You are on page 1of 28

‫الحداثة‬

‫المعنى واألبعاد‬
‫‪-1-‬تقديم‪.‬‬
‫‪-2-‬ما معنى الحداثة‪-1-2-:‬األنوار و كانط‪.‬‬
‫‪-2-2-‬هيغل‪.‬‬
‫‪-2-3-‬كارل ماركس‪.‬‬
‫‪-2-4-‬ماكس فيبر‪.‬‬
‫‪-2-5-‬دي نيرفال‪،‬بودلير ورامبو‪.‬‬
‫‪-2-6-‬جان بورديار‪.‬‬
‫‪-2-7-‬ميشيل فوكو‪.‬‬
‫‪-2-8-‬عبد هللا العروي‪.‬‬
‫‪-3-‬متى كانت الحداثة؟ خصائص العصر الحديث‪.‬‬
‫‪-4-‬الحداثة كأزمة‪-‬نقد الحداثة‪.‬‬
‫‪-5-‬خاتمة‪.‬‬
‫تقديم‬
‫ّ‬
‫”الحداثة“و ”ما بعد الحداثة“يشكالن أشد القضايا إلحاحا‬ ‫إن مفهوم‬
‫في فكر القرن ‪20‬وثقافته‪،‬وفي بداية القرن ‪،21‬كما أنهما موضوع‬
‫الساعة في الدوائر الثقافية و الفكرية المعاصرة‪.‬فمفهوم الحداثة“‬
‫قد طال كل ظواهر الحضارة الغربية ابتداء من القرن ‪ 15‬ليشمل كل‬
‫العالم في الوقت الراهن‪.‬‬
‫و من المؤكد أن الحداثة أوروبية المنشأ‪،‬و لهذا فقد تم تفسيرها‬
‫وفقا للمثل األخالقية‪ ،‬والجمالية ‪،‬والفكرية ‪ ،‬السياسية‪،‬‬
‫واإليديولوجية الغربية‪.‬‬
‫و لقد تمت مقاربة الحداثة من عدة أوجه وخصوصا من الفالسفة‪،‬‬
‫والمؤرخين ‪،‬وعلماء االجتماع ‪،‬وعلماء السياسة‪ ،‬و الجغرافيين‬
‫‪،‬ومؤرخي الفن ونقاده ‪ ،‬والمؤرخين عامة ‪.‬‬
‫و سنالحظ أن تعريف ال‪P‬حداثة أو تعار يفها مرهون بالمتغيرات ال‪P‬تاريخية ال‪P‬عميقة التي‬
‫عرفتها أوروبا‪،‬ثم أمريكا ‪،‬ومن تم العالم بأسره ‪.‬‬

‫ول‪P‬تعدد المفا‪P‬هيم في الحداثة و تشعبها‪ ،‬فيمكن الحديث عن ”حداثات“ بدل ”حداثة“‪ .‬فهناك‬
‫حداثة دينية‪ ،‬و حداثة فلسفية‪، ،‬وحداثة سياسية‪،‬و حداثة علمية‪،‬وحداثة أدبية‪،‬‬
‫وحداثة فنية‪ ،‬وحداثة اجتماعية‪ ،‬وحداثة لغوية‪ ،‬وحداثة تواصلية‪ ،‬وحداثة‬
‫ّ‬
‫الصحافة‪،)...‬وحداثة‬ ‫جماهيرية (السينما‪ ،‬التلفزيون‪،‬الموضة‪ ،‬الفلكلور‪،‬‬
‫نسائية‪،‬وحداثة زنجية‪...‬وهذه كلها حداثات نوعية‪ .‬أما زمنيا‪ ،‬فهناك حداثة‬
‫نهضوية‪،‬وحداثة تنويرية‪،‬وحداثة برجوازية‪،‬وحداثة رأسمالية‪،‬وحداثة‬
‫استعمارية‪،‬وحداثة امبريالية‪،‬وحداثة اشتراكية‪ ،‬وحداثة بروليتارية‪ ،‬وحداثة‬
‫ثالثية‪ ...‬وهناك كذلك حداثة ال واعية(أي التي ال يتم اإلحساس بهاعلى أنها‬
‫حديثة بشكل مروع في لحظتها التاريخية الخاصة)‪،‬وهناك بالمقابل حداثة‬
‫واعية(أي الحداثة التي لها نظريتها الخاصة بحداثتها في لحظتها كتجاوز‬
‫لحقبة تقليدية )‪.‬وأخيرا يمكن مقاربة الحداثة من وجهة النظرية الثقافية‬
‫باعتبار( الثقافة هي الطريقة الشاملة للحياة) ‪.‬‬
‫• إال أن هذه التقسيمات‪ ،‬النوعية والزمنية الفرعية‪،‬تبقى في إطار‬
‫استخدام أكاديمي‪،‬ولدواع منهجية تتعلق بالسياق التاريخي الذي‬
‫استقلت فيه العلوم والمعارف عن التأثير الفلسفي وشقت كل واحدة‬
‫على حدة لنفسها موضوعها ومنهجها‪،‬على الرغم من أن ذلك كله ال‬
‫يمنع من أن تشوبها أحيانا بعض التوجهات األيديولوجية وحتى‬
‫الشعبوية‪.‬‬
‫فهناك وال شك أكثر من مدرسة للحداثة ال تستوي فيما‬ ‫•‬
‫بينها‪،‬ربطت بين مسائل تعريف الحداثة وبين المتغيرات التاريخية‬
‫العميقة والتي أدت إلى تغيرات ثقافية شمولية ذات خصائص‬
‫معينة‪.‬وقد تم التأكيد على وجود مدرستين أساسيتين ‪:‬‬
‫مدرسة الحداثة التقليدية(أي التي همت إجماال القارة العجوز منذ ق‬
‫‪ 15‬إلى حدود منتصف ق‪ 19‬وإلى حد ما القارة األمريكية واليابان‬
‫منذ بداية ق‪،)19‬ومدرسة الحداثة المعاصرة (أي الحداثة التي أصبح‬
‫لها حجم التاريخ العالمي منذ بداية ق‪ 20‬والتي أصبح العالم قاطبة‬
‫مبدعا لها‪،‬ومتأثرا بجوانبها الحيوية الحافزة والمثيرة والمدمرة‬
‫كذلك‪).‬‬
‫ما معنى الحداثة؟‬
‫إن مصطلح ”محدث“ أو ”حديث“ الذي اشتقت منه الحداثة‪،‬يوافق‬
‫المصطلح اإلنجليزي(‪)modern‬و هو في صورته‬
‫الالتينية(‪،)modernus‬وقد استخدم ألول مرة في أواخر القرن‪5‬م‬
‫لتمييز الحاضر الذي أصبح مسيحيا على المستوى الرسمي عن الماضي‬
‫الروماني الوثني ‪.‬ويعبر المصطلح (‪ )modern‬عن الوعي بحقبة‬
‫تتصل بالماضي ويعد نتيجة االنتقال من القديم إلى الجديد‪.‬‬
‫أما في القرن‪ 15‬فقد ارتبط مفهومها باالنقالب على الالهوت المسيحي‬
‫وعلى كل ما أنتجه العصر الوسيط من أدب وفلسفة وفن وعلم‬
‫ودين‪،‬وتزامن ذلك مع الثورة على أسباب الحياة السياسية و االقتصادية‬
‫لذلك العصر‪،‬فأصبح عصر النهضة عصرا حديثا بالنسبة للعصر الوسيط‪،‬‬
‫وجسد العودة إلى الروح الوثنية اإلغريقية و الرومانية‪.‬‬
‫• وفي القرن ‪ 16‬بدأ تعبير الحديث مرادفا _بدرجة تزيد أو‬
‫تنقص_لتعبير ”اآلن“ وقدم على أنه ”حالة من التغيير‪،‬ربما إلى‬
‫األفضل“‪،‬لكن مفكري القرن ‪ 18‬استخدموه بمعنى ”التعصير“ و‬
‫”التحسين“‪،‬وفي القرن‪ ، 19‬بدأ ”الحديث“ يأخذ معنى ” ما هو‬
‫مرغوب و تقدمي“ إلى حد بعيد‪.‬‬
‫أما في القرن ‪ ،20‬فقد غير معناه من ”اآلن“ إلى ”اآلن مباشرة“‬ ‫•‬
‫أو حتى ”حينئذ“ ‪،‬و لفترة من الزمن ‪،‬أصبحت داللته تنصرف دائما‬
‫إلى الماضي ‪،‬الذي يصبح المعاصر مناقضا له من حيث هو‬
‫حاضر‪،‬فأصبح معنى ”الحديث“ هو ”حديث على نحو مطلق“أو ما‬
‫هو ”طليعي“أو حتى ”ما بعد حداثي“‪.‬‬
‫األنوار و كانط‬
‫• والحداثة من منظور فالسفة األنوار و كانط هي ” رد فعل مناهض‬
‫للتقليد“‪،‬فسؤال كانط ”ما هي األنوار؟“ يعتبر سؤاال حداثيا بامتياز‪،‬و‬
‫الجواب هو نفسه يعتبر كذلك حداثيا بمعنى ”األنوار هي خروج‬
‫االنسان من القصور و حالة العجز عن استخدام الفكر“‪.‬‬
‫ويرى كانط في (بناءه للعقل الخالص) للحداثة ثالث مجاالت محددة‬
‫للصالحية ‪،‬متمايزة ومستقلة وهي‪:‬الموضوعية في النظام العلمي ‪،‬‬
‫و المشروعية في النظام السياسي‪،‬والمعايير األخالقية في الداللة الرمزية‬
‫والقيم الجمالية‪ .‬و بالتالي ‪،‬فإن الحداثة هي أنظمة للممارسة المعرفية‬
‫في أبعادها العلمية العملية‪-‬و‪-‬الحقوقية السياسية‪-‬و‪-‬األخالقية الجمالية‬
‫التعبيرية‪.‬‬
‫هيغل(الفلسفة المثالية)‬
‫• يقول هيغل‪ ” :‬إن أول مبدإ يؤسس لألزمنة الحديثة يتمثل في مبدإ‬
‫الذاتية‪ ))subjectivité‬مقرونا بالحرية و التفكير‪.‬فما يشكل‬
‫عظمة الزمن الحديث هو االعتراف بالحرية‪.‬‬

‫وتتجلى الذاتية بحسبه في أربعة مفاهيم‪:‬‬


‫أ‪-‬الفر دانية‪ :‬ألن التفرد الخاص هو الذي له الحق في تجويز ادعاءاته‪.‬‬
‫ب‪-‬الحق في النقد‪ :‬إن مبدأ العالم الحديث يتطلب من كل شخص أن يقبل ما‬
‫يظهر له أنه شيء مبرر‪.‬‬
‫‪ .‬ج‪ -‬استقاللية الفعل‪ :‬إن األمر يرجع إلى األزمنة الحديثة في اإلجابة على ما‬
‫نقوم به‪،‬ألنها مضطرة ألن تستمد معياريتها من ذاتها ‪،‬فالحداثة ال ترجع‬
‫إال إلى ذاتها‪.‬‬
‫د‪-‬الفلسفة المثالية‪:‬إذ هي نفسها التي تمسك بالفكرة التي لها وعي بها ‪،‬‬
‫ولذلك فهي أزمنة حديثة‪.‬‬
‫ويرى هيغل أن األحداث التاريخية التي فرضت مبدأ الذاتية تتمثل في اإلصالح‬
‫و األنوار و الثورة الفرنسية‪.‬أما النهضة و اإلصالح واكتشاف ”العالم‬
‫الجديد“ هي ”العتبة التاريخية“بين العصر الوسيط و الحديث‪.‬‬
‫ماركس(علم اإلقصاد السياسي)‬ ‫كارل‬
‫• يقول ماركس‪ ” :‬على مدى كل تاريخ أوروبا المعاصر‪ P‬وعلى‬
‫األخص في نهاية ق‪ 18‬في فرنسا‪،‬كان يدور صراع فاصل ضد‬
‫مخلفات العصر‪ P‬الوسيط‪،‬وضد أيديولوجيا اإلقطاع في األفكار‪P‬‬
‫و في المؤسسات‪،‬وكانت المادية الفلسفية الوحيدة المنطقية‪،‬‬
‫الوفية لجميع مبادئ علوم الطبيعة‪،‬المناوئة لألحكام المسبقة‪،‬و‬
‫للرياء الذي تجسد في تحالف اإلقطاع و اإلكلير‪P‬وس الكاثوليكي‬
‫و ساهم الدين المسيحي في صبغه بالقداسة وبهالة التكريس‬
‫اإللهي‪ “.‬ويضيف ماركس‪” :‬إن مطلب الحداثة هو التخلي عن‬
‫األوهام الدينية ‪،‬وكذا التخلي عن حالة هي بحاجة إلى أوهام‪.‬إن‬
‫نقد الدين يجرد اإلنسان من أوهامه حتى يفكر ويعمل ويصوغ‬
‫واقعه الذاتي كإنسان أضاع أوهامه وبلغ سن الرشد‪،‬وذلك كي‬
‫يدور حول نفسه‪،‬أي حول شمسه الواقعية‪“.‬‬
‫فيبر(علم االجتماع السياسي)‬ ‫ماكس‬
‫• يقول ماكس فيبر‪” :‬الحداثة هي العقلنة ‪،‬و التي تتم بعلمنة الثقافة‬
‫الغربية‪،‬الشيء الذي أدى إلى ظهور بنيات اجتماعية جديدة ‪،‬تتميز بنسقين‬
‫مختلفين تبلورا حول مركزين لهما قدرة كبيرة على التنظيم هما‪:‬المبادرة‬
‫الرأسمالية و البيروقراطية‪ .‬وهذه العملية أدت إلى تفكك الحياة التقليدية و‬
‫انحاللها ‪ ،‬مع بروز نماذج للتنشئة‪ ،‬تشكل هويات شخصية و تدفع باألفراد‬
‫إلى الوعي بفر دانيتهم ‪ ،‬فالحداثة هي ”علمنة القيم و المعايير‪“.‬‬
‫فالحداثة إذن عند ماكس فيبر هي عقلنة العالم ‪:‬أي دراسة العالم بشكل‬
‫علمي‪،‬موضوعي‪،‬عقالني ال بشكل غيبي‪،‬ميتافيزيقي‪،‬خرافي‪.‬وقد حدد‬
‫مظاهر الحداثة في الحضارة الغربية في العلم الحديث‪،‬والتكنولوجيا‪,‬‬
‫والبيروقراطية(أي البناء االجتماعي المتسلسل إلدارة التنظيمات الضخمة‬
‫بطريقة سليمة و بكفاءة و فعالية و بطريقة غير شخصية) ‪،‬والدولة‬
‫الحديثة(بما هي كيان سياسي يحتكر االستعمال الشرعي للقوة الطبيعية)‪،‬‬
‫جيرارد دي نير‪P‬فال و شارل بودلير و آرثور رامبو‪:‬‬
‫(الحداثة األدبية )‬
‫• الحداثة عند ‪ G.Denerval‬و )‪ C.Beaudelaire (1850‬هي‪:‬‬
‫”التكثيف لمجموعة من الدالالت العائمة سواء كانت فلسفية أو جمالية أو سياسية‪،‬‬
‫وأصبحت تعني تلك اإلرادة االستفزازية المتمثلة في حب‬
‫العصر و االحتفال به‪“.‬‬

‫و عند ‪” : A.Rimbaud‬الحداثة في مفهومها الجمالي هي أساسا‬


‫عملية تدمير لألشكال الثابتة التي تحول دون تطور الفن و المشاعر‬
‫و األفكار‬
‫والعادات ‪...‬إنها ضد كل نص مقدس يعتبر نفسه مالكا‬
‫لشرعية مطلقة‪“.‬‬
‫جان بودريار(علم االجتماع)‬
‫• يقول ‪” :J.Baudrillard‬إن الحداثة ليست نظرية بقدر‬
‫ما تحوز منطقا و معالم تميزها عن باقي التصورات التقليدية‪،‬‬
‫بل هي مجموعة من الخصائص و األبعاد‪-1.‬البعد التقني‪-‬‬
‫العلمي‪:‬الذي يتجلى في االزدهار الخارق للعلوم و التقنيات ‪،‬‬
‫و للنمو العقالني و المنهجي للسيطرة على الطبيعة و اإلنسان‪.‬‬
‫‪-2‬البعد السياسي‪:‬هيمنة الدولة كشكل من أشكال التعالي المجرد‬
‫(الدستور والوضع الصوري للفرد و الملكية الخاصة)باعتماد‬
‫العقالنية والبيروقراطية و المصلحة المرتبطة بالوعي الفردي‬
‫الخاص‪-3.‬البعد السيكولوجي‪:‬بروز الفرد بوصفه كائنا يحوز‬
‫وعيا مستقال في مواجهة مبدإ االجماع ذي المضامين السحرية‬
‫و الدينية للمجتمع التقليدي‪“.‬‬
‫ميشيل فوكو(الفلسفة السياسية)‬
‫يتساءل ‪M.Foucault‬عن الحداثة‪” :‬هل هي تتمة لألنوار‪P‬‬
‫أم تطور لها؟“ ويجيب ‪” :‬الحداثة هي أن يخضع االنسان ذاته‬
‫على الواقع اللتقاط نقاط التغيير‪ P‬وأشكاله‪،‬و ذلك لبلورة ذاته‬
‫مدفوعا بتلهفه الشديد إلى الحرية‪.‬فال شيء مطلوب حقا سوى‬
‫الحرية في معناها األكثر براءة ‪ ،‬أي تلك التي تقبل على‬
‫استخدام علني للعقل في كل الميادين‪“.‬ويضيف كما كانط أن‬
‫الحداثة بهذا المفهوم ‪” :‬تتأسس على ثالث محاور‪-1:‬محور‬
‫المعر‪P‬فة(أي العالقة بالعالم و باألشياء و السيطرة عليها)‪-2.‬‬
‫محور السلطة(أي عالقة التأثير والهيمنة على اآلخر)‪-3.‬محور‬
‫علم األخالق(أي العالقة مع الذات باعتبار اخالقية فعلها)‪.‬‬
‫عبد هللا العروي (التاريخانية)‬
‫يقول ع‪.‬العروي‪” :‬لقد بدأت الحداثة في الفكر األور‪P‬وبي بالثورة التي‬
‫حدثت في تصور الزمان‪،‬و ذلك بإعالن فرانسيس بيكون<إن الحقيقة‬
‫وليدة الزمن>‪،‬إذ ال وجود لحقيقة خار‪P‬ج صيرورة التاريخ‪.‬وقد‬
‫نعت إرنست كاسيرر‪ P‬اكشاف الوعي التاريخي بأنه ”نوع من‬
‫الثورة الكوبر‪P‬نيكية“أدت إلى تقديم علم التار‪P‬يخ في صورة جديدة‬
‫أنزلته من عالم المثل األفالطوني إلى عالم الفساد‪.‬و هكذا انتفت‬
‫اإلطالقية و القدسية عن الماضي باعتباره األصل‪ ،‬و فيه اكتملت‬
‫حقيقة التاريخ و ماهية الوجود اإلنساني وغايته‪،‬إلى حقيقة نسبية‬
‫تار‪P‬يخية و معاصرة‪،‬فما عاد يعني الحداثة البحث عن المعنى‬
‫النهائي للتطور التاريخي ألن ذلك أصبح طلبا ميتافيز‪P‬يقيا‪ .‬إن نقد‬
‫العقل التاريخي في الفكر األور‪P‬وبي‪،‬وضع حدا لمفهوم التاريخ‬
‫كمطلق‪،‬و حقق قطيعة مع الوعي التقليدي‪،‬فتحرر األحياء من‬
‫تحكم األموات‪،‬وبذلك ودعت الشعوب األوروبية عقلية المطلقات‪.‬‬
‫متى كانت ا‪P‬لحداثة؟ خصائص العصر الحديث‪.‬‬
‫يعتبر المؤرخون فتح الترك للقسطنطينية سنة ‪1453‬م‪،‬و ما تبعه من‬
‫انهيار اإلمبراطورية البيزنطية وهجرة علمائها إلى ايطاليا‪،‬نقطة‬
‫التحول من العصر الوسيط إلى العصر الحديث‪.‬فقد أدى ذلك إلى‬
‫تالقح الكنيسة اليونانية و الكنيسة الالتينية‪،‬فنشط تعلم اليونانية‬
‫والنقل منها إلى الالتينية‪.‬فعم الشغف باألدب القديم في القرن‪،15‬و‬
‫كان اإليطاليون كأنهم يعودون إلى أدبهم السالف ‪،‬األدب الالتيني‬
‫الملقح باليونانية‪.‬و من إيطاليا انتشر األدبان إلى فرنسا و إنجلترا‬
‫و ألمانيا و هولندا‪،‬و زاد في سرعة هذا االنتشار اختراع الطباعة‬
‫في منتصف القرن‪.‬فكانت ثورة حقيقية على ما أنتجه العصر‬
‫الوسيط من أدب و فلسفة و فن و علم ودين‪،‬‬
‫و أسباب الحياة السياسية و االقتصادية‪ ،‬و أصبحت نهضة بما هي‬
‫عودة إلى الثقافة القديمة الوثنية‪.‬‬
‫كما يعتبر سقوط غرناطة‪،‬آخر‪ P‬قالع الغرب اإلسالمي باألندلس‪،‬‬
‫سنة ‪1492‬م ‪،‬عامال أساسيا آخر‪ ،‬ساهم في بلورة األسباب‬
‫التاريخية التي نتجت عنها الحداثة‪.‬فاستفاد الغرب المسيحي من‬
‫التجربة الحضارية العربية‪-‬اإلسالمية‪ ،‬فكرا‪ ،‬و علما‪ ،‬و عمرانا‪،‬‬
‫وأدبا‪ ،‬و صناعة‪.‬كما أدى الحصار العثماني ألور‪P‬وبا شرقا إلى بدء‬
‫الكشوفات الجغرافية التي كان لها بالغ األثر على مسار‪ P‬كل تار‪P‬يخ‬
‫أوروبا‪.‬ففي أواخر القرن‪ ،‬جاءت كشوف كولومبوس وفاسكو دي‬
‫غاما وماجالن و دريك بمعلومات كثيرة عن شعوب كانت بمعزل‬
‫عن المسيحية و كان لها أديان و أخالق‪.‬فظهرت فكرة الدين‬
‫الطبيعي و األخالق الطبيعية‪.‬و هكذا تكونت في الغر‪P‬ب المسيحي‬
‫نظرية جديدة في اإلنسان تقنع بما يسمى بالطبيعة و تستغني عما‬
‫فوق الطبيعة‪.‬‬
‫كما أن الثقافة القديمة كانت تنضح بالوثنية من كل جانب‪ ،‬فانتشرت‬
‫الوثنية في األفكار و األخالق‪ ،‬لما رأى فيها كثير من الغر‪P‬بيين‬
‫صورة إنسان الفطرة و الطبيعة‪ ،‬فاعتبروا دراسة القدماء كفيلة‬
‫وحدها بتكوين اإلنسان بمعنى الكلمة‪ ،‬فسميت هذه النز‪P‬عة بالمذهب‬
‫اإلنساني‪ ،‬وسميت اآلداب القديمة باإلنسانيات‪.‬‬
‫وكان من آثار المذهبي اإلنساني العمل على سلخ الفلسفة عن‬
‫الدين‪ ،‬بل جعل الفلسفة خصيمة للدين‪ .‬فابتداء بالقر‪P‬ن‪14‬م‪ ،‬كانت‬
‫الفلسفة االسمية قد قضت على جهود المدرسين في سبيل إقامة‬
‫فلسفة تتفق مع الدين‪،‬وحطمت العلم الطبيعي األر‪P‬سطوطالي‪،‬‬
‫وظاهرت األمراء في تمر‪P‬دهم على السلطة البابوية‪.‬‬
‫ثم تسرب الفكر اإلنساني إلى المسيحية نفسها‪ ،‬وأخذ يقوضها من‬
‫الداخل‪.‬فظهرت البروتستانتية التي زعمت أن الدين يقوم على‬
‫”الفحص الحر“ أي الفهم الخاص للكتاب المقدس‪ ،‬و على التجر‪P‬بة‬
‫الشخصية‪ ،‬بغير‪ P‬حاجة إلى سلطة تحدد معاني الكتاب‪ ،‬ثم تناولت‬
‫العقائد بالفحص الحر‪ P‬فذهبت فيها كل مذهب‪ ،‬وبددت علم الالهوت‬
‫غير محتفظة إال بعاطفة دينية عاطلة من كل موضوع‪.‬فقام لوثر‬
‫(‪ )1483-1546‬وز‪P‬فنغلي(‪ )1531-1484‬و كلفان(‪-1509‬‬
‫‪ )1564‬يزعزعون العقيدة السلفية و ينشئون الكنائس المستقلة‬
‫باسم االصالح الديني‪.‬فقام هنري الثامن(‪ )1547-1509‬يقهر‬
‫اإلنجليزعلى إنكار‪ P‬الكثلكة‪ ،‬وناهضه ملوك و أمراء يناصر‪P‬ون‬
‫المبتدعة‪ ،‬فشهد ق‪ 16‬انحالل الروابط الدينية و العائلية‬
‫واالجتماعية‪،‬فنشبت لحروب من أجل الدين و السياسة‪.‬‬
‫هذا من الجانب السياسي و الديني‪،‬أما من الجانب الفكري و العلمي‬
‫خاصة‪،‬فإن الثورات التي أحدثها قد كانت فاصلة في التار‪P‬يخ الغربي‬
‫و اإلنساني عامة‪.‬‬
‫و اإلنجازات العلمية و المذاهب الفلسفية من الكثرة والتشعب بحيث‬
‫يتعذر اإلشار‪P‬ة إلى مجملها‪ .‬و مما تجدر إليه اإلشارة في المجال‬
‫العلمي إنجازات و أعمال كل من ليوناردو دا فنتشي(‪-1452‬‬
‫‪)1519‬في الميكانيكا انطالقا من أعمال أرشميدس‪،‬و في الر‪P‬سم ‪،‬‬
‫والنحت‪ ،‬والمعمار‪ ،‬و غيرها‪ .‬وأعمال نقوال كوبرنيك(‪-1473‬‬
‫‪)1543‬الذي دحض تصور‪P‬أر‪P‬سطووبطليموس في مر‪P‬كزية األرض‬
‫لألجرام السماوية‪ ،‬وبذلك قضى تماما على علم الفلك القديم وما تم‬
‫البناء عليه من الهوت و ميتافيزيقا‪.‬‬
‫و أعمال لويس فيفيس(‪)1540-1492‬الذي دعى إلى اعتماد التجربة‬
‫أساسا للمعرفة‪ .‬فجمع بذلك مالحظات كثيرة‪،‬و ديلها بتحليالت دقيقة‬
‫في در‪P‬استه للظواهر النفسية‪ .‬فلم يعد علم النفس عنده يهتم بماهية‬
‫النفس و إنما بمعرفة وظائفها‪،‬و أصبح علما فسيولوجيا وصفيا‪.‬‬
‫وجعل من الدماغ مركز‪ P‬المعرفة‪,‬خالفا لألرسطوطاليين الذين كانوا‬
‫يضعونها في القلب‪.‬‬
‫أما كيبلر‪)1630-1571(P‬فقد كان يرى في الر‪P‬ياضيات أكمل العلوم ‪،‬‬
‫و ير‪P‬ى وجوب اتباع منهجها في كل علم‪ ،‬ألن الروح اإللهي يتجلى في‬
‫النظام و القانون‪،‬و ألن العقل اإلنساني ال يصل إلى اليقين التام إلى‬
‫بإدراك النسب الكمية بين األشياء‪.‬كما استعاض بالقوة عن العقل‬
‫المحرك‪،‬واستعاض باإلهليلج عن الدائرة(التي كانت تعتبر أكمل شيء)‬
‫ثم أيد نظر‪P‬ية كوبر‪P‬نيك بأن اكتشف مدارات السيارات و قانون حركتها‪.‬‬
‫جليلي جاليليو(‪ )1642-1564‬من مؤيدي نظرية كوبرنيك‪.‬صنع في‬
‫‪ 1609‬التلسكوب‪،‬فرأى جبال القمر ووديانه‪،‬وأقمارالمشتري األربعة‪.‬‬
‫وعين قانون حركتها‪.‬و اكتشف كذلك كلف الشمس‪،‬فاستنتج من حركة‬
‫الكلف على قرص الشمس دوران الشمس نفسها‪،‬و فساد الرأي القديم‬
‫الذي يقسم العالم إلى منطقة سفلية هي محل الكون و الفساد‪،‬و أخرى‬
‫علوية بريئة منهما‪.‬‬
‫إن العدد الهائل من االختراعات التقنية‪،‬و المكتشفات العلمية‪ ،‬قد كان‬
‫لها بالغ األثر على التحوالت التي طرأت في تصور العالم و مكانة‬
‫اإلنسان فيه بحسب مفهوم األبستيمي عند م‪.‬فوكو‪.‬ومن أهم هذه‬
‫اإلنجازات نكتفي باختراع الطباعة حوالي ‪1450‬م من قبل جوتنبرغ‬
‫)‪.Gutenberg(1400-1468‬اكتشاف الجراحة الحديثة‬
‫من‬
‫قبل)‪....Ambroise Paré(1510-1590‬‬
‫أما فيم يخص الفلسفة الحديثة فهي الممتدة من‪1492‬م إلى‪1789‬م ‪.‬‬
‫وقد انطلقت منذ النهضة مدعومة بإنجازات العلم الحديث‪.‬و قد برز‪P‬ت‬
‫أهميتها على الخصوص في الفلسفة السياسية‪،‬فكل من ماكيافيل‬
‫وهوبز‪P‬أر‪P‬ادا تأسيس الفلسفة السياسية كعلم‪،‬وإبعادها عن علم األخالق‬
‫كما كانت عند المفكرين القدامى و خصوصا عند أفالطون و أرسطو‪.‬‬
‫وقد دعم هذا المسار‪ P‬سبينوزا‪،‬الذي دعا إلى تأسيس فلسفة سياسية‬
‫تقوم على دراسة اإلنسان كماهوالكما ينبغي أن يكون بحسب القدماء‪.‬‬
‫ثم نحى نفس المنحى كل فالسفة األنوارمن لوك‪ ،‬ديدرو‪,‬فولتير‪،‬روسو‬
‫الذين ر‪P‬سموا فلسفة سياسية تنهض على الديمقر‪P‬اطية‪،‬التسامح‪،‬‬
‫وسيادة الشعب‪.‬‬
‫ومن خصائص الفلسفة الحديثة و وقوعها تحت تأثير العلم‪.‬‬
‫فالعقالنية عند ديكار‪P‬ت كانت متأثرة بالرياضيات‪،‬كما الحال عند ليبنيز‬
‫و سبينوز‪P‬ا‪.‬أما هوبز فقد كان متأثرا بالفيزياء‪.‬أما ديدرو فقد كان واقعا‬
‫تحت تأثير البيولوجيا‪،‬وقد طور مفاهيم أولية في النظرية التطورية‪.‬‬
‫و الخاصية الثالثة المهمة هي التي تتعلق بنظرية المعرفة‪.‬و قد بر‪P‬ز‬
‫تياران أساسيان هما‪:‬العقالنية ويمثلها ديكارت‪ ،‬ليبنيتز‪،‬و سبينوزا ‪.‬‬
‫و التجريبية و يمثلها هيوم و لوك‪.‬‬
‫و بشكل موجز‪،‬العقالنيون يؤكدون وجود معرفة مستقلة عن التجربة‪،‬‬
‫عقلية خالصة‪،‬كونية القبول‪،‬ال يداخلها شك‪.‬أما التجريبيون فيؤكدون‬
‫على أن كل معرفة هي نتاج استقر‪P‬اء من خالل تجربة محسوسة‪.‬‬
‫وجل الفالسفة التجر‪P‬يبيين شكوكيون مثل دافيد هيوم الذي ذهب إلى‬
‫أنه ال توجد معرفة يقينية كونية بل معرفة استقرائية قابلة للدحض‬
‫من خالل التجربة‪.‬‬
‫ووفق كانط الفيلسوف األلماني بين الموقفين‪،‬إذ أكد بضرور‪P‬ة التجربة‬
‫لبناء المعر‪P‬فة‪،‬ولكن على أساس المفاهيم واألشكال القبلية لإلدراك‬
‫الحسي الضرور‪P‬ية لبناء هذه المعرفة‪.‬ففلسفته تدمج بين العقالنية‬
‫و التجريبية‪.‬‬
‫الحداثة كأزمة(نقد الحداثة)‬
‫إذا كان من أهم أهداف الحداثة و غاياتها السامية محاربة االستبداد‬
‫في الحكم‪،‬والحماية من عوارض الحياة القاسية‪،‬ومناهضة األحكام‬
‫المسبقة القائمة على التقليد المبتذل بحسب فالسفة األنوار( كانط ‪،‬‬
‫روسو‪،‬هولباخ‪)...‬و ذلك باعتماد العقل في تأسيس مبادئ كونية بعيدا‬
‫عن األهواء و المصالح الشخصية‪،‬فإنها في ما بعد قد حادت عن‬
‫هذا الهدف ‪ ،‬وأصبحت تضفي الشرعية على الهيمنة السياسية ‪،‬‬
‫و الثقافية‪ ،‬و الرمز‪P‬ية باسم العقل نفسه‪.‬وفي القر‪P‬ن‪ ،20‬يؤكد فالسفة‬
‫مدرسة فرانكفورت النقدية أن مشروع الحداثة في التحرر االجتماعي‬
‫لم يتحقق‪،‬و أصبح العقل في خدمة غريز‪P‬ة البقاء‪،‬و دخل في صيرورة‬
‫تاريخية من الهيمنة على الطبيعة الداخلية و الخار‪P‬جية لإلنسان‪.‬‬
‫وأصبح اإلنسان مقيدا بنتائج هيمنته على الطبيعة وإشكاالت التحوالت‬
‫االجتماعية‪ ،‬وتحت رحمة التقنية التي أنتجتها العلوم الحقة‪.‬‬
‫إن جدل العقل هو الذي يفسر فشل الحداثة‪،‬فالعقل على مدى تاريخه‬
‫أصبح بالتدريج عاجزا عن تحديد أهداف كونية إنسانية‪،‬و لم يعد قادرا‬
‫على إعطاء معنى للحياة‪.‬إن االنتصار‪P‬ات التي حققها العقل تنحصر‬
‫كلية في العلوم الطبيعية و التكنولوجيا‪ ،‬أما فيما يخص مجال األخالق‬
‫و السياسة‪،‬فلم يحقق العقل أي تقدم يذكر‪.‬‬
‫بالنسبة لهابر ماس( ‪ )Habermas‬تعتبر الحداثة مشروعا غير‬
‫مكتمل كمشر‪P‬وع أنواري‪ ،‬على االنسانية أن تبعثه مجددا من رماده‬
‫لصالح االنسان و مستقبله‪.‬إن فلسفته تروم مواجهة العقل األذاتي‬
‫(العقل كوسيلة)لصالح عقل بالمفهوم اإلغريقي أي كأذاة لفهم‬
‫الغايات و تحديدها‪.‬‬
‫‪:‬خاتمة‬
‫إن عصر النهضة كان المنطلق األساسي للعصر الحديث و لخصائصه‬
‫التي تتسم بالفردية العنيفة في األدب و الدين و السياسة و العناية‬
‫البالغة بجميع فروع المعرفة‪ ،‬و خصوصا بالعلم اآللي وتطبيقاته‬
‫العلمية الر‪P‬امية إلى توسيع سلطان االنسان على الطبيعة و الزيادة‬
‫في رخائه‪.‬‬
‫إال أن هيمنة العقالنية على جميع أبعاد الحياة االنسانية حول إرادة‬
‫المعرفة إلى إرادة للقوة‪،‬وإرادة لهيمنة االنسان على االنسان‪،‬فانقلبت‬
‫أهداف الحداثة إلى نقيضها‪.‬‬
‫هكذا أصبحت الحداثة مشروعا لفرض العقل كمعيار كلي متعالي على‬
‫االنسان و المجتمع‪،‬مما أدى إلى تفتت الهويات الفر‪P‬دية و الجماعية‪.‬‬
‫يقول نيتشه‪” :‬إن مرض أوروبا الخفي هو عقلها“‪.‬‬

You might also like