً‬
‫ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين} (سورة هود‪ :‬آية ‪.)116‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه}‪ .‬أراد بالذين ظلموا‪ :‬تاركي النهي عن‬
‫المنكرات‪ ،‬أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو المر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر وإنما اهتموا بالتنعم والترف والنغماس في الشهوات والتطلع الى الزعامة والحفاظ عليها‬
‫()‬
‫والسعي لها وطلب أسباب العيش الهنيء ‪. 2‬‬
‫وقد مضت سنة ال في المترفين الذين ابطرتهم النعمة وابتعدوا عن شرع ال تعالى بالهلك‬
‫والعذاب‪.‬‬
‫قال تعالى‪{:‬وكم قصمنا من قرية كان ظلمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين‪ ‬فلما أحسوا بأسنا إذا‬
‫هم يركضون‪ ‬لتركضوا وارجعوا الى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون }‪.‬‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬المختار المصون من أعلم القرون (‪.)2/916،917‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬السنن اللهية في المم والجماعات والفراد ‪ ،‬ص ‪.186‬‬
‫‪-650-‬‬
‫ومن سنة ال تعالى جعل هلك المة بفسق مترفيها‪ ،‬قال تعالى‪{:‬وإذا أردنا أن نهلك قرية‬
‫أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (سورة السراء‪:‬آية ‪.)16‬‬
‫وجاء في تفسيرها‪( :‬وإذا دنا وقت هلكها أمرنا بالطاعة مترفيها أي متنعميها وجبّاريها‬
‫وملوكها ففسقوا فيها‪ ،‬فحق عليها القول فأهلكناها‪ .‬وإنما خص ال تعالى المترفين بالذكر مع‬
‫توجه المر بالطاعة الى الجميع؛ لنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلل‪ ،‬وماوقع من سوءهم إنما‬
‫()‬
‫وقع بأتباعهم وإغوائهم ‪ ،‬فكان توجه المر إليهم آكد) ‪. 1‬‬
‫وحدث في زمن السلطان محمد بن إبراهيم ‪( :‬زينت دار الخلفة ثلثة أيام وكان السلطان‬
‫محمد إذ ذاك ببلدة سلستره بروم ايلي فكتب الى قائم مقام الوزير بالقسطنطينية عبدي باشا‬
‫النيشاني أنه يريد القدوم الى دار المملكة وأنه لم يتفق له رؤية زينة بها مدّة عمره وأمره بالنداء‬
‫لتهيئة زينة اخرى إذا قدم فوقع النداء قبل قدوم السلطان باربعين يوما وتهيأ الناس للزينة ثم قدم‬
‫السلطان فشرعوا في التزيين وبذلوا جهدهم في التأنق فيها واتفق أهل العصر على أنه لم يقع‬
‫مثل هذه الزينة في َدوْر من الدوار‪ ،‬وكنت الفقير إذ ذاك بقسطنطينة وشاهدتها ولم يبق شيء‬
‫من دواعي الطرب إل صرفت إليه الهمم ووجهت إليه البواعث‪ ،‬واستغرقت الناس في اللذة‬
‫والسرور‪ ،‬واستوعب جميع آلت النشاط والحبور‪ ،‬وفشت المناهي وعلمت العقلء أن هذا المر‬
‫كان غلطا وأن ارتكابه كان جرم عظيم‪ ،‬وما أحسب ذلك إل نهاية السلطنة وخاتمة كتاب السعادة‬
‫()‬
‫والميمنة‪ ،‬ثم طرأ النحطاط وشوهد النقصان وتبدل الربح بعدها بالخسران‪. 2 )...‬‬
‫وفي سنة تسعين وتسعمائة للهجرة احتفل السلطان مراد بن سليم الثاني بختان ولده السلطان‬
‫محمد وضع لذلك فرحا لم يقع في زمن أحد من الخلفاء والملوك وامتدت الولئم والفرحة‬
‫واللهو والطرب مدة خمسة وأربعين يوما وجلس للفرجة في دار إبراهيم باشا بمحلة آت ميدان‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تفسير اللوسي (‪.)15/42‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬المختار المصون من أعلم القرون (‪.)2/1163،1164‬‬
‫‪-651-‬‬
‫وأغدق النعم العظيمة ورأيت في تاريخ الكبريّ أنه جعل صواني صغارا من ذهب وفضة ومل‬
‫()‬
‫الذهب بالفضة والفضة بالذهب وألقى في ذلك لرباب الملهي وغيرهم من طالبي الحسان ‪. 1‬‬
‫وهذا انحراف خطير عن المنهج الذي سارت عليه الدولة في زمن قوتها وصولتها وتمكينها‬
‫وكانت من وصايا محمد الفاتح لولي عهده (واحرس اموال بيت المال من أن تتبدد)‪،‬‬
‫(ولتصرف أموال الدولة في ترف أو لهو وأكثر من قدر اللزوم؛ فإن ذلك من أعظم أسباب‬
‫الهلك)‪ ،‬فكان من الطبيعي بعد هذا النحراف الخطير والنغماس في الترف واللهو والشهوات‬
‫أن تزول الدولة بعد ضياع مقومات بقائها‪.‬‬

‫عاشرا‪ :‬الختلف والفُرقة‪:‬‬


‫إن سنة ال تعالى ماضية في المم والشعوب لتتبدل ول تتغير ول تجامل ‪ ،‬وجعل ال‬
‫‪( :‬فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)‬ ‫سبحانه وتعالى من اسباب هلك المم الختلف وقال‬
‫()‬
‫وفي رواية (فأهلكوا) ‪. 2‬‬
‫()‬
‫وعند ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود ‪ :‬فإنما أهلك من كان قبلكم الختلف ‪. 3‬‬
‫قال ابن حجر العسقلني‪ :‬وفي الحديث والذي قبله الحض على الجماعة واللفة والتحذير من‬
‫()‬
‫الفرقة والختلف ‪. 4‬‬
‫وقال ابن تيمية ‪-‬رحمه ال‪( : -‬وأمرنا ال تعالى بالجتماع والئتلف ونهانا عن التفرق‬
‫()‬
‫والختلف) ‪. 5‬‬
‫والختلف المهلك للمة هو الختلف المذموم‪ ،‬وهو الذي يؤدي الى تفريقها وتشتتها وانعدام‬
‫‪ )(1‬المصدر السابق نفسه (‪.)2/1154،1155‬‬
‫‪ )(2‬انظر‪ :‬صحيح البخاري بشرح العسقلني (‪.)9/101،102‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق نفسه (‪.)9/102‬‬
‫‪)(4‬المصدر السابق نفسه (‪.)9/102‬‬
‫‪ )(5‬انظر‪ :‬مجموع الفتاوى (‪.)19/116‬‬
‫‪-652-‬‬
‫التناصر فيما بين المختلفين كل طرق يعتقد ببطلن ماعند الطرف الخر‪ ،‬وقد يؤول المر الى‬
‫()‬
‫استباحة قتال بعضهم بعضا ‪. 1‬‬
‫‪ ،‬لن الختلف‬ ‫(وإنما كان الختلف علة لهلك المة كما جاء في حديث رسول ال‬
‫المذموم الذي ذكرنا بعض أوصافه يجعل المة فرقا شتى مما يضعف المة‪ ،‬لن قوتها وهي‬
‫مجتمعة أكبر من قوتها وهي متفرقة‪ ،‬وهذا الضعف العام الذي يصيب المة بمجموعها يجرّئ‬
‫العدو عليها فيطمع فيهاجمها‪ ،‬ويحتل أراضيها ويستولي عليها ويستعبدها ويمسخ شخصيتها وفي‬
‫()‬
‫ذلك انقراضها وهلكها ‪. 2‬‬
‫إن من الدروس المهمة في هذه الدراسة التاريخية أن توقى الهلك بتوقي الختلف المذموم‪،‬‬
‫لن الختلف كان سببا من السباب في ضياع الدولة العثمانية وهلكها واندثارها‪ .‬وإن من‬
‫أخطر مانعاني منه الن الخلف في صفوف السلميين القائمين بواجب الدعوة الى ال تعالى‪،‬‬
‫وهذا الخلف يؤدي الى ضعف المة إذا لم تأخذ بسبل الوقاية منه‪.‬‬
‫يقول الشيخ عبدالكريم زيدان‪(:‬والختلف كما يضعف المة ويهلكها يضعف الجماعة‬
‫المسلمة التي تنهض بواجب الدعوة الى ال ثم يهلكها ولهذا كان شر ماتبتلى به الجماعة المسلمة‬
‫وقوع الختلف المذموم فيما بينها بحيث يجعلها فرقا شتى‪ ،‬بحيث ترى كل فرقة أنها على حق‬
‫وصواب وأن غيرها على خطأ وضلل‪ ،‬وتعتقد كل فرقة أنها هي التي تعلم لمصلحة الدعوة ‪.‬‬
‫وهيهات أن تكون الفرقة والتشتت والختلف المذموم في مصلحة الدعوة أو أن مصلحة الدعوة‬
‫تأتي عن طريق التفريق‪ ،‬ولكن الشيطان هو الذي يزين الفرقة والتفريق في أعين المتفرقين‬
‫المختلفين فيجعلهم يعتقدون أن اختلفهم وتفرقهم في مصلحة الدعوة‪.‬‬
‫والختلف في الجماعة ليقف تأثيره عند حد إضعاف الجماعة وإنما يضعف تأثيرها في‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬السنن اللهية ‪ ،‬ص ‪.139‬‬


‫‪ )(2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.139‬‬
‫‪-653-‬‬
‫الناس‪ ،‬وتجعل المعرضين ينفثون باطلهم في الناس ويقولون‪ :‬جماعة سوء تأمر الناس بأحكام‬
‫السلم‪ ،‬والسلم يدعو الى اللفة والجتماع وينهى عن الختلف‪ ،‬وهي تخالفه إذ هي متفرقة‬
‫مختلفة فيما بينها‪ ،‬كل فرقة تغيب الخرى وتدعي أنها وحدها على الحق‪ .‬ثم يؤول المر الى‬
‫انحسار تأثير الجماعة في المجتمع ثم اضمحللها واندثارها وقيام جماعات جديدة مكانها هي‬
‫()‬
‫فرق المنفصلين عنها‪ ،‬ووقائع التاريخ البعيد والقريب تؤيد مانقول) ‪. 1‬‬
‫لقد ابتليت الدولة العثمانية خصوصا في أواخر عهدها بالختلف والتفريق بين الزعماء‬
‫والسلطين ‪ ،‬فقد حاول بعض الحكام المحليين الستقلل الذاتي عن الحكومة المركزية بإطالة‬
‫فترة حكمهم ومحاولة تأسيس أسر محلية (الممليك في العراق‪ ،‬آل العظم في سوريا‪ ،‬المعنيون‬
‫والشهابيون في لبنان‪ ،‬ومحمد علي في مصر‪ ،‬ظاهر العمر في فلسطين‪ ،‬أحمد الجزار في عكا‪،‬‬
‫( ‪)2‬‬
‫وهذا الصراع بين الحكام المحليين والدولة‬ ‫علي بك الكبير في مصر‪ ،‬القرامليون في ليبيا)‬
‫العثمانية ساهم في اضعافها ثم زوالها وسقوطها ولقد ذكر بعض المؤرخين أسباب السقوط‬
‫وحدث لهم تخليط بين السباب في السقوط وبين الثار المترتبة عن البتعاد عن شرع ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫إن الحديث عن الضعف السياسي والحربي والقتصادي والعلمي والخلقي والجتماعي‬
‫وكيفية القضاء على هذا الضعف والحديث عن الستعمار والغزو الفكر ي والتنصير وكيفية‬
‫مقاومتها ل يزيد عن محاولة القضاء على تلك العراض المزعجة‪ ،‬ولكن ليمكنه أبدا أن‬
‫ينهض بالمة التي أصيبت بالخواء العقدي وما لم يتم محاربة السباب الحقيقية والقضاء عليها‬
‫فإنه ليمكن بحال من الحوال القضاء على تلك الثار الخطيرة‪.‬‬
‫إن الثار كانت متشابكة ومتداخلة ‪ ،‬يؤثر كل منها في الخر تأثيرا عكسيا‪ ،‬فالضعف‬

‫‪ )(1‬انظر ‪ :‬السنن اللهية ‪ ،‬ص ‪.140،141‬‬


‫‪ )(2‬انظر‪ :‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل ياغي‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪-654-‬‬
‫السياسي مثلً يؤثر في الضعف القتصادي‪ ،‬ويتأثر به ‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫إن كثيرا من المحاولت التي بذلت في العالم السلمي من أجل إعادة دولة السلم‪ ،‬وعزته‬
‫وقوته ركزت على الثار ولم تعالج السباب الحقيقية الذي كانت خلف ضياع الدولة العثمانية‬
‫وضعف المة‪ ،‬وانحطاطها‪.‬‬
‫إن جهود النصارى‪ ،‬واليهود‪ ،‬والعلمانية ماكانت لتؤثر في الدولة العثمانية إل بعد أن انحرفت‬
‫عن شرع ال وفقدت شروط التمكين ‪ ،‬وأهملت أسبابه المادية والمعنوية قال تعالى‪{ :‬لقد كان في‬
‫قصصهم عبرة لؤلي اللباب ماكان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل‬
‫شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (سورة يوسف‪ :‬آية ‪.)111‬‬

‫نتائج البحث‬

‫‪.1‬تعرض التاريخ العثماني لحملت التشويه والتزوير والتشكيك من قبل اليهود والنصارى‬
‫والعلمانيين‪.‬‬
‫‪.2‬سار مؤرخو العرب والتراك في ركب التجاه المعادي لفترة الخلفة العثمانية‪.‬‬
‫‪.3‬احتضنت القوى الوروبية التجاه المناهض للخلفة السلمية وقامت بدعم المؤرخين‬
‫في مصر والشام الى تأصيل الطار القومي وتعميقه من أمثال البستاني واليازجي وجورج‬
‫زيدان واديب اسحاق وسليم نقاش وشبلي شميل‪ ،‬وسلمة موسى‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫‪.4‬استطاعت المحافل الماسونية أن تهيمن على عقول زعماء التوجه القومي في داخل‬
‫الشعوب السلمية‪ ،‬وخضع أولئك الزعماء لتوجيه المحافل الماسونية أكثر من خضوعهم‬
‫لمطالب شعوبهم وبخاصة موقفها من الدين السلمي‪.‬‬
‫‪.5‬اعتمد المؤرخون الذين عملوا على تشوية الدولة العثمانية على تزوير الحقائق‪ ،‬والكذب‬
‫والبهتان والتشكيك والدس ولقد غلبت على تلك الكتب والدراسات طابع الحقد العمى‪،‬‬

‫‪-655-‬‬
‫والدوافع المنحرفة ‪ ،‬بعيدة كل البعد عن الموضوعية‪.‬‬
‫‪.6‬قام مجموعة من علماء التاريخ العثماني من أبناء المة بالردود على تلك التهامات‬
‫والدفاع عن الدولة العثمانية من أهمها وأبرزها تلك الكتابة التي قام بها الدكتور عبدالعزيز‬
‫الشناوي في ثلثة مجلدات ضخمة تحت عنوان الدولة العثمانية دولة اسلمية مفترى عليها ‪،‬‬
‫وما قدمه الدكتور محمد حرب من كتب مهمة مثل؛ العثمانيون في التاريخ والحضارة ‪،‬‬
‫والسلطان محمد الفاتح فاتح القسطنطينية وقاهر الروم‪ ،‬وما كتبه الدكتور موفق بني المرجة‪،‬‬
‫صحوة الرجل المريض‪.‬‬
‫‪.7‬ترجع أصول التراك الى منطقة ماوراء النهر والتي تسمى اليوم تركستان والتي تمتد‬
‫من هضبة منغوليا وشمال الصين شرقا الى بحر قزوين غربا‪ ،‬ومن السهول السيبرية شمالً‬
‫الى شبه القارة الهندية وفارس جنوبا ‪ ،‬استوطنت عشائر الغز وقبائلها الكبرى في تلك المناطق‬
‫وعرفوا بالترك أو التراك‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪.8‬دخل التراك في السلم في عام ‪22‬هـ في زمن عثمان بن عفان‬
‫‪.9‬أصبحت قبائل التراك بعد دخولها في السلم ضمن رعايا الدولة السلمية وازداد‬
‫عددهم في بلط الخلفاء والمراء العباسيين وشرعوا في تولي المناصب القيادية والدارية في‬
‫الدولة؛ فكان منهم الجند والقادة والكتّاب‪.‬‬
‫‪.10‬استطاع السلجقة (وهم اتراك) أن يقوموا بتأسيس دولة تركية كبرى ضمت خراسان‬
‫وماوراء النهر وإيران والعراق وبلد الشام وآسيا الصغرى‪.‬‬
‫‪.11‬ساند السلجقة الخلفة العباسية في بغداد ونصروا مذهبها السني بعد أن أوشكت على‬
‫النهيار بين النفوذ البويهي الشيعي في إيران والعراق‪ ،‬والنفوذ العبيدي (الفاطمي) في مصر‬
‫والشام فقضى السلجقة على النفوذ البويهي تماما وتصدوا للخلفة العبيدية (الفاطمية)‪.‬‬
‫‪.12‬استطاع طغرل بك الزعيم السلجوقي أن يسقط الدولة البويهية في عام ‪447‬هـ في‬
‫بغداد وأن يقضي على الفتن وأزال من على أبواب المساجد سب الصحابة‪ ،‬وقتل شيخ‬
‫‪-656-‬‬
‫الروافض ابي عبدال الجلب لغلوه في الرفض‪.‬‬
‫‪.13‬تولى زعامة السلجقة ألب أرسلن بعد وفاة عمه طغرل بك وكان قائدا ماهرا مقداما‪،‬‬
‫وهو الذي انتصر على جيوش امبراطور الروم في معركة ملذكرد في عام ‪463‬هـ وكان‬
‫ذلك النتصار نقطة تحول في التاريخ السلمي لنها سهلت على اضعاف نفوذ الروم في‬
‫معظم أقاليم آسيا الصغرى‪ ،‬وهي المناطق المهمة التي كانت ترتكز عليها المبراطورية‬
‫البيزنطية‪.‬‬
‫‪.14‬تولى زعامة السلجقة بعد ألب أرسلن أبنه ملكشاه واتسعت الدولة السلجوقية في عهده‬
‫لتبلغ أقصى أمتداد لها من أفغانستان شرقا الى آسيا الصغرى غربا وبلد الشام جنوبا‪.‬‬
‫‪.15‬يعتبر نظام الملك من أعظم وزراء السلجقة ‪ ،‬واشتهر بضبطه لمور الدولة وحبه‬
‫للعلم والعلماء‪ ،‬وكثرة انفاقه‪ ،‬واعماله في الخير‪ ،‬وبناء المدارس لتعليم المسلمين‪.‬‬
‫‪.16‬تضافرت عوامل عديدة في سقوط سلطنة السلجوقية مهدت بدورها لسقوط الخلفة‬
‫العباسية منها؛ الصراع داخل البيت السلجوقي‪ ،‬تدخل النساء في شؤون الحكم ‪ ،‬ضعف الخلفاء‬
‫العباسيين‪ ،‬المكر الباطني الذي تمثل في اغتيال سلطين السلجقة وزعمائهم وقاداتهم‪.‬‬
‫‪.17‬قدمت دولة السلجقة أعمال جليلة للسلم منها؛ كان لهم دور في تأخير زوال الدولة‬
‫العباسية‪ ،‬حوالي قرنين من الزمان‪ ،‬منعت الدولة العبيدية في مصر من تحقيق أغراضها‬
‫التوسعية ‪ ،‬كانت جهود السلجقة تمهيدا لتوحيد المشرق السلمي والذي تم على يد صلح‬
‫الدين اليوبي تحت راية الخلفة العباسية السنية‪ ،‬قاموا بنشر العلم والمن والستقرار في‬
‫القاليم التي تحت نفوذهم‪ ،‬وقفوا في وجه التحركات الصليبية من جانب المبراطورية‬
‫البيزنطية‪ ،‬وحاولوا صد الخطر المغولي الى حد كبير‪ ،‬ورفعوا من شأن المذهب السني‬
‫وعلمائه‪.‬‬
‫‪.18‬ينتسب العثمانيون الى قبيلة تركمانية كانت تعيش في كردستان‪ ،‬وتزاول حرفة الرعي‪.‬‬
‫‪.19‬هاجر سليمان جد عثمان في عام ‪617‬هـ مع قبيلته من كردستان الى بلد الناضول‬
‫‪-657-‬‬
‫فأستقر في مدينة اخلط في شرق تركيا حاليا‪.‬‬
‫‪.20‬تولى زعامة قبيلة سليمان بعد وفاته ابنه أرطغرل الذي واصل تحركه نحو الشمال‬
‫الغربي من الناضول‪ ،‬وفي طريقه وجد صراعا مسلحا بين السلجقة المسلمين والروم‬
‫النصارى‪ ،‬فأنضم الى المسلمين وكان تدخله في الوقت المناسب سببا في تحقيق نصر‬
‫السلجقة‪.‬‬
‫‪.21‬اقتطع القائد السلمي السلجوقي اطغرل ومجموعته أرضا من الحدود الغربية‬
‫للناضول بجوار الثغور في الروم‪ ،‬وأتاح لهم فرصة توسيعها على حساب الروم‪.‬‬
‫‪.22‬تولى عثمان الول قيادة قومه بعد وفاة أبيه وسار على نهج سياسة أبيه السابقة في‬
‫التوسع في اراضي الروم‪.‬‬
‫‪.23‬كان عثمان الول يتميز بصفات رفيعة منها؛ الشجاعة ‪ ،‬والحكمة‪ ،‬والخلص‪،‬‬
‫والصبر‪ ،‬والجاذبية اليمانية‪ ،‬والعدل ‪ ،‬والوفاء ‪ ،‬والتجرد ل في فتوحاته ‪ ،‬وحبه للعلم‬
‫والعلماء‪.‬‬
‫‪.24‬كانت حياة عثمان الول مؤسس الدولة العثمانية ‪ ،‬جهادا ودعوة في سبيل ال وكان‬
‫علماء الدين يحيطون به ويشرفون على التخطيط الداري والتنفيذ الشرعي في المامة ولقد‬
‫حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لبنه أورخان وهو على فراش الموت وكانت تلك الوصية فيها‬
‫دللة حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعد‪.‬‬
‫‪.25‬تولى السلطان أورخان الحكم بعد وفاة والده عام ‪726‬هـ وسار على نفس سياسة والده‬
‫في فتح القسطنطينية ووضع‬ ‫في الحكم والفتوحات‪ ،‬وحرص على تحقيق بشارة رسول ال‬
‫خطة استراتيجية تستهدف الى محاصرة العاصمة البيزنطية من الغرب والشرق في آن واحد‪.‬‬
‫‪.26‬إن من أهم العمال التي ترتبط بحياة السلطان أورخان‪ ،‬تأسيسه للجيش السلمي ‪،‬‬
‫وحرصه على إدخال نظاما خاصا للجيش‪ ،‬فقام بتقسيم الجيش الى وحدات تتكون كل وحدة من‬
‫عشرة أشخاص ‪ ،‬أو مائة شخص‪ ،‬أو ألف شخص‪ ،‬وخصص خمس الغنائم للنفاق منها على‬
‫‪-658-‬‬
‫الجيش ‪ ،‬وجعله جيشا دائما بعد أن كان ليجتمع إل وقت الحرب‪ ،‬وأنشأ له مراكز خاصة يتم‬
‫تدريبه فيها‪.‬‬
‫‪.27‬أهتم أورخان بتوطيد أركان دولته والى العمال الصلحية والعمرانية ونظم شؤون‬
‫الدارة وقوى الجيش وبنى المساجد وأنشأ المعاهد العلمية‪ ،‬وأشرف عليها خيرة العلماء‬
‫والمعلمون وكانوا يحظون بقدر كبير من الحترام في الدولة‪.‬‬
‫‪.28‬تولى الحكم بعد السلطان أورخان السلطان مراد الول عام ‪761‬هـ وكان مراد الول‬
‫شجاعا مجاهدا كريما متدينا‪ ،‬وكان محبا للنظام متمسكا به‪ ،‬عادلً مع رعاياه وجنوده‪ ،‬شغوفا‬
‫بالغزوات وبناء المساجد والمدارس والملجئ وكان بجانبه مجموعة من خيرة القادة والخبراء‬
‫والعسكريين شكل منهم مجلسا لشورته‪ ،‬وتوسع في آسيا الصغرى وأوروبا في وقت واحد‪.‬‬
‫‪.29‬استطاع مراد الول أن يفتح أدرنة في عام ‪762‬هـ واتخذ من هذه المدينة عاصمة‬
‫للدولة العثمانية من عام ‪762‬هـ‪ ،‬وبذلك انتقلت العاصمة الى أوروبا‪ ،‬وأصبحت أدرنة‬
‫عاصمة إسلمية‪.‬‬
‫‪.30‬كان السلطان مراد الول يعلم أنه يقاتل في سبيل ال وأن النصر من عنده ولذلك كان‬
‫كثير الدعاء واللحاح على ال والتضرع إليه والتوكل عليه ومن دعاه الخاشع نستدل على‬
‫معرفة السلطان مراد لربه وتحقيقه لمعاني العبودية واستشهد في معركة قوصوة ضد‬
‫الصرب‪.‬‬
‫‪.31‬قاد السلطان مراد الشعب العثماني ثلثين سنة بكل حكمة ومهارة ل يضاهيه فيها أحد‬
‫من ساسة عصره‪.‬‬
‫‪.32‬تولى بايزيد الحكم بعد أبيه مراد عام ‪791‬هـ وكان شجاعا شهما كريما متحمسا‬
‫للفتوحات السلمية‪ ،‬ولذلك أهتم اهتماما كبيرا بالشؤون العسكرية واستهدف المارات‬
‫المسيحية في الناضول وخلل عام اصبحت تابعة للدولة العثمانية‪ ،‬وكان بايزيد مثل البرق في‬
‫تحركاته بين الجبهتين البلقانية والناضولية ولذلك أطلق عليه لقب (الصاعقة)‪.‬‬
‫‪-659-‬‬
‫‪.33‬انهزم بايزيد أمام جيوش تيمورلنك بسبب اندفاعه وعجلته وعدم احسانه لختيار المكان‬
‫الذي نزل به جيشه‪.‬‬
‫‪.34‬تعرضت الدولة العثمانية لخطر داخلي ونشبت الحرب الهلية في الدولة بين أبناء‬
‫بايزيد على العرش واستمرت هذه الحرب عشر سنوات وكانت هذه المرحلة في تاريخ الدولة‬
‫العثمانية مرحلة اختبار وابتلء سبقت التمكين الفعلي المتمثل في فتح القسطنطينية‪.‬‬
‫‪.35‬استطاع السلطان محمد جلبي أن يقضي على الحرب الهلية بسبب ما أوتي من الحزم‬
‫والكياسة وبعد النظر وتغلب على أخوته واحدا واحدا حتى خلص له المر وتفرد بالسلطان‬
‫وقضى سني حكمه العثماني في إعادة بناء الدولة وتوطيد اركانها ويعتبره بعض المؤرخين‬
‫المؤسس الثاني للدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪.36‬استطاع السلطان محمد جلبي أن يقضي على حركة الشيخ بدر الديني الذي كان يدعو‬
‫الى المساواة في الموال‪ ،‬والمتعة والديان ول يفرق بين مسلم وغير مسلم في العقيدة‪.‬‬
‫‪.37‬كان السلطان محمد جلبي محبا للشعر والدب والفنون وقيل هو أول سلطان عثماني‬
‫أرسل الهدية السنوية الى امير مكة‪.‬‬
‫‪.38‬تولى أمر السلطنة مراد الثاني عام ‪824‬هـ بعد وفاة أبيه محمد جلبي وكان محبا‬
‫للجهاد ‪ ،‬والدعوة الى السلم‪ ،‬وكان شاعرا ومحبا للعلماء والشعراء‪.‬‬
‫‪.39‬تولى محمد الفاتح حكم الدولة العثمانية بعد وفاة والده في عام ‪855‬هـ وكان عمره‬
‫آنذاك ‪ 22‬سنة وقد تميز بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل‪ ،‬كما فاق أقرانه منذ حداثته في‬
‫كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة المراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره‬
‫وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ‪.‬‬
‫‪.40‬كانت من أهم أعمال السلطان محمد الثاني فتحه للقسطنطينية وكان لذلك الفتح أثر‬
‫عظيم على العالم السلمي والوروبي وكان لفتح القسطنطينية أسباب مادية ومعنوية وشروط‬
‫أخذ بها‪.‬‬
‫‪-660-‬‬
‫‪.41‬حرص العثمانيون على تحكيم شرع ال وظهرت آثاره الدنيوية والخروية على‬
‫المجتمع العثماني منها؛ الستخلف والتمكين ‪ ،‬المن والستقرار ‪ ،‬النصر والفتح‪ ،‬العز‬
‫والشرف‪ ،‬انتشار الفضائل وانزواء الرذائل وغير ذلك من الثار‪.‬‬
‫‪.42‬من أهم الصفات القيادية في شخصية محمد الفاتح‪ ،‬الحزم والشجاعة والذكاء‪ ،‬العزيمة‬
‫والصرار‪ ،‬العدالة ‪ ،‬عدم الغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان‪ ،‬الخلص‪ ،‬العلم‪.‬‬
‫‪.43‬من أعمال محمد الفاتح الحضارية؛ بناءه للمدارس والمعاهد‪ ،‬والعلماء والشعراء‬
‫والدباء والترجمة‪ ،‬والعمران والبناء والمستشفيات واهتمامه بالتجارة والصناعة‪ ،‬والتنظيمات‬
‫الدارية ‪ ،‬والجيش والبحرية والعدل‪.‬‬
‫‪.44‬ترك محمد الفاتح وصية عبرت اصدق التعبير عن منهجه في الحياة‪ ،‬وقيمه ومبادئه‬
‫التي آمن بها‪.‬‬
‫‪.45‬يعتبر الشيخان محمد بن حمزة المشهور بـ (آق شمس الدين) ‪ ،‬وأحمد الكوراني من‬
‫الشيوخ الذين كان لهم أثر على محمد الفاتح‪.‬‬
‫‪.46‬بعد وفاة السلطان محمد الفاتح تولى ابنه بايزيد الثاني (‪886‬هـ) وكان سلطانا وديعا ‪،‬‬
‫نشأ محبا للدب ‪ ،‬متفقها في علوم الشريعة السلمية شغوفا بعلم الفلك‪.‬‬
‫‪.47‬دخل بايزيد الثاني في صراع مع أخيه جم‪ ،‬واشتبك مع المماليلك في معارك على‬
‫الحدود الشامية‪ ،‬وحاول أن يساعد مسلمي الندلس في محنتهم الشديدة‪.‬‬
‫‪.48‬تولى الحكم السلطان سليم الول بعد بايزيد الثاني‪ ،‬وكان يحب الدب والشعر الفارسي‬
‫والتاريخ ورغم قسوته فإنه كان يميل الى صحبة رجال العلم وكان يصطحب المؤرخين‬
‫والشعراء الى ميدان القتال ليسجلوا تطورات المعارك وينشدوا القصائد التي تحكي امجاد‬
‫الماضي‪.‬‬
‫‪.49‬كان للسلطان سليم الول الفضل بعد ال في إضعاف النفوذ الشيعي في العراق وبلد‬
‫فارس وحقق على الصفويين الشيعة الروافض انتصارا عظيما في معركة جالديران‪.‬‬
‫‪-661-‬‬
‫‪.50‬كانت نتيجة الصراع بين الدولة العثمانية والصفوية؛ ضم شمال العراق‪ ،‬وديار بكر الى‬
‫الدولة العثمانية ‪ ،‬أمّن العثمانيون حدود دولتهم الشرقية ‪ ،‬سيطرة المذهب السني في آسيا‬
‫الصغرى بعد أن قضى على اتباع وأعوان اسماعيل الصفوي‪.‬‬
‫‪.51‬استفاد البرتغاليون من صراع الصفويين مع الدولة العثمانية وحاولوا أن يفرضوا على‬
‫البحار الشرقية حصارا عاما على كل الطرق القديمة بين الشرق والغرب‪.‬‬
‫‪.52‬دخل السرور على الوروبيين بسبب الحروب بين العثمانيين والصفويين وعمل‬
‫الوروبيون على الوقوف مع الشيعة الصفوية ضد الدولة العثمانية لرباكها حتى لتستطيع أن‬
‫تستمر في زحفها على أوروبا‪.‬‬
‫‪.53‬استطاع العثمانيون أن يحققوا انتصارا ساحقا على المماليك في معركة غزة ثم معركة‬
‫الريدانية وازاحوا دولة المماليك بعد ذلك من الوجود‪.‬‬
‫‪.54‬بعد مقتل السلطان الغوري ونائبه طومان باي بادر شريف مكة (بركات بن محمد) الى‬
‫تقديم السمع والطاعة الى السلطان سليم الول وسلمه مفاتيح الكعبة وبذلك أصبح السلطان سليم‬
‫خادما للحرمين الشريفين‪.‬‬
‫‪.55‬دخلت اليمن تحت النفوذ العثماني بعد سقوط دولة المماليك وكانت تمثل بعدا استراتيجيا‬
‫وتعتبر مفتاح البحر الحمر وفي سلمتها سلمة للماكن المقدسة في الحجاز‪ ،‬واستفاد‬
‫العثمانيون من وجودهم في اليمن فقاموا بحملت بحرية الى الخليج بقصد تخليصه من الضغط‬
‫البرتغالي‪.‬‬
‫‪.56‬بعد أن ضم العثمانيون بلد مصر والشام ودخلت البلد العربية تحت نطاق الحكم‬
‫العثماني‪ ،‬واجهت الدولة العثمانية البرتغاليين بشجاعة نادرة‪ ،‬فتمكنت من استرداد بعض‬
‫الموانئ السلمية في البحر الحمر مثل ‪ :‬مصوع وزيلع‪ ،‬كما تمكنت من إرسال قوة بحرية‬
‫بقيادة مير علي بك الى الساحل الفريقي فتم تحرير مقديشو وممبسة ومنيت الجيوش البرتغالية‬
‫بخسائر عظيمة‪.‬‬
‫‪-662-‬‬
‫‪.57‬في عهد السلطان سليمان القانوني (‪974-927‬هـ) تمكنت الدولة العثمانية من ابعاد‬
‫البرتغاليين عن البحر الحمر ومهاجمتهم في المراكز التي استقروا بها في الخليج العربي‪.‬‬
‫‪.58‬تمكن العثمانيون من صد البرتغال وإيقافهم بعيدا عن المماليك السلمية والحد من‬
‫نشاطهم ونجحت الدولة العثمانية في تأمين البحر الحمر وحماية الماكن المقدسة من التوسع‬
‫البرتغالي المبني على اهداف استعمارية وغايات دنيئة ومحاولت للتأثير على السلم‬
‫والمسلمين بطرق مختلفة‪.‬‬
‫‪.59‬كانت نتيجة الصراع العثماني البرتغالي؛ أن احتفظ العثمانيون بالماكن المقدسة وطريق‬
‫الحج‪ ،‬وحماية الحدود البرية من هجمات البرتغاليين طيلة القرن السادس عشر‪ ،‬واستمرار‬
‫الطرق التجارية التي تربط الهند واندونيسيا بالشرق الدنى عبر الخليج العربي والبحر‬
‫الحمر‪.‬‬
‫‪.60‬فتحت رودس في زمن السلطان سليمان القانوني واستطاع سليمان القانوني أن يحاصر‬
‫فينا‪ ،‬ودخل في سياسة التقارب مع فرنسا‪.‬‬
‫‪.61‬اهتمت الدولة العثمانية بالشمال الفريقي ووقفت مع حركة الجهاد البحري وقدمت لهم‬
‫كافة المساعدات المادية والمعنوية ‪.‬‬
‫‪.62‬دخلت الجزائر تحت نفوذ الدولة العثمانية منذ زمن السلطان سليم الول وظهر في‬
‫ساحة الجهاد في الشمال الفريقي قائدان عظيمان هما الخوان عروج‪ ،‬وخير الدين بربروسا‪.‬‬
‫‪.63‬نجح خير الدين في وضع دعامات قوية لدولة فتية في الجزائر وكانت المساعدات‬
‫العثمانية تصله بإستمرار من السلطان سليمان القانوني واستطاع خير الدين أن يوجه ضرباته‬
‫القوية للسواحل السبانية وكانت جهوده مثمرة في إنقاذ آلف المسلمين من اسبانيا ‪.‬‬
‫‪.64‬كان للوجود العثماني في الجزائر أثر على موقف الملك البرتغالي في المغرب إذ‬
‫تراجع عن القيام بعمليات عسكرية فيه‪.‬‬
‫‪.65‬بعد ان أصبح خير الدين بربروسا قائدا للسطول العثماني اهتم بالحوض الشرقي‬
‫‪-663-‬‬
‫للبحر المتوسط وتولى حكم الجزائر القائد حسن آغا الطوشي الذي انهمك في توطيد المن ‪،‬‬
‫ووضع السس للدارة المستقرة وحاول جمع أطراف البلد حول السلطة المركزية‬
‫الجزائرية‪.‬‬
‫‪.66‬استطاع حسن آغا الطوشي أن يهزم الجيوش الصليبية بقيادة شارل الخامس على‬
‫أراضي الجزائر وكانت لتلك الهزيمة أثرها على المبراطورية السبانية ‪ ،‬وعلى ملكها‬
‫شارلكان وعلى مستوى الحداث العالمية‪.‬‬
‫‪.67‬نزلت أنباء هزيمة شارلكان نزول الصاعقة على أوروبا وتطورت الحداث بسرعة‬
‫على المستوى الوروبي‪.‬‬
‫‪.68‬لم يعد شارل الخامس قادرا على التفكير في حملة أخرى ضد الجزائر وطغى شبح‬
‫خير الدين وحسن آغا على العامة والخاصة ‪.‬‬
‫‪.69‬ظهر في الشمال الفريقي قادة عظام ساهموا في حركة الجهاد ضد السبان والنصارى‬
‫في البحر المتوسط من أشهرهم؛ حسن خير الدين بربروسا‪ ،‬وصالح رايس‪ ،‬وقلج علي‪.‬‬
‫‪.70‬حاولت الدولة العثمانية أن تكون علقات استراتيجية مع الدولة السعدية إل أنها فشلت‬
‫في بعض الحيان وخصوصا في زمن السلطان محمد الشيخ السعدي ومحمد المتوكل ‪.‬‬
‫‪.71‬إن من العمال العظيمة التي قامت بها الدولة السعدية في زمن السلطان عبدالملك‬
‫انتصارهم الرائع والعظيم على نصارى البرتغال في معركة الملوك الثلثة‪ ،‬والتي تسمى في‬
‫كتب التاريخ معركة القصر الكبير‪ ،‬أو معركة وادي المخازن‪.‬‬
‫‪.72‬كان انتصار المغاربة في معركة وادي المخازن بسبب عدة أمور منها؛ القيادة الحكيمة‬
‫التي تمثلت في قيادة السلطان عبدالملك وأخيه ابي العباس‪ ،‬والتفاف الشعب المغربي حول‬
‫قيادته‪ ،‬ورغبة المسلمين في الذود عن دينهم وعقيدتهم وأعراضهم ‪ ،‬والعمل على تضميد‬
‫الجراح بسبب سقوط غرناطة‪ ،‬وضياع الندلس‪ ،‬واشتراك خبراء من العثمانيين تميزوا‬
‫بالمهارة في الرمي بالمدفعية مما جعل المدفعية المغربية تتفوق على المدفعية المغربية‬
‫‪-664-‬‬
‫النصرانية‪.‬‬
‫‪.73‬تولى حكم الدولة السعدية السلطان أحمد المنصور بعد استشهاد أخية عبدالملك في‬
‫معركة وادي المخازن‪.‬‬
‫‪.74‬بوفاة قلج علي في الجزائر نظم البيلربك الذي جعل من حكام الجزائر ملوكا والسعي‬
‫السلطة والنفوذ واستعيض عنه بنظام الباشوية مثلها في ذلك تونس وطرابلس‪.‬‬
‫‪.75‬لم تستطع الدولة العثمانية أن تضم المغرب القصى بسبب‪ ،‬ظهور الجزائر في‬
‫محاولتهم لضم المغرب القصى‪.‬‬
‫‪.76‬كان العثمانيون لديهم رغبة جامحة في استرداد الندلس إل أنهم لم يحققوا هدفهم‬
‫المنشود‪ ،‬بسبب موقف الدولة السعدية من جهة‪ ،‬وتصرف بعض النكشاريين من جهة أخرى‪،‬‬
‫وجبهات المشرق من جهة ثالثة‪.‬‬
‫‪.77‬اتفق المؤرخون على أن عظمة الدولة العثمانية قد انتهت بوفاة السلطان العثماني‬
‫سليمان القانوني عام (‪974‬هـ) وكانت مقدمات ضعف الدولة قد اتضحت في عهد السلطان‬
‫سليمان‪.‬‬
‫‪.78‬تولى الحكم بعد سليمان القانوني سليم الثاني الذي لم يكن مؤهلً لحفظ فتوحات والده‬
‫السلطان سليمان ولول وجود الوزير الفذ والمجاهد الكبير والسياسي القدير محمد باشا‬
‫الصقللي لنهارت الدولة‪ .‬وكان ذلك من فضل ال على المة‪.‬‬
‫‪.79‬انهزم العثمانيون في معركة ليبانتوا عام ‪979‬هـ‪1571/‬م وكانت النتيجة لتلك المعركة‬
‫مخيبة لمال العثمانيين‪ ،‬فقد زال خطر السيادة العثمانية في البحر المتوسط وكان ذلك النكسار‬
‫نقطة تحول نحو توقف عصر الزدهار لقوة الدولة البحرية‪.‬‬
‫‪.80‬كانت معركة ليبانتو فرصة مواتية لظهار طمع فرنسا نحو المغرب السلمي ‪ ،‬إذ‬
‫بمجرد انتشار خبر هزيمة السطول العثماني في تلك المعركة قدم ملك فرنسا شارل التاسع‬
‫مشروعا الى السلطان العثماني ‪ ،‬وذلك بواسطة سفيره في استانبول ‪ ،‬يتضمن طلب الترخيص‬
‫‪-665-‬‬
‫لحكومته في بسط نفوذها على الجزائر‪ ،‬بدعوة الدفاع عن حمى السلم والمسلمين بها‪.‬‬
‫‪.81‬عمل السلطان سليم الثاني على تخليص تونس من هيمنة السبان واستطاع العثمانيون‬
‫بقيادة قلج علي وسنان باشا أن يفتحوا تونس في عام ‪982‬هـ‪.‬‬
‫‪.82‬قضى ضياع تونس من السبان على آمالهم في أفريقيا وضعفت سيطرتها تدريجيا حتى‬
‫اقتصرت على بعض الموانئ مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير وتبدد حلم السبان نحو إقامة‬
‫دولة اسبانية في شمال أفريقيا وضاع بين الرمال‪.‬‬
‫‪.83‬أرسل السلطان سليم الثاني حملة كبرى الى اليمن واستطاعت أن تخلص عدن وصنعاء‬
‫من هيمنة الزيود‪.‬‬
‫‪.84‬تحولت سياسة الدولة العثمانية بعد معركة ليبانتو ‪979‬هـ الى أن تكون الولوية‬
‫للمحافظة على الماكن المقدسة السلمية اولً ثم البحر الحمر والخليج العربي كحزام أمني‬
‫حول هذه الماكن وتطلب ذلك منها اسطولً قادرا على أن يقاوم البرتغاليين‪.‬‬
‫‪.85‬استطاعت الدولة العثمانية أن تبني درعا قويا‪ ،‬حمى الماكن المقدسة السلمية من‬
‫الهجمات المسيحية‪ ،‬ومع ذلك الدرع فقط احتفظ السلطان بحرس عثماني خاص في مكة‬
‫المكرمة والمدينة المنورة وينبع‪.‬‬
‫‪.86‬تولى الحكم بعد وفاة سليم الثاني ابنه مراد الثالث وكان مهتما بفنون العلم والدب‬
‫والشعر وكان يتقن اللغات الثلثة التركية‪ ،‬والعربية والفارسية وحاول منع الخمور إل أن‬
‫النكشاريين اضطروه لرفع أمره وهذا يدل على ظهور ضعف الدولة ‪.‬‬
‫‪.87‬تولى الحكم بعد مراد الثالث محمد الثالث ورغم حالة الضعف والتدهور التي كانت قد‬
‫بدأت تعتري الدولة إل أن راية الجهاد ظلت مرفوعة وقام هذا السلطان بدخول ميادين الوغى‬
‫بنفسه وكان الشيخ سعد الدين أفندي ممن شجعه على الخروج بنفسه لقيادة الجيوش وقال‬
‫للسلطان ‪(:‬أنا معك أسير حتى أخلص نفسي من الذنوب ‪ ،‬فإني بها أسير)‪.‬‬
‫‪.88‬تولى الحكم بعد محمد الثالث أبنه احمد الول وكان عمره ‪ 14‬سنة ولم يجلس احد قبله‬
‫‪-666-‬‬
‫من السلطين العثمانيين في هذه السن على العرش وكانت أحوال الدولة مرتبكة جدا لنشغالها‬
‫بحروب النمسا في أوروبا وحرب إيران والثورات الداخلية في آسيا فأتم مابدأ به أبوه من‬
‫تجهيزات حربية‪ ،‬وكان في غاية التقوى‪ ،‬وكان رجلً مثابرا في الطاعات‪ ،‬ويباشر أمور الدولة‬
‫بنفسه‪ ،‬وكان متواضعا في ملبسه‪ ،‬وكان كثير الستشارة لهل العلم والمعرفة ‪ ،‬والقيادة وكان‬
‫‪.‬‬ ‫شديد الحب للنبي‬
‫‪.89‬بعد وفاة السلطان أحمد الول‪ ،‬تولى الحكم سلطين ضعاف منهم مصطفى الول‪،‬‬
‫وعثمان الول‪ ،‬ومراد الرابع‪ ،‬وإبراهيم بن أحمد‪ ،‬ومحمد الرابع‪ ،‬وسليمان الثاني‪ ،‬وأحمد‬
‫الثاني‪ ،‬ومصطفى الثاني‪ ،‬وأحمد الثالث‪ ،‬ومحمود الول‪ ،‬وعثمان الثالث‪ ،‬ومصطفى الثالث‪،‬‬
‫وعبدالحميد الول‪.‬‬
‫‪.90‬تولى السلطان سليم الثالث الحكم بعد وفاة عمه عبدالحميد الول عام ‪1203‬هـ وبدأت‬
‫مرحلة جديدة من مراحل الحرب بين الدولة العثمانية وأعداءها وشرع في إحياء الروح‬
‫المعنوية في نفوس جنده‪.‬‬
‫‪.91‬استطاعت الجيوش الروسية والنمساوية أن تهزم الجيش العثماني فكان لتلك الهزيمة‬
‫آثارها على الدولة العثمانية وتوالت الهزائم على العثمانيين وتزحزحت القوات العثمانية إلى‬
‫الوراء باتجاه شرق الدانوب‪ ،‬وأعطت النمساويين الفرصة لفك حصار بلغراد وفتح الطريق‬
‫لقوات الحلفاء وطرد العثمانيين من أوربا‪.‬‬
‫‪.92‬بعد هدوء القتال انصرف سليم الثالث للصلحات الداخلية فبدأ بتنظيم الجيش للتخلص‬
‫من النكشارية الذين أصبحوا سبب كل فتنة واتجه نحو تقليد أوروبا إل أنه عزل من السلطنة‪.‬‬
‫‪.93‬انتهز الفرنسيون تدهور الدولة العثمانية وضعفها‪ ،‬فأرسلت حملتها المشهورة بقيادة‬
‫القائد المشهور نابليون بونابرت‪ ،‬وكانت تلك الحملة صدى للثورة الفرنسية ومتأثرة بأفكارها‬
‫الثورية‪.‬‬
‫‪.94‬سعى رجال الحملة الفرنسية إلى زعزعة الدين في نفوس الشيوخ والعلماء وعوام‬
‫‪-667-‬‬
‫المسلمين بعرض نماذج من الحضارة الغربية عليهم‪.‬‬
‫‪.95‬نجح الفرنسيون في استثارة العناصر القبطية المسيحية لمعاونة الحملة بمختلف‬
‫الوسائل‪.‬‬
‫‪.96‬كان الهجوم الفرنسي على مصر يعتبر أول هجوم صليبي على ولية عربية من‬
‫وليات الدولة العثمانية في التاريخ الحديث‪ ،‬وعلى الفور أعلن السلطان سليم الثالث الجهاد‬
‫على الفرنسيين الصليبيين واستجاب لدعوته المسلمون في الحجاز‪ ،‬والشام‪ ،‬وشمال افريقيا‪.‬‬
‫‪.97‬كانت بريطانيا تتابع الطماع الفرنسية في مصر وغيرها بدقة متناهية وعندما تحركت‬
‫الحملة الفرنسية‪ ،‬ووصلت إلى مصر أرسلت أسطولً بقيادة الميرال نيسلون لتعقب الحملة‬
‫الفرنسية واستطاع السطول النجليزي أن يدمر السطول الفرنسي في معركة أبي قير‬
‫البحرية‪.‬‬
‫‪.98‬كانت هزيمة السطول الفرنسي في موقعة أبي قير البحرية قد شجعت الدولة العثمانية‬
‫على مهاجمة الحملة الفرنسية في مصر‪ ،‬فأعلن الحرب على فرنسا وأصدر أوامره بإلقاء‬
‫القبض على القائم بأعمال السفارة الفرنسية وجميع رعايا فرنسا في استنبول والقائهم في‬
‫السجون‪.‬‬
‫‪.99‬اضطرت الحملة الفرنسية إلى مغادرة مصر بسبب الهجوم المشترك الذي قام به‬
‫النجليز والعثمانيون على الفرنسيس في مصر وقد تظافرت عوامل عدة أرغمت المحتلين‬
‫الفرنسيس على الخروج من مصر في النهاية‪ ،‬منها تحطيم اسطولهم في معركة أبي قير‬
‫البحرية وسيطرة النجليز البحرية في البحر المتوسط‪ ،‬وتشديدهم الحصار على الشواطئ‬
‫المصرية‪ ،‬مما أعجز الحكومة الفرنسية عن إرسال النجدات والمدادات إلى فرنسا في مصر‪.‬‬
‫‪.100‬كان للحملة الفرنسية أثر بالغ في مصر خصوصا والشرق عموما واستطاعت‬
‫المحافل الماسونية اليهودية الفرنسية أن تشق طريقها لطعن السلم بخنجرها المسموم‪،‬‬
‫واستطاع الفرنسيون أن يزرعوا أفكارهم ويجدوا لهم عملء في المنطقة‪ ،‬واستفادوا بعد‬
‫‪-668-‬‬
‫خروجهم العسكري من الدور الخطير الذي قام به محمد علي باشا حاكم مصر فيما بعد‪.‬‬
‫‪.101‬تولى الحكم السلطان محمود الثاني في عام ‪1223‬هـ واستطاع أن يتخلص من‬
‫النكشارية وأزالها من الوجود وأصبح بعد ذلك حرا في تطوير جيشه‪ ،‬فترسم خطى الحضارة‬
‫الغربية واستبدل الطربوش الرومي بالعمامة‪ ،‬وتزيا بالزي الوربي‪ ،‬وأمر أن يكون هو الزي‬
‫الرسمي لكل موظفي الدولة‪.‬‬
‫‪.102‬في تلك الفترة الحرجة من التاريخ العثماني انتشرت المحافل الماسونية في مصر‬
‫والشام وتركيا وكانت تعمل ليلً ونهارا من أجل تفتيت وإضعاف الدولة العثمانية بمعاولها‬
‫الفاسدة التي لتكل ولتمل‪.‬‬
‫‪.103‬كانت المحافل الفرنسية ترى دعم محمد علي ليتحقق لها أطماعه المستقبلية في حفظ‬
‫وتقوية محافلها الماسونية‪ ،‬وإضعاف الدولة العلية العثمانية وزرع خنجرها المسموم في قلب‬
‫الدولة العثمانية ولذلك أنشأت لمحمد علي أسطولً بحريا متقدما متطورا‪ ،‬وترسانة بحرية في‬
‫دمياط‪.‬‬
‫‪.104‬قام محمد علي بدور مشبوه في نقل مصر من انتمائها السلمي الشامل إلى شيء‬
‫آخر يؤدي بها في النهاية إلى الخروج عن شريعة ال وكانت تجربة محمد علي قدوة لمن بعده‬
‫من أمثال مصطفى كمال أتاتورك وجمال عبدالناصر ‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫‪.105‬قام محمد علي نيابة عن فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا وغيرها من الدول‬
‫الوروبية بتوجيه ضربات موجعة للتجاه السلمي في كل من مصر‪ ،‬والجزيرة العربية‪،‬‬
‫والشام‪ ،‬والخلفة العثمانية مما كان لها الثر في تهيئة العالم السلمي للطماع الغربية‪.‬‬
‫‪.106‬كان محمد علي مخلبا وخنجرا مسموما استعمله العداء في تنفيذ مخططاتهم ولذلك‬
‫وقفوا معه في نهضته العلمية‪ ،‬والقتصادية والعسكرية بعد أن أيقنوا بضعف الجانب العقدي‬
‫والسلمي لديه ولدى أعوانه وجنوده‪.‬‬
‫‪.107‬ترتب على دور محمد علي في المنطقة بأسرها أن تنبهت الدول الوروبية إلى مدى‬
‫‪-669-‬‬
‫الضعف الذي أصبحت عليه الدولة العثمانية‪ ،‬وبالتالي استعدادها لتقسيم أراضيها حينما تتهيأ‬
‫الظروف السياسية‪.‬‬
‫‪.108‬تولى الحكم في الدولة العثمانية بعد وفاة السلطان محمود الثاني ابنه عبدالمجيد الول‬
‫وكان ضعيف البنية‪ ،‬شديد الذكاء واقعيا ورحيما وهو من أجلّ سلطين آل عثمان قدرا‪.‬‬
‫‪.109‬كان السلطان عبدالمجيد خاضعا لتأثير وزيره رشيد باشا الذي وجد في الغرب مثله‬
‫وفي الماسونية فلسفته‪ ،‬ورشيد باشا هو الذي أعد الجيل التالي له من الوزراء ورجال الدولة‪،‬‬
‫وبمساعدته أسهم هؤلء في دفع عجلة التغريب التي بدأها هو‪.‬‬
‫‪.110‬كانت حركة الصلح والتجديد العثماني تدور حول نقاط ثلثة هامة‪ :‬القتباس من‬
‫الغرب فيما يتعلق بتنظيم الجيش وتسليمه في نظم الحكم والدارة‪ ،‬التجاه بالمجتمع العثماني‬
‫نحو التشكيل العلماني‪ ،‬التجاه نحو مركزية السلطة في استانبول والوليات‪.‬‬
‫‪.111‬تكلل خطا كلخانة وهمايون بدستور مدحت باشا عام ‪1876‬م ولول مرة في تاريخ‬
‫السلم ودوله يجري العمل بدستور مأخوذ عن الدستور الفرنسي والبلجيكي والسويسري‬
‫وهي دساتير وضعية علمانية‪.‬‬
‫‪.112‬وضعت حركة التنظيمات الدولة العثمانية رسميا على طريق نهايتها كدولة اسلمية‪،‬‬
‫فعلمنت القوانين‪ ،‬ووضعت مؤسسات تعمل بقوانين وضعية‪ ،‬والبتعاد عن التشريع السلمي‬
‫في مجالت التجارة والسياسة والقتصاد‪ ،‬قد سحب من الدولة العثمانية شرعيتها في أنظار‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫‪.113‬إن النظرة الفاحصة في تاريخ المم واستقراء أحوالها تبين لنا أن التقليد بين أمة‬
‫وأمة‪ ،‬وبين قوم وقوم يحدث بينهما من التشابه والتفاعل والنصهار‪ ،‬ما يضعف التمايز‬
‫والستقلل في المة المقلدة ويجعلها مهتزة الشخصية‪.‬‬
‫‪.114‬اقتضت سنة ال في خلقه أن المة الضعيفة المغلوبة تعجب بالمة القوية المهيمنة‬
‫الغالبة ومن ثم تقليدها فتكسب من أخلقها وسلوكها وأساليب حياتها‪ ،‬إلى أن يصل المر إلى‬
‫‪-670-‬‬
‫تقليدها في عقائدها وأفكارها وثقافتها وأدبها وفنونها‪ ،‬وبهذا تفقد المة المقلدة مقوماتها الذاتية‬
‫وحضاراتها ‪ -‬إن كانت ذات حضارة ‪ -‬وتعيش عالة على غيرها‪.‬‬
‫‪.115‬تولى الحكم في الدولة العثمانية السلطان عبدالعزيز ابن محمود الثاني عام ‪1277‬هـ‬
‫وكانت الدول الوربية عازمة على الضغط على الحكومة العثمانية للستمرار في خطوات‬
‫الصلح والنهوض المزعوم على النهج الغربي‪ ،‬والفكر الوربي والمبادئ العلمانية وكان‬
‫السلطان عبدالعزيز يرفض الدساتير الغربية والعادات البعيدة عن البيئة السلمية وحاول‬
‫النهوض بالمجتمع السلمي العثماني فدبرت مؤامرة لقتله بواسطة القناصل وممثلي الدول‬
‫الوروبية في العاصمة وقاموا بتنفيذها عن طريق عملئهم ممن تشربوا بأفكارهم من رجال‬
‫الدولة وعلى رأسهم صنيعة الماسونية المدعو مدحت باشا‪.‬‬
‫‪.116‬تولى الحكم بعد السلطان عبدالعزيز ابن أخيه مراد الخامس الذي كان منخرطا في‬
‫سلك الماسونية‪ ،‬وكان ميالً إلى الدستور والليبرالية والعلمانية وكانت الحركة الماسونية هي‬
‫التي دفعت به إلى السلطنة ولكنه أصيب باضطراب عقلي بعد أن أصابته الدهشة والفزع‬
‫بسبب مقتل عمه عبدالعزيز وظهرت عليه اضطرابات عصبية أثّرت علي جهازه الهضمي‪،‬‬
‫وكانت صحته في تدهور مستمر‪ ،‬فكان لبد من خلعه وأعلن ذلك من قبل شيخ السلم‪.‬‬
‫‪.117‬تولى حكم الدولة العثمانية بعد مراد الخامس السلطان عبدالحميد الثاني في عام‬
‫‪1293‬هـ وضغط عليه من قبل مدحت باشا فأعلن الدستور‪ ،‬ومارس الوزراء استبدادهم‬
‫واشتدت سياستهم التغريبية بقيادة جمعية العثمانيين الجدد والتي كانت تضم النخبة المثقفة التي‬
‫تأثرت بالغرب وعندما حانت الفرصة للسلطان عبدالحميد ألغى الدستور وشرّد زعماء‬
‫التغريب وعمل على إضعاف سلطاتهم‪ ،‬وشرع في إصلح الدولة وفق التعاليم السلمية‬
‫وحرص على تطبيق الشريعة السلمية‪.‬‬
‫‪.118‬عمل السلطان عبدالحميد على تشكيل جهاز استخباراتي قوي لحماية الدولة من الداخل‬
‫وجمع معلومات على أعدائه من الخارج‪ ،‬وأخمد ثورات في البلقان وتمردات داخلية وكان‬
‫‪-671-‬‬
‫جهاز الستخبارات من الوسائل المهمة عند السلطان في القضاء على التمردات الداخلية في‬
‫حينها‪.‬‬
‫‪.119‬دخلت الدولة العثمانية في حرب ضروس مع روسيا وانهزمت أمامها واضطرت لعقد‬
‫معاهدة سان ستفانو معها ثم بعد ذلك كان مؤتمر برلين في المانيا‪.‬‬
‫‪.120‬ظهرت فكرة الجامعة السلمية في معترك السياسة في زمن السلطان عبدالحميد الذي‬
‫اهتم بهذه الفكرة من دعم أواصر الخوة بين المسلمين في كل مكان حتى تستطيع المة أن‬
‫تقف ضد الطماع الصليبية‪.‬‬
‫‪.121‬شرع السلطان عبدالحميد في تنفيذ مخططه للوصول إلى الجامعة السلمية بواسطة‬
‫وسائل متعددة منها‪ ،‬التصال بالدعاة‪ ،‬وتنظيم الطرق الصوفية‪ ،‬والعمل على تعريب الدولة‪،‬‬
‫وإقامة مدرسة العشائر‪ ،‬وإقامة خط سكة حديد الحجاز‪ ،‬وإبطال مخططات العداء‪.‬‬
‫‪.122‬حاول السلطان عبدالحميد التضييق على يهود الدونمة عندما علم قوتهم ومؤامراتهم‬
‫ضد السلم ولذلك قام يهود الدونمة بوضع خطة إستراتيجية مضادة له حيث تحركوا ضده‬
‫على مستوى الرأي العام العثماني والجيش وقاموا بدعم المحافل الماسونية للطاحة به‪،‬‬
‫واستخدموا شعارات الحرية‪ ،‬والديمقراطية وإزاحة المستبد‪ ،‬وعلى هذا الساس قاموا بنشر‬
‫الشقاق والتمرد في الدولة وبين صفوف الجيش‪ ،‬وكان يهود الدونمة يشكلون اللبنة الولى‬
‫لتنفيذ المخططات اليهودية العالمية التي تعمل على تحقيق المشروع الستيطاني الصهيوني في‬
‫فلسطين‪.‬‬
‫‪.123‬كان السلطان عبدالحميد العائق القوي أمام مخططات حكماء صهيون فعملوا على‬
‫ترغيبه بالمال فلم يستطيعوا وكان يتخذ التدابير اللزمة في سبيل عدم بيع الراضي إلى‬
‫اليهود في فلسطين ولم يعط اليهود أي امتياز من شأنه أن يؤدي إلى تغلب اليهود على أراضي‬
‫فلسطين‪.‬‬
‫‪.124‬تحركت الصهيونية العالمية‪ ،‬لتدعيم أعداء السلطان عبدالحميد‪ ،‬وهم المتمردون‬
‫‪-672-‬‬
‫الرمن‪ ،‬والقوميون البلقان‪ ،‬وحركة حزب التحاد والترقي‪ ،‬والوقوف مع كل حركة انفصالية‬
‫عن الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪.125‬استطاعت جمعية التحاد والترقي أن تعزل السلطان عبدالحميد الثاني عن الحكم وقد‬
‫تحصلت على دعم من الدول الوربية‪ ،‬واليهود والمحافل الماسونية للوصول إلى هذا الهدف‪.‬‬
‫‪.126‬كانت جمعية التحاد والترقي لتستطيع مقاومة الحلفاء بعد هزيمتها في الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬واضطر زعماؤها إلى الفرار إلى المانيا وروسيا‪.‬‬
‫‪.127‬استطاع النجليز واليهود أن يدفعوا بمصطفى كمال نحو زعامة الدولة العثمانية وقام‬
‫الخير بتنفيذ مخططا مرسوما انتهى بتحقيق شروط كرزون الربع وهي‪ :‬قطع كل صلة‬
‫لتركيا بالسلم‪ ،‬إلغاء الخلفة السلمية إلغاءً تاما‪ ،‬إخراج الخليفة وأنصار الخلفة والسلم‬
‫من البلد‪ ،‬ومصادرة أموال الخليفة‪ ،‬اتخاذ دستور مدني بدلً من دستور تركيا القديم‪.‬‬
‫‪.128‬عمل مصطفى كمال على سلخ تركيا من عقيدتها واسلمها‪ ،‬وحارب التدين‪ ،‬وضيق‬
‫على الدعاة‪ ،‬ودعا إلى السفور والختلط‪ ،‬إل أن صوت الحق في تركيا قاوم العلمانية بشدة‬
‫وطهرت حركة سعيد النورسي وحزب السلمة الذي أصبح فيما بعد حزب الرفاه ولزال‬
‫الصراع بين الحق والباطل‪ ،‬والهدى والضلل‪ ،‬والرشد والغي‪ ،‬على أشده في تركيا‪.‬‬
‫‪.129‬إن أسباب سقوط الدولة العثمانية كثيرة جامعها هو البتعاد عن تحكيم شرع ال تعالى‬
‫الذي جلب للفراد والمة تعاسة وضنكا في الدنيا‪ ،‬وإن آثار البتعاد عن شرع ال ظهرت في‬
‫وجهتها الدينية‪ ،‬والجتماعية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والقتصادية‪.‬‬
‫‪.130‬إن انحراف سلطين الدولة العثمانية المتأخرين عن شرع ال وتفريط الشعوب‬
‫السلمية الخاضعة لهم في المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬أثر في تلك الشعوب‪ ،‬وكثرة‬
‫العتداءات الداخلية بين الناس‪ ،‬وتعرضت النفوس للهلك‪ ،‬والموال للنهب‪ ،‬والعراض‬
‫للغتصاب بسبب تعطل أحكام ال فيما بينهم‪ ،‬ونشبت حروب وفتن‪ ،‬وبليا تولدت على أثرها‬
‫عداوة وبغضاء لم تزل عنهم حتى بعد زوالهم‪.‬‬
‫‪-673-‬‬
‫‪.131‬إن من سنن ال تعالى المستخرجة من حقائق التاريخ أنه إذا عُصي ال تعالى ممن‬
‫يعرفونه سلط ال عليهم من ليعرفونه ولذلك سلط النصارى على المسلمين‪ ،‬وغاب النصر عن‬
‫المة وحرمت من التمكين‪ ،‬وأصبحت في فزع وخوف وتوالت عليها المصائب‪ ،‬وضاعت‬
‫الديار‪ ،‬وتسلط الكفار‪.‬‬
‫‪.132‬لقد أصيبت المة بانحراف شديد في مفاهيم دينها‪ ،‬كعقيدة الولء والبراء‪ ،‬ومفهوم‬
‫العبادة‪ ،‬وانتشرت مظاهر الشرك والبدع والخرافات‪.‬‬
‫‪.133‬إن من أعظم النحرافات التي وقعت في تاريخ المة السلمية ظهور الصوفية‬
‫المنحرفة كقوة منظمة في المجتمع السلمي تحمل عقائدا وأفكارا وعبادات بعيدة عن كتاب‬
‫وقد قوى عود الصوفية المنحرفة واشتدت شوكتها في أواخر العصر‬ ‫ال وسنة رسوله‬
‫العثماني‪.‬‬
‫‪.134‬كانت الفرق المنحرفة قد استفحل أمرها‪ ،‬خصوصا مع مجيء الستعمار الصليبي‬
‫الذي طوق المة السلمية‪ ،‬فكانوا على عادتهم دائما مع أعداء المسلمين عونا لهم وجندا‬
‫مخلصين لقيادتهم ومن أشهر هذه الفرق‪ ،‬الشيعة الثنى عشرية‪ ،‬والدروز والنصيرية‪،‬‬
‫والسماعيلية‪ ،‬والقاديانية والبهائية وغيرها من الفرق الضالة المحسوبة على السلم‪.‬‬
‫‪.135‬أصبح كثير من العلماء ألعوبة بيد الحكام الجائرين‪ ،‬وتسابقوا للحصول على الوظائف‬
‫والمراتب وغاب دورهم المطلوب منهم‪ ،‬وكان من الطبيعي أن تصاب العلوم الدينية في نهاية‬
‫الدولة العثمانية بالجمود والتحجر‪ ،‬واهتم العلماء بالمختصرات‪ ،‬والشروح والحواشي‬
‫‪،‬‬ ‫والتقريرات وتباعدوا عن روح السلم الحقيقية المستمدة من كتاب ال وسنة رسوله‬
‫ورفض كثير من العلماء فتح باب الجتهاد‪ ،‬وأصبحت الدعوة لفتح بابه تهمة كبيرة تصل إلى‬
‫الرمي بالكبائر‪ ،‬وتصل عند بعض المقلدين والجامدين إلى حد الكفر‪.‬‬
‫‪.136‬انتشر الظلم في الدولة العثمانية‪ ،‬والظلم كالمرض في النسان يعجل بموته بعد أن‬
‫يقضى المدة المقدرة له وهو مريض‪ ،‬وبانتهاء هذه المدة يحين أجل موته‪ ،‬فكذلك الظلم في‬
‫‪-674-‬‬
‫المة والدولة يعجل في هلكها بما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي إلى هلكها واضمحللها‬
‫خلل مدة معينة يعلمها ال هي الجل المقدر لها ولذلك زالت الدولة العثمانية من الوجود‪،‬‬
‫وكذلك مما يعجل بزوال الدول انغماسها في الشهوات والترف وشدة الختلف والتفرق‪.‬‬
‫‪.137‬لقد ترتب عن ابتعاد المة عن شرع ربها آثار خطيرة‪ ،‬كالضعف السياسي‪ ،‬والحربي‪،‬‬
‫والقتصادي‪ ،‬والعلمي‪ ،‬والخلقي‪ ،‬والجتماعي وفقدت المة قدرتها على المقاومة‪ ،‬والقضاء‬
‫على أعدائها‪ ،‬فاستعمرت‪ ،‬وغزيت فكريا‪ ،‬نتيجة لفقدها لشروط التمكين وابتعادها عن أسبابه‬
‫المادية والمعنوية وجهلها بسنن ال في نهوض المم وسقوطها‪.‬‬
‫قال تعالى‪ { :‬ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والرض‪ ،‬ولكن‬
‫كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } ( سورة العراف‪ ،‬الية‪.) 196 :‬‬
‫‪.138‬إن هذا المجهود المتواضع قابل للنقد والتوجيه وماهي إل محاولة متواضعة هدفها‬
‫معرفة عوامل نهوض المة وأسباب سقوطها وبيني وبين الناقد قول الشاعر‪:‬‬
‫إن تجد عيبا فسد الخلل‬
‫جلّ من لعيب فيه وعل‬
‫وأسأل ال العلي العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل هذا الجهد قبولً حسنا وأن يبارك فيه‬
‫وأن يجعله من أعمالي الصالحة التي أتقرب بها إليه وأن ليحرم اخواني الذين أعانوني على‬
‫اكماله من الجر والمثوبة وأختم هذا الكتاب بقول ال تعالى ‪ { :‬ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين‬
‫سبقونا باليمان ولتجعل في قلوبنا غلً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم }‪.‬‬
‫وبقول الشاعر‪:‬‬
‫أنا الفقير إلى رب البريات‬
‫أنا المسكين في مجموع حالتي‬
‫أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي‬
‫والخير أن يأتينا من عنده يأتي‬
‫‪-675-‬‬
‫ل استطيع لنفسي جلب منفعة‬
‫ولعن النفس لي دفع المضرّات‬
‫والفقر لي وصف ذات لزم أبدا‬
‫كما الغنى أبدا وصف له ذاتي‬
‫وهذه الحال حال الخلق أجمعهم‬
‫وكلهم عنده عبد له آتي‬
‫" وآخر‬ ‫" سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن ل إله إل أنت استغفرك وأتوب إليك "‪،‬‬
‫دعوانا أن الحمد ل رب العالمين "‪.‬‬

‫المصادر والمراجع‬
‫(أ)‬
‫‪.1‬أخبار المراء والملوك السلجوقية‪ ،‬د‪.‬محمد نور الدين ‪.‬‬
‫‪.2‬أيعيد التاريخ نفسه‪ ،‬محمد العبده ‪ ،‬المنتدى السلمي ‪ ،‬طبعة ‪1411‬هـ‪.‬‬
‫‪.3‬إعلم الموقعين عن رب العالمين ‪ ،‬المام ابن القيم ‪ ،‬مراجعة وتعليق طه عبدالرؤوف‬
‫سعد‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬

‫‪-676-‬‬
‫‪.4‬أوروبا في العصور الوسطى‪ ،‬سعيد عاشور‪ ،‬الطبعة السادسة‪ ،‬مكتبة النجلو المصرية‬
‫‪1975‬م‪.‬‬
‫‪.5‬اقتصاديات الحرب في السلم‪ ،‬د‪ .‬غازي التمام‪ ،‬مكتبة الرشد الرياض‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1411‬هـ‪1991/‬م‪.‬‬
‫‪.6‬أطوار العلقات المغربية العثمانية‪ ،‬ابراهيم شحاتة‪ ،‬منشأة المعارف‪ ،‬السكندرية ‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1980‬م‪.‬‬
‫‪.7‬امام التوحيد محمد عبدالوهاب‪ ،‬أحمد القطان‪ ،‬مكتبة السندس الكويت‪ ،‬الطبعة الثانية‬
‫‪1409‬هـ‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪.8‬استمرارية الدعوة‪ ،‬محمد السيد الوكيل‪ ،‬دار المجتمع المدينة‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1414‬هـ‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫‪.9‬أضواء البيان في أيضاح القرآن بالقرآن‪ ،‬لمحمد المين الشنقيطي‪ ،‬مطبعة المدني عام‬
‫‪ -1384‬الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪.10‬اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لبن تيمية‪ ،‬تحقيق محمد حامد الفقي‬
‫الطبعة الثانية عام ‪1369‬هـ مطبعة السنة المحمدية‪.‬‬
‫‪.11‬ابن باديس حياته وآثاره‪ :‬د‪ .‬عمار الطالبي‪ ،‬دار الغرب السلمي‪ ،‬بيروت الطبعة‬
‫الثانية ‪1403‬هـ ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫(ب)‬

‫‪.12‬البداية والنهاية‪ ،‬أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي‪ ،‬دار الريان‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1408‬هـ ‪1988 -‬م‪.‬‬
‫‪.13‬البطولة والفداء عند الصوفية‪ ،‬أسعد الخطيب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬سورية ‪ -‬دمشق‪.‬‬
‫‪.14‬البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع‪ ،‬لمحمد بن علي الشوكاني‪ ،‬دار المعرفة‪،‬‬

‫‪-677-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫‪.15‬بدر التمام في اختصار العتصام‪ ،‬اختصره أبي عبدالفتاح محمد السعيد الجزائري‪ ،‬دار‬
‫الحنان السلمية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1411‬هـ‪1991 ،‬م‪ ،‬المارات العربية المتحدة‪.‬‬
‫‪.16‬بدائع الزهور في وقائع الدهور‪ ،‬محمد بن أحمد ابن اياس‪ ،‬القاهرة مطابع الشعب‪،‬‬
‫‪.1960‬‬
‫‪.17‬بداية الحكم المغربي من السودان الغربي‪ ،‬محمد الغربي‪ ،‬الدار الوطنية للتوزيع‬
‫والنشر‪ ،‬طبعة عام ‪1982‬م‪.‬‬
‫‪.18‬البرق اليماني في الفتح العثماني‪ ،‬دار اليمامة‪ ،‬الرياض‪ ،‬قطب الدين محمد بن أحمد‬
‫المكي‪ ،‬الطبعة الولى ‪1387‬هـ ‪1967 -‬م‪.‬‬
‫‪.19‬البلد العربية والدولة العثمانية‪ ،‬ساطع الحصري‪ ،‬بيروت ‪1960‬م‪.‬‬
‫(ت)‬
‫‪.20‬تاريخ الترك في آسيا الوسطى‪ ،‬بارتولد ترجمة أحمد السعيد القاهرة‪ ،‬مطبعة النجلو‬
‫المصرية ‪1378‬هـ‪1958/‬م‪.‬‬
‫‪.21‬تاريخ المم والملوك‪ ،‬محمد بن جرير الطبري‪ ،‬دمشق‪ ،‬دار الفكر ‪1399‬هـ‪1979/‬م‪.‬‬
‫‪.22‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬محمد فريد بك‪ ،‬تحقيق الدكتور احسان حقي‪ ،‬دار‬
‫النفائس‪ ،‬الطبعة السادسة‪1408 ،‬هـ ‪1988 -‬م‪.‬‬
‫‪.23‬تاريخ السلم‪ ،‬شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1411‬هـ ‪1991 -‬م‪.‬‬
‫‪.24‬تاريخ دولة آل سلجوق‪ ،‬لمحمد الصبهاني‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفاق الجديدة‪ ،‬بيروت الطبعة‬
‫الثانية ‪1978‬م‪.‬‬
‫‪.25‬تاريخ سلطين آل عثمان‪ ،‬تحقيق بسام الجابي‪ ،‬تأليف يوسف آصاف‪ ،‬دار البصائر‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة ‪1405‬هـ ‪1985 -‬م‪.‬‬
‫‪-678-‬‬
‫‪.26‬تاريخ العرب الحديث‪ ،‬رأفت الشيخ‪ ،‬عين للدراسات والبحوث النسانية والجتماعية‪.‬‬
‫‪.27‬تاريخ العرب الحديث‪ ،‬تأليف د‪ .‬جميل بيفون‪ ،‬د‪ .‬شحادة الناظور‪ ،‬الستاذ عكاشة‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1992 /‬م‪ ،‬دار المل للنشر والتوزيع‪.‬‬
‫‪.28‬التقليد والتبعية وأثرها في كيان المة السلمية‪ ،‬ناصر العقل‪ ،‬دار المسلم‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية ‪1414‬هـ‪.‬‬
‫‪.29‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬المكتب السلمي الطبعة الثالثة ‪1415‬هـ‬
‫‪1994‬م‪.‬‬
‫‪.30‬التاريخ العثماني في شعر أحمد شوقي بقلم محمد زاهد عبدالفتاح أبو غدة‪ ،‬دار الرائد‬
‫كندا‪ ،‬الطبعة الولى ‪1417‬هـ‪1996/‬م‪.‬‬
‫‪.31‬تاريخ سلطين آل عثمان‪ ،‬للقرماني‪ ،‬الطبعة الولى ‪1405‬هـ‪1985/‬م‪ ،‬دار البصائر‬
‫دمشق سوريا‪.‬‬
‫‪.32‬تاريخ المشرق العربي‪ ،‬عمر عبدالعزيز عمر‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،‬اسكندرية‪.‬‬
‫‪.33‬تجربة محمد علي الكبير‪ ،‬دروس في التغيير والنهوض‪ ،‬منير شفيق‪ ،‬دار الفلح للنشر‪،‬‬
‫بيروت لبنان‪ ،‬الطبعة الولى بيروت ‪1997‬م ‪1418 -‬هـ‪.‬‬
‫‪.34‬التراجع الحضاري في العالم السلمي د‪ .‬علي عبدالحليم‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬الطبعة‪،‬‬
‫‪1414‬هـ‪1994 /‬م‪.‬‬
‫‪.35‬تفسير المنار‪ ،‬محمد رشيد رضا‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪.36‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬ابن كثير أبو الفداء أسماعيل‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبدالعزيز غنيم‪ ،‬وحمد‬
‫أحمد عاشور‪ ،‬ومحمد ابراهيم البناء‪ ،‬مطبعة الشعب القاهرة ‪ -‬مصر‪.‬‬
‫‪.37‬تفسير الطبري المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن‪ ،‬لبن جرير الطبري‪ ،‬دار‬
‫الفكر‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪1405 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪.38‬تفسير السعدي‪ ،‬المسمى تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم المنان‪ ،‬للشيخ‬
‫‪-679-‬‬
‫عبدالرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬المؤسسة السعدية بالرياض ‪1977‬م‪.‬‬
‫‪.39‬تركيا والسياسة العربية‪ :‬أمين شاكر وسعيد العريان ومحمد عطا‪.‬‬
‫‪.40‬تفسير القرطبي‪ ،‬لبي عبدال القرطبي‪.‬‬
‫‪.41‬تفسير النسفي مدارك التنزيل وحقائق التأويل للمام أبي البركات عبدال بن أحمد بن‬
‫محمود النسفي‪.‬‬
‫‪.42‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬يلماز أوزنتونا‪ ،‬ترجمه إلى العربية عدنان محمود سلمان‪ ،‬د‪.‬‬
‫محمود النصاري‪ ،‬المجلد الول‪ .‬منشورات مؤسسة فيصل للتمويل تركيا استانبول ‪1988‬م‪.‬‬
‫‪.43‬تطبيق الشريعة السلمية‪ ،‬د‪ .‬عبدال الطريقي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1415‬هـ‪1995/‬م‪.‬‬
‫‪.44‬التيارات السياسية في الخليج العربي‪ ،‬صلح العقاد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬المطبعة الفنية الحديثة‪،‬‬
‫‪1974‬م‪.‬‬
‫‪.45‬تاريخ الجزائر الحديث‪ ،‬محمد خير فارس‪ ،‬دار الشروق الطبعة الثانية‪1979 ،‬م‪.‬‬
‫‪.46‬التراك العثمانيون في افريقيا‪ ،‬عزيز سامح‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬ترجمة محمود‬
‫عامر‪ ،‬الطبعة الولى ‪1409‬هـ‪1989 /‬م‪.‬‬
‫‪.47‬تاريخ الجزائر العام‪ ،‬عبدالرحمن الجيللي‪ ،‬دار الثقافة بيروت‪ ،‬الطبعة الرابعة‪،‬‬
‫‪1980‬م‪.‬‬
‫‪.48‬تاريخ افريقيا الشمالية‪ ،‬شارل اندري جوليان‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس ‪1978‬م‪،‬‬
‫تعريب محمد مزالي‪.‬‬
‫‪.49‬تاريخ المغرب‪ ،‬لمحمد عبود‪ ،‬دار الطباعة المغربية الطبعة الثانية‪.‬‬
‫‪.50‬تاريخ الفكر المصري الحديث ‪ -‬لويس عوض‪ ،‬ط ‪ 1‬القاهرة سنة ‪1979‬م‪.‬‬
‫‪.51‬التيارات السياسية الجتماعية بين المجددين والمحافظين د‪ .‬زكريا سليمان موسى‪،‬‬
‫دراسة فكر الشيخ محمد عبده‪ ،‬القاهرة سنة ‪1983‬م‪.‬‬
‫‪-680-‬‬
‫‪.52‬تاريخ الحساء السياسي‪ ،‬د‪ .‬محمد عرابي‪ ،‬منشورات ذات السلسل الكويت‪،‬‬
‫‪1400‬هـ‪1980/‬م‪.‬‬
‫‪.53‬التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية‪ ،‬إبراهيم حلمي بك‪.‬‬
‫‪.54‬التجاهات الوطنية‪ ،‬لمحمد حسين‪ ،‬بيروت‪1972 ،‬م‪.‬‬
‫‪.55‬التصوف في مصر إبان العصر العثماني د‪ .‬توفيق الطويل‪ .‬مطبعة العتماد بمصر ط‬
‫‪1365‬هـ ‪1946 /‬م‪.‬‬
‫(ج)‬
‫‪.56‬جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬زيادة أبو غنيمة‪ ،‬دار الفرقان‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1403‬هـ‪1983 /‬م‪.‬‬
‫‪.57‬جمال الدين الفغاني المصلح المفترى عليه‪ ،‬د‪ .‬محسن عبدالحميد‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1403‬هـ‪1983/‬م‪.‬‬
‫‪.58‬جهود العثمانيين لنقاذ الندلس في مطلع العصر الحديث‪ ،‬د‪ .‬نبيل عبدالحي رضوان‪،‬‬
‫مكتبة الطالب الجامعي‪ ،‬الطبعة الولى ‪1408‬هـ‪1988/‬م‪.‬‬
‫‪.59‬الجبرتي والفرنسيس‪ ،‬د‪ .‬صلح العقاد‪ ،‬ندوة الجبرتي القاهرة ‪1976‬م‪.‬‬
‫(ح)‬
‫‪.60‬حاضر العالم السلمي‪ ،‬د‪ .‬جميل عبدال محمد المصري‪ ،‬جامعة المدينة المنورة‪.‬‬
‫‪.61‬حروب البلقان والحركة العربية في المشرق العربي العثماني د‪ .‬عايض بن خزّام‬
‫الروقي‪1416 ،‬هـ‪1996/‬م‪.‬‬
‫‪.62‬حروب محمد علي في الشام وأثرها في شبه الجزيرة العربية‪ ،‬د‪ .‬عايض بن خزّام‬
‫الروقي‪1414 ،‬هـ‪ ،‬مركز بحوث الدراسات السلمية‪ ،‬مكة المكرمة‪.‬‬
‫‪.63‬حركة الجامعة السلمية‪ ،‬أحمد فهد بركات‪ ،‬مكتبة المنار‪ ،‬الردن الطبعة الولى‬
‫‪1984‬م‪1404/‬هـ‪.‬‬
‫‪-681-‬‬
‫‪.64‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي‪ ،‬عبدالعزيز مصطفى كامل‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1415‬هـ‪1995/‬م‪.‬‬
‫‪.65‬الحكومة السلمية للمودودي‪ ،‬ترجمة أحمد إدريس‪ ،‬نشر المختار السلمي‪ ،‬للطباعة‬
‫والنشر القاهرة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1397‬هـ‪1977/‬م‪.‬‬
‫‪.66‬الحسبة في العصر المملوكي د‪ .‬حيد الصافح‪ ،‬دار العلم الدولي‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1414‬هـ‪1993 /‬م‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪.67‬حرب الثلثمائة سنة بين الجزائر واسبانيا‪ ،‬احمد توفيق مدني الطبعة الثانية‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫‪.68‬حقائق الخبار عن دول البحار‪ ،‬اسماعيل سرهنك‪ ،‬المطبعة الميرية‪ ،‬ببولق‪ ،‬مصر‬
‫الطبعة الولى ‪1312‬هـ‪.‬‬
‫‪.69‬الحروب الصليبية في المشرق والمغرب‪ ،‬محمد العمروسي دار الغرب السلمي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪1982 ،‬م‪.‬‬
‫‪.70‬حقيقة الماسونية لمحمد الزعبي‪ ،‬دار العربية‪ ،‬بيروت ‪1974‬م‪.‬‬
‫‪.71‬الحركة السلمية الحديثة في تركيا د‪ .‬أحمد النعيمي‪ ،‬دار البشير‪ ،‬عمان‪ ،‬الردن‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1413‬هـ‪1993/‬م‪.‬‬
‫‪.72‬حركة الصلح في عصر السلطان محمود الثاني‪ ،‬د‪ .‬البحراوي‪ ،‬دار التراث‪ ،‬القاهرة‬
‫الطبعة الولى ‪1398‬هـ‪1978/‬م‪.‬‬
‫(خ)‬
‫‪.73‬خراسان‪ ،‬محمود شاكر‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬بيروت‪ ،‬المكتب السلمي‪1398 ،‬هـ‪/‬‬
‫‪1978‬م‪.‬‬
‫‪.74‬خير الدين بربوس‪ ،‬بسام العسلي‪ ،‬دار النفائس الطبعة الثالثة‪1406 :‬هـ‪1986/‬م‪.‬‬
‫‪.75‬الخلفة والملك للمودودي‪ ،‬تعريب أحمد إدريس‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الطبعة الولى سنة‬
‫‪1398‬هـ‪1978/‬م‪.‬‬
‫‪-682-‬‬
‫‪.76‬خليفة من خياط تاريخه‪ ،‬تحقيق د‪ .‬أكرم ضياء العمري‪ ،‬الطبعة الثانية دار القلم بيروت‬
‫ومؤسسة الرسالة ‪1397‬هـ‪1977/‬م‪.‬‬
‫‪.77‬خلصة تاريخ الندلس‪ ،‬دار مكتبة الحياة‪ ،‬بيروت‪ ،‬شكيب أرسلن‪.‬‬
‫‪.78‬خطط الشام‪ ،‬محمد كرد علي‪ ،‬دار العلم للمليين‪ ،‬بيروت‪1390 ،‬هـ‪.‬‬
‫(د)‬
‫‪.79‬الدولة العثمانية والشرق العربي‪ ،‬محمد انيس‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة النجول المصرية‪.‬‬
‫‪.80‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬تأليف ثريا شاهين‪ ،‬ترجمة الدكتور محمد حرب‪،‬‬
‫دار المنارة للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الولى ‪1418‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪.81‬دعوة جمال الدين الفغاني في ميزان السلم‪ ،‬مصطفى فوزي عبداللطيف غزال‪ ،‬دار‬
‫طيبة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1403‬هـ‪1983/‬م‪.‬‬
‫‪.82‬الدولة العثمانية‪ ،‬دولة إسلمية مفترى عليها‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز الشناوي‪ ،‬مكتبة النجلو‬
‫المصرية‪ ،‬مطابع جامعة القاهرة عام ‪1980‬م‪.‬‬
‫‪.83‬الدولة العثمانية في التاريخ السلمي الحديث‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل مكتبة العبيكان‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1416‬هـ‪1996/‬م‪.‬‬
‫‪.84‬الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل النحطاط‪ ،‬قيس جواد العزاوي‪ ،‬مركز دراسات‬
‫السلم والعالم‪ ،‬الطبعة الولى ‪1414‬هـ‪1994/‬م‪.‬‬
‫‪.85‬الدولة العثمانية‪ ،‬أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ‪ ،‬د‪ .‬جمال عبدالهادي‪ ،‬د‪ .‬وفاء‬
‫محمد رفعت جمعة‪ ،‬علي أحمد لبن‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬الطبعة الولى‪1414 ،‬هـ‪1994/‬م‪.‬‬
‫‪.86‬دراسات متميزة في العلقات بين الشرق والغرب على مر العصور‪ ،‬يوسف الثقفي‪،‬‬
‫دار الثقة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1411 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪.87‬دراسات في التاريخ المصري‪ ،‬أحمد سيد د‪ .‬أ‪-‬ج‪ ،‬والسيد رجب حراز‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬
‫النهضة‪1976 ،‬م‪.‬‬
‫‪-683-‬‬
‫‪.88‬الدولة السعودية الولى‪ ،‬عبدالرحيم عبدالرحمن‪.‬‬
‫‪.89‬دولة الموحدين‪ ،‬علي محمد الصلبي‪ ،‬دار البيارق عمان‪-‬الردن‪1998 ،‬م‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪.‬‬
‫(ر)‬
‫‪.90‬الرسالة الخالدة‪ ،‬عبدالرحمن عزام‪ ،‬القاهرة ‪1946‬م‪.‬‬
‫‪.91‬رسائل البنا‪ ،‬حسن البنا‪ ،‬دار الندلس‪.‬‬
‫‪.92‬رياضة السماع في أحكام الذكر والسماع‪ ،‬محمد أبو الهدى الصيادي‪ ،‬مطبعة التمدن‬
‫بمصر ‪1903‬م‪.‬‬
‫(ز)‬
‫‪.93‬زاد المعاد في هدى خير العباد‪ ،‬لبن القيم الجوزية‪.‬‬
‫(س)‬
‫‪.94‬السلوك‪ ،‬أحمد بن علي المقريزي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬القاهرة ‪1376‬هـ‪1956/‬م‪.‬‬
‫‪.95‬السلطين في المشرق العربي‪ ،‬د‪ .‬عصام محمد شبارو‪ ،‬طبعة ‪1994‬م‪ ،‬دار النهضة‬
‫العربية‪ ،‬بيروت‪-‬لبنان‪.‬‬
‫‪.96‬سير أعلم النبلء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة السابعة‪1410 ،‬هـ‪1990/‬م‪.‬‬
‫‪.97‬السلطان عبدالحميد الثاني‪ ،‬د‪ .‬محمد حرب‪ ،‬دار القلم دمشق‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1410‬هـ‪1990/‬م‪.‬‬
‫‪.98‬السلم في آسيا منذ الغزو المغولي د‪ .‬محمد نصر مهنّا‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪ ،1990/1991‬المكتب الجامعي الحديث‪ ،‬طبعة أولى‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪.99‬السلطان محمد الفاتح‪ ،‬فاتح القسطنطينية وقاهر الروم‪ ،‬عبدالسلم عبدالعزيز فهمي‪ ،‬دار‬
‫القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الرابعة‪1407 ،‬هـ‪1987/‬م‪.‬‬
‫‪.100‬السلطين العثمانيون‪ ،‬كتاب مصور‪ ،‬طبع في تونس‪.‬‬
‫‪-684-‬‬
‫‪.101‬السلم وأوضاعنا القانونية‪ ،‬عبدالقادر عودة‪ ،‬الناشر المختار السلمي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الخامسة سنة ‪1397‬هـ‪.‬‬
‫‪.102‬سنن أبي داود‪ ،‬سليمان بن الشعث‪ ،‬تحقيق‪ ،‬عزت عبيد الدعاس‪ ،‬حمص الناشر‪:‬‬
‫محمد السيد‪.‬‬
‫‪.103‬سنن الترمذي‪ ،‬لبي عيسى الترمذي‪ ،‬تحقيق أحمد شاكر مصطفى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪.104‬السلم في مواجهة التحديات‪ :‬أبو العلى المودودي‪ ،‬الطبعة الولى عام ‪1391‬هـ‪،‬‬
‫دار القلم‪.‬‬
‫‪.105‬سد باب الجتهاد وماترتب عليه‪ ،‬عبدالكريم الخطيب‪ ،‬دار الصالة الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1405‬هـ‪1984/‬م‪.‬‬
‫‪.106‬السنن اللهية في المم والجماعات والفراد‪ ،‬عبدالكريم زيدان‪.‬‬
‫(ش)‬
‫‪.107‬الشعوب السلمية‪ ،‬التراك العثمانيون‪ ،‬الفرس‪ ،‬مسلمو الهند‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز سليمان‬
‫نوار‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬طبعة ‪1411‬هـ‪1991/‬م‪.‬‬
‫‪.108‬شذرات الذهب في أخبار من ذهب‪ ،‬لبن العماد الحنبلي دار الفاق الجديدة بيروت‪.‬‬
‫‪.109‬الشرق السلمي في العصر الحديث‪ ،‬حسن مؤنس مطبعة حجازي القاهرة الطبعة‬
‫الثانية‪1938 ،‬م‪.‬‬
‫‪.110‬الشوقيات‪ ،‬ديوان أحمد شوقي‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪1986‬م‪.‬‬
‫(ص)‬
‫‪.111‬صحوة الرجل المريض‪ ،‬د‪ .‬موفق بني مرجه‪ ،‬دار البيارق‪ ،‬الطبعة الثامنة‪،‬‬
‫‪1417‬هـ‪.1996/‬‬
‫‪.112‬صحيح البخاري‪ ،‬للمام محمد بن إسماعيل‪.‬‬
‫‪.113‬صحيح مسلم‪ ،‬للمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري‪ ،‬دار الحديث‪،‬‬
‫‪-685-‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1991/‬م‪.‬‬
‫‪.114‬صراع المسلمين مع البرتغال في البحر الحمر‪ ،‬غسان علي الرمال‪ ،‬جدة‪ ،‬دار العلم‪،‬‬
‫‪1406‬هـ‪.‬‬
‫‪.115‬الصراع الفكري بين أجيال العصور الوسطى والعصر الحديث كما صوره الجبرتي‪،‬‬
‫د‪ .‬أحمد العدوي‪ ،‬أبحاث ندوة الجبرتي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة ‪1976‬م‪.‬‬
‫(ط)‬
‫‪.116‬طبقات الشافعية الكبرى‪ ،‬لتاج الدين أبي نصر عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي‬
‫السبكي‪ ،‬تحقيق عبدالفتاح محمد‪ ،‬محمود محمد الطناحي‪ ،‬دار احياء الكتب العربية‪.‬‬
‫(ع)‬
‫‪.117‬العثمانيون في التاريخ والحضارة‪ ،‬د‪ .‬محمد حرب‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1409‬هـ‪1989/‬م‪.‬‬
‫‪.118‬العالم العربي في التاريخ الحديث‪ ،‬د‪ .‬اسماعيل أحمد ياغي‪ ،‬مكتبة العبيكان‪،‬‬
‫‪1418‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪.119‬العلمانية نشأتها وتطورها وآثارُها في الحياة السلمية المعاصرة‪ ،‬سفر عبدالرحمن‬
‫الحوالي‪ ،‬طبعة ‪1408‬هـ‪1987/‬م‪.‬‬
‫‪.120‬العثمانيون والروس‪ ،‬د‪ .‬علي حسون‪ ،‬المكتب السلمي الطبعة الولى‪1402 ،‬هـ‪/‬‬
‫‪1982‬م‪.‬‬
‫‪.121‬العبر وديوان المبتدأ والخبر‪ ،‬عبدالرحمن ابن خلدون‪.‬‬
‫‪.122‬علقات بين الشرق والغرب بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر‪ ،‬المكتبة‬
‫العصرية‪ ،‬صيدا‪-‬لبنان‪ ،‬ط ‪1969‬م‪ .‬عبدالقادراحمد اليوسف‪.‬‬
‫‪.123‬علقة ساحل عمان ببريطانيا‪ ،‬دراسة وثائقية‪ ،‬عبدالعزيز عبدالغني ابراهيم‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫مطبوعات دار الملك عبدالعزيز‪1402 ،‬هـ‪1982/‬م‪.‬‬
‫‪-686-‬‬
‫‪.124‬عجائب الثار في الترجم والخبار‪ ،‬دار فارس‪ -‬بيروت لعبدالرحمن الجبرتي‪.‬‬
‫‪.125‬عقيدة ختم النبوة المحمدية‪ ،‬د‪ .‬أحمد سعدان حمدان‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪1405 ،‬هـ‪1985/‬م‪.‬‬
‫‪.126‬عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية‪ ،‬د‪ .‬عثمان عبدالمنعم‪ ،‬مكتبة الزهر ‪1978‬م‪.‬‬
‫(ف)‬
‫‪.127‬فتوح البلدان‪ ،‬احمد يحيى البلذري‪.‬‬
‫‪.128‬الفتوح السلمية عبر العصور‪ ،‬د‪ .‬عبدالعزيز العمري‪ ،‬دار اشبيلية‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪1418 ،‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪.129‬الفعى اليهودية في معاقل السلم‪ ،‬عبدال التل‪ ،‬المكتب السلمي‪.‬‬
‫‪.130‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬أحمد عبدالرحيم مصطفى‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫‪1986‬م‪1406/‬هـ‪.‬‬
‫‪.131‬في ضلل القرآن الكريم‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪.‬‬
‫‪.132‬الفوائد لبن القيم‪.‬‬
‫‪.133‬فتح القسطنطينية وسير السلطان محمد الفاتح ومحمد مصطفى‪.‬‬
‫‪.134‬فتح القسطنطينية وسيرة السلطان محمد الفاتح‪ ،‬محمد صفوت‪ ،‬منشورات الفاخرية‪،‬‬
‫الرياض ودار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪.135‬فقه التمكين في القرآن الكريم‪ ،‬لعلي محمد الصلّبي‪ ،‬رسالة دكتوراه لم تطبع بعد‪.‬‬
‫‪.136‬فقه التمكين عند دولة المرابطين‪ ،‬علي محمد الصلّبي‪ ،‬دار البيارق عمان‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫طبعة أولى ‪1998‬م‪.‬‬
‫‪.137‬فتح العثمانيين عدن وانتقال التوازن الدولي من البر إلى البحر‪ ،‬محمد عبداللطيف‬
‫البحراوي‪ ،‬دار التراث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الولى‪1979 ،‬م‪.‬‬
‫‪.138‬فلسفة التاريخ العثماني‪ ،‬محمد جميل بيهم‪ ،‬أسباب انحطاط المبراطورية العثمانية‬
‫‪-687-‬‬
‫وزوالها ‪ -‬شركة فرج ال للمطبوعات‪ ،‬بيروت‪1954 ،‬م‪.‬‬
‫(ق)‬
‫‪.139‬قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين‪ ،‬د‪ .‬زكريا سليمان بيومي‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1411‬هـ‪1991/‬م‪ ،‬عالم المعرفة‪.‬‬
‫‪.140‬قيام الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬عبداللطيف عبدال دهيش‪ ،‬الطبعة الثانية‪1416 ،‬هـ‪1995/‬م‪،‬‬
‫مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة‪ ،‬مكة المكرمة‪.‬‬
‫(ك)‬
‫‪.141‬الكامل في التاريخ‪ ،‬علي بن محمد بن أبي الكرم بن عبدالكريم‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪.142‬الكشوف الجغرافية البرتغالية والسبانية‪ ،‬مقالة في كتاب الصراع بين العرب‬
‫والستعمار‪ ،‬شوقي عبدال الجمل‪ ،‬القاهرة‪1415 ،‬هـ‪1995/‬م‪.‬‬
‫(ل)‬
‫‪.143‬ليبيا بين الماضي والحاضر‪ ،‬حسن سليمان محمود‪ ،‬مؤسسة سجل العرب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪1962‬م‪.‬‬
‫‪.144‬ليبيا منذ الفتح العثماني‪ ،‬اتوري‪ ،‬روسي‪ ،‬تعريب خليفة التليسي‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1974‬م‪.‬‬
‫(م)‬
‫‪.145‬معركة نهاوند‪ ،‬شوقي أبو خليل‪.‬‬
‫‪.146‬مرآة الزمان لسبط بن الجوزي‪.‬‬
‫‪.147‬الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والندلس‪ ،‬نجيب زبيب‪ ،‬دار المير‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1415‬هـ‪1995/‬م‪.‬‬
‫‪.148‬مذكرات السلطان عبدالحميد‪ ،‬تقديم د‪ .‬محمد حرب‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬
‫‪1412‬هـ‪1991/‬م‪.‬‬
‫‪-688-‬‬
‫‪.149‬موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية د‪ .‬حسان علي حلق‪ ،‬دار الجامعة‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة‪1986 ،‬م‪.‬‬
‫‪.150‬موقف اوربا من الدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬يوسف علي الثقفي‪ ،‬الطبعة الولى‪1417 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪.151‬المختار المصون من أعلم القرون‪ ،‬محمد بن حسن بن عقيل موسى دار الندلس‬
‫الخضراء للنشر والتوزيع جدة‪ ،‬الطبعة الولى‪1415 ،‬هـ‪1995/‬م‪.‬‬
‫‪.152‬المسألة الشرقية‪ ،‬دراسة وثائقية عن الخلفة العثمانية‪ ،‬محمود ثابت الشاذلي‪ ،‬مكتبة‬
‫وهبة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1409‬هـ‪1989/‬م‪.‬‬
‫‪.153‬محمد الفاتح‪ ،‬د‪ .‬سالم الرشيدي‪ ،‬الرشاد‪ ،‬جدة‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1989‬م‪1410/‬هـ‪.‬‬
‫‪.154‬معجم المؤلفين‪ ،‬تراجم مصنفي الكتب العربية‪ ،‬تأليف عمر رضا كحالة‪ ،‬احياء التراث‬
‫العربي‪.‬‬
‫‪.155‬المشرق العربي والمغرب العربي د‪ .‬عبدالعزيز قائد المسعودي‪ ،‬جامعة صنعاء‪ ،‬دار‬
‫الكتب الثقافية‪ ،‬صنعاء‪ ،‬الطبعة الولى ‪1993‬م‪.‬‬
‫‪.156‬مجموع الفتاوى‪ ،‬جمع وترتيب عبدالرحمن القاسم‪.‬‬
‫‪.157‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬خالد السبت‪ ،‬المنتدى السلمي‪.‬‬
‫‪.158‬معارج القبول شرح سلم الوصول إلى علم الصول في التوحيد‪ ،‬تأليف الشيخ الحافظ‬
‫أحمد حكمي رحمه ال‪ ،‬تعليق عمر محمود‪ ،‬دار ابن القيم للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1410‬هـ‪1990/‬م‪.‬‬
‫‪.159‬مسند المام أحمد‪ ،‬المكتب السلمي‪ ،‬بيروت‪1405 ،‬هـ‪1985/‬م‪.‬‬
‫‪.160‬المجتمع المدني في عهد النبوة " الجهاد ضد المشركين‪ ،‬الطبعة الولى ‪1404‬هـ‪.‬‬
‫‪.161‬مواقف حاسمة‪ ،‬محمد عبدال عنان‪.‬‬
‫‪. 162‬منهج الرسول في غرس الروح الجهادية في نفوس أصحابه‪ ،‬د‪ .‬السيد محمد السيد نوح‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1411‬هـ‪1990 /‬م‪ ،‬نشرته جامعة المارات العربية‪.‬‬
‫‪-689-‬‬
‫‪.163‬المغرب العربي في بداية العصور الحديثة‪ ،‬صلح العقاد‪ ،‬مكتبة النجلو المصرية‪،‬‬
‫القاهرة الطبعة الثالثة‪1969 ،‬م‪.‬‬
‫‪.164‬المغرب العربي الكبير‪ ،‬شوقي عطا ال الجمل‪ ،‬طبعة أولى‪1977 ،‬م‪ ،‬مكتبة النجلو‬
‫المصرية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪.165‬المجتمع السلمي المعاصر‪ ،‬محمد المبارك‪ ،‬دار الفكر بيروت‪ ،‬ط ‪1390‬هـ‪/‬‬
‫‪1971‬م‪.‬‬
‫‪.166‬مشكلت الجيل في ضوء السلم‪ ،‬محمد المجذوب ط ‪1390‬هـ‪.‬‬
‫‪.167‬المغرب في عهد الدولة السعدية‪ ،‬عبدالكريم كريم‪ ،‬شركة الطبع والنشر‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬المغرب‪1977 ،‬م‪.‬‬
‫‪.168‬المغرب العربي الكبير‪ ،‬جلل يحيى‪.‬‬
‫‪.169‬محنة المورسيكوس في اسبانيا‪ ،‬لمحمد قشتيلو‪ ،‬مطبعة الشويخ‪ ،‬تطوان‪1980 ،‬م‪.‬‬
‫‪.170‬الموسوعة الميسرة في الديان‪ ،‬لندوة الشباب العالمي‪ ،‬جدة‪.‬‬
‫‪.171‬المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية‪ ،‬عبدال بن حمد الشبانة‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬
‫‪1417‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪.172‬مصر في مطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬د‪ .‬محمد فؤادي شكري‪ ،‬القاهرة سنة ‪1958‬م‪.‬‬
‫‪.173‬الماسونية وموقف السلم منها‪ ،‬د‪ .‬حمود أحمد الرحيلي‪ ،‬دار العاصمة‪ .‬السعودية‪،‬‬
‫طبعة أولى ‪1415‬هـ‪.‬‬
‫‪.174‬من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي‪ ،‬محمد أديب غالب‪ ،‬دار اليمامة السعودية‬
‫ط ‪ 1‬سنة ‪1975‬م‪.‬‬
‫‪.175‬المعالم الرئيسية للسس التاريخية والفكرية لحزب السلمة‪ ،‬محمد عبدالحميد حرب‪،‬‬
‫ندوة اتجاهات الفكر السلمي المعاصر البحرين‪.‬‬
‫‪.176‬مفاهيم يجب أن تصحح‪ ،‬لمحمد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة السابعة‪،‬‬
‫‪-690-‬‬
‫‪1412‬هـ‪1992/‬م‪.‬‬
‫‪.177‬المجتمع السلمي المعاصر‪ ،‬محمد المبارك‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬بيروت ط ‪1390‬هـ‪/‬‬
‫‪1971‬م‪.‬‬
‫‪.178‬مشكلت الجيل في ضوء السلم ‪ ،‬محمد المجذوب ط ‪1390‬هـ‪.‬‬
‫(ن)‬
‫‪.179‬النحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما‬
‫في حياة المة‪ ،‬تأليف علي بن نجيب الزهراني‪ ،‬دار طيبة مكة‪ ،‬دار آل عمّار الشارقة‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪1418،‬هـ‪1998/‬م‪.‬‬
‫‪.180‬النظام السياسي في السلم د‪ .‬محمد ابو فارس‪ ،‬دار الفرقان‪ ،‬عمان‪ ،‬الردن‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية ‪1407‬هـ‪1986/‬م‪.‬‬
‫‪.181‬النجوم الزاهرة‪ ،‬لجمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تعزي الهيئة المصرية العامة‬
‫للتأليف والنشر‪1391 ،‬هـ‪1971/‬م‪.‬‬
‫‪.182‬النفوذ البرتغالي في الخليج العربي‪ ،‬نوال صيرفي‪ ،‬الرياض مطبوعات دار الملك‬
‫عبدالعزيز‪1403 ،‬هـ‪1983/‬م‪.‬‬
‫‪.183‬نشوة المدام في العودة إلى مدينة السلم‪ :‬أبو الثناء اللوسي‪ .‬مطبعة ولية بغداد‪،‬‬
‫‪1293‬هـ‪.‬‬
‫(و)‬
‫‪.184‬واقعنا المعاصر‪ ،‬محمد قطب‪ ،‬الطبعة الثانية‪1408 ،‬هـ‪1988/‬م‪ .‬مؤسسة المدينة‬
‫المنورة‪.‬‬
‫‪.185‬الولء والبراء في السلم‪ ،‬محمد سعيد القحطاني‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬مكة الرياض‪ ،‬الطبعة‬
‫السادسة‪1413 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪.186‬وادي المخازن‪ ،‬شوقي ابو خليل‪.‬‬
‫‪-691-‬‬
‫‪.187‬وحي القلم‪ ،‬مصطفى صادق الرفاعي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫‪.188‬والدي السلطان عبدالحميد‪ ،‬مذكرات الميرة عائشة‪ ،‬دار البشير‪ ،‬الطبعة الولى‪،‬‬
‫‪1411‬هـ‪1991/‬م‪.‬‬
‫(ي)‬
‫‪.189‬اليهودية والماسونية‪ ،‬عبدالرحمن الدوسري‪ ،‬دار السنة‪ ،‬الطبعة الولى‪1414 ،‬هـ‪/‬‬
‫‪1994‬م‪ ،‬السعودية‪.‬‬
‫‪.190‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬د‪ .‬أحمد نوري النعيمي‪ ،‬مؤسسة الرسالة دار البشير‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1417‬هـ‪1997/‬م‪.‬‬
‫‪.191‬يهود الدونمة‪ ،‬دراسة في الصول والعقائد والمواقف د‪ .‬أحمد نوري النعيمي‪ ،‬مؤسسة‬
‫الرسالة‪ ،‬الطبعة الولى‪1415 ،‬هـ‪1995/‬م‪.‬‬

‫فهرس الكتاب‬

‫‪ -‬الهداء‪2 ....................................................‬‬
‫‪ -‬المقدمة‪3 ...............................................................‬‬
‫‪ -‬المدخل‪ :‬المناهج المعاصرة في كتابة تاريخ الدولة العثمانية‪15 ...............‬‬

‫‪-692-‬‬
‫‪ -‬تمهيد‪15 ..............................................................‬‬
‫الفصل الول‪ :‬جذور التراك وأصولهم‪25 .................................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬أصل التراك ومواطنهم‪25 .................................‬‬
‫‪ -‬اتصالهم بالعالم السلمي‪26 .............................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬قيام الدولة السلجوقية‪29 ...................................‬‬
‫أولً‪ :‬السلطان محمد الملقب آلب أرسلن أي السد الشجاع‪31 .............‬‬
‫ثانيا‪ :‬ملكشاه وفشله في توحيد الخلفة والسلطنة‪36 ........................‬‬
‫ثالثا‪ :‬نظام الملك‪39.......................................................‬‬
‫‪ -‬ضبطه لمور الدولة‪40..................................................‬‬
‫‪ -‬حبه للعلم واحترامه للعلماء وتواضعه‪41.................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬نهاية الدولة السلجوقية‪47 .................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬قيام الدولة العثمانية وفتوحاتها‪51 ...........................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬عثمان مؤسس الدولة العثمانية‪53 ..........................‬‬
‫أولً‪ :‬أهم الصفات القيادية في عثمان الول‪55..............................‬‬
‫ثانيا‪ :‬الدستور الذي سار عليه العثمانيون‪60................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬السلطان أورخان بن عثمان‪91..............................‬‬
‫أولً‪ :‬تأسيس الجيش الجديد‪92.............................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬سياسة أورخان الداخلية والخارجية‪97.................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬العوامل التي ساعدت السلطان أورخان في تحقيق أهدافه‪99.............‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬السلطان مراد الول‪101..................................‬‬
‫أولً‪ :‬تحالف صليبي ضد مراد‪102.........................................‬‬
‫‪ -‬أول معاهدة بين الدولة العثمانية والمسيحية‪103..........................‬‬
‫‪-693-‬‬
‫‪ -‬معركة قوصوه‪103....................................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬استشهاد السلطان مراد‪104.........................................‬‬
‫‪ -‬الكلمات الخيرة للسلطان مراد‪105....................................‬‬
‫‪ -‬دعاء السلطان مراد قبل إندلع معركة قوصه‪105.......................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬السلطان بايزيد الول‪111..................................‬‬
‫أولً‪ :‬سياسته مع الصرب‪111.............................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬اخضاع بلغاريا للسيادة العثمانية‪112.................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬التكتل الدولي المسيحي الصليبي ضد الدولة العثمانية‪112..............‬‬
‫رابعا‪ :‬حصار القسطنطينية‪115.............................................‬‬
‫خامسا‪ :‬الصدام بين تيمورلنك وبايزيد‪116.................................‬‬
‫سادسا‪ :‬انهيار الدولة العثمانية‪118 ........................................‬‬
‫سابعا‪ :‬الحروب الداخلية‪119..............................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬السلطان محمد الول‪119.................................‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬مراد الثاني‪131..........................................‬‬
‫أولً‪ :‬مراد الثاني وحبه للشعراء والعلماء وفعل الخير‪138....................‬‬
‫ثانيا‪ :‬وفاته ووصيته‪139...................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬محمد الفاتح وفتح القسطنطينية‪141.........................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬السلطان محمد الفاتح‪141..................................‬‬
‫أولً‪ :‬فتح القسطنطينية‪143...............................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬العداد للفتح‪148..................................................‬‬
‫‪ -‬اهتمام السلطان بجمع السلحة اللزمة‪149 .............................‬‬
‫‪ -‬الهتمام بالسطول‪150 ...............................................‬‬
‫‪-694-‬‬
‫‪ -‬عقد المعاهدات‪150 ...................................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬الهجوم‪151 ........................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين‪155...........................‬‬
‫رابعا‪ :‬عزل قائد السطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح‪156...............‬‬
‫خامسا‪ :‬عبقرية حربية فذة‪158............................................‬‬
‫سادسا‪ :‬اجتماع بين الملك قسطنطين ومعاونيه‪161.........................‬‬
‫سابعا‪ :‬الحرب النفسية العثمانية‪162 ......................................‬‬
‫‪ -‬مفاجأة عسكرية عثمانية‪165 ..........................................‬‬
‫‪167‬ثامنا‪ :‬المفاوضات الخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين‪167 ............‬‬
‫تاسعا‪ :‬محمد الفاتح يعقد اجتماع لمجلس الشورى‪168 ......................‬‬
‫عاشرا‪ :‬محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه‪171.................‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬فتح من ال ونصر قريب‪174................................‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين‪178.....................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الفاتح المعنوي للقسطنطينية الشيخ آق شمس الدين‪181.......‬‬
‫الشيخ شمس الدين يخشى على السلطان الغرور‪185.........................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬أثر فتح القسطنطينية على العالم الوروبي والسلمي‪189....‬‬
‫‪ -‬من رسالة الفاتح إلى سلطان مصر‪193..................................‬‬
‫‪ -‬رسالة السلطان محمد الفاتح إلى شريف مكة‪197.........................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬أسباب فتح القسطنطينية‪199...............................‬‬
‫‪ -‬أثر تحكيم شرع ال على الدولة العثمانية زمن محمد الفاتح‪204...........‬‬
‫أولً ‪ :‬إنها قدر سابق‪206.................................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬إنها لتتحول ولتتبدل‪206..........................................‬‬
‫‪-695-‬‬
‫ثالثا‪ :‬إنها ماضية ل تتوقف‪207............................................‬‬
‫رابعا‪ :‬إنها لتخالف ولتنفع مخالفتها‪207....................................‬‬
‫خامسا‪ :‬لينتفع بها المعاندون ولكن يتعظ بها المتقون‪207....................‬‬
‫سادسا‪ :‬إنها تسرى على البر والفاجر‪207..................................‬‬
‫‪-‬آثار الحكم بما أنزل ال الدنيوية والخروية‪208...........................‬‬
‫أولً‪ :‬الستخلف والتمكين‪208...........................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬المن الستقرار‪209.................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬النصر والفتح‪210...................................................‬‬
‫رابعا‪ :‬العز والشرف‪211..................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬انتشار الفضائل وانزواء الرذائل‪213...............................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬أهم صفات محمد الفاتح‪215..............................‬‬
‫المبحث السادس ‪ :‬شيء من أعماله الحضارية‪221...........................‬‬
‫‪ -‬اهتمامه بالمدارس المعاهد‪221...........................................‬‬
‫‪ -‬اهتمام السلطان محمد الفاتح بالعلماء‪223...............................‬‬
‫‪ -‬اهتمامه بالشعراء والدباء‪225..........................................‬‬
‫‪ -‬اهتمامه بالترجمة‪226...................................................‬‬
‫‪ -‬اهتمامه بالعمران والبناء والمستشفيات‪227..............................‬‬
‫‪ -‬الهتمام بالتجارة والصناعة‪228........................................‬‬
‫‪ -‬الهتمام بالتنظيمات الدارية‪229.......................................‬‬
‫‪ -‬اهتمامه بالجيش والبحرية‪231..........................................‬‬
‫‪ -‬اهتمامه بالعدل‪233....................................................‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬وصية السلطان محمد الفاتح لبنه‪237......................‬‬
‫‪-696-‬‬
‫‪ -‬وفاة السلطان محمد الفاتح وأثرها على الغرب والشرق‪262...............‬‬
‫الفصل الثالث ‪ :‬السلطين القوياء بعد محمد الفاتح‪267.....................‬‬
‫المبحث الول ‪ :‬السلطان بايزيد الثاني‪267.................................‬‬
‫أولً‪ :‬الصراع على السلطة مع أخيه‪267...................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬موقف السلطان بايزيد من المماليك‪269...............................‬‬
‫ثالثا‪ :‬السلطان بايزيد الثاني والدبلوماسية الغربية‪269........................‬‬
‫رابعا‪ :‬وقوفه مع مسلمي الندلس‪270.....................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬السلطان سليم الول‪291...................................‬‬
‫أولً‪ :‬محاربة الدولة الصفوية الشيعية‪293...................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬ضم دولة المماليك‪304..............................................‬‬
‫‪ -‬مسألة انتقال الخلفة‪311...............................................‬‬
‫‪ -‬اسباب انهيار الدولة المملوكية‪312......................................‬‬
‫‪ -‬خضوع الحجاز للعثمانيين‪313..........................................‬‬
‫‪ -‬اليمن‪314.............................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬الصراع العثماني البرتغالي‪315.......................................‬‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬السلطان سليمان القانوني‪327.............................‬‬
‫أولً‪ :‬الفتن التي واجهته في بداية حكمه‪327................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬فتح رودس‪329.....................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬قتال المجر وحصار فينا‪329...........................................‬‬
‫رابعا‪ :‬سياسة التقارب العثماني الفرنسي‪330...............................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الدولة العثمانية وشمال أفريقيا‪335...........................‬‬
‫أولً‪ :‬أصل الخوين عروج وخيرالدين‪336.................................‬‬
‫‪-697-‬‬
‫ثانيا‪ :‬دور الخوين في الجهاد ضد الغزو النصراني‪338......................‬‬
‫ثالثا‪ :‬التحالف مع العثمانيين‪340...........................................‬‬
‫رابعا‪ :‬سكان مدينة الجزائر يرسلون رسالة استغاثة للسلطان سليم‪343........‬‬
‫خامسا‪ :‬استجابة السلطان سليم الول لهل الجزائر‪345....................‬‬
‫سادسا‪ :‬التحديات التي أمام خيرالدين‪347..................................‬‬
‫سابعا‪ :‬سفر خير الدين الى استانبول‪350....................................‬‬
‫ثامنا‪ :‬أثر الجهاد خيرالدين على المغرب القصى‪354.........................‬‬
‫تاسعا‪ :‬استيلء شارل الخامس على تونس‪356..............................‬‬
‫عاشرا‪ :‬عودة خير الدين الى الجزائر‪357....................................‬‬
‫‪-‬الدبلوماسية البرتغالية وتفتيت وحدة الصف في الشمال الفريقي‪358.......‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬المجاهد الكبير حسن آغا الطوشي‪361......................‬‬
‫‪ -‬مصير شارلكان ‪368...................................................‬‬
‫‪ -‬وفاة حسن آغا الطوشي‪370............................................‬‬
‫المبحث السادس‪ :‬المجاهد حسن خير الدين بربروسة ‪371....................‬‬
‫أولً‪ :‬آخر أيام خيرالدين بربروسة‪373.....................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬عزل حسن بن خير الدين عن الجزائر‪377.............................‬‬
‫ثالثا‪ :‬رسالة السلطان سليمان القانوني الى حاكم فاس محمد السعدي‪379.....‬‬
‫رابعا‪ :‬مرسوم السلطان العثماني بتقليد صالح رايس‪382.....................‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬سياسة صالح الرايس‪383..................................‬‬
‫‪ -‬تمهيده للعمل المشترك في استرداد الندلس‪385...........................‬‬
‫أولً‪ :‬مقتل بوحسون الوطاسي‪386........................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬التعاون البرتغالي السباني السعدي ضد العثمانيين‪387.................‬‬
‫‪-698-‬‬
‫ثالثا‪ :‬المخابرات العثمانية تكتشف المؤامرة‪390..............................‬‬
‫رابعا‪ :‬وفاة صالح ريس‪391................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬احتلل محمد الشيخ السعدي لتلمسان‪392.........................‬‬
‫سادسا‪ :‬مقتل محمد الشيخ‪394............................................‬‬
‫‪ -‬دعوة حسن بن خير الدين الى الجزائر‪394...............................‬‬
‫سابعا‪ :‬الثورات الداخلية في المغرب القصى‪394............................‬‬
‫ثامنا‪ :‬مقتل حاكم وهران الكوديت‪396....................................‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬سياسة حسن بن خير الدين في التضييق على السبان‪397.....‬‬
‫‪ -‬سياسة المولى عبدال‪399...............................................‬‬
‫أولً‪ :‬السطول العثماني يهاجم جربة في تونس‪401.........................‬‬
‫ثانيا‪ :‬اعتقال حسن خيرالدين وأرساله الى استانبول‪401.....................‬‬
‫ثالثا‪ :‬عودة حسن بن خير الدين الى الجزائر‪402.............................‬‬
‫رابعا‪ :‬الصراع على مالطة‪404.............................................‬‬
‫خامسا‪ :‬حسن بن خير الدين القائد العام للسطول العثماني‪405.............‬‬
‫سادسا‪ :‬قلج علي تولى بيلر بك الجزائر‪406................................‬‬
‫سابعا‪ :‬إعادة تونس للحكم العثماني‪406...................................‬‬
‫ثامنا‪ :‬ثورة مسلمي الندلس‪408..........................................‬‬
‫تاسعا‪ :‬خيانة السطان السعدي الغالب بال لمسلمي الندلس‪409............‬‬
‫عاشرا‪ :‬قلج علي يقف موقف البطال مع مسلمي الندلس‪410.............‬‬
‫المبحث التاسع‪ :‬المتوكل على ال ابن عبدال الغالب السعدي‪415...........‬‬
‫أولً‪ :‬تحالف محمد المتوكل السعدي مع ملك البرتغال‪417....................‬‬
‫ثانيا‪ :‬معركة وادي المخازن‪418............................................‬‬
‫‪-699-‬‬
‫ثالثا‪ :‬حشود النصارى‪419................................................‬‬
‫رابعا‪ :‬الجيش المغربي‪419..................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬قوى الطرفين (البرتغالي النصراني والسلمي المغربي)‪422...........‬‬
‫سادسا‪ :‬أسباب نصر وادي المخازن‪427 ...................................‬‬
‫سابعا‪ :‬نتائج المعركة‪429..................................................‬‬
‫ثامنا‪ :‬اقتراح عثماني على السعديين‪433....................................‬‬
‫تاسعا‪ :‬جهاد الوالي الجزائري وتغير الوضاع‪435...........................‬‬
‫عاشرا‪ :‬انتهاء نظام البيلربك في الجزائر‪437................................‬‬
‫الفصل الرابع ‪ :‬بداية اضمحلل الدولة العثمانية‪441........................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬السلطان سليم الثاني ‪443..................................‬‬
‫أولً‪ :‬تجديد الهدنة مع فرنسا‪443...........................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬حاكم خوازم يطلب الحماية من السلطان سليم الثاني‪445..............‬‬
‫ثالثا‪ :‬فتح قبرص‪447......................................................‬‬
‫رابعا‪ :‬معركة ليبانتي‪448..................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬إحتدام المعركة‪450...............................................‬‬
‫سادسا‪ :‬أثر ليبانتو على أوروبا والدولة العثمانية‪450........................‬‬
‫سابعا‪ :‬ظهور أطماع فرنسا في الشمال الفريقي‪452........................‬‬
‫ثامنا‪ :‬إعادة بناء السطول العثماني‪453....................................‬‬
‫تاسعا‪ :‬احتلل تونس‪454.................................................‬‬
‫عاشرا‪ :‬قلج علي واستعداداته الحربية‪454..................................‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬السلطان سليم يصدر أوامره لعادة تونس‪455...............‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬السطان سليم يرسل حملة كبرى الى اليمن‪458..................‬‬
‫‪-700-‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬الستيلء على عدن‪459.....................................‬‬
‫الرابع عشر‪ :‬دخول صنعاء‪460............................................‬‬
‫الخامس عشر‪ :‬دفاع عن السلطان سليم ووفاته‪462.........................‬‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬السلطان مراد الثالث‪467..................................‬‬
‫أولً‪ :‬منعه للخمور‪467...................................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬وضع الحماية على بولونيا وتجديد المتيازات‪468......................‬‬
‫ثالثا‪ :‬الصراع مع الشيعة الصفوية‪469.....................................‬‬
‫رابعا‪ :‬تمرد وعصيان على أيدي النكشارية‪469.............................‬‬
‫خامسا‪ :‬مقتل الصدر العظم صوقللي محمد باشا‪470.......................‬‬
‫سادسا‪ :‬اليهود والسلطان مراد الثالث‪470.................................‬‬
‫سابعا‪ :‬وفاة السلطان مراد الثالث‪471.....................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬السلطان محمد خان الثالث‪473.............................‬‬
‫أولً‪ :‬الشيخ سعد الدين أفندي‪474........................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬من شعره‪475.......................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬وفاته‪475...........................................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬السلطان احمد الول‪477...................................‬‬
‫أولً‪ :‬الحرب مع النمسا والدول الوروبية‪477.............................‬‬
‫ثانيا‪ :‬تجديد المتيازات‪478................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬الحرب مع الشيعة الصفوية (الفرس)‪480..............................‬‬
‫رابعا‪ :‬الحركات النفصالية‪482............................................‬‬
‫خامسا‪ :‬حركة فخر الدين بن المعنى الثاني الدرزي‪483......................‬‬
‫‪ -‬نبذة عن الدروز‪483...................................................‬‬
‫‪-701-‬‬
‫سادسا‪ :‬وفاة السلطان أحمد الول‪486.....................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬بعض السلطين الضعاف‪487.............................‬‬
‫أولً‪ :‬السلطان مصطفى الول‪487.........................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬السلطان عثمان الثاني‪487...........................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬مراد الرابع‪488.....................................................‬‬
‫‪ -‬الحرب مع الشيعة الصفوية‪489.........................................‬‬
‫رابعا‪ :‬السلطان ابراهيم بن أحمد‪490.......................................‬‬
‫‪ -‬الحرب ضد البنادقة‪491................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬السلطان محمد الرابع‪492.........................................‬‬
‫سادسا‪ :‬السلطان سليمان خان الثاني‪493..................................‬‬
‫‪-‬وفاة السلطان سليمان الثاني‪495........................................‬‬
‫سابعا‪ :‬السلطان احمد الثاني ‪495...........................................‬‬
‫ثامنا‪ :‬السلطان مصطفى الثاني‪495.........................................‬‬
‫تاسعا‪ :‬السلطان احمد الثالث‪496...........................................‬‬
‫‪ -‬الداماد ابراهيم باشا والحضارة الغربية‪498...............................‬‬
‫عاشرا‪ :‬السلطان محمود الول‪500........................................‬‬
‫‪ -‬الحرب مع الدول الوروبية‪501........................................‬‬
‫‪ -‬السلطان عثمان الثالث‪501.............................................‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬السلطان مصطفى الثالث‪502................................‬‬
‫‪ -‬الهتمام بدعم الثورات الداخلية‪504....................................‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬السلطان عبدالحميد الول‪506................................‬‬
‫‪ -‬تحالف النمسا مع روسيا‪510............................................‬‬
‫‪-702-‬‬
‫‪ -‬وفاة السلطان عبدالحميد الول وأثرها على الحداث‪510................‬‬
‫المبحث السادس‪:‬السلطان سليم الثالث‪511................................‬‬
‫أولً‪ :‬إصراره على الجهاد‪511.............................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬هزيمة الجيوش العثمانية‪513..........................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬موقف الدول الوروبية من هذه المعاهدات‪514........................‬‬
‫رابعا‪ :‬الصلح الداخلي والمعارضة‪519....................................‬‬
‫خامسا‪ :‬الغزو الفرنسي الصليبي على الدولة العثمانية في مصر‪512...........‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬جذور الحملة الفرنسية الصليبية‪523........................‬‬
‫أولً‪ :‬سر قوة المسلمين ‪524...............................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬تفجير الجيوب الداخلية‪525..........................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬السلطان سليم الثالث يعلن الجهاد ضد فرنسا‪527.....................‬‬
‫رابعا‪ :‬استجابة المهدي الدرناوي الليبي لنداء الجهاد ضد فرنسا‪528..........‬‬
‫خامسا‪ :‬النكليز وأطماعهم‪530...........................................‬‬
‫سادسا‪ :‬العثمانيون وسياستهم الدولية‪532.................................‬‬
‫سابعا‪ :‬آثار الحملة الفرنسية على المة السلمية‪537.......................‬‬
‫المبحث الثامن‪ :‬السلطان محمود الثاني‪541..................................‬‬
‫أولً‪ :‬الحرب مع روسيا‪541...............................................‬‬
‫‪ -‬إلغاء النكشارية‪542...................................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬محمد علي باشا والي مصر‪545.......................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي يصف محمد علي‪546.......................‬‬
‫رابعا‪ :‬محمد علي والماسونية‪547............................................‬‬
‫خامسا‪ :‬محمد علي وضربه للسلم في مصر‪554............................‬‬
‫‪-703-‬‬
‫سادسا‪ :‬حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وصراعها مع الدولة العثمانية ‪558‬‬
‫‪ -‬تحالفه مع محمد بن سعود‪559...........................................‬‬
‫سابعا‪ :‬المؤامرة ضد حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب‪562..................‬‬
‫ثامنا‪ :‬حقيقة حملة محمد علي على الحجاز ونجد‪566..........................‬‬
‫تاسعا‪ :‬ثورة اليونان‪574...................................................‬‬
‫عاشرا‪ :‬محمد علي باشا واليونان‪581.......................................‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬محمد علي باشا يحتل الشام ويحارب الدولة العثمانية‪584.......‬‬
‫المبحث التاسع‪ :‬السلطان عبدالمجيد الول‪595..............................‬‬
‫المبحث العاشر‪ :‬السلطان عبدالعزيز‪621....................................‬‬
‫‪ -‬عزل السلطان عبدالعزيز‪623...........................................‬‬
‫‪ -‬سبب مقتل السلطان عبدالعزيز‪624.....................................‬‬
‫المبحث الحادي عشر‪ :‬السلطان مراد الخامس‪627...........................‬‬
‫الفصل الخامس ‪ :‬عصر السلطان عبدالحميد ‪629...........................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬السلطان عبدالحميد‪629....................................‬‬
‫أولً‪ :‬زيارته الى أوروبا مع عمه عبدالعزيز‪630..............................‬‬
‫ثانيا‪ :‬بيعته للخلفة وأعلن الدستور‪633...................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬تمردات وثورات في البلقان‪643......................................‬‬
‫رابعا‪ :‬الحرب الروسية العثمانية‪645........................................‬‬
‫‪ -‬معاهدة سان ستفانو‪649................................................‬‬
‫‪ -‬مؤتمر برلين ‪652.......................................................‬‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬الجامعة السلمية ‪655.....................................‬‬
‫أولً‪ :‬جمال الدين الفغاني والسلطان عبدالحميد‪659........................‬‬
‫‪-704-‬‬
‫ثانيا‪ :‬الطرق الصوفية‪664.................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬تعريب الدولة‪667...................................................‬‬
‫رابعا‪ :‬مراقبته للمدارس ونظرته للمرأة ومحاربته للسفور‪669.................‬‬
‫خامسا‪ :‬مدرسة العشائر‪672...............................................‬‬
‫سادسا‪ :‬خط سكة حديد الحجاز‪675.......................................‬‬
‫سابعا‪ :‬إبطال مخططات العداء‪682........................................‬‬
‫ثامنا‪ :‬الطماع اليطالية في ليبيا‪684.......................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬السلطان عبدالحميد واليهود‪689...........................‬‬
‫أولً‪ :‬يهود الدونمة‪691....................................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬السلطان عبدالحميد وزعيم اليهودية العالمية هرتزل‪697................‬‬
‫المبحث الرابع ‪ :‬السلطان عبدالحميد وجمعية التحاد والترقي‪707.............‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الطاحة بحكم السلطان عبدالحميد الثاني‪717..............‬‬
‫المبحث السادس ‪ :‬حكم التحاديين ونهاية الدولة العثمانية‪729...............‬‬
‫المبحث السابع‪ :‬بشائر إسلمية في تركيا العلمانية‪749.......................‬‬
‫‪ -‬أهم أعمال حزب السلمة‪758..........................................‬‬
‫اسباب سقوط الدولة العثمانية‪773........................................‬‬
‫نتائج البحث‪839.........................................................‬‬
‫المصادر والمراجع ‪867....................................................‬‬
‫فهرس الكتاب‪889.......................................................‬‬

‫‪-705-‬‬
-706-
‫صفحات من التاريخ السلمي (‪)6‬‬
‫إن هذا الجهد المتواضع يسلط الضواء على المجهود العظيم الذي قام به العثمانيون‬
‫نصرة لدين ال‪ ،‬وحبا في الشهادة في سبيله‪ ،‬ويهتم بإبراز عوامل النهوض التي ساهمت في‬
‫بناء الدولة العثمانية وحضارتها السلمية ‪ ،‬سواء كانت تلك العوامل متمثلة في صفات القادة‪،‬‬
‫أو المة‪ ،‬أو المنهج الذي سارت عليه الدولة‪ ،‬ويدافع عن التاريخ العثماني السلمي الذي‬
‫تعرض للتزوير ‪ ،‬والتشكيك والبهتان من قبل اليهود والنصارى والعلمانيين ‪ ،‬ويركز على‬
‫أسباب السقوط التي تعرضت لها الدولة في تاريخها الطويل من المنظور القرآني‪ ،‬ليبين للقارئ‬
‫الكريم أن أسباب السقوط عديدة منها؛ انحراف المة عن مفاهيم دينها؛ كعقيدة الولء والبراء‪،‬‬
‫ومفهوم العبادة‪ ،‬وانتشار مظاهر الشرك والبدع‪ ،‬والخرافات في عموم المة ويتحدث عن غياب‬
‫القيادة الربانية كسبب في ضياع المة وخصوصا عندما يصبح علمائها ألعوبة بيد الحكام‬
‫الجائرين‪ ،‬ويتسابقون على الوظائف والمراتب وغاب دورهم المطلوب منهم‪ ،‬وكيف أصيبت‬
‫العلوم السلمية في نهاية الدولة العثمانية بالجمود والتحجر؟ وكيف تباعد العلماء وأبناء المة‬
‫عن روح السلم الحقيقية المستمدة من كتاب ال وسنة رسوله ؟‬
‫وي صل إلى حقي قة مه مة و سنة من سنن ال في المجتمعات ال سلمية؛ و هي أن جهود‬
‫النصارى واليهود‪ ،‬والعلمانيين ماكانت لتؤثر في الدولة العثمانية إل بعد أن أنحرفت عن شرع‬
‫ال وفقدت شروط التمكين ؛ وأهملت أسبابه المادية والمعنوية‪.‬‬
‫إن هذه الجولة التاريخية العثمانية تعييننا على التفكير والتأمل في أحوال المم والشعوب‬
‫والدول قال تعالى‪{ :‬لقد كان في قصصهم عبرة لولي اللباب ماكان حديثا يفترى ولكن تصديق‬
‫الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (سورة يوسف ‪ :‬آية ‪.)111‬‬
‫الفقير الى عفو ربه ومغفرته ورحمته‬
‫المؤلف‬

‫‪-707-‬‬

You might also like